شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 182681
تحميل: 4458

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182681 / تحميل: 4458
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

والحجّاج هو الذي قاد جيوش الشأميّين في عهد عبدالملك بن مروان، ونصبوا المجانيق وجعلوا يرمون البيت الحرام بالحجارة فتقع في المسجد كالمطر حتّى انصدع الحائط الذي على بئر زمزم عن آخره وانتقضت الكعبة من جوانبها، ثمّ أمرهم الحجّاج فرموا بكيزان النفط والنار حتّى احترقت الستارات كلّها، وللحجّاج في ذلك رجز؛ وقُتل ابن الزبير وأصحابه في المسجد الحرام(١) ، بعد أن سَلَم من أيدي أهل الشأم في حصارهم الأوّل لبيت الله الحرام ودكّهم البيت بالمنجنيق وحرقهم للكعبة عقيب إيقاعهم بأهل المدينة أيّام يزيد. وأهل المدينة الذين تعرّضوا لحرب إبادة بدأها ابن هند وقادة جنده بحرب كلاميّة وإيقاع الرّعب في نفوسهم وشتم قبائلهم وتَوَّجها يزيد وجنده بما أشرنا إليه، هم الأنصار الذين آووا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبلوا الإسلام إذ رفضته قريش التي واصلت مساعيها يقودها أبوسفيان لمنع نور الإسلام أن ينتشر. واستقبل الأنصار المهاجرين فقاسموهم ما يملكون، وكانوا سيفاً مصلتاً قرّت له عين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكرهم القرآن:( وَالسّابِقُونَ الْأَوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَاً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (٢) .

أمثل هؤلاء يقال عنهم: يهود؟ هلاّ إذ قاتلتموهم، كففتم عنهم ألسنة السوء كما فعل أمير المؤمنين حقّاً عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إذ كان في كلّ حروبه لا يبدأ خصمه بحرب، ويمنع جنده أن يشتموا الآخرين وإن شتموهم وأن لا يجهزوا على جريح ولا يلحقوا مدبراً.

____________________

(١) الفتوح، لابن أعثم ٦: ٢٧٥ - ٢٧٩، تاريخ اليعقوبيّ ٢: ٢٦٦، الإمامة والسياسة، لابن قتيبة ٢: ٢٤.

(٢) التوبة: ١٠٠.

١٦١

ولكن لكم بساحركم الذي شرى آخرتكم الخاسرة بثمن بَخْس، أُسوة وهو يشين أهل المدينة ويرعبهم بكم، ثمّ كانت الحرّة فزادتكم خسارة لا رجعة عنها!

الأنصار في السنّة

ذلك قول الله عزّ وجلّ في الأنصار، وأمّا في السنّة، ذكر ابن هشام: بلغني عن يحيى ابن سعيد: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين افتتح مكّة ودخلها، قام على الصفا يدعو الله، وقد أحدقت به الأنصار فقالوا فيما بينهم: أترون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ فلمّا فرغ من دعائه قال: (ماذا قلتم؟) قالوا: لا شيء يا رسول الله؛ فلم يزل بهم حتّى أخبروه؛ فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (معاذ الله! المحيا محياكم، والممات مماتكم)(١) .

هذا قول سيّد الرّسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأنصار الذين قال مسرف - مسلم - بن عقبة بعد أن فرغ من قتل أهل المدينة: (أللّهم إنّك تعلم إنّي لم أغشّ خليفةً قطُّ في سرّ ولا علانيّة، وأنّ أزكى عمل عملته قطُّ في نفسي بعد شهادة أن لا إله إلّا الله قتلي أهل الحرّة...)(٢) . ومن قول له وهو يحتضر: (إنّ الله قد طهّرني بقتل هؤلاء الأرجاس)(٣) .

هذا هو منطق الطّغاة! فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يضمّ نفسه إلى الأنصار لـمّا رأى منهم من النصرة، والمؤلّفة قلوبهم والذين أشربت قلوبهم نفاقاً، لا ينسون بارقة سيوف الأنصار تضربهم على الإسلام، فحان الوقت لطلب الثارات!

عبد الرزّاق قال: أخبرنا معمر عن ثابت البناني أنّه سمع أبا هريرة يقول: قال

____________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام ٤: ٥٩.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٣٤٩.

(٣) نفس المصدر السابق.

١٦٢

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّ الأنصار عيبتي التي أويت إليها، فاقبلوا عن محسنهم واعفوا عن مسيئهم، فإنّهم قد أدّوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم)(١) .

وعبد الرزّاق بسنده عن جابر أنّ رجلاً من الأنصار جاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: بايعني على الهجرة، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: (إنّما الهجرة إليكم، ولكنّي أبايعك على الجهاد)، وقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (الأنصار محْنة، فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)(٢) .

وعبد الرزّاق بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لو لا الهجرة لكنت إمْرأً من الأنصار، ولو يندفع الناس في شعبةٍ أو وادٍ، والأنصار في شعبة، إندفعت مع الأنصار في شعبتهم)(٣) .

عبدالرزّاق عن جابر، قال: النقباء كلُّهم من الأنصار، سَعْد بن عُبادة، والمنذر بن عمرو من بني ساعدة؛ وسعد بن خَيْثمة من بني عمرو بن عوف؛ وسعد بن الرّبيع، وسعد بن زرارة من بني النجّار، وأُسَيْد بن حُضَيْر، وعُبادة بن الصامت، وعبد الله بن رَواحة، وأبو الهيثم بن التيِّهان، وعبد الله بن عمرو أبو جابر بن عبد الله من بني سَلَمة، والبَراء بن معرور من بني سَلَمة، ورافع بن مالك الزّرقيّ(٤) .

