شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 182555
تحميل: 4444

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182555 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

غلام ثَقيف: إبنُه القاعد عن بيعة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وكان موادعاً لا يُخشى جانبه ولذا لـمّا أوصى ابن هند يزيداً حذّره الإمام الحسينعليه‌السلام ، وحذّره تربّص ابن الزبير وطمأنه جانب عبد الله بن عمر الذي راح ضحيّة حسد الطاغية ابن أمّ الحجاج.

وليس هنا مقام العرض للأبناء والمستلحقين ممّا تزكم منه الأُنوف، ويبقى اسم صَهّاك مجهولاً لكثير ولا يعلم أنّها من ذوات الرايات! ولكن يثور أمامنا من جديد: أفعال خالد المخزوميّ وخزاياه إذ يقتل المؤمنين ويجعل من رؤوسهم أثفيةً، أي وقوداً، يطبخ عليها عشاءه ويدخل بزوجة الرجل الشهيد الصالح (مالك بن نُوَيْرة) ليلة قتله زوجها!! وإعراسه وهو في طريقه لتوسيع ملك سلطان أبي بكر؛ واستبدال عمر القيادة بقيادة جديدة وتسليط بني أميّة مع ما سمعه من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلعنهم ووجوب قتل معاوية إذ اعتلى المنبر، فهل عقمت أرحام النساء أن يلدن من هو أفضل من معاوية مولداً وديناً.

قال ابن عساكر: لـمّا ولّى عمر بن الخطّاب يزيد بن أبي سفيان ما ولاّه من أمر الشأم، خرج إليه معاوية، فقال أبوسفيان لهند: كيف رأيت ابنك صار تابعاً لابني. فقالت: إن اضطرب حبل العرب فستعلم أين يقع ابنك ممّا يكون فيه ابني.

ذكرنا هذا المقطع عرضاً ونعيده في التحقيق في نسب معاوية وتذكيراً للقارئ الكريم (الولد للفراش وللعاهر الحجر) صدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد خالف معاوية هذا الحكم في استلحاقه ابن سميّة زياداً ونصب لذلك شهوداً اشتهروا بالقيادة - الجمع بين الرجل والمرأة في حرام - وفسّاق فجّار شهدوا له أمام أهل الشأم أنّ زياداً أخاه، وكان في كلام أبي مريم السّلوليّ أنّ أباسفيان وهو في سفر طلب أن يأتيه بامرأة، فقال: لا أعرف الآن إلّا سميّة وكانت من ذوات الرايات، فقال

١٢١

ائتني بها، فجاء بها سوداء، فلمّا أصبح سأله أبو مريم وكان خمَّاراً فأجابه كنت فيها في راحةٍ على ذَفَرٍ في إبطَيها. ثمّ وقع عليها مرّة أخرى مع رجال سنذكرهم فحملت فاختصموا فيه فقالت: إنّه من أبي سفيان، فلمّا قيل لها إنّه شحيح أي بخيل، قالت ولكنّه سيّد قومه. وبعد الاستلحاق صار زياد وولده يُسمّون بنو أبي سفيان! ولم يسأله أهل الشأم: أين كان قبل إذ كان يُدعى ابن عُبيد، وابن عبد علاج، وابن أبيه؛ والآن فهو أخوك؛ فإن لم نكن مسلمين فنحن عرب أحرار فأبى أن يحكمنا مطعون في نسبه ويستلحق ولد الزنا فنكون سُبّةً للآخرين؟!

ثمّ إنّ قول صخر بن حرب لهند: (كيف رأيت ابنك صار تابعاً لابني؟!) وثيقة صادقة صادرة من داخل البيت، وأهل البيت أدرى بما فيه! ففيها نفي لأبوّة صخر - أبي سفيان - لمعاوية، وإثبات لأبوّة صخر ليزيد بن أبي سفيان، وأمّه غير أمّ معاوية.

ونذكّر أنّ عمر لـمـّا مات يزيد بن أبي سفيان، استخلف معاوية بن هند مكانه وبسط سلطانه، فجاء هذا إلى المدينة فبدأ بعمر فسأله عمر: هل بدأت بأحد؟ فقال بك بدأت؛ قال: إبدأ بهند.

حُكمُ معاوية في ولد الفراش

ولمّا كان معاوية تعتمل في نفسه عُقدة النقص وتصرعه مشاعر وضاعة النَّسب، وكانت أُمُّه التي يفاخر بها ويسبق الآخرين بقوله: أنا ابن هند، ولكثرة ما خوطب بذلك، وما قاله هو عن نفسه؛ لا أستحضر الآن أنّه قال: أنا ابن أبي سفيان. فكان إذا تقدّم إليه مختصمان في قضيّة نسب وإستلحاق، ألحق المختصم فيه بالعاهر (الزاني) مخالفاً بذلك سنّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القاضية (الولد للفراش وللعاهر الحجَر).

١٢٢

والغريب في الأمر، ما نقل عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، وفي أهل أُحُد ما بقي منهم أحَد، وفي كذا وفي كذا، وليس فيها الطليق ولا لولد الطليق ولا لمسلمة الفتح شيء(١) .

أما لم خرج عمر عن رأيه هذا وهو العبقريّ فسلّط الطّلقاء، واختار من بينهم من لعنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وسعى هو جاهداً لدثر إسم رسول الله (إلاّ دفنا دفنا - في جوابه للمغيرة، مضى)؛ فإنّه هنا أفصح لأهل العراق - وهم يعلمون نيّته، إلّا أنّه أراد أن يتشفّى، لِمَ حاربهم؟ فهم لا يندرجون تحت عنوان للخروج، وهم أهل دين يصلّون ويحجّون ويؤدّوا الفرائض الأخرى؛ فهذه أمور ليس لها معيار في ميزان ابن هند، وهذه لو لم يات بها أهل الشأم لا يحاسبهم عليها، وكيف يصنع وهو في كنفهم وهم يده الضاربة؟! ثمّ ماله وللفرائض وهو أوّل من خالف السّنّة فعمد أوّلاً إلى المنع من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اقتداءً بعمر كما ذكرنا في موضعه، وأوّل من صلّى جالساً؛ وأحدوثات معاوية كثيرة ذكرناها.

وذكرنا أنّ عمر بن الخطّاب كان مفتتناً بمعاوية، يسمّيه كسرى العرب! وعمر كان تاجراً ولذا تأخّر إسلامه إلى ما بعد (٤٥) نفر أو يزيد ممّن دخلوا الإسلام، وكان لإسلامه قصّة ملخّصها أنّه سمع أنّ أخته وزوجها قد أسلما، فاستشاط غيظاً وذهب في سورة غضبه فوجدهم يقرؤون قرآناً فصفع خدّ أخته فأدماه وكاد أن يفتك بصهره لولا أن حالت أخته بينه وبين زوجها، وقذف الله الرحمة في قلبه فهداه.

أقول: وكان أبوسفيان تاجراً وتجارته إلى أرض الشأم ومصر، فلعلّ عمر عرف لهذا البيت ما لم يعرفه غيره إلّا أنّ العقبة هي في موقف هذا البيت من الإسلام

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٢٥: ٤٢.

١٢٣

والمسلمين؛ وإنّ من شروط الحاكم أن يكون صريح النسب، وقول عمر: إنّ هذا الأمر لا يكون في طليق أو ابن طليق ولا مسلمة فتح! فهذه أمور غريبة نعرض عنها ونرجع لنفرغ من شأن (طيبة مدينة الرسول المنوّرة).

دعاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمدينة بركتين

عن أبي سعيد الخدريّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (أللّهم بارك لنا في صاعنا ومدّنا واجعل مع البركة بركتين)(١) .

وبسند عن أبي هريرة قال: كان الناس إذا رأوا أوّل الثّمر جاؤوا به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا أخذه رسول الله قال: (أللّهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدّنا، أللّهم إنّ إبراهيم عبدك وخليلك ونبيّك وإنّي عبدك ونبيّك، وإنّه دعاك لمكّة وإنّي أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكّة ومثله معه، ثمّ يدعو أصغر ولد له فيعطيه ذلك الثمر)(٢) .

وبسند آخر وبلفظ مغاير قليلاً عن السابق، عن أبي هريرة أيضاً: أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يؤتى بأوّل الثمر، فيقول: (أللّهم بارك لنا في مدينتنا وفي ثمارنا وفي مدّنا وفي صاعنا بركةً مع بركة) ثمّ يعطيه أصغر من يحضره من الولدان(٣) .

وهكذا تجد المبعوث رحمةً للعالمين إذا دعا لثمر، جمع في دعائه، ودعاؤه مجاب عند الله تعالى، بين الدعاء لثمر المدينة والمدينة، وأضاف المدينة إلى نفسه (مدينتنا)؛ فالمدينة هي مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنّ عليًّا هو نفس رسول الله في آية المباهلة؛ وابنته سيّدةُ

____________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١٤٨ - ١٤٩.

(٢) نفس المصدر السابق: ١٤٦.

(٣) نفس المصدر السابق.

١٢٤

نساء العالمين وزوج سيّد العرب عليّ فاطمة الزهراء نساؤه في الآية أيضاً، وابناها سيّدا شباب أهل الجنّة الحسن والحسين ابناء النبيّ في الآية أيضاً؛ ولذا هي مدينة هذه الوجوه المقدّسة التي نذكرها في التشهد في الصلاة ولو ذكرنا وأشركنا غيرهم لبطلت صلاتنا مثل أيّ مبطل للصلاة. ومن ثمّ فهي مدينة السابقين من المهاجرين والأنصار. والمدينة عزيزة على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيدعو لها بالخير والبركة والسلامة، ويدعو لأهلها بكلّ خير، ولثمرهم بالنّماء وأن يجعل الله تعالى فيه ضعفي البركة في ثمر مكّة بيت الله! ويدعو الله تعالى بمعاجلة من أراد بها سوءاً.

حمى المدينة

وتستبين عِظَمُ حرمة المدينة من توسيع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حماها فليس لآثم مهما تدرّج في الوَضاعة! أن يحيف ويجتاز حمى رسول الله فيقلق الآمنين بذلك الحمى.

عبد الرزّاق حدّثنا معمر عن الزّهريّ عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة قال: حرّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بين لابتي المدينة. قال أبو هريرة: فلو وجدت، وفي لفظ: رأيت الظّباء ترتع(١) بالمدينة، وفي لفظ: ما بين لابتيها، ما ذعرتها(٢) وجعل اثنى عشر ميلاً حول المدينة حمىً(٣) .

وأبو سعيد الخدريّ قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: (إنّي حرّمت ما بين لابتي المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة)؛ قال أبو سعيد: ثمّ كان أحدنا يأخذ الطّير فيفكّه من يده ثمّ يرسله(٤) .

____________________

(١) ترتع: ترعى، وتسعى وتبسط.

(٢) ذعرتها: أفزعتها.

(٣) صحيح مسلم ٥: ١٤٥.

(٤) نفس المصدر السابق: ١٤٩ - ١٥٠.

١٢٥

الظّباء ترتع، فترعى، وتسرح وتنبسط وتسعى، فلا تَوْجَل إذ لا مُسْرِف يقظّ مضجعها؛ ولا حسود حقود لجوج أخفش العينين ممسوح الجاعرتين يتقرّب بها طاغية الشأم، والحِمى اثنى عشر ميلاً خارج المدينة، والبركة مرّتين ممّا هي بمكّة، والقبائل هي آوت ونصرت وليست التي قاتلت الإسلام حتّى كان النصر والفتح المبين وتهاوت آلهتهم تحت ضربات المحاجن والفؤوس.. دعنا من مسرف، والحجّاج وأهل الشأم الذين ندبهم عمر ليستعدّوا لأهل العراق، ولنذكر شيئاً من صنيع ابن هند بأهل المدينة الحرام وإن كنّا قد ذكرنا شيئاً في مبحث الغارات، وشيئاً نظيراً لـمـــا نذكره هنا، فإنّما هي الجراحات التي حلّت بأطهر بيوت الله (أهل البيتعليهم‌السلام ) والذي جرى لهم ولشيعتهم شيعة النبيّ والقرآن! وحتّى عصرنا الحاضر فهم هدف لكلّ غائر العينين أخفشهما ناتئ الوجنتين قذفته نجد من رحمها ليكون مفتي مكّة وشغله الشاغل تكفير الشيعة ووجوب قتلهم وتفجير مساجدهم فباع أتباعهم أنفسهم للشيطان بلا ثمن إلّا الجحيم الخالد إذ يفجّرون أنفسهم وسط الأبرياء من المصلّين وفي الأسواق...؛ وتجرّأ أعراب نجد بشتيمة سادة أهل الجنّة فالويل لهم إذ خصمهم الله ورسوله وخير البريّة، جمع الله بينهم وبين من يحبّون: يزيد، وقد كتبوا عن أمجاده وإمارته وحقّه في قتل الحسينعليه‌السلام ، ومسرف والحجّاج ومعاوية ومن مهّد لذلك.

قال الشعبيّ: لـمّا قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقّته رجال من قريش فقالوا: الحمد لله الذي أعزّ نصرك وأعلى أمرك. فما ردّ عليهم جواباً! حتّى دخل المدينة، فقصد المسجد وعلا المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أما بعد فإنّي والله ما وليت أمركم حين وليته إلّا وأنا أعلم أنّكم لا تسرّون بولايتي ولا تحبّونها، وإنّي لعالم بما في نفوسكم، ولكنّي خالستكم بسيفي هذا مخالسةً، ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي

١٢٦

قُحافة فلم أجدها تقوم بذلك، وأردتها على عمل ابن الخطّاب فكانت عنه أشدّ نفوراً، وأردتها على سُنيَّات عثمان فأبتْ عليّ، وأين مثل هؤلاء؟ هيهات أن يدرك فضلهم أحد ممّن بعدهم، غير أنّي قد سلكت بها طريقاً لي فيه منفعة ولكم فيه مثل ذلك. ولكلٍّ فيه مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة، ما استقامت السيرة وحسنت الطاعة، فإن لم تجدوني خيركم، فأنا خيركم لكم؛ والله لا أحمل السيف على من لا سيف معه، ومهما تقدّم ممّا قد علمتموه فقد جعلته دَبْرَ أُذني، وإن لم تجدوني أقوم بحقّكم كلّه فارضوا منّي ببعضه، فإنّها ليست بقائبةٍ قُوبَها(١) ، وإنّ السيل إذا جاء يَتْرى وإن قلّ أغثى... وإيّاكم والفتنة! فلا تهمّوا بها فإنّها تفسد المعيشة وتكدّر النعمة، وتورث الاستئصال!(٢)

فلا عتب على الحجّاج ولا على يزيد ومسرف؛ فهذا ابن هند وقد تلقّته وجوه قريش مهنّئةً له وداعية، فلم يقيم لها وزناً ولم يردّ جواباً، وقصد المسجد الذي استمدّ قدسيّته لقربه من حضرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولدعاء النبيّ لمن صلّى فيه مزيداً من الخير والبركة. ثمّ اعتلى المنبر الذي كان مدرسةً للمسلمين، يجلس عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّمهم صلاتهم كيف يؤدّونها وأحكام دينهم...، وكان الصحابة يتبرّكون بهذا المنبر يقبّلون جوانبه ويمسحون أيديهم برمّانته ثمّ يمسحون بها وجوههم. وهو ليس من عرض المنابر، فهو في روضة من رياض الجنّة - سنأتي على الروايات في ذلك -، فصار منبراً لمن يكذب على رسول الله ومن كذب عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد تبوّأ مقعده من النار! واصدار أوامر الغصب والظلم، ويأكل عليه الولاة الفجرة ويهزؤون برسول الله

____________________

(١) لغة تهديد! ومعناه أنّ الطير إذا فارق بيضته لم يعد إليها.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٢٥: ٤٥. (ما هذه اللهجة الجافية الحادّة لغة الوعيد بالاستئصال الذي يعني الإبادة العامّة؟!).

١٢٧

ويعلون عليه شأن الزنادقة ويطرحون النوى في وجوه أشراف أهل المدينة وينحرونهم صبراً....

وليت ابن هند إذ لم يردّ على وجوه قريش وقد استقبلوه، أن يتأدّب بحضرة رسول الله فيقول خيراً؛ فإنّه راح يكيل التّهم للمجتمعين وينعتهم بالنفاق! وإنّه تسلّط عليهم بالسيف وهم كارهون، ويتوعّدهم أشدّ الوعيد إن ثارت فيهم فتنة، فمصيرهم الاستئصال، وهي لغة غاية البعد في التهديد أي لا يبقى منهم أثراً! والحال لم يقع منهم بعد شيء ولا دخلوا في خلاف. ويرتفع العجب إذا تذكّرنا دائماً غاراته التي بعثها من قبل وأمر قادته أن يرجفوا بأهل الحرمين خصوصاً أهل المدينة حتّى يشعروا أنّه موقع بهم، وأن يبسط لسانه عليهم ويغلظ في القول لهم.

هذا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أنزل المدينة منزلة مكّة المكرّمة ودعا لها بالبركة ضعف ما دعا لمكّة ولعن من أحدث بها حدثاً أو آوى محدثاً ولقد دعا إبراهيم الخليلعليه‌السلام ربّه من أجل مكّة:( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ) (١) الآية.

عن سهل بن حنيف قال: أهوى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده إلى المدينة فقال: (إنّها حرم آمن)(٢) .

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أللّهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكّة من البركة)(٣) .

____________________

(١) البقرة: ١٩.

(٢) صحيح مسلم ٥: ١٥٠.

(٣) نفس المصدر السابق: ١٤٣.

١٢٨

دعاؤهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنقائها

عن عائشة قالت: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أللّهم حبّب إلينا المدينة كما حبّبت مكّة أو أشدّ، وصحّحها وبارك لنا في صاعها ومدّها وحوّل حمّاها إلى الجحفة)(١) .

فتراهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تارةً يدعو الله تعالى أن يجعل بركته على المدينة ضعفي بركته على مكّة؛ وأخرى يسأل الله تعالى أن يحبّب المدينة إليه وإلى المؤمنين أشدّ من حبّهم مكّة، وهذا لا يكون إلّا بوفرة الغذاء وهذا ما حصل إذا صارت المدينة حاضرة الدولة الإسلاميّة وإليها تُجبى الأموال والأرزاق من مختلف البلدان؛ وبنقاء هوائها والبركة في الرزق.

أمّا قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وحوِّل حمُّاها إلى الجُحفة) قال الخطابي وغيره: كان ساكنوا الجحفة في ذلك الوقت يهوداً، ففيه دليل للدعاء على الكفّار والأعداء بالأمراض والأسقام والهلاك وفيه الدعاء للمسلمين بالصحّة وطيب بلادهم... وفي هذا الحديث علم من أعلام نبوّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ الجحفة من يومئذ مجتنبة ولا يشرب أحد من مائها إلّا حُمَّ(٢) .

تسمية المدينة المباركة

في خبر طويل فيه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّما المدينة ُكالكِير تَنفي خَبَثَها ويَنْصَعُ طَيِّبُها)(٣) .

وزيد بن ثابت عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (إنّها طَيْبةُ، يعني المدينة وإنّها تنفي الخبيثَ كما تنفي النارُ خَبضثض الفِضّة)(٤) .

____________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١٥٠.

(٢) هامش صحيح مسلم ٥: ١٥٠ من تفسير النووي.

(٣) نفس المصدر السابق: ١٥٥.

(٤) نفس المصدر السابق: ١٥٦.

١٢٩

وعن جابر بن سَمُرَةَ قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: (إنّ الله تعالى سمّى المدينة طابَةَ)(١) .

اسمها في القرآن الكريم: (المدينة). وقد سمّاها الله تعالى كما قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (طابَةَ).

وهي عند رسول الله (طيّبة) و (طيبة) والمدينة. وهي حرام آمن يأمن فيها الطّير، والظّباء، ولا تخبط شجرتها. وهي عند بني أميّة (نتنة) و (أخبث بلد).

وأهلها: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأهل بيت العصمةعليهم‌السلام والسابقون من المهاجرين والأنصار، وأمّهات المؤمنين. وهم عند بني أميّة عظام وَرْمَةً - أي بالية، ويهود أبناء يهود...، ومن أفضل الأعمال وأزكاها قتل أهل المدينة.

فضل الصلاة بمسجد المدينة

ولمسجد المدينة فضل ومنزلة متسبّبة من تشريف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك المسجد، وانتساب المسجد إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكما أنّ المدينة بلد حرام لتحريم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها، ومكّة حرام حرّمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض، وكان الذي بنى الكعبة هو نبيّ الله، أبو البشر آدمعليه‌السلام ، ثمّ اندرست معالمها؛ حتّى بناها إبراهيم النبيّ خليل الرحمنعليه‌السلام ؛ ودعا الله تعالى لها بالحرمة والبركة فاستجاب الله تعالى دعاءه، فصارت حرمتها تنسب إلى النبيّ إبراهيم، فإضافةً إلى رفعه لقواعدها المندرسة، صار معها مقام لم يكن هو مقام إبراهيم، وأضيفت مناسك ظاهراً لم تكن موجودة في حجّ آدمعليه‌السلام ؛ ولأجله قرن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحريمه للمدينة وتبريكه عليها بحرمة مكّة، تعظيماً لها وسدّاً لباب الذريعة لأيّ عدوان عليها؛ وردّ تحريم مكّة إلى دعاء إبراهيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لم يسبق

____________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١٥٦.

١٣٠

إبراهيم في الدعاء في ذلك أحد؛ فمكّة بقعة مباركة ملعون من هتك حرمتها، وكذلك المدينة وإلاّ فإنّا نجد مساجد محترمة مقدّسة جاء فيها ما يدلّ على منزلتها ولم تسلم من يد العدوان!

وقبل الإشارة إلى هذه المساجد، نذكر بعض ما أورده ابن عساكر في (تاريخ دمشق) وهو يتحدّث عن فضائل دمشق والشأم وأهلها، وقد أطنب في الإطراء في ذلك؛ بيد أنّ الواقع أملى نفسه في هذا الفصل الطويل: فقد ذكر أنّ معاوية سأل عبد الله بن الكوّاء عن أهل الشأم؟ قال: أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم لخالق، ولا يحسبون للسماء ساكناً(١) .

وقد سبق ابن النابغة في تشخيص هذا الحال لأهل الشأم في شعره لابن هند. قال: وفي حديث آخر: أطوع الناس لمخلوق في معصية الخالق، وأجرؤهم على الموت لا يُدرى ما بعده دمشقيُّهم يشتمل ولا يدري، وحمصيّهم يسمع ولا يعي(٢) .

قال: والمراد في هذه الحكايات ما كان عليه أهل الشأم من طاعة أئمّتهم وأمرائهم، واقتدائهم في الفتن والحروب بآرائهم، من غير نظر في عواقب الفتن كما فعلوا في سالف الزمن من قتالهم عليّ بن أبي طالب، وهو الإمام المرتضى، وفعلهم يوم الحرّة، وحصار ابن الزبير(٣) .

أسفاً عليك يا ابن عساكر! وأين فعلتهم الشنيعة وجريمتهم العظمى في قتلهم ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الحسين سيّد شباب أهل الجنّةعليه‌السلام وآل بيته وصحبه الكرام؟ أم أنّك

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ١: ١٣٥.

(٢) نفس المصدر السابق: ١٣٦.

(٣) نفس المصدر السابق.

١٣١

عن قصد كما رأينا في موسوعتك (تاريخ دمشق) إذ ترفع من أهل الشأم كثيراً، لابدّ وأن تقرن بهم أهل الكوفة ولكن تنقيصاً وتنزيلاً؛ ولا أدري ينتابك السهو كما انتاب المغيرة بن شعبة، وابن النابغة، وابن هند، إذ صدحوا بفضل ومَجْد أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ؛ فأنت كذلك تصدح في مؤلّفك هذا بفضل الكوفة وأهلها وتذكر نقائص أهل الشأم؟!

يا ابن عساكر: إنّ الناقص الذي أمر بقتل الحسينعليه‌السلام لم يكن مقرّه الكوفة وإنّما دمشق التي أرّخت لها؛ ومن مدن الشأم خرج اثنا عشر ألف، وبعضهم يقول أكثر من ذلك، وضمّ إليهم كما ذكرنا سابقاً الحمراء من أبناء خراسان وخوارج وعثمانيّة الكوفة لقتال الحسينعليه‌السلام . فالذين قتلوا الحسينعليه‌السلام حقيقةً هم أهل الطاعة العمياء! ولقد ذكرت في ترجمة يزيد فقلت: (وخرج الحسين بن عليّ إلى الكوفة ساخطاً لولاية يزيد، فكتب يزيد إلى عبيد الله بن زياد، وهو واليه على العراق: إنّه قد بلغني أنّ حسيناً سار إلى الكوفة، وقد ابتلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وابتليت من بين العمّال، وعندها تعتق أو تعود عبداً. فعندها قتله عبيد الله وبعث برأسه إلى يزيد...)(١) .

ويزيد الذي أوقع بأهل المدينة، بعث إليهم مسلم بن عُقبة المرِّيّ (طبعاً في أهل الشأم!) فأصابهم بالحرّة(٢) .

وهنا لم تذكر فعلتهم الثالثة (حصار ابن الزبير)! وفي قتل الحسينعليه‌السلام اكتفيتَ بقولك: قتله عبيد الله.

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٢٨: ١٩.

(٢) نفس المصدر السابق.

١٣٢

قال: وعن النعمان بن المنذر الغساني قال: كنت مع مكحول - الشاميّ - قال: فأتاه فتيان من أهل العراق فجعلوا يسألونه؛ فجعل يخبرهم؛ قال: فقالوا له: عمّن ومن حدّثك؟ قال: فنشط لهم مكحول، فجعل يُسند لهم، فلمّا تهيّأ قيامه ضحك، ثمّ قال: هكذا ينبغي لكم يا أهل العراق، لا يصلحكم إلّا هذا، وأمّا أصحابنا هؤلاء أهل الشأم فيأخذون كما تَيسَّر. قال: ثمّ قام(١) .

قال الأعمش: كنّا إذا جاءنا الحديث وأنكرناه قلنا: شاميّ!(٢)

ممّا تقدّم يدخل في صفة مجتمع هو تربية ابن هند الذي علّمهم الطاعة من غير نظر في عواقب فتنه، وأمّا أهل العراق فإنّهم أهل علم، فكثير منهم يحجزه علمه عن الحركة ويسأل أن لماذا هذه الحرب مع علمهم أنّهم مع إمام مفترض الطاعة. ومع غيره فلا تخدعهم الأسماء فلا يأخذوا الحديث والرواية حتّى يسألوا عن السند فينظروا فيه، ولذلك مدحهم مكحول الشاميّ وقوله: (هكذا ينبغي لكم يا أهل العراق) إنّما يعني أنّكم أهل علم لا يقاس بكم من يأخذ الشيء جاهزاً كما وصل إليهم. وقوّى هذا المعنى الأعمش الذي ذهب بعيداً فجعل منبع الأحاديث المنكرة (شآميّة)، ويعني بذلك المدرسة الأمويّة.

وأخرج ابن عساكر، عن سليمان بن يَسار قال: كتب عمر بن الخطّاب إلى كعب الأحبار أن اخترلي المنازل فكتب إليه:

إنّه بلغنا أنّ الأشياء اجتمعت فقال السخاء: أريد اليَمن، فقال حسن الخُلُق: أنا معك. وقال الجَفاء: أريد الحجاز، فقال الفقر: وأنا معك، وقال البأس: أريد الشأم،

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ١: ١٣٧.

(٢) نفس المصدر السابق.

١٣٣

فقال السيف: وأنا معك. وقال العلم: أريد العراق، فقال العقل: وأنا معك. فاختر لنفسك يا أميرالمؤمنين. فلمّا ورد الكتاب على عمر بن الخطّاب قال: فالعراق إذاً، فالعراق إذاً(١) .

إنّ اختيار عمر بن الخطّاب العراق بعد الذي سمعه من وصف كعب الأحبار، ربّما كان قبل حصب أهل الكوفة واليهم ودعوة عمر أهل الشأم ليستعدّوا لأهل العراق ودعائه بتعجيل تسلّط كذّاب ثقيف ومبيرها الحجّاج بن أمّ الحكم على العراق، ولعلّه جاء بعد حين من الزمن هدأت فيه ثائرة عمر وحنقه على العراق، وسمع كلام كعب الأحبار الذي هو موضع ثقة لدى عمر، ومعاوية؛ إذ عنده كثير من أخبار اليهود وقصصهم.

وعن أنس بن مالك، في خبر طويل هذا بعضه: (وقال ملك السيف: أنا أسكن الشأم، فقال له ملك البأس: أنا أسكن معك. وقال ملك الغنى: أنا أقيم هاهنا - العراق - فقال له ملك المروءة أنا معك. فقال ملك الشرف: وأنا معكما، فاجتمع ملك الغنى والمروءة والشرف بالعراق(٢) .

وذكر الخطيب البغدادي، قال: (إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر أهل العراق وقال: أوحى الله تعالى إلى إبراهيمعليه‌السلام : إنّي جعلت خزائن علمي فيهم وأسكنت الرحمة قلوبهم)(٣) .

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ١: ١٣٣. وذكره الخطيب البغداديّ مثلما في تاريخ دمشق، وزاد عليه بسنده عن عمر أنّه قال: (أهل العراق كنز الإيمان، وجمجمة العرب وهم رمح الله يحرزون ثغورهم ويمدّون أمصارهم). تاريخ بغداد ١: ٢٥.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ١: ١٣٤.

(٣) تاريخ بغداد ١: ٢٥.

١٣٤

فضل الكوفة

وتتفاوت البقاع في الفضل للأسباب والخصوصيّات التي اختصّ بعضها دون بعض. فبيت الله الحرام ولوجود الكعبة المشرّفة فهو أفضل البقاع يَفده الحاجّ من أدنى الأصقاع وأقصاها يحيون سيرة الأنبياء من لدن آدم، وإبراهيم وانتهاءً بالنبيّ الخاتم عليهم صلوات الله وسلامه؛ وحرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، المدينة المنوّرة، فمن تمام الحجّ زيارة النبيّ ومن لم يزره فقد جفاه، ومن زاره كان كمن زاره في حياته، والصلاة في مسجده أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلّا المسجد الحرام، وفي لفظ فيما سواه - من غير المساجد -، خرّجه مسلم من طرق عدّة(١) ، وشرف مسجده مُستمَدّ من كونه يفضي إلى قبره، وقبره روضة من رياض الجنّة.

ومن البقاع المباركة المسجد الأقصى بيت المقدس، فهو مهبط الوحي ومقرّ الأنبياء وذلك هو قول الله عزّ وجلّ:( سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى‏ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى‏ الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) (٢) الآية.

وللكوفة فضلها ومنزلتها

الكوفة حاضرة الإسلام ومركز الإشعاع الفكري الإسلامي والحضاري مذ مُصّرت في صدر الإسلام وحتّى عصرنا، ضمّ مسجدها عدداً وفيراً من الأنبياء وشهد جلسات أمير المؤمنينعليه‌السلام يعض ويقضي وحوله الأماثل: سبطا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والبدريّون وبقايا المهاجرين والأنصار. ومن الكوفة انطلقت جحافل المؤمنين لنصرة

____________________

(١) صحيح مسلم ٥: ١٦٢ - ١٦٤.

(٢) الإسراء: ١.

١٣٥

الحقّ، فقاتلوا مع الإمام عليّعليه‌السلام أصحاب الجمل، وقاتلوا معه خوارج الشام القاسطين أصحاب ابن هند؛ ومضوا على عهدهم فقاتلوا معهعليه‌السلام الخوارج المارقين، يوم النهروان.

وفي مسجد الكوفة استشهد أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ضربه الخارجيّ ابن ملجم المراديّ، وهو ساجد في صلاة الفجر، لعن الله ابن ملجم. ودفن أمير المؤمنين بظهر الكوفة التي أحبّها وأحبّته فتبرّكت به وصارت بقعته المباركة مزار الملايين، وهذا هو شأن من شرى نفسه للّه تعالى.

ذكر ابن أبي الحديد في فضل الكوفة، قال:

وقد جاء في فضل الكوفة عن أهل البيتعليهم‌السلام شيء كثير، نحو قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : (نعمت المدَرة)(١) .

وقولهعليه‌السلام : (إنّه يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفاً، وجوههم على صورة القمر)(٢) .

وقولهعليه‌السلام: (هذه مدينتنا ومحلّتنا، ومقرّ شيعتنا)(٣) .

وقول جعفر بن محمّدعليه‌السلام : (أللّهم إرم من رماها، وعاد من عاداها)(٤) .

وقوله أي أمير المؤمنينعليه‌السلام : (تربة تحبّنا ونحبّها)(٥) .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٣: ١٩٨.

(٢) نفس المصدر السابق. وفي وقعة صفّين لنصر بن مزاحم (ت ٢١٢ هـ): (يحشر من ظهر الكوفة سبعون ألفاً على غرّة الشمس يدخلون الجنّة بغير حساب). (وغرّة الشمس: مطلعها).

(٣) شرح نهج البلاغة ٣: ١٩٨.

(٤) نفس المصدر السابق.

(٥) نفس المصدر السابق.

١٣٦

ومن كلام لهعليه‌السلام يخاطب أصحابه من أهل الكوفة:

(أنتم الأنصار على الحقّ والإخوان في الدين، والجنن يوم البأس(١) ، والبطانة دون الناس. بكم أضرب المدبر، وأرجو طاعة المقبل)(٢) .

ومن كتاب لهعليه‌السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة:

(من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة جبهة الأنصار وسنام العرب)(٣) .

ثمّ شرح لهم أمر عثمان ودور طلحة والزّبير وأمّهم عائشة، وما يجب عليهم: (فأسرعوا إلى أميركم وبادروا جهاد عدوّكم إن شاء الله)(٤) .

ومن كتاب لهعليه‌السلام إليهم بعد فتح البصرة:

(وجزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيّكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته والشاكرين لنعمته، فقد سمعتم وأطعتم، ودعيتم فأجبتم)(٥) .

وذكر ياقوت الحموي شرح حال الكوفة من تاريخ تمصيرها والأدوار التي مرّت بها، ثمّ قال:

وقال الكلبيّ: قدم الحجّاج بن يوسف على عبد الملك بن مروان ومعه أشراف العراقيّين، فلمّا دخلوا على عبد الملك تذاكروا أمر الكوفة والبصرة، فقال محمّد بن عمير العطاردي: الكوفة سفلت عن الشأم ووبائها وارتفعت عن البصرة وحرّها؛ فهي بريّة مريئة مريعة، إذا أتتنا الشمال ذهبت مسيرة شهر على رضراض الكافور، وإذا هبّت الجنوب جاءتنا ريح السّواد ووَرْدِه وياسمينه وأُترنجه، وماؤنا عذب وعيشنا

____________________

(١) الجنن: جمع جنّة وهي الوقاية، والبأس: الشدّة.

(٢) نهج البلاغة، بشرح محمّد عبده ٢: ٢٣١.

(٣) شبّههم بالجبهة من حيث الكرم ووحدة الصفّ في النصرة، وبالسنام من حيث الرفعة.

(٤) نفس المصدر السابق ٣: ٢ - ٣.

(٥) نفس المصدر السابق: ٣.

١٣٧

خِصْب. فقال عبد الملك بن الأهتم السعدي: نحن والله أوسع منهم بَرِية وأعدّ منهم في السريّة وأكثر منهم ذرّيّةً وأعظم منهم نفراً، يأتينا ماؤنا صفواً ولا يخرج من عندنا إلّا سائق أو قائد.

فقال الحجاج: يا أمير...، إنّ لي بالبلدين خبراً، فقال: هات غير متّهم فيهم، فقال: أمّا البصرة فعجوز شمطاء بَخْراء دَفْراء أوتيت من كلّ حليّ! وأمّا الكوفة فبكر عاطل عيطاء لا حلي لها ولا زينة. فقال عبد الملك: ما أراك إلّا قد فضّلت الكوفة.

وكان عليّعليه‌السلام يقول: (الكوفة كنز الإيمان وحجّة الإسلام وسيف الله ورمحه يضعه حيث شاء، والذي نفسي بيده لينتصرنّ الله بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بأهل الحجاز)(١) .

وكان سلمان الفارسيّ يقول: (أهل الكوفة أهل الله، وهي قبّة الإسلام يحنّ إليها كلّ مؤمن)(٢) .

