شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 182592
تحميل: 4444

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182592 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

لا إثباتاً ولا نفياً، كرامةً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه عمّه وكافله وناصره والمجاهد بنفسه وولده ورهطه، ولم يكن منهم من ذلك أثر! حتّى إذا مات أبوطالب، نالت قريش من رسول الله واشتدّت وطأتهم حتّى أضطرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الهجرة إلى (طيبة: المدينة المنوّرة) التي نكّل ابن هند بأهلها أنصار الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووبّخهم وأرسل البعوث غارة بعد أخرى موصياً قوّاده بإهانتهم وأخافتهم - على نحو ما ذكرنا في مبحث الغارات - وأوصى جروه الناقص بالإيقاع بهم، وحذّره من الإمام السبط سيّد شباب أهل الجنّة الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، لمعرفته بتهتّك يزيد، وأنّ الحسينعليه‌السلام لن يقرّ على مفاسد تُعلن ويقتدي الناس بصاحبها.

أرادوا من تكفير أبي طالب سبّ عليّ والنيلَ منه؛ وسبّ عليّ هو سبٌّ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفاً وشرعاً، ومن ثمَّ سبٌّ لله تعالى، ومن سبّ الله، كبّه على منخريه في جهنّم.

فعلى الأوّل لـما علمتَ من القرابة القريبة لأبي طالب من النبيّ وحياطته له مع ثبوت إيمانه وإسلامه، ولم يكن إسلامه من جنس من قدّم بين يدي الله والرسول! إنّما هو الجنديّ المطيع ورمز الفداء بولده عليّعليه‌السلام الذي شرى نفسه لله فبات على فراش النبيّ ليلة هجرته، وموقفه هذا ترعد فرائص القوم لو أمر النبيّ أحدهم به، ولربّما قال له: أهجرت؛ تعرضني للموت، وقد أنزل الله تعالى بذلك بياناً. فحياة عليّ إنّما نأخذها من القرآن الكريم وأحاديث رسول الله.

وعلى الثاني: فلقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من سبّ عليًّا سبّني...) وللأحاديث في أنّ حرب عليّ وأهل بيته حرب لله ولرسوله.

بسند عن يعقوب بن جعفر بن سليمان بن عليّ، قال: حدّثني أبي عن أبيه، قال: كنت مع عبد الله بن العباس وسعيد بن جبير يقوده، فمرّ على ضفّة زمزم فإذا بقوم من

٣٨١

أهل الشأم يسبّون عليًّاعليه‌السلام . فقال لسعيد: رُدّني إليهم، فوقف عليهم فقال: أيُّكم السّابُّ لله عزّوجلّ؟! قالوا: سبحان الله، ما فينا أحدٌ يسبُّ الله عزّ وجلّ! قال: فأيّكم السابُّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ ! قالوا: سبحان الله، ما فينا أحدٌ يسبّ رسول الله؛ قال: فأيُّكم السابُّ عليّ بن أبي طالب؟! قالوا: أمّا هذا فكان. قال: فأشهد على رسول الله، سمعته أذناي ووعاه قلبي يقول لعليّ بن أبي طالب: (يا عليّ! من سبّك فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله عزّ وجلّ، ومن سبّ الله عزّ وجلّ كبّه الله على منخريه في النار) ثمّ ولّى عنهم، ثمّ قال: يا بنيّ ماذا رأيتهم صنعوا؟ فقلت له: يا أبه:

نظروا إليك بأعين محمرّة

نظر التّيوس إلى شفار الجازر

فقال: زدني فداك أبوك! فقلت:

خزر العيون نواكس أبصارهم

نظر الذليل إلى العزيز القاهر

قال: زدني فداك أبوك! قلت: ليس عندي مزيد، فقال: ولكن عندي فداك أبوك:

أحياؤهم عار على أمواتهم

والميّتون مسبّة للغابر(١)

وذكر العبديّ(٢) الحادثة ضمن قصيدة له تعرب عن ولائه وعقيدته في أهل البيتعليهم‌السلام:

وقد روى عكرمة في خبر

ما شكّ فيه أحد ولا امترى

مرّ ابن عبّاس على قوم وقد

سبّوا عليًّا، فاستراع وبكى

وقال مغتاظاً لهم: أيّكم

سبّ إله الخلق جلّ وعلا؟!

____________________

(١) نثر الدّر، للآبي ١: ٤١٢ - ٤١٣، مناقب الإمام، عليّ لابن المغازليّ: ٣٩٤ - ٣٩٥ حديث ٤٤٨، كفاية الطالب: ٨٢ - ٨٣ (الباب العاشر في كفر من سبّ عليًّا)، نور الأبصار: ٢٢٠.

(٢) في رجال البرقي: ٤١ (أصحاب الصادقعليه‌السلام ): سفيان بن مصعب الشاعر العبدي من أهل همدان. وممّا يشير إلى حسن حاله وساتقامة طريقته ما رواه الكشّيّ في رجاله: ٢٤٥ بإسناده عن سماعة قال: قال الصادق: (يا معشر الشيعة علّموا أولادكم شعر العبدي فإنّه على دين الله).

٣٨٢

قالوا: معاذ الله! قال: أيّكم

سبّ رسول الله ظلماً واجترا؟!

قالوا: معاذا الله! قال: أيّكم

سبّ عليًّا خير من وطئ الحصا؟!

قالوا: نعم قد كان ذا! فقال: قد

سمعت والله النبيّ المجتبى

يقول: من سبّ عليًّا سبّني

وسبّتي سبّ الإله، واكتفى

وعن أبي عبد الله الجدليّ، قال: دخلت على أمّ سلمة فقالت: يا أبا عبد الله، أيسبّ رسول الله فيكم وأنتم أحياء؟! قلت: معاذ الله! قالت: أليس يسبّون عليًّا ومن أحبّه؟! قلت: بلى(١) .

والأحاديث والروايات في سلم وحرب عليّ وأهل بيتهعليهم‌السلام، ومحبّتهم وبغضهم، والثواب والعقاب على ذلك، وكفر الناصبيّ غريزة نأتي عليها في محلّها.

ونختم حديثنا عن أبي الشهداء مؤمن قريش، حصن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبي طالبعليه‌السلام ، بشعر ذكره السيّد زيني دحلان في أسنى المطالب قال: ولله درّ القائل:

قفا بمطلع سعد عزّ ناديه

وأمليا شرح شوقي في مغانيه

واستقبلا مطلع الأنوار في افق

الحجون واحترسا أن تبهرا فيه

مضى به وابل الرضوان منهمرٌ

ونائرات الهدى دلّت مناديه

قفا فذا بلبل الأفراح من طرب

يروي بديع المعاني في أماليه

واستمليا لأحاديث العجائب عن

بحر هناك بديع في معانيه

حامي الذمار مجير الجار من كرمت

منه السجايا فلم يفخر مباريه

____________________

(١) أنساب الأشراف ٢: ١٨٢، المعجم الصغير، للطبراني ٢: ٢١، كنز العمّال ١٥: ١٢٨، تاريخ دمشق ٢: ١٧١ / ٦٦٤.

٣٨٣

عم النبي الذي لم يثنه حسد

عن نصره فتغالى في مراضيه

هو الذي لم يزل حصنا لحضرته

موفقا لرسول الله يحيمه

وكل خير ترجاه النبي له

وهو الذي قطُّ ما خابت أمايه

فيا من أمّ العلا في الخالدات غدا

أغث للهفانه واسعف مناديه

قد خصّك الله بالمختار تكلؤه

وتستعزّ به فخراً وتطريه

عنيت بالحبّ في طه ففزت به

ومن ينل حبّ طه فهو يكفيه

كم شمت آيات صدق يستضاء بها

وتملأ القلب إيماناً وترويه

من الذي فاز في الماضين أجمعهم

بمثل ما فزت من طه وباريه؟

كفلت خير الوري في يتمه شغفا

وبت بالروح والأبناء تفديه

عضته حين عادته عشيرته

وكنت حائطه من بغي شانيه

غن الذي أنت قد أحببت طلعته

حبيب من كلّ شيء في أياديه

لله درك من قناص فرصته!

مذ شمت برق الأماني من نواحيه

يهنيك فوزك أن قدمت منك يداً

غلى ملي وفي في جوازيه

من يسد أحسن معروف لأحسن من

جازى ينل فوق ما نالت أمانيه

ومن سعى لسعيد في مطالبه

فهو الحري بأن تحظى أماليه

فيا سعيد المساعي في متاجره

قد جئت ربعك أستهمي غواديه

مستمطراً منك مزن الخير معترفاً

بأنّ غرس المنى يعنى بصافيه(١)

____________________

(١) أسنى المطالب: ٤٣.

٣٨٤

ومع السيّد زيني دحلان نقول: لله درّ القائل -رحمه‌الله -؛ في حقّ سيّدنا المجاهد العظيم أبي طالبعليه‌السلام ؛ فأنصفه! ولكنّ الملأ من الأوائل، والذين هم أراذل بادي الرأي، عمّيت عليهم:( أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) (١) .

وقال - زيني دحلان - وقيل أيضاً:

إنّ القلوب لتبكي حين تسمع ما

أبدى أبوطالب في حقّ من عظما

فإن يكن أجمع الأعلام إنّ له

ناراً فلله كل الكون يفعل ما(٢)

أما إذا اختلفوا فالرأي أن تردا

موارداً يرتضيها عقل من سلما

تتابع المثبتي الإيمان من زمر

في معظم الدين تابعناهم فكما(٣)

وهم عدول خيار في مقاصدهم

فلا نقل: إنّهم لن يبلغوا عظما

لا تزدريهم أتدري من همو فهمو

همو عرى الدين قد أضحوا به زعما

هم السيوطيّ والسّبكيّ مع نفر

كعدّة النّبا حفّاظ أهل حما

وأهل كشف وشعرانيّهم وكذا

القرطبيّ والسحيميّ الجميع كما(٤) (٥)

وقبل هؤلاء؛ ذكرنا شهادات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي من ردّ شهادته وكذّبه فقد ردّ على الله تعالى وكذّبه وإن جلس على منبر المسلمين وحكمهم بالقسر والطغيان.

وشهادة ولده سادة المسلمين وسادة شباب أهل الجنّة: عليّ بن أبي طالب وولداه: الحسن بن عليّ، والحسين بن عليّ، وهم الذين ضمّهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاطمة سيّدة نساء العالمين، إلى نفسه الزكيّة تحت الكساء اليمانيّ ودعا الله تعالى أن يعصمهم كما

____________________

(١) هود: ٢٨.

(٢) أي يفعل ما يشاء.

(٣) أي كما تابعناهم في معظم الدين نتابعهم في هذا.

(٤) أي كما ترى في الوثاقة.

(٥) نفس المصدر السابق: ٤٤.

٣٨٥

عصمه، ولم يسمح لأحد أن يدخل معهم تحت الكساء إلّا لجبرئيلعليه‌السلام لأنّه من جنسهم في الطهارة والعصمة. فإذا قال واحد منهم شيئاً في شأن أحد، كانت شهادةً صادقة إلى يوم المحشر؛ وقد شهد اصحاب الكساءعليهم‌السلام بإسلام أبي طالبعليه‌السلام وعلو شأنه؛ وشهد له أئمة أهل البيتعليهم‌السلام من ولد الحسين بن علي؛ ودع عنك الخوارج الواصب الذي جعلوا النيل من علي بن أبي طالب وسيلة للنيل من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !

بسند عن عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال: (حسبي حسب النبيعليه‌السلام ، وديني دين النبيّ، ومن نال منّي شيئاً فإنّما يناله من النبيّ)(١) .

وإن تعجب، فعجبك أكبر حين تجد القوم يؤذون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ثلب والديه ويصرّون على أنّهما ماتا مشركين، وقد اعتلوا المنابر باسمه الشريف، وصار لهم شأن بعد إذ لم يكونوا شيئاً مذكوراً! ومنهم مَن حطّ به نسَبُه وقعدت به سيرته، لا يعرفون إلّا بالأمّهات واقبح الأفعال! ما رُبُّوا في خير ولا رَبَّوا أبناءَهم على خير. وإذا كبُر على الأبناء ومَن سلّطهم ومهّد لهم وكتّابهم المرتزقة أن يقرّوا بإسلام أبي طالبعليه‌السلام ؛ ثمّ عدَوا على رسلو اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكفّروا أبويه؛ حسداً من عند أنفسهم، والله مجازيهم بما كسبت أبويهم. ورغم أنف مَن رغم! روى ابن سعد قال:

أخبرنا الضحّاك بن مخلد الشيباني(٢) عن شبيب بن بِشر(٣) عن عكرمة عن ابن عبّاس في قوله تعالى:( وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ ) (٤) . قال: من نبيّ إلى نبيّ، ومن نبيّ إلى نبيّ

____________________

(١) ترجمة الإمام عليّ من تاريخ دمشق ٣: ٢٩٤ حديث ١٣٢٣، أمالي الصدوق: ١٩٧، أمالي المفيد: ٦٠ حديث ٣، كنز العمّال ١٥: ٤١٨ باب فضائل عليّعليه‌السلام.

(٢) بصريّ، ثقة. وكان له فقه، كثير الحديث. تاريخ العجلي: ٢٣١ / ٧١١. قال أبو حاتم: صدوق (الجرح والتعديل: ٤ / الترجمة ٢٠٤٢). قال ابن معين: ثقة. تاريخه، الترجمة ٤٤٤. ترجمة في جميع كتب الرجال، وما ذكروه إلّا بخير. انظر ترجمته في تهذيب الكمال ١٣: ٢٨١ / ٢٩٢٧.

(٣) قال يحيى بن معين: ثقة. تاريخه ٢: ٢٤٨. ترجمته في تهذيب الكمال ١٢: ٣٥٩ / ٢٦٨٩.

(٤) الشعراء: ٢١٩.

٣٨٦

حتّى أخرجك نبيّاً(١) .

ذريّة بعضُها من بعض؛ شجرة طيّبة مباركة، أنبتها الله تعالى وهو خيرُ الخالقين؛ أوّلها نبيّ، يتلوه نبيّ، وهكذا حتّى انتهت بنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ليس فيها تيميّ ولا عَديّ ولا مخزوميّ ولا عبيدٌ: عوّامي، أو أُمويّ.

فنحن وتفسير ابن عبّاس: هل أخطأت النبوّة في مسيرتها عبد الله والد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! فمن وراء ذلك، المنبئ سبحانه، أم النبيّ عبد الله؟ وإن لم يكن الأمر غير قول ابن عبّاس؛ فهلّا كان عبد الله موحّداً على نهج ودين أبيه عبد المطّلب فتكون صورة خاتم الرُّسُل أكثر إشراقاً لا تمتدّ يد آثمة بإصبع إتّهام، فهو نبيّ متحدّر من صُلْب زكيّ إلى رحم طاهر!

في تفسير الطبرسيّ للآية المباركة: (أي وتقلّبك في أصلاب الموحّدين حتّى أخرجك نبيّاً من نكاح غير سفاح من لدن آدمعليه‌السلام) (٢) .

وعلى المعنى الثاني: فإنّ محمّداً النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بن عبد الله بن عبد المطّلبعليهم‌السلام ، لم يكن في آبائه من لَدُن آدمعليه‌السلام وانتهاءً بأبيه عبدالله مشرك؛ وكما عفّ آباؤه فلم يباشروا السفاح وهو الزنى، فكذلك حالُ أمّهاته؛ فلم يُصبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من آثام الجاهليّة.

( إِنّ الّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدّ لَهُمْ عَذَاباً مّهِيناً ) (٣) .

ابن سعد قال: أخبرنا هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ عن أبيه قال: كتبت للنبيّ، عليه الصلاة والسلام، خمسمائة أمّ فما وجدت فيهنّ سفاحاً ولا شيئاً ممّا كان من أمر

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ٢٥.

(٢) مختصر مجمع البيان، للطبرسيّ ٢: ٤٦٦.

(٣) الأحزاب: ٥٧.

٣٨٧

الجاهليّة(١) .

أنس بن عياض أبو ضَمْرة اللَّيثي عن جعفر بن محمّد عن أبيه محمّد بن عليّ بن الحسين أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ٠ إنّما خرجتُ من نكاحٍ ولم أخرجْ من سِفاحٍ من لَدُن آدمَ لم يُصِبْني من سِفاحِ أهل الجاهليّة شيءٌ، لم أخرُجْ إلّا من طُهْرِهِ)(٢) .

والروايات في هذا المعنى عديدة.

ولقد شهدت جزيرة العرب قبل البعثة النبويّة الشريفة: الحنيفيّة وهم مَن كان على بقايا ديانة إبراهيم الخليلعليه‌السلام موحّدين يرفضون الشرك بالله وعبادة الأصنام والأكل ممّا ذُبح على النُّصُب، يحجّون البيت الحرام ويعرفون حُرْمته وإذا ألمّت بهم مُلمّة جمعوا الأقربين ولاذوا بالبيت الحرام وتجمهروا ما بين الرّكن والمقام يباهلون الخصوم أن يجعل الله تعالى، اللعنة على الكاذبين والعادين؛ لهم الرّفادة والسِّقاية؛ فيطعمون الحاج ويسقونه حتّى إذا حبا الله عبد المطلب زمزمَ، وأنبأه بمكانه؛ وهو من آثار إسماعيل النبيّعليه‌السلام، وقد طوى فعفا أثره، استخرجه عبد المطّلب ذو الكرامات النبويّة وقد ذكرنا بعضها فكانت خاصّةً به وبولده، ولو كانت مشتركةً لعدى عليها بنو فلان وغيرهم فأفسدوها ولعلّ الله تعالى يغوّرها عليهم عندئذ فتُطوى! وإذا فاتت الشهادة عبد اللهعليه‌السلام ، فكفاه فخراً أنّ نور النبوّة الذي كان في جبينه قد تحوّل إلى ابنه سيّد ولد آدمعليه‌السلام وخاتم الأنبياء والرّسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

من طرق عدّة: لـمّا خطب عبد المطّلب آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة لابنه عبد الله، فأُجيب إلى تزويجه إيّاها؛ فمرّ عبد الله بامرأة كانت من أجمل الناس وأشَبّه

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ٦٠.

(٢) نفس المصدر السابق: ٦١.

٣٨٨

وأعفّه، وكانت قد قرأت الكتب فرأت نور النبوّة في وجه عبد الله فقالت: هل لك أن تقع عليّ وأعطيك مائة من الإبل؟ فقال عبد الله:

أمّا الحَرامُ فالمماتُ دونَه

والحِلّ لا حِلّ فأسْتَبِينَه

فكيف بالأمر الذي تَنْوينَه؟

ثمّ مضى إلى امرأته آمنة بنت وهب، فكان معها، وحلمت آمنة في أيّامها الثلاثة. فكانت تلك المرأة تقول: إنّي والله لست بصاحبة ريبة، ولكنّي رأيت نور النبوّة في وجه عبد الله فأردت أن يكون ذلك فيَّ وأبى الله إلّا أن يجعله حيث جعله(١) .

المرأة ممّن قرأت الكتب، أي كتب الديانات القديمة، وعرفت منها صفات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفات أبيه، فلما رأت عبد اللهعليه‌السلام رأت ضياء النبوة في جبهته؛ وفي روايات ضياء يسطع إلى السماء، فدعته إلى نفسها وجعلت له مقابل ذلك مائة من الإبل؛ إلّا أنّ عبد الله لم تغره المرأة وجمالها وإبلها، وأسمعها أنّ الحرام ليس من شيمته وإن تعرّض للمات إن لم يفعله! ألا يتّفق سلوك عبد الله هذا مع تقلّب ابنه في الساجدين؛ من نبيّ إلى نبيّ حتّآ أخرجه الله تعالى من صلب آخر نبيّ وهو عبد الله؟ أو التفسير الثاني: في أصلاب الموحّدين وآخرهم الموحّد عبد الله؟! أو تقلّبك في أصلاب الموحّدين من نكاح غير سفاح؛ وذلك أضعف الإيمان في إسلام عبد الله ونقاء آمنة، ليخرج محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّاً زكيّاً لا عيب فيه؟ وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يفتخر بأبيه والانتساب إليه وإلى جدّه عبد المطّلب في قوله يوم حنين: (وأنا ابن عبد المطّلب)، وبافتخاره بأمّهاته في قوله: (أنا ابن الفواطم والعواتك) فهل مثل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ينتمي إلى مشركين ويفخر بذلك؟! وقد أحصى له ابن الكلبيّ خمسمائة أمّ فما وجد فيهنّ سفاحاً

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ٩٦ - ٩٧، أنساب الأشراف ١: ٨٨. ذ

٣٨٩

ولا شيئاً ممّا كان من أمر الجاهليّة. وآمنة انتهت إليها أنوار النبوّة، فكانت الرحم الذي حمله، فماذا وجدت آمنة رضي الله عنها، من هذا الحمل؟

الحمل المبارك وتكليم آمنة

لما حملت آمنة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كانت تقول: ما شعرت أنّي حملت به، ولا وجدت له ثقلةً كما تجد النساء. وأتاني آت وأنا بين النائم واليقظان فقال: هل شعرت أنّك حملت؟ فكأنّي أقول: ما أدري، فقال: إنّك قد حملت بسيّد هذه الأمّة ونبيّها. ثمّ أمهلني حتّى إذا دنا ولادتي أتاني ذلك الآتي فقال: إذا وقع إلى الأرض فقولي: أعيذه بالواحد الصّمد من شرّ كلّ حاسد، ثمّ سميّه محمّداً؛ وفي قول: أحمد وكانت تقول: لقد علقت به فما وجدت له مشقّة حتّى وضعته. فلمّا فصل منّي خرج معه نور أضاء ما بين المشرق إلى المغرب، ثمّ وقع على الأرض معتمداً على يديه ثمّ أخذ قبضةً من تراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء، وقال بعضهم: وقع جاثياً على ركبتيه رافعاً رأسه إلى السماء وخرج معه نور أضاءت له قصور الشأم وأسواقها، حتّى رايت أعناق الإبل ببصرى(١) .

وبسند عن حسّان بن عطيّة، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لـمـّا ولد وقع على كفّيه وركبتيه شاخصاً بصره إلى السماء(٢) .

عكرمة عن ابن عبّاس عن أبيه العبّاس بن عبد المطّلب قال: ولد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مختوناً مسروراً؛ قال: وأعجب ذلك عبد المطّلب وحظي عنده، وقال: ليكوننّ لابني هذا شأن! فكان له شأن(٣) .

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ١٠٢ - ١٠٣، أنساب الأشراف ١: ٨٩، السيرة النبوية، لابن هشام ١: ١٦٦.

(٢) طبقات ابن سعد ١: ١٠٣.

(٣) نفس المصدر السابق.

٣٩٠

ولمّا ولدت آمنة رضي الله عنها، رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أرسلت إلى عبد المطّلب، فجاءه البشير وهو جالس في الحجر معه ولده ورجال من قومه، فأخبره أنّ آمنة ولدت غلاماً، فسرّ ذلك عبد المطّلب وقام هو ومن كان معه فدخل عليها، فأخبرته بكلّ ما رأت وما قيل لها وما أمرت به وبسهولة حمله وولادته؛ فأخذه عبد المطّلب فأدخله الكعبة وقام عندها يدعو الله ويشكر ما أعطاه(١) .

قال محمّد بن عمر الأسلمي: وأخبرت أنّ عبد المطّلب قال يومئذ:

الحمد لله الذي أعطاني

هذا الغلام الطّيّب الأردان

قد ساد في المهد على الغلمان

أعيذه بالله ذي الأركان

حتّى أراه بالغ البنيان

أعيذه من شرّ ذي شنآن(٢)

من حاسد مضطرب العنان(٣)

لنا ملاحظتان فيما تقدّم:

نبدأ بعبد المطّلب وقد تكلّمنا عنه غير قليل، ولكنّ الحديث هنا مشترك بينه وبين أم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إنّ عبد المطّلب لـمّا جاءه البشير بولادة حفيده، كان في مجلسه المألوف (الحجر) معه ولده ورجال من قومه، فهو بعيد عن مجالس اللّهو والخمر والفواحش التي ألفها غيره، فكان طاهراً من آثام قريش وغير قريش.

ولمّا رآه مختوناً مسروراً، أعجبه ذلك وحظي عنده وقال: (ليكوننّ لابني هذا

____________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) في أنساب الأشراف: أعيذه بالبيت ذي الأركان = من كلّ ذي بغي وذي شنآن

(٣) طبقات ابن سعد ١: ١٠٣، أنساب الأشراف ١: ٨٩.

٣٩١

شأن). إنّ قول عبد المطّلب هذا لا يأتي عن فراغ! وإلاّ فهو حديث عهد بالولادة، فكيف علم أن سيكون له شأن؟! ذلك أنّه رآه مختوناً مسروراً، وهكذا يولد الأنبياءعليهم‌السلام . ولـمّا أخبرته آمنة بما رأت وما قيل لها وما أمرت به، أخذه عبد المطّلب ولم يذهب به إلى هبل، ولا اساف ونائلة! فهو يكفر بأرباب الأقوام ويوحّد الله تعالى ويعبده؛ ولذا أدخل حفيده الكعبة إرث الأنبياء آباءه، لاعتقاده أنّها مباركة وأطهر بقعة يستجاب فيها الدعاء، فقام عندها يدعو الله ويشكر ما أعطاه؛ ويعيذ حفيده بالله تعالى، من شرّ أهل الشنآن والحسد؛ فقد توسّم السيادة في حفيده؛ فكيف علم عبد المطّلب أنّ ابنه ليكوننّ، بالتوكيد مرّتين بحرف اللاّم، ونون التوكيد المشدّدة؛ له شأن! وأنّه سيّد المستقبل الذي لم يحن وقته، وهذا توكيد آخر! رجم بالغيب، أم إلهام، أم وحي، فهوعليه‌السلام أحد الأصلاب الشامخة التي تقلّب فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن آدمعليه‌السلام وحملته الأرحام المطهّرة حتّى انتهى أمره إلى صلب عبد الله ورحم آمنةعليهما‌السلام !! وقد ذكرنا من كرامات عبد المطّلب نبع الماء له في الصحراء القاحلة مرّتين بعد أن شحّ عليه القوم من قريش وأخرى من ثقيف فلم يسقوه وقومه قطرة ماء حتّى كاد يهلك ومن معه عطشاً، فدعا ربّه فسقاه عيناً عذباً، سقي وقومه ولم يصنع صنيع قريش ولا ثقيف! إنّما دعاهم فشربوا وسقوا. وخصّه الله تعالى وبنيه بزمزم وجاءه الهاتف ثلاث مرّات بذلك حتّى استنبطه وجعله للحجيج يحمل الماء منه مع ابنه إلى رؤوس الجبال فيسقون الحجيج. وهو الفيض الذي هتف بصفاته ليستسقي للناس بعد أن أشرفوا على الهلاك من القحط وحبس السماء، فبه وبرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سقوا. يصوم رمضان ويطعم الجياع ويعتكف الشهر كلّه في غار حراء ولم يشنه ما ينقص الرجال، حامي الجار، وفيّ الذمار، أبيّ الضّيم يرفض الظّلم، متألّه.

٣٩٢

الملاحظة الثانية في أخبار آمنةرضي‌الله‌عنها :

فهي آمنة من الفزع الاكبر، فهي آخر الخمسمائة من النساء اللاتي أحصاهنّ ابن الكلبيّ من أمّهات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يجد فيهنّ سفاحاً ولا شيئاً من أمر الجاهليّة.

آمنة انتهت إليها غرّة النّبوّة ونورها فحملت برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّها ما شعرت أنّها حامل! ولا وجدت ثقلةً كما تجد النساء، فلماذا هذه العناية الإلهيّة بآمنة، هل هي كرامة لرسول الله، فهو نبيّ، وأمّه بزعمهم مشركةٌ - معذرةً إليك سيّدي يا رسول الله، فهذا ليس من قولنا، إنّما شانؤوك أصحاب القول - يصيبها ما يصيب النساء عند الحمل، والولادة؛ فهلّا تيقّظت لأمرها فآمنت بالله ولو بعد الولادة، فلا تموت مشركة؟!

ويعترضنا أمر: أنّها كانت محدّثة؛ أتاها يت فقال لها هل شعرت أنّك حملت؟ فقلّما قالت: ما أدري، فقال لها: إنّك حملت بسيّد هذه الأمّة ونبيّها! فهلّا حفّزها هذا على استبيان حالها، والسؤال: من هذا الذي يكلّمني ويبشّرني أنّي حامل بسيّد الأمّة ونبيّها؟ فكيف تجمع بين الشرك بالله تعالى، وحملها لنبيّ الله!

لنقل إنّها كانت في ريبة من كلّ ذلك! ولكنّ محدّثها عاد إليها بعد حين حيث اقتربت ولادتها فقال لها ما قال في تعويذها لمولودها القادم، بالواحد الصّمد؛ وهذه ليست من لغة أهل الجاهليّة والمشركين فهلّا تنبّهت فخلعت لباس الشرك وآمنت بالواحد الصّمد. وهو يأمرها بتسميته محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وكما لم تجد مشقّة حمل، كذلك لم تجد مشقّة وضع، فإذا وضعته مختوناً مسروراً وهو أمر غير مألوف ولا مسبوق! وقد خرج معه نور أضاء لها المشرق والمغرب وولد نظيفاً! ألا تسأل آمنة نفسها: من هذا الذي يرعى وليدها ويحوطه برعايته ويتكفّله حتّى أنّها لا تدري انّها حامل، ويخرجه نظيفاً

٣٩٣

مختوناً مسروراً ساجداً لله تعالى شاخصاً ببصره إلى العلياء، حاملاً اسمه معه، فهو محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتسمع جدّه الوحّد يقول: ليكوننّ لابني هذا شأن، وهو ما زال في يومه الأوّل؛ فكان له شأن والله عظيم، أقظّ مضاجع أهل الشنآن، فمنهم من حاربه، ومنهم من أساء الصّحبة فآذوه في حياته؛ ونبزوه بعد مماته في امّه وأبيه رضوان الله عليهما، وخالفوا الوصيّة وحرّقوا البيت على سيّد العرب والمسلمين أخيه وسيّدة النساء ابنته وسادة أهل الجنّة سبطيه، وما زال الخلف يتبع أثر السّلف في الإساءة إلى رسول الله في والديه وذريّته وشيعة أهل بيته، فلم تنقطع قوافل الشهداء حتّى يبعث الله قائم آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وحينها يخسر المبطلون، ولعذاب الآخرة أشدّ على من آذى رسول الله في والديه وعترته أهل بيته وشيعتهم.

إسلام مضر

شجرة طيّبة وذريّة بعضها من بعض، والله يجتبي لدينه من يشاء. ولا يسع البحث، إذ جرّنا الكلام عن إسلام والدي النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمّه المجاهد أبي طالب، وجدّه الأوّل عبد المطّلب المتألّه المخصوص بالنبوّة والخلافة في بنيه.

بسند عن المسور بن مخرمة قال: كان عبد المطّلب إذا ورد اليمن نزل على عظيم من عظماء حمير؛ فنزل عليه مرّة فوجد عنده رجلاً من أهل اليمن قد أمهل له في العمر، وقد قرأ الكتب، فجعل يتأمّل في وجه عبد المطّلب، فقال: أرى نبوّة وأرى ملكاً وأرى أحدهما في بني زهرة؛ فرجع عبد المطّلب فتزوّج هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وزوّج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فولدت محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجعل الله في بني عبد المطّلب النبوّة والخلافة، والله أعلم حيث وضع ذلك(١) .

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ٨٦.

٣٩٤

مضر: مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان؛ نصّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إسلامه ونهى عن سبّه. ومضر هو الجدّ السابع عشر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولو أدرك مضر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لآمن به وناصره مثل أبي طالب؛ فهو من الأصلاب الشامخة التي انحدر منها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بسند عن عبيد الله بن خالد(١) ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: (لا تسبّوا مضر، فإنّه كان مسلماً)(٢) .

وعن الحسن - البصريّ - قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تسبّوا مضر وربيعة، فإنّهما قد أسلما)(٣) .

وربيعة شقيق مضر ابنا نزار بن معدّ بن عدنان.

منزلة مضر وولده

ذكر ابن حبيب في كتابه (المنمّق): قال الكلبي في أسانيده:

(فضّل الله مضر بن نزار على سائر العرب لأنّهم كانوا أعلمهم بسنّة إبراهيم صلّى الله عليه وعلى محمّد وآله وألزمهم لمناسكه، وفضّل الله بني هاشم على قريش لأنّهم كانوا أوصلهم وأكفّهم عن الآثام، وفضّل الله بني عبد المطّلب على سائر بني هاشم بولادة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفضّل الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سائر بني عبد المطّلب لأنّه كان خيرهم وأبرّهم وأصدقهم وأوصلهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) .

____________________

(١) في طبقات ابن سعد: عبد الله بن خالد.

(٢) أنساب الأشراف ١: ٣٧. وفي طبقات ابن سعد ١: ٥٨ (فإنّه كان قد أسلم). وانظر كنز العمّال، الحديث ٣٣٩٨٧.

(٣) أنساب الأشراف ١: ٣٧، كنز العمّال، حديث ٣٤١١٩.

(٤) المنمّق، لابن حبيب (ت ٢٤٥ هـ): ٤.

٣٩٥

فما يقول الناصبة الخوارج، أليس محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو حفيد مضر من علوّ، وهو ينهى عن سبّه وسبّ أخيه ربيعة لأنّهما مسلمان، وقد فضّلهم الله على سائر العرب لأنّهم أعلم بسنّة إبراهيم وألزمهم بمناسكه، وإبراهيمعليه‌السلام مسلماً حنيفاً منقطعاً إلى الله تعالى وما كان من المشركين؟

وهكذا هاشم، وعبد المطلب وبنوه، ومن بني عبد المطّلب: محمّد رسول الله؛ درّة بني عبد المطّلب وإليه منتهى الفخر.

فتعلّل المرضى! أنّ أبا طالب مع سيرته البيضاء المليئة بالكفاح والجهاد والمجاهرة بالإسلام؛ يقولون مات مشركاً وقصارى قوله: إنّه على دين عبد المطّلب؛ وعبد المطّلب دينه الإسلام، فما الذي يمنع أبا طالب أن يموت مسلماً وقد عاش ومات مسلماً! وأليس عبد الله هو ابن عبد المطّلب، فهلّا مات على ما مات عليه شقيقه أبو طالب وهو دين عبد المطّلب - بزعمهم!؟ ـ

انتساب النبيّ إلى مضر

عن يحيى بن جابر، وكان أدرك بعض أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: جاءت بنو فهيرة إلى رسول الله، قال: فقالوا: إنّك منّا، فقال: (إنّ جبرئيل ليخبرني أنّي رجل من مضر)(١) .

كم هو عظيم مضر! حتّى يخبر جبريلعليه‌السلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه من مضر؛ ولعلّه عميت على الخوارج الناصبة فلم يكفّروا مضر كما كفّروا والدي وعمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الصريحان من ولد إسماعيل: قال البلاذريّ: قالوا: وكان يقال لمضر، وربيعة (الصريحان) من ولد إسماعيل(٢) .

____________________

(١) طبقات ابن سعد ١: ٢٢.

(٢) أنساب الأشراف ١: ٣٠.

٣٩٦

خيرة الله

قال محمّد بن سلاّم الجمحيّ(١) في اسانيده: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: (إنّ الله عزّ وجلّ اختار من الناس العرب، ثمّ اختار من العرب مضر، ثمّ اختار من مضر كنانة، ثمّ اختار من كنانة قريشاً، ثمّ اختار من قريش بني هاشم، ثمّ اختارني ممّن أنا منه)(٢) .

ذكر رسول الله نسبه شعباً، وقبيلة، وعشيرة، وبطناً؛ وانتهى إلى أبيه فلم ينتف منه ولو كان كافرا لوضع رحله عند هاشم ذروة السّنام، إلّا أنّه أكّد على اختيار الله تعالى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عبد اللهرضي‌الله‌عنه ؛ ولو كان عبد الله كما قال عنه الخوارج الناصبة لاختار الله أباً مسلماً على ملّة إبراهيمعليه‌السلام!

وما من أب من آبائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا وكان سيّداً مطاعا يشارك السلسلة الذهبيّة في مكارمها وعلى رأس ذلك التوحيد والإسلام، ويعرف بخصوصيّة يذكر بها، فهذا (عدنان) الجدّ العشرون لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قيل عنه: إنّه أوّل من كسا الكعبة، كساها أنطاع الأدم(٣) .

ولابنه معدّ شأن ونسبه محفوظ فهو: معدّ بن عدنان بن أدد بن زيد... بن إسماعيل ابن إبراهيم(٤) .

وفي خبر طويل:... وأنّه معروف عند أحبار أهل الكتاب وعلمائهم، مثبت في أسفارهم(٥) .

____________________

(١) المتوفّى سنة ٢٣١ هـ له طبقات فحول الشعراء وغيره. روى عنه عبد الله بن سلاّم في النسب، ترجمته في معجم الأدباء، لياقوت الحموي ١٨: ٢٠٤.

(٢) المنمّق: ٤.

(٣) أنساب الأشراف ١: ٢٠.

(٤) نفس المصدر: ٥٧، طبقات ابن سعد ١: ١٧، نسب قريش: ٣ - ٤، وانظر المحبّر، لابن حبيب، والنسب، لابن سلاّم.

(٥) طبقات ابن سعد ١: ٥٧.

٣٩٧

كعب بن لؤيّ: كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر (وإليه جماع قريش). (كان عظيم القدر في العرب. فأرّخوا بموته إعظاماً له، إلى أن كان عام الفيل فأرّخوا به. ثمّ أرّخوا بموت عبد المطّلب. وكان كعب يخطب الناس في أيّام الحجّ فيقول: أيّها الناس افهموا واسمعوا وتعلموا أنّه ليل ساج، ونهار ضاح، وإنّ السماء بناء، والأرض مهاد، والنجوم لم تخلق عبثاً، فتضربوا عنها صفحاً. الآخرون كالأوّلين. والدار أمامكم، واليقين غير ظنّكم. صلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وأوفوا بعهدكم. وثمروا أموالكم، فإنّها قوام مروّاتكم، ولا تصونوها عمّا يجب عليكم. وأعظموا هذا الحرم وتمسّكوا به فسيكون له نبأ، ويبعث منه خاتم الأنبياء. بذلك جاء موسى وعيسى). ثمّ ينشد:

على فترة يأتي نبيّ مهيمن

يخبر أخباراً عليماً خبيرها(١)

كعب هو الجدّ السابع لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليس في بطون ولا أفخاذ الناصبة الخوارج؛ فضلاً عمّن جاش بهم البحر، أو من تقطّعت به السّبل! فهو ينسب إلى أربع وإلى ستّ.

من تمتدّ عنقه إلى كعب! فهو عظيم العرب، لم يذهب قدره بموته إنّما صار موته تأريخاً مثل عام الفيل وموت عبد المطّلب.

وكعب؛ وهو يخطب الناس في أيّام الحجّ، فهو صاحب رسالة!

أوّلاً: اختياره للموسم حيث يجتمع الناس من أصقاع مختلفة وفي رحاب الله تعالى؛ فهو اختيارٌ موفّق.

وثانياً: كلامه إنشائيّاً يحاكي أسلوب القرآن الكريم، ومضامينه ممّا جاء به الإسلام. فقوله: (وإنّ السماء بناء، والأرض مهاد، والنجوم أعلام) جاء نظائرها في القرآن الكريم؛ وتعقيبه بقوله: (لم تخلق عبثاً...) تذكير لهم بآيات الله، وأنّها خلقت بحكمة

____________________

(١) أنساب الأشراف ١: ٤٧ - ٤٨.

٣٩٨

وعليهم أن يتدبّروا فيها. وهو مؤمنٌ بالآخرة؛ فالأوّلون والآخرون مجموعون لدار اليقين. ثمّ يذكر لهم بعض ما في الإسلام من مبادى، من صلة الرحم، وحسن انتقاء الأصهار، والوفاء بالعهد. ويحثّهم على حفظ حرمة البيت الذي هتك حرمته خوارج الأمويّين وابن الزبير. ويتنبّأ لهم أنّ الحرم هذا له (نبأ؟!) قادم؛ فمنه يبعث خاتم الأنبياء ويعلمهم أنّ ما يقوله لهم قد جاء به موسى وعيسىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو مؤمنٌ ببعثة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبينه وبين النبيّ سبعة آباء، فكم هي المدّة الزمنيّة الفاصلة بينهما إذن؟!

ثمّ يذكر في شعر أنّ هذا النبيّ يأتي على فترة؛ نظير قوله تعالى: (على فترة من الرّسل)! وستكون له الغلبة والنصر!!

قصيّ: أحد آباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الجدّ الرابع له. مهندس مكّة، ومشبع الحاج، مدبّر أمر قريش، وأمره دين تعمل قريش به ولا تخالفه، ولم يخمل ذكره وتزل عظمته بعد موته، فاتّخذوا قبره مزاراً.

ذكر البلاذري: حدثني عبّاس بن هشام عن أبيه، عن ابن خربوذ وغيره، قالوا: كانت قريش قبل قصيّ تشرب من بئر حفرها لؤيّ بن غالب خارج مكّة، ومن حياض ومصانع على رؤوس الجبال، ومن بئر حفرها مرّة بن كعب ممّا يلي عرفة. فحفر قصيّ بئراً سمّاها العجول. وهي أوّل بئر حفرتها قريش بمكّة. وفيها يقول بعض رجّاز الحاج:

تروى على العجول ثمّ تنطلق

إنّ قصيّاً قد وفى وقد صدق

ولبناً محضاً وخبزاً هشما

٣٩٩

وكان قصيّ ربّما أطعم الثريد(١) .

فكلّ أب من آبائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، له ذكر حميد، فهم أب عن جدّ سقاة الناس والحاج ومطعموا الطعام.

قال: ولـمّا قسم قصيّ مكّة خططاً ورباعاً بين قريش، فاتّسقت له طاعتهم، قال لهم: (يا معشر قريش، إنّكم جيران الله وسكّان حرمه، والحاج أضياف الله وزوّار بيته؛ فترافدوا، حتّى تصنعوا لهم طعاماً وشراباً في أيّام الحجّ، ينال منه من يحتاج إليه؛ فلو اتّسع مالي لجميع ذلك، لقمت به دونكم). ففرض عليهم خرجاً للرفادة فكانوا يخرجونه، ويأمر بإنفاقه على طعام الحاج وشرابهم(٢) .

دار الندوة: وبنى قصيّ داره، فسمّيت دار الندوة، لأنّهم كانوا ينتدون فيها فيتحدّثون ويتشاورون في حروبهم وأمورهم، ويعقدون الألوية، ويزوّجون من أراد التزويج. وكان امر قصيّ ديناً يعملون به ولا يخالفونه.

ولمّا مات، دفن بالحجون. فكانوا يزورون قبره ويعظّمونه(٣) . أيّ رجل قصيّ! مهندس مكّة وساقي أهلها ومطعم الحاج وساقيهم، يعظّم الله ويعرف للبيت حرمته. مطاع في قريش أمره عندهم دين يعملون به ولا يخالفونه. ولم تمت منزلته عندهم بموته فكانوا يزورون قبره ويعظّمونه. ودار قصيّ منتدى قريش يتشاورون فيه في أمورهم.

عبد مناف: وولد قصيّ عبد مناف واسمه المغيرة، وكان يدعى (القمر) لجماله. يقال: إنّه وجد كتاب في حجر: (أنّ المغيرة بن قصيّ أوصى قريشاً بتقوى الله وصلة الرحم)(٤) .

____________________

(١) أنساب الأشراف ١: ٥٨.

(٢) نفس المصدر السابق: ٥٩.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) نفس المصدر السابق.

٤٠٠