شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 182636
تحميل: 4444

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182636 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

فبكى الناس وقالوا: يخرج مطاعاً عزيزاً. ولـمّا خرج الإمام الحسنعليه‌السلام إليهم وكان في خطبته ذكر فضل أهل البيت الطاهر وفضائل أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام وزهده، فبكى الناس ثانية ثمّ بايعوه غير مكرهين. وهنا أيضاً كما في النصوص السابقة فقد بايعوه أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم.

وفي نصّ الطبري: بويع للإمام الحسنعليه‌السلام بالخلافة وكان أوّل من بايعه قيس بن سعد بن عبادة، سيّد الخزرج، وكان مجدّاً في قتال المحلّين، إلّا أنّ الإمام الحسنعليه‌السلام كان على سيرة أبيه أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، فقد وجدناه يوم البعير وصفّين والنهروان لا يبدأ خصومه بقتال حتّى يبدأوه، ولا يكتفي بمراماتهم له بالسهام، ولا حتّى بجرح بعض أصحابه! حتّى يؤتى ببعضهم شهيداً متشحّطاً بدمه؛ عند ذلك يقول: طاب الضّراب، بعد أن يشهد الله عليهم وأنّهم استحلّوا منه ما حرّم الله تعالى.

وأمّا مبادؤه لو وقعت المعركة وقد ذكرناها في غير هذا الموضع فهي: أن لا يجهز على جريح ولا يتبع مدبر ولا تكشف عورة ولا تقتل امرأة ولا طفل ولا تسبى امرأة ولا يؤخذ من مال العدوّ إلّا ما وجد في عسكرهم ممّا يدخل في عدّة الحرب. فأيّ واحد من هذه المبادئ كانت في الخوارج من يومهم الأوّل وحتّى يومنا؟!

ولما يعلمه الإمام الحسنعليه‌السلام من الوضع الاجتماعي على ما سنبيّنه فإنّهعليه‌السلام بايع الناس على الشرط الذي وضعه لهم مستفيداً من تجربة أبيه أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لـمـّا خرج عليه المارقون فهم أوّلاً حملوا سيوفهم بوجهه إذا لم يوقف الحرب ويقبل بحكم القرآن! الذي هتكت حرمته برفعه على رؤوس الرماح، فقال لهم: ويحكم أنا أوّل من دعا إلى حكم القرآن وإنّ القوم خدعوكم لـمـّا رأوا إنّ الحرب عضّتهم! فأصرّوا على إيقاف الحرب والقبول بالتحكيم، وكان مالك الأشتر قاب قوسين من فسطاط ابن

٤٦١

هند، وكان هذا قد أعدّ فرسه من خلف الفسطاط للهزيمة؛ فما كان من الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في مثل هذا الموقف الصعب إلّا أن يوقف الحرب لئلاّ يقال أنّه قتل أصحابه فحاله حال ابن حرب كلاهما يقاتل من أجل الدنيا و (الأريكة)، وحاشا لأبي الحسن؛ وإلاّ لأجهز على ابن هند الذي أسمعه ابن سميّة وغيره ما جعله يحمي فأقحم نفسه القتال فبرز إليه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلمّا رأى المنيّ’ تلوح بذي الفقار، لم يجد وسيلة يدفع بها عن نفسه إلّا عورته! فارتمى على الأرض شائلاً رجليه ومبدياً عورته! لمعرفته بكنه عليّعليه‌السلام ، الذي أشاح بوجهه الطاهر وأكرم ذا الفقار عن رجس ابن رجس، ورجع ابن هند إلى معسكره ركضاً تتقطّع أنفاسه بعد أن رأى الموت الأحمر عياناً! وحدث هذا لوزيره ابن سميّة بعد أن لجّ ابن هند في محارشته وتجبينه فخرج مضطرّاً، فلمّا علم أنّ الذي برز إليه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، لم يكن منه إلّا أن يتأسّى بابن هند، فيدفع عن نفسه بسوءته! وهكذا كان أمر بسر بن أبي أرطاة! ولـمّا أوقف أمير المؤمنينعليه‌السلام الحرب واتّفق الطرفان على المفاوضات أرادعليه‌السلام أن يكون المفاوض عنه مالك الأشتر وأصرّ الخوارج على أبي موسى الأشعري، فقال لهم أميرالمؤمنين: أبو موسى خذّل الناس عنّي (وكان والي عمر بن الخطّاب على الكوفة) وعداده في الناكثين! ذلك أنّ البيعة بعد أن تمّت في المدينة المنوّرة أخذ جارية بن قدامة السّعدي البيعة لأميرالمؤمنين بالبصرة، وكان بها عبد الله بن عامر والياً لعثمان، ففرّ منها إلى مكّة.

وفي الكوفة، بايع هاشم بن عتبة المرقال أمير المؤمنين وقال: هذه يميني وشمالي لعليّ وقال:

أبايعُ غير مُكتَتِم عليًّا

ولا أخشى أميري الأشعريّا

ثمّ بايع أبو موسى فقال عمّار حين بلغته بيعته له: والله، لينكثنّ عهده ولينقضنّ

٤٦٢

عقده وليفرنّ جهده وليسلمنّ جنده. فلمّا كان من طلحة والزبير وعائشة من خروجهم على أمير المؤمنينعليه‌السلام قعد أبو موسى يثبّط أهل الكوفة عن أمير المؤمنينعليه‌السلام وكان يقول: الإمرة ما أمر فيها، والملك ما غلب عليه! وكان يقول: هذه فتنة؛ حتّى أن وجّه أمير المؤمنين الحسنعليهما‌السلام ومعه عمّار بن ياسر إلى الكوفة وعزل أبا موسى وولّى على الكوفة قرظة بن كعب الأنصاري. ونفر مع الحسنعليه‌السلام وعمّار تسعة آلاف من أهل الكوفة(١) ، وفي الفتوح تسعة آلاف ومائتا رجل(٢) .

لم يكن عمّار الذي أنبأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه مع الحقّ لا يزايله، وأنّه ما عرض له قول إلّا أخذ بأرشدهما، أن يقول في الأشعريّ وكان من عثمانيّة الكوفة وكان منهم في الكوفة عدد كثير، إضافة إلى الخوارج الذين انخزلوا من المارقين يوم النهروان بعد أن حاججهم أمير المؤمنينعليه‌السلام فأقام عليهم البيّنة، فأعلن ثمانية آلاف منهم التوبة وبقي على حربه أربعة آلاف، فقالعليه‌السلام للذين أعلنوا توبتهم: اعتزلوني الآن وذروني والقوم، فاعتزل القوم، وتقدّمعليه‌السلام في أصحابه وما هي إلّا ساعة حتّى تحقّق ما أنبأ به أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ فلم يفلت من الخوارج غير تسعة ولم يستشهد من أصحابه غير تسعة، ودخل أولئك الثمانية آلاف الكوفة.

وفي الكوفة غير العثمانيّة، والمارقين الخوارج، يوجد أمويّون وشيعة لم تتبلور عندهم فكرة التشيّع على النحو الذي عند الشيعة الإماميّة وشيعة أهل البيت الإماميّة مع خليط من الأعراب ممّن استوطن الكوفة. ذكرنا الخارطة السكّانيّة للكوفة لـما ترتّب على ذلك من آثار يوم صفّين والنهروان وشهادة أمير المؤمنينعليه‌السلام وشهادة السبطين

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢٩.

(٢) الفتوح، لابن أعثم ٢: ٢٩٢.

٤٦٣

الحسن والحسينعليهما‌السلام ...، وشهادة المختار المظلوم رضي الله عنه، وحركة التوّابين الأحرار طلباً بثأر سيّد شباب أهل الجنّة الحسينعليه‌السلام ، وقتل وصلب الأماثل الأخيار من شيعة أهل البيتعليهم‌السلام ، وهم من أهل الكوفة، إلّا أنّ التاريخ وقد كتبته أياد زبيريّة ومرتزقة ابن هند، ومروانيّ’؛ وأضافت إليها العبّاسيّة مزيداً من التشويه فصارت الكوفة مثلاً للخذلان والغدر وقتل أهل البيت من غير تأمّل لتصفية بني العبّاس لنبي عمومتهم أئمّة الهدى وأعلام التقى؛ وهم لم يشهروا سيفاً، ومع ذاك أو غلوا في دمائهم وإذ جرى الكلام عن الجشرة الملعونة، فإنّ بني العبّاس كانوا ملوكاً فراعنة مغرقين في الخمرة ونوادي اللهو التي يقصر عنها ابن هند وابن ميسون...، وإذا كان فروع الشجرة الملعونة وأوراقها الصفراء مثل بسر بن أبي أرطاة، والضحّاك بن قيس، وعمر ابن سعد العذريّ! - وقد ذكرنا في غير هذا الموضع: أنّ النسّابة تذكر أنّ سعد بن ابي وقّاص، ليس من بني زهرة، إنّما هو من بني عذرة - وغيرهم؛ لم تطب أعراقهم ولم تطهر أصولهم، وقد عدوا على أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، ولم يرعوا للبيتين حرمة، وقتلوا سيّد شباب أهل الجنّة وصحبه الكرام، وتتبّعوا شيعتهم قتلاً وتشريداً ومثّلوا بهم؛ فإنّ بني العبّاس غلبوا إبليس في أساليبه! فإنّهم كانوا في غمرة من الناس، فلمّأ بدأت ملوكيّة الأدعياء تضعف وتهرم؛ تحرّك بنو العبّاس وبثّوا دعاتهم وكان شعارهم (يا للرضا من آل البيت) فكان الناس يظنّون أنّهم يدعون إلى أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويعملون إلى ردّ الحقّ إلى أهله، فقويت دعوتهم وانخرط الناس في سلكها، فلمّا استحكم الأمر لهم، قلبوا لأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ظهر المجن وبدأت ملاحقتهم لهم من عهدهم الأوّل وإذا كان ولاة ابن هند، وبني مروان يقطعون أيادي وأرجل محبّي وشيعة أهل البيتعليهم‌السلام ، ودفنهم أحياء...، فإنّ ما فعله بنو العبّاس أعظم! فمضافاً إلى

٤٦٤

تصفيتهم لعدّة من أئمّة الهدى فإنّهم كانوا أشدّ على شيعة أهل البيت من أسلافهم، فكانوا يأخذونهم ويأخذون العلويّين فيعذّبونهم صنوف التعذيب ثمّ يربطونهم بالسلاسل ويقيمونهم وقوفاً ويأمرون البنّاء فيبني حول أحدهم أسطوانة ويسقفها عليه، فيموت على هذا الوضع.

ولم تطهر قصور بني العبّاس من الخمرة التي أتت على نهاية آخر ملوكهم في قصّة مشهورة. والسيرة واحدة للأبناء: بنو أميّة وبنو سفيان؛ وبو العبّاس؛ فغير ما ذكرنا من المشتركات بينهم، فإنّ أمر التبنّي والادّعاء أمر مألوف لهم؛ وقد وجدنا الناقص (يزيد) ابن ميسون النصرانيّة، وابن معاوية ادّعاءً وبين الأخير وأميّة جدّان الثاني منهما تبنّاه أميّة ثمّ استحلقه وتنازل له عن زوجته! وغيره من (ذكوان) إلى (أبي عمرو) ولم يكن أميّة صالحاً في نفسه إنّما هو عبد روميّ اشتراه (عبد شمس) وتبنّاه ثمّ استلحقه فصار: أميّة بن عبد شمس وكما ذكرنا: لم يكن عبد شمس ممّن يقرن بأخيه هاشم المجد، وكان خامل الذكر كلاًّ على أخيه هاشم فقد كان ينفق عليه.

