شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 182608
تحميل: 4444

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182608 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

كافراً، ولا نوادّ ملحداً فاسقاً. ولقد قلت وقالوا فقطعك الخطيب وألجمك الشاعر.

وأمّا ذكرك الذي كان بالأمس، فدع عنك المهاجرين والأنصار فإنّك لست من ألسنتهم في الرضا، ولا نحن من أيديهم في الغضب(١) .

للهِ درُّك يا زيد! ما أبين كلامك وأفصحه وشدّة عارضتك وقوّة حجّتك! ثأرت للحقّ وكأنّك لست لعديّ! ونصرت الأنصار بحقّهم الجَلي، فلم ترَ كُرْهاً في ذلّ قريش بمكّة وعزّها في المدينة في ظلّ الأنصار. وفضحت الوليد في أبيه إذ قتل كافراً يوم بدر؛ وفي نفسه فهو الملحد الفاسق كما سمّاه الله عزّ وجلّ.

وتكلّم يزيد بن أبي سفيان، وضرار بن الخطّاب (وكلاهما من مسلمة الفتح)، فقالا شيئاً ولكن دون قول زيد.

وأقبل حسّان بن ثابت مغضباً من قول الوليد بن عقبة وشعره، فدخل المسجد وفيه قوم من قريش فقال: يا معشر قريش! إنّ أعظم ذنبنا إليكم قتلنا كفّاركم! وحمايتنا رسول الله؛ وإن كنتم تنقمون منّا منّة كانت بالأمس فقد كفى الله شرّها، فما لنا ما لكم. والله ما يمنعنا من قتالكم الجبن، ولا من جوابكم العِيّ. إنّا لَحيُّ فِعال ومقال ولكنّا قلنا: إنّها حرب، أوّلها عار وآخرها ذلّ. فأغضينا عليها عيوننا، وسبحنا ذيولنا حتّى نرى وتَروا، فإن قُلتم قلنا وإن سكتّم سكتنا.

فلم يجبه أحد من قريش، ثمّ سكت كلٌّ من الفريقين عن صاحبه، ورضي القوم أجمعون، وقطعوا الخلاف والعصبيّة(٢) .

____________________

(١) الموفّقيّات: ٥٩٩ - ٦٠١ / ٣٩٠.

(٢) نفس المصدر السابق.

٢٤١

تعريف بالوليد

الوليد الذي أخطأ استه الحفرة! ورمى بسهم خائب، إذ تكلّم في الأنصار! وهو فاسق ابن كافر حفيد متبنّى لصيق، وهذا هو شأن البيت الأمويّ فكلّه عورات وللناسِ ألسنٌ! إلّا من رحم ربّي مثل خالد وأخيه أبان....

والوليد شانئ الأنصار، ومن قبلهم شانئ أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فأنزل الله تعالى بشنآته لعليّ بياناً، وسمّاه فاسقاً، وسمّى عليًّا مؤمناً.

من هو هذا الفاسق؟

هو الوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيْط بن أبي عَمرو بن أميّة.

واسم أبي معيط: أبان بن أبي عمرو. واسم أبي عمرو ذَكْوان بن أميّة(١) .

وفي الاشتقاق: أبو معيط، وهو أبان بن أبي عمر. و (مُعَيْط) تصغير أمْعَط، واشتقاقه من الذّئب إذا تَمعَّط شعرَهُ عن جِلده(٢) . ولـمـّا مات عفّان، تزوّج عقبة بن أبي معيط زوجته أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، فأولد عقبة منها: الوليد، وعمارة، وخالداً؛ فهم إخوة عثمان بن عفّان لأمّه(٣) .

قال أبو اليقظان: كان أبو عمرو، عبداً يسمّى: ذكوان، فاستلحقه (أميّة) وكنّاه: أبا عمرو. فخلف على امرأة أميّة وهي: آمنة بنت أبان، أمّ الأعياص(٤) .

وقال ابن الكلبيّ: كان أميّة خرج إلى الشأم، فأقام بها عشر سنين، فوقع على أمَةٍ لِلَخمٍ، يهوديّة من أهل صَفُّورية، يقال لها: تُرنا. وكان لها زوج من أهل صَفُّورية

____________________

(١) طبقات خليفة: ٤١.

(٢) الاشتقاق: ١٦٧.

(٣) نسب قريش: ١٤٧، النسب، لابن سلاّم: ٢٠١، تاريخ دمشق ١٢: ٢٨٤.

(٤) المعارف، لابن قتبية: ٣١٨.

٢٤٢

يهوديّ، فولدت له ذكوان، فادّعاه أميّة واستلحقه وكنّاه أبا عمرو. ثمّ قدم به مكّة، فذلك قول النبيّ لعقبة يوم أمر بقتله: إنّما أنت يهوديّ من أهل صَفُّورية(١) . وبذا وذا انتفى نسبه إلى قريش وإلى أميّة.

وقبل الاستطراد في قبائح آل أبي معيط! نقول: إنّ جدّهم الأعلى (ذكوان) عبد لأميّة فاستلحقه ونسبه إليه فصار يُعرف: أبو عمرو بن أميّة! فإذا هلك أُميّة؛ خلف ذكوان على امرأة أبيه، وهو ليس أباه! وإذا كان في الجاهليّة التي رافقت زعماء قريش وأظهروها بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بصور شتّى أظهرها إقصاء أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام عن منزلته التي أنزله الله ورسوله إيّاها، وغصب بضعة الرسول وأمّ الذريّة الطاهرة حقّها من إرث أبيها وتوفّيت وهي واجدة عليهم والنبيّ يقول لها: (إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك)؛ وعدوانهم على من جعل الخير في رؤوسهم: الأنصار، وتسليطهم الطّلقاء وآل أبي معيط، ففتحوا بذلك باباً لسفك الدماء وانتهاك الحرمات وتوالي الفتن على مدى الدهور وإلى الله المشتكى!

أقول: إذا وجد قبل الإسلام من ارتضى لنفسه أن يخلف أباه على أمّه، وكان الذي يخلف أباه هو الولد الأكبر، وكانت العرب تسمّي هذا النكاح (نكاح مقت). فهل استطاب ذكوان نكاح امرأة أبيه أميّة ولو بالاستلحاق؟! إلّا أنّ المقريزي يذهب في هذا الأمر مذهباً مريراً: (وصنع أميّة في الجاهليّة شيئاً لم يصنعه أحد من العرب، زوّج ابنه أبا عمرو - ذكوان - بن أميّة امرأته في حياةٍ منه - والمقْتيّون في الإسلام هم الذين أولدوا نساءَ آبائهم واستنكحوهنّ من بعد موتهم، وأمّا أن يتزوّجها في حياته، ويبني عليها وهو يراه؛ فإنّ هذا لم يكن قطّ، وأميّة قد جاوز هذا المعنى، ولم يرضى بهذا

____________________

(١) نفس المصدر السابق: ٣١٩.

٢٤٣

المقدار، حتّى نزل عنها له وزوّجها منه، وأبو معيط بن أبي عمرو بن أميّة قد زاد في المقت درجتين)(١) .

فلا عتب على معاوية أن يستلحق ابن سميّة، فيصبح زياد بن أبي سفيان ويتشرّف بتزويجه وولده ابنته وبنات أميّة وعبد شمس! ! فجدّه الأعلى قد رسم لهم خارطة الطريق. ألم يستلحق أميّة عبده (ذكوان) وينسبه إلى نفسه، ويخلف ذكوان على جدّة معاوية من علوّ (امرأة أميّة)؟!

وعلى الرواية الثانية: فإنّ أميّة قد وقع على أمَةٍ يهوديّة، لها زوج يهودي فولدت ذَكْوان، فألحقه أميّة بنفسه، والحال: مَن قال إنّه نتيجة اللقاء المشؤوم ذلك؟ ولم يكن من زوجها اليهوديّ!

وسميّة من ذوات الرايات واقعها في ليلة واحدة أربعة رجال، فمن قال إنّه من أبي سفيان؟ وأين صار (الولد للفراش وللعاهر الحجر)؟! إرث أمويّ لم يسلم منه معاوية نفسه! نذكره في محلّه.

وعُقبة: من زنادقة قريش وهم: أبوسفيان بن حرب بن أميّة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل السَّهميّ، والوليد بن المغيرة المخزوميّ، تعلّموا الزندقة من نصارى الحيرة(٢) . وقتل هؤلاء جميعاً كفّاراً إلّا أبا سفيان تظاهر بالإسلام يوم فتح مكّة فهو من الطّلقاء. وقتل عقبة يوم بدر صبراً، قتله أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام (٣) .

الوليد: الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أخو عثمان لأمّه، من الطّلقاء كان شديد

____________________

(١) التنازع والتخاصم للمقريزي: ٤٢. (وقد مضى أنّ أبا عمرو اسمه ذكوان عبد لأميّة فاستلحقه).

(٢) المحبّر: ١٦١.

(٣) السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٢٩٨، جمهرة النسب: ٥١، المصنّف، لعبد الرزّاق، ح ٣٤٩٥.

٢٤٤

العداوة لعليّعليه‌السلام يبغضه ويشتمه. عن ابن عبّاس: قال الوليد بن عقبة لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام : أنا أحدُّ منك سِناناً وأبسط منك لساناً وأملأ للكتيبة منك! فقال له عليّ: أسكت يا فاسق - وفي لفظ: إنّما أنت فاسق - فأنزل الله تعالى فيهما:( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ) (١) ، يعني بالمؤمن عليًّا، وبالفاسق الوليد بن عقبة بن أبي معيط(٢) . وسمّي الوليد بحسب ذلك الفاسق فكان لا يعرف في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا بالوليد الفاسق. وسمّاه الله تعالى فاسقاً في آية أخرى، وهو قوله تعالى:( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ ) (٣) الآية. وسبب نزولها مشهور؛ وهو كذب الوليد على بني المصطلق، وادّعاؤه أنّهم منعوا الزكاة وشهروا السيف حتّى أمر النبيّ بالتجهّز للمسير إليهم، فأنزل الله تعالى في تكذيبه وبراءة ساحة القوم هذه الآية. والقصّة مذكورة تفصيلاً في المصادر(٤) .

وكان الوليد مذموماً معيباً عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويشنؤه ويعرض عنه، وكان الوليد يبغض رسول الله أيضاً ويشنؤه، وأبوه عقبة بن أبي معيط هو العدوّ الأزرق بمكّة، والذي كان يؤذي رسول الله في نفسه وأهله، وورث الوليد الشنآن والبغضة لمحمّد وأهله، فلم يزل عليهما إلى أن مات(٥) .

____________________

(١) السجدة: ١٨.

(٢) أسباب النزول، للواحدي: ٢٣٦، الأغاني ٥: ١٤٠، تهذيب الكمال ٣١: ٥٥ و ٥٧، تاريخ دمشق ٢٦: ٣٤٠، الاستيعاب ٢: ٦٣٢ - ٦٣٣، شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٤: ٨٠.

(٣) الحجرات: ٦.

(٤) أسباب النزول: ٢٦١ - ٢٦٢، الأغاني ٥: ١٤١، والمصادر السابقة، والإصابة ٣: ٦٣٧، أسد الغابة ٥: ٤٥١، أنساب الأشراف ٦: ١٤٥.

(٥) شرح نهج البلاغة ٤: ٨١.

٢٤٥

ودخل الإمام الحسن المجتبى على ابن هند وعنده عدد من ذوي العاهات منهم الوليد ضائع النّسب ابن عقبة بن أبي معيط، فنالوا من سيّد شباب أهل الجنّة وكان آخر المتكلّمين الوليد، فلمّا فرغوا، انحدر سيل النبوّة والإمامة كأنّه ينطق عن لسان أمير البلاغة عليّعليه‌السلام ، فبدأ بصاحب المكان ابن هند معاوية فما أبقى له من ذارية، فما من لعنة مع كثرتها، لعنه رسول الله ولعن أباه إلّا وذكرها؛ وما من موبقة من بوائقه إلّا وعدّها؛ فأخرجه من إسلام وردّه إلى شرك. والتفت إلى ابن النابغة عمرو، فبدأ بنشأته وأنّ أمره مشترك في أربعة من قريش، مروراً بقتاله رسول الله مشركاً وسعيه بالمسلمين عند النجاشي وهجوه النبيّ وبني هاشم...، فإذا فرغ من ابن النابغة التفت إلى الوليد: وأمّا أنت يا وليد؛ فوالله ما ألومك على بغض عليّ، وقد جلدك ثمانين في الخمر وقتل أباك بين يدي رسول الله صبراً، وأنت الذي سمّاه الله الفاسق، وسمّى عليًّا المؤمن، حيث تفاخرتما فقلت له: أسكت يا عليّ! فأنا أشجع منك جناناً، وأطول منك لساناً، فقال لك عليٌّ: أُسكت يا وليد، فأنا مؤمنٌ وأنت فاسقٌ. فأنزل الله تعالى في مُوافَقَة قوله:( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ) (١) ثمّ أنزل فيك على موافقة قوله:( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا ) (٢) .

ويحك يا وليد! مهما نسيت، فلا تنس قول الشاعر فيك وفيه:

أنزل اللهُ والكتابُ عزيزٌ

في عليٍّ وفي الوليد قُرانا

فتَبَوَّى الوليدُ إذ ذاك فِسقاً

وعليٌّ مُبَوَّأُ إيمانا

ليس مَن كان مؤمناً عَمرَك ا

للهُ كمَن كان فاسقاً خوّانا

____________________

(١) السجدة: ١٨.

(٢) الحجرات: ٦.

٢٤٦

سوف يُدعى الوليدُ بعد قليلٍ

وعليٌّ إلى الحساب عِيانا

فعليٌّ يُجزى بذاكَ جِناناً

ووليدٌ يُجزى بذاك هَوانا

رُبَّ جَدٍّ لِعُقبَةَ بن أبان

لابِسٍ في بلادِنا تُبَّانا

وما أنت وقريش؟ إنّما أنت عِلجٌ من أهل صَفُّورية، وأقسم بالله لأنت أكبر في الميلاد وأسنّ ممّن تدعى إليه!(١)

إنّ كلام الإمام المفدّىعليه‌السلام يلقي ظلاًّ من الشكّ في أن يكون الوليد لعُقبة، ويقوّي قولنا في نسبة (ذكوان) إلى أميّة وقد يكون يهوديّاً فتبنّاه!

تولية عمر الوليد

بعد الذي نزل في الوليد وشاع اسمه الوليد الفاسق وإعراض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه، وصار معلوماً لدى المجتمع أنّ النبيّ، والوليد يبغض أحدهما الآخر...، فإنّ عمر بن الخطّاب قد ولّى الوليد هذا على صدقات بني تغلب! ثمّ استعمله عثمان على الكوفة. وليس بغريب من تولية عمر الوليد، واستنان عثمان الأمويّ به وقد تكلّمنا عن توليته لنظائره من ذوي العاهات منهم ابن هند ولاّه الشأم وقد كان مسحوراً به يسمّيه (كسرى العرب)، وولّى المغيرة بن شعبة البصرة فلمّا شهد عليه عند عمر بالزّنا، بذل جهده في درأ الحدّ عنه... وبعد ذلك عزله عن البصرة فولاّه الكوفة!

ويكفي في التعريف بالمغيرة جواب الإمام المجتبى الحسنعليه‌السلام له لـمّا أدلى بدلوٍ فارغة في حضرة ابن هند، هو والوليد وابن النابغة...، فطحنهمعليه‌السلام وكان من جوابه لهذا الأعور الزنّاء، قال:

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٦: ٢٨٥ - ٢٩٤.

٢٤٧

وأما أنت يا مغيرة، فلم تكن بخليق أن تقع في هذا وشبهه، وإنّما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة: استمسكي، فإنّي طائرة عنك! فقالت النخلة: وهل عَلِمتُ بك واقعةً عليَّ فأعلَمُ بكِ طائرةً عنّي؟!

والله ما نشعر بعداوتك إيّانا، ولا أغتممنا إذ علمنا بها، ولا يشقّ علينا كلامك. وإنّ حدّ الزنا لثابتٌ عليك. ولقد دَرَأ عمرُ عنك حقّاً، الله سائله عنه. ولقد سألتَ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوّجها؟ فقال: (لا بأس بذلك يا مغيرة ما لم ينو الزنا)، لعلمه بأنّك زان! وأمّا فخرك علينا بالأمارة، فإن الله تعالى يقول:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) (١) .(٢)

وقفة بين يدي أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام

مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة معذرةً إليك! فأنت أدرى بنفسك إذ جهلوك وعدوا عليك؛ فهلّا أبقيت بيتاً لم تزرع به نائحة وتورثهم لك وللطُّهرِ من أهل بيتك البَغضية فتكالبت عليك الأحزاب وائتلف عليكم ذوو العاهات وأبناء الرايات، لا رايات مجد أثيل ولا ميدان تباري للجِنان! إنّما رايات نَتَنٍ وبغاء؛ فحفيد صهّاك عبقريّ القوم! فحفيد حمَاَمة - وما أجمل الاسم وقُبح المخبر - يقترن بصلبة الحَرْد وقد اختبرها من قبله آخر ووضعت ذكرين لم يقرّ ما يسمّى بالزوج بأُبوّة أحدهما فوضعته على قارعة الطريق خلاصاً من القالة ونُسب الثاني إلى أربع بما يذكّرنا بقول مسيلمة

____________________

(١) الاسراء: ١٦.

(٢) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٦: ٢٨٥ - ٢٨٦. (ولم تكن المرأة مجهولة على عمر! فهناك موقف بين عمر والمغيرة بحضور امرأة، وكانت المرأة ذات شأن عند عمر نذكره في غير هذا المكان في مناسبته!)

٢٤٨

لسجاح ويذكر لها طريقة الأربع! إلى ابن العبقريّة في المعاطاة حتّى بزّت ذوات الرايات فكانت النابغة. وآل العوّام أردتُم لهم خيراً فنقلتموهم من هويّتهم القبطيّة. ونقلتموهم إلى بني أسد بن عبد العزّى عن السناء والنسب عن الآباء لا الأمّهات، ولم يكن سعد بأحسن حال من غيره، فآل أبي وقّاص دعوتهم في بني عذرة من قحطان أوثق من دعوتهم في بني زهرة، وما زهرة إلّا امرأة كما يذهب إليه البعض. وأمّا آل أبي معيط، فأنت سيّدي أعلم بحالهم ومضى الحديث في استلحاق أميّة لعبده (ذكوان) في أرض مصر وتسميته له (أبو عمرو) وكان من وفاء الذئب أبي معيط أن خلف على امرأة أبيه أمية بالاستلحاق. ليكون من ثمرة هذا النكاح الذي تاباه الشجرة المباركة وتأنف بشدة من الاستلحاق فلا تطعم شجرتها أو تلوثها بالسقط ولا بغيره. وكذلك هم الأنصار. وآل عَوف جُلُّهم من آل أبي معيط الذي طهّرتَ الأرض من دنسه، وحكمَ الله تعالى بينك وبين ابنه عُقبة، فسمّاك المؤمن، وسمّى عُقبة الفاسق.

يا أمير المؤمنين وإمام المتقين، يا من النظر إلى وجهه وذكره عبادة: هلاّ صفحت عن واحد منهم وهم رؤوس الكفر والشرك فلم تبق بيتا تَيميّاً ولا عَدِيّاً إلّا وَتَرته، وأَوْغلتَ في دماء بني مخزوم فزرعت الفواجع في بيوتهم وأوغرت صدروهم. ولم تقصّر في بني عبد شمس، ولا في بني أميّة ولا لُؤيّ بن غالب، وقل مثل ذلك في بني سَهْم وبني جُمَح وأمّا عبد الدار فإنّ هند وصويحباتها كنّ يضربنَ بالدفوف ويصهلن:

ويهٍ بني عبد الدار

ويهٍ حُماة الديار

ضرباً بكلّ بتّار

إن تُقبلوا فعاتق

ونفرش النمارق

أو تُدْبِروا نفارق

فراق غير وامِق

٢٤٩

آخر المطاف مع الأنصار في أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

بدأنا في الكلام عن الأنصار بما ورد عنهم في القرآن الكريم، وأقوال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم، وأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام وانتصاره لهم؛ ويحسن أن ننهي الكلام ونوشّحه بروايات وأقوال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، في الأنصار.

عبد الرزّاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوم الخندق: (أللّهم لا عيش إلّا عيش الآخرة، فارحم الأنصار والمهاجرة، والعن عضلاً والقاره، وهم كلّفونا ننقل الحجاره)(١) .

وعبد الرزّاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أللّهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار)(٢) .

عبد الرزّاق عن معمر عن حرام بن عثمان عن ابني جابر عن جابر قال: أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني سلمة يزورهم، فلمّا رجع اجتمع صبيان من صبيانهم ونساء من نسائهم، ينظرون إليه ويتبعونه، فالتفت إليهم فقال: (أما والله لئن أجبتموني إنّكم لأحبّ الناس إليّ)(٣) .

عبد الرزّاق عن معمر عن الزهريّ قال: أخبرني أنس بن مالك أنّ ناساً من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله أموال هوازن، فطفق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطي رجالاً من قريش، المئة من الإبل كلّ رجل منهم، فقالوا: يغفر الله لرسول الله، يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، قال أنس: فحدّثت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمقالتهم، فارسل إلى الأنصار فجمعهم في قبّة من أدم، لم يدع معهم أحداً غيرهم، فلمّا

____________________

(١) المصنّف، لعبد الرزاق، رقم ٥٨٥١.

(٢) نفس المصدر السابق، رقم ٥٨٥٢.

(٣) نفس المصدر السابق، رقم ٥٨٥٥.

٢٥٠

اجتمعوا جاءهم رسول الله، فقال: (ما حديثٌ بلغني عنكم؟) فقالت الأنصار: أما ذوو رأينا فلم يقولوا شيئاً، وأمّا أناس حديثة أسنانهم فقالوا كذا وكذا - للذي قالوا - فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إنّما أعطي رجالاً حديثي عهد بالكفر أتألّفهم، أو قال: استألفهم؛ أو لا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ فو الله لـما تنقلبون به خير ممّا ينقلبون به)، قالوا: أجل يا رسول الله، قد رضينا. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتّى تلقوا الله ورسوله، فإنّي فرطكم على الحوض)(١) .

ونظيره عن أبي سعيد الخدريّ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب الأنصار وهم يقولون: صدق الله ورسوله، ثم قال: (ألا تجيبوني! ألا تقولوا: أتيتنا طريدا فآويناك، وأتيتنا خائفا فأمّنّاك، ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله تدخلون به دوركم؛ لو أنكم سلكتم واديا أو شعباً، والناس واديا أو شِعْباً، لسلكت واديكم أو شعبكم، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، وإنكم ستلقون بعدي أَثَرَةً فاصبروا حتى تلقوني)(٢) .

هذه هي الأنصار السابقة إلى الإسلام، فإذا قال حديثوا السِّنّ منهم شيئا لـما يروا من إعطاء المؤلّفة قلوبهم، وهو كلام لم يقُله أهل الرأي من الأنصار؛ سألهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، سؤال أبٍ مشفِقٍ، فاعتذروا إليه أنه لم يكن من ذوي الرأي والسنّ الذين يُرجع إليهم، ولـمّا راحصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسألهم فيعدّد نعم الله تعالى عليهم؛ ما كان منهم إلّا التصديق والتسليم لـما يقول (صدق الله ورسوله). فتحوّلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعدّد مآثرهم:

____________________

(١) المصنّف، لعبد الرزّاق، رقم ٥٨٤٧.

(٢) نفس المصدر السابق، رقم ٥٨٥٧.

٢٥١

فالأنصار آووا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن طردته قريش من بينها! وهو ذروة سنامها في النّسب وأشرفها في الخُلُق والدين الذي جاء به، فخرج من بينها خائفاً يترقّب على الدين الذي حمل مسؤوليّة تبليغه، فأمّنه الأنصار، وذادوا قريشاً وغيرها عن رسول الله والدين الحنيف. هذه مآثر الأنصار يتلوها رسول الله عليهم عرفاناً منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفضلهم؛ ورتّبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك أثراً عظيماً: ذلك أنّ الناس الذين أعطاهم هم حدثاء عهد بكفر، فأعطاء يستألف قلوبهم بالشاء والبعير، فيدفع بذلك شرّاً حتى يقضي الله أمراً!

وأمّا الأنصار، فعوضهم من العَرض الزائل، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدخل دورهم ويدعو لهم بالبركة، ويدعو الله تعالى أن يعاجل بالعقوبة من أرادهم بسوء. وأيّ فضيلة أو منزلة وفوز يريد الأنصار من أن يتبع رسول الله أثر الأنصار، فلو أنّ الناس، ولا نقول أبوسفيان وابن هند وبسر بن أبي ارطاة وابن النابغة ومسرف وآل حرب وآل معيط و...؛ سلكوا وادياً، لـما دخله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودخل وادي الأنصار؛ ولولا أنّ النبيّ كان مهاجراً إلى الأنصار، لكان أنصاريّاً، أي جعل نفسه في عدادهم؛ وهو الذي عقد حلفاً معهم كما ذكرنا فجعل ذمّته لا يخفرها، وهم كذلك أن يريقوا دماءهم فداء له، وقد وفوا.

أروى تلجلج الطُّلقاء وأبناء البغايا

عن أنس بن مالك قال: دخلت أروى بنت الحارث بن عبدالمطّلب على معاوية بن أبي سفيان بالموسم، وهي عجوز كبيرة، فلمّا رآها قال: مرحباً بك يا عمّه كيف كنتِ بعدنا؟

قالت: كيف أنت؟ لقد كفرتَ يدَ النعمة وأسأت لابن عمك الصُّحبة، وتسمّيت

٢٥٢

بغير اسمك، وأخذت غير حقّك بغير بلاء كان منك ولا من آبائك في الإسلام(١) . ولقد كفرتم بما جاء به محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأتعسَ الله منكم الجُدود وأصعَر(٢) منكم الخُدود حتّى ردّ الله الحقّ إلى أهله، وكانت كلمة الله هي العليا، ونبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المنصور على من ناواه ولو كره المشركون، فكنّا أهل البيت أعظم الناس في الدين حظّاً ونصيباً وقدراً، حتّى قبض الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مغفوراً ذنبه مرفوعا درجته شريفا عند الله مرضيّاً، فصرنا أهل البيت بمنزلة قوم موسى من آل فرعون يذبّحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وصار ابن عم سيّد المرسلين فيكم بعد نبيّنا بمنزلة هارون من موسى، حيث يقول: يا ابن أمّ، إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني، ولم يجمع لنا بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شمل ولم يسهّل لنا وعر، وغايتنا الجنّة، وغايتكم النار.

قال عمرو بن - العاص -: أيّتها العجوز الضالّة! أقصري من قولك، وغضّي من طرفك.

قالت: ومن أنت لا أمّ لك؟

قال: عمرو بن العاص.

قالت: يا ابن اللّخناء النابغة(٣) ، أتكلّمني! إربَعْ على ظَلْعِك واعْنِ بشأنِ نفسك(٤) ، فوالله ما أنت من قريش في اللّباب من حَسَبها ولا كريم منصبها، ولقد ادّعاك ستّة من قريش كلّهم يزعم أنّه أبوك، ولقد رأيت أمّك أيّام منى بمكّة مع كلّ عبد عاهر، فأْتَمَّ

____________________

(١) في العقد الفريد: من غير دين كان منك ولا من آبائك، ولا سابقة في الإسلام.

(٢) في العقد الفريد: وأضرع، وفي نثر الدرّ: وصغّر. وكلّها بمعنى واحد، أي أذلّ.

(٣) اللّخناء: المنتنة الرائحة. وفي العقد الفريد: فقالت له: يا ابن النباغة - أي الزانية -، وأمّك كانت أشهر امرأة تغنّي بمكّة، وآخَذَهنّ لأجرة؟!

(٤) إربع: أقم. والظّلع: العرَج. مثل يُضرب لمن عيوبه كثيرة، وهو مشغل عنها بغيره.

٢٥٣

بهم فإنّك بهم أشبه(١) .

فقال مروان بن - الحكم! -: أيّتها العجوز الضالّة! سُلخ(٢) بصرُك مع عقلك، فلا يجوز شهادتك!

قالت: وأنت أيضاً يا ابن الزرقاء تتكلّم؟! فو الله لأنت إلى سفيان بن الحارث بن كَلَدَة(٣) أشبه منك بالحَكَم، وإنّك لشبهُه في زُرقة عينيك وحُمرة شَعرك مع قِصَر قامتك وظاهر دَمامتك، ولقد رأيت الحكم مادَّ القامة، نثر الهامة، سَبْطُ الشَّعر، وما بينكما قرابة إلّا كقرابة الفرس الضامر من الأتان المقرِب، فاسأل أمّك فإنّها تخبرك بشأن أبيك إن صدَقتْ، ثمّ التفتت إلى معاوية، فقالت: والله عرّضني لهؤلاء غيرُك، وإنّ أمّك لَلقائلةُ في يوم أُحد في قتل حمزة رحمة الله عليه:

نحن جَزَيْناكُم يومَ بَدْرِ

والحربُ بعدَ الحربِ ذاتُ سُعْرِ

ما كان عن عُتْبةَ لي من صَبْرِ

ولا أخي وعمِّه وبِكري(٤)

____________________

(١) في العقد الفريد: فقالت له: ادّعاك خمسة كلّهم يزعم أنّه أبوك، فسئلت أمّك عنهم فقالت: كلّهم أتاني، فانظروا أشبههم به فألحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائل فلحقت به.

(٢) في نثر الدرّ: ساخ.

(٣) الحارث بن كلدة طبيب العرب، من بني علاج ثمّ من ثقيف، كانت له سميّة أمّ زياد بن أبيه، فأنتسب إليه أبو بكرة بن الحارث، ونافع بن كلدة. (جمهرة النسب: ٣٨٩)

(٤) قتل عُتبة بن ربيعة - أبو هند - ببَدْر. شارك عليٌّ حمزة في قتله. (النسب: ٢٠٤، تاريخ الطبريّ ٢: ١٤٨، الثّقات ١: ٦٥).

وقتل أخوها الوليد بن عتبة - خال معاوية - أيضاً ببدر. قتله عليّ بن أبي طالب. (السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٣٦٦، المغازي ١: ١٤٨، طبقات ابن سعد ٢: ١٧، المحبّر: ٧٥، أنساب الأشراف ١: ٣٥٦، النسب، لابن سلام: ٢٠٢، تاريخ الطبريّ ٢: ١٤٨، كتاب الثقات ١: ٦٥، الإرشاد: ٦٠). وقتل شيبة بن ربيعة - عمّ هند - ببدر كذلك. قتله عليّعليه‌السلام . (طبقات ابن سعد ٢: ١٧).

وقتل ابنها حنظلة بن أبي سفيان يوم بدر كذلك. قتله عليّعليه‌السلام . (المغازي ١: ١٤٧، المحبّر: ١٧٦، أنساب الأشراف ١: ٣٥٥، الإرشاد: ٦٣).

٢٥٤

شفيتُ نفسي وقَضَيتُ نَذري

شفيتَ وَحشِيُّ غليلَ صدري(١)

فشُكر وحشيٍّ عليَّ عُمري

حتّى ترمَّ(٢) أعظُمي في قبري

فأجبتُها:

يا بنت رقّاعٍ(٣) عظيمِ الكفرِ

خزِيتِ في بدرٍ وغير بدرٍ

صَبَّحكِ اللهُ قُبيلَ الفجرِ

بالهاشميّين الطُّوالِ الزُّهْرِ

بكلِّ قطّاعٍ حُسامٍ يَفْري

حمزةُ لَيْثي وعليٌّ صَقْري

إذ رامَ شَيبٌ(٤) وأبوكِ غَدْري

أعطيتِ وحشيَّ ضميرَ الصَّدرِ(٥)

هتَكَ وحشيُّ حجاب السترِ

ما لِلبغايا بَعدَها من فخر(٦)

فقال معاوية لمروان وعمرو: ويْلَكما أنتما عرّضتماني لها، وأسمعتُماني ما أكره.

وجرى بينهما كلام طويل من ذلك: أنّ ابن هند تعرّض لأمير المؤمنينعليه‌السلام في العطاء، فقالت أروى: إنّ عليًّا أدّى الأمانة وعمل بأمر الله وأخذ به، وأنت ضيّعت أمانتك، وخنت الله في ماله، فأعطيت مال الله من لا يستحقّه، وقد فرض الله في كتابه الحقوق لأهلها وبيّنها فلم تأخذ بها، ودعانا - أي عليّعليه‌السلام - إلى أخذ حقّنا الذي فرض الله لنا، فشغل بحربك عن وضع الأمور مواضعها، وما سألتك من مالك شيئاً فتَمُنّ

____________________

(١) كانت هند كلّما مرّت بوَحْشيّ، قالت: وَيْها أبا دَسْمة، اشف واستَشفِ! وكان وحشي يُكنّى أبا دسمة (السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٣٦٦). وهو ما ذهبت إليه أروى من نعتها لهند بالزّنا!

(٢) تَرمّ: تبلى وتتفتّت.

(٣) في السيرة النبويّة: وقّاع، بالواو: الكثير الوقوع في الدنايا.

(٤) شيب: أرادت شيبة.

(٥) كناية عن فعل الدنيء.

(٦) توضيح لـِما تقدّم وتوكيده.

٢٥٥

به! إنّما سألتك من حقّنا، ولا نرى أخذ شيء غير حقّنا. أتذكر عليًّا فضّ الله فاك وأجهد بلاءك! ثمّ علا بكاؤها وقالت:

ألا يا عين وَيْحَكِ أسعِدينا

ألا وأبكى أميرَ المؤمنينا

رُزِينا خيرَ مَن رَكِبَ المطَايا

وفارِسَها ومَن ركبَ السفينا

ومَن لَبِسَ النِّعالَ أو احتذاها

ومَن قرأ المثانيَ والمئينا

إذا استقبلتَ وجه أبي حسينٍ

رأيتَ البدرَ راعَ الناظرينا

ولا والله لا أنسى عليًّا

وحُسنَ صلاتِه في الراكعينا

أفي الشهر الحرام فَجَعتُمونا

بخيرِ الناس طُرّاً أجمعينا

أمام هذا الإعصار الجامع بالحقائق والمشبوب بالعاطفة الصادقة والولاء الذي لا يعرف النهاية، تهاوى معاوية، فأمر لها بستّة آلاف دينار، وقال لها يسترضيها يا عمّة، أنفقي هذه فيما تحبّين، فإذا احتجت فاكتُبي إلى ابن أخيك يُحسن صَفَدكِ(١) ومعونتك إن شاء الله(٢) .

لله درّ أروى؛ وكذلك شأن من يصدر من هذا البيت الذي عنوانه الشرف والسؤدد والإيمان والكرم الحسب وسلامة النسب؛ وعلى ضدّ ذلك كلّه من شنأهم وناصبهم انظر إليها وهي عجوز كبيرة يرحّب بها ابن هند ويسألها: كيف كنت بعدنا؟! وكأنّه يريد أن يثبت لنفسه ولاية الأمر؛ فجاءه الجواب سريعاً من أروى: وكيف أنت؟ أي ومن أنت حتّى تسأل عن أحوال الصالحين وكيف صار أمرهم من

____________________

(١) الصَفَد: العطاء.

(٢) بلاغات النساء، لابن طيفور (ت ٢٨٠ هـ): ٤٠ - ٤١، العقد الفريد، لابن عبد ربّه (ت ٣٢٨ هـ) ١: ٣٥٧ - ٣٥٨، نثر الدرّ، للآبي (ت ٤٢١ هـ).

٢٥٦

بعدك! فلقد كفرتَ يدَ النعمة إذ منّ عليك وعلى أبيك وقومك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ عفى عنكم فأنتم الطّلقاء، ثمّ خرجت وتولّيت بغير حقّ مع كفر لا يبارحكم! وصرتم والخوارج جميعاً يداً واحدة على أهل بيت النبوّة؛ وعزاؤنا الذي يهوّن الخطب أنّا إلى الجنّة، وأنتم إلى النار!

وكما هو المألوف من بطانة ابن هند أنّهم لا يعتبرون ممّا يقع لهم في مجالس سيّدهم من إذاعة فضائحهم، وأكثر من ذلك نجدهم يقرّون بها، فمن لا دين له لا حياء له. تعرّض لها ابن النابغة عمرو؛ فلم تقم له قائمة، فهو من ذوي العاهات في الحسب، وابن آباء ستّة في النسب وأمّه تُعاطي كلّ عبد عاهر.

ولم يتّعظ ابن الزرقاء مروان ممّا سمع في ابن هند، وابن النابغة؛ فرمى بسهم خائب؛ سرعان ما ارتدّ إلى نحره! فهو ليس إلى الحكم الذي يتسمّى به، إنّما هو إلى سفيان بن الحارث ثمّ صار بن الحَكَم! فما أكثر العهر والبغايا والمستلحقين والأدعياء في صفوف الخوارج؟!

وأثارت الشجون أروى، فرأت في ابن هند سبباً عرّضها لهؤلاء؛ فصدحت بأمجاد بني هاشم وخصّت منهم حمزة أسد الله وأسد رسوله؛ ثمّ عرّضت بهند أمّ معاوية فوصفتها بالفجور والزنى وأنّها أعطت نفسها لوَحْشي قاتل حمزةعليه‌السلام .

سَودَة تستعدي معاوية على بُسْر بن أبي أرطاة

روى عامر الشعبيّ قال: وَفَدت سَودَة بنت عِمارة بن الأشتر الهَمْدانيّة على معاوية فاستأذنت عليه فأذن لها، فلمّا دخلت عليه سلّمت، فقال لها: كيف أنت يا ابنة الأشتر؟

قالت: بخير.

٢٥٧

قال: أنت القائلة لأخيك:

شَمِّرْ كفعلِ أبيكَ يا ابن عمارةِ

يومَ الطِّعانِ ومُلتَقَى الأقرانِ

وانصُرْ عليًّا والحسينَ ورهطَهُ

واقْصِدْ لهِندٍ وابنِها بِهَوانِ(١)

إنّ الإمامَ أخو النبيّ محمّدٍ

عَلَمُ الُهدى ومنارةُ الإيمانِ

فَقُدِ الجيوشَ وسِرْ أمامَ لوائِه

قُدُماً بأبيضَ صارمٍ وسِنانِ

قالت: لقد مات الرأس، وبُتِر الذَّنَب، فَدَع عنك تَذكارَ ما قد نُسِي.

قال: هيهات، ليس مثلُ مقام أخيك يُنسى!

قالت: صدقتَ والله، ما كان أخي خفيَّ المقام، ذليلَ المكان، ولكن كما قالت الخنساء:

وإنّ صَخْراً لَتأْتمُّ الهداةُ بهِ

كأنّه علَمٌ في رأسه نارُ

وبالله أسألك إعفائي ممّا استعفيتُه.

قال: قد فعلتُ، فقولي حاجتك.

قالت: إنّك أصبحت للناس سيّداً، ولأمورهم مقلَّداً، واللهُ سائلك عمّا افترض عليك من حقّنا، ولا تزال تُقْدِم علينا مَن ينهض بعزّك، ويَبسط سلطانَك، فيحصدنا حصادَ السُّنبل، ويدوسنا دِياس البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسألنا الجليلة؛ هذا ابن أرطاة(٢) قدِم بلادي وقتل رجالي وأخذ مالي، ولولا الطاعة لكان فينا عِزّ ومَنَعة، فإمّا أن

____________________

(١) إنّ معاوية أعرف بنفسه فيقول في مواطن الفخر: وأنا ابن هند، وأبو سفيان يقول لهند كيف رأيت ابني (يزيد) من ابنك (معاوية) - ذكرناه - وهذه المرأة وغيرها من معاصريه إنّما ينسبونه إلى هند، ومضى في تحقيقنا أنّه ينسب إلى أربع رجال....

(٢) هو بُسر بن أرطاة، ويقال: ابن أبي أرطاة، صاحب الغارة التي أرسله ابن هند فيها إلى اليمن والحرمين الشريفين. ذكرناها في مبحث الغارات.

٢٥٨

عزلته فشكرناك، وإما لا فَعَرفناك!

فقال معاوية: إيّاي تُهدِّدين بقومك؟! والله لقد هممتُ أن أردَّك إليه على قَتَب(١) أشرس فينفِّذ حكمه فيك!

فسكتت، ثمّ قالت:

صلّى الإلهُ على رُوحٍ تَضَمَّنَه

قبرٌ فأصبح فيه العدلُ مدفونا

قد حالفَ الحقَّ لا يَبغي به ثمناً

فصار بالحقِّ والإيمان مقرونا

قال: ومَن ذاك؟!

قالت: عليّ بن أبي طالب، رحمه الله تعالى.

قال: ما أرى عليك منه أثراً!

قالت: بلى، أتيته يوماً في رجل ولاّه صدقاتنا، فكان بيننا وبينه ما بين الغَثِّ والسمين، فوجدتُه قائماً يُصلّي، فانفتل من صلاته ثمّ قال برأفة وتعطّف: ألكِ حاجة؟ فأخبرته خبرَ الرجل، فبكى، ثمّ رفع يديه إلى السماء فقال: (أللّهم إنّي لم آمرهم بظلم خلقك ولا تَرك حقّك). ثمّ أخرج من جيبه قطعة جراب فكتب فيه:( بِسْمِ اللَّـهِ الرَّ‌حْمَـٰنِ الرَّ‌حِيمِ * قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَبّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْيَاءَهُمْ (٢) وَلاَ تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيّتُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ) (٣) إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك حتّى يأتي من يقبضه منك والسلام).

____________________

(١) القَتَب: الرّحل الصغير على قدر سنام البعير.

(٢) إلى هنا: الأعراف: ٨٥.

(٣) هود: ٨٥ - ٨٦.

٢٥٩

فعزَله؛ ما خَزَمَه بخشزام(١) ، ولا ختمه بخِتام.

فقال معاوية: اكتبوا لها بالإنصاف لها والعدل عليها.

فقالت: ألي خاصّة أم لقومي عامّة؟

قال: وما أنتِ وغيرك؟

قالت: هي والله الفحشاء إذاً واللؤم، إن لم يكن عدلاً شاملاً، ولا يَسَعني ما يَسَع قومي!

قال: هيهات! لمظَكم(٢) ابن أبي طالب الجرأة على السلطان، فبطيئاً ما تُفْطَمون، وغَرَّكم قوله:

فلو كنتُ بوّاباً على باب جنّةٍ

لَقلتُ لِهَمْدانَ: ادخُلوا بسَلامِ(٣)

اكتبو لها بحاجتها(٤) .

كيان مُهَلْهَل أنّى وضعت إصبعك تخرّق فبدت لك عاهات وعورات. فما من امرأة هي لعليّ بن أبي طالبعليه‌السلام شيعةً إلّا وخرّقت تلك الحجب البالية، واقتحمت ميدان الخوارج من غير خيول ولكن بألسن حداد! تهدّد ابن هند، وتبيّن حاله وحال تابعيه وما هم عليه من باطل وضلال وعدوان؛ وحال أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام في رعيّته من العدل والإنصاف. فإذا اُضطرّ ابن هند أن يكتب لها بالإنصاف؛ أبت شكيمتها إلّا أن يكون ذلك عامّاً لها ولقومها، فهي ترى إن استمنحت حاجتها دون قومها فاحشةً ولؤماً!

____________________

(١) خزمه: شكّه وثقبه، أي أقفله.

(٢) أي عوّدكم وعلّمكم.

(٣) الشعر في: وقْعَة صفّين، لنصر بن مزاحم: ٤٣٧.

(٤) بلاغات النساء: ٤٤ - ٤٦، العقد الفريد ١: ٣٤٤ - ٣٤٦، نثر الدرّ ٤: ٧٧ - ٧٩.

٢٦٠