عبدالرزّاق عن معمر عن عبدالله بن محمّد بن عقيل بن أبي طالب، أنّ معاوية لـمّا قدم المدينة لقيه أبو قَتادة الأنصاريّ، فقال: تلقّاني الناس كلّهم غيركم يا معشر الأنصار! فما منعكم أن تلقوني؟ قال: لم تكن لنا دوابّ، قال معاوية: فأين النواضح؟

____________________

(١) مختصر المصنّف، لعبد الرزّاق بن همام (ت ٢١١ هـ) ٣: ٤٩١ / ٥٨٥٠.

(٢) نفس المصدر السابق: ٤٨٩ / ٥٨٤٥.

(٣) نفس المصدر السابق: ٤٨٩ / ٥٨٤٦.

(٤) نفس المصدر السابق: ٤٩٣ / ٥٨٥٨.

١٦٣

قال أبو قتادة: عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، قال: ثمّ قال أبو قتادة: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لنا: إنّا لنرى بعده أثرة، قال معاوية: فما أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر حتّى نلقاه، قال: فاصبروا حتّى تلقوه(١) .

وعن ابن شهاب الزُّهريّ، قال: وفد أبو أيّوب الأنصاريّ على معاوية فقضى حوائجه، ثمّ قال له أبو أيّوب: لي مال ولا غِلمان لي يقومون به، فأعطني مالاً أشتري به غلماناً، فقال: ألم أعطك لوفادتك وأقض حوائجك في خاصّتك وعامّتك؟ قال: بلى. قال: فما لك عندي شيء سوى ذلك. فقال أبو أيّوب: ألا تفعل يا معاوية، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (إنّكم ستلقون بعدي أثْرة يا معاشر الأنصار، فاصبروا حتّى تلقوني). قال معاوية: فاصبر يا أبا أيّوب! قال: أقُلتَها يا معاوية؟! والله لا أسألك بعدها شيئاً أبداً(٢) .

وللأنصار مع معاوية صولات، رجالهم ونساؤهم:

البلاذري قال: حدّثني محمّد بن سعد عن الواقديّ عن يزيد بن عياض قال: قال معاوية: الأرض لله وأنا خليفة الله فما أخذتُ فلي، وما تركته للناس فبالفضل منّي! فقال صعصعة بن صوحان: ما أنت وأقصى الأمّة في ذلك إلّا سواء، ولكن من ملك استأثر؛ فغضب معاوية وقال: لهممت، فقال صعصعة: ما كلّ من همّ فعل، قال: ومن يحول بيني وبين ذلك؟! قال: الذي( يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) (٣) ، وخرج وهو يقول ببيت الشمّاخ:

أريدوني إرادَتَكُم فإنّي

وحَذْفَةَ كالشَّجا تحتَ الوريدِ(٤)

____________________

(١) مختصر المصنّف ٣: ٤٩٠ / ٥٨٤٩.

(٢) أنساب الأشراف ٤: ٧٠.

(٣) الأنفال: ٢٤.

(٤) أنساب الأشراف ٥: ٢٧ - ٢٨. وحذفة: اسم فرس خالد بن جعفر الكلابي.

١٦٤

أبو الحسن المدائني عن أبي عبدالرحمن العجلاني عن سعيد بن عبدالرحمن قال: دخل قوم من الأنصار على معاوية فقال لهم: يا معشر الأنصار، قريش خيرٌ لكم منكم لها، فإن يكُ ذلك لقتلى أُحد فقد نلتم يوم بدر مثلهم، وإن يكن لِلأَثْرة فوالله ما تركتم لنا إلى صلتكم سبيلاً! لقد خذلتم عثمان يوم الدار وقتلتم أنصاره يوم الجمل وصَلِيتم بالأمر يوم صفّين؛ فتكلّم قيس بن سعد بن عبادة فقال: أمّا ما قلت من أنّ قريشاً خير لنا منّا لهم، فإن يفعلوا فقد أسكنّاهم الدار وقاسمناهم الأموال وبذلنا لهم الدماء ودفعنا عنهم الأعداء، وأنت زعمت! سيّد قريش فهل لنا عندك جزاء؟ وأمّا قولك إن يكن ذلك لقتلى أحد؛ فإنّ قتيلنا شهيد وحيّنا ثائر، وأمّا ذكرك الأثْرة فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرنا بالصبر عليها، وأمّا خذلان عثمان فإنّ الأمر في عثمان كان الأَجْفَلَى(١) ، وأمّا قتل أنصاره يوم الجمل فما لا نعتذر منه وبوُدّك أنّ الجميع اصطلموا، وأمّا قولك إنّا صَلِينا يوم صفّين فإنّا كنّا مع رجل لم نأْلُه خيراً؛ ثمّ قاموا فخرجوا، فقال معاوية: لله درّهم! فوالله ما فرغ كلامه حتّى ضاق المجلس عليّ وما كان فيكم رجل يجيبه، ثمّ ترضّاهم ووصلهم(٢) .

والمدائني بسند آخر: دخل قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ مع رهط من الأنصار على معاوية فقال معاوية: يا معشر الأنصار بماذا تطلبون ما قِبَلي؟ والله لقد كنتم قليلاً معي كثيراً عليَّ، ولقد فللتم حدّي يوم صفّين حتّى رأيتُ المنايا تَلَظَّى في أسنّتكم، وهجموتموني بأشدّ من وَخْز الأشافي(٣) ، حتّى إذا أقام الله ما حاولتم مَيْله قلتم:

____________________

(١) الأجْفلي: الجماعة من كلّ شيء.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٦٢.

(٣) الأشفى: المثقب.

