شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 182641
تحميل: 4444

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182641 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

إنّما أوصى ولده برعاية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كان يرعاه ويعرفوا له منزلته ومستقبله الذي كان يستشرفه. ونجزم باليقين أن لو امتدّ بعبد المطّلب العمر وأدرك الرسالة، لكان مصدّقاً لحفيدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وناصره. ولم يخب أمله بولده شيخ البطحاء وسيّد قريش من بعده (أبو طالب) مؤمن قريش وناصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بماله ولسانه وولده.

من شعر يوصي به عبد المطّلب ابنه أبا طالب بالنبيّ

قال ابن إسحاق: وكان عبد المطّلب يوصي أبا طالب برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك أنّ عبد الله وأبا طالب لأمّ، فقال عبد المطّلب فيما يوصيه به، واسم أبي طالب عبد مناف:

أوصيك يا عبد مناف بعدي

بموحد بعد ابيه فرد

فارقه وهو ضجيع المهد(١)

فكنت كالأم له في الوجد

تدنيه من أحشائها والكبد

حتى إذا خفت مداد الوعد

أوصيت أرجى أهلنا للتوفد

بابن الذي غيّبته في اللّحد

بالكره منّي ثمّ لا بالعمد

فقال لي والقول ذو مرد

ما ابن أخي ما عشت في معدّ

إلاّ كأدنى ولدي في الود

عندي أرى ذلك باب الرّشد

بل أحمد قد يرتجى للرشد

وكلّ أمر في الأمور ودّ

قد علمت علام أهل العهد

إنّ ابني سيّد أهل نجد

يعلو على ذي البدن الأشد(٢)

وقال عبد المطلب (رضي الله عنه) أيضاً:

____________________

(١) الأشهر أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد أباه، وأمّه حامل به.

(٢) سيرة ابن إسحاق المسمّاة: السّير والمغازي (٨٥ - ١٥١ هـ): ٦٩.

٣٠١

أوصيت من كنيته بطالب

عبد مناف وهو ذو تجارب

بابن الذي غاب غير آئب

بابن أخ والنسوة الحبائب

بابن الحبيب أقرب الأقارب

فقال لي كشبه المعاتب!

لا توصني إن كنت بالمعاتب

بثابت الحق عليّ واجب

محمّد ذو العرف والذوائب

قلبي إليه مقبل وائب

فلست بالآيس غير الراغب

بأن يحقّ الله قول الراهب!(١)

فيه وأن يفضّل آل غالب

إنّي سمعت أعجب العجائب

من كلّ حبر عالم وكاتب

هذا الذي يقتاد كالجنائب

من حل بالأبطح والأخاشب

أيضاً ومن تاب إلى المثاوب

من ساكن للحرم أو مجانب(٢)

إنّ شعر عبد المطّلب عاطفة تتأجّج تضارع الأمّ في حقّ ولدها! فإذا أوجس اقتراب الأجل، أوصى من توسّم فيه بوادراً أن يحيي ذكراه، فيكون أهلاً أن يوصي إليه بمحمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فانتدب أبا طالب الذي قال عنه: (أرجى أهلنا)؛ فكان كذلك: فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقرب إلى أبي طالب من عليّعليه‌السلام وبقيّة ولده؛ وليس هذا الودّ عن محض عاطفة! فهو مثل عبد المطّلب إنّه صادر عن عقل ورشد لـما يتوسّمه في ابن أخيه؛ وهو يرى في ابن أخيه سبيل هداية وكلّ أمر محمود؛ وإنّه يقول ذلك عن علم راسخ وإنّ أمر ابن أخيه يسود نجْد ويعلو على كلّ ذي شأن!

____________________

(١) الراهب بحيرا، وقصّته مع ركب قريش وكان فيهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما رآه الراهب من أمور لفتت نظره في النبيّ فاحتفى به كثيراً وأبلغ عمّه أبا طالب أنّ لابن أخيه شأن وحذّره من اليهود. (سيرة ابن اسحاق: ٧٣ - ٧٥، والمصادر جميعاً).

(٢) نفس المصدر السابق: ٦٩ - ٧٠.

٣٠٢

بالله عليك أيّها المنصف، ممّن تخاف المعاد، ولا تعبد الرجال على أسمائها! هذا جواب أبي طالب؛ والد عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ! كان ممكناً له أن يطيّب خاطر والده بحفظ وصيّته في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويتعهّد له برعايته؛ لا أن يكون ودّه له على ما وصفنا؛ ثمّ يترجم سبب ذلك بسؤدده وعلوّ أمره؛ كلّ ذلك والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما زال يافعاً ولم يبلّغ بعد بالرسالة! فكيف بك، وقد بلغ النبيّ مبلغ الرجال، فصدع يبلّغ رسالة الإسلام؛ أينكفأ سيّد قريش وشيخ البطحاء فيكذّب ابن أخيه الذي رأى منه قبل الوحي أموراً جعلته يخرم بسواده أمره وعلوّه على كلّ ذي شأن!

إنّ حياة أبي طالب كلّها جهاد وكفاح، وهو الصادح بأنّ دين محمّد خير دين , وتحمّل الكثير من عنت قريش.

ولنبق مع مرحة الوصيّة: تكلّمنا على شعر عبد المطّلب وجواب ولده أبي طالب. وفي الشعر الآخر إذ تكلّم عبد المطّلب عن وصيّته ابنه بابن الحبيب أقرب الأقارب! فإنّ أبا طالب يرى أنّ حفظ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورعايته حقّ واجب عليه أداؤه من غير وصيّة؛ فغير العلقة القلبيّة الوثيقة؛ فإنّ أبا طالب رأى أموراً وسمع عجائباً بشأن رجل المستقبل: محمّد رسول الله، الذي ستنقاد له الوديان والجبال وتنتشر رسالته في الحرم وحواليه!

كلّ هذا يقوله أبو طالب رضي الله عنه، وما أخبره به الرهبان بما يجدونه من صفات آخر نبيّ وأنّها متعيّنة في ابن أخيه...؛ ويأتي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعجز الذي يخبت له من لا يداني أبا طالب كذا مرقاة عقل وإدراك، فيأخذ القرآن بمجامع نفسه ويعلن إسلامه ولا يؤثّر في نفس أبي طالب؟! بماذا نفسّر مناصرة أبي طالب لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى آخر لحظة من عمره الشريف حتّى وقعت العداوة بينه وبين قريش وفقد زعامته ومكانته

٣٠٣

الخاصّة فيها؛ فكانت المقاطعة الظالمة من قريش له ولبني هاشم، وكانت مقاطعة شاملة أضطرّت أبا طالب وبني هاشم إلى دخول شعب أبي طالب ودامت المقاطعة أكثر من سنتين، ضيّقت قريش عليهم أن يصل إليهم أحد أو يدخل إليهم طعام!

إذا كان أبو طالب غير مؤمن ولم يدخل الإسلام؛ فعلام هذا الفداء وتعريض نفسه للقتل لولا سيوف هاشميّة، وعناية إلهيّة؟ فلمّا فشلوا في الترغيب، والوعيد، وكادت المنازلة تقع، ثمّ نكصوا فعمدوا إلى المقاطعة. أما كان له أن يطلب من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكفّ عن تبليغ رسالته ولا يحمّله عنت قريش وطغيانها، وإلاّ فإنّه لم يعد يتحمل مع كبر سنّه ما يجده من القوم ويخلّي بينه وبيهم؟! أم أنت مصدّق مقولة: إنّ أبا طالب كان آخر قوله قبل موته: إنّي على دين عبد المطّلب! وهل كان عبد المطّلب إلّا متألّهاً ذا كرامات أقرب إلى الإعجاز - مرّ ذكر بعضها -؛ وكان لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عبد المطّلب المنزلة التي عرفناها، وكان عبد المطّلب مثل ولده أبي طالب، يعلمان أنّ ابنهما له شأن قادم؛ ولا ندري أن لو أدرك عبد المطّلب الوحي وآمن بنبوّة حفيدة ونصره، هل يجري له ما جرى لأبي طالب من مقاومة وتشكي بل إصرار أنّه مات مشركاً وأنّ آخر ما قاله عند موته: إنّي على دين أبي هاشم؟!

أم أنّك رافضيّ، ترفض الباطل والسفيه من القول، وتقول: إنّ الخوارج النواصب الأوائل من بني أميّة ومن سبقهم، قد وترهم عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وسبقهم إلى كلّ فضيلة وتنزّه عن كلّ شين ونقيصة وكرّمه الله تعالى ممّا هم له عابدون، حتى قيل في حقّه: كرّم الله وجهه؛ وما قيل ذلك في حقّ أحد غيره؛ وزاد عليهم بعصمة أمّه به! وطهارة آبائه وإسلام والده، فبعد تجوال وجدوا مشركي قريش وهم يفاوضون أبا طالب رضي الله عنه بشأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويشكون إليه ما يجدونه منه من سبّ آلهتهم

٣٠٤

وعيب دينهم وتضليل آباءهم...؛ ثمّ قالوا له: وإنّك على مثل ما نحن عليه من خلافه، وطلبوا منه أن يكفّه عنهم، أو يخلّوا بينه وبينهم؛ فردّهم أبوطالب ردّاً جميلاً، فانصرفوا عنه، ومضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على ما هو عليه يظهر دين الله، ويدعو إليه. ثمّ إنّ قريشاً تآمروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين أسلموا يعذّبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله منهم رسوله بعمّه أبي طالب، ودعا بني هاشم وبني المطّلب إلى ما هو عليه من منع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوا إلى ما دعاهم إليه من دفع عن رسول الله، إلّا ما كان من أبي لهب....

فلمّا اجتمعت بنو هاشم وبنو المطّلب معه ورأى أن قد امتنع بهم وأنّ قريشاً لن يعادوه معهم قال أبو طالب، وبادى قومه بالعداوة، ونصب لهم الحرب، فقال:

منعنا الرسول رسول المليك

ببيض تلألأ كلمع البروق

أذبّ وأحمي رسول المليك

حماية حام عليه شفيق

في أبيات أخرى.

فلمّا رأى أبوطالب من قومه ما سرّه من جدّهم معه، وحدبهم عليه جعل يمدحهم ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم، ومكانه منهم، ليشتدّ لهم رأيهم فيه، ليحدبوا معه على أمرهم، فقال أبوطالب:

إذا اجتمعت يوماً قريش لفخر

فعبد مناف سرّها وصميمها

وإن حصلت أشراف عبد منافها

ففي هاشم أشرافها وقديمها

وإن فخرت يوماً فإنّ محمّداً

هو المصطفى من سرّها وكريمها

تداعت قريش غثّها وسمينها

علينا فلم تظفر وطاشت حلومها

٣٠٥

وكنّا قديماً لا نقرّ ظلامةً

إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها

ونحمي حماها كلّ يوم كريهة

ونضرب عن أحجارها من يرومها(١)

إذن: أوّل من نطق بشرك أبي طالب رضي الله عنه: مشركوا قريش، والإناء ينضح بما فيه! فهم في مفاوضة مع أبي طالب من أجل التوصّل إلى طريق ينتهوا عنده للخروج من الحرج الذي سبّبه لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وكلّ طالب حاجة لابدّ له من مقدّمة يسترضي بها من حاجته عنده، فبماذا يخاطب الوفد أبا طالب؟ أيقولون له: وإنّك ونحن من قريش، وهو أمر لا يجهله أبو طالب، ولم يكن النبيّ ببعيد من قريش؛ بل هو في الصميم من علاها كما وصفه عمّه المسدّد أبو طالب أم يقولوا نحن من بني هاشم، وليس فيهم هاشميّ(٢) ؛ فكان أن قالوا: (وإنّك على مثل ما نحن عليه من خلافه) ولم يكن كما قالوا! فقد سبق أبو طالب كلّ عذل أمويّ، ناصبي، تيميّ وهابيّ؛ فإنّه رضي الله عنه قد اختاره عبد المطّلب الأريب دون غيره ليوصيه برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولمّا كانت المهمّة شاقّة ومهمّة؛ فقد اختار لوصيّته بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: (أرجى أهله) وقد بيّن عظيم هاشم وسيّد قريش علّة انتقاءه أبي طالب لهذه الوصيّة؛ فهو رجل حنكته التجارب (وهو ذو تجارب)، ومن تجاربه ما رآه في عفّة ابن أخيه ووفور عقله وما وقع له في صحبته له في بعض الأسفار وإخبار الأحبار والرهبان ما يجدونه في كتبهم بشأن

____________________

(١) سيرة ابن إسحاق: ١٤٨ - ١٤٩.

(٢) في (سيرة ابن إسحاق: ١٤٨) قال: مشى رجال من قريش إلى أبي طالب فيهم: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو سفيان، وأبو البختري، والأسود بن المطّلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل، والعاصي بن وائل، ومنبّه ونبيه ابنا الحجاج؛ فقالوا: يا أبا طالب إنّ ابن أخيك قد سبّ آلهتنا، وعاب ديننا...، فإمّا أن تكفّه عنّا، وإمّا أن تخلي بيننا وبينه فنكفيكه وإنّك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فقال أبوطالب قولاً رفيقاً، وردّ ردّاً جميلاً؛ فانصرفوا.

٣٠٦

ابن أخيه، ومن قبل كان يرى صنع عبد المطّلب أبيه برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفاوته به وإنّه كان يصرّح بأنّه سيكون له شأن؛ ولذلك كان من جوابه لأبيه في شأن الوصيّة ما أقرّ به عينه وأثلج فؤاده، فما محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا وهو أقرب ودّاً إلى نفسه من جميع ولده وهو يقول ذلك بكامل رشده! بل إنّه يرتجي الرشد في ابن أخيه! فهو يتوسّم فيه سيادته لأهل نجد وغلبته للأشدّاء وانتشار دعوته بالأبطح والجبال ومكّة وما جاورها! وهو يذكر أهل نجد؛ فأيّ فقيه أبوطالب بالقبائل، فأهل نجد مناكير، فكان منهم أن نزلت فيهم آيات تترجم أحوالهم وسوء أدبهم مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإغراقهم في الكفر، وأنّهم من الأجدر بهم أن لا يفقهوا حدود الله! وبهم نزلت سورة (الحجرات). ومن أرض الزلازل والفتن نجد؛ كما وصفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن قبائلها، خرج الخوارج - بالمعنى الأخصّ -.

عود على مفاوضة المشركين لأبي طالبعليه‌السلام

لم ينل المشركون من أبي طالب شيئاً، فلم يخدعوه بقولهم: (وإنّك على مثل ما نحن عليه من خلافه)، ليحرّكوا بوهمهم مشاعره فتلين قناته وتخور عزيمته في نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وله الخيار: أن يكفّ النبيّ عن سبّ آلهتهم وعيب دينهم وتسفيه أحلامهم؛ وإمّا أن يتخلّى عنه، فيقضوا عليه!

وبحلمه؛ ردّهم أبوطالب، ولو كان مثلهم كما يزعمون! لـما استدّ في مؤازرة ابن أخيه؛ أليس أبولهب عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ! ولشدّة كفر أبي لهب وكثرة إيذائه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تشركه في ذلك امرأته: أمّ جميل بنت أبي سفيان، أنزل الله تعالى فيهما سورة كاملة (سورة تبّت).

٣٠٧

لم يتخلّ أبوطالب عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يسلمه عند اشتداد المحنة، وأفلح بتوفيقٍ من الله تعالى في جمع بني هاشم وبني المطّلب للدفع عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله و بادى قومه بالعداوة ونصب لهم الحرب؛ فمتى كان شيخ قريش ومؤمنها مع المشركين على ما هم عليه من خلاف لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

وشعره الذي ذكرناه صريح في إيمانه، إذ يقول: منعنا الرسول رسول المليك... وأيضاً: أذّب وأحمي رسول المليك...

وذكرنا شعره الذي جمع فيه فخر قريش في عبد مناف؛ وخلص من عبد مناف فجعل فخرها و شرفها في هاشم؛ وانتهى فخر هاشم ومجدها في محمّد المصطفى؛ فلماذا هذه الحصيلة التي انتهى إليها أبوطالب ولماذا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله عنده خلاصة الفخر والشرف، وماذا يعني عنده الاصطفاء؟

وإن فخرت يوماً فإنّ محمّداً

هو المصطفى من سرّها وكريمها

فإن قلت: المصطفى هنا ليس إلّا الاصطفاء في الفخر و الشرف، لا الاصطفاء الشرعيّ الذي يعني أنّ الله تعالى اصطفى نبيّه على العالمين.

فنقول: لا بأس في ذلك! ولكن لم اجتمع الفخر كلّه في شخص محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكان هو المصطفى؟ فأين قُصيّ وهاشم وعبد مناف وعبد المطّلب؟ ما السرُّ أن بَزّهم؛ وبَزّ الكلَّ أجمعينا محمّد المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! وإذا كان كذلك، فهو أعلى شأناً من عمّه «أبوطالب»! بإقرار عمّه. فما السرّ أن ارتقى المصطفى هذا المرتقى؛ والنسب واحد، فهم في دَوْحة العلياء ومنتهى الفخر من قريش؛ وهم أبناء الزواكي العواتك والفواطم ممّن لم يُسْهِم فيهنّ فاسقٌ وفاجر. هذا بشأن النسب فلم يبق إلّا السبب: وهو النُّبوّة. فنبيّنا أشرف الخلق أجمعين وسيّد الأنبياء والمرسلين صلّى الله عليه وآله وعليهم أجمعين.

٣٠٨

وليت عبد المطّلب رضي الله عنه أدرك نبوّته ليؤمن به ويصدّقه ويؤازره إذا كان يفسّر احتفاءه به بأنّه سيكون له شأن. ولم يخيب ظنّه بولده أبي طالب إذ أوصى إليه برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فكان الولد على سرّ أبيه، فقد أوقف عمره الشريف في نصرة الرسول والرسالة، ومن الإنصاف أن نعود إلى سيّد قريش حتّى آخر عمره: عبد المطّلب؛ فمن ذلك: قال مطرود بن كعب الخزاعيّ يبكي عبد المطلب وبني عبد مناف:

يا أيّها الرجل المحوّل رحله

هلاّ سألت عن آل عبد مناف

هبلتك أمّك لو حللت بدارهم

ضمنوك من جرم ومن إقراف(١)

الخالطين غنيّهم بفقيرهم

حتّى يعود فقيرهم كالكافي

المنعمين إذا النجوم تغيّرت

والظّاعنين لرحلة الإيلاف

والمطعمين إذا الرياح تناوحت

حتّى تغيب الشمس في الرّجّاف(٢)

إمّا هلكت أبا الفعال فما جرى

من فوق مثلك عقد ذات نطاف

إلاّ أبيك أخي المكارم وحده

والفيض مطّلب أبي الأضياف(٣)

وقال حذيفة بن غانم أخو بني عديّ بن كعب بن لؤيّ، يبكي عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف، ويذكر فضله وفضل قصيّ على قريش، وفضل ولده من بعده عليهم، والقصيدة طويلة؛ نذكر جلّها، لمضامينها، قال:

____________________

(١) هبلتك: فقدتك. وهوعلى جهة الإغراء لا الدعاء. والإقراف: مقاربة الهجنة. أي منعوك من أن تنكح بناتك وأخواتك من لئيم فيكون الابن مقرفاً للؤم أبيه وكرم أمّه، فيلحقك وصم من ذلك.

(٢) تناوحت: تقابلت. والرجاف - هنا -: البحر.

(٣) السيرة النبويّة، لابن هشام ١: ١٨٨ - ١٨٩. (يريد أنّه كان لأضيافه كالأب. والعرب تقول لكلّ جواد: أبو الأضياف).

٣٠٩

أعينيّ جودا بالدموع على الصّدر

ولا تسأما أسقيتما سبل القطر(١)

وجودا بدمع واسفحا كلّ شارق

بكاء امرئ لم يشوه نائب الدهر(٢)

على الماجد البهلول ذي الباع والندى

ربيع لؤيّ في القحوط وفي العسر(٣)

على خير حاف من معدّ وناعل

كريم المساعي طيّب الخيم والنّجر(٤)

وخيرهم أصلاً وفرعاً ومعدناً

وأحظاهم بالمكرمات وبالذّكر

على شيبة الحمد الذي كان وجهه

يضيء سواد الليل كالقمر البدر

وساقى الحجيج ثمّ للخير هاشم

وعبد مناف ذلك السيّد الفهري

طوى زمزماً عند المقام فأصبحت

سقايته فخراً على كلّ ذي فخر

ليبك عليه كلّ عان بكربة

وآل قصيّ من مقلّ وذي وفر(٥)

بنوه سراة كهلهم وشبابهم

تفلّق عنهم بيضة الطائر الصّقر(٦)

قصيّ الذي عادى كنانة كلّها

ورابط بيت الله في العسر واليسر

فإن تك غالته المنايا وصرفها

فقد عاش ميمون النّقيبة والأمر(٧)

وأبقى رجالاً سادةً غير عزّل

مصاليت أمثال الرّدينيّة السّمر(٨)

____________________

(١) السبل: المطر.

(٢) كل شارق: أي عند طلوع الشمس كلّ يوم؛ ولم يشوه:لم يخطئه.

(٣) البهلول: السيّد. وذي الباع: الجود والكرم والعطاء.

(٤) النجر: الأصل.

(٥) العاني: الأسير.

(٦) سراة: خيار.

(٧) النقيبة: النفس. وميمون النقيبة: منجح الفعال مظفر المطالب.

(٨) عزّل: جمع أعزل غير رامح. مصاليت: شجعان. الردينية: الرماح.

٣١٠

كهولهم خير الكهول ونسلهم

كنسل الملوك لا تبور ولا تحري(١)

هم ملئوا البطحاء مجداً وعزّةً

إذا استبق الخيرات في سالف العصر

وفيهم بناة للعلا وعمارةً

وعبد مناف جدّهم جابر الكسر

فسرنا تهاميّ البلاد ونجدها(٢)

بأمنه حتّى خاضت العير في البحر

وهم حضروا والناس باد فريقهم

وليست بها إلّا شيوخ بني عمرو(٣)

بنوها دياراً جمة وطووا بها

بئاراً تسحّ الماء من ثبج بحر(٤)

لكي يشرب الحجّاج منها وغيرهم

إذا ابتدروها صبح تابعة النّحر

وهم يغفرون الذنب ينقم دونه

ويعفون عن قول السّفاهة والهجر(٥) (٦)

رثاء بنات عبد المطّلب أباهنّ

رثت بنات عبد المطّلب أباهنّ، فقالت صفيّة تبكي أباها عبد المطّلب:

أرقت لصوت نائحة بليل

على رجل بقارعة الصّعيد

ففاضت عند ذلكم دموعي

على خدّي كمنحدر الفريد(٧)

على رجل كريم غير وغل(٨)

له الفضل المبين على العبيد

____________________

(١) لا تبور: لا تهلك. ولا تحري: لا تنقص.

(٢) يريد ما انخفض منها وما علا.

(٣) شيوخ بني عمرو: يريد بني هاشم، لأنّ اسمه عمرو.

(٤) ثبج كلّ شيء: معظمه.

(٥) الهجر: القبيح من الكلام الفاحش.

(٦) السيرة النبويّة، لابن هاشم ١: ١٨٤ - ١٨٧.

(٧) الفريد: الجوهر، والدرّ.

(٨) الوغل: الضعيف النذل الساقط المقصّر في الأشياء.

٣١١

على الفيّاض شيبة ذي المعالي

أبيك الخير وارث كلّ جود

صدوق في المواطن غير نكس

ولا شخت المقام ولا سنيد(١)

طويل الباع أروع شيظميّ(٢)

مطاع في عشيرته حميد

رفيع البيت أبلج ذي فضول

وغيث الناس في الزمن الحرود(٣)

كريم الجدّ ليس بذي وصوم(٤)

يروق على المسوّد والمسود

عظيم الحلم من نفر كرام

خضارمة ملاوثة أسود

فلو خلد امرؤ لقديم مجد

ولكن لا سبيل إلى الخلود

لكان مخلّداً أخرى الليالي

لفضل المجد والحسب التّليد

فصفيّة بنت عبد المطّلب تبكي أباها شيبة المعالي، فتذكر مناقبه ولا تقول إلّا حقّاً! فمن ينكر عبد المطّلب في فضل نسبه وكريم طباعه، وحاشاه أن يقرن بأميّة وحرب فيكون وغلاً! ولا هو بضعيف الرأي هزيل البدن، إنّما هو الرجل الذي أمر الملك به ليستقي لقومه إذ أصابتهم السنة، وأعطى صفاته وقد ذكرناها؛ فجمع الله تعالى له جمال الخلق والخلق، فكان من خلقه الصدق كما جاء في سيرته وذكرتها ابنته صفيّة، ومن خلقه الجود والكرم فسمّي الفيض والفيّاض؛ وللصفات التي اجتمعت في عبد

____________________

(١) النكس: الرجل الضعيف الذي لا خير فيه. والشخت: الدقيق الضامر أصلاً لا هزالاً. والسنيد: الضعيف الذي لا يستقلّ برأيه حتّى يسند رأيه إلى غيره.

(٢) الشيظمي: الفتى الجسيم.

(٣) الحرود: الناقة القليلة الدرّ، شبّه الزمن في جدبه بها.

(٤) الوصوم: جمع وصم، وهو العار.

(٥) الخضارمة: جمع خضرم، وهو الجواد المعطاء والسيد الحمول. والملاوثة: جمع ملواث، من اللوثة، وهي القوّة.

٣١٢

المطّلب؛ فهو أولى بالخلود لو كان في هذه الدنيا خلود. هذا قول صفيّة بنت عبد المطّلب بحقّ أبيها.

ورثته ابنته برّة بنت عبد المطّلب، فقالت تبكيه:

أعينيّ جودا بدمع درر

على طيّب الخيم والمعتصر(١)

على ماجد الجدّ واري الزّناد

جميل المحيّا عظيم الخطر

على شيبة الحمد ذي المكرمات

وذي المجد والعزّ والمفتخر

وذي الحلم والفصل في النّائبات

كثير المكارم جمّ الفجر(٢)

له فضل مجد على قومه

منير يلوح كضوء القمر

أتته المنايا فلم تشوه(٣)

بصرف الليالي وريب القدر

عاتكة: وقالت عاتكة بنت عبد المطّلب تبكي أباها:

أعينيّ جودا ولا تبخلا

بدمعكما بعد نوم النّيام

أعينيّ واسحنفرا واسكبا

وشوبا بكاءكما بالتدام(٤)

أعينيّ واستخرطا واسجما

على رجل غير نكس كهام(٥)

على الجحفل الغمر في النائبات

كريم المساعي وفي الذّمام(٦)

____________________

(١) الخيم: السجية والطبيعة. ومعنى كونه طيب المعتصر، أنّه جواد عند المسألة.

(٢) الفجر: العطاء، والكرم والجود، والمعروف؛ والمال وكثرته.

(٣) لم تشوه: لم تصب الشوى وهي الأطراف، بل أصابت المقتل.

(٤) اسحنفر المطر وغيره: كثر صبّه. والالتدام: ضرب النساء وجوههن في النياحة.

(٥) استخرط في البكاء: لجّ فيه. والكهام: الرجل الكليل المسنّ. فهو ليس بنكس أي ضعيف ولا كليل.

(٦) الجحفل: الرجل العظيم. الغمر: الكريم الواسع الخلق.

٣١٣

على شيبة الحمد واري الزّناد

وذي مصدق بعد ثبت المقام

وسيف لدى الحرب صمصامة

ومردي المخاصم عند الخصام

وسهل الخليقة طلق اليدين

وفي عد مليّ صميم لهام(١)

تبنّك في باذخ بيته

رفيع الذّؤابة صعب المرام(٢) (٣)

وقالت أم حكيم البيضاء بنت عبد المطّلب تبكي أباها:

ألا يا عين جودي واستهلّي

وبكّي ذا النّدى والمكرمات(٤)

ألا يا عين ويحك أسعفيني

بدمع من دموع هاطلات

وبكّي خير من ركب المطايا

أباك الخير تيّار الفرات(٥)

طويل الباع شيبة ذا المعالي

كريم الخيم محمود الهبات

وصولاً للقرابة هبرزيّا

وغيثاً في السنين الممحلات(٦)

وليثاً حين تشتجر العوالي

تروق له عيون الناظرات(٧)

عقيل بني كنانة والمرجّى

إذا ما الدهر أقبل بالهنات(٨)

ومفزعها إذا ما هاج هيج

بداهية وخصم المعضلات(٩)

____________________

(١) العدملي: الضخم. واللهام الكثير الخير.

(٢) تبنّك: تأصّل، من البنك، وهو أصل الشيء وخالصه. تريد أنّ بيته تأصل في باذخ من الشرف.

(٣) السيرة النبويّة، لابن هشام ١: ١٨٠ - ١٨١.

(٤) استهلّيّ: أظهري البكاء. بكّي: إبكي عليه.

(٥) التيّار: معظم الماء. والفرات: الماء العذب.

(٦) الهبرزي: الجميل الوسيم، وأيضاً الحاذق في أموره.

(٧) تشتجر: تختلط. العوالي: الرماح. تريد حين تجدّ الحرب.

(٨) عقيل القوم: سيّدهم. الهنات: جمع هنة، كناية عن القبيح.

(٩) مفزعها: ملجؤها والهَيج: الحرب.

٣١٤

فبكّه ولا تسمى بحزن

وبكّي، ما بقيت الباكيات(١) (٢)

وقالت أميمة بنت عبد المطّلب تبكي أباها:

ألا هلك الرّاعي العشيرة ذو الفقد

وساقي الحجيج والمحامي عن المجد(٣)

ومن يؤلف الضيف الغريب بيوته

إذا ما سماء الناس تبخل بالرعد(٤)

كسبت وليداً خير ما يكسب الفتى

فلم تنفكك تزداد يا شيبة الحمد

أبو الحارث الفيّاض خلى مكانه

فلا تبعدن فكلّ حيّ إلى بعد

فإنّي لباك ما بقيت وموجع

وكان له أهلاً لـما كان من وجدي

سقاك وليّ الناس في القبر ممطراً

فسوف أبكّيه وإن كان في اللّحد

فقد كان زيناً للعشيرة كلّها

وكان حميداً حيث ما كان من حمد(٥)

هل يعني كلام أميمة: (سقاك وليّ الناس في القبر ممطراً) أنّها على نهج أبيها عبد المطّلبعليه‌السلام ، من توحيده، واعتقاد بعالم البرزخ؟ فأين أبوطالبعليه‌السلام عن هذا المعتقد وهو من ذوي الحجى؟!

وقالت أروى بنت عبد المطّلب تبكي أباها:

بكت عيني وحقّ لها البكاء

على سمح سجيّته الحياء(٦)

____________________

(١) ولا تسمى: أي لا تسأمي.

(٢) السيرة النبويّة، لابن هشام ١: ١٨١ - ١٨٢.

(٣) في سيرة ابن إسحاق:... راعي العشيرة ذو العقد = وساقي الحجيج المحامي عن الحمد

(٤) في سيرة ابن إسحاق: ومن يؤلف الجار الغريب لبيته = إذا ما سماء البيت تبخل بالرعد

(٥) السيرة النبويّة، لابن هشام ١: ١٨٢.

(٦) السجية: الطبيعة.

٣١٥

على سهل الخليقة أبطحيّ

كريم الخيم نيّته العلاء(١)

على الفيّاض شيبة ذي المعالي

أبيك الخير ليس له كفاء(٢)

طويل الباع أملس شيظميّ

أغرّ كأنّ غرّته ضياء(٣)

أقبّ الكشح أروع ذي فضول

له المجد المقدّم والسّناء(٤)

أبيّ الضّيم أبلج هبرزيّ

قديم المجد ليس له خفاء(٥)

ومعقل مالك وربيع فهر

وفاصلها إذا التمس القضاء(٦)

وكان هو الفتى كرماً وجوداً

وبأساً حين تنسكب الدماء

إذا هاب الكماة الموت حتّى

كأنّ قلوب أكثرهم هواء(٧)

مضى قدماً بذي ربد خشيب

عليه حين تبصره البهاء(٨)

هذا هو عبد المطّلب المتألّه المتحنّث الفيّاض أبيّ الضّيم لا يظلم جاره ولا يسلم من استجاره. أبلج أغرّ أروع معرق في المجد، نقيّ الثوب يستسقى الغمام به وبحفيده ميمون النقيبةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ويعطيه الله تعالى زمزم، فهي له من دون قريش! فإذا نافروه، ورأى القوم لا يعقلون إلّا ذلك! وافقهم، وفي الصحراء إذا نضب ماؤه وماء أصحابه؛

____________________

(١) أي من قريش البطاح، وهم الذين ينزلون بين أخشبي - أي جبلي مكّة.

(٢) الكفاء: المثل.

(٣) شيظميّ: من صفات الجمال، وقد مرّ تفسيره. وأيضاً: المقول الفصيح. وأغرّ: ذا حسن، وغرّته: طلعته ووجهه.

(٤) أقبّ: ضامر. والكشح: الخصر. والأروع: من يعجبك بحسنه، ومنظره وشجاعته.

(٥) هبرزي: مرّ تفسيره، وأبيّ الضّيم: لا يقبل الظلم.

(٦) الفاصل: الذي يفصل في الخصومات.

(٧) الكماة: الشجعان، واحدهم: كمي.

(٨) السيرة النبويّة، لابن هشام ١: ١٨٢ - ١٨٣.

٣١٦

أبت قريش إلّا لؤماً، فامتنعت أن تسقيه قطرةً، ففجر الله له عيناً عذباً شرب منه وجماعته، وابت نفسه إلّا تكرّماً فدعى قريشاً فشربوا وسقوا، وعلموا أنّ هذا أمراً أراده الله سبحانه لعبد المطّلب كرامةً له، فاكتفوا بذلك وتركوا المنافرة ورجعوا وخلّوا بين عبد المطّلب وزمزم. ومثل ما جرى بينه وبين قريش؛ فقد نافرته ثقيف، وحدث له نفس الأمر، وفجّر الله له ماءً عذباً في صحراء قاحلة، وفعل الفيّاض معهم مثل ما فعل مع قريش....

ولقد تركنا من أخبار عبد المطّلبرضي‌الله‌عنه كثيراً، مثل هجوم أبرهة الحبشي لخراب الكعبة وقصّة عبد المطّلب معه، وحروبه واستنصاره بأخواله، وغير ذلك.

وقد كتبنا شيئاً عن عبد المطّلب لـما حملنا التأمّل في مسألة المنافرة التي هي ليست من شأن عبد المطّلب، وقلنا: إنّنا إذ نقول هذا وإنّما إنْ ثبت فلأنّ الطرف الآخر سبيله المنافرة فإن أبى عبد المطّلب قيل: غلبت؛ فإنّ إبراهيم الخليلعليه‌السلام لـمّا قال لقومه بشأن الكواكب: هذا ربّي، فلمّا أفل؛ قال: هذا ربّي؛ وهكذا من نجم إلى آخر؛ إلى أن قال: لا أحبّ الآفلين؛ إنّما أراد أن يقيم الحجّة عليهم إذ كانوا يعبدون الكواكب. فأثبت لهم أنّها مخلوقة مأمورة لله تعالى.

ذهب عبد المطّلب، كما يقولون، فثابت قريش إلى رشدها وهي ترى كرامته شبه المعجز مع عظيم خلقه وهو عليها ليس بجديد، فرجعت عن المنافرة. وأمّا ثقيف وقد ذكرنا قصّته معهم وهم قوم مناكير، فأبوا مع ما رأوا ما أعطى الله تعالى عبد المطّلب من كرامة نبع الماء، إلّا مواصلة المسيرة لإجراء المنافرة، فغلبهم مؤمن قريش عبد المطّلبرضي‌الله‌عنه.

٣١٧

أبوطالب يخلّد ذكر أبيه

انتهت إلى أبي طالب الزعامة الكبرى لا عن كلالة! وإنّما لصفات اجتمعن فيه دون غيره؛ فورث بذلك آباءه عبد المطّلب وهاشم وعبد مناف؛ من غير ثروة يضارع بها أخوته سيّما (أبو لهب) لعنه الله؛ عظيم المال، كاسد البضاعة! لم يكتف بتكذيب ابن أخيه في رسالته، وإنّما أمعن في إيذاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعنيه في ذلك (أمّ جميل بنت حرب) زوجته، أخت أبي سفيان صخر بن حرب.

فلقد كان لأبي طالبرضي‌الله‌عنه من الحنكة وقوّة النفس والخلق الرفيع ما فرضه زعيم مكّة لا يعدل به ولا يعدل عنه.

كان له علم ورأي وقوّة نفس لا تتضعضع إذا شدّت الأمور حيازيمها وقد رأيناه كيف صرف عتاة الوفد المفاوض بشأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد وضعوه أمام خيارين: إمّا أن يكفّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تبليغه الرسالة؛ وإمّا أن يتخلّى عنه فيتولّون الإجهاز عليه وإنهاء أمره؛ وبحمله ووفور عقله، صرفهم صرفاً جميلاً حتّى يدبّر أمره، فعقد الحلف بين بني هاشم وبني المطّلب - كما ذكرنا - لنصرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فلمّا استوثق من الحلف مدحهم بما ذكرناه، وبادى أبو طالب قريشاً العداوة، وانطلق النبيّ في مسيرته.

وممّا يسجّل لأبي طالب من مقوّمات السيادة: أنّه حرذم على نفسه الخمر والموبقات، ودرج طوال حياته لم يؤخذ عليه قول ولم ينتقص بفعل ولم يذمّم بعهد. وسنّ القسامة فأقرّها الإسلام(١) .

