شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 182554
تحميل: 4444

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182554 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

وخلّف رجّالته وهم ستّمائة في هيت. وأتاه الخبر بانحياز ابن قباث من الرقّة نحو رأس العين ومصيره إلى كفرتوثا(١) . فأغذّ كميل السير نحو كفرتوثا، قتلقّاه ابن قباث، ومعن ابن يزيد السلميّ بها في ألفين وأربعمائة فارس، فواقعهما كميل ففضّ جمعهما وغلب عليهما وقتل من أصحابهما بشراً، فأمر أن لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح، وقتل من أصحاب كميل رجلان: عبد الله بن قيس القابسيّ، ومدرك بن بشر الغنويّ...(٢) .

غارة الضحّاك بن قيس

ووجّه معاوية في العام نفسه (سنة تسع وثلاثين) الضحّاك بن قيس الفهريّ، ويكنّى أبا أنيس، في ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف، وأمره أن يمرّ بأسفل واقِصة فيُغير على من يلقاه ممن كان في طاعة أميرالمؤمنين، وأن يصبح في بلد ويمسي في آخر....

فأقبل الضحّاك إلى القُطْقُطانة، وجعل يأخذ أموال الناس من الأعراب وغيرهم، ويقتل من ظنّ أنّه على طاعة عليّ أو كان يهواه حتّى بلغ الثعلبيّة، وأغار على الحاج فأخذ أمتعتهم.

وجاء عمر بن عُميس بن مسعود ابن أخ عبد الله بن معسود حاجّاً، ومعه أهله، وكان عمرو بن عميس من خيرة أصحاب عليّعليه‌السلام ، فقتله الضحّاك بن قس. وبلغ الخبر أميرالمؤمنين، فجهّز جيشا أربعة آلاف من أهل الكوفة عليهم حجر بن عَدِيّ، فلحقهم ببلاد كلبٍ فكانت بينهم وقعةٌ عند تَدمُر قتل فيها تسعة عشر من أهل الشام، وقتل من أصحاب حجر اثنان(٣) .

____________________

(١) كفرتوثا: قرية كبيرة من أعمال الجزيرة، بينها وبين دارا خمسة فراسخ، وهي بين دارا وراس العين. معجم البلدان ٤: ٤٦٨.

(٢) أنساب الأشراف ٣: ٢٣١ - ٢٣٣، الفتوح ٤: ٤٨ - ٥٢.

(٣) أنساب الأشراف ٣: ١٩٧ - ١٩٩، تاريخ الطبريّ ٤: ١٠٤، الفتوح ٤: ٣٧ - ٣٨.

٢١

وحسبك هذا التفاوت والتباين في المواقف والمبادئ: موقف عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام الذي يحفظ العهود والميثاق، وموقف قادته المقتدين بسنّته: فهم بعد أن يهزموا عدوّهم، يأمروا جندهم أن لا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح؛ وبين مبدأ معاوية الذي يفصح عن بغض متأصل لعليّعليه‌السلام ، فيأمر قائد حملته في قتل من يلقاه ممّن كان في طاعة عليّعليه‌السلام . فأطاعه الضحّاك في ذلك وهو يوم صفّين أحد ثلاثة: معاوية، وعمرو ابن العاص، والضحّاك؛ ممّن برزوا إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام فلمّا برز إليهم ورأوه لم يكن عند أحدهم ما يدفع به عن نفسه إلّا سوءته، فيرمي كلّ واحد منهم نفسه على الأرض ويرفع رجله ويبدي سواد سوءته، فإن الضحّاك هذا مضافا إلى قتله من قتل، فقد نهب أموال أناس أعراب وغيرهم لا علاقة لهم بأميرالمؤمنينعليه‌السلام ، وإلاّ لقتلهم ومن دناءة نفسه وحقارتها أنّه أغار على الحاجّ فنهب أمتعتهم، ولم يرع لعمرو بن عُميس حرمته وقد جاء حاجّاً ولم يأت منابذاً مقاتلاً، ولا رعى حرمة زوجته، فقتله أمامها، كلّ ذلك يذكّرنا بفعل الخوارج. وأنّ السيرة هذه هي التي مهّدت ليزيد أن ينحَ منحى أبيه في بُغض أهل البيتعليهم‌السلام والاتّعاد لحربهم، وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن حرب أهل البيت حرب لله تعالى ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولنختم حديثنا عن الغارات التي شنّها معاوية ناقضاً العهود والمواثيق فتربّى يزيد في أحضان هذا الأب الذي جعل الوهّابيّون، من هذه التربية أحد أسباب دفاعهم عن يزيد وجرائمه الفظيعة.

فنذكر غارةً هي لوحدها ناهضة بيزيد ليتجرّأ على الله ورسوله متابعةً لسيرة أبيه، وسلفه الطالح: أبو سفيان قائد الأحزاب وجدّته هند وما صنعت بأسد الله وأسد رسوله حمزة بن عبد المطلبعليه‌السلام ، وأعمامه الذين عجّل بهم أبو الحسنين عليّعليه‌السلام إلى

٢٢

النار. الغارة تلك هي غارة بُسْر بن أبي أرطاة، فقد سمع يزيد من أبيه ما كان يلقيه على مسامع الذليل بسر ما جعله أهلا لارتكاب كلّ جناية.