وأمّا مسجدها: فقد رويت فيه فضائل كثيرة، ورى حبّة العرنيّ(٣) قال: كنت جالساً عند عليّعليه‌السلام فأتاه رجل فقال:

يا أمير المؤمنين هذه راحلتي وزادي أريد هذا المسجد أعني بيت المقدس، فقال عليّعليه‌السلام : (كُلْ زادك وراحلتك وعليك بهذا المسجد، يعني مسجد الكوفة، فإنّه أحد المساجد الأربعة، ركعتان فيه تعدلان عشراً فيما سواه من المساجد، والبركة منه إلى اثني

____________________

(١) معجم البلدان ٤: ٤٩٢.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) قال العجلي: حبّة بن جوين العرنيّ، كوفيّ، تابعيّ، ثقة. تاريخ الثقات، للعجلي (ت ٢٦١ هـ): ١٠٥ / ٢٤٣. وذكره البرقيّ في أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام . رجال البرقي: ٦. وذكر اسمه داود في أصحاب أمير المؤمنين وفي أصحاب الإمام الحسنعليهما‌السلام . رجاله: ٩٨ / ٣٧١.

١٣٨

عشر ميلاً من حيث ما أتيته وهي نازلة من كذا ألف ذراع، وفي زاويته فار التّنور وعند الأسطوانة الخامسة صلّى إبراهيمعليه‌السلام ؛ وقد صلّى فيه ألف نبيّ وألف وصيّ، وفيه عصا موسى والشجرة اليقطين، وفيه هلك يغوث ويعوق، وفيه مصلّى نوحعليه‌السلام ، ويحشر منه يوم القيامة سبعون ألفاً ليس عليهم حساب؛ ووسطه روضة من رياض الجنّة، وفيه ثلاث أعين من الجنّة تذهب الرّجس وتطهّر المؤمنين، لو علم الناس ما فيه من الفضل لأتوه حَبْواً)(١) .

وقال السيّد الحميريّ يذكر مسجد الكوفة:

لعَمْرُك! ما من مسجد بعد مسجد

بمكّة ظهراً أو مُصلّىً بيثرب

بشرق ولا غرب علمنا مكانه

من الأرض معموراً ولا متجنّب

بأَبْيَن فضلاً من مصلّىً مبارك

بكوفان رحب ذي أواسٍ ومخصب

مُصلّىً، به نوحٌ تَأثّلَ وابتنى

به ذاتَ حَيزوم وصَدْر محنّب

وفارَ به التّنور ماء وعنده

له قيل: أيا نوح في الفلك فاركب

وباب أمير المؤمنين الذي به

ممرُّ أمير المؤمنين المهذّب

عن مالك بن دينار قال: كان عليّ بن أبي طالب إذا أشرف على الكوفة قال:

يا حبّذا مَقالُنا بالكوفة

أرض سواء سهلة معروفة(٢)

وذكر الدّينوريّ قول أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام بشأن الكوفة بعد أن انتهى من أمر الجمل، قال:

____________________

(١) معجم البلدان ٤: ٤٩٢.

(٢) نفس المصدر السابق.

١٣٩

بعد أن انتهى أمير المؤمنينعليه‌السلام من أمر وقعة الجمَل، سار فلمّا أَشْرَف على الكوفة، قال: (وَيْحَكِ يا كوفان، ما أطيب هواءك، وأغْذَى تُربتك؛ الخارج منك بذنب، والداخل إليك برحمة، لا تذهب الأيّام والليالي حتّى يجيء إليك كلّ مؤمن، ويبغض المقام بك كلّ فاجر، وتعمرين، حتّى إنّ الرجل من أهلك ليُبَكِّر إلى الجمعة فلا يلحقها من بُعْد المسافة)(١) .

وعن علمهم بالحلال والحرام، فقد خطبهمعليه‌السلام يوم صفّين، قال:

(إنّ الله أكرمكم بدينه، وخلقكم لعبادته، فانصبوا أنفسكم في أداء حقّه، وتنجّزوا موعوده...، ونحن سائرون إن شاء الله إلى من سفِه نفسه، معاوية وجنده، الفئة الباغية الطاغية، يقودهم إبليس...، وأنتم أعلم الناس بحلاله وحرامه، فاستغنوا بما علمتم...)(٢) .

وخطبهم الحسنعليه‌السلام فحثّهم على الجهاد والمضي قدماً في نهج الحقّ.

ثمّ خطبهم الحسينعليه‌السلام فكان ممّا قال:

(يا أهل الكوفة، أنتم الأحبّة الكرماء، والشّعار دون الدثار؛ جدّوا في إحياء ما دثر بينكم وإسهال ما توعّر عليكم...) وحثّهم على الجهاد ونزل، فأجاب عليًّا جلّ الناس إلى السير إلى الجهاد والسير إلى العدوّ(٣) .

____________________

(١) الأخبار الطوال، أحمد بن داود الدّينوريّ (ت ٢٨٢ هـ): ١٥٢. ولقد صدقت نبوءة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقد أقام الشهيد السعيد محمّد محمّد صادق الصدر صلاة الجمعة في مسجد الكوفة أيّام الطاغية المقبور صدّام، فكان يقصدها الجموع الغفيرة من مدن العراق. وبعد سقوط الصنم عمّت صلاة الجمعة، عراقِ أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

(٢) وقعة صفّين: ١١٢ - ١١٣.

(٣) نفس المصدر السابق: ١١٤ - ١١٥.

١٤٠