١٦٥

أرْعَ فينا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هيهات هيهات يأبى الحَقينُ العذرة. فقال قيس بن سعد: إنّا نطلب ما عندك بالإسلام الكافي به الله فَقْدَ ما سِواه لا بما تَمُتُّ به إليك الأحزاب، وأمّا عداوتنا لك فلو شئتَ كففتَها عنك، وأمّا هِجاؤنا إيّاك فقولٌ يزول باطله ويثبت حقّه، وأمّا استقامة الأمر لك فعلى كُرْهٍ منّا، وأمّا فلّنا حَدَّك يوم صفّين فإنّا كنّا مع رجل نرى طاعته لله طاعةً، وأمّا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنا، فإنّ من آمن به رعاها بعده، وأمّا قولك يأبى الحقين العذرة فليس دون الله يد تحجزك، فشأنك يا معاوية! فقال معاوية: سَوْءَةً، ارفعوا حوائجكم، فرفعوها فقضاها(١) .

وذكر ابن أعثم الكوفيّ، قال: بعد مقتل عليّعليه‌السلام ، دخل عَدِيّ بن حاتم الطائيّ على معاوية وعنده عمرو بن العاص، ورجل من بني الوحيد، فسلّم عَدِيّ، فردّوا عليه السلام؛ فقال له معاوية: أبا طريف ما الذي أبقى لك الدهر من ذكر عليّ بن أبي طالب؟ فقال عديّ: وهل يتركني الدهر أن لا أذكره؟! قال: فما الذي بقي في قلبك من حبّه؟ قال عديّ: كلّه، وإذا ذكر ازداد!

فقال معاوية: ما أُريد بذلك إلّا إخلاقَ ذكره!(٢)

فقال عديّ: قلوبُنا ليست بيدك يا معاوية. فضحك معاوية ثمّ قال: يا معشر طيّء! إنّكم ما زلتم تُشرّفون الحاجّ ولا تُعظّمون الحرم، فقال عديّ: إنّا كنّا نفعل ذلك ونحن لا نعرف حلالاً ولا ننكر حراماً، فلمّا جاء الله عزّ وجلّ بالإسلام غلبناك وأباك على الحلال والحرام، وكنّا للبيت أشدّ تعظيماً منكم له(٣) .

____________________

(١) نفس المصدر السابق: ٦٢ - ٦٣.

(٢) أي إماتة ذكره.

(٣) الفتوح، لابن أعثم (ت ٣٣١ هـ) ٣: ١٣٤ - ١٣٥، مروج الذهب، للمسعودي ٣: ١٧.

١٦٦

وخرج عديّ مغضباً، فأرسل إليه معاوية بجائزةٍ سنيّة وترضّاه(١) .

(حبّ عليّ إيمان وبُغضه نفاق) أحبّه الله ورسوله والملائكة المقرّبون وأحبّ هو الله حبّاً بلغ به حدّ اليقين لو كُشف القناع ما ازداد يقيناً، فأحبّه قوم أشدّ من حبّهم أنفسهم وأولادهم وما يملكون، فمنهم من قضى نحبه شهيداً في الجمل في قتال خوارج الناكثين، وضِعْفِ هذا العدد ويزيد مضى إلى ربّه شهيداً حميداً يوم صفّين في مجاهدة خوارج البُغاة القاسطين، وبعض استشهد في مجاهدة الخوارج المارقين بالنهروان، ورجعوا إلى عاصمة الإسلام مع إمامهم منتظرين انتهاء المدّة التي اتّفق عليها الطرفان لمعاودة الحرب فيما لو أخلّ أحدهما بالشروط، وقد ذكرنا في مبحث الغارات أنّ معاوية بعد رجوعه إلى الشأم راح يبثّ الغارات على أطراف أمير المؤمنينعليه‌السلام فيقتل وينهب، وبثّ غاراته على الحرمين الشريفين وكان أمره لقادة جنده أن يرجفوا بأهل الحرمين حتّى يظنّوا أنّه مُوقِعٌ بهم وأن يسمعهم من الإهانة والتوهين بالحرمين وبمقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إلاّ أنّ الأجل الذي لابدّ منه، فكانت شهادة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وتفرّد ابن هند بالسلطان فراح يطلب ثارات بدر، وصفّين! بتسليط أولاد البغايا لمعرفته بحقيقة نفسه!

وبغضه لأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، هاجسه النفسيّ، ما إن يدخل عليه من شيعة أهل البيت نفر أو جماعة، رجل أو إمرأة، إلّا وبدأ بالتحارش فإذا أدحضت حجّته - وهي داحضةٌ دائمةٌ إذ لا يصدر إلّا عن باطل - انتقل إلى غيرها فإذا كُبكب بين يدي منطق الحقّ راح يستعطف ويستلطف، ولكن من غير أن يعود عن طبع التهارش والتحارش كأنّ فيه شيئاً يحرّكه!

____________________

(١) نفس المصادر.

١٦٧

ولا نريد أن نتوقّف عند كلّ فقرة من كلام معاوية مع الأنصار، فقد أجاب عنها قيس بن سعد، ولكن وقفة سريعة عند قول ابن هند في حقّ نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيّه وليّ الأمر قرآناً وسنّةً عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ إذ قال: (ما أريد بذلك إلّا إخلاقَ ذكره!).

يذكّرنا هذا بقوله في حقّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ ابن أبي كبشة يصاح به كلّ يوم خمس مرّات (أشهد أنّ محمّداً رسول الله) فأيّ عمل يبقى؟ وأيّ ذكر يدوم لا أباً لك - مخاطباً المغيرة بن شُعبة في حوارٍ ذكرناه سابقاً - لا والله إلّا دفناً دفناً.

أيْ دفن رسالة الإسلام وإخمال ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودين عليّ دين رسول الله، لم يسجد لصنم من أصنام ابن هند، وابن حمامة أبي سفيان ولا غيرهما ممّن تظاهر بالإسلام تحت بارقة سيوف الفتح المبين ولم تطهر نفوسهم، فالأزلام في يد أبي سفيان يوم حنين، ولـمّا راى الهزيمة أظهر ضغنه فقال: لا تنتهي هزيمتهم دونَ البحر(١) ؛ فأظهر شماتته بالمسلمين. وإنّ حمله الأزلام معه دليل على كفره.

ولمّا رأى أبو سفيان الناس يطؤون عقب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، حسده فقال في نفسه: لو عاودتُ الجمعَ لهذا الرجل، فضرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدره ثمّ قال: (إذاً يخزيك الله) فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، والله ما تفوّهت به إلّا شيء حدّثت به نفسي. ومن طريق أبي إسحاق السَّبِيعيّ نحوه وقال: ما أيقنت أنّك رسولُ الله حتّى الساعة! ومن طريق عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: قال أبو سفيان في نفسه ما أدري بم يغلبنا محمّد فضرب في صدره وقال: (بالله نغلبك) فقال: أشهد أنّك رسول الله!(٢)

____________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام ٤: ٨٦، السيرة النبويّة، لابن كثير ٣: ٦١٩. والأزلام: سهام كانوا يستقسمون بها.

(٢) الإصابة ٢: ١٧٩.

١٦٨

ويوم اليرموك: كان أبوسفيان في مشيخة من قريش فجعلوا إذا مال المسلمون يقولون: إيه بني الأصفر، وإذا مالت الروم قالوا: يا وَيْح بني الأصفر(١) .

وبسند عن عبد الله بن الزبير قال: لـمّا كان يوم اليرموك خلّفني أبي، فأخذت فرساً له وخرجت، فرأيت جماعةً من الخلفاء فيهم أبوسفيان بن حرب فوقفت معهم، فكانت الروم غذا هَزَمتِ المسلمين قال أبوسفيان: إيه بني الأصفر، فإذا كشفهم المسلمون قال أبوسفيان:

وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم لم يبقَ منه مذكور

قال: فلمّا فتح الله على المسلمون حدّثت أبي فقال: قاتله الله! يأبى إلّا نفاقاً؛ أولسنا خيراً له من بني الأصفر! ثمّ كان يأخذ بيدي فيطوف على أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: حدّثهم، فأحدّثهم فيعجبون من نفاقه(٢) .

ولمّا ولي عثمان؛ نجم كفر ونفاق أبي سفيان، فبسند عن الحسن البصري قال: دخل أبوسفيان على عثمان بعد أن كُفّ بصره، فقال: هل علينا من عَيْن؟ فقال له عثمان: لا. فقال: يا عثمان، إنّ الأمر عالميّة، والملكَ ملكُ جاهليّة، فاجعل أوتاد الأرض بني أميّة(٣) .

فالأمر عند أبي سفيان أمرُ العالم، الناس، لا أمر الله تعالى، حيث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قُبض، فقُبض معه الإسلام! تفكير جاهليّ واطئ؛ وكأنّ الدين رهن بشخص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! لا بالقرآن الكريم الخالد المصون الذي تكفّل بحفظه ذو العزّة والجلال.

____________________

(١) الإصابة ٢: ١٧٩.

(٢) الأغاني ٦: ٢٥٤ - ٢٥٥.

(٣) نفس المصدر السابق: ٢٥٥.

١٦٩

ولذا يدعو كهف الكفر والنفاق أن يكون الملك جاهليّاً أوتاده بنو أميّة، فهم الشجرة الملعونة في القرآن وعلى لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وممّا يدلّ على سوء عقيدته وأنّه ما آمن مذ كفر:

بسند عن قيس بن أبي حازم أنّ أباسفيان دخل على عثمان وهو مكفوف، ثمّ خرج من عنده وهو يقول: تلقّفوها يا بني أميّة تلقّف الكرة فما الأمرُ على ما يقولون!(١)

وعن ابن سيرين قال، قال أبوسفيان حين قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تلقّفوها الآن تلقّف الكرة فما من جنّة ولا من نار(٢) .

فقوله: فما الأمر على ما يقولون، تكذيب بالرسالة والرسول والوعد والوعيد... فما عليكم يا بني أميّة والحال هذه، وإنّ عثمان أمويّاً تولّى الحكم، ومعاوية قد مهّد له، ثمّ رسّخ ووسّع له السلطة في الشام وغيرها وزاده عثمان بسطةً في الحاكميّة، فما عليكم إلّا شحذ الهمم لمسلك زمام الأمور وحكم الأمّة بأحكام الجاهليّة التي فقدنا حلاوتها!

ولقد كان هذا الباب الوسيع الذي ينفذ منه الأنصار في تحدّيهم معاوية وثلبه. فلو أنّه وأباسفيان وفروع الشجرة شكروا النعمة إذ لم يعاقبهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال لهم: اذهبوا أنتم الطُّلقاء، وأعطاهم من غنائم حُنَين يتألّف قلوبهم؛ فأظهروا ديناً وأبطنوا كفراً! ربّما أغمض الأقلام من أن تجري بسوء سيرتهم وكمّ أفواهاً من أن تلهج بأُصولهم وأنسابهم. كيف وهم يعاوون ويبزّون الأشراف!

معاوية يكاتب قيس بن سعد

أخبار قيس بن سعد بن عبادة الخزرجيّ مع معاوية كثيرة ذكرنا بعضها بعد شهادة

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ١٩.

(٢) نفس المصدر السابق، الأغاني ٦: ٣٥٦.

١٧٠

أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، وقبل شهادتهعليه‌السلام وكان قيس وقتها عاملاً لأميرالمؤمنين عليّ على مصر، فكتب إليه معاوية: أمّا بعد، فإنّك يهوديّ ابن يهوديّ، إن ظفر أحبّ الفريقين إليك عزلك واستبدل بك، وإن ظفر أبغضهما إليك نكّل بك وقتلك، وقد كان أبوك أوتر قوسه ورمى غرضَه، فأكثر الحزّ وأخطأ المفْصَل، فخذله قومُه، وأدركه يومُه، ثمّ مات بحوران طريداً.

فكتب إليه قيس بن سعد: فإنّما أنت وثن ابن وثن، دخلتَ في الإسلام كرهاً، وخرجت منه طوعاً، لم يقدُم إيمانك، ولم يحَدُث نفاقُك، وقد كان أبي أوترَ قوسَه، ورمى غرضه، فشغَب به من لم يبلغ عقبه، ولا شقّ غُباره، ونحن أنصار الدين الذي خرجت منه، وأعداء الدين الذي فيه دخلت(١) .

واحدة بواحدة، ولا سواء! فابن هند يكاتب ابن سيّد الخزرج من أنصار دين الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول له: إنّك يهوديّ ابن يهوديّ! وعلى نفس النّسق يجيبه الأنصاريّ: أنت وثن ابن وثن؛ فلو صدق ابن هند وأنّى له الصدق؟! فأن يكون المرء يهوديّاً خير له من أن يكون وثنيّاً! فالأوّل لو أحسن النيّة والتزم التوراة التي لم تحرّف فهو صاحب كتاب يعبد الله تعالى بما وصله من شريعة موسىعليه‌السلام ؛ وأمّا أن يعكف على حجارة يقدّسها ويتّخذها إلهاً ينتصر لها، أو يصنع إلهاً من تمر فإذا جاع أكله، ثمّ يرى آلهته تتهاوى يوم الفتح المبين وتكسّر بفؤوس المسلمين فلا تنتصر لنفسها، ويرى من نسب إليه: أبوسفيان الذي قاد جيوش الشرك في حروبها مع المسلمين، يشفع له العبّاس بن عبدالمطّلب لدى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فيقبل شفاعته فيه ولكن يأمره أن يحبسه بمضيقٍ حتّى تمرّ به عشرة آلاف به جند الله، فإذا رآها قال للعبّاس: لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً!

____________________

(١) مروج الذهب ٣: ١٦ - ١٧.

١٧١

فهو لا يعرف منطقاً غير هذا؟ فقال له العبّاس: إنّها النبوّة يا أبا سفيان. وكان العبّاس لـمّا وعده أن يأخذ له أماناً، شرط عليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإسلام، فجاء به فنطق بالتوحيد وسكت. فلمّا سأله النبيّ: أتشهد أنّي رسول الله؟ امتنع! وقال: إنّ هذه في النفس منها شيء، حتّى هدّده العبّاس وقال إن امتنعت تقتل، قالها على كرهٍ منه.

ولمّا حان الأوان ووطّؤوا لمعاوية الطليق ابن الطليق فتفرّد بالشأم وصار الأمر إلى عثمان، أظهر أبوسفيان ما في نفسه ودعا إلى حكم الجاهليّة، وأنكر الرسالة والوعد والوعيد ودعا بني أميّة لتلقّف الأمر تلقّف الكرة، وقد ذكرنا أقواله في ذلك.

وأقوال معاوية في حقّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وقد ذكرنا بعضها في محاورة المغيرة بن شعبة له وجواب معاوية وتسميته للنبيّ ابن أبي كبشة، وقوله دفناً دفناً، اي لن يقرّ له قرار إلّا بدفن اسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وإماتته، ممّا أثار حفيظة المغيرة وكان معجباً بابن هند، فعاد إلى بيته مغموماً فلمّا سأله ابنه أخبره بما سمعه من ابن هند.

وقيس بن سعد أعرف بحال ابن هند، ولذلك قال له دخلت الإسلام كرهاً وخرجت منه طوعاً.

وأمّا ما ذكره بشأن أبيه: سعد بن عبادة؛ فما مثل ابن هند له أن ينطق باسم سعد! كفاه أن يقول: أنا ابن هند، وأخي زياد، نقلته من أبيه وسُميّة إلى أبي سفيان وأقمت الخمّارين شهوداً على ذلك! ووزيري ابن النابغة؛ وكفى المرء بنفسه شاغلاً.

سَعْد بن عُبادة سيّد الخزرج من الأنصار

ما من موقف حميد إلّا ولسعد فيه ذِكرٌ؛ ففي غزوة الأبواء، على رأس اثني عشر شهراً من الهجرة، خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستخلف على المدينة سعد بن عُبادة(١) .

____________________

(١) طبقات ابن سعد ٢: ٨.

١٧٢

وحضر يومَ بدر، وكان فيها من الطرف الآخر أبوسفيان وعُصبة الطُّلقاء، فمنهم من ذهب إلى جهنّم ومنهم من امتدّ به العمر ليزداد إثماً! وكان لسعد يومئذ موقف: ابن سعد، أخبرنا سليمان بن حرب، أخبرنا حمّاد بن زيد عن أيّوب عن عكرمة قال: استشار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يومئذ الناس، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله سر إذا شئت وانزل حيث شئت وحارب من شئت وسالم من شئت، فوالذي بعثك بالحقّ لو ضربت أكبادها حتّى تبلغ بُرْك الغُماد من ذي يَمَن تبعناك ما تخلّف عنك منّا أحد(١) .

ويوم أحد: كان معه لواء الخزرج(٢) ؛ وكذلك يوم الخندق(٣) . وفي غزوة الغابة خلّفصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن أمّ مكتوم، واستخلف سعد بن عبادة في ثلاثمائة رجل من قومه يحرسون المدينة. وفي هذه الغزوة، أمدّ سعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأحمال تمر، وبعشر جزائر(٤) . ويوم خيبر دفع إليه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إحدى الرايات، وإلى عليّعليه‌السلام لواءه الأبيض(٥) .

ويوم الفتح كانت بيده راية رسول الله، فبلغ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عنه كلام في قريش وتواعد لهم فأخذها منه فدفعها إلى ابنه قيس بن سعد وأمر سعد بن عبادة أن يدخل من كَداء والزبير وخالد من اللّيط، ودخلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أذاخِر، ونهى عن القتال(٦) .

ولم يكن سعد بن عبادة نَكرة، إنّما هو سيّد الأنصار الذين يكنّ لهم ذووا العاهات والمستلحقون كُرهاً خاصّاً يكاد يعدل كرههم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام .

____________________

(١) طبقات ابن سعد ٢: ٢٩.

(٢) نفس المصدر السابق: ٤٠.

(٣) نفس المصدر السابق: ٦٧.

(٤) نفس المصدر السابق: ٨٠.

(٥) نفس المصدر السابق: ١٠٦.

(٦) نفس المصدر السابق: ١٣٥.

١٧٣

ذكر ابن سعد: جاء عمرو بن معدي كرب في عشرة من زُبيد، المدينة فقال: من سيّد أهل هذه البَحرة؟ فقيل له: سعد بن عُبادة، فأقبل حتّى أناخ راحلته ببابه فخرج إليه سعد فرحّب به وأمر برحله فحطّ وأكرمه وحباه ثمّ راح به إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأسلم وأقام ايّاماً ثمّ أجازه رسول الله فرجع إلى بلاده فلمّا مات النبيّ، ارتدّ ثمّ عاود الإسلام وأبلى يوم القادسيّة بلاءً حسناً(١) .

ولم يكن سعد شحيحاً على ماله مثلما كان أبوسفيان وبوصف هند له! فجَفْنةُ سعد عامرة بالكرم. ذكر ابن سعد بسنده عن محمّد بن عمرو بن حزم الأنصاريّ: كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خطب المرأة قال: اذكروا لها جَفْنَة سعد بن عُبادة(٢) .

وعمارة بن غَزيّة وغيره: كانت جفنة سعد بن عبادة مرّة بلحم ومرّةً بسمن ومرّة بلبن يبعث بها إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّما دار دارت معه(٣) .

وعن أمّ سلمة قالت: كانت الأنصار الذين يُكثرون إلطاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: سعد ابن عُبادة وسعد بن مُعاذ وعُمارة بن حزم وأبو أيّوب، وكان لا يمرّ يوم إلّا ولبعضهم هديّة تدور مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث دار، وجفنة سعد تدور حيث دار لا يغبّها كلّ ليلة(٤) .

سعد بن عُبادة نقيب

وإذا كان أبوسفيان نقيب الشيطان سلّطه على قيادة قوى الضَلال ونعق فنعقت معه الأحزاب للقضاء على الإسلام والمسلمين والرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وهو في كلّ

____________________

(١) طبقات ابن سعد ٥: ٥٢٦.

(٢) نفس المصدر السابق ٨: ١٦٢.

(٣) نفس المصدر السابق ٥: ١٦٢.

(٤) نفس المصدر السابق: ١٦٣.

١٧٤

ذلك يضحّي عن نفسه بغيره وإن كان منه أقرب لحماً ودماً! فهو أجبنُ من يُقارع أسود المهاجرين والأنصار ومنه ورث مَن نُسب إليه!

بسند عن محمّد بن عمرو بن حزم قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، للنّفر الذين لقوه بالعَقَبَة: (أخرجوا إليَّ اثني عشر منكم يكونوا كفلاء على قومهم كما كفل الحواريّون لعيسى بن مريم). فأخرجوا اثني عشر رجلاً. وكان الذين لقوه بالعقبة سبعون رجلاً من الأنصار. وكان النقباء من الأوس ثلاثة نفر، ومن الخزرج تسعة منهم سعد بن عبادة(١) .

هذا هو سعد بن عبادة في تقلّبه في المكرمات، ينعته الوثن ابن هند بأنّه يهوديّ! فتعس شانئ سعد وابنه قيس!

وتكلّم بما كان منه: (أوْتَر قوسه ورمى غرضَه...، وأدركه يومُه ثمّ مات بحوران طريداً).

فهو إشارة إلى موقفه الرافض هو وجماعة لا يستهان بهم لبيعة أبي بكر، وما كان بينه وبين عمر بن الخطّاب؛ فترك سعد المدينة وتحوّل إلى الشأم فأرسل عمر من قتله بحوران!

بسند عن ابن عبّاس عن عمر بن الخطّاب أنّ الأنصار حين توفّى الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ومعهم سعد بن عُبادة فتشاوروا في البيعة له، وبلغ الخبر أبابكر وعمر فخرجا حتّى أتياهم ومعهما ناس من المهاجرين فجرى بينهم وبين الأنصار كلام ومحاورة في بيعة سعد بن عبادة، فقام خطيب الأنصار - حباب بن المنذر - فقال: أنا جُذَيلها المحكَّك وعُذيقها المرجَّب، منّا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش.

____________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٨٥ - ٨٧، طبقات ابن سعد ٣: ٦٠٢.

١٧٥

فكثير اللغط وارتفعت الأصوات فقال عمر: فقلت لأبي بكر أبسط يدك، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون وبايعه الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة وكان مزمّلاً بين ظهرانيهم فقلت: ما له؟ فقالوا: وجع. قال قائل منهم: قتلتم سعداً، قلت: قتل الله سعداً، إنّا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمرنا أقوى من بيعة أبي بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا بعدنا فإمّا أن نبايعهم على ما لا نرضى وإمّا أن نخالفهم فيكون فساداً.

ثمّ إنّ أبابكر بعث إلى سعد بن عبادة أن أقبل فبايع فقد بايع الناس فقال: لا والله لا أبايع حتّى أراميكم بما في كنانتي وأقاتلكم بمن تبعني من عشيرتي وقومي. فلمّا جاء الخبر إلى أبي بكر قال له بشير بن سعد: إنّه أبى ولجّ وليس بمبايعكم أو يقتل ولن يقتل حتّى يقتل معه وله وعشيرته ولن يقتلوا حتّى تقتل الخزرج، ولن تقتل الخزرج حتّى تقتل الأوس، فلا تحرّكوه فقد استقام لكم الأمر. فقبل أبوبكر نصيحة بشير فترك سعداً.

فلمّا ولي عمر لقيه ذات يوم في طريق المدينة فقال: إيه يا سعد، فقال سعد: إيه يا عمر، فقال عمر: أنت صاحب ما أنت صاحبه؟ فقال سعد: نعم أنا ذاك وقد أفضى الأمر إليك، كان والله صاحبك أحبّ إلينا منك وقد والله أصبحت كارهاً لجوارك. فقال عمر: إنّه من كره جوار جاره تحوّل عنه. فقال سعد: أمّا إنّي غير مستنسئ بذلك وأنا متحوّل إلى جوار من هو خير منك. فلم يلبث إلّا قليلاً حتّى خرج مهاجراً إلى الشأم فمات بحوران.

قال: عُلِم بموته بالمدينة! فقد سمع غلمان في بئر مُنبه وهم يقتحمون نصفَ النهار في حرٍّ شديد قائلاً يقول من البئر:

١٧٦

قد قَتَلْنا سيّد الخزرج سعدَ بن عُباده

وَرَمَيْناه ُبسَهمَينِ فلم نُخْطِ فُؤادهْ(١)

وادّعى في رواية هذا الشعر أنّ الجنّ هي التي قتلت سعد بن عبادة، ولم يبيّن علّة عداوة الجنّ لسعد بن عبادة؟!

إلاّ أنّ المدائنيّ وبسنده عن صالح بن كيسان، وعن أبي مخنف، عن الكلبي: إنّ سعد بن عبادة لم يبايع أبابكر، وخرج إلى الشأم.

فبعث عمر رجلاً إلى الشأم وقال له: اختل به(٢) وادعه إلى البيعة، واحمل له بكلّ ما قدرت عليه، فإن أبى فاستعن بالله عليه! فقدم الرجل الشأم فلقيه بحوارين(٣) في حائط له، فدعاه إلى البيعة، فقال: لا أبايع، قال: فإنّي أقاتلك. قال: وإن قاتلتني. قال: أفخارج أنت ممّا دخلت فيه الأمّة؟ قال: أما من البيعة فإنّي خارج، فرماه بسهم فقتله(٤) .

هذا آخر المطاف مع كلام ابن هند: فسعد لم يخذله قومه فهو سيّد الأنصار بلا منازع! ولذلك تحدّى أبابكر لـمّا أراد حمله على البيعة القسريّة لا الشوريّة! بأنّه لا يبايع حتّى يراميهم بما في كنانته، وليس فيها زهوراً وإنّما سهاماً أنصاريّة نفذت في قلوب أعداء الإسلام في معارك بدر وأحد وكلّ الغزوات؛ وأن يقاتلهم بولده وعشيرته؛ ولذا أشار بشير بن سعد على أبي بكر أن يسكت عن بيعته وإلاّ يقاتلهم ولن يقتل حتّى يقتل معه ولده وعشيرته والخزرج والأوس؛ فسكت عنه. وأمّا تحوّله إلى حوران؛ فسعد أفصح عنها ألا وهي كراهية جوار عمر.

____________________

(١) طبقات ابن سعد ٣: ٦١٥ - ٦١٧.

(٢) اختل به: الْقه في مكان خالٍ من الناس، دليل الخَتْل والغَدْر!

(٣) هكذا في أنساب الأشراف، وفي العقد الفريد: حوران. وهي الآن قرية تابعة لمنطقة مركز محافظة حمص من سوريا.

(٤) أنساب الأشراف ٦: ٢٧٢، العقد الفريد ٥: ١٤.

١٧٧

الأنصار بين منطقين

نطق القرآن بفضل الأنصار في سبقهم إلى الإسلام وتحدّث رسول الله عن فضلهم فضمّ نفسه إليهم، وجعلهم عنواناً في حبّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وبغضه، فمن أحبّ الأنصار فقد أحبّ النبي ومن بغض النبيّ بغض الأنصار. وإلاّ بماذا نفسّر اختصاص معاوية بعض الأقاليم بالعدوان، منها ما كان ولاء أهلها لأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، فأوقع بهم أشدّ وقيعة؛ ومنها الحرمين الشريفين والإرجاف بأهلهما. وإذا كان أهل الشأم يشتمون أهل المدينة ويقولون لهم: يا يهود! فإنّهم في انتهاكهم حرمة بيت الله كانوا يقولون: خليفة الله في أرضه أعظم حرمةً من البيت(١) .

ومن قبل مرّ بنا قول مسرف فيما فعل بأهل المدينة، فإذا نزل به الموت وهو في طريقه للإيقاع ببيت الله الحرام، وجدناه يشهد الله تعالى على أنّه لم يغشّ خليفةً قطُّ - كذا - وأيّ خليفة هو يزيد شريب الخمر يزيد الكلاب والقرود الجامع بين البنت وأمّها وقد مات لإفراطه في شرب الخمر، فما زال يتقيّأ فيوضع له طشت ويرفع آخر إلى الصبح فكان حتفه، وسيحشر سكراناً فيُقال له ما لَك؟! فقول: سكران! فيقال خذوه إلى وادي سكران ليجد الأوفياء له من قتلة سيّد شباب أهل الجنّة الحسينعليه‌السلام ، وأعداء الله تعالى ممّن عَدَوا على الحرمين الشريفين.

وكان من شهادة الذليل مسرف أنّه يشعر بالفخر وأنّه تطهّر بقتله أهل المدينة الذين وصفهم بالأرجاس.

ومن ذوي العاهات: الحجّاج، وقد ذكرنا قوله في المدينة وأهلها، مضاهاةً لقول الله تعالى الذي سمّى المدينة في آيات كثيرة بهذا الاسم ولم يسمّها (يثرب) لقبح دلالته،

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٣٦٤.

١٧٨

ومدح الأنصار؛ ومضاهاةً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يكنّ له بنوأميّة وولاتهم عداءً فإذا وجدوا فُسحةً افصحوا عن ذلك بقول أو فعل. وإذا كان معاوية قد منع من كتابة حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؛ ولم يمنعه قرينه عن إظهار ضغائن نمّت عن كفره وأنّه نعُمت عين أبيه لـمّا تولّى عثمان فدخل ابن حمامة(١) (أبو سفيان) على عثمان وقال: تلقّفوها يا بني أميّة تلقّف الكُرة؛ فإنّه لا كما يزعمون فلا جنّة ولا نار....

ومعاوية على سرّ أبي سفيان، دعنا الآن من عقدة نسبه وما قيل فيه أنّه ينسب إلى أربع، وكذلك أخوه عتبة فهو ليس لأبي سفيان، فذكر هذا في مكان آخر، ولكن لنذكر ما يدلّ على بقاء معاوية على كفره:

روى الزبير بن بكّار في (الموفّقيّات) عن مطرف بن المغيرة بن شعبة، قال: وفدت مع أبي المغيرة على معاوية، وكان أبي يأتيه فيتحدّث ثمّ ينصرف إليّ فيذكر معاوية ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتمّاً منذ الليلة، فظننت أنّه لأمر حدث فينا فقلت: ما لي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟ فقال: يا بنيَّ، جئت من أكفر الناس وأخبثهم. قلت: وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوت به: إنّك قد بلغت سنّاً، فلو أظهرت عدلاً، وبسطت خيراً فإنّك قد كبرت، ولو نظرت إلى بني هاشم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وأنّ ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه. فقال: هيهات هيهات! أيّ ذكر أرجو بقاءه! ملك أخو تَيم فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك، حتّى هلك ذكره، إلّا أن يقول قائل: أبوبكر.

ثمّ ملك أخو عَديّ، فاجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك، إلّا أن يقول قائل: عمر.

____________________

(١) حمامة جدّة أبي سفيان أمّ أمّه بغيّة في الجاهليّة كانت لها راية تؤتى. كتاب الغارات، للثقفي ٢: ٦٤ - ٦٥.

١٧٩

وإنّ ابن أبي كبشة يصاح به كلّ يوم خمس مرّات (أشهد أنّ محمّداً رسول الله) فأيّ عمل يبقى؟ وأيّ ذكر يدوم لا أباً لك؟! لا والله إلّا دفناً دفناً(١) .

فلمّا علم ولاته وأمراؤه نهجه ونيّته، أصدقوه العمل على دفن معالم مسيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال ملاحقة وتقتيل أهل بيته وشيعتهم الذين هم شيعة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، للنفس الواحدة والشجرة الواحدة وسراية الإمامة والولاية في أمير المؤمنين عليّ والسبطين الزكيّين....

ولم يقف الأمر عند الحدّ هذا وإنّما فعلوا فعلتهم الشنيعة بالحرمين، وهم في كلّ أفعالهم يقتدون بابن هند الذي أراد لهذه الرسالة أن تدفن، ولكن شاء وشاء الله بحفظ القرآن وصيانته، فما زال القرآن محفوظاً فالإسلام قائماً وإن تغلّبت عناصر الشرّ في مراحل زمنيّة إلّا أنّ عذاب الله عاجلها والعاقبة للمتّقين.

والحجّاج الذي قلنا عنه أنّه من ذوي العاهات؛ فقد شهد على نفسه وذلك أنّ عبد الملك بن مروان قال له: ما من أحد إلّا وهو عارف بعيوب نفسه، فعب نفسك ولا تخبئ منها شيئاً. قال: أنا لجوج حقود حسود. قال عبدالملك: إذاً بينك وبين إبليس نسب. فقال: يا أمير...، إنّ الشيطان إذ رآني سالمني. قال محمّد بن إدريس الشافعي بعد روايته الخبر: الحسد إنّما يكون من لؤم العنصر وتعادي الطبائع واختلاف التركيب وفساد مزاج البُنية وضعف عقد العقل، والحاسد طويل الحسرات عادم الراحات(٢) .

هذا هو الحجّاج في صفاته النفسيّة، فهو ضريع إبليس، حليف الشيطان! وهو مثل

____________________

(١) الموفقيّات، للزبير بن بكّار (ت ٢٥٦)، القسم الضائع منه ٥٧٦ - ٥٧٧؛ شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٢: ٢٧١.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٦: ٢١٧.

١٨٠