ومن جواب لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام إلى ابن هند معاوية على كتاب

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٣: ٤٦١. (والقسامة: مال الصدقة لأنّه يقسم على الضعفاء. وأيضاً الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادّعوا الدم).

٣١٨

كتبه إليه: (ليس أميّة كهاشم، ولا حرب كعبد المطّلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب؛ ولا المهاجر كالطليق ولا المحقّ كالمبطل. وفي أيدينا فضل النبوّة التي أذللنا بها العزيز، وأعززنا بها الذليل)(١) .

فأميرالمؤمنينعليه‌السلام لا يقول إلّا حقّاً؛ وإلاّ لما قرن الله تعالى ولايته بولايته عزّ وجلّ وولاية رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في آية الولاية(٢) .

ولا نعرف بيتاً طهّره الله فعصمه إلّا أصحاب الكساء: محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ وفاطمة والحسن والحسينعليهما‌السلام ؛ وبهم خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يباهل نصارى نجران فأعجزهم بهم؛ وكانت تلك الوجوه المقدّسة معجزة النبيّ يومئذ ولو كان في الأمّة أفضل منهم لخرج يباهل به! وقد خلّد القرآن المجيد الواقعة في آية المباهلة. فكان ابن أبي طالبعليه‌السلام عليّ نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فمن يضاهي، بل يداني، بل... نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! وابناه ابني رسول الله؛ ونساؤه نساء النبيّ صلّى الله عليه وعليهم؛ وهم عدل القرآن؛ والقرآن معصوم؛ فهمعليهم‌السلام لهذا وما تقدّم وغيره من الأدلّة معصومون.

ففي المعيار والموازنة من جواب أميرالمؤمنين، فليس أميّة من يقرن بهاشم، ولا حرب بعبد المطّلب، ثمّ يوصل الكلام فلا يقطعه! فإنّ أبا سفيان صخر بن حرب وقد أظهر الإسلام قسراً، لا يقرن بأبي طالب؛ ومثل عليّ لا تجنح به عاطفة فيقول باطلاً، وإلاّ لأجابه معاوية وقال: إنّك فخرت بمن مات مشركاً وأبي مات مسلماً وإن كنت وإيّاه من الطّلقاء، فبماذا فضّل عليّ أباه على أبي سفيان؛ بل إنّ استعماله لفظ النفي (ليس) والمثيلة والتشبيه (حرف الكاف) أبلغ من التفضيل؛ ففي الثانية مشتركات مع

____________________

(١) وقعة صفّين: ٤٧١.

(٢) المائدة: ٥٦ - ٥٧.

٣١٩

تقديم و ترجيح. أمّا الأوّل فليس فيه مشتركات فهاشم غير أميّة في الخير كلّه وكذلك عبد المطّلب وأخيراً أبوطالب. ولـمّا فرغ من الآباء، تحوّل إلى الأبناء: فمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّد الأنبياء والرّسل ورسالته أشرف الرسالات وخاتمتها، بلّغها أحسن تبليغ؛ وضرب عليّعليه‌السلام خراطيم الشرك وعتاة الكفر وشياطينهم؛ فذلّ متكبّر عنيد إذ صُعِّر خدّه صريعاً بعد عزٍّ موهوم! وعزّ ذليل مستضعف مستعبد.

وقد خاب من افترى! فليس خال المؤمنين - كذا - الطليق ابن الطليق ممّن دخلوا الإسلام رهباً، وخرجوا منه رغباً؛ ليس مثل ابن هند أن يقرن بوليّ الله وسيفه المسلول، أوّل من أسلم، الصدّيق الأكبر وفاروق الأمّة نجيّ رسول الله وصفيّه وحواريّه وباب علمه وابن عمّه، زوج ابنته الطاهرة التي انتهت ذريّة رسول الله إليها؛ فكان النبيّ والوصيّ أبويّ هذه الأمّة، إلّا النواصب والخوارج.

وليس مثل عليّعليه‌السلام مَن يلقي الكلام على عَوَاهِنه ويَهْجُر - حاشا له - وهو الّذي سنّ لقريش الفصاحة بإقرار ابن هند؛ وورعه وتقواه يصدّانه أن يقول غير الحقّ؛ فهوعليه‌السلام إذ يشهد لنفسه بالحقّ ولمعاوية بالباطل؛ برهان ساطع ودليل قاطع في ذلك وأنّ معاوية ما صحّ منه إسلام منذ أن كفر. وقد ذكرنا قوله للمغيرة بن شعبة إذ حاوره بشأن بني هاشم؛ فراح ابن هند يذكر أبابكر، وعمر، وعثمان؛ ويعقّب: فهلك وهلك ذكره؛ وختم أن قال: وأنّ أخا بني هاشم يصاح به في كلّ يوم خمس مرّات: أشهد أنّ محمّداً رسول الله؛ فأيّ عمل يبقى بعد هذا، لا أمّ لك؟! إلّا دفناً دفناً!(١)

وابن هند لا يستحي أن يعلن حقيقة قتاله لأهل العراق، فهو ينسب إلى امرأة؛ وتره الإسلام على يد فتى الإسلام عليّعليه‌السلام في معركة واحدة؛ وهو ربيب رجل عاهر اقترن

____________________

(١) كشف الغمّة ٢: ٤٤، كشف اليقين: ٤٧٤ - ٤٧٥.

٣٢٠