شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 182547
تحميل: 4444

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182547 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

(أمّا بعد: فإنّما أنت وثَن ابن وثَن من أوثان مكّة، دخلت في الإسلام كُرهاً، وخرجت منه طوعاً، ولم يجعل الله لك فيه نصيباً، لم يقدم إسلامك، ولم يحدث نفاقُك، ولم تزل حرباً لله ورسوله وحزباً من أحزاب المشركين؛ فأنت عدوّ الله ورسوله والمؤمنين من عباده. وذكرت أبي، ولعمري ما أوتر إلّا قوسه، ولا رمى إلّا غرضه، فشغَب عليه من لا يشقّ غباره ولا يبلغ كعبه، وكان أمراً مرغوباً عنه مزهوداً فيه. وزعمت أنّي يهوديّ ابن يهوديّ ولقد علمت وعلم الناس أنّي وأبي من أنصار الدين الذي خرجت منه، وأعداء الدين الذي دخلت فيه وصرتَ إليه).

فلمّا قرأ كتابه معاوية غاظه وأراد إجابته فقال له عمرو: مهلاً إن كاتبته أجابك بأشدّ من هذا، وإن تركته دخل فيما دخل فيه الناس فأمسك عنه(١) .

على ما حدث لأميرالمؤمنين الحسنعليه‌السلام وخديعة ابن هند لعبيد الله بن العبّاس، فإنّ قيس بن سعد بن عُبادة سدّ الفراغ الذي أحدثه غياب عبيد الله، وبقي طوداً شامخاً ولـمّا خايَر أصحابه بين القتال مع غير إمام أو يبايعوا بيعة ضلال؛ اختاروا القتال بلا إمام فقد أَصَّلوا أمرهم على وجوب قتال الخوارج القاسطين كما قاتلوا الخوارج يوم البعير، ويوم صفّين والنهروان وكانت بيعتهم في كلّ وقعة على الموت.

هذا هو شأن أنصار الله وأنصار دينه ورأسُهم قيس بن سعد بن عُبادة، هو وأبوه لهم السيادة في الخزرج، وأنصار الخزرج والأوس تَبَعٌ لقولهما وقد مرّ بنا سيرة أبيه سعد بن عُبادة ولزومه عليًّا أمير المؤمنينعليه‌السلام واشتداد الخوارج الأوائل عليه حتّى أخرج من مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؛ ولم تطب نفوس أولئك حتّى بعثوا جنيّاً! قتله بحوران، وهذا الذي أراد ابن هند من كتابه إلى قيس بن سعد في قتل أبيه طريداً بحوران.

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢٨٥، مقاتل الطالبيّين: ٤٣.

٥٢١

وليت ابن هند وقف عند هذا الأمر؛ إلّا أنّه معاوية، وقد علمتَ أنّه ما عوى على أحدٍ إلّا وردّه بما يندم عليه! ولكنّ قرينه يُنسيه مرامي ضعفه فيرجع إلى طبعه في المحارشة فترشقه سهامُ الردّ بدءاً باسمه (عاوية) ومروراً بهند أُمّه وعطفاً على أبي سفيان زوج هند الرابع، والذي لم تكن له علاقة نسبيّة بمعاوية المنسوب إلى أربعة وربّما ستّة، ولعنات رسول الله له ولأبي سفيان وأمره بقتله إن شوهد على المنبر.

وقد ظنّ ظنّاً كاذباً! إذ رأى أنّه تمكّن من خديعة عبيد الله بن العبّاس وأنّه بذلك أضعف جبهة الإمام الحسنعليه‌السلام ولا يدري أنّ القوم قد زادهم ما حدث عزيمةً وقد بايعوا قيس بن سعد على الموت. فبعث إليهم بُسْر بن أبي أرطاة ليضعف قناتهم بانضمام عبيد الله إلى ابن هند، وكذب عليهم بقوله: إنّ الحسنعليه‌السلام قد بايع ابن هند! وما أروع الموقف وأرشده! فإنّ قيس بن سعد لم يضعف ولم تهزّه الهزاهز، إلّا أنّه لم يُقحم جيشه في معركةٍ حتّى استشارهم فاختاروا القتال بلا إمامٍ على بيعة ضلال فهم مع الحق حيث زال فهزموا بُسراً. عند ذلك عوى ابن هند فبعث رسالة إلى قيس بن سعد بدأه بقوله: (إنّما أنت يهوديّ ابن يهوديّ!) ولا ندري ربّما أراد أن يقول: إنّما أنت أنصاري ابن سيّد الأنصار! فأخذ عليه قرينُه بصيرته؛ فصرف من هذا إلى ذاك، مثل قوله في خطبته حين بويع له: (ما اختلفت أمّة بعد نبيّها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقّها).

ولقد كان كتاب ابن هند إلى قيس بن سعد، بعد كتابه الأوّل إليه يدعوه فيه إليه ويُمنّيه! فجاءه جواب قيس كالصاعقة: (لا والله لا تلقاني أبداً إلّا وبيني وبينك الرمح).

وكان جوابه على كتابه الثاني قاصعة بدأه: (إنّما أنت وثن ابن وثن، دخلت في

٥٢٢

الإسلام كُرهاً وخرجتَ منه طوعاً ولم يجعل الله لك فيه نصيباً). صدق قيس وكذب ابن هند؛ فقيس وأبوه من أنصار الدين الذي دخله ابن هند كرهاً تحت بارقة السيوف، وخرج منه طوعاً يصدّقه في ذلك لعنات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، له والتحذير من فتنته وخروجه على أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وأمر النبيّ لعليّ بقتاله؛ فما أبينها من حجّة!

وشتّان بين شتيمة ابن هند وجواب قيس! فابن هند نسب قيساً وأباه إلى أهل الكتاب - مع جلالتهما من ذلك - وأمّا قيس فنسب ابن هند، وأبا سفيان إلى الوثنيّة، وسيرتهما وأقوال رسول الله فيهما تصدّق ذلك.

ابن هند يطلب الصلح

بعد جواب قيس بن سعد بن عُبادة، وبعد وقعتين بين أهل العراق وأهل الشأم، جعل قيس بن سعد ينتظر الحسنعليه‌السلام أن يقدم عليه، وهو لا يعلم ما الذي نزل به. فبينا هو كذلك إذ وقع الخبر في العسكرين أنّ الحسن بن عليّ قد طعن في فخذه وأنّه قد تفرّق عنه أصحابه؛ فاغتمّ قيس بن سعد وأراد أن يشغل الناس بالحرب لكي لا يذكروا هذا الخبر، فزحف القوم بعضهم إلى بعض فاختلطوا للقتال، فقتل من جماعة معاوية جماعة وجرح بشر كثير وكذلك من أصحاب قيس بن سعد، ثمّ تحاجزوا.

وأرسل معاوية إلى قيس فقال: على ماذا تقاتلنا وتقتل نفسك وقد أتانا الخبر اليقين بأنّ صاحبك قد خلعه أصحابه، وقد طعن في فخذه... فيجب أن تكفّ عنّا ونكفّ عنك حتّى يأتيك علم ذلك.

ووجّه معاوية عبد الله بن كُرَيْز، وعبد الرحمن بن سَمُرة إلى الحسن للصلح، فدعواه إليه، فقبل وبعث معهما عمرو بن سلمة الهمداني ثمّ الأرحبي، ومحمّد بن الأشعث الكندي، ليكتبا على معاوية الشرط ويعطياه الرضى.

٥٢٣

فكتب معاوية كتاباً نسخته: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب للحسن بن عليّ من معاوية بن أبي سفيان، إنّي صالحتك على أنّ لك الأمر من بعدي، ولك عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله وأشدّ ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد وعقد، لا أبغيك غائلة ولا مكروهاً، وعلى أن أعطيك في كلّ سنة ألف ألف درهم من بيت المال وعلى أنّ لك خراج فسا، ودار أبجرد، تبعث إليهما عمّالك وتصنع بهما ما بدا لك).

شهد عبد الله بن عامر، وعبد الله بن سلمة الهَمْداني، وعبد الرحمن بن سَمُرة، ومحمّد بن الأشعث الكندي. وكتب في شهر ربيع الآخر سنة احدى وأربعين.

فلمّا قرأ الحسنعليه‌السلام الكتاب قال: يُطمعني معاوية في أمرٍ لو أردتُ لم أسلّمه إليه(١) .

ثمّ بعث الحسنعليه‌السلام عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب، وأمّه هند بنت أبي سفيان فقال له: ائت خالك فقل له إن أمنت بايعتك(٢) . وفي لفظ: إن أمنت الناس على أنفسهم وأموالهم وأولادهم ونسائهم بايعتك، وإن لم تؤمنهم لم أبايعك(٣) .

فالإمامعليه‌السلام لا ينظر إلى مصلحته خاصّة وإنّما همّه سلامة الناس كافّة. ولو كان ممّن يغريه السلطان لـما تنازل عنه أوّلاً ومعه مائة ألف سيف؛ ولا رفضه ومعاوية قد جعل الأمر إليه من بعده:

فدعا معاوية بصحيفة بيضاء فوضع عليها طينة وختمها بخاتمه ثمّ قال: خذ هذه الصحيفة، فانطلق بها إلى الحسن وقل له فليكتب فيها ما شاء وأحبّ ويشهد أصحابه على ذلك، وهذا خاتمي بإقراري.

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢٨٦.

(٢) نفس المصدر السابق.

(٣) الفتوح ٤: ١٥٨.

٥٢٤

فأخذ عبد الله بن نوفل الصحيفة وأقبل إلى الحسن ومعه نفر من أصحاب معاوية فدخلوا على الحسنعليه‌السلام فسلّموا وقالوا: أبا محمّد، إنّ معاوية قد أجابك إلى جميع ما أحببت، فاكتب الذي تحبّ. فقالعليه‌السلام: أما ولاية الأمر من بعده، فما أنا بالراغب في ذلك، ولو أردت هذا الأمر لم أسلّمه إليه، وأمّا المال، فليس لمعاوية أن يشرط لي في المسلمين، ولكن أكتب غير هذا.

كتاب الصلح

فأمر الإمام الحسنعليه‌السلام كاتبه فكتب إلى ابن هند:

(بسم الله الرحمن الرحيم؛ هذا ما صالح عليه الحسن بن عليّ معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلّم إليه ولاية أمر المسلمين(١) ، على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الخلفاء الصالحين، وعلى أنّه ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين، وعلى أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم؛ وعلى معاوية بذلك عهد الله وميثاقه، وما أخذ الله على أحد من خلقه بالوفاء بما أعطى الله من نفسه؛ وعلى أنّه لا يبغي للحسن بن عليّ ولا لأخيه الحسين ولا لأحدٍ من أهل بيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سرّاً وعلانية، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق، شهد على ذلك عبد الله بن نوفل بن الحارث، وعمر بن أبي سلمة وفلان، وفلان)(٢) .

إذاً: فسبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخامس أصحاب الكساء وأحد تركة النبيّ الذين هم عِدْلُ القرآن؛ على سيرة جدّه وأبيه فلم تكن حروب جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميعها إلّا دفاعيّة حياطةً

____________________

(١) هكذا في أنساب الأشراف، وفي الفتوح (المؤمنين).

(٢) أنساب الأشراف ٣: ٢٨٥ - ٢٨٧، الفتوح ٤: ١٥٨ - ١٦٠.

٥٢٥

على الإسلام، فهو رحمةٌ للعالمين نصّ على ذلك القرآن الكريم وهكذا كانت السيرة العلويّة وقد استوفينا الحديث كيف كانت البيعة لأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام، فلا سقيفة ولا مؤامرات في الخفاء ولم تكن قسريّة ولا إكراه وإنّما كانت بيعةً عامّة وعلى رؤوس الملأ فنكثها خوارج البعير بعد حربهم عليها وإظهار الحماس لها وكان أحد رؤوس أهل البعير أوّل من مسح على يد أمير المؤمنينعليه‌السلام عنواناً للبيعة وتبعه صاحبه وتوالى الناس وبويع له في الأقاليم من غير سفك دم.

وعرفنا سيرته مع خوارج الناكثين فهو لم يسر إليهم حتّى أفسدوا فأراقوا الدماء وسرقوا بيت المال؛ ولم يبدأهم بقتال حتّى قتلوا وجرحوا؛ فلمّا انجلت الغبرة عفا وصفح وكان له أن يقتل مَن في الدار مع عائشة: مروان وابن الزبير وجمع من بني أميّة. وهكذا في حروبه الأخرى فهي دفاعيّة لا هجوميّة وحفظاً للكيان الإسلاميّ. وهكذا كان حال فرع الشجرة المباركة الإمام الحسنعليه‌السلام .

فتراهعليه‌السلام ينزل عن الولاية بشرط العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه، وهو يعلم أنّ ابن هند لا يُمكنه أن يعمل بهذا الشرط فقد فُطر على الضلال ورواهُ الشيطان ضرعه حتّى صار قرينه ومَن كان الشيطان قرينه فساءَ قريناً، فهو عدوّ الله ونبيّه وما في كتاب الله وسنّة نبيّه مخالف لأهواء ابن هند وضلاله؛ ولكن هذا ما ينبغي لمنبع العصمة أن يفعله فيبرئ ذمّته ويحرج ابن هند في الدنيا ويخزه عند الله تعالى بوزر ما صنع.

وقيّده بقيدٍ آخر هو أن لا يعهد إلى أحدٍ من بعده بعهدٍ بل الأمر شورى بين المسلمين كوفيّهم وشأميّهم وحجازهم....

وأخذ عليه عهداً أنّ الناس آمنون حيث كانوا، وأخذ عليه بذلك ميثاقاً مغلّظاً لمعرفته بسرّ وعلانية ابن هند الذي لا عهد له ولا وفاء إذ ألغى تلك العهود وسعى

٥٢٦

لقتل الإمام الزكي الحسنعليه‌السلام كما يأتي الحديث عن ذلك.

وانظر موقف ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مسألة الخلافة والحكم، فهوعليه‌السلام إذ نزل عن الحكم بعد أن أفرغ وسعه في مجاهدة العدوّ وطعن تلك الطعنة التي كادت تصل العظم! طعنه إيّاها أحد خارجة المارقين وكتب إليه ابن هند يمنّيه الحكم وأن يكون الأمر من بعده، رفضعليه‌السلام ذلك بإباءٍ، فهو ليس طالب حكم وقد حقّق ما بايع الناس عليه؛ في أن يسالموا من سالم ويحاربوا من حارب وقد شرط على ابن هند أن يُؤمّن الناس حيث كانوا، فعلى ابن هند الوفاء، وعلى الناس كفّ ابن هند عن غيّه وغدره، وللسبط الزكي بجدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُسوة حسنة، فقد آذاه قومه بما لم يوذ به نبيّ قبله فما كان منه إلّا أن يدعو لهم بالمغفرة لأنّهم قوم يجهلون! وكانت حجرته يجلس فيها قوم أعداءٌ له ويظهرون الإسلام، وقد أخبره القرآن بذلك فلم يُبادهم بسوء.

وكذلك أبوه أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وقد ذكرنا من سيرته مع صنوف الخوارج، وكذلك مع الذين داهموا بيته وفعلوا فعلتهم مستغلّين الوصيّة! وكان يقول: أُسالم ما سلم الدين. وسنأتي على حيثيّات قبول الإمامعليه‌السلام الصلح إن شاء الله.

موقف قيس بن سعد بن عُبادة

سار الإمام الحسنعليه‌السلام إلى الكوفة ثمّ تبعه ابن هند لأخذ البيعة منه وقد أرسل إليه: هلمّ أبا محمّد إلى البيعة. فأرسل إليه الإمامعليه‌السلام : أبايعك على أنّ الناس كلّهم آمنون.

فقال معاوية: الناس كلّهم آمنون إلّا قيس بن سعد، فإنّه لا أمان له عندي؛ فأرسل إليه الحسن: إنّي لست مبايعاً أو تؤمن الناس جميعاً، وإلاّ لم أبايعك. فأجاب معاوية إلى ذلك.

٥٢٧

إنّ الإمامعليه‌السلام لم يرض أن يبايع ابن هند عن ضعف وإنّما أراد حقن الدماء وله ولجماعته دينهم؛ ولابن هند ومن معه دينهم وسيحكم الله بينهم فيفلج الباطل.

ولم تكن بيعة قيس بن سعد لمعاوية سهلةً فقد اعتزل في أربعة آلاف قد بايعوه على الموت، وأرسل إليه معاوية أربعين ليلة يسأله أن يبايعه وهو يأبى ذلك حتّى أرسل إليه أخيراً يقول: على طاعة من تقاتلني وقد بايعني الذي أعطيته طاعتك! فأبى قيس أن يلين له حتّى أرسل إليه معاوية بسجلّ قد ختم في أسفله فقال: اكتب في هذا السجلّ ما شئت فهو لك. قال عمرو لمعاوية بسجلّ قد ختم في أسفله فقال: اكتب في هذا السجلّ ما شئت فهو لك. قال عمرو لمعاوية: لا تعطه هذا وقاتله! فقال معاوية: على رسلك فإنّا لا نخلص إلى قتل هؤلاء حتّى يقتلوا أعدادهم من أهل الشأم فما خير العيش بعد ذلك؟ وإنّي والله لا أقاتله أبداً حتّى لا أجد من قتاله بدّاً.

فلمّا بعث إليه معاوية بذلك السجلّ، اشترط فيه قيس له ولشيعته على الأمان على ما أصابوا من الدماء والأموال، ولم يسأل معاوية في سجلّه ذلك مالاً وأعطاه معاوية ما سأل فدخل قيس ومن معه في الطاعة(١) .

والتلميذ على سرّ أستاذه وإمامه، فهو وقد صنع معه ابن هند صنيعه مع الإمامعليه‌السلام وظنّ أنّه يغريه فيشغله بمطالب الدنيا من حكم ومال وغير ذلك إلّا أنّ الإمام شرط عليه العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه والأمان العام؛ فكذلك فعل ابن سعد إذ لم يطلب مالاً وإنّما اشترط الأمان له ولشيعة أهل البيتعليهم‌السلام .

ولم يبادر قيس بن سعد بن عبادة إلى بيعة ابن هند حتّى رجع إلى إمامه بشأن البيعة التي له في عنقه! وأبرّ بقسمه إذ كان قد حلف أن لا يلقى ابن هند إلّا وبينهما الرمح! ولم يبايعه حتّى أذلّه فأَبْرَكه ليمسح هو على يد قيس بن سعد، فما أعظمه من مشهد!

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ١٢٥، أنساب الأشراف ٣: ٢٩٢، الفتوح ٤: ١٦١.

٥٢٨

ابن أعثم: أرسل معاوية وذلك بعد بيعة الحسن، إلى قيس بن سعد فدعاه إلى البيعة، فأبى أن يبايع، فدعاه الحسن وأمره أن يبايع، فقال له قيس: يا ابن رسول الله! إنّ لك في عنقي بيعة، وإنّي والله لا أخلعها أبداً حتّى تكون أنت الذي تخلعها!

فقال له الحسن: فأنت في حلٍّ وسَعة من بيعتي، فبايع؛ فعندها بايع قيس لمعاوية. فقال له معاوية: يا قيس! إنّي قد كنت أكره أن تجتمع الناس إليّ وأنت حيّ! فقال قيس: وأنا والله يا معاوية قد كنت أكره أن يصير الأمر إليك وأنا حيّ(١) .

واحدة بواحدة والبادئ أظلم.

وفي كيفيّة بيعة قيس بن سعد لابن هند، أنّ الإمام لـمّا تمّ الصلح بينه وبين معاوية أرسل إلى قيس يدعوه إلى البيعة فأتى وكان رجلاً طويلاً يركب الفرس المسرف ورجلاه تخطّان في الأرض، فلمّا أرادوا أن يدخلوه إليه قال: إنّي قد حلفت أن لا ألقاه إلّا بيني وبينه الرمح أو السيف، فأمر معاوية برمح أو سيف فوضع بينه وبينه ليبرّ بيمينه.

ثمّ قال لقيس: بايع، فقال قيس بيده هكذا، وجعلها في حجره ولم يرفعها إلى معاوية ومعاوية على السرير، فبرك معاوية على ركبتيه ومدّ يده حتّى مسح على يد قيس وهي في حجره فما رفع قيس إليه يده(٢) .

موقف السبط الإمام الحسينعليه‌السلام من البيعة

وأرسل ابن هند إلى الإمام الحسين بن عليّعليه‌السلام فدعاه إلى البيعة، فأبى الحسين أن يبايع، فقال الحسن: يا معاوية! لا تكرهه فإنّه لن يبايع أو يُقتل، ولن يُقتل حتّى يُقتل

____________________

(١) الفتوح ٤: ١٦٢.

(٢) أنساب الأشراف ٣: ٢٩٣، مقاتل الطالبيّين: ٤٧.

٥٢٩

أهل بيته، ولن يُقتل أهل بيته حتّى تُقتل شيعته، ولن تقتل شيعته حتّى يبيد أهل الشأم؛ فسكت معاوية عن الحسين ولم يُكرهه(١) .

معاوية يرفض كتاب الله وسنّة نبيّه

إنّ صلح الإمام الحسنعليه‌السلام وتداعي الأمور بعد ذلك أظهر أنّ معاوية محض باطل وكهف نفاق ولولا حكمة الإمام لا هريقت أنهر دم شيعته وشيعة أبيهعليهما‌السلام وربّما قُتل الإمام على يد مارق وفعلاً طعنه أحد المارقين طعنة كادت تأتي عليه، ولو وقع ذلك ما يدرينا ما يرفع ابن هند من شعار علّه ينعق يا للثأر لعثمان وحكم الله وسنّة رسوله! ولكن حنكة الإمام أبطلت مقولاته.

قالوا: جاء هانئ بن خطاب الهمداني إلى معاوية فقال: أبايعك على كتاب الله وسنّة نبيّه، فقال: لا شرط لك، قال: وأنت أيضاً فلا بيعة لك. ثمّ قال معاوية: إذن فبايع فما خير شيء ليس فيه كتاب الله وسنّة نبيّه! فبايعه(٢) .

خطبة الإمام الحسنعليه‌السلام

قالوا: إنّ معاوية أمر الحسنعليه‌السلام أن يخطب لـمـّا سلّم الأمر إليه وظنّ أنّه سيحصر فقال في خطبته: إنّما الخليفة من سار بكتاب الله وسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس الخليفة من سار بالجور؛ ذلك ملِكٌ ملَكَ مُلكاً يمتّع به قليلاً ثمّ تنقطع لذّته وتبقى تبعته:( إِنْ أَدْرِي لَعَلّهُ فِتْنَةٌ لّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى‏ حِينٍ ) (٣) .(٤)

____________________

(١) الفتوح ٤: ١٦١ - ١٦٢.

(٢) أنساب الأشراف ٣: ٢٨٨ - ٢٨٩.

(٣) الأنبياء: ١١١.

(٤) مقاتل الطالبيّين: ٤٧.

٥٣٠

ظنّ ابن هند أنّ سلالة الرحمة وسبط النبوّة سيحصر ويقعده العَيّ! فطلب منه أن يخطب؛ فخطب الإمامعليه‌السلام وأوجز وطوّق عنق ابن أمّه (معاوية) بقيدٍ ثقيل ينوء بحمله! فقد عرّف بالخليفة الذي هو أهل للانقياد له فإذا هو الذي يعمل بكتاب الله وسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يجور في الحكم ولا هو ملِكاً ممّن حذّر منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أشار إلى مرحلة حكم ابن هند ومن تلاه وسمّاها (ملكيّة).

ابن هند يتردّى في خُطبه

ولـمّا كان الغد اجتمع الإمام الحسنعليه‌السلام ومعاوية فلمّا استقرّ المجلس قال معاوية: أبا محمّد! إنّك جُدْتَ بما - بشيء - لا تجود به أنفس الرجال، ولا عليك أنّ تتكلّم وتُعلم الناس بأنّك قد بايعتَ حتّى يعلموا ذلك، قال الحسن: فإنّي أفعل.

ثمّ تكلّم الإمام الحسنعليه‌السلام وقال: أيّها الناس، إنّ أكيس الكيس التقى، وإنّ أحمق الحمق الفجور، وإنّكم لو طلبتم رجلاً جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين، وقد علمتم أنّ الله تعالى هداكم بجدّي محمّد، وأنقذكم به من الضلالة، ورفعكم به من الجهالة، وأعزّكم به بعد الذلّة، وكثّركم به بعد القلّة؛ وإنّ معاوية نازعني على حقّ هو لي دونه، فنظرتُ صلاح الأمّة، وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت، وإنّ معاوية واضع الحرب بيني وبينه، وقد بايعته ورأيت أن ما حقن الدماء خير ممّا سفكها، وما أردت بذلك إلّا صلاحكم وبقاءكم، إن أدري لعلّه فتنةٌ لكم ومتاع إلى حين(١) .

ثمّ سكت، وقام عمرو بن العاص، فقال: يا أهل العراق! إنّا كنّا وأنتم جميعاً على

____________________

(١) الفتوح ٤: ١٦٣ - ١٦٤، أنساب الأشراف ٣: ٢٨٨.

٥٣١

كلمة هي السواء ففرّق بيننا وبينكم الأهواء، ثمّ تحاكمنا إلى الله فحكم أنّكم أنتم الظالمون لنا، فتداركوا ما سلف منكم بالسمع والطاعة يصلح لكم دينكم ودنياكم(١) .

ثمّ تكلّم معاوية فقال: أيّها الناس إنّه لم تتنازع - اختلفت - أمّة بعد نبيّها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقّها، ثمّ انتبه فقال: إلّا هذه الأمّة...، وقد كنت شرطت لكم شروطاً، والآن فقد جمع الله كلمتنا وأعزّ دعوتنا، فكلّ شرط شرطته لكم فهو مردود، وكلّ وعد وعدته أحداً منكم فهو تحت قدمي.

فغضب الناس من كلام معاوية وضجّوا وتكلّموا، ثمّ شتموا معاوية وهمّوا فيه في وقتهم ذلك وكادت الفتنة تقع، وخشي معاوية على نفسه فندم على ما تكلّم به أشدّ الندم(٢) .

وبسندٍ عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق، قال: سمعت معاوية بالنُخيلة يقول: ألا إنّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن عليّ تحت قدمي هاتين لا أفي به!

قال أبو إسحاق: وكان والله غدّاراً(٣) .

وعن الأعمش عن عمرو بن مُرّة عن سعيد بن سويد قال: صلّى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة ثمّ خطبنا فقال: إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك. وإنّما قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون!(٤)

يا ابن هند! صدق قول الله تعالى:( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلّهُ فِتْنَةٌ لّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى‏ حِينٍ ) .

____________________

(١) الفتوح ٤: ١٦٤، أنساب الأشراف ٣: ٢٨٨.

(٢) الفتوح ٤: ١٦٤.

(٣) مقاتل الطالبيّين: ٤٥.

(٤) نفس المصدر السابق.

٥٣٢

هلاّ نظرت لنفسِك ما أنت لاقيه، فقد صارت الإمرة إليك بعد أن ضاق عليك الخناق، فلمّا رأى سيّد شباب أهل الجنّة التي هي مأوى الأتقياء، وهيهