شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 182554
تحميل: 4444

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182554 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

سالفه (مسرف) عدوّ لله ولرسوله ولأمير المؤمنين، وسيف مصبوب على المؤمنين؛ وكلاهما: مسرف، وابن أمّ الحجّاج عبيد أذلاّء لطغام بني أميّة وبني مروان.

وأمّا في صفاته الجسمانيّة، مضافاً إلى سوء منحدرته القبليّ بين قبائل العرب، مع ما يرد في نبزه في أمّه؛ فقد خلقت مجموع هذه الأمور منه تلك الشخصيّة المتعطّشة لدم من هم أفضل منه، مع خضوع لا مثيل له لمن يرى أنّه وليّ نعمته؛ إلّا ذوي العاهات أمثال ابن سميّة زياد، وابن مرجانة عبيد الله، وابن النابغة عمرو، وابن هند معاوية، وسلفه مسرف.

قال عوانة بن الحكم الكلبي: دخل أنس بن مالك(١) على الحجّاج بن يوسف، فلمّا وقف بين يديه وسلّم عليه، فقال الحجّاج: لا مرحباً ولا أهلاً يا خبيث، شيخ ضلالة، جوّال في الفتن، مرّةً مع أبي تراب، ومرّة مع ابن الزبير، ومرّة مع ابن الجارود، أما والله لأجرّدنّك جرد القضيب، ولأعصبنّك عصب السلمة، ولأقلعنّك قلع الصمغة، فقال أنس: من يعني الأمير؟ قال: إيّاك أصمّ الله صداك.

فرجع أنس فكتب كتاباً إلى عبد الملك شكا فيه الحجّاج وما صنع به، فأجابه جواباً لطيفاً، وكتب إلى الحجّاج: (أمّا بعد يا ابن أمّ الحجّاج، فإنّك عبد طمت بك الأمور فعلوت فيها حتّى عدوت طورك وتجاوزت قدرك، وأيم الله يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب(٢) لأغمزنّك غمزة كبعض غمزات الليوث الثعالب، ولأخبطنك خبطة تودّ لها لو أنّك رجعت في مخرجك من بطن أمّك، أما تذكر حال آبائك في الطائف حيث كانوا

____________________

(١) كان ابنه عبد الله بن أنس ممّن خرج مع ابن الجارود فقتل. (أنساب الأشراف ٧: ٢٩٥).

(٢) المستفرمة: التي تجعل الدواء في فرجها ليضيق. اللسان: فرم.

وهذا نبز للحجّاج في أمّه! وقد نسبه أوّلاً إليها (يا ابن أمّ الحجّاج)، وما أكثر الأبناء والمستلحقين في تلك العصور غطّى على عوراتهم السلطان واختلاف الروايات!

١٨١

ينقلون الحجارة على ظهورهم ويحتفرون الآبار بأيديهم في أوديتهم ومناهلهم، أم نسيت حال آبائك في اللؤم والدناءة في المروءة والخلق، وقد بلغني الذي كان منك إلى أنس بن مالك جرأةً وإقداماً، وأظنّ أنّك أردت أن تسبر ما عندي في أمره، فتعلم إنكاري ذلك أو إغضاي عنه، فإن سوّغتك ما كان منك مضيت عليه قدماً؛ فعليك لعنة الله من عبد أخفش العينين أصكّ الرجلين، ممسوح الجاعرتين...، فإذا قرأت كتابي فكن أطوع له من خفّه ونعله! وإلاّ أتاك منّي سهم مشكل بحتف قاضٍ)(١) .

والكتاب أطول من هذا فيه سباب وتقريع للحجّاج الذي حرّم الطواف بقبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! وقال: إنّهم يطوفون بعظام وَرْمَةٍ! هلاّ طافوا بقبر أمير... عبد الملك بن مروان!(٢) وقوله السالف: إنّ خليفة الله في أرضه أكرم عليه من رسوله إليهم، فهو يفضّل عبد الملك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

وأقواله الأخرى بشأن المدينة التي سمّاها: أمّ نتن! وأهلها، أخبث أهل، والقرآن الكريم لم يسمّها (يثرب) لدلالته القبيحة، وإنّما حفل القرآن باسم واحد لها هو: (المدينة). والنبيّ الكريم سمّاها (طيبة)، و (طابة) ونسب (يثرب) إلى المنافقين على ما سيأتي في فضل المدينة. وأمّا أهلها فقد تحدّثنا عنهم، لتعرف بذلك كفر الحجّاج وأمثاله.

والحجّاج على غطرسته واستئساده على الآخرين حتّى روي أنّهم أحصوا الذين قتلهم الحجاج، فوجدوهم مائة وعشرين ألفاً(٣) .

____________________

(١) أنساب الأشراف ٧: ٢٩٥ - ٢٩٧، مختصر تاريخ دمشق ٦: ٢٢١ - ٢٢٢ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

(٢) العقد الفريد ٥: ٣١٠.

(٣) نفس المصدر السابق: ٢٠٩.

١٨٢

أقول: إنّه على غطرسته، فهو عبد حقير لعبد الملك بن مروان يتحمّل منه كلّ هذه الشتائم والوعيد، يذكّره بعيوبه البدنيّة من قباحة عينيه وتقوّس رجليه وانمساح إسته! وخسّة أصله وعشيرته، ونبزه بأمّة (بالزنا)! ويأمره أن يكون لأنس أطوع من نعله؛ فيمتثل! ولم لا وهو الكذّاب الثقفيّ الذي ادّعى أنّ عبد الملك يوحى إليه!! ومضى أكثر أنّه هو أيضاً يوحى إليه، وبه تهدّد عمر بن الخطّاب أهل العراق:

خرّج ابن عساكر في تاريخه: (جاء رجل إلى عمر بن الخطّاب، فأخبره أنّ أهل العراق قد حصبوا أميرهم، فخرج غضبان، فصلّى لنا صلاةً فسها فيها حتّى جعل الناس يقولون: سبحان الله، سبحان الله. فلمّا سلّم أقبل على الناس فقال: من هاهنا من أهل الشام؟ فقام رجل، ثمّ قام آخر. قال الراوي: ثمّ قمت أنا وقام رابع، فقال: يا أهل الشام استعدّوا لأهل العراق، فإنّ الشيطان قد باض فيهم وفرّخ، أللّهم إنّهم قد لبسوا عليّ فالبس عليهم، وعجّل عليهم بالغلام الثقفيّ، يحكم فيهم بحكم الجاهليّة، لا يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم)(١) .