غارة بُسر بن أبي أرطاة:

في سنة أربعين كانت غارة بُسر بن أبي أرطاة، وكان دستور ابن هند فيها كاشفا عن كفره وضلاله وأنّه لا يتورّع عن كلّ حرام؛ فقد أمر بسراً أن يطأكلّ أرض فيها لأميرالمؤمنين شيعة وأتباع، وأن يذبحهم بلا رحمة ولا تمييز بين محارب وغيره! وله أن ينهب ويحرق، وأن يرهب أهل المدينة ويخيفهم ويذلّهم!

(دعا ابن هند بُسر بن أبي أرطاة الفِهريّ أحدّ فراعنة الشام، فعقد له عقدا وضم إليه أربعة آلاف رجل من نخبة أهل الشام، ثمّ قال له: سِرْ إلى اليمن سيرا عنيفا حتى تأخذ بيعة الناس؛ فإنّهم قد خالفوا عليًّا، وانظر أن تجعل طريقك على مكّة والمدينة، فلا تنزلنَّ بلدا أهله في طاعة عليّ إلّا بسطت لسانك عليهم حتى يظنّوا أنّك محيط بهم وأنّه لا نجاة لهم منك، ثمّ اصفح عنهم بعد ذلك وادعُهم إلى البيعة، فمن أبي عليك فاستعمل السيف، واقتل كلّ مَن نابذك حتى تدخل أرض اليمن)(١) .

إنّ ما وقع في هذه الغارة نظير ما جرى في عهد دعيه يزيد! من ذبحٍ عامٍّ ونهب للأموال، كلّ ذلك خارج الحرمين، إلّا أن ابن هند انتهك حرمتهما من خلال أمره مأموره الذليل ببسط لسانه على أهلهما إذ لم يكن في البيت الحرام مقاتل له عائذ بالبيت كما هو شأن ابن الزبير أيّام يزيد، ولا ثائرين مناهضين له في المدينة المنوّرة كما هو في عهد يزيد أيضا! وإنّما ابتداءً أمره أن يجعل طريقه على مكّة والمدينة وأن يبسط لسانه

____________________

(١) الفتوح ٤: ٥٦.

٢٣

عليهم ترويعاً وتخويفاً حتّى يظنّوا لا نجاة لهم منه، وبعدها يدعهم إلى البيعة، فمن أبي؛ فالسيف هو الحكم. فأيّ بيعة هذه تؤخذ بالتهديد وحدِّ السيف، لتنقل منه وراثة إلى يزيد المتهتّك علنا حتى يخاطبه معاوية تارة: أن لولا هواي فيك لكان لي منك شأن آخر، وأخرى يطلب منه أن يتستّر من الناس وهو يمارس تلك القاذورات!

مضافا إلى ما ذكرناه: فإنّ أهل الحرمين الشريفين خرجوا لاستقبال بُسْر، وأعطوه البيعة، إلّا أنّه قبّحهم وشتمهم وكفّرهم وهدم منازل بعضهم...، منتهكا بذلك حرمة الحرمين من غير قتال منهم له كما ذكرنا.

رواية البلاذري: (يا بُسر، إنّ مصر قد فتحت فعزّ وليّنا وذلّ عدوّنا، فسِرْ على اسم الله، فمر بالمدينة فأخف أهلها وأذعرهم وهَوّل عليهم حتّى يروا أنّك قاتلهم، ثمّ امض إلى صنعاء فإنّ لنا بها شيعة فانصرهم واستعن بهم على عمّال عليّ وأصحابه، واقتل كلّ من كان في طاعة عليّ إذا امتنع من بيعتنا، وخذ ما وجدت لهم من مال)(١) .

فخرج بسر يغذّ السير حتّى قدم المدينة، وعامل عليّعليه‌السلام عليها أبو أيّوب الأنصاري، فخرج منها خوفا على نفسه إلى عليّعليه‌السلام بالكوفة. ودخل بُسر المدينة وصعد منبرها ولم يقاتله بها أحد. (فنادى على المنبر: يا دينار ويا نجّار و يا زُريق - سخريةً منه بالأنصار - شيخي شيخي عهدي به بالأمس، فأين هو؟ يعني عثمان ثمّ قال: والله لولا ما عهد إليَّ معاوية ما تركت بها محتلماً إلّا قتلته! ثم بايع أهل المدينة. وأرسل إلى بني سلمة قال: والله ما لكم عندي من أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله. فانطلق جابر إلى أمّ سلمة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لها: ماذا ترين إنّي خشيت أن أقتل وهذه بيعة ضلالة؟ قالت: أرى أن تبايع، فأتاه جابر فبايعه. وهدم بسر بالمدينة

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢١١ - ٢١٢.

٢٤

دوراً، ثمّ مضى بسر حتى أتى مكّة فخافه أبو موسى أن يقتله،فقال له بسر: ما كنت لأفعل بصاحب رسول الله ذلك! فخلّى عنه)(١) .

قال ابن أعثم: خرج بسر يريد المدينة... فخرج منها أبو أيّوب خوفا على نفسه. وخرج أهل المدينة إلى بسر يستقبلونه خوفا منهم على أنفسهم! فلمّا نظر إليهم صاح بهم وانتهرهم ثم قال: شاهت الوجوه! إنّ الله تعالى ضرب لكم مثلا( قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) (٢) فقد وقع بكم هذا المثل وأنتم أهل لذلك...، ثمّ راح يذكر مقتل عثمان ويشتم أهل المدينة ويتوعّدهم: والله لأفعلنّ بكم الأفاعيل، ولأجعلنّكم كالأمم السابقة! يا أشرار الأنصار وحلفاء اليهود! ! ويا أسماء العبيد، إنما أنتم بنو النجّار وبنو دينار، وبنو سالم وبنو زُريق وبنو طَريف وبنو عجْلان، أما والله لأوقعنَّ بكم وقعة تشفي صدور المؤمنين.

ثمّ دخل المدينة، وصعد المنبر وتكلم نظير ذلك حتى خاف أهل المدينة أن يوقع بهم. وأمر بدور قوم من الأنصار فحرقت وهدمت، ثم دعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه. ثمّ أرسل إلى جابر بن عبد الله الأنصاريّ ليأتيه فلم يفعل، فهمّ بقتله حتى أرسلت إليه أمّ سلمة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسألته الأمان له، فقال بسر: لا والله لا أومّنه حتّى يبايع معاوية، فبايع جابر معاوية على الكره منه. ثم نادى في الناس فجمعهم ثم

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ١٠٦ - ١٠٧، مختصر تاريخ دمشق ٥: ١٨٤. وعجب ولا عجب! لا حرمة لمدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند بسر وسيّده معاوية، أمّا أبو موسى فهو صاحب رسول الله وله الأمان! ولم لا؟ أليس الرجل عثمانيّا مخذّلا عن أميرالمؤمنين؟ وأمّا جابر الصحابي الجليل: فأوّل من يسأل عنه بسر ليذلّه ويقسره على البيعة لابن هند!

(٢) النحل: ١١٢.

٢٥

قال: يا أهل المدينة، إنّي قد صفحت عنكم وما أنتم أهل لذلك! لأنه ما من قوم قتل إمامهم بين أظهرهم فلم يدفعوا عنه بأهل أن يعفى عنهم، وإن نالتكم العقوبة في الدنيا فإني لأرجو أن لا تنالكم رحمة الله في الآخرة. ألا وإني استخلفت عليكم أبا هريرة، فاسمعوا له وأطيعوا وإيّاكم والخلاف، فو الله لئن عدتم لمعصية لأعودنّ عليكم بالهلاك وقطع النسل (١).

في مثل هذا الجوّ المظلم المغرق في الظلم والزندقة ترعرع يزيد وتجذّرت نبتته نبتة السوء، فهو يسمع معاوية يأمر أمراءَ جنده أن يطأوا كلّ أرض فيها لعليّ عليه السلام شيعة وأتباع فيذبحهم بلا رحمة ولا تمييز بين محارب وغيره، وله أن ينهب ويحرق وأن يرهب أهل المدينة ويذلّهم! وهم لم يكونوا ثائرين ناكثين بيعة؛ ومع ذلك فهم أهل حرم رسول الله فقد حرّمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة كما حرّم الله تعالى بيته، فأراد معاوية أن يبدل سنّة الله تعالى وسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسنّته المعادية لله ولرسوله ولأوليائه، فشنّها حربا دامية ما زال أثرها حتى يومنا – صفّين - - وأعقبها بالغارات على ما وصفنا وانتهاكه حرمة الحرمين الشريفين، ثم سنّته التي خلّدته ومَن سار عليها في جهنّم وبئس مثوى المنافقين! ذلك أنّه ألزم نفسه وولاته في الأمصار الإسلاميّة بختم الصلاة بلعن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام!!

وقد علمت أنّ حبّ عليّ عليه السّلام إيمانٌ وبغضه نفاق، على لسان رسول الله والمنافق في النار، كيف إذا ضمّ إليه ما ذكرناه من عظيم جرائمه؟! ولذا الغرابة والعجب يكونان إذا أحبّ يزيد أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يعتدِ عليهم ولم يهتك حرمة الحرمين الشريفين؛ ومن شابَه أباه فما ظلم!

(ثمّ سار من المدينة يريد مكّة وبها يومئذ قثم بن العبّاس، فخرج منها هارباً خوفا

____________________

(١) الفتوح ٤: ٥٦ - ٥٨.

٢٦

على نفسه، حتّى إذا أشرف بُسر على مكّة خرج إليه أشراف أهلها، فلمّا نظر إليهم انتهرهم وشتمهم ثمّ قال: أمّا والله لولا خلّة واحدة أوصاني بها أمير المؤمنين معاوية! لـما تركت منكم أحداً يمشي على وجه الأرض!)(١) .

لا كلام لنا مع الذليل بسر مبعوث ابن هند بشأن عدوانه على أشراف أهل بيت الله الحرام وقد خرجوا يستقبلونه دفعا لشرّه، فالحرمة واحدة للبيتين إلّا أن نقول: إنَّه في المدينة المنوّرة وجد ذريعة فيما أحدث: من قتل عثمان الذي اشتركت فيه الأمصار والاقاليم الإسلامية الناقمة على سياسة عثمان ولم يشترك من أهل المدينة إلّا نفر، كان طليعتهم عائشة التي سعّرت عليه البلاد والعباد ودعت إلى قتله بقوله: (أُقتلوا نعثلا فإنّه كفر) وتبعها على ذلك من العشرة: عبدالرحمن بن عوف، وطلحة والزبير. وأمّا ابن هند فقد استنجد به عثمان، فما أنجده!

إنّ دستور معاوية إلى بسر في إهانة وترويع أهل الحرمين...، مبارزة لله تعالى. عن أنس بن مالك عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن الله تبارك وتعالى، قال: (من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة)(٢) .

____________________

(١) نفس المصدر السابق ٤: ٥٨.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ١٦٨.

٢٧

٢٨

ما جاء في منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الذي أحدثه طغاة بني أميّة وقادتهم وولاتهم في عدوانهم على سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وآثاره، في كل مفرداتها، والذي فتح الباب لذلك ابن هند، كبيرهم الذي علّمهم هتك حرمة الحرمين كما ذكرنا في مبحث الغارات بعثها لهذه الغاية ولإخافة أهل الحرمين وبثّ الرّعب في قلوبهم! فصار سنّة لمن في قلبه مرض وذوي العاهات والأدعياء يقفو كلٌّ أثر سابقه في طمس سنّة النبي ومحو آثاره التي كانت موضع تتبّع وتبجيل وتبرّك عند المسلمين( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرّحْمنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) (١) . وكان من تلك الآثار منبره الذي ماسّ بدنه الطاهر وكان مدرسةً للمسلمين من عليه يُفقّه أمّته. وزيادة على ذلك فهو مستقرٌّ على باب من أبواب الجنّة؛ سُعِد من تبرّك به تبرُّكَ تيمّن وموالاة لصاحبه واستناناً بسُنّته من غير تعطيل، وانتهاجا لكتاب الله تعالى الذي بلغه من غير تأويل، وشقى من استخفّ حرمته، وخالف كتاب الله تعالى وسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهتك حرمة الكعبة فحرقها وهدمها؛ فحريّ به أن يحشر مع من أحب، فلا يدخلا الجنة وقد هتكا حرمتها في الدنيا واستخفّا بها؛ فما بقي إلّا النار.

____________________

(١) الزخرف: ٣٦.

٢٩

علّة صنع المنبر

وإنما كان منبر رسول الله بمثابةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدرسة مباركة علّم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين دروسا في مناسكهم وعباداتهم وأحكاما شرعية وأخلاقيّة من على ذلك المنبر الشريف، الذي لو كان لأمّة من الأمم لعملوا له متحفاً يحفظونه ويفتخرون به ويقدّسونه.

بأسانيد كثيرة يعضّد بعضها الآخر وتنتهي بأم سلمة وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، وأبي هريرة، وسهل بن سعد الساعديّ، وابن عبّاس، وأُبَيّ بن كعب، وغيرهم.

عن سهل بن سعد الساعديّ وقد سئل عن المنبر من أيّ عود هو؟ فقال: أرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى فلانة، امرأة سمّاها، فقال: (مُرِي غلامَك النجّار يعمل لي أعواداً أُكلّم الناس عليها)، فعمل هذه الثلاث الدرجات من طرفاء الغابة، فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضعت هذا الموضع، قال سهل: فرأيت رسول الله أوّل يوم جلس عليه كبّر فكبّر الناس خلفه، ثم ركع وهو على المنبر، ثم رفع فنزل القهقهرى فسجد في أصل المنبر، ثمّ عاد حتّى فرغ من صلاته، فصنع فيها كما صنع في الركعة الأولى، فلمّا فرغ أقبل على الناس فقال: (أيّها الناس إنّما صنعت هذا لتأتمّوا بي ولتُعَلِّمُوا صلاتي)(١) .

وعن ابن عباس: أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان يخطب إلى جذع، فلما اتُّخذ المبنر فتحوّل إليه حنّ الجذع حتّى أتاه فاحتضنه، فقال: (لو لم أحتَضِنْه لحنّ إلى يوم القيامة)(٢) .

وعن أبيّ بن كعب عن أبيه قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي إلى جذع إذ كان المسجد عريشاً، فكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ١٩٤، سنن ابن ماجه ١: ٤٥٥ / ١٤١٦ وفيه: حتى سجد على الأرض.

(٢) سنن ابن ماجة ١: ٤٥٤ / ١٤١٥.

٣٠

هل لك أن أعمل لك منبراً تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس وتُسمعهم خطبتك؟ قال: (نعم)، فصنع له ثلاث درجات هنَّ اللاتي على المبنر أعلى المنبر، فلمّا صنع المنبر ووضع في موضعه وأراد رسول الله أن يقوم على المنبر، فمرّ إليه، فخار الجذع حتّى تصدّع وانشقّ، فنزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمسحه بيده حتى سكن ثمّ رجع إلى المنبر، وكان إذا صلّى صلّى إلى ذلك الجذع، فلمّا هُدم المسجد وغيّر أخذ ذلك الجذع أبيّ ابن كعب فكان عنده في داره حتّى بلي وأكلته الأرضة وعاد رفاتا(١) .

وعن ابن عباس أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،كان يخطب إلى جذع، فلمّا اتّخذ المنبر فتحوّل إليه حنّ الجذع حتّى أتاه فاحتضنه، فقال: (لولم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة)(٢) .

فهذا الجذع الذي يبدو لنا أنّه أصمّ لا إحساس له، وهذه علاقته رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلماذا يُلزمنا الوهّابيّون بما ألزموا به أنفسهم من حرمة شدّ الرحال لزيارة النبي الأكرم والتبرك بآثاره وأن نخضع لاعتقادهم أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بات عظاماً وَرْمَةً ومن الشرك تقبيل قبره.

وليس هذا موضع الإفاضة في الآثار الواردة في حياة رسول الله في روضته الطاهرة، وسنعقد بابا لذلك، ولحياة الميّت في قبره، يمسع من يزوره ويعرفه ويأنس به إن كان مؤمنا غير متجاوز على ذات الله تعالى بتجسيم وتبعيض وتشبيه وغير ذلك من صفات النقص، ولا سافكا لدم حرام أو هاتك لحرمة البيتين الشريفين أو مصدرا لفتوى تكفيريّة تسبّب في إزهاق أرواح موالي أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأرواح الأبرياء شيوخا وأطفالاً ونساءً.

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ١٩٣.

(٢) نفس المصدر السابق. وانظر الحديث في سنن ابن ماجة ١: ٤٥٤ / ١٤١٦، مسند أحمد ١: ٢٤٩، ٢٦٧، سنن الدارمي ١: ١٩، المعجم الكبير، للطبراني ١٢: ١٨٧، البداية والنهاية ٦: ١٤٥، ١٤٧، ١٤٨.

٣١

لقد جرت سيرة السلف على التبرّك بمنبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمماسّته بدنه الطاهر وكفى بذلك قربة. وقد زاده موضعه ومكانه شرفاً وقدسيّة.

بسند عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (منبري هذا على تُرْعةٍ من تُرَع الجنّة)(١) ، قال: والتُرعة الباب.

ومثله عن سهل بن سعد الساعديّ(٢) .

وعن أمّ سلمة قالت: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قوائمُ منبري رواتبٌ في الجنّة)(٣) .

ومن طرق عدّة، عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (ما بين بيتي ومنبري وروضةٌ من رياض الجنّة ومنبري على حوضي)(٤) .

وفي لفظ: (ما بين منبري وبيتي روضةٌ من رياض الجنّة)(٥) .

فأيّ بلاغ أفصح في أنّ هذه البقعة لها خصوصيّة لا يمكن أن يتجاوزها إلّا من حلّت به اللعنة وساء مستقرّاً، فإنّ المدينة المنوّرة حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حرّمها كما حرّم الله تعالى مكّة سواء؛ فلا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال ولا تخبط فيها

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ١٩٤، مسند أحمد ٢: ٣٦٠، مجمع الزوائد ٤: ٩.

(٢) نفس المصدر السابق، والمعجم الكبير، للطبراني ٦: ١٧٤، ٢٣٧. فالتبرّك به، تبرّك بباب الجنّة، والصدُّ عنه صدٌّ عن الجنّة. وفي النهاية لابن الأثير ١: ١٨٧، وقد ذكر الحديث، قال: التُّرعة في الأصل: الروضة على المكان المرتفع، فإذا كانت في المطمئنّ فهي روضة. قال القُتيبي: معناه أنّ الصلاة والذكر في هذا الموضع يؤدّيان إلى الجنّة، فكأنّه قطعة منها.

(٣) نفس المصدر السابق؛ والسنن الكبرى ٥: ٢٤٧، ٢٤٨، مسند أحمد ٦: ٢٨٩، ٢٩٢. فأيّ بقعة مباركة استقرّ عليها منبر سيّد الرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! وبأيّ جواز هتك حرمته بنو أميّة ومن اقتدى بهم؟!

(٤) طبقات ابن سعد ١: ١٩٥، صحيح البخاري ٢: ٧٧، ٣: ٢٩، ٨: ١٥١، صحيح مسلم ٩: ١٦٢، سنن الترمذي: ح ٣٩١٥، ٢٩١٦، سنن النسائي ٢: ٥٣، مسند أحمد ٢: ٢٣٦، ٢٧٦، السنن الكبرى، للبيهقي ٥: ٢٤٧، فتح الباري ٤: ٩٩، ١٠٠.

(٥) صحيح مسلم ٩: ١٦١، صحيح البخاري ٢: ٧٧، ٣: ٢٩، فتح الباري ١١: ٤٦٥.

٣٢

شجرة إلّا لعلف ولا يقتل طيرها... ومن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وقد ذكرنا أحاديث في ذلك في موضعها. هذا بشأن المدينة المنوّرة، فكيف بك بروضة من رياض الجنّة فيها من أنقذنا من الضّلالة وظلمة الجاهليّة سيّدنا ونبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

ولم يكن الاحتفاء بالمنبر للأسباب التي ذكرناها وحسب؛ وإنّما لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلما عرّف ببقعته الطاهرة ومكان منبره الشريف، فإنّه قد غلّظ وشدّد على من حلف يميناً باطلة عند منبره ولو على شيء يسير.

بسند عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا يحَلِف رجلٌ على يمينٍ آثمةٍ عند هذا المنبر إلّا تبوّأ مقعده من النار ولو على سِواكٍ أخضر)(١) .

فكان بنو أميّة وولاتهم أوّل من انتهك حرمة مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعملوا السيف في أهلها ثلاثة أيّام وقد أباح أمير الوهّابيّين لهم كلّ شيء، فأوغل جيش الشام قتلاً ونهباً وزناً حتّى حبلت ألف امرأة بكر، وقُتل من قُتل من الصحابة والتابعين وحملة القرآن، وكان أميرهم قد ارتقى منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأكل التمر ويطرح النوى في وجوه الأسرى من أهل المدينة استخفافاً منه بحرمة صاحب المنبر ويقول: شاهت الوجوه.

وقد خلت سيرة السلف على التبرّك بالمنبر. عن يزيد بن عبد الله بن قسيط قال: رأيت ناسا من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خلا المسجد أخذوا برمّانة المنبر الصلعاء التي تلي القبر بميامنهم ثمّ استقبلوا القبلة يدعون(٢) .

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ١٩٥، مسند أحمد ٣: ٣٤٤، سنن ابن ماجة ٢: ٧٧٩، السنن الكبرى ١٠: ١٧٦، حيلة الأولياء ٧: ٢٤٨.

(٢) طبقات ابن سعد ٢: ١٩٦.

٣٣

وعن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عبد القاريّ أنّه نظر إلى ابن عمر وضع يده على مقعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من المنبر ثمّ وضعها على وجهه(١) .

القول في معنى حديث الروضة

ذكر النووي في شرحه: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنّة)، ذكروا في معناه قولين أحدهما أنّ ذلك الموضع بعينه ينقل إلى الجنّة؛ والثاني أنّ العبادة فيه تؤدّي إلى الجنّة. قال الطبري في المراد ببيتي هنا قولان: أحدهما القبر، والثاني المراد بيت سكناه على ظاهره، وروى (ما بين حُجرتي ومنبري). قال الطبري: والقولان متّفقان، لأنّ قبره في حجرته وهي بيته.

قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ومنبري على حوضي)، قال القاضي: قال أكثر العلماء: المراد منبره الذي كان في الدنيا. قال: وهذا هو الأظهر. قال: وقيل: إنّ له هناك منبراً على حوضه، وقيل: معناه أنّ قصد منبره والحضور عنده، لملازمة الأعمال الصالحة، يُورِد صاحبَه الحوض ويقتضي شربه منه، والله أعلم(٢) .

فترى العلماء يستشرفون هذه المعاني الجليلة الرائعة: فإنّ الموضع الذي بين بيته ومنبره بقعة من بقاع الجنّة على نحو اليقين، ولذا فهو ينقل إلى الجنّة، وثاني معانيه أنّ له من القدسيّة والمنزلة في أنّ العبادة فيه تؤدّي إلى الجنّة؛ وأيّاً من المعنيين فإنّ البقعة هذه لها حرمة لا ينتهكها إلّا شقيّ حليف للشيطان، وقد فعلها بنو أميّة وخلفهم الوهّابيّون.

وإنّ قدسيّة هذه البقعة المباركة تستمدّ قدسيّتها من اتّصالها بقبره الشريف، لأنّ قبره في حجرته وهي بيته كما بيّن الطبريّ. وأيضاً من اتّصالها بمنبره الميمون الذي كان

____________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) حاشية صحيح مسلم، شرح النووي ٩: ١٦١ - ١٦٢.

٣٤

يعلّم الناس من عليه عباداتهم كما مرّ بنا، فصار المنبر وملازمته، ملازمةً للأعمال الصالحة، ولـمّا كان المنبر على حوض النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ الأعمال الصالحة عنده سبب لورود الحوض والنهل منه.

اقتربنا كثيراً من حديث شدّ الرحال الذي تمسّك به ابن تيميّة، وتلقّاه الوهّابيّون حجّة بينهم وبين ربّهم الذي يزعمونه! نعم فلهم كما ألمعنا ربّ غيرُ ربّنا سبحانه؛ فربّهم قد خلق آدمعليه‌السلام على صورته، وله وجه بعين باصرة وفم يضحك حتّى تبدو نواجذه، وله يد ورجل يضعها في جهنّم فيملأ فراغها فتسكت ولا تقول بعد: هل من مزيد؟ وينطق بحرف وصوت وهو بذاته على عرشه قد ملأه، ويتحرّك وينزل إلى سماء الدنيا ويصعد إلى السابعة...، وأنّ لا خلود في جهنّم! ويمنعون من التوسّل بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الله تعالى في قضاء الحوائج، ويحرّمون شدّ الرحال لزيارتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحكمون بالشرك على من قبّل الضريح المقدّس أو توسّل بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدّمه بين يدي حاجته إلى الله تعالى، ويرفعون أصواتهم المنكرة بالبذاءة من القول في شأن ضيوف الرحمن الذين يرون من الجَفْوة أن يحجّوا ولا يتبرّكوا بزيارة نبيّهم، وإنّما يرون أنّ من تمام الحجّ الزيارة، ويعتقدون أنّ النبيّ حيٌّ يسمعهم ويجيبهم إذا سلّموا عليه ويدعو لهم ويشفع لهم فيغفر الله لهم ويرفع درجتهم في الجنّة.

إنّ رفع هؤلاء الأعراب أصواتهم عند حجرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبكلمات مخالفة للشرع، إساءة لصاحب المقام الكريم، متابعةً منهم لأسلافهم الأوائل من أعراب نجد الذين أنزل الله تعالى فيهم ما لم ينزله من الذمّ في قوم آخرين إلّا اليهود، فلقد تأخّر إسلام قبائل نجد إلى العام التاسع من هجرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففي السنة الثامنة تمّ تحرير البيت الحرام، ودخل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة، وأذعنت قريش فأظهرت الإسلام،

٣٥

فضربت القبائل من كلّ صوب نحو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بوفودها معلنةً الإسلام، ومن أجله سمّي ذلك العام بعام (الوفود).

وأمّا نجد، فإنّ البعض من قبائلها تأخّر إسلامها إلى العام التاسع، فيما لم يدخل بعضهم الإسلام إلّا في السنة العاشرة. وهم خلال السنوات السابقة لم يكونوا موادعين للمسلمين، فغزاهم رسول الله غير مرّة.

ما نزل فيهم من القرآن

ولم تكن قبائل نجد من الأدب وهي تظهر إسلامها، فأنزل الله تعالى في ذلك بياناً. ولا نريد أن نفيض في سلوك تلك القبائل النجديّة مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو أمر يطول وصفه، ولكن نذكر الآيات القرآنيّة التي نزلت في أعراب نجد، فهي أجدر أن تخبرك حقيقتهم التي ورثها أحفادهم، وأضاف إليها ناصبيّ عصره ابن تيميّة ما جعلهم وبالاً على أمّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

نزل فيهم قوله تعالى:( الْأَعْرَابُ أَشَدّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ إلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَاأَنْزَلَ اللّهُ عَلَى‏ رَسُولِهِ ) (١) .

وقوله تعالى:( يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَ تَمُنّوا عَلَيّ إِسْلاَمَكُم بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٢) .

عن مجاهد (أسلمنا)، قال: استسلمنا مخافة القتل والسبي(٣) .

____________________

(١) التوبة: ٩٧.

(٢) الحجرات: ١٧.

(٣) الدرّ المنثور ٧: ٥٨٢.

٣٦

وقوله تعالى:( إِنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ) (١) . نزلت في وفد تميم، قبيلة محمّد بن عبد الوهّاب التميميّ النجديّ؛ ذلك أنّهم دخلوا المسجد ونادوا رسول الله من وراء حجراته: أن أخرج إلينا يا محمّد، فآذى ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من صياحهم، فخرج إليهم فقالوا: يا محمّد! جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا؛ قال: قد أذنت لخطيبكم...، وبعد أن قام خطيبهم فراح يعدّد مفاخر قومه وأنّهم أعزّ أهل المشرق وأولي فضلهم لكثرة عددهم وعدّتهم، ومتحدّياً من يعدّد مثل ما لهم! فقام إليه خطيب رسول الله فأجابه فقطعه. ثمّ قام شاعرهم فافتخر بقومه كلّ فخر، فقام حسّان بن ثابت فأجابه؛ (فقال الأقرع بن حابس التميمي: وأبي، إنّ هذا الرجل لمؤتّى له(٢) ، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أحلى من أصواتنا. فلمّا فرغ القوم أسلموا)(٣) إنّ القوم لم يأتوا مسلمين، وإنّما أتوا مفاخرين بآثار الجاهليّة. فبعد إساءتهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمناداته وصياحهم من وراء حجراته وباسمه المجرّى من غير رسول أو نبيّ، وهو أمر نهى الله تعالى عنه وفعله أولئك وورثه عنهم أحفادهم الوهّابيّون منذ مائتي سنة تقريباً وحتّى الآن. قال تعالى:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ * إِنّ الّذِينَ يَغُضّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ أُولئِكَ الّذِينَ امْتَحَنَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتّقْوَى‏ لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن

____________________

(١) الحجرات: ٤.

(٢) لموتى له: لموفّق له.

(٣) السيرة النبويّة، لابن هشام ٤: ٢١٢.

٣٧

وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنّهُمْ صَبَرُوا حَتّى‏ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١) .

وذكروا في سبب نزول قوله تعالى:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ ) :

عن نافع بن عمر، عن ابن أبي ملكية، قال: كاد الخيّران أن يهلكا: أبو بكر، وعمر، رفعا أصواتهما حين قدم عليه ركب بني تميم، في العام التاسع، ويدعى عام الوفود، فأشار أحدهما بالاقرع بن حابس، وأشار الآخر برجل، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلّا خلافي، قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزلت الآية:( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ ) الآية(٢) .

عامر بن الطُّفيل يأتمر بقتل رسول الله

وممّن قدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبائل نجد: وفد عامر ينتهي نسبهم إلى تميم.

وكان في الوفد: عامر بن الطّفيل، وأربد بن قيس، وجبّار بن سلمي؛ قال ابن إسحاق: (وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم. فقدم عامر بن الطفيل عدوّ الله، على رسول الله وهو يريد الغدر به...، وقال لأربد: إذا قدمنا على الرجل فإنّي سأشغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعْلُه بالسيف، فلمّا قدموا على رسول الله قال عامر: يا محمّد، خالني(٣) . قال: (لا والله حتّى تؤمن بالله وحده). وجعل يكلّمه وينتظر

____________________

(١) الحجرات: ٢ - ٥.

(٢) صحيح البخاري ٦: ٤٦، ٨: ١٤٥، مسند أحمد ٢: ٦، سنن الترمذي ٥: ٦٣ / ٣٣١٩، سنن النسائي ٨: ٢٢٦، تفسير الطبري، ح ٣١٦٧٣، أسباب النزول، للواحدي: ١٥٢، سنن أبي يعلى: ٦٨١٦، أحكام القرآن، لابن العربي ٤: ١٠٨، معالم التنزيل، للبغوي: ١٩٩٠.

(٣) خالني: أي تفرّد لي خالياً حتّى أتحدّث معك.

٣٨

من أربد ما كان أمره به، فجعل أربد لا يحير شيئاً. ولـمّا أبى عليه رسول الله قال: والله لأملأنّها عليك خيلاً ورجالاً، فلمّا ولّى قال رسول الله: أللّهم اكفني عامر بن الطفيل. فلمّا خرجوا من عند رسول الله، قال عامر لأربد: ويلك يا أربد! أين ما كنت أمرتك به؟... قال: لا أبا لك! لا تعجلْ عليَّ، والله ما هممت بالذي أمرتني به من أمره إلّا دخلت بيني وبين الرجل حتّى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟... حتّى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فقتله الله...، ثمّ خرج أصحابه حين وارَوه، فلمّا قدِموا أتاهم قومهم فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ قال: لا شيء والله، لقد دعانا إلى عبادة شيء لودِدتُ أنّه عندي الآن فأرميه بالنَّبل حتّى أقتله، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقةً فأحرقتهما)(١) .

عن عبد الله بن عبّاس، وقد ذكر أربد وما قتله الله به فقال:( وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ) (٢) .(٣)

نجد أرض النبوّات الكاذبة

وكما تأخّر إسلام قبائل نجد، وكان منها الذي كان وهي تظهر إسلامها، من سوء أدب وائتمار في قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ نجد هي أرض النبوّة الكاذبة؛ فقد تنبّأ طلحة ابن خويلد وشكّل خطراً على الإسلام، إذ تبعته قبائل نجد.

ومنها كان: مسيلمة الكذّاب الحنفيّ التميميّ النجديّ، الذي ادّعى النبوّة، فاتّبعته تميم.

____________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام ٤: ٢١٣ - ٢١٤.

(٢) الرعد: ١٣.

(٣) السيرة النبويّة، لابن هشام ٤: ٢١٥.

٣٩

وتنبّأت سجاح التميميّة فاتّبعتها قبائل نجديّة وشكّلت خطراً على مسيلمة فدعاها للتفاوض وضرب لها قُبّة عطّرها...، فأقامت عنده ثلاثاً ثمّ انصرفت إلى قومها تعلمهم أنّها تزوّجته وأنّها ضمّت نبوّتها إلى نبوّته!(١)

الشيخ النجديّ

بعد هجرة المسلمين إلى المدينة بدأت مخاوف قريش من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزداد، فاجتمعوا للتشاور في أمر النبيّ، إذ اعترضهم إبليس في هيئة شيخ من أهل نجد، فوقف على باب الدار، فلمّا رأوه قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتّعدتم له، فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأياً ونصحاً، قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم. وبعد التشاور، تعدّدت آراؤهم في طريقة التخلّص من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا والشيخ النجدي يردّها، حتّى أدلى أبو لهب برأيه وهو أن يحمل شابّ من كلّ قبيلة سيفاً فيضربوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضربةً واحدةً فيضيع دمه بين القبائل؛ فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، واتّفقوا على ذلك.

قال السهيلي: وإنّما قال لهم إنّي من أهل نجد لأنّهم قالوا: لا يدخل معكم أحد من أهل تهامة لأنّ هواهم مع محمّد، فلذلك تمثّل لهم في صورة شيخ نجدي. وقد ذكر في خبر بنيان الكعبة أنّه تمثّل في صورة شيخ نجدي أيضاً حين حكموا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في أمر الركن من يرفعه، فصاح الشيخ النجدي: يا معشر قريش! أقد رضيتم أن يليه هذا الغلام دون أشرافكم وذوي أسنانكم؟ فلمعنى آخر تمثّل نجديّاً؛ وذلك أنّ نجداً يطلع منها قرن الشيطان، كما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حين قيل له: وفي نجدنا يا رسول؟ قال: (هنالك الزلازل والفتن ومنها يطلع قرن الشيطان) فلم يبارك عليها كما بارك على

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٢: ٤٩٩.

٤٠