شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 182568
تحميل: 4444

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182568 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

وليس نبيّ، يهذي. وعلى هذا الظاهر من القول، فإنّه مات على غير نبوّة!! فما أسهل وأيسر أن يقولوا مات أبوطالب مشركاً!

وجمعوا قواهم لسقيفة بني ساعدة التي كاد أن يقتل فيها سيّد الخزرج سعد بن عبادة، والذي بقي عمر يلاحقه حتّى أرسل جنّيّاً إلى الشأم فشكّ فؤاده! وبذا فتحوا الباب على مصراعيه لكلّ غاوٍ عاوعٍ، لهتكِ حُرمة الأنصار، فشنّ ابن هند غاراته على حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحرم الله تعالى؛ وقد أوصى قادة جيوشه أن يرعبوا أهل الحرمين ويخيفوهم حتّى يظنّوا أنّهم موقع بهم. فصار ذلك سنّة لمن خلفه، وكانت وقعة الحرم المكّيّ مرّتين دكت قبلة المسلمين بالمجانيق والنيران فهدمت واحترقت؛ وإن كنّا لا نبرّئ ابن أسماء من جريرة ما حدث إذ تحصّن بالبيت وهو يعرف عدوانيّة وزندقة ابن ميسون وقيادته وصلف أهل الشأم، فكان حقّاً عليه أن ينقل ساحة المعركة إلى خارج الحرم فيقطع بذلك ذريعة الشأميّين أيّام ابن ميسون، أو أيّام ابن الزرقاء فلا يتعرّضوا للحرم الشريف؛ كما فعل الإمام السبط الشهيد الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام .

أكثر من هذا فقد انتهك ابن أسماء حرمة البيت مباشرةً بذبحه رجالاً في البيت الحرام، ذكرنا خبرهم، وكان سبباً مساهماً لأهل الشأم في وقعة الحرّة العظيمة، وإن كان المباشر للجريمة الشنيعة ابن ميسون وجنده من أهل الشأم. وسبق هاتين الجريمتين وقعة الطف واستشهاد الإمام الحسين وأهل بيتهعليهم‌السلام وصحبه الكرام رضوان الله تعالى عليهم.

إنّ سنّة معاوية في لعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام عقب كلّ صلاة ودخوله حرباً ضروساً مع أمير المؤمنينعليه‌السلام هي حرب صفّين، كلّ ذلك امتداد لجرأة القوم وغصبهم الخلافة وليس فيهم طاهر؛ طهّره الله تعالى وزوجته وولده، مثلما طهّر رسول

٣٦١

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليًّا وزوجه فاطمة الزهراء وولديه الحسن والحسينعليهم‌السلام ؛ فكانوا أهلاً أن يباهل بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النصارى ويغلبهم بهم، لا بمن ناوأهم وغصب حقّهم في الخلافة المقرّرة قرآناً وسنّة، وقد أقرّ المحرّق! لعليّ بالإمارة يوم الغدير؛ ولا عجب فلقد تأخّر إسلامه فكان بعد أكثر من أربعين رجل وامرأة، ونال أخته وزوجها منه أذى لـمـّا علم مفارقتهما لآلهته ودخولهما الإسلام، وبعد أن أسلم شقّ عليه تركه الخمر حتّى نزلت الآية الثالثة بشأن الخمر القاطعة بحرمته وتلاها عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هتف ابن الخطّاب: انتهينا انتهينا. وليس في جميع من صدق إسلامه ووفي ببيعته، دعننا من الخوارج النواصب! من أسبغ عليه رسول الله سيادة الجنّة إلّا فاطمة وعليّ والحسن والحسين وقد استوسق له الأمر، ومضى أمير المؤمنين حقّاً ووليّهم بنصّ القرآن والسّنّة؛ فللعاهات التي اجتمعت فيه:

فبطنه التي أصابتها دعوة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يأكل ولا يشبع، فكان يوضع له الطعام فيأتي عليه ثمّ يرفعون الصفحة ويؤتى له بغيره وهكذا حتّى يقوم وهو يقول: ما شبعت ولكن تعبت! وكان يعقد بطنه على فخذه إذا جلس، لعظمها. فهي تلازمه حينما حلّ فتذكّره بدعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهو لا ينسى لعن النبيّ له ولزوج أمّه هند صخر أبي سفيان بن حرب، وابنه يزيد؛ وأقوال النبيّ فيه وفي موضعه من النار.

وهو إن ينسى فلا ينسى أنّه أظهر الإسلام تعوّذاً يوم فتح الله تعالى بيته الحرام لنبيّه الهاشميّ الكريم يحمل لواء الفتح معه وزيره وأخوه عليّ بن أبي طالب؛ فلمّا رأى بارقة السيف وضاقت الأرض عليه بما رحبت أظهر إسلاماً وأبطن نفاقاً. وهذا ما ترجمه في قوله للمغيرة بن شعبة - مرّ بنا - وفيه أنّه يسعى حثيثاً لدفن الرسالة!

٣٦٢

وهو إن ينسى فلا ينسى أنّ الذي جاهد المشركين بجمعهم وصدق النبيّ الإيمان والنصرة حتّى وفاته هو أبوطالبعليه‌السلام ، وابنه عليّعليه‌السلام هو الذي دكدك حصون الكفر وطهّر الأرض من عتاة الشرك، ويكفيه بدر؛ فمن مجموع (٧٠) هالك من قريش، قتل ابن أبي طالب عليّعليه‌السلام (٢٧)، واشترك في قتل ثلاثة. منهم خال معاوية: الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس؛ وجدّه لأمّه: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس؛ وشيبة بن ربيعة، اشترك في قتله عليّ وحمزةعليهما‌السلام ، وحنظلة بن أبي سفيان، أخو معاوية لأبيه.

هؤلاء ممّن تطلب هند بثاراتهم يوم أحد! ووتر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام معاوية. وغير هؤلاء فإنّ ثلاثة من بني أميّة قتلهم عليّعليه‌السلام يوم بدر، ذكرناهم سابقاً، إلّا أنّ أمرهم لا يهمّ معاوية! لـما بيّناه في نسبة معاوية إلى هند أمّه، وإلى ستّة رجال! وإقرار معاوية بذلك كلّه، وعند التحدّي الذي ذكرناه إذ أقرّ صخر بن حرب أبو سفيان بأبوّته ليزيد ونسبة معاوية إلى هند، وافتخار هند بابنها معاوية على يزيد ابن أبي سفيان.

فليس الطلب بدم عثمان هو الذي حمل ابن هند على حرب الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فأوّلاً عثمان أمويّ لا شكّ في ذلك، وأمّا معاوية فقد عرفت! ولقد استنجده عثمان فما أنجده، وتفانى أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام في نصرته ونجدته. وإذا كان رموز الفتنة وأشدّ المؤلّبين عليه قد قتلا يوم الجمل، طلحة والزبير؛ فقد بقي من حرّق على عثمان نار الفتنة (عائشة)، فمع كذب ابن هند في الطلب بدم عثمان! كان عليه أن يطلبه عند عائشة!

وثانياً: إنّ الطلب بثارات الرؤوس العفنة التي قطعها عليّعليه‌السلام يوم بدر، هو السبب الواقعيّ في خروج ابن هند على أمير المؤمنينعليه‌السلام . ومعاوية في أحسن أحواله أن ينسب

٣٦٣

وينسب نفسه إلى هند؛ ولو نسب نفسه إلى أبي سفيان الذي نفاه كما مرّ بنا! فإنّه يجد امرأة تصاول بين رجال المشركين تضرب بالدف وتوعد من يقبل بالمعانقة، متبذّلة توعد وحشي حشاشة صدرها يفعل ما يريد! لو قتل حمزة، أو عليًّاعليهما‌السلام .

صليطة اللسان! إذ لـما فرض الله الإسلام على طواغيت قريش وجاءت النسوة تبايع فيهنّ هند وشرط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهن أن لا يسرقن ولا يزنين...، سلّمن إلّا هند قالت: وهل تزني الحرّة؟! فنظرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عمر! وابتسم؟ وسرّها عند ولدها البار معاوية! الذي ينهد فيقول: وأنا ابن هند.

وهو ربيب أبي سفيان، والاستلحاق كما بينّا أمر مألوف في آل أميّة بدءاً بأميّة الذي استلحقه عبد شمس بعد أن اشتراه عبداً روميّاً من مصر؛ فكان للعبد هذا عبد اسمه ذكوان فأعتقه وتبنّاه وسمّاه أبا عمرو بن أميّة! ونزل له عن زوجته فتزوّجها ذكوان فولدت له أبا معيط، فولد هذا عقبة بن أبي معيط، أسر يوم بدر، فأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليًّاعليه‌السلام فضرب عنقه.

فكيفما كان أمر ابن هند ولون علاقته بالبيت الأمويّ! فإنّه لم ينجب من خير ولا ربّي في خير، وهو سمع من سيرة هذا البيت وآخرهم أبو سفيان وهند، ويجد أبا سفيان يذكر ابن سميّة زياداً فيدّعيه ويذكر من غير حياء أنّه الذي وضعه في رحم أمّه! فبنى ابن هند على ذلك واستلحق زياداً وزوّج بنيه من بنات آل أبي سفيان، وعبد شمس. ذكرنا تفاصيل ذلك، وذكرناه موجزاً لئلاً ننسى!

فنقول: بماذا يتنقّص الخوارج، ابن هند وغيره أمير المؤمنين عليًّاعليه‌السلام ، بأمّه إحدى الفواطم اللاّتي يفخر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالانتساب إليهنّ بقوله: (أنا ابن الفواطم والعواتك)؛

٣٦٤

أوّل الفواطم: فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم(١) ، أم عبد الله وأبي طالب؛ فهي جدّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّعليه‌السلام .

ومن الفواطم المباركات: فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. كافلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقائمة مقام أمّه. أوّل هاشميّة ولدت لهاشميّ. أسلمت وهاجرت إلى المدينة وتوفّيت ودفنت بها. ولـمّا ماتت كفّنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقميصه. واضطجع في قبرها وجزّاها خيراً. فقالوا: ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بهذه! قال: (إنّه لم يكن بعد أبي طالب أبرّ منها، إنّي ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنّة، واضطجعت في قبرها ليهون عليها)(٢) .

وعن أنس بن مالك، قال: لـمّا ماتت فاطمة بنت أسد أمّ عليّ، دخل عليها رسول الله فجلس عند رأسها فقال: (رحمك الله يا أمّي؛ كنت أمّي بعد أمّي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيّب الطعام وتطعميني تريدين بذلك وجه الله تعالى والدار الآخرة)(٣) وأخبارها تطول.

لعلّك تيقّظت إلى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إنّه لم يكن بعد أبي طالب أبرّ بي منها...)، قال ذلك وأبو طالبعليه‌السلام قد توفّاه الله تعالى، فما بال النبيّ يذكر رجلاً مشركاً كما يفترون؟! وهو إذ يتحدّث عن امرأة مؤمنة هاجرت على قدميها وكانت أوّل المبايعات؛ ولها ولوليدها العلي عليّ من علوّ الشأن أن فتحت لها الكعبة لـمّا ضربها

____________________

(١) جمهرة النسب: ٢٩، النسب، لابن سلاّم: ١٩٦.

(٢) المناقب، للخوارزميّ: ٤٦ - ٤٨ و ٢٧٧، شرح نهج البلاغة ١: ١٤، نسب قريش، للزبيري: ٤٠، تهذيب الكمال ٢٠: ٤٧٣، الاستيعاب ٤: ٣٨١، أسد الغابة ٧: ٢١٧، الإصابة ٤: ٣٨٠، نور الأبصار: ١٥٦، المجدي، للعمري: ١١، تذكرة الخواص: ٢٠.

(٣) نفس المصادر السابقة.

٣٦٥

المخاض فدخلتها وانطبقت عليها وبعد ثلاث خرجت تحمله لتعطيه للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتولاّه؛ فما عسى أن يقرن بها رجلاً قد نهي عن الاستغفار له والدعاء كما يفترون؟!

إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لـمّا صنع بفاطمة بنت أسدرضي‌الله‌عنه ما صنع وسئل بيّن لهم علّة ذلك ببرّها به ذلك البرّ الذي عوّضه عن برّ زوجها أبي طالب أبي عليّ وعمّ النبيّ.

( كَلّا بَلْ رَانَ عَلَى‏ قُلُوبِهِم مّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (١) .

وإذا كرّم الله وجوه الفواطم والعواتك عن شنائع هند؛ فهناك امرأة إذا ذكرت نسيت هند! تلك هي (حمامة)، اسم جميل لمخلوق قذر! فهي امرأة بغيّ من ذوات الرايات، وهي جدّة أبي سفيان(٢) .

ولعلّ معاوية يجد عزاءه في خارجيّ يقتدي به جدّته من ذوات الرايات اسمها: صهّاك، وقيل صهال. وإنّ معاوية ممّن أشرب الرذيلة فلا يستحي أن يكون لستّة رجال! أو أقلّ.

وممّا حفّز ابن هند أن يصاول أمير المؤمنين ويحاربه، أنّه وجد من سبقه قد هتكوا حرمة عليّ والصدّيقة فاطمة ابنة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما انتهكوا حرمة الأنصار وخيار المهاجرين، فما الذي يمنعه أن يصنع صنيعهم وقد فعل!

ولنختم كلامنا في هذا الباب بشهادة أعتى أعداء عليّعليه‌السلام وبني هاشم شهادة معاوية، وله شهادات أنطقه الله الحكيم بها لتكون أكثر بياناً في الحق.

حدّث الزبير بن بكّار، قال: دخل محقن بن أبي محقن الضبّيّ على معاوية فقال: جئتك من عند ألأم العرب وأبخل العرب وأجبن العرب!

____________________

(١) المطفّفين: ١٤.

(٢) أنساب الأشراف ٢: ٣٢٩.

٣٦٦

قال: ومن هو يا أخا بني تميم؟

قال: عليّ بن أبي طالب!

قال معاوية: أسمعوا يا أهل الشام ما يقوله أخوكم العراقي، فابتدروه أيّهم ينزل عليه ويكرمه! فلما تصدّع الناس عنه قال: كيف قلت؟ فأعاد عليه.

فقال له: ويحك يا جاهل، كيف يكون ألأم العرب وأبوه أبو طالب، وجدّه عبد المطّلب، وامرأته فاطمة بنت رسول الله؟! وأنّى يكون أبخل العرب؟! فو الله لو كان بيتان: بيت تبن، وبيت تبر(١) ، لأنفد تبره قبل تبنه؛ وأنّى يكون أجبن العرب؟! فو الله ما التقت فيتيان(٢) قطُّ إلّا كان فارسهم غير مدافع. وأنّى يكون أعيا العرب؟! فو الله ما سنّ البلاغة لقريش غيره ولما(٣) قامت عنه أم محقن ألأم وأبخل وأجبن وأعيا لبظر أمّه، فو الله، لولا ما تعلم لضربت الذي فيه عيناك. فإيّاك عليك لعنة الله، والعودة إلى مثل ذلك.

قال: والله أنت أظلم منّي، أيّ شيء قاتلته وهذا محلّه؟!

قال: على خاتمي هذا(٤) ، حتّى يجوز به أمري.

قال: فحسبك ذلك عوضاً من سخط الله، وأليم عذابه.

قال: لا يا ابن محقن، ولكنّي أعرف من الله ما جهلت حيث يقول:( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْ‏ءٍ ) (٥) .(٦)

____________________

(١) التبر: الذهب غير المضروب.

(٢) لعلّها: فئتان، وكلاهما صحيح.

(٣) أي أنّ الذي ولدته هذه المرأة وهو محقن بن أبي محقن بهذه النعوت.

(٤) إشارة إلى التحكيم وتثبيت ابن النابغة له من خلال مهزلة تثبيت الخاتم في إصبعه!

(٥) الأعراف: ١٥٦.

(٦) كشف الغمّة ٢: ٤٧، كشف اليقين: ٤٧٥ - ٤٧٦.