إنّ الترسيخ الذي بدأه عمر بن الخطّاب لملك بني أميّة على ما بيّنا في التمهيد والذي كان موضع شكر وتقدير من لدن أبي سفيان إذ قال له لـمّا مات ابنه يزيد بن أبي سفيان وكان والياً لدمشق من قبل عمر؛ فأقرّ عمر ابن هند معاوية مكانه وضمّ إليه مصر وغيرها؛ فقال له أبوسفيان: وصِلَتُك رَحِم؛ ولـمّا ورد معاوية المدينة بدأ بعمر، فسأله عمر: هل بدأت بأحد؛ فقال معاوية: بك بدأت. قال عمر: فابدأ بأبويك، وابدأ بهند أوّلاً؛ ففعل. فقالت هند: اعرفوا لهذا الرجل حقّه...؛ فعمر أعرف بأحوال أهل الشأم، ولذا اختار لبني أميّة مقرّ حكم مناسب ولم يختر لهم العراق ولا غيرها، وقد

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٦: ٢١٧.

١٨٣

أفلح في ذلك! فهم يأخذون جوائزهم ويقاتلون من غير سؤال على ماذا نقاتل؛ فبهم قاتل معاوية وصيّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصفّين، وبهم شنّ الغارات على طريقة ونهج الخوارج! ولم يكن مع أهل الشأم عراقيّ واحد في استباحة المدينة المنوّرة فكانت الجريمة الكبرى والأفعال الشنيعة التي لا يقدم عليها مسلم وإن ضعف إيمانه! وكذلك الحال في العدوان على بيت الله الحرام مرّتين، واحدة أيّام الناقص بن معاوية، والثانية أيّام عبد الملك بن مروان.

وكان عصب جند أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام يوم الجمل: أهل العراق. فلمّا فرغعليه‌السلام من قتال الخوارج الناكثين، سار بأهل العراق لقتال الخوارج القاسطين معاوية وأهل الشأم. ولـمـّا وقعت الفتنة واجتمع الخوارج المارقون بالنهروان، سار أهل العراق مع إمامهمعليه‌السلام ، فطحنوا المارقين الذين لم يسلم منهم إلّا دون العشرة، كما أخبر أمير المؤمنينعليه‌السلام قبل وقوع المعركة.

وعلى ذلك: عمر، رسخ الذي مهّد له من كان قبله، ووسعه؛ ومهّد وقدّم لأهل الشام بالإعداد لأهل العراق! فإذا كان حُجر بن عَديّ وصحبه قد حصبوا ابن سميّة زياداً لمخالفته السنّة، فزوّر زياد شهادة كثّر فيها من أمر حجر، وجمع زياد في سجنه ثلاثة عشر من شيعة أبي الحسن عليّعليه‌السلام ، رابع عشر منهم الصحابي الجليل حجر بن عديّ؛ وأمر ابن سميّة جماعة وجد أنّهم لا يرجون آخرة ومنهم بل جلّهم منافقوا الكوفة ممّن كتب إلى أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام فلمّا وفد كربلاء، أنكروا أنّهم كتبوا إليه! ثمّ قاتلوه وكانوا أشدّاء عليه.

وكان الذي كتب أبو بُرْدة بن أبي موسى الأشعريّ، فهو ابن أبيه المخذّل عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، والذي لم يرتضي الخوارج المحكمة إلّا به فكتب أبو بردة: هذا ما

١٨٤

شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى لله ربّ العالمين، وشهد الشهود:...، وذكر أموراً لم تصدر من حجر عظّمها عليه عند معاوية، ولم يكن من حجر إلّا أنّه اعترض زياداً في مخالفته للسنّة وعدم إنفاذه حكم الله تعالى - وسنأتي على قصّته كاملاً؛ واللافت للنظر أنّ الشهود وعددهم (٣٨) ثلاثة منهم ولد طلحة بن عبيد الله الخارجي على أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام يوم البعير، وأمّهم أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، والمنذر بن الزبير الخارجي يوم البعير، وكان المنذر مخالفاً لأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، منقطعاً إلى معاوية ومن الشهود: عُمارة بن عُقْبة بن أبي مُعَيْط؛ وما أدراك ما عُمارة! ومن قتلة الحسين السبط الشهيدعليه‌السلام : عمر بن سعد ابن عمّ يزيد بن معاوية وقائد الجيش الذي حارب الحسينعليه‌السلام ، وشمر بن ذي الجوشن، وشَبِث بن رِبعي التميميّ، وحَجّار بن أَبْجَر العِجْليّ، وزَحْر بن قَيْس الجُعْفيّ، وعَزْرة بن قيس، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي، ومحمّد بن الأشعث الكنديّ...(١) .

هروب المختار

موقف مشرّف لرجل ذي همّةٍ ورفعة ومُبادَءَةٍ وشجاعة افتقدها كثير من القادة الثائرين على الجور وروافض حكم الطّلقاء وأبناء الأمّهات وذوي العاهات هذا الرجل الولائي الذي أرادت الدعاية الزبيريّة والأمويّة تشويه صورته الجميلة برشقات تنثرها على هالته الوضّاءة ولكن هيهات! والسرّ باختصار - إذ سنذكر تفصيل ذلك في موضعه -، فإنّ الحسينعليه‌السلام لم يُستشهد بعد حتّى يخرج المختار رافعاً شعار الطلب بثاره ولكنّه في الحقيقة طالب دنيا! وطالب حكم فوجد في ذلك خير

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٦١ - ٢٦٣.

