شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 182521
تحميل: 4444

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182521 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

اسمه به فصار ينسب إليه، وأمر الدعوى والاستلحاق في هذا البيت من خصوصياته! كما هو حال كثرة البغايا وذوات الرايات.

ومضى الكثير في ذكر هند، ومعاوية، مروراً بأبي سفيان؛ وحط الرحل عند أميّة؛ وإن تعدّاه الكلام إلى عبد شمس بن عبد مناف، فوجدناه خامل الذكر، كلاًّ على فخر قريش في زمانه (هاشم)، ومن موبقاته - عبد شمس -: أنّه استلحق عبده الروميّ (أميّة) حتّى صار أميّة بن عبد شمس. ومضت السّنّة؛ فقد استلحق أميّة عبده ذكوان وسمّاه أبا عمرو وتنازل له عن زوجته، فزوّجه إيّاها.

وبغضّ النظر عن صحّة النسب وعدمه، والأخذ بالسبب، فإنّ فرع آل أبي معيطة الذين حذّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تسليطهم على رقاب المسلمين؛ فسلّطهم عثمان! فكان ذلك واحداً مهمّاً من أسباب نقمة الأقطار الإسلاميّة عليه فإنّ هذا الفرع راح يباري الأصل من الشجرة الملعونة في ميادين الرذيلة....

بعدنا عن القصد: فقد ذكرنا أنّ ابن هند لا يستحي أن يعلن حقيقة قتاله لأهل العراق.

عن سعيد بن سويد قال: صلّى بنا معاوية بالنّخيلة(١) الجمعة في الضّحى، ثمّ خطبنا فقال: ما قاتلتكم لتصوموا ولتصلّوا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، قد عرفت أنّكم تفعلون ذلك، ولكن إنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون(٢) .

وكيف يستحي من هذا القول ابن امرأة وترتها سيوف الإسلام، وكان السهم الأوفر لأميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالبعليهما‌السلام ، ذكرنا تفصيله في غير الموضع. وذكرنا

____________________

(١) النّخيلة: موضع قرب الكوفة على سمت الشام. معجم البلدان ٥: ٢٧٨.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٢٥: ٤٣.

٣٢١

شيئاً من سوء سيرته وسيرة أبي سفيان ربيبه! من سرقة وزنىً وقبل الرجوع إلى أخبار مؤمن قريش أبي طالب، ذكر بعض نوادر أخبار ابن هند.

المدائني عن عبد الله بن فائد وغيره قال: أراد معاوية ابتياع ضيعة من بعض اليهود، وذكرت له، فبعث إلى صاحبها فأتي به، وهو شارب نبيذ، فلمّا رآه معاوية طمع في غبنه، فقال له: بعني ضيعتك، فضحك اليهودي وقال: ليس هذا وقت بيع ولا شراء، ولكن إن شئت غنّيتك صوتاً، فضحك معاوية وقال: أللّهم أخزه فما أشدّ عقدته، وأثبت عكدته!(١)

إنّما الخزاية لمن يتربّص بالآخرين ليختلسهم، إلّا أنّ اليهوديّ خيّب ابن هند ما أمّل إذ لم يكن النبيذ قد أخذ منه مأخذه فيغلبه!

ثور وبعير: إنّ طمع ابن هند بما في أيدي الناس، أرداه في الدنيّات وتوجّه أميراً للخوارج النواصب وامتدّت إمارته إلى الناقص...، وسيحشر كلّ مع وليّه وإمامه في هذه الدنيا.

المدائني عن عليّ بن مجاهد عن عبد الأعلى بن ميمون بن مهران عن أبيه أنّ معاوية قال لعمرو بن العاص: أحبّ أن تصفح لي عن الوهط(٢) ، ضيعتك، فقال: أحبّ أن تعرض لي عنها، قال: لا، فأبي عمرو أن يفعل، فقال معاوية: مثلك يا عمرو كمثل ثور في روضة، إن ترك رتع، وإن هيج نطح، فقال عمرو: ومثلك مثل ثور في روضة يصيب من أخلاط الشجر فيها، فرأى شجرةً على صخرة زلاّء، فرغب عمّا هو فيه وتعاطى الشجرة فتكسّر!(٣)

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٧٢ - ٧٣. والعكدة: الغاية والقوّة.

(٢) الوهط: بستان ومال كان لعمرو بن العاص بالطائف... كان يعرش على ألف ألف خشبة. شراء كلّ خشبة درهم. القاموس.

(٣) نفس المصدر السابق: ٧٥.

٣٢٢

وعن مسلمة بن محارب قال: كان معاوية معجباً بجارية له، فدخل عليه يزيد يوماً وهي جالسة على السرير، ومعاوية على الأرض وفي يدها قضيب تلويه على رأسه، فقال يزيد: أو هذا أيضاً؟! وهمّ بها، فبادرت فدخلت بيتاً، فقال معاوية: ويحكِ شُدّي لِزاز الباب دونه، وأراد دفعَ الباب فنهاه معاوية، ثمّ قال: من يعذرنا من هذا، يدخل علينا ويضرب جوارينا، ارجع يا بنيّ فإنّ الجواري لُعُبٌ، والرجل في بيته مع أهله بمنزلة الصبيّ، فاستحيا يزيد وخرج.

وأيّ شيء لا يعجب ابن هند فيشتهيه؟ إن كانت ضيعة ليهوديّ، أو لوزيره ابن النابغة أو بعيراً لامرأة فيسرقه هو وزوج أمّه أبوسفيان؛ أو سواقط النساء ومن دناءته أن يعاشر فارسيّة فإذا مرّت به جارية سوداء، ترك الفارسيّة وعاشر السوداء فإذا عاد إلى الأولى سألها عن اسم الأسد بالفارسيّة فقالت: (كفتار) ويعني الضبع الأعرج، فخرج يفخر على قومه ويقول: أنا الكفتار فسخروا منه. ويبدو أنّه (ساديّ) النزعة في الجنس! وهي ملمح من ملامح الانحطاط الغربيّ، إذ مارس بعضهم وضعاً شاذّاً بان يتعرّى فتضربه الممارسة أسواطاً موجعة ربّما أدمته! ومن ثمّ يمارس الجنس بخشونة! ولولا الناقص وفضوله إذ دخل على أبيه متواضعاً على الأرض بين يدي جاريته وهي تقرع رأسه بالسّوط؛ لربّما ترك السوط آثاراً في ظهره وبطنه التي شملتها دعوةُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا تشبع، فكان يأكل ولا يشبع حتّى مات.

عمر يخالف قوله في تولية ابن هند

عن عمر قال: هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثمّ في أهل أحد ما بقي منهم أحد، وفي كذا وكذا، وليس فيها الطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء(١) .

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٢٥: ٤٢.

٣٢٣

والأمر محيّر! فعمر يقول ذلك ثمّ يطلق يد معاوية في الشأم، وكان ابن هند مثار إعجابه، يسمّيه كسرى العرب! ولهند موضع خاصّ من عمر، فإنّ معاوية في أوّل مرّة جاء بها من الشأم إلى المدينة المنوّرة، بدأ بعمر، فسأله عن حاله وبمن بدأ في مجيئه هذا؟ فلمّا أعلمه أنّه به بدأ؛ قال له: لا، اذهب وابدأ بهند!

وتطول أخبار ابن هند، وأخبار الأوائل، فنذكر هذا الخبر لنرجع إلى قصدنا:

قال الأسود بن يزيد: قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخلافة؟! قالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البرّ والفاجر؛ وقد ملك فرعون أهل مصر أربع مائة سنة(١) .

ما هكذا تورد الإبل يا عائشة، فإنّ الله تعالى لا يرتضي الفاجر سلطاناً فيكون شريكاً له في ظلم العباد وإفساد البلاد - حاشا لله ذلك -، ولا ندري أنّ قولك هذا عن جهل بالأمور فتعذرين؛ أم لأنّك رايتي أباك قد بعث يزيد بن أبي سفيان في قادة فتح الشام وكان معاوية بن هند يحمل رايته، فلمّا مات يزيد عهد إلى معاوية، وتوفي أبوبكر وهو عنه راض؛ فلمّا تولّى الأمر عمر وكان مفتتناً بابن هند، أفرده بالشام؛ ثمّ كان قتالك لعليّعليه‌السلام يوم البعير، فعجزتي وظفر بكِ ولو شاء لقتلكِ ومروان ومن معه من بني أميّة ولكنّه أنعم فأنتم الطّلقاء! ولـمّا سُئلتِ عن مسيرك هذا؟ قلتِ: قدَرُ الله وكان قدَرُ الله مقدوراً! فأنتِ جبريّة تردّين منكرات العباد إلى الله الذي حرّمها وأنذر بالعقاب عليها.

أمّا قولكِ في معاوية، فالأصل فيه قتاله لخصمكِ أمير المؤمنينعليه‌السلام ومع ذاك: نستفيد من مقالها أنّ ابن هند فاجر، إذ في طرفي المعادلة بَرٌّ وفاجر؛ وخير البريّة وأوّل

____________________

(١) نفس المصدر السابق.

٣٢٤

القوم إسلاماً، من كرّم الله وجهه، زوج البتول أخو الرسول ووصيّه وأبو سبطيه، نفس رسول الله وخاصّته المعصوم بصريح القرآن في آية التطهير، والثقل الثاني بعد القرآن...؛ والطرف الثاني: ابن هند، فهو بها يعرف، سيرته تطول، متقلّب في الكفر والنفاق والغدر معروف بشتّى الموبقات، غير رضيٍّ إلّا لدى خارجيٍّ ناصبيّ.

فمن هذا: أفادنا قول عائشة: أنّ الفاجر الذي مثّلت له بفرعون هو ابن هند.

بقيّة أخبار أبي طالب

جرى الكلام عن إيمان أبي طالبرضي‌الله‌عنه، وقد قامت الأدلّة الساطعة على عمق إيمان أبي طالب وجهاده؛ وقبل ذكر أخباره الأخرى وأشعاره التي منها نقرأ شخصيّة أبي طالب، نقول: للمبادئ والعقائد أحكام لا تقبل معها شفاعة قرابة ولا وساطة رحم، فلو اختلف الآباء والأبناء في شيء من ذلك لتناحروا من أجله واستباحوا كلّ محرم من عقوق ودم وجفاء، وذكرنا من قبل: أنّ أبا لهب مثل أبي طالب في صلة الرحم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو عمّه، إلّا أنّه كان من أعتى أعداء رسول الله، وأمّا أبو طالب، فإنّه كان يصف ابن أخيه فيقول: (إنّه الحليم الأمين الطاهر)(١) . وكان يقول لرسول الله: (والله لا أسلمتك ما كنت حيّاً حتّى يتمّ الذي تريد) ثمّ يلتفت إلى ولده عليّ فقال: (أمّا أنت يا بني، فما بك رغبة عن الدخول فيما دخل فيه ابن عمّك)(٢) .

إنّ أباطالب في كلّ موطن، يصف ابن أخيه ويقرّ له بالنبوّة. لمسنا ذلك منه إذ أوصاه أبوه عبد المطّلب برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد عرفنا جوابه لأبيه وأنّه غنيّ عن الوصيّة لأنّه حقّ لازم وما ذلك إلّا لأنّه يتفرّس فيه مثل ما يتفرّس هو فيه من طلائع النبوّة

____________________

(١) أنساب الأشراف ١: ١٢٧.

(٢) نفس المصدر السابق: ١٢٦.

٣٢٥

والسّؤدد. فآزره وتحمّل كلّ أذىً. وها هو يصفه بصفات الأنبياء: فهو الحليم، ومن قبل وصف الله تعالى نبيّه إبراهيم الخليلعليه‌السلام بأنّه أوّاهٌ حليم. وهو الأمين الذين عرفته قريش فكانت تودع عنده ودائعها وتسمّيه الصادق الأمين، فلمّا صدع برسالة ربّه لم تثب إلى رشدها! فتقول: هذا ابننا نسمّيه الصادق لكثرة صدقه ولم نسجّل عليه كذبةً قطُّ ولا خطلةً في سلوك، فلنجلس إليه نسمع ما يقول ونحاوره فإن كان على حقّ اتّبعناه وصدّقناه...، وإن كانت الأخرى صددناه. إلّا الجهل خيّم عليهم والشيطان استحوذ عليهم وكان اولئك النفر الوفد المفاوض لأبي طالب من أشدّ قريش وغيرها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيذاءً، واستهزاءً، وزندقةً.

ثمّ: إنّ أبا طالب يسمّي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الطاهر) وليس مثل أبي طالب من يطلق الكلمات جزافاً؛ ونقطع أنّه يعني العصمة الملازمة للنبوّة!

وقسمه بالله تعالى أن لا يسلمه ويتخلّى عنه ما زال أبوطالبرضي‌الله‌عنه حيّاً حتّى يتمّ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يريد من تبليغ رسالته وهل عند أبي طالب من المنعة ما يدفع بها عن النبيّ إلّا الإيمان الراسخ والحزم في الرأي فيطيعه بنو طالب ويحالفوا بني هاشم فتشتدّ شوكتهم، ثمّ لسانه الذي كان أوقع من قعقعة الحسام. وإذا كان أبو طالب عظيم قريش مات مشركاً؛ فعلام يحلف بالله على مواصلة نصرته للنبيّ مقروناً بظهور دين الإسلام وغلبته.

وأبو طالب لا يرقّ قلبه فتأخذه الشفقة على ولده المبارك عليّعليه‌السلام فيمنعه ويحجبه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّما رأيه أن يدخل فيما دخل فيه ابن عمّه من دين، فشدّ بذلك أزر النبيّ بابن عمّه.

ومن إيمان أبي طالب لـمّا رأى ولده عليًّا يصلّي إلى جنب النبيّ، أن أمر ابنه جعفر بن

٣٢٦

أبي طالب قائلاً: صل جناح ابن عمّك.

وأبو طالب يرى في متابعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبيل نجاة دنياً وآخرة. فهو يقول لابنه جعفر بعد أن طلب منه أن يصل جناح ابن عمّه: الزم ابن عمّك فإنّك تسلم به من كلّ بأس عاجل وآجل). ويقول:

إنّ الوثيقة في لزوم محمّد

فاشدد بصحبته عليّ يديكا(١)

منتهى الإيمان وذروة الجهاد أن يأمر الرجل فلذة كبده بلزوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واللزوم هذا لا يأتي إلّا عن تصديق برسالته؛ فيورّطه المهالك، ومع ذاك يرى في ذلك سلامة له من كلّ باس، وهو يعلم بتكالب قريش وشدّة وطأتها على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فأيّ عرفان هذا! وقد بلغ درجة اليقين أبوطالب، أوقع الموت عليه أو وقع الموت عليه، سيّان عند أبي طالب، فهو وثيقة السلامة في الآجلة، كما هو في العاجلة؛ وهذا دليل على إيمان أبي طالب بحياة ما بعد الموت.

إلاّ أنّ عيبه الوحيد: فهو أبو عليّعليه‌السلام مجمع الفضائل والذي زرع في كلّ بيت قرشيّ وغيره، أصيل أو مستلحق، ناعيةً، ففتّشت الدعاية الزبيريّة، والمعاوية لتجد ثغرةً تنفذ من خلالها وقد بذلتا لذلك المال، فوجدوا المشركين يقولون لأبي طالب في شكايتهم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وإنّك على مثل ما نحن عليه من خلافه)، إحراجاً منهم لهعليه‌السلام ، أو لأنّهم لا يعقلون أكثر من ذلك، والإناء ينضح بما فيه. فعكفت الأقلام المأجورة على كلام المشركين مع تهذيب وتشذيب وإضافة وزيادة وإدالة وكأنّ المؤمن المجاهد بمقوله وسيفه وموقعه الاجتماعيّ وولده من أجل الرسول الذي آمن به صغيراً لم يبعث فتفرّس فيه المجد وأنّ رسالته ستعمّ الأباطح والأخاشب - الجبال -، والحرم وغير الحرم؛ فأدالوا الكلام وجاؤوا بإفك وبهتان عظيم: أنّ ابا طالب مات مشركاً؛

____________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام ١: ٢٦٥، تاريخ الطبري ٢: ٢١٤.

٣٢٧

وهذا مثل ما عملته الإذاعة الزبيريّة وتناقلته المروانيّة بشأن المجاهد الثائر الآخذ بثأر الإمام الشهيد الحسين وأهل بيته وصحبهعليهم‌السلام : المختار الثقفيّ رضوان الله عليه. فقد افتعلوا حديثاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال: (سيكون في أمّتي من ثقيف مبير وكذّاب)، ورتّبوا على ذلك أنّ المبير هو الحجاج الثقفيّ، وأنّ الكذّاب هو المختار الثقفيّ. وقد أثبتنا في غير هذا الموضع - في حال صدق صدور الحديث - أنّ المبير والكذّاب شخص واحد، وينطبق الوصفان على الحجّاج فهو مبير واقعاً لا يعرف لدم حرمة وهو الذي دكّ الكعبة بالمنجنيق فهدمها وحرقها، وقتل خيار الصحابة والتابعين؛ وكان يكذب كثيراً ومن كذبه أنّه كان يسخر من قراءة ابن مسعود للقرآن ويقول عنه: إنّه يزعم أنّه يقرأ قرآناً نزل به الوحي! كذب عبد هذيل ما هو قرآن؛ أنا ينزل عليّ الوحي. وكان يقول: إنّ عبد الملك بن مروان ينزل عليه الوحي. وأمور أخرى ذكرناها في موضعها وخلصنا إلى نتيجة في حال صحّة الحديث!: انّه سيكون من ثقيف مبير أي سفّاح للدماء وهو كذّاب. ثمّ ذكرنا سبب الدعاية الزبيريّة الظالمة بحقّه: فالمختار معروف ببسالته، ولـمّا كان ابن أسماء سيتّضح لك السرّ في هذه التسمية، محصوراً بمكّة ويسمّي نفسه العائذ، أي العائذ ببيت الله، فإنّ المختار سارع إلى نصرته وكان له مواقف مشهودة، ثمّ رأى منه المختار ما لا يعجبه فغادره فبقى عبد الله في حرج يسأل عنه وبعد مدّة عاد المختار ولم يدخل في صفّه حتّى أملى عليه شروطاً قبِلها عبد الله، إلّا أنّ الأخير اعتمد على الخوارج كثيراً وكان شيخهم المِسوَر ابن مَخْزَمة الزُّهريّ مع عبد الله، وكان الخوارج يأخذون برأيه؛ فلمّا قتل المِسوَر، أصابته شظيّة من رمي خوارج الشأم! وبدأ عبد الله يتقلّب في شعاراته من عائذ إلى جعل الأمر شورى إلى طلب الخلافة لنفسه؛ كفّره الخوارج وكفّروا طلحة والزبير وفارقوه.

ثمّ إنّه أظهر مكنون نفسه من بغض لبني هاشم وللنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففارقه المختار وذهب

٣٢٨

إلى الكوفة فأخرج منها عامل عبد الله واستولى هو عليها. ولـمّا وصلته الأنباء أنّ عبد الله ترك الصلاة على النبيّ في صلاة الجمعة وحصر بني هاشم في الوادي وجمع الحطب لحرقهم! أرسل رجالاً يحملون الخشب لئلاّ ينتهكوا حرمة البيت فأنقذوا بني هاشم؛ فشتّان بين موقفه وموقف عبد الله متقلّب المواقف، تارك الصلاة على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعين جمعة والذي حاول حرق بني هاشم. ومن مواقف عبد الله المشينة: أنّه استنزل أكثر من خمسين رجلاً من الجبال، أعطاهم الأمان فلمّا نزلوا أخذهم فذبحهم في بيت الله الحرام! وأخيراً أرسل جيشاً جرّاراً لقتال المختاررضي‌الله‌عنه ، بقيادة أخيه مصعب، بعد أن مهّد لذلك بإذاعة الخبر المكذوب بشأن المختار، وتلقّفته الإذاعة الأمويّة لنشره. والطريف في الأمر! إنّ الوقعة مع المختار كانت في وقت توجّه فيه جيش عبد الملك بن مروان من أهل الشأم لقتال مصعب فعقد هذا هدنةً مع أهل الشأم حتّى يفرغ من أمر المختار، وبعد شهادة المختاررضي‌الله‌عنه ، انطبق أهل الشأم على معصب فانهزم جيشه وقتل مصعب.

وقد ذكرنا أشياء عن هذا الرجل الفذّ وسنذكر أكثر في موضعه إلّا أنّ الشواهد ألزمتنا ذلك. ولو كان المختار كذّاباً - حاشا له – لـما كان همّه الشاغل تتّبع قتلة سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الإمام الشهيد سيّد شباب أهل الجنّة الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ولما ترحّم عليه أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام وأثنوا عليه، يأتي بيانه. وكان فيما ورد عنهم: إذ سئلوا عمّا يقال عن كذبه؟! نفوا عنه ذلك بشدّة.

أبوطالب يتحنّف

ولقد كان أبوطالب على سرّ أبيه عبد المطّلب؛ فهو يتحنّف أي على دين إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، تلمس ذلك من أشعاره، من ذلك قوله:

٣٢٩

أعوذ بربّ الناس من كلّ طاعنٍ

علينا بسُوءٍ أو ملحّ بباطل

ومن كاشح يسعى لنا بمَعيبةٍ

ومن مُلْحِق في الدين ما لم نحاول

وثَوْرٍ ومن أرسى ثَبيراً مكانَه

وراقٍ لَيَرْقى في حِراء ونازل(١)

وبالبيت حقّ البيت، من بطن مكة

وبالله إنّ الله ليس بغافل

ومَوْطئ(٢) إبراهيم في الصخر رَطْبة

على قَدَميْه حافياً غير ناعل

هذا مقطع من قصيدة طويلة نعود إليها، وفيها من المعاني الجليلة من قبيل إقراره بالزعامة والرئاسة لابن أخيه محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وفي المقطع الذي اقتبسناه: فقوله (ومن ملحق في الدين ما لم نحاول)؛ صريح في إسلامه، وأنّ دينه لا شائبة فيه، إذ لحظنا أنّه جاء بعد تعوّذه ممّن يطعن عليهم بسوء أو باطل، واستعمل لفظ الجمع يعني بذلك نفسه ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعة المؤمنين جعفراً وعلياً وخديجةعليهم‌السلام . وما أجمل بلاغته! وهو يتعوّذ: (أعوذ بربّ الناس)، فلقد أنشأها على نسق القرآن الكريم.

ثمّ ذكر أماكن لها تاريخها منها حراء، وفي غاره كان أبوه عبد المطّلب المتألّه يعتكف طليلة شهر رمضان كما ذكرنا، فما يدرينا أنّ احتفاء أبي طالب بحراء وذكره مثلما ذكر (البيت حقّ البيت!)، وحلفه بالله تعالى وذكره لموطئ قدم إبراهيمعليه‌السلام ؛ (والأشواط بين الصفا والمروة والمزدلفة والمشعر، والجمرة الكبرى ورمي الحصا... وكلّها ذكرها في قصيدته وهي من مشاعر الحجّ وواجباته)، دليل على ما قلناه من دين أبي طالب قبل

____________________

(١) ثور وثبير وحراء، جبال بمكّة.

(٢) يعني موضع قدميه، وذلك فيما يقال: حين غسلت كنّته رأسه وهو راكب، فاعتمد بقدمه على الصخرة حتّى أمال رأسه ليغسل، وكانت سارة قد أخذت عليه عهداً حين استأذنها في أن يطالع تركته بمكة، فحلف لها أنّه لا ينزل عن دابته، ولا يزيد على السّلام واستطلاع الحال، غيرة من سارة عليه من هاجر، فحين اعتمد على الصخرة أبقى الله فيها أثر قدمه آية. (راجع الروض الانف).

٣٣٠

بعثة رسول الله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجد أبو طالب حرجاً في الدين الذي جاء به ابن أخيه، بل كان يصرّح بأنّه سبيل النجاة في العاجلة والآجلة في الدنيا والآخرة.

ما أعظمك أبا طالب ابن الفيض المتألّه عبد المطّلب الذي استعبد أميّة عشر سنين، فكان في حشم عبد المطّلب عشر سنين. ومن قبل نافر هاشم بن عبد مناف، فحلّ البوار في ساحة أميّة ونفاه هاشم إلى الشام عشر سنين، وها أنت تحمل راية الجهاد جنديّاً بين يدي ابن أخيك تبتغي استكمال الفضيلة، حتّى صحّ القول فيك أن جنّة لا يدخلها أبو طالب، لجنّة مقفرة قد خلت من الصالحين! وإنّ ناراً يأوي إليها أبو طالب، لنار مباركة ومأوى الأبرار والصدّيقين! وذلك حين تتبادل الجنّة والنار مفهوميها.

وإنّ كلاماً ينطق به عتاة المشركين الزنادقة المؤذون لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمستهزؤون به؛ ويؤسّس عليه الطليق واللصيق ونظراءه شرك أبي طالب، زيادة في عظمة وطهارة أبي طالب وتزكيته.

ومن يقف على سيرة الوفد المفاوض لأبي طالب وقولهم له (وإنّك على مثل ما نحن عليه من خلافه)، وتلقّفها حصب جهنّم؛ لا يجد أيّ مثليّة بدءاً ومسيرةً ونهاية، وحتّى في النسب الزكيّ فهو ذروة وهم قيعان!

ولا نخوض في جزئيّات حياتهم فيخرجنا البحث عن الأصل، وحياتهم كلّها رذائل! إنّما نتكلّم عن كليّات ونرى بماذا ماثلهم أبوطالب منها:

فلقد ذكر ابن حبيب المتوفى سنة ٢٤٥ هـ، زنادقة قريش، تعلّموا الزندقة من نصارى الحيرة، وهم: صخر بن حرب، ونبيه ومنبه ابنا الحجّاج، من بني سهم، والعاص بن وائل السّهميّ، الوليد بن المغيرة المخزوميّ والد خالد بن الوليد، وعمّ

٣٣١

أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة. وذكر غير هؤلاء في الزنادقة غيرهم منهم عقبة بن أبي معيط وإنّما ذكرنا تلك الأسماء لأنّها واردة في الوفد الذي جاء إلى مؤمن قريش، ولم يجيء أبوطالب إليهم.

المستهزؤون: وكما ذكر الوليد والعاص في الزنادقة فقد ذكرهما في المستهزئين. قال: المستهزؤون من قريش ماتوا كفّاراً بميتات مختلفات: العاص بن وائل السهميّ، والوليد بن المغيرة المخزوميّ، والأسود بن المطّلب بن أسد بن عبد العزّى. وذكر غير هؤلاء تركناهم وذكرنا هؤلاء للسبب المتقدّم. وذكر ابن إسحاق أبا جهل في المستهزئين.

المؤذون لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ذكر منهم ابن حبيب: الحكم الطريد ابن أبي العاص بن أميّة، وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بن كلدة من بني عبد الدار. وهؤلاء لم يكونوا في الوفد إلى أبي طالبرضي‌الله‌عنه .

وذكر ابن إسحاق المؤذني فذكر منهم العاص بن وائل السَّهْميّ وذكر ما نزل فيه من القرآن. والوليد بن المغيرة المخزوميّ؛ والعاص بن وائل السهميّ، وذكر نزول سورة (الكافرون) فيهما وفي أبي بن خلف.

ومن المؤذين ذكر أبا جهل، ومحاولته قتل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحجارة ضخمة وصرف الله بصره عن النبيّ فوقاه شرّه(١) .

وقد مات هؤلاء جميعاً كفّاراً مشركين، جاهدهم أبوطالب بإعلان الحرب معهم

____________________

(١) انظر تفاصيل ذلك في (المنمّق)، لابن حبيب: ٤٨٤، ٤٨٥، ٤٨٧ - ٤٨٨ والسيرة النبويّة، لابن هشام، الجزء الثاني - مواضع كثيرة منه.

٣٣٢

ومع طوائف المشركين، وله قصائد في الرّد على المشركين هي أشد من تقصّف الرماح في صدور الرجال، ومن قعقعة السيوف على الهام وأنفذ من النبال في أكبادهم؛ فللّه درّه، ورفع الله منزلته مع النبيّ والوصيّ عليّ. لا تشمّ منها أثر المرجفين فيه، وإنّما هم أولى بها صليّاً! وكلّما امتدّ به العمر ووهن منه العظم وتلاحقت المحن كان أبو طالب الذي عهدناه رجلاً مهيباً وقوراً أوقف عمره عن وعي ويقين نصرةً للرسالة والرسول. فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلو آيات القرآن ويبلّغها، وأبو طالب يبلّغ مفاهيم القرآن مشعراً تأنس له النفوس الطيّبة.

من مجموع أولئك العشرة الذين اجتمعوا بأبي طالب، لم ينجَ منهم أحد فقد ماتوا كما قلنا ميتات مختلفة؛ إلّا ابا سفيان صخر بن حرب، فقد امتدّ به العمر ليقود المشركين في حروبها ضدّ المسلمين , وهذا من مفاخره! التي يسجّلها له ابن تيمية الخارجيّ الناصبيّ وأشياعه من خوارج عصرنا الوهّابيّين النواصب. وعام الفتح المبين، أرغم أبو سفيان على التظاهر بالإسلام، فما صحّ منه إسلام ولا طهرت سيرته.

وأمّا مُنبِّه بن الحجّاج الجُمَحيّ، فقد قتله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، يوم بدر(١) .

ونُبَيه بن الحجّاج الجُمَحيّ، أخو السابق؛ أيضاً قتله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، يوم بدر(٢) .

وعُتبة بن ربيعة بن عبد شمس. شارك عليّ بن أبي طالب عمّه حمزة بن عبد المطّلب في قتله يوم بدر(٣) .

____________________

(١) المغازي ١: ١٥١، النسب: ٢١٣، أنساب الأشراف ١: ٣٦٠، الإرشاد: ٦٣، المحبّر: ١٧٦.

(٢) المغازي ١: ١٥٢، النسب: ٢١٥، أنساب الأشراف ١: ٣٦٠.

(٣) النسب: ٢٠٤، الطبريّ ٢: ١٤٨، الثقات ١: ٦٥. وعتبة هذا هو جدّ معاوية لأمّة!

٣٣٣

وشَيْبَة بن ربيعة بن عبد شمس، أخو السابق؛ أيضاً اشترك في قتله عليّ بن أبي طالب وحمزةعليهما‌السلام ، وذلك يوم بدر(١) .

هؤلاء من الذي حضروا المفاوضة، وممّن لم يحضروها ووتر ابن أبي طالبعليهما‌السلام ، تلك البيوتات:

الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. قتله عليّ بن أبي طالب يوم بدر(٢) .

عُقْبة بن أبي مُعَيْط. أسر يوم بدر فأمر النبيّ بقتله فقتله عليّ بن أبي طالب(٣) .

حنظلة بن أبي سفيان صخر بن حرب، أخو معاوية لأبيه؛ قتله عليّ بن أبي طالب يوم بدر(٤) .

عامر بن عبد الله الأنماري، حليف بني عبد شمس. قتله عليّ بن أبي طالب يوم بدر(٥) .

العاص بن سعيد بن العاص بن أميّة. قتله عليّ بن أبي طالب يوم بدر(٦) .

ومعاوية (الضَّبُع الأعرج) كما أوهمته الجارية الخراسانيّة إذ سألها عن اسم السَبُع - قي قصّة ذكرناها -؛ فقد أكره على إظهار الإسلام عام الفتح ولم يجبّه ذلك من لعن

____________________

(١) طبقات ابن سعد ٢: ١٧.

(٢) السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٣٦٦، المغازي ١: ١٤٨، طبقات ابن سعد ٢: ١٧، أنساب الأشراف ١: ٣٥٦، المحبّر: ١٧٥، كتاب الثقات ١: ٦٥، تاريخ الطبريّ ٢: ١٤٨، النسب: ٢٠٢، الإرشاد: ٦٠، والوليد هذا خال معاوية بن هند.

(٣) السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٢٩٨.

(٤) المغازي ١: ١٤٧، المحبّر، لابن حبيب: ١٧٦، أنساب الأشراف ١: ٣٥٥، الإرشاد: ٦٣.

(٥) السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٣٦٦، المغازي ١: ١٤٨، أنساب الأشراف ١: ٣٥٦، الثقات ١: ٦٥.

(٦) السيرة النبويّة ٢: ٣٦٦، طبقات ابن سعد ٥: ٣١، أنساب الأشراف ١: ٣٥٥، المحبّر: ١٧٥، كتاب الثقات ١: ٦٥، الإرشاد: ٦٢.

٣٣٤

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، له ولأبي سفيان ويزيد بن أبي سفيان في أكثر من خمسين موضع؛ ودعنا من حسبه ونسبه فهو ابن هند آكلة الأكباد وبها يعرف وبها يعرّف نفسه وقد تكلّمنا كثيراً عن هذا الأمر وذكرنا نزراً من خزاياته، ولا عتب عليه في استلحاقه زياداً وتزويجه وأولاده الثلاث من بنات آل أبي سفيان - ذكرنا تفصيله في غير هذا الموضع -، وإن كان جرماً وخلافاً لحكم الله تعالى القاضي بالولد للفراش؛ فهو يجد هنداً تعيش مع أبي سفيان، فإذا جرى بينهما كلام افتخر صخر بابنه يزيد، وهند بابنها معاوية! ومعاوية لا يتحرّج أن ينطبق بحقيقة يأنف منها ذو الدين والحميّة! تلك هي نسبته إلى أربعة رجال. وشعر حسّان بن ثابت فيه لـمّا أملصته هند وأمرت جواريها أن يضعنه على قارعة الطريق، وفيه أيضاً أنّ عُتبة بن هند ولم يكن لصخر، فما الذي يمنعه من استلحاق ابن سمية زياداً؟! ولماذا لا يتّخذ ابن النابغة عمرو وزيراً، وعقدة النقص واحدة، وتاريخ ابن النابغة محفوظ لابن هند، وقد كان راس وفد المشركين من قريش إلى النجاشي إذ لجأ إليه جمع من المسلمين، فخيّب النجاشيّ آمالهم ولم يسلم المسلمين إليهم.

وكفى معاوية كفراً قوله للمغيرة بن شعبة بشأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(... وإنّ ابن أبي كبشة يصاح به خمس مرّات...، لا والله إلّا دفناً دفناً).

وخروجه على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فكانت حرب صفّين؛ وقتله حجر بن عديّ وجماعته، وقتله الحضرميين، وانتزاعه الأمر من الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام ، ومنعه من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسنّة سبّ سيّد الوصيّين عليّ عقب كلّ صلاة جمعة، وإرجافه بأهل الحرمين وإخافتهم وإهانتهم....

إنّ سخط ابن هند على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! قد علمنا سرّه من خلال حواره مع المغيرة

٣٣٥

ابن شعبة، وهو خلود ذكرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو يحسده، أمّا على أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ؛ فلما آتاه الله سبحانه من شرف الحسب وطهارة النسب وهذه عقدة معاوية القاتلة! وعليّ امتداد لشخص النبيّ بحسب آية المباهلة وآية التطهير وحديث الكساء، وهو وليّه من بعده قرآناً وسنّةً؛ فهو يبغضه لبغضه للنبيّ، ويحسده لـما خصّه الله به وحباه. ثمّ هو يشتدّ بغضه له إذ وتره ببدر بقتل خاله (الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس). وفجعه يومئذ بجدّه (عتبة بن ربيعة بن عبد شمس) جدّه لأمّه؛ ففضله، إن كان ثمّة فضل! عائد إلى هند أمّه، فهي حبل الوصل إلى عبد شمس خامل الذكر الكلّ على أخيه هاشم الذي كان متكفّلاً بنفقته كما ذكرنا؛ وأمّا عن طريق أبي سفيان فحلقتان مشبوهتان قبل أن نصل إلى عبد شمس، فالنظرية هنا أعسر من نظرية (دارون)! مع قصر السلسلة: معاوية بن هند يدعى إلى أربعة منهم أبوسفيان المغرق بالرذائل والكفر والزندقة، واسمه: صخر بن حرب، وقد عرفت من حسده للفيض المتألّه عبد المطّلب، فلم يزل به حتّى استعبده عبد المطّلب عشر سنين وأغرمه. وحرب ابن أميّة، أمة صغرت فجاش بها البحر من أرض مصر، عبد قبطيّ اشتراه عبد شمس ثمّ أعتقه واستلحقه فصار يعرف. أميّة بن عبد شمس.

وراح أُمَيّة يباري عبد شمس؛ فقد أعتق مملوكه (ذَكْوان) وسمّاه أبا عمرو واستلحقه؛ وزاد على سنّة عبد شمس، أن تنازل لذكوان عن امرأته وزوّجه إيّاها، فأنجب أبا معيط وأنجب هذا: عقبة بن أبي معيط؛ قتل عُقبةَ يوم بدر أميرُ المؤمنين عليّ ابن أبي طالبعليه‌السلام بأمرٍ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وإذا كان لمعاوية ثأر عند عليّعليه‌السلام من خلال قتله جدّه لأمّه عُتبة بن ربيعة، فإنّ شَيْبَة بن ربيعة عمّ هند قد شرك عليّ حمزة في قتله.

٣٣٦

وإذا كان وليّ القوم منهم، والمستلحق كالصريح! فما بالك بالمشترك أمره ثمّ هو ربيب صخر وبه اشتهر؟! فأبناؤه إخوانه، وحنظلة بن أبي سفيان أخو معاوية. وقد قتل عليّ بن أبي طالب حنظلة يوم بدر. وعجّل على العاص بن سعيد بن العاص بن أميّة، فألحقه به. وجمع شملهم بحليف بني عبد شمس عامر بن عبد الله الأنماري.

هذه الفواجع التي أدخلها أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام إلى قلوب معاوية وبني أميّة وغيرهم مع ما يرونه من علوّ شأنه عند الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حفّزتهم على بذل الجهد للعثور على ثغرة للنفوذ منها لتنقيصه فعجزوا حتّى دلّهم الشيطان على جملة قالها المشركون، فنسجوا حولها بيتاً مهلهلاً أوهن من بيت العنكبوت! وقبل الرجوع إلى أبي طالب عظيم قريش، نكمل الصورة في خبر موت الآخرين من أعضاء الوفد المفاوض:

أبو البختري العاص بن هشام، وفي قول: هاشم بن الحارث بن أسد بن عبد العزّى، كان نديماً لطلحة بن أبي طلحة بن عبد الدار. قال ابن إسحاق: قتل أبو البختري يوم أحد، قتله المجذّر بن ذياد البلويّ(١) . وقتل طلحة عليّ بن أبي طالب يوم أحد أيضاً(٢) .

____________________

(١) السيرة النبوية، لابن هشام ٣: ٣٦٧، المحبّر: ١٧٧.

(٢) نفس المصدر السابق. وتاريخ خليفة: ٣٨، والنسب: ٢٠٤، وطبقات ابن سعد ٢: ٤٣، وتاريخ خليفة: ٣٨؛ ونسب قريش: ٢٥١ قال: قتل يوم أحد كافراً، وكان معه لواء المشركين، قتله عليّ بن أبي طالب وبارزه؛ والمغازي ١: ٣٠٧ وقال: يحمل لواءهم؛ والمعارف: ١٦٠ كان صاحب لواء المشركين.

إنّ قولهم: يحمل لواءهم، ذلك أنّهم يوم أحد كان لهم ألوية طليعتهم طلحة بن أبي طلحة. وقد ذكر الطبريّ أنّ عليًّاعليه‌السلام قتلهم؛ انظر ذلك في حديث الهتاف يوم أحد الذي ذكره الطبريّ بسنده عن أبي رافع.

٣٣٧

أبو جهل، واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، المخزوميّ، ابن عمّ خالد بن الوليد.

ضربه معاذ بن عمرو بن الجموح فقطع رجله ثمّ ضربه معوّذ بن عفراء حتّى أثبته(١) ، ثمّ ذفّف عليه عبد الله بن مسعود، واحتزّ رأسه(٢) .

الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، المخزوميّ.

قال ابن إسحاق: وكان عظماء المستهزئين، خمسة نفر من قومهم من بني مخزوم بن يقظة بن مرّة: الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. (وهو والد خالد بن الوليد، وعمّ أبي جهل).

ومن بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب: العاص بن وائل بن هشام.

قال ابن هشام: العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم(٣) .

ومن بني زهرة بن كلاب: الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة(٤) .

ومن بني أسد بن عبد العزّى بن قصيّ بن كلاب: الأسود بن المطّلب بن أسد أبو زمعة، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فيما بلغني - قد دعا عليه لـما كان يبلغه من أذاه واستهزائه به، فقال: (أللّهم أعم بصره، وأثكله ولده)(٥) .

قال ابن حبيب: والحارث بن قيس بن عدي السهمي، وهو صاحب الأوثان، كلّما

____________________

(١) أثبته: جرحه جراحة لا يقوم معها.

(٢) السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٣٦٨.

(٣) نفس المصدر السابق: ٥١، المنمّق: ٤٨٤.

(٤) نفس المصدر السابق، المنمّق: ٤٨٥.

(٥) نفس المصدر السابق.

٣٣٨

مرّ بحجر أحسن من الذي عنده أخذه وألقى ما عنده وفيه نزلت:( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلّهُ اللّهُ عَلَى‏ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى‏ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى‏ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ ) (١) .(٢)

من بني خزاعة: الحارث بن الطّلاطلة بن عمرو بن الحارث.

فلمّا تمادوا في الشرّ وأكثروا برسول الله الاستهزاء أنزل الله تعالى عليه:( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) (٣) .

قال ابن إسحاق: إنّ جبرئيل أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله إلى جنبه، فمرّ به الأسود بن المطّلب، فرمى في وجهه بورقة خضراء، فعمي. ومرّ به الأسود بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات منه حبنا. ومرّ به الوليد بن المغيرة فأشار أثر جرح بأسفل كعب رجله، كان أصابه قبل ذلك بسنين، وهو يجرّ سبله - أي فضول ثوبه - وذلك أنّه مرّ برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً له، فتعلّق سهم من نبله بإزاره، فخدش برجله ذلك الخدش، وليس بشيء، فانتقض به قتله(٤) . ومرّ به العاص بن وائل، فأشار إلى أخمص قدمه(٥) ، فخرج على حمار له يريد الطائف، فربض به على شبارقة(٦) فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتله. ومرّ به الحارث

____________________

(١) الجاثية: ٢٣.

(٢) المنمّق: ٤٨٤ - ٤٨٥.

(٣) الحجر: ٩٤ - ٩٦.

(٤) انتقض الجرح: إذا تجدّد بعد ما برئ.

(٥) الأخمص من باطن القدم: ما لم يصب الأرض.

(٦) الشبارقة: شجرة عالية.

٣٣٩

ابن الطّلاطلة، فأشار إلى رأسه فامتخض قيحاً(١) ، فقتله(٢) .

واستجاب الله تعالى دعوة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأسود بن المطّلب بن أسد؛ فأعمى بصره كما ذكرنا، وأثكله ولده، فأمّا:

زمعة بن الأسود بن المطّلب، اشترك في قتله حمزة وعليّ بن أبي طالب وثابت بن الجذع(٣) . وقال المفيد: قتله عليّعليه‌السلام (٤) .

وكان ذلك يوم بدر.

والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطّلب. قتله عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، أيضاً يوم بدر(٥) .

وعقيل بن الأسود بن المطّلب بن أسد. قتله عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام يوم بدر(٦) .

نظرة في الوفد المفاوض

إنّ رجالاً هذا حالهم: إغراق في الجهل، زندقة، خفّة عقل يعبدون حجارة لا تنفع ولا تضرّ؛ وهم مستهزؤون مؤذنون لرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فانتقم الله تعالى منهم، حتّى أنّ أحدهم لتقتله شوكة! وآخر ينتقض به جرح قديم فيقتله، أو خدش يسلبه الحياة...، والحظّ الأوفر منهم قد وشحه سيف ابن أبي طالب عليّعليه‌السلام ، فعجّل به إلى النار. أفمثل

____________________

(١) أي أنّ القيح انتشر في رأسه.

(٢) السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٥٠ - ٥٢، المنمّق: ٤٨٤ - ٤٨٩، أنساب الأشراف ١: ١٤٠ - ١٧٢.

(٣) السيرة النبويّة، لابن هشام ٢: ٣٦٦، تاريخ الطبري ٢: ١٤٨.

(٤) الإرشاد: ٦٣.

(٥) النسب: ٢٠٦، أنساب الأشراف ١: ٣٥٧، الإرشاد: ٦٣.

(٦) المغازي ١: ١٤٩، النسب: ٢٠٦، أنساب الأشراف ١: ٣٥٧، الإرشاد: ٦٣. وفي السيرة النبويّة ٢: ٣٦٦، قال ابن هشام: اشترك فيه حمزة وعليّ.

٣٤٠