٣٦٧

وصيّة أبي طالب وقد حضرته الوفاة

ومثلما عاش حميداً أبو طالب؛ فقد مات سعيداً، فهو على سرّ آبائه في حبّ الخير لقومه وجمع شملهم وإذكاء المحبة بينهم؛ هذا ما جاء في وصيّته عند موته؛ أليس أبوه الأعلى قصيّ المدعى مجمّعاً لأنّه جمع القبائل من قريش بعد تفرّقها، وهاشم درّة قريش وذروة مجدها الذي هشم الثريد فأشبعهم وغيرهم من القبائل؛ وعبد المطّلب الفيض ذو الكرامات المتألّه المتحنّف أبيّ الظلم والعدوان، ومن وصاياه لأبي طالب في رعاية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

فلنسمع وصيّة أبي طالب، ففيها أمور غير ما ذكرنا:

عن الكلبي، قال: لـمّا حضرت أبا طالب الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال: يا معشر قريش! أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب، فيكم السيّد المطاع، وفيم المقدام الشجاع، والواسع الباع، واعلموا أنّكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيباً إلّا أحرزتموه، ولا شرفاً إلّا أدركتموه، فلكم بذلك على الناس الفضيلة، ولهم به إليكم الوسيلة، والناس لكم حرب وعلى حربكم إلب، وإنّي أوصيكم بتعظيم هذه البنيّة (يعني الكعبة)، فإنّ فيها مرضاة للربّ، وقواماً للمعاش، وثباتاً للوطأة.

صلوا أرحامكم ولا تقطعوها، فإنّ صلة الرحم منسأة في الأجل، وزيادة في العدد، واتركوا البغي والعقوق ففيهما هلكة القرون قبلكم، أجيبوا الداعي، وأعطوا السائل فإنّ فيهما شرف الحياة والممات، وعليكم بصدق الحديث، وأداء الأمانة، فإنّ فيهما محبّة في الخاصّ، ومكرمة في العام.

وإنّي أوصيكم بمحمّد خيراً فإنّه الأمين في قريش، والصدّيق في العرب، وهو الجامع لكلّ ما أوصيتكم به، وقد جاءنا بأمر قبله الجنان، وأنكره اللسان، مخافة الشنآن، وأيم الله كأنّي أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف والمستضعفين من

٣٦٨

الناس قد أجابوا دعوته، وصدّقوا كلمته، وعظّموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً، ودورها خراباً، وضعفاؤها أرباباً(١) ؛ وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته(٢) العرب ودادها، وأصفت له فؤادها، وأعطته قيادها؛ دونكم يا معشر قريش! ابن أبيكم، كونوا له ولاة ولحزبه حماة، والله لا يسلك سبيله أحد إلّا رشد، ولا يأخذ أحد بهديه إلّا سعد، ولو كان لنفسي مدّة، وفي أجلي تأخير، لكففت عنه الهزاهز، ولدافعت عنه الدواهي(٣) .

وصيّة مترعة بالإيمان والتسديد؛ فهو بعد ذكره مآثر قريش ونخوته إيّاهم أن لا يفرّطوا بها، ثمّ أوصاهم بحرمة الكعبة وتعظيمها؛ وبعد، أوصاهم بأمور هي من شريعة الإسلام، وبيّن لهم مغانم أفعال ومغبّة أخرى.

وجمع كلّ خير أوصاهم به بشخص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأوصاهم باتّباعه. وعظيم أبو طالب! فكأنّه يستقرأ المستقبل فيرى المستضعفين هم الذين سيتّبعوا النبيّ وبهم ينتصر... وأنّ العرب ستعطي النبي قيادها ويعود إلى تحريضهم ليكونوا له ولاةً، ويعطيهم يميناً أنّ الرشاد والسعادة بسلوك سبيله والأخذ بهديه. وهو في حال الاحتضار لا يتخلّى عن النبيّ ونصرته وكلّه عزيمة أن لو تأخّر أجله، ليدفعنّ عنه الدواهي من غير ضعف أو توقّف. ولو لم يكن قلبه مطمئنّ بالإيمان لـما كان آخر ما تكلّم به: أنّ الرشاد والسعادة في هدي محمّد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

____________________

(١) أي سادة.

(٢) أي أخلصته.

(٣) الروض الأنف ١: ٢٥٩، المواهب اللدنية ١: ٧٢، بلوغ الإرب ١: ٣٢٧، السيرة الحلبيّة ١: ٣٧٥، أسنى المطالب: ٥، ثمرات الأوراق هامش المستطرف ٢: ٩.

٣٦٩

وصيّة أبي طالب لبني عبد المطّلب

أخرج ابن سعد في طبقاته: أنّ أبا طالب لـمـّا حضرته الوفاة دعا بني عبد المطّلب فقال: لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمّد وما اتّبعتم أمره، فاتّبعوه وأعينوه ترشدوا(١) .

أبوطالبعليه‌السلام ، مع رجحان عقله، وفي آخر عهده من الدنيا وأوّل عهده من الآخرة، يوصي بني أبيه باتّباع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وطاعته وأن يكونوا عوناً له لأنّ الرشاد في ذلك، ومن قبلها وصيّته لقريش إذ أوصاهم بمعالي الأخلاق، ومنها إلى الوصيّة بالنبيّ فهو الجامع لتلك الأخلاق؛ فهو الأمين في قريش، الصدّيق في العرب؛ وقبل البعثة كانت القبائل تسمّيه الصادق الأمين. فدعاهم إلى ما دعى إليه بني أبيه ففيه رشدهم، فإن ضيّعوه فحظّ أنفسهم ضيّعوا؛ وحذّرهم عاقبة ذلك أن سيضعفوا ويرتفع المستضعفون باتّباعهم له. فهل يعقل أن مثل أبي طالب يوصي غيره بالشيء ويمتنع هو منه؟!

شهادات حقّ في إسلام أبي طالب

من الحيف أن نقيم على إسلام أبي طالبعليه‌السلام شهادات، فأبو طالب دلّ على ذاته بذاته وبسيرته البيضاء فلم يسجّل عليه شين مذ طفولته حتّى احتضانه الرسول والرسالة؛ فتنزّه عن مجانسة شانئيه ولئن تعدّوا على ساحته المقدّسة؛ فلقد تعدّوا على ساحة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قدّموا بين يديه ورفعوا أصواتهم عليه حتّى نزل بهم قرآن، وخالفوا وصيّته واعتدوا على عترته، ووضعوا أحاديثاً كاذبة، وأبو طالب لم يكن عنه شيء في ذلك، إنّما كان جنديّاً فدائيّاً للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى لحظة مماته يوصي قريشاً به

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ١٢٣.

٣٧٠

ويحذّرهم أنّ المستقبل له ولجنده من المستضعفين. ثمّ يوصي بنيه ورهطه أن يكونوا على العهد الذي عرفه منهم. وإنّما نذكر شيئاً من تلك الشهادات لأنّه منّا ونحن منه ومن ولده الوصيّعليه‌السلام بالولاء المفروض علينا؛ أمّا أولئك فلهم دينهم ولنا ديننا ولهم أولياؤهم ولنا أولياؤنا وكلّ نفس بما كسبت رهينة.

وأبو طالبعليه‌السلام هو الشاهد الأوّل على إسلامه وجهاده من خلال أشعاره التي كانت على قريش وغيرها أمضى من قعقعة السيوف وتناولها الهام، والطافحة بالإيمان من غير تورية: فمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول المليك، رسول الإله - لا ألىلهة! ـمحمّد النبي أرسله الله بآياته وبخير أديان البريّة، ومحمّد أكرم خلق الله وسرّ ذلك أنّ الله تعالى أكرمه ومن كرمه أن شقّ له من اسمه اسماً، فذو العرش محمود والنبيّ محمّد، وهو لا يعجب مثل قريش ومشركيها بنزول كتاب على محمّد فهو نبيّ مثل موسى وذي النون، وحال حال موسى والمسيح في النبوّة، وهو يستسقي بالنبيّ فيسقى، فينشد: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه... إلى آخر شعره وقد ذكرناه، وهو يشهد أنّ الناس إذا افتخروا فقريش، فإذا افتخرت قريش ففخرها عبد مناف، فإن افتخرت عبد مناف فعزّها هاشم، وانتهى فخر هاشم وعزّها بمحمّد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فكان حتام على أبي طالب أن ينصر رسول الله بنفسه وولده ورهطه فإذا نام رسول الله، حوّله بين ولديه جعفر وعليّ حذراً من غدر قريش!... فشهادات أبي طالب في حقّ نفسه وإسلامه بين القول والعمل تصلح أن تكون كتاباً مستقلاًّ ختمها بوصيّته لقريش، لبني أبيه، فسلام عليه في جنّات الخلد مع نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

شهادة النبيّ له

ذكر ابن هشام أنّ أهل المدينة أقحطوا فأتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكوا إليه، فصعدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٧١

المنبر فاستسقى، فما لبث أن جاء من المطر حتّى شكا الناس الغرق، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أللّهم حوالينا ولا علينا)، فانجاب السحاب عن المدينة فصار حواليها كالإكليل؛ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسرّه)، فقال بعض أصحابه: كأنّك يا رسول الله أردت قوله:

وأبيض يُسْتسقى الغَمام بوَجْهِه

ثِمالُ اليتامى عِصمةٌ للأراملِ

قال: (أجل)(١) .

فلو كان أبو طالب - حاشا له - مشركاً، لـما ذكره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مثل هذا المشهد الطيّب؛ فهي شهادة منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي طالب. إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسدّد بالوحي فلا يقول باطلاً؛ فهو كما ذكر أبا طالب بخير، فكذلك ذكر جدّه عبد المطّلبرضي‌الله‌عنه فانتسب إليه، ولو كان مشركاً لـما جاز له ذلك سميّاً وهو في موطن حرب، كان ذلك يوم حنين. فلمّا غشى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشركون، جعل يرتجز ويقول:

أنا النبيُّ لا كَذِبْ

أنا ابنُ عبد المطّلبْ

فما رُئيَ من الناس أشدّ منه(٢) .

ومثل الذي ذكره ابن هشام في أمر الاستسقاء وذكر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي طالبعليه‌السلام ، على نحو آخر:

عن أنس بن مالك قال: أتى أعرابيّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله، لقد أتيناك وما لنا بعير يئط، ولا صبيّ يصطبح، ثمّ أنشد:

أتيناك والعذراء يدمى لبانها

وقد شغلت أمُّ الصبيِّ عن الطفل

____________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام ١: ٣٠٠.

(٢) تاريخ الطبريّ ٢: ٣٤٨، العقد الفريد ٦: ١٣٢.

٣٧٢

ولا شيء ممّا يأكل الناس عندنا

سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل

وليس لنا إلّا إليك فرارنا

وأين فرار الناس إلّا إلى الرُّسل

فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجرّ رداءه حتّى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: (أللّهم اسقنا غيثاً مغيثاً سحّاً طبقاً غير رايث، تنبت به الزرع، وتملأ به الضرع، وتحيي به الأرض بعد موتها؛ وكذلك تخرجون). فما استتمّ الدعاء حتّى التقت السماء بروقها، فجاء أهل البطالة يضجّون: يا رسول الله! الغرق، فقال: (حوالينا ولا علينا). فانجاب السحاب عن المدينة كالإكليل، فضحك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى بدت نواجذه وقال: (لله درّ أبي طالب لو كان حيّاً لقرّت عيناه، من الذي ينشدنا شعره؟) فقال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه: يا رسول الله، كأنّك أردت قوله:

وأبيض يُسْتسقى الغَمام بوَجْهِه

ثِمالُ اليتامى عِصمةٌ للأراملِ

قال: (أجل)، فأنشده أبياتاً من القصيدة ورسول الله يستغفر لأبي طالب على المنبر، ثمّ قام رجل من كنانة وأنشد:

لك الحمد والحمد ممّن يشكر

سقينا بوجه النبيِّ المطر

دعا الله خالقه دعوةً

وأشخص معها إليها البصر

فلم يَكُ إلّا كإلقا الردا

وأسرع حتّى رأينا الدرر

دفاق العزاليّ جمّ البُعاق

أغاث به الله عليا مضر(١)

فكان كما قاله عمُّه

أبو طالب أبيضٌ ذو غرر(٢)

به الله يسقي صيوب الغمام

وهذا العيان لذاك الخبر

____________________

(١) العزالي جمع العزلاء: مصبّ الماء. والبُعاق: السحاب الممطر بشدّة.

(٢) في أمالي الطوسي: ٤٦: (...، أبوطالب ذا رواءٍ غزر).

٣٧٣

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إن يك شاعراً يحسن فقد أحسنت)(١) .

فقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لله درّ أبي طالب) يشهد له بأنّه لو رأى النبيّ وهو يستسقي على المنبر لسرّه ذلك، ولقرّت عيناه؛ فهذا من النبيّ شهادة لأبي طالب بعد موته أنّه كان يفرح بكلمات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقرّ عينه بها، وما ذلك إلّا لسرّ وقر في قلبه من تصديقه بنبوّته وعلمه بكمالاته.

وفي رواية الطوسي: قال: أجل، فأنشده أبياتاً من القصيدة ورسول الله يستغفر لأبي طالب على المنبر ثمّ قام رجل من كنانة وأنشد - وذكر شعره -.

وعن ابن عبّاس: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاد من جنازة أبي طالب فقال: (وصِلتُك رحِم؛ وجزيت خيراً يا عمّ)(٢) ، وفي لفظ الخطيب: عارض النبيّ جنازة أبي طالب فقال: (وصِلتُك رحِم، جزاك الله خيراً)(٣) .

وقال اليعقوبي: لـمّا قيل لرسول الله: إنّ أبا طالب قد مات، عظم ذلك في قلبه واشتدّ لذلك جزعه ثمّ دخل فمسح جبينه الأيمن أربع مرّات وجبينه الأيسر ثلاث مرّات ثمّ قال: (يا عمّ! ربّيت صغيراً، وكفلت يتيماً؛ فجزاك الله عنّي خيراً)، ومشى بين يدي سريره وجعل يعرضه ويقول: (وصِلتُك رحِم، وجزيت خيراً)(٤) .

لم يكن لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفعل ويترحّم على مشرك، ويدعو له بالخير، ويوصل رحمه بعد مماته، ويشتدّ جزعه لموته!

____________________

(١) أعلام النبوّة، للماورديّ: ٧٧، شرح ابن أبي الحديد ٣: ٣١٦، عمدة القاري ٣: ٤٣٥، السيرة النبويّة، لزيني دحلان ١: ٨٧، أسنى المطالب: ١٥.

(٢) دلائل النبوّة، للبيهقي: ٢٥، تذكرة الخواصّ: ٦، البداية والنهاية ٣: ١٢٥، الإصابة ٤: ١١٦.

(٣) تاريخ بغداد ١٣: ١٩٦.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٦.

٣٧٤

وبسند عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث، قال: قال العبّاس: يا رسول الله أترجو لأبي طالب؟ قال: (كلّ الخير أرجو من ربّي)(١) .

ورجال سنده رجال صحاح ثقات.

ومن قولٍ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاطب به عقيل بن أبي طالب: (يا أبا يزيد إنّي أحبّك حبّين، حبّاً لقرابتك منّي، وحبّاً لـما كنت أعلم من حبّ عمّي أبي طالب إيّاك)(٢) .

هذا شاهد صدق على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعتقد إيمان عمّه أبي طالب وإلاّ فما قيمة حبّ كافر لغيره حتّى يكون سبباً لحبّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذا الغير؟!

وعلام يتمثّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأقوال أبي طالبعليه‌السلام في مواقف كثيرة إن لم يكن عاش حميداً ومات مسلماً سعيداً؟!

يوم بدر نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى القتلى وهم مصرّعون فقال لأبيّ: (لو أنّ أبا طالب حيّ لعلم أنّ أسيافنا قد أخذت بالأماثل) يعني قول أبي طالب:

كذبتم وبيت الله إن جدَّ ما أرى

لتلتبسن أسيافنا بالأماثل(٣)

وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: (إذا كان يوم القيامة شفعت لأبي وأمّي وعمّي أبي طالب وأخ كان لي في الجاهليّة)(٤) .

وفي تاريخ اليعقوبي: روى عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّه قال: (إنّ الله عزّ وجلّ وعدني في أربعة في أبي وأمّي وعمّي وأخ كان لي في الجاهليّة)(٥) .

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ١٢٤ - ١٢٥.

(٢) الاستيعاب ٢: ٥٠٩، ذخائر العقبى: ٢٢٢، شرح ابن أبي الحديد ٣: ٣١٢، مجمع الزوائد ٩: ٢٧٣ وقال: رجاله ثقات.

(٣) الأغاني ١٧: ٢٨.

(٤) ذخائر العقبى: ٧.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢: ٢٦.

٣٧٥

وبسند عن عليّعليه‌السلام عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: (هبط جبرئيلعليه‌السلام عليّ فقال: إنّ الله يقرئك السّلام ويقول: حرمت النار على صلب أنزلك، وبطن حملك، وحجر كفلك) أمّا الصلب فعبد الله وأمّا البطن فآمنة، وأمّا الحجر فعمّه أبو طالب، وفاطمة بنت أسد(١) .

وفي شرح ابن أبي الحديد: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قال لي جبرائيل: إنّ الله مشفعّك في ستّة: بطن حملتك آمنة بنت وهب، وصلب أنزلك عبد الله بن عبد المطّلب، وحِجْر كفلك أبو طالب، بيت آواك عبد المطّلب، وأخ لك وأخ لك في الجاهليّة...)(٢) الخ.

أبو طالبعليه‌السلام على لسان ولده عليّعليه‌السلام

وأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ذو النفس الطاهرة بصريح القرآن وأحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن خلال سيرته العَلَويّة العُلْويّة، فهو خيرُ البَرِيّة - كما في سورة البيّنة - وخيرُ البشر ومَن أبى فقد كفر كما في رواية جابر الأنصاريّ فلا تجنح به عاطفة فيرثي كافراً وإن كان أباه - حاشا له - رثاء متوجّع ويمدحه بما هو فيه من خُلُق حميد وتفان في سبيل الرسالة والرسول! فإذا كذّبوا عليًّاعليه‌السلام في شهادته، فقد باؤوا بغضب من الله، وهو الخسران المبين.

قالعليه‌السلام يرثي أباهعليه‌السلام :

أباطالب عصمة المستجير

وغيث المحول ونور الظُّلَمْ

لقد هدّ فقدُك أهل الحفاظ

فصلّى عليك وليُّ النّعمْ

ولقّاك ربُّك رضوانه

فقد كنتَ للطهرِ خيرَ عمْ(٣)

____________________

(١) التعظيم والمنّة، للسيوطي: ٢٥.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ٣: ٣١١.

(٣) تذكرة الخواصّ: ٦، ديوان أبي طالب: ٣٦.

٣٧٦

وثيقة ناطقة من قرآن ناطق في حقّ أبي طالبعليه‌السلام ، فأبو طالب ليس من جنس المفترين عليه ولا من جنس آبائهم؛ من استجار بأبي طالب فقد عُصم دمُه وذهب محِلُه كما كان عبد المطّلب، ومَن شَابَهَ أباه فما ظُلِم. وفقدُ أبي طالب ترك أثراً بالغاً في نفوس أهل النَّجْدة والمحامين عن رسول الله. وحاشا لوصيّ النبيّ ووليّ المؤمنين وباب علم الرسول وزوج البتول أن يقول طيشاً فيصلّي عليه والصلاة والسلام إنّما للنبيّ وللمعصوم من أئمّة أهل البيت ومن قبلهم الله بأحسن القبول، ويدعو بالرضوان لمن مات مشركاً! وإن كان ذا قربة.

واسمعه يذكر شجونه المتجدّدة وقد أرّقه فقد أبي طالب مأوى الصعاليك الذين توعّد بهم أبو طالب وجوه قريش، وتنبّأ أنّ المستقبل لهم ويسخر من فرح قريش! بموت أبي طالب، فإنّ الموت لاقيهم؛ وينطق عن لسان أبيه في نصرة النبيّ، فبنو هاشم دون النبيّ له فداء:

أرقتُ لطيرٍ آخر الليل غرّدا

يذكّرني شجواً عظيماً مجدّدا

أبا طالب مأوى الصعاليك ذا الندى

جواداً إذا ما أصدر الأمر أوردا

فأمست قريش يفرحون بموته

ولستُ أرى حيّاً يكون مخلّدا

أرادوا أموراً زيّنتها حلومهم

ستوردهم يوماً من الغيِّ موردا

يُرجُّون تكذيبَ النبيّ وقتْله

وأن يفترى قِدماً عليه ويجحدا

كذبتم وبيت الله حتّى نذيقكم

صدور العوالي والحسام المهنَّدا

فإمّا تُبيدونا وإمّا نُبيدكم

وإمّا تروا سِلْمَ العشيرة أرشدا

وإلّا فإنّ الحيَّ دون محمّد

بني هاشم خير البريّة مَحتدا

٣٧٧

وأشعار أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام كثيرة في عُلوّ شأن أبي طالب وإسلامه.

وهذه شهادات أخرى لأهل البيت الطاهرعليهم‌السلام ؛ إذ لم يُطهّر الله بيتاً غيره، فهم أدرى بما في البيت، وشهاداتُهم أوْلى أن يؤخذ بها لا شهادات أهل الشنآن!

عن سيّد شباب أهل الجنّة الإمام السبط الحسين بن عليّعليهما‌السلام عن والده أمير المؤمنين أنّه كان جالساً في الرحبة والناس حوله فقام إليه رجلٌ فقال له: يا أميرالمؤمنين: إنّك بالمكان الّذي أنزلك الله وأبوك معذّب في النار! فقال له: (مَهْ فضّ الله فاك، والّذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً لو شفع أبي في كلّ مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله، أبي معذّبٌ في النار وابنُه قسيم الجنّة والنار!؟ والّذي بعث محمّداً بالحقّ إنّ نور أبي طالب يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلائق إلّا خمسة أنوار: نور محمّد ونور فاطمة ونور الحسن والحسين ونور ولده من الأئمة، الا إنّ نوره من نورنا خلقه الله من قبل خلق آدم بألفي عام)(١) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : (والله ما عبد أبي ولا جدّي عبد المطّلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنماً قطُّ). قيل له: فما كانوا يعبدون؟ قال: (يصلّون إلى البيت الحرام على دين إبراهيمعليه‌السلام متمسّكين به)(٢) .

الإمام زين العابدينعليه‌السلام

ولزين العابدين السجّاد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالبعليهم‌السلام استدلال رائع في إيمان أبي طالب ذكره ابن أبي الحديد، قال: روي أنّ عليّ بن الحسينعليه‌السلام سئل عن

____________________

(١) تفسير أبي الفتوح ٤: ٢١١، بحار الأنوار ٩: ١٥، تفسير البرهان ٣: ٧٩٤، كنز الفوائد، للكراجكي: ٨٠.

(٢) كمال الدين، للصدوق: ١٤٠، تفسير أبي الفتوح ٤: ٢١٠، تفسير البرهان ٣: ٧٩٥.

٣٧٨

هذا - يعني عن إيمان أبي طالب - فقال: (واعجبا! إنّ الله تعالى نهى رسوله أن يقرَّ مسلمةً على نكاح كافر وقد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام ولم تزل تحت أبي طالب حتّى مات)(١) .

الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام

ولولده الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام كلمة في ذلك. فقد سئلعليه‌السلام عن إيمان أبي طالب فقال: (لو وضع إيمان أبي طالب في كفّة ميزان وإيمان هذا الخلق في الكفّة الأخرى لرجح إيمانه). ثمّ قال: (ألم تعلموا أنّ أمير المؤمنين عليًّاعليه‌السلام كان يأمر أن يحجّ عن عبد الله وابنه وأبي طالب في حياته ثمّ أوصى في وصيّته بالحجّ عنهم؟)(٢)

هذه آيات بيّنات شعّ نورها من أئمّة أهل البيت الطاهرعليهم‌السلام على ضفاف بحر أبي طالب اللُّجّيّ بالطهر والإيمان والجهاد؛ وقبلها سيّد الرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ودُرَر نضيد أبي طالبعليه‌السلام أمّا الناصبيّة الخوارج فلا يُلتفت إلى نعيقهم إلّا بقوله تعالى:( قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ ) (٣) .

شهادة المأمون

للمأمون العباسي في إسلام أبي طالب قول ذكره ابن أبي الحديد، قال:

قالوا وقد اشتهر عن عبد الله المأمون أنّه كان يقول: أسلم أبو طالب والله بقوله:

نصرتُ الرسول رسول المليك

بِبيضٍ تلألأ كلمعِ البروق

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ٣: ٣١٢.

(٢) نفس المصدر السابق: ٣١١.

(٣) آل عمران: ١١٩.

٣٧٩

أذبُّ وأحمي رسول الإله

حماية حامِ عليه شفيق

وما إن أدبّ لأعدائه

دبيب البكار حذار الفنيق

ولكن أزير لهم سامياً

كما زار ليثٌ بغيل مضيق

المأمون عبّاسيّ، ولم تكن صحيفته نقيّة؛ قتل أخاه الأمين، وأولغ في الدماء من أجل تثبيت حكمه الزائل إذ هو عرَضٌ زائل في دنيا زائلة تذهب لذائذها، والحُكمُ من هذه؛ ويبقى كدرها وتبعاتها، وواحدة من أفعال المأمون عدوانه على الإمام عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام بعد أن بنى مُلكه باسمه وقسره على قبول ولاية العهد، فكسب أفئدة العامّة وجيّش الجيوش للقضاء على أخيه الأمين في بغداد وقد أضفى على حركته غطاءً من الشرعيّة بتقريبه الإمام الرضا، وضرب السكّة باسمه وحمل جنده والعامّة على خلع السواد - شعار بني العباس - وألزمهم بلباس الخضرة شعار العلويّين.

وقد عرف عن المأمون أنّه عالم وله مطارحات فكريّة مع علماء المذاهب العاميّة أفحمهم فيها وأثبت فضائل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وتقدّمه على الآخرين في كلّ الميادين ومنها أحقيّته بالخلافة.

إلاّ أنّ الحُكم أفسد علمه وأصمّه عن الحقّ فكان منه الذي كان مع الإمام الرضاعليه‌السلام ؛ مع ملاحظة أنّ الإمامعليه‌السلام لم يكن يقود حركةً مناهضة ولا دخل له في أمور الحكم؛ إلّا انعطاف قلوب الأُمّة نحو الإمامعليه‌السلام وأنّها كانت ترى فيه الخليفة الشرعيّ، اخاف المأمون فأقدم على جريمته. ولكن هذا لا يمنع أن ينطق ببعض الحقائق منها ما أوصله علمه على القسم بالله تعالى أنّ أبا طالبعليه‌السلام كان مسلماً مستدلاًّ على ذلك بشعره في نصرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليت النواصب الخوارج وقد رأوا جذورهم ضاربةً في غياهب الجاهليّة وعبادة الأصنام؛ سكتوا عن الخوض في إسلام أبي طالب،

٣٨٠