ولمّا ذكرنا في المشتركات بين الأقوام، نذكر أمراً في غاية الوجازة في أمر الدعوة والاستلحاق.

فقد ذكروا أنّ عبد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب ولد: سليط، لأمّ ولد؛ ونفاه عبد الله بن العبّاس!، ثمّ استلحقه! واتّهم أخوه عليّ بقتله؛ فجلده الوليد بن عبد الملك لذلك مائة سوط. وادّعى أبو مسلم (الخراساني) أنّه عبد الرحمن بن سليط هذا ابن عبد الله بن العبّاس(١) .

هنا يثور أكثر من سؤال: لم نفى عبد الله بن العبّاس ابنه سليط؛ هل كان لشبهة في

____________________

(١) جمهرة أنساب العرب: ١٩، النزاع والتخاصم، للمقريزي: ١٤٩ - ١٥٠.

٤٦٥

أمّه وهي أمّ ولد؛ والشبهة لا يترتّب عليها مثل هذا الحكم، وابن عبّاس أعلم بذلك؟! ولا معنى للاستلحاق! وإن كان عن بيّنة فإنّ الولد للفراش وللعاهر الحجر، وعلى أيّ حال، فهو ابنه ولا معنى للاستلحاق كما ذكرنا.

والآخر: لم قتل عليّ أخاه سليط، نفياً للعار أم لأمر آخر؟ ولعلّ ادّعاء أبي مسلم أنّه ابن سليط، وتفانيه في تأسيس حكم بني العبّاس، دليل على صحّة نسب سليط إلى ابن عبّاس.

شهادة الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام

ذكرنا خارطة الكوفة السكّانيّة وأنّها لم تكن شيعيّة، فكثير من أهلها عثمانيّة، وجبهة عريضة منها خوارج ذلك أنّ الخوارج المارقين لـمّا اجتمعوا بالنهروان وحاججهم أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام فأقام الحجّة عليهم، أعلن منهم ثمانية آلاف التوبة فطلب منهم أمير المؤمنين أن يعتزلوه في لحظته تلك فدخلوا الكوفة، وهذا لا يعني أنّ نفوسهم طهرت من كلّ شائبة. وحتّى الشيعة لم يكونوا طبقة واحدة، فليسوا جميعاً سلمان المحمّدي ولا أباذرّ ومقداد ومالك الأشتر...، ممّن ينظرون الإمامة بعين واحدة، فهي منصب إلهيّ يؤتيه الله من يشاء. فالإمام معصوم قرآناً وسنّةً بآية التطهير والمباهلة وآية الولاية وحديث المنزلة والثقلين والسيادة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولوصيّه وابنته وولديه وسبطيه الذين شاءت الحكمة الإلهيّة أن تنتهي ذرّية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهما إذ حرّم على أرحام زوجات النبيّ أن يحملن منه، وإلاّ لكانت مصيبة! ومن حكمته تعالى أن أنزل زوجات النبيّ منزلة أمّهات المؤمنين فقطع الطريق أن يتزوّج منهنّ أحد، وما يدرينا لو تزوّج أحدهم إحداهنّ وحملت منه أن لا تنسبه إلى النبيّ، وبذا وذا تضيع الذريّة الطاهرة!

٤٦٦

إلاّ أنّ من الناس من يحبّ أهل البيتعليهم‌السلام على أنّهم أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يجب حبّهم لذلك من غير نظر في آيات وأحاديث العصمة والطاعة لهم وأن لا يجوز الخروج عليهم ومخالفتهم؛ فسلمهم سلم لله ولرسوله، وحربهم حرب لله ولرسوله؛ ومن ثمّ منهم ترجمان القرآن وثقله الذي تختلّ الموازنة بالأخذ بأحدهما دون الآخر وتوجد طبقة من الشيعة فيها تردّد وشكّ تضعف في ظروف أو قل: تعجل فتحمل الإمام المعصوم على ما تريد باجتهادها! وهذه هي الطبيعة البشريّة؛ ثمّ تنشط إذا ما أوضح لها الإمام حقيقة الأمر.

ولذلك صنّف أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى: الأصحاب؛ نسبة إلى صحبتهم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبقوا على صحبته لم يغيّروا ولم يبدّلوا، ثمّ صحبوا أمير المؤمنين عليًّاعليه‌السلام . ثمّ الأصفياء، ثمّ الأولياء، ثمّ شرطة الخميس(١) .

وفي تسميتهم (شرطة الخميس) قال عليّ بن الحكم: أصحاب أمير المؤمنين الذي قال لهم: (تشرّطوا إنّما أشارطكم على الجنّة، ولست أشارطكم على ذهب ولا فضّة، إنّ نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأصحابه فيما مضى: تشرّطوا فإنّي لست أشارطكم إلّا على الجنّة)(٢) .

فيما نجد ابن هند يشارط أهل الشأم على الغنائم والأموال، ومساجلاته مع ابن النابغة وشرط الأخير أن يطعمه مصر ليحفظ له كرسي حكمه بحيله المعروفة، ويستغلّ تدنّي ابن سميّة ويلوّح له بنسبه الضائع فيعده أن يصل حبله بحبله ويلحق نسبه بنسبه المبتور إلى أبي سفيان؛ وهكذا اشترى ابن ميسون ابن مرجانة لـما أبطأ عن إنفاذ أمره.

____________________

(١) رجال البرقي: ٣.

(٢) نفس المصدر السابق.