١٨٥

وسيلة إلى ما يريد. وفرّعوا من حقيقة واحدة (الغلام الثقفيّ) فجعلوه اثنين: مبير، وهو الحجّاج؛ وكذّاب، وهو المختار - حاشا له ذلك - فأمّا الحجّاج فقد علمنا سيرته، فهو مبير، خارج على الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليهم‌السلام . وهم لا ينكرون هذا وإنّما منهم أخذنا معلوماتنا. وأمّا المختار ووصفه بالكذب، فباختصار: هلاّ قال له ابن الزبير أنا لا أنتصر بالكذّابين، فالخوارج معي؟! فإذا فقد المختار بقي في اضطراب حتّى يأتي المختار، وكان المختار يملي على ابن الزبير شروطاً في القتال فلمّا رأى منه تقليبه المواقف من تركه الصلاة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعين جمعة فلمّا سئل قال: إنّ له أُهَيْل سوء...، واضطهاده لبني هاشم وقوله لابن عبّاس: إنّي أكنّ البُغض لكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة! وانتقاله من شعار العائذ بالبيت إلى أمر الشورى ثمّ رفع شعار الخوارج المحكّمة: لا حكم إلّا لله! وأخيراً ولـمّا قتل شيخ الخوارج (المِسْوَر بن مَخْرَمة) دعا إلى نفسه إزاء هذه المواقف المتقلّبة، فارقه المختار فبدأت الدعاية الزبيريّة بوضع هذا الحديث. وزادوا في ذلك: أنّ المختار يزعم أنّه يوحى إليه! والحقيقة أنّ الذي زعم أنّ الوحي لم ينقطع وأنّه يوحى إليه هو المبير الحجّاج الثقفيّ، زعم ذلك وزعم أنّ سيّده عبد الملك بن مروان يوحى إليه. فأسقطوا الثانية (الكذب) عن الحجّاج وحتّى عن ابن الزبير وحملوها على النجيب المختار الذي أخذ الكوفة وأخرج منها والي ابن الزبير مكرّماً، وراح يتتبّع قتلة الحسينعليه‌السلام ، فصار بذلك عدوّاً لطرفين: ابن الزبير، وبني أميّة فبثّ هذا وهؤلاء دعايتهم في كذب المختار لإضعاف جانبه. إلّا أنّ مجمل الأمور تشير إلى نصاعة هذا الرجل وشهادة أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام الطاهر بحقّه خير بيان، وسيرته العمليّة دليل ساطع على طهارته ممّا نسب إليه. ويكفي من دليل في ذلك أنّ ابن الزبير قد أثبتنا ناصبيّته وسوء طويّته ومعاناته من عقد النقص بعد

١٨٦

أن ثبت له أنّه ابن متعة ومردّد في المتمتّع: الزبير، أو سَبْرة؟! وأنّه رأى الزبير وهو يقسو على أمّه أسماء بالضرب ثمّ طلّقها ليعيش مع أمّه في كنف جدّه أبي بكر الذي تولّى تربيته.

لمّا أعدّ ابن سميّة الكتاب وجمع الشهود، بادر المختار إلى الهرب(١) ، لئلاّ يحرج، فإمّا أن يرفض الشهادة ونتيجة ذلك عليه وخيمة، وإمّا أن يشهد فيكون مع الكذّابين، ويبوء بدم حجر وصحبه؛ فصدَقَ اللهَ النيّة.

والعجب: أن لا يروون مثلما رووا في المختار، مثلاً: يكون كذّابين منهم من يطلب الإمارة ويقتل دونها بعد أن يكون سبباً لانتهاك حرمة البيتين؛ وسبع وثلاثين كذّاباً يشهدون شهادة زور على رجال يغضب لقتلهم الله تعالى والملائكة.

الحجّاج لا يعمل إلّا بوحي!! !

قال عتّاب بن أسيد بن عتّاب: لـمّا قبض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جعلت أمّ أيمن تبكي ولا تستريح من البكاء. فقال أبوبكر لعمر: قم بنا إلى هذه المرأة فدخلا عليها، فقالا: يا أمّ أيمن ما يبكيك! قد أفضى رسول الله إلى ما هو خير له من الدنيا. فقالت: ما أبكي لذلك، إنّي لأعلمُ أنّه أفضى إلى ما هو خير من الدنيا، ولكن أبكي على الوحي انقطع. فبلغ ذلك الحجّاج فقال: كذبت أمّ أيمن، ما أعمل إلّا بوحي!!(٢)

فصدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول: (يكون من ثقيف مبير وكذّاب)، فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد بذلك الحجّاج، فهو مبير وكذّاب. أمّا مبير فقد اشتهر به، وأمّا كذّاب: ألا تراه حين بلغه خبر أمّ المؤمنين أمّ أيمن؛ كيف وسَمها بالكذب! ونحن لا نعجب منه ذلك وقد

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٦٣.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٦: ٢١٥.

١٨٧

تجرّأ على من هو أفضل منها: سيّد البشر مطلقاً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما ذكرنا. وتكذيب الواقع؛ كذب! فإنّ الوحي قد انقطع. ولم يكتف بهذا وإنّما زعم أنّه يوحى إليه: (ما أعمل إلّا بوحي!) وأيّ وحي هذا الذي يوحى إليه من عدوانه على البيت الحرام وقتله الصلحاء من أمثال سعيد بن جبير؟ إلّا أن يكون وحيه من سنخه:( وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (١) الآية.

وعن عوف: والخبر الطويل هذا بعضه: قال الحجّاج: أتزعمون يا أهل العراق أنّ خبر السماء قد انقطع عن أمير! كذبتم والله يا أهل العراق، والله ما انقطع خبر السماء عنه إن عنده منه كذا وعنده منه كذا!(٢)

استجابة دعاء عمر بن الخطّاب

إنّ تسليط عمر لمعاوية على الشأم ومصر وغيرهما مخالف لسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وقد ذكرنا كمّاً وافراً من الروايات في لعن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمعاوية، ووصف مكانه في جهنّم، وحذّر من فتنته وأمر المسلمين بقتله إذا رأوه على منبره، وكاد يفعله أحدهم إلّا أنّ أبا سعيد قال له: لا تفعل ما زال عمر!

إلاّ أنّ دعوته أهل الشأم ليستعدّوا لأهل العراق، ودعاءه بتسليط الغلام الثقفيّ عليهم؛ فقد استجاب أهل الشأم ولكن لا للعراق فقط وإنّما لهتك كلّ حرمة بما في ذلك الحرمين الشريفين، وكان قائد الحملة الثانية على بيت الله الحرام هو غلام ثقيف!

وكان من ضحايا الغلام الثقفيّ: عبد الله بن عمر بن الخطّاب! والمعروف عن

____________________

(١) الأنعام: ١١٢.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٦: ٢١٤.

١٨٨

عبدالله هذا أنّه كان مسالماً موادعاً لبني أميّة ولذا أوصى معاوية يزيد به خيراً. إلّا أنّ اللجوج الحسود الحقود قتله في عرفة، فلم يعرف لذلك اليوم والمكان حرمةً، ولا لعمر أدنى منزلة! ولا لوصيّة من يعبده من دون الله، قيمةً؛ والسبب: عاهاته؛ والمناسبة:

ذكر المصعب الزبيريّ: أنّ عبد الله بن عمر شهد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة الوداع فوقف معه في موقف عرفة، فكان يقف في ذلك الموقف كلّما يحجّ(١) . فحجّ عام قتل ابن الزبير مع الحجّاج بن يوسف، وكان عبد الملك كتب إلى الحجّاج إلّا يخالف ابن عمر في الحجّ...، فانطلقا حتّى وقف - ابن عمر - موقفه الذي كان يقف فيه فكان ذلك الموقف بين يدي الحجّاج، فأمر الحجّاج مَن نَخَسَ به حتّى نفرت ناقته، فسكنها حتّى سكنت، ثمّ ردّها إلى ذلك الموضع بين يدي الحجّاج، فأمر الحجّاج أيضاً بناقته فنخست، فسكنها حتّى سكنت ثمّ ردّها إلى ذلك الموقف، فثقل على الحجّاج أمره، فأمر رجلاً معه حربة يقال إنّها كانت مسمومة، فلمّا دفع الناس من عرفة، لصق به ذلك الرجل فأمرّ الحربة على رجله وهي في غَرْز رَحْله، فمرض منها أيّاماً، فمات بمكّة، فدفن بها وصلّى عليه الحجّاج بن يوسف!(٢)

هذه أخلاق هذا الخارجيّ الورقة الصفراء في الشجرة الملعونة، فهو يألّه عبدالملك ويتصاغر له، إلّا أنّه يتجاوز أمره فيقتل ابن عمر لأنّه وقف ذلك الموقف!

أسجاع الحجّاج في عبد الملك

إنّ المختار الذي أغاض خوارج الناكثين والقاسطين، صار غرضاً لسهامهم سواء،

____________________

(١) فلينظر الوهّابيّون المانعون من التبرّك كيف يتتبّع ابن عمر آثار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحجّاج يمنعه، وقولكم وقول الحجّاج وابن تيميه واحد يطوفون بعظام ورمة!

(٢) نسب قريش، لمصعب الزبيريّ: ٣٥١.

١٨٩

فوضعوا على لسانه أسجاعاً، إلّا أنّ ما ذكرناه من سيرة الحجّاج تبطل ما كذبوا على هذا الثائر العظيم (المختار)، فكان الكذّاب الأشر هو نفسه المبير الثقفيّ (الحجّاج).

في العقد الفريد: (الشيباني عن الهيثم عن أبي عياش قال: كنّا عند عبدالملك بن مروان إذ أتاه كتاب الحجّاج يعظّم فيه أمر الخلافة، ويزعم أن ما قامت السماوات والأرض إلّا بها، وأنّ الخليفة عند الله أفضل من الملائكة المقرّبين، والأنبياء والمرسلين. وذلك أنّ الله خلق آدم بيده، وأسجد له الملائكة، وأسكنه جنّته، ثمّ أهبطه إلى الأرض وجعله خليفته، وجعل الملائكة رسلاً إليه. فأعجب عبد الملك بذلك وقال: لوددت أنّ عندي بعض الخوارج بهذا الكتاب! فانصرف عبد الله بن يزيد إلى منزله، فجلس مع ضيفانه، وحدّثهم الحديث، فقال له حُوار بن زيد الضَّبيّ، وكان هارباً من الحجّاج: توثّق لي منه ثمّ أعلمني به. فذكر ذلك لعبد الملك فقال: هو آمنٌ على كلّ ما يخاف. فانصرف عبد الله إلى حُوار فأخبره بذلك، فقال: بالغداة إن شاء الله. فلمّا أصبح اغتسل ولبس ثوبين، ثمّ تحنَّط(١) وحضر باب عبدالملك، فقال: هذا الرجل بالباب. فقال: أدخله يا غلام. فدخل رجل عليه ثياب بِيض يوجد عليه ريح الحنوط، ثمّ قال: السلام عليكم. ثمّ جلس؛ فقال عبد الملك: إيت بكتاب أبي محمد - أي الحجاج - يا غلام. فأتاه به، فقال: إقرأ. فقرأه حتى أتى على آخره، فقال حُوار: أراه جعلك في موضع ملكا وفي موضع نبيّا وفي موضع خليفة؛ فإن كنت مَلَكا فمن أنزلك؟ وإن كنت نبيّا فمن أرسلك؟ وإن كنت خليفة فمن استخلفك؟ أعن مشورة من المسلمين، أم ابتززت الناس أمورهم بالسيف؟

فقال عبد الملك: قد أمنّاك ولا سبيل إليك، والله لا تجاورني في بلد أبداً؛ فارحل

____________________

(١) استعداداً للموت قتلاً لصعوبة مقاله.

١٩٠

حيث شئت. قال: فإنّي قد اخترت مصر. فلم يزل بها حتّى مات عبد الملك(١) .

أبو بكر يأمر عمر بن الخطّاب في قتال المتخلّفين عن بيعته

لم يكن سيّد الأنصار سعد بن عُبادة فارداً في الامتناع عن إعطاء البيعة، هو وجمهور الأنصار، لأبي بكر! وقد ذهب ضحيّة موقفه الصارم من عمر، فأتبعه عمر بعد كره جواره وتحوّل إلى حوران بجنيٍّ! فشكّ فؤاده.

فقد قعد عن بيعة أبي بكر، أمير المؤمنين حقّاً عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام والعبّاس والزبير في بيت فاطمةعليها‌السلام حتّى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجوا من بيت فاطمة وقال له: إن أبوا فقاتلهم. فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة فقالت: يا ابن الخطّاب! أجئت لتحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمّة!(٢)

والمدائني، عن مسلمة بن محارب، عن سليمان التَيْميّ؛ وعن ابن عون: أنّ أبابكر أرسل إلى عليّ يريد البيعة، فلم يبايع؛ فجاء عمر، ومعه قبس فتلقّته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة: يا ابن الخطّاب! أتراك محرّقاً عليَّ بابي؟ قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك!(٣)

والبلاذريّ: حدّثني بكر بن الهيثم، حدّثنا عبد الرزّاق، عن معمر، عن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس قال:

بعث أبوبكر عمر بن الخطّاب إلى عليّ حين قعد عن بيعته وقال: ائتني به بأعنف

____________________

(١) العقد الفريد ٥: ٣١٠ - ٣١١.

(٢) العقد الفريد ٥: ١٣.

(٣) أنساب الأشراف ٢: ٢٦٨.

١٩١

العنف، فلمّا أتاه جرى بينهما كلام فقال عليّ: (احلب حلباً لك شَطْرُه. والله ما حرصُك على إمارته اليوم إلّا ليؤمّرك غداً وما ننفس على أبي بكر هذا الأمر ولكنّا أنكرنا ترككم مشاورتنا، وقلنا: إنّ لنا حقّاً لا يجهلونه). ثمّ أتاه فبايعه(١) .

إذاً: لم يكن الأنصار وهم كتيبة الإسلام، وعلى رأسهم سعد بن عبادة، من أوتر القوس ورمى الغرض؛ وإنّما فيهم مهاجرون رأسهم وسيّد الفريقين من سوّدته نفسه بالسبق إلى الإسلام ومن اتّخذه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخاً من بين الجميع، فكان عليّعليه‌السلام يفخر بهذه المنقبة ويحاجج بها فيحجّ ويفلج لدى الخصومة، والمشيخة والفتية لكلّ وثنه ولكلّ واحد صنمه! وعمر خاصّة هو النفر الخامس والأربعون ممّن دخل الإسلام(٢) ، وكلّ خالط لحمه حرام وخَمْر...؛ وعليّ احتضنته الكعبة ثمّ أفرجت عنه ليتناوله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيناوله لبان فمه الطاهر فجرى في عروقه، فكان عرقه دسّاساً بالنقاء والعصمة. ولم يكن لعليّ صنم يسجد له ولأجله خصّ وأُفرد عن أبطال السقيمة بعبارة (كرّم الله وجهه) و (عليه السلام) لأنّ عليًّا وأهل البيتعليهم‌السلام يصلّى عليهم عند التشهّد في الصلاة وهي عمود الدين، ولو صلّي معهم على أحد غيرهم لبطلت الصلاة! كمن أحدث فجاء بمبطل من المبطلات. وعليّ منزّه من العاهات النفسيّة والخَلْقيّة والنسبيّة وهذه بمجموعها أو بشطرين منها قد اجتمعت في كلّ أعداء عليّ بن أبي طالبعليهما‌السلام ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر وهو قريش بن مالك بن النّضر بن كنانة.

القرشيّ، الهاشميّ. كان قصيّ سيّد قومه إذ جمعها بعد تفرّقها، ولا أحد بل قبيلة

____________________

(١) نفس المصدر السابق: ٢٦٩.

(٢) في أنساب الأشراف ١٠: ٢٨٩: أسلم عمر بعد أربعين رجلاً وعشرة نسوة.

١٩٢

تتخلّى هاشماً شرفاً وسؤدداً، وانتقلت السيادة في قريش إلى ابنه عبد المطّلب ومنه إلى ابنه المجاهد الذابّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يطول سرده وشهد له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصدق وعظم جهاده، فلمّا رأى المشيخة والذين في قلوبهم مرض! أنّهم لا يضارعون عليًّا في منقبة، لا في نقاء النسب فإذا أوغلوا في ذلك صاروا إلى الحطّ من نسب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ نسبه ونسب ابن عمّه واحد، فصاروا إلى تكفير مؤمن قريش وسيّد البطحاء أبي طالب زاعمين أنّه مات مشركاً، وافتعلوا رواية كاذبة في ذلك( وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ) (١) ؛ ولذا فلعليّ سنام الفخر في النسب الذي كان ينتسب إليه أخوه وابن عمّه وخليله فكلاهما ابنا الفواطم والعواتك - ليس هذا محلّ ذكرهنَّ نأتي عليه في محلّه في سجال مع خارجيّ ناصبيّ من ذوي العاهات! - وأين كانت الشجاعة هذه لدى القوم؟! وقبل الحديث عن الشجاعة: فإنّ سلوك أبي بكر وعمر خروج على أمر الله تعالى، فقد أمر سبحانه عليًّا في أكثر من موضع، وجعل ولايتهعليه‌السلام مقروةً بولايته سبحانه وبولاية رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ونصبه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أميراً ووليّاً للمؤمنين وأقامه مقامه في حجّة الوداع بغدير خمّ وأنطق الله عمر بن الخطّاب يومئذ ليهنّئ أبا الحسن فيقول له: بخٍ بخٍ لك يا عليّ، وفي لفظ يا ابن أبي طالب، أصبحت وليّي ووليّ كلّ مسلم ومسلمة، ولا غرابة! فلقد نطق بحقّ عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام أعداؤه والذين قاتلوه: عائشة بنت أبي بكر، وابن هند، والمغيرة بن شعبة، وابن النابغة عمرو، و....

قال تعالى:( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالّذِينَ آمَنُوا فَإِنّ

____________________

(١) طه: ٦١.

١٩٣

حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (١) .

فالآية المباركة في مقام تعيين أولي الأمر الذين تجب طاعتهم، فحصرت الولاية بثلاثة: الله تعالى، ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمؤمن المتصدّق حال الركوع؛ وبهذا خرج غيرهم من عنوان الولاء والانقياد له.

عن حبّان، عن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، قال:( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، قال نزلت في عليّعليه‌السلام خاصّةً(٢) .

وقوله:( وَمَن يَتَوَلّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالّذِينَ آمَنُوا فَإِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) ، قال: عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام (٣) .

فإذا كان الأمر هكذا، ولم تنزل آية تنسخها؛ فعليّعليه‌السلام وليّ المؤمنين بعد الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يجوز حرق البيت عليه وعلى زوجته بضعة رسول الله وأمّ ذريّته وعترته الطاهرين أمّ أبيها! يؤذيه ما يؤذيها ويفرحه ما يفرحها.

وولاية عليّ غلبةٌ، يعني فلاحٌ، والعدوان عليه، يعني حسرة وخسران فلا تفكيك في ولايته وولاية رسول الله ومن ثمّ ولاية الله، بصريح القرآن. أ من هذا البرهان أسطع في الولاية؛ وحديث المنزلة الصريح في العصمة والوصيّة: فمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ، وموسىعليه‌السلام نبيّ؛ وهارونعليه‌السلام نبيّ وصيّ أخ نبي؛ وعليّعليه‌السلام أخ وصيّ إلّا أنّه ليس بنبيّ (أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي)؛ وفي لفظ: (إلاّ أنّك لست بنبيّ).

____________________

(١) المائدة: ٥٥ - ٥٦.

(٢) تفسير الحِبرَيّ الحسين بن الحَكَم (ت ٢٨٦ هـ): ٢٦، تفسير فرات: ٣٨.

(٣) تفسير الحبريّ: ٢٦١، تفسير فرات: ٣٨.

١٩٤

أمر الله تعالى بولاية عليّعليه‌السلام ؛ وإنزال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له هذه المنزلة الصريحة في الوصيّة أوْلى، أم المختلقات في تقديم رجل ليصلّي بالناس في حال مرضه أولى؟! ولو صحّ هذا فأين نضع العهد والميثاق المغلّظ يوم الغدير إذ أخذ لعليّعليه‌السلام البيعة بقوله: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!) قالوا: بلى. قال: (أللّهم اشهد، من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، أللّهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله).

هل قال مثقال أو دون ذلك لأبطال السقيفة الذين لولاهم لَـما ظهر وتجرّأ على عليّعليه‌السلام حثالات أميّة وطغامهم!

سبب نزول الآية المباركة

عن محمّد بن السائب الكلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، قال: أقبل عبد الله ابن سلام ومعه نفر من قومه ممّن آمنوا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنّ منازلنا بعيدة وليس لنا مجلس ولا متحدّث دون هذا المجلس، وإنّ قومنا لـمّا رأونا آمنّا بالله ورسوله وصدّقنا رفضونا وآلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا ولا يواكلونا ولا يناكحونا ولا يكلّمونا، فشقّ ذلك علينا. فبينما هم كذلك يشكون إلى النبيّ إذ نزلت هذه الآية على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، فلمّا اقترأها رسول الله قالوا: رضينا بالله وبرسوله والمؤمنين أولياء؛ وأذّن بلال بالصلاة فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المسجد والناس يصلّون بين قائم وراكع وساجد، وغذا هو بمسكين يسأل، فدعاه رسول الله؛ فقال له: (هل أعطاك أحد شيئاً؟) قال: نعم؛ قال: (ماذا؟) قال: خاتم من فضّة. قال: (من أعطاكه؟) قال: ذلك الرجل القائم، فإذا هو عليّ. قال: (على أيّ حال أعطاكه؟) قال: أعطانيه وهو راكع؛ فكبّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قرأ:( وَمَن يَتَوَلّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالّذِينَ

١٩٥

آمَنُوا فَإِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (١) .(٢)

____________________

(١) المائدة: ٥٦.

(٢) تفسير مقاتل بن سليمان (ت ١٥٠ هـ) ١: ٤٨٥ - ٤٨٧، تفسير الحبريّ (ت ٢٨٦ هـ): ٢٦١، تفسير ابن أبي زَمنين (ت ٣٩٩ هـ) وهو مختصر تفسير يحيى بن سَلاّم، ١: ٢٠٤، تفسير فرات (القرن الرابع الهجريّ): ٣٨؛ وترد الرواية عن ابن عبّاس وعن غير ابن عبّاس في مصادر كثيرة. وترد أحياناً عن غير ابن عبّاس وربّما بإضافات نعرض لبعضها ورواتها بعد أن نفرغ من إدراج المصادر:

تفسير الطبريّ ٦: ١٥٦، أنساب الأشراف، للبلاذري (ت ٢٧٩ هـ) ٢: ٣٨١، شواهد التنزيل، للحسكانيّ الحنفيّ (من أعلام القرن الخامس) ١: ١٨١، التفسير الكبير، للفخر الرازيّ ٣: ٤٣١، تفسير ابن كثير الحنبليّ ٢: ٧١، الذريّة الطاهرة، للدولابيّ (ت ٣١٠ هـ): ١٠٩ / ١١٤، مختصر تاريخ ابن عساكر ١٨: ٨، المناقب، للخوارزمي الحنفيّ (ت ٥٦٨ هـ): ٢٦٦، غاية المرام، هاشم البحراني (١١٠٧ هـ) ٩: ١٨، معرفة علوم الحديث، للحاكم النيسابوري (٤٠٥ هـ): ١٠٢، الدر المنثور، للسيوطيّ الشافعيّ (٩١٠ هـ) ٢: ٢٩٣، الأمالي الخميسيّة للمرشد بالله الشجريّ (٤٩٩ هـ) ١: ١٣٧ و ١٣٨، تذكرة الخواصّ، لسبط ابن الجوزيّ الحنبليّ ثمّ الحنفيّ (٦٥٤ هـ): ٢٠٧، العمدة في عيون صحاح الأخبار، ابن البطريق: ٦١، مناقب الإمام عليّ، للفقيه ابن المغازليّ الشافعيّ (٤٨٣ هـ): ٣١٤، ينابيع المودّة، القندوزي الحنفي: ٢١٢، تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) ٩: ٣٣٦، نور الأبصار، الشبلنجي: ٧٧، سعد السّعود، لابن طاووس عليّ بن موسى الحسني الحسيني (٦٦٤ هـ): ٧٠، كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب، محمد بن يوسف الگنجي الشافعيّ (المقتول تعصّباً ٦٥٨ هـ): ٢٢٨، تفسير البيضاوي الشافعيّ ١: ٣٤٥، أسباب النزول للواحدي (٤٦٨ هـ): ١٣٢ - ١٣٤، مجمع البيان في تفسير القرآن، للطبرسيّ (٥٤٨ هـ) ٢: ٢١٠، الصواعق المحرقة، ابن حجر: ٢٤، نظم درر السمطين، لجمال الدين الزّرنديّ الحنفيّ: ٨٧، تفسير (غرائب القرآن)، لنظام الدين النيسابوري، بهامش تفسير الطبريّ ٦: ١٦٧، أمالي الطوسي، نقلا عن (تأويل ما نزل من القرآن)، لابن الجحّام ١: ٥٨، تفسير العيّاشي (القرن الثالث) ١: ٣٢٧، مجمع الزوائد، للهيتميّ ٧: ١٧، فتح القدير، للشوكاني ٢: ٥٠، فرائد السمطين ١: ١٨٩، لباب النقول في أسباب النزول، للسيوطيّ: ٩١، مطالب السؤول، كمال الدين بن طلحة الشافعي: ٣١، جامع الأصول من أحاديث الرسول، ابن الأثير الشافعي (٦٠٦ هـ) ٩: ٤٧٨، تفسير النفسي بهامش الخازن ١: ٤٩٦، ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، المحبّ الطبريّ (٦٩٤ هـ): ١٠٢، تفسير الخازن علاء الدين ١: ٤٩٦، الرياض النضرة، المحبّ الطبريّ ٢: ٣٠٢، أحكام القرآن، الجصّاص أحمد بن عليّ الرازيّ (٣٧٠ هـ) ٢: ٥٤٢، تفسير البحر المحيط، أبو حيّان الأندلسي ٣: ٥١٤، تفسير معالم التنزيل، للفرّاء الشافعيّ

١٩٦

هذا ما أنزله الله تعالى في ولاية عليّعليه‌السلام ، فمن أبى فقد كفر! إذ هو رافضيّ خارجيّ على الله ورسوله.

ليلة الخميس:

ليلة الخميس وما أدراك وما ليلة الخميس إذا اشتدّ برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعه فأراد أن يرحم أمّته كما صنع يوم غدير خمّ فطلب قرطاساً يكتب لهم وصيّة لا يضلّوا بعدها أبداً، ولا ينقلبوا على أعقابهم يضرب بعضهم رأس بعضه، فانبرى عمر وصدّ أن يقدّم لرسول الله ما طلب، وعلا الهرج فطردهم رسول الله وبقي الوفي عليّ معه؛ وطرده لهم طرد من رحمة الله تعالى. وقد تكلّمنا عن هذه المسألة في غير هذا الموضع بإفاضة، وعن الرّدة التي تكلّم عنها القرآن الكريم وأنّها في هؤلاء القوم!

عودٌ على التحريق

إنّ قول أبي بكر لعمر: ائتني به بأعنف العنف! أُخت فعلتهم بسيّد الأنصار؛ ولولا خوفهم سيوف الأنصار لقتلوه. ولم تطب خواطرهم حتّى بعثوا خلفه جنيّاً! إلى حوران فشكّ فؤاده. وهذا المرّة جاء عمر بالنار ليحرق بيت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولـمّا سألته: (يا ابن الخطّاب! أتراك محرّقاً عليّ بابي؟) قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك!

____________________

(٥١٥ هـ) بهامش تفسير الخازن ٢: ٥٥، التسهيل لعلوم التنزيل، ابن جزي الكلبيّ ١: ١٨١، تفسير الكشّاف، للزمخشريّ الحنفيّ (٥٢٨ هـ) ١: ٤٢٢، الفصول المهمّة، ابن الصبّاغ المالكيّ: ١٢٣، شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٣: ٢٧٥، مناقب عليّ بن أبي طالب وما نزل من القرآن في عليّ، ابن مردويه أحمد بن موسى بن مردويه الأصفهاني (٤١٠ هـ): ٢٣٣ / ٣٣٥، وذكره في ٢٣٤ - ٢٣٨ وأرقامه: ٣٣٦، ٣٣٧، ٣٣٨، ٣٣٩، ٣٤٠، ٣٤١، ٣٤٢، ٣٤٣، ٣٤٤؛ المعجم الكبير، للطبراني ١: ٣٢٠ / ٩٥٥.

١٩٧

كنّا نظنّ أنّه يستحي فيعتذر! ويرجع، أو يلين ويقول: ولكن يا ابنة رسول الله أنا مأمور وزوجك لو بايع انتهى الأمر. ولكن بعنف وتوكيد: نعم، مستدلاًّ برسالة الإسلام ومن غير احترام لمقام النبوّة كأن يقول: فيما جاء به رسول الله. إلّا أنّا تعوّدنا وعهدنا من عمر هذا! أوليس هو القائل ليلةَ الرزيّة لـمّا منع من تقديم ما أراد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليثبت به وصيّته: إنّ الرجلَ ليهجر، قد غلَبه الوَجعُ! وتكلّمنا تفصيلاً عن هذا في غير هذا الموضع ولكن لنا أن نقول مختصراً: فهو لم يحترم مقام النبوّة فلم يقل النبيّ أو رسول الله وإنّما (الرجل) بلفظ النكرة! ويهجر أي يهذي ولا يدري ماذا يقول - معاذ الله وحاشا لك يا رسول الله - وقد أدخل على الفعل لام التوكيد إيغالاً منه في التنكير! وأردف بجملة توكيد لـما في نفسه ونطق به لسانه: قد غلبه الوجع.

فإذا كان هكذا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهل لهذا البيت حرمة من أن يمتنع من حرقه؟!

وهو البيت الذي كان النبيّ يمرّ عليه ستّة أشهر صباح كلّ يوم فينادي الصلاة أهل البيت إنّما يريد الله أن يذهب عنكم الرّجس ويطهّركم تطهيراً؛ وذلك بعد أن جمع نفسه الزكيّة مع نفس عليّ وابنته فاطمة وولديه الحسن والحسينعليهم‌السلام تحت الكساء ودعا الله تعالى أن يعصهمهم ويذهب عنهم الرّجس... فهبط الأمين جبرئيل فاستأذن أن يكون مع هذه الوجوه التي أراد عمر أن يحرقها! فأذن له النبيّ بعد أن امتنع من الإذن لزوجاته أن يكنّ معهم؛ فتلا عليه آية التطهير تحقيقاً من الله تعالى لدعاء رسوله وبهذه الوجوه المقدّسة خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يباهل وفد نصارى نجران فغلبهم، فكانوا معجزته يومئذ ولم يكن فيهم واحد من أهل السقيفة؛ وهم تركة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمّته فمن ضيّعها فحظَّ نفسه ضيّع، ومن حفظها فنفسه قد حفظ، هم عترة رسول الله والثّقل الثاني اللذين تركهما وأوصى بهما (إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله عزّ وجلّ،

١٩٨

وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً). فلا يمكن إثبات إسلام مسلم إلّا من أخذه بوصيّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أوصى بالتزام اثنين القرآن الكريم وأهل بيته، فلا يجوز الأخذ بالثقل الأوّل والتمسّك به وحرق الثاني (أهل البيت). وحتّى في حال الإعراض عن الثاني؛ فإنّ الأوّل (القرآن المجيد) يصدح بالثاني (أهل البيت) بما لا يحتاج إلى مزيد تأمّل حتّى من سِيبويه ونَفطويه! فآية المباهلة أثبتت أنّ عليًّا عليٌّ على مَن سواه إلّا رسول الله وهو أخوه ووصيّه، وهو منه بمنزلة هارون من موسى، وهو في هذه الآية نفس رسول الله، فهل يليق أن يتقدّمه غيره أو يعقل أن يقدّم رسول الله عليه غيره؟! فإذا صحّ لكان ذلك الشخص أولى من عليّ بإنزاله منزلة هارون من موسى ولخرج يباهل به! وكانت فاطمة زوجة عليّ ابنة النبي نساءه في آية المباهلة، وابنا عليّ وفاطمة الحسن والحسين أبناءه في الآية. هذا هو البيت الذي جاء عمر لتحريقه!

تنزّل على قَدر العقول!

لعلّ المصحف الذي لدى القوم يومئذ لم يتضمّن آية المباهلة، ولا آية التطهير، ولا آية الولاية؛ وإنّما تضمّن آية رجم الشيخ والشيخة إذا زنيا، وسورة بطول سورة البقرة، كانوا يقرأونها على عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما زعم عمر! فهلّا تذكّر العهد والميثاق يوم الغدير وقد هنّأ عليًّاعليه‌السلام قائلاً له: أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم ومسلمة، أم نسي؟ وهلاّ ذكر حديث الثقلين، أم؟!

وماذا عن تحدّيه لفاطمة في تحريقها وابنيها وبعلها، لم يطرق سمعه أنّها سيّدة نساء العالمين، وسيّدة نساء الجنّة، أم ماذا؟ وأنّ ابناها معها في البيت وهما سبطا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيّدا شباب أهل الجنّة؛ فإذا عرضَ لأهل بيت الطهارة والسيادة ما أراده

١٩٩

أبوبكر وعمر، ودخلا الجنّة ماذا يقولون وبم يعتذرون؟! أم يرفضا سيادتهم كما رفضاها في الدنيا؟ مع ملاحظة: ليس في الجنّة ما يحمل على الألم والأسى ولا سقيفة مع ما تمخّض عنها ومن ثمّ ما يفضي إلى الكهولة والشيخوخة. والحسينعليه‌السلام ، في روايات أنّه استشهد وعمره سبع وخمسون سنة، فهو وأخوه سادة أهل الجنّة إلّا ما كان من أبيهما وجدّهما وأمّهما، وفضلهم عائد إليهما لا إلى من هو بعيد عنهم فكيف بمن خالفهم وخرج عليهم، بل أعدّ لقتلهم وحرقهم، وبذا فتح باب الخروج عليهم والاستهانة بحقّهم وقتلهم. والمصادر ذكرت الحديث مطلقاً، إلّا في بعض منها جاء فيها (وأبوهما خير منهما).

فاطمةعليها‌السلام سيّدة نساء أهل الجنّة، سيّدة نساء العالمين، سيّدة نساء الأمّة، سيّدة نساء المؤمنين

إلى أيّ عنوان أخذت، وإلى أيّها انتسبت؛ أيّها أحببت وأيّها أبغضت! أتسيغ لنفسك وتجيب قرينك الذي لا ينفكّ يوغل بالوسواس فتحمل حطباً وقبساً لتحرّق سادة الورى، ولا يلين قلبك لابنة المصطفى فاطمة الزهراء! ذكر سيادتها صلوات الله عليها جمع منهم: عائشة، وأنس، وابن عبّاس، وأبو سعيد الخدريّ، وعمران بن حصين، وأبو هريرة، وحذيفة بن اليمان، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والحسن، وعليّعليه‌السلام .

الحديث: عن الشعبيّ عن مسروق عن عائشة: أنّ النبيّ قال وهو في مرضه الذي توفّي فيه: (يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء العالمين وسيّدة نساء هذه الأمّة وسيّدة نساء المؤمنين؟)(١) .

____________________

(١) المستدرك على الصحيحين، الحاكم النيسابوريّ ٣: ١٧٠ / ٤٧٤٠. قال الذهبي في التلخيص: صحيح.

٢٠٠