٤٦٧

وممّا أعان الأبناء على شراء أهل الشأم وسوقهم حيثما شاؤوا، أنّ الأرض هذه تعاقبت عليها الأمم الضالّة وانتهت أن صارت حاضنة يزيد بن أبي سفيان، ولم يعمّر هذا طويلاً، إذ طعن - مرض الطاعون - فأوصى إلى ابن هند، فأقرّه عمر على دمشق ثمّ بسط يده على الشأم...؛ فلمّا كان عثمان ألحق به أقاليم أخرى؛ ذكرنا تفصيل ذلك.

وقد كانت سياسة ابن هند فيهم أن لا يردع أحداً من فاحشة ويبسط لهم بالمال يغريهم به لقطع الطريق على الابرياء وقتلهم وسلبهم وبعث منهم البعوث ليشنّوا الغارات على مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هتكاً لحرمته وحرمة مدينته تمهيداً لمن يأتي بعده فيشنّ الغارة عليها من دون وازع ولا رادع، وفعل مثل ذلك بحرم الله تعالى، فما أيسر فعل ذلك على الناقص الذي تربّى بين أخواله النصارى ولـمّا استلحقه ابن هند لم يزد في تربيته إلّا معاقرة الخمور والاعتكاف على كلّ موبقة وهو يرى من سيرته أنّه أعاد لهبل مكانته إذ كان يتاجر بأصنام النحاس إلى الهند في مراكب مشحونة بأزقة الخمر الشأميّ؛ ويرى قصره تختلف عليه الزواني من ترك وخراسان، ويجده يوماً باركاً تعلوه زنجيّة كان مولعاً بها وهي تلوي السوط على رأسه فلا يردّها - شرحنا ذلك مفصّلاً -. والمجتمع حوله لا همّ لهم إلّا أخذ الأعطيات والأرزاق؛ ولا همّة لهم إلّا امتثال أوامر الحاكم الغشوم وإن كان فيها خرق العهود وخيانة المعاهدات كما حصل مع الإمام عليّعليه‌السلام ، وشنّ غاراتهم بعد كتابة المواثيق ورجوع أهل العراق إلى عراقهم وأهل الشأم لشأمهم، فهم لا يسألون لم نقتل الأبرياء الذاهبين إلى الحجّ ولا يحكمهم قرآن ولا سنّة: علام نقاتل أولياء الله، ونعدو على ما حرّم الله ورسوله؟! فهم يرون طاعة الجبروت الملعون على لسان رسول الله، أوجب من طاعة الله تعالى، وأنّ الدراهم التي لم تؤخذ من حلّها أفضل من الجنّة ونعيمها، إن كانوا يؤمنون بيوم المعاد! فهم على

٤٦٨

دين أبي سفيان الذي يحلف أن لا جنّة ولا نار ويدعو بني أميّة لتلقّف الأمر تلقّف الكرة؛ فوجد ابن هند ضالّته في هذا المجتمع؛ واقتدى ابن ميسون به فأرسل خوارج الشأم ليشركوا خوارج الكوفة وعثمانيّتها وحمراء خراسان في قتل سيّد شباب أهل الجنّة وريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحسين بن عليّعليهما‌السلام وأهل بيته وصحبه وسبوا عياله؛ وأعرب عن كفره وزندقته لـمّا وضع رأس الحسينعليه‌السلام بين يديه فكان ينكته بالقضيب وينشد:

لَعِبتْ هاشمُ بالـمُلك فلا

خبرٌ جاءَ ولا وحيٌ نزلْ

ثمّ بعث خوارج الشأم للعدوان على حرم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فكانت وَقْعَةُ الحرّة العظيمة؛ وتوجّه ذلك الجيش صوب حرم الله، فدكّوا الكعبة بالمنجنيق وحرقوها وهم يرتجزون استخفافاً بالكعبة.

إنّ خوارج الشأم الذين كانوا يبدون صفّاً واحداً تجمعهم الدراهم والطاعة العمياء لسلاطين الجور والزندقة، فقد صمّوا وعمّوا وصاروا في حيرة من أمرهم وفشا فيهم الاختلاف الشديد! وذلك لـمّا وصلهم خبر هلاك الناقص ابن ميسون، ومن خبره بإيجاز، إذ سيأتي تفصيله وما حدث لأهل الشأم. فإنّ خليفتهم - كذا! - قد ذاق جهنّم قبل ورودها! ذلك أنّه شرب من الليل شراباً كثيراً ثمّ أصبح مخموراً فذرعه القيء ثمّ لم يزل كذلك حتّآ قذف عشرين طشتاً ثمّ هلك، فلمّا وصل خبره إلى قائد أهل الشأم: الحصين بن نمير؛ ارتبك أمره وأقبل على ابن أسماء يعلمه الخبر ويطلب منه أن يصحبه إلى الشأم وسيكون هو أوّل من يبايعه فأبى عليه فارتحل الحصين بعسكره إلى الشأم وأهلها يومئذ في أمر عظيم من الاختلاف، فقوم يؤمّون ابن أسماء؛ وقوم إلى خالد بن يزيد، وقوم إلى الضحّاك بن قيس الفهري، وآخرون مع ابن الزرقاء مروان. وسنأتي على تفصيل كلّ ذلك في موضعه.

٤٦٩

لقد كان ابن النابغة أعرف بنفسه وبأهل الشأم وبابن هند؛ وبعليّعليه‌السلام وأهل العراق. ففي قصيدة يخاطب بها ابن هند؛ جاء فيها:

معاويةُ الحال لا تجهل

وعن سبيل الحقِّ لا تعدلِ

نسيت احتيالي في جُلَّق

على أهلها يوم لبس الحلي؟

وقد أقبلوا زمراً يهرعون

مهاليع كالبقر الجفَّلِ(١)

وقولي لهم إنّ فرض الصلاة

بغير وجودك لم تُقبلِ!

فولّوا ولم يعبأوا بالصلاة

ورمتَ النفارَ إلى القسطلِ

ولـمّا عصيت إمام الهدى

وفي جيشه كلُّ مُستفحلِ

أبِالبقرِ البُكم أهل الشآم

لأهل التُقى والحِجى أُبتلي؟

فتجده يخاطب ابن هند ويصفه بأنّه على باطل؛ ويصف أهل الشأم بأنّهم بقَرٌ لا يفقهون ما أن سمعوا قوله في الصلاة تركوها! ويصف أمير المؤمنينعليه‌السلام بأنّه إمام الهدى وجيشه أبطال وأنّه لـما عصى الإمام واتّبع معاوية، فقد خرج من صفّ أهل التُقى ذوي العقول وأُبتلي بالبقرِ الذين لا يفقهون. ثمّ يقول:

فبي حاربوا سيّد الأوصياء

بقولي: دمٌ طُلَّ من نَعْثَلِ(٢)

وكدتُ لهم أن أقاموا الرماح

عليها المصاحف في القسطلِ

وعلّمتهم كشف سوءاتهم

لردِّ الغَضَنْفَرة المقُبْلِ

فقام البُغاة على حيدرٍ

وكفّوا عن المشعل المصطلي

____________________

(١) أهرع: أسرع. الهلع: الجزع. الجفل: البقر الشرود.

(٢) طلّ الدم: هدر ولم يثأر له.

٤٧٠

نسيتَ محاورة الأشعري

ونحن على دُومة الجندل؟

خلعتُ الخلافةَ من حيدرٍ

كخلع النَعال من الأرجلِ

وألبستُها فيك بعدَ الإياس

كلبس الخواتيم بالأنمل

ورقَّيتك المنبر المشمخرّ

بلا حدّ سيف ولا منصل

ولو لم تكن أنت من أهله

وربِّ المقام ولم تكملِ

وأقرّ ابن النابغة لأميرالمؤمنينعليه‌السلام أنّه سيّد الأوصياء؛ وبخديعة ابن النابغة وهي الطلب بدم عثمان الذي سمّاه نعثلاً، فإنّ أولئك الذين قال إنّهم بقر بكم، قد حاربوا أميرالمؤمنين. ومضى يعدّد مواقفه يوم صفّين من رميه نفسه عن الفرس وكشفه عن عورته اتّقاء للإعصار والموت المعلّق بسيف ذي الفقار، والذي صار سنّة أقبح بها! لكلّ من سوّل له الشيطان فخرج لمبارزة سيّد الأوصياء، فرأى المنيّة عياناً، فما كان منه إلّا أن يستنّ بفعله ابن النابغة صنع ذلك ابن هند، وبسر بن أبي أرطاة؛ وانتقل إلى مشهد آخر ذلك هو خروج المارقة منخدعين برفع المصاحف التي هتك حرمتها ابن النابغة بجعلها على أسنّة الرماح.

ثمّ يذكر ابن هند بأنّه هو الذي رقّاه المنبر المكرّم وإن كان ليس من أهله؛ وذلك من خلال خديعته للأشعريّ المتخاذل.

ومنها قوله:

وجهلُك بي يابن آكلة الـ

ـكبود لأعظم ما أُبتلي!

فلو لا موازرتي لم تُطَع

ولو لا وجودي لم تُقبَلِ

ولولاي كنتَ كمثلِ النساء

تعاف الخروج من المنزل

٤٧١

نصرناك من جهلنا يابنَ هند

على النبأ الأعظم الأفضلِ

وحيث رفعناك فوق الرؤوس

نزلنا إلى أسفل الأسفلِ

وكم قد سمعنا من المصطفى

وصايا مخصّصة بعلي؟

وفي يوم (خُمٍّ) رقى منبراً

يُبلّغ والركب لم يرحلِ

وفي كفِّه كفُّه مُعلناً

يُنادي بأمر العزيز العلي

ألستُ بكم منكمُ في النفوس

بأَولى؟ فقالوا: بلى فافعلِ

فأَنحلَه إمرة المؤمنين

من الله مُستخلف المنحلِ

وقال: فمَن كنت مولى له

فهذا له اليوم نِعم الولي

فوالِ مواليه يا ذا الجلا

لِ وعادِ معادي أخ المرسَلِ

ولا تنقضوا العهد من عترتي

فقاطعهم بي لم يوصلِ

فبَخْبَخَ شيخُك لـمّا رأى

عُرى عقد حيدرٍ لم تُحللِ

فقال: وليّكم فاحفظوه

فمدخله فيكمُ مدخلي

وإنّا وما كان من فعلنا

لفي النار في الدرك الأسفل!

وما دمُ عثمان منجٍ لنا

من الله في الموقف الـمُخجل

وإنّ عليًّا غداً خصمنا

ويعتزُّ بالله والمرسَلِ

يُحاسبنا عن أمور جرت

ونحن عن الحقّ في معزل

فما عُذرنا يوم كشف الغطا؟

لك الويل منه غداً ثمّ لي

ألا يابنَ هند أبعتَ الجنان

بعهدٍ عهدتَ ولم توفِ لي

وبعد أبيات يعاتبه على غدْره لـمّا استقام له الأمر وراح يُماطل بشأن إمرة مصر ثمّ

٤٧٢

دفعها إلى عبد الملك بن مروان؛ فذكّره بيوم صفّين حيث ضاق عليه الخناق فلجأ إليه لينقذه وقد شاطره مصر:

كأنّك أنسيت ليل الهرير

بصفّين مع هولها المهولِ

وقد بتّ تذرق ذرق النعام

حذاراً من البطل الـمُقْبل

وحين أزاح جيوش الضلا

لِ وافاك كالأسد الـمُسبل

وقد ضاق منك عليك الخناق

وصار بك الرّحب كالفلفل(١)

وقولك: يا عمرو أين المفرّ

من الفارس القسور المسبل

عسى حيلة منك عن ثنيه

فإنّ فؤادي في عسعل

وشاطرتني كلّما يستقيم

من الملك دهرك لم يكمل

فقمت على عجلتي رافعاً

وأكشف عن سوأتي أذيلي

فستّر عن وجهه وانثنى

حياء وروعك لم يعقل

وأنت لخوفك من بأسه

هناك ملأت من الأفكل(٢)

ولمّا ملكت حماة الأنام

ونالت عصاك يد الأوّل

منحت لغيري وزن الجبال

ولم تعطني زنة الخردل

وأنحلت مصراً لعبد الملك

وأنت عن الغيّ لم تعدل

وبعد أبيات يتهدّد فيها ابن هند؛ ينفي عنه إمرة المؤمنين ويُبطل دعواه الخلافة، ويعقد مقارنة بينه وبين الإمام عليّعليه‌السلام:

____________________

(١) الفلفل: القُرب بين الخطوات، كناية عن اضطرابه.

(٢) الأفكل: الرعدة من الخوف.

٤٧٣

فإنّك من إمرة المؤمنين

ودعوى الخلافة في معزل

وما لك فيها ولا ذرّة

ولا لجدودك بالأوّل

فإن كان بينكما نسبة

فأين الحسام من المنجل؟

وأين الحصا من نجوم السما

وأين معاوية من علي؟

فإن كنت فيها بلغت المنى

ففي عنقي علق الجلجل(١)

وبالبيت الأخير سمّيت القصيدة: الجلجليّة، وهي قراءة لعسكري أهل الجهل البقر البكم حصب جهنّم؛ والآخر أهل التقى والعقول، ممّن أطاع الله ورسوله في التمسّك بولاية أمير المؤمنين ولم ينقضوا العهد مع عترته الطاهرة فهم الفائزون يوم القيامة.

ولكن هل اتّعظ ابن النابغة بعد إقراره على نفسه وعلى سيّده ابن هند وعلى المجتمع الذي هو فيه، بكلّ تلك الخزايات والمساوئ؛ وما ذكره من محاسن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأهل بيته الكرام، وصحبه النجباء؛ وما أعدّ الله لكلا الفريقين، فرجع عن غيّه، أم أنّه مضى في ركب الشيطان بعد أن ردّ عليه ابن هند طعمة مصر؟

لقد مضى ابن النابغة عبداً لابن هند، مشترياً دنياً دنيّة بنار تلظى، أليس هو القائل:

وإنّا وما كان من فعلنا

لفي النّار في الدرك الأسفل!

أي مع نمرود وفرعون وقارون، وما ذلك إلّا لأنّه وصاحبه والبقر البكم قد خرجوا على أمير المؤمنين الذي عداؤه عداء أخيه النبيّ المرسل، فشملتهم دعوة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكلّ نبيّ مجاب الدعوة؛ ومن دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: موالاة من والى عليًّا أمير المؤمنينعليه‌السلام، ومعاداة معاديه، وأنّه غداً خصمهما ومعه الله ورسوله؛ فمن ينصرهما على الله ورسوله؟! وأيّ صلة لهما برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد نقضوا العهد من

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٢: ٥٢٢.

٤٧٤

عترته، فقطعوا بذلك صلتهم بالنبيّ ومن ثمّ بالإسلام إن كانوا مسلمين! أليس هو القائل في جلجليّته:

ولا تنقضوا العهد من عترتي

فقاطعهم بي لم يوصل

فإذا كانت مصراً عمته وصمّته فشارك ابن هند في عارها وشنارها يوم صفّين؛ فما باله يتعرّض لسبط رسول الله وريحانته الحسنعليه‌السلام في مناسبة وغير مناسبة؟!

لقي عمرو الحسن بن عليّعليهما‌السلام في الطواف، فقال: يا حسن! أزعمت أنّ الدين لا يقوم إلّا بك وبأبيك؟ فقد رأيت الله أقامه بمعاوية فجعله ثابتاً بعد ميله، وبيّناً بعد خفائه، أفيرضى الله قتل عثمان، أم من الحقّ تدور بالبيت كما يدور الجمل بالطحين؟ عليك ثياب كغرقئ البيض، وأنت قاتل عثمان، والله إنّه لألمّ للشعث، وأشهل للوعث أن يوردك معاوية حياض أبيك!

فقال الحسن صلوات الله عليه: (إنّ لأهل النار علامات يعرفون بها وهي: الإلحاد في دين الله، والموالاة لأعداء الله، والانحراف عن دين الله؛ وإنّك لتعلم أنّ عليًّا لم يتريّث في الأمر، ولم يشكّ في الله طرفة عين، وأيم الله لتنتهينّ يابن العاص، أو لأقرعنّ قصّتك بقراع وكلام، وإيّاك والجرأة عليّ؛ فإنّي من عرفت لست بضعيف المغمز ولا بهشّ المشاشة(١) ، ولا بمريء المأكلة، وإنّي لمن قريش كأوسط القلادة؛ معرق حسبي ولا أعدى لغير أبي. وقد تحاكمت فيك رجال فغلب عليك ألأمها حسباً، وأعظمها لعنة، فإيّاك عنّي! فإنّما أنت نجس، ونحن أهل بيت الطهارة أذهب الله عنّا الرّجس وطهّرنا تطهيراً)(٢) .

____________________

(١) المشاشة: رأس العظم الليّن.

(٢) المحاسن والأضداد، للجاحظ: ٨٥.

٤٧٥

أرأيت! كيف يناقض ابن النابغة نفسه؟ فأوّلاً هو في طواف حيث لا رفث ولا فسوق، إلّا أنّ عاهاته منعته إلّا وأن يغايظ الإمام وثانياً جاء بكلام أقلّ ما يقال فيه: إنّه باطل إلّا آخره! وهو التهديد بإيراد سيّد شباب أهل الجنّة حياض ابيه؛ ونعم المورد إذ سيجدهعليه‌السلام مشمّراً يذود عن حياضه أهل الكفر والشرك والنفاق؛ منهم ابن هند، وابن النابغة.

وقد بدأ كلامه بتكذيبه قيامة الدين بأولياء الله وعدل القرآن والثقل الثاني الذي أوجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرجوع إليه بعد القرآن الكريم، وهم المطهّرون بآية التطهير، ومعجزة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم المباهلة، وهم مع الحقّ والحقّ معهم؛ فهم صراط الله المستقيم. إلّا أنّ ابن النابغة وقد رجعت إليه طعمة مصر؛ نسي قوله في أمير المؤمنينعليه‌السلام : إمام الهدى، وسيّد الأوصياء، وأميرالمؤمنين كما في بيعة يوم الغدير، ووجوب ملازمته وعترته الطاهرة؛ أمّا ابن هند عنده؛ فهو ابن آكلة الكبود، ولم يكن جلوسه على المنبر عن أمر من الله تعالى ولا بوصية من رسوله؛ وإنّما بحيلة ابن النابغة ولذا فله المنّة عليه بذلك؛ وليس لابن هند من فضيلة يقيم الله بها دينه إلّا فضيلة دعاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحقّه: (لا أشبع الله بطنه) فكان يأكل ولا يشبع حتّى مات؛ ولعنة رسول الله له ولأبي سفيان وابنه يزيد بن أبي سفيان وقد رأى أبا سفيان راكباً جملاً، وابن هند وابن أبي سفيان وابنه يزيد بن أبي سفيان وقد رأى أبا سفيان راكباً جملاً، وابن هند وابن أبي سفيان أحدهما يقودها والآخر يسوقها، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أللّهم العن الراكب والقائد والسائق)؛ وقد لعنه في أكثر من أربعين موضع، ودعا إلى قتله إن شوهد على المنبر، وحكم عليه بالنار وأنّه في تابوت مقفل عليه في قعر جهنّم، وغير ذلك ممّا ذكرناه في غير هذا الموضع. وذكرنا من سيرته ما تزكم منه الأنوف ويكفي أن نذكر منها واحدةً تلك هي: أنّه مات من نكحته عاهراً!

٤٧٦

فلا خير في دين يقيمه ابن هند، والخير كلّه في دين عماده أبو الحسن عليّ وابنه المجتبىعليهما‌السلام .

وما لابن النابغة ولعثمان؛ إذ يقول للإمام المفدّىعليه‌السلام: (وأنت قاتل عثمان)! فأين كان عن عثمان إذ اعتزل بمصر حيث حاصرت وفود الأقاليم وهي مجمعة على قتل عثمان، ولم ينجده ابن هند لـمـّا استغاثه عثمان؛ أم يقولا لقد رأينا أمّنا عائشة ومعها طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف، أشدّ الناس على عثمان وكانوا يسمّونه نعثلاً، وقد منعوا عنه الماء فلا طاقة لنا بهم!

وقد صرّحت لسيّدك بأنّ خدعة الطلب بدم عثمان لا تقيكم من الله إذ خصمكم إليه هو عليّعليه‌السلام .

وهل أحد أشدّ الناس نصرة لعثمان من أمير المؤمنينعليه‌السلام بدءاً بالنّصح له، فإذا قبل نصيحته وهدأت الأمور وقفلت الوفود راجعةً قلّب ابن الزرقاء مروان الأمور على عثمان ممّا أثار حفيظة الثائرين فرجعوا إلى شأنهم في قتل عثمان؟!

وهل أحد أدخل الماء على عثمان غير عليّعليه‌السلام فيما كان عائشة وطلحة والزبير وابن عوف أشدّ المانعين من إدخال الماء! حتّى جرح الحسن والحسينعليهما‌السلام وشجّ قنبر مولى عليّ؟! وقد كان من تتّهمه بقتل عثمان، وهو الإمام الحسن، هو وأخوه الحسين في مجموعة من المؤمنين يقفون على باب عثمان يحرسونه؛ فهلّا كنت معهم أو كان إمامك ابن هند معهم؟!

وتعرّض ابن النابغة لسيّد شباب أهل الجنّة الحسنعليه‌السلام كثير، في كلّ منها يرجع خاسئاً؛ فنكتفي بما ذكرناه.

٤٧٧

عود على بدء

عرضنا للتركيبة السكّانيّة للكوفة فوجدنا فيها: الحزب الأموي أو العثمانيّة، وهم عناصر قوة لهم نفوذ وكثرة في الأتباع وقد عملوا على نصرة ابن هند في أوساط شيعة الإمام الحسنعليه‌السلام وكانوا بمثابة جواسيس وعيون على تحرّك الإمامعليه‌السلام .

وطيف آخر وهم: الخوارج وكانوا أكثر أهل الكوفة لجاجةً على الحرب حتّى أنّهم اشترطوا على الإمامعليه‌السلام عند بيعتهم له حرب الحالّين الضالّين فرفض؛ فانكفؤا وصاروا مع الحزب الأموي يداً واحدةً على الإمامعليه‌السلام وخطراً كامناً تفجّر عمليّاً كما سنرى.

وإلى جنب هؤلاء كان الشكّاكون المتأثّرون بدعوة الخوارج من دون أن يكونوا منهم، ويغلب على طبعهم الانهزام.

وفريق آخر هم الحمراء وهم شرطة ابن سميّة، وطابعهم أنّهم جنود المنتصر وسيوف المتغلّب، وقد استفحل أمرهم حتّى نسبوا الكوفة إليهم فقالوا: (كوفة الحمراء).

وبمواجهة هؤلاء جميعاً كان أتباع الإمامعليه‌السلام الذين أسرعوا إلى بيعته بلا فاصل بين ذلك وشهادة أبيه الإمام عليّعليه‌السلام وكانوا هم الأكثر عدداً في الكوفة ولكن دسائس الآخرين ممّن ذكرنا من تلك الطوائف وفتنتهم؛ تعمل دائماً لإحباط أيّ توجّه منهم.

ثمّه مسألة مهمّة تلك هي الفارق التاريخيّ بين شخصيّة الإمام عليّ، والإمام الحسنعليهما‌السلام ، ونعني بالفارق التاريخي: رصيد كلّ واحد منهما في أذهان الناس، إذ ليس فارق بينهما في حساب الله عزّ وجلّ، فإنّ كلّ واحد منهما إمام معصوم مفترض الطاعة؛ إلّا أنّ المقصود هو أنّ المسلمين آنذاك لم يكونوا يؤمنون بفكرة النصّ على

٤٧٨

إمامة الإمام سوى شريحة منهم؛ ولذلك لم يعاملوا الإمام الحسنعليه‌السلام كإمام مفترض الطاعة منصوص عليه، وإنّما عاملوه على أنّ إمامته إمامة عامّة وامتداد لخطّ السقيفة ومفهومها للخلافة.

فرصيد الإمام عليّ التأريخيعليه‌السلام في نفوس الناس لم يكن مثله للإمام الحسنعليه‌السلام ؛ ولقد بعدت الشقّة بين عهد أمير المؤمنين والحسنعليهما‌السلام وعهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نسبيّاً وعضّت الحروب أهل الكوفة، فمن حرب الجمل التي كان عصب جيش الإمام عليّعليه‌السلام فيها أهل الكوفة وقد أعاروا جماجمهم طاعة للوصيّ وأعطوا فيها ألوف الشهداء، إلى حرب صفّين التي لم يبخلوا فيها بل جادوا والجود بالنفس أقصى غاية الجود فقدّموا أكثر من أربعين شهيد؛ ولولا الخوارج المتحفّزة نفوسهم لقلب معادلة الحرب من نصر موزّر نتيجته تطهير الأرض من ابن هند وبسط خلافة سيّد الأوصياء عليّعليه‌السلام على ربى الشأم، إلى ما كان من إيقاف الحرب في اللحظة الحاسمة ثمّ إلى القبول بمهزلة التحكيم وتبعات ذلك من انخزال المحكّمة من الخوارج واجتماعهم بالنهروان؛ فكان الجيش الذي قاده أمير المؤمنينعليه‌السلام هم أهل الكوفة، قضىعليه‌السلام بهم على الخوارج المارقين.

إنّ توالي تلك الحروب على أهل الكوفة مع فقدان الأماثل منهم من أمثال عمّار بن ياسر الذي أبلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأنه: (عمّار يزول مع الحقّ حيث يزول)(١) رواه ابن مسعود.

وعن حذيفة بن اليمان وقد سئل عن الفتن فقال: دوروا مع كتاب الله حيث ما دار وانظروا الفئة التي فيها ابن سميّة فاتّبعوها فإنّه يدور مع كتاب الله حيث ما دار. قال:

____________________

(١) مستدرك الصحيحين ٣: ٤٣٩، والتلخيص، للذهبي حاشية المصدر.

٤٧٩

فقلنا له: ومن ابن سميّة؟ قال: عمّار، سعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول له: (لن تموت حتّى تقتلك الفئة الباغية، تشرب ضياح تكن آخر رزقك من الدنيا)(١) . وكان كما أخبرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد استشهد عمّار بصفّين مع أمير المؤمنينعليه‌السلام وكان آخر شرابه ضياح لبن.

قال ابن النابغة لابن هند: قد قتل عمّار بن ياسر! فقال ابن هند: قتل عمّار فكان ماذا؟! فقال: ألا تعلم أنّ النبيّ قال لعمّار: (تقتلك الفئة الباغية وإنّ آخر زادك من الدنيا اللبن)(٢) ؟ فقال ابن هند: إنّما قتله من جاء به إلى الحرب! فقال عبد الله بن عمرو: وكذلك حمزة بن عبد المطّلب يوم أحد إنّما قتله النبيّ ولم يقتله وحشي؟! فقال معاوية لعمرو: نحّ عنّا ابنك هذا الموسوس الذي لا يدري ما يقول!(٣)

قاتل عمّار وسالبه في النار

عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو، أنّ رجلين أتيا عمرو يختصمان في دم عمّار وسلبه؛ فقال عمرو: خلّيا عنه فإنّي سمعت رسول الله يقول: (أللّهم أولعت قريش بعمّار، إنّ قاتل عمّار وسالبه في النار)(٤) .

وفي يوم من أيّام صفّين، خرج ذو الكلاع الحميريّ، وكان مع معاوية، صوب عسكر أمير المؤمنين وطلب أن يخرج إليه أبو نوح الحميريّ وكان مع عليّعليه‌السلام ، ليسأله عن أمر، فخرج إليه حتّى التقيا فقال ذو الكلاع: إنّما دعوتك أحدّثك حديثاً حدّثناه عمرو بن العاص في إمارة عمر بن الخطّاب قال: إنّ رسول الله قال: (يلتقي أهل الشأم

____________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) المصادر جميعاً.

(٣) الفتوح ٣: ٢٦٨.

(٤) المستدرك على الصحيحين ٣: ٣٤٧، وقال على شرط الصحيحين ولم يخرجاه.

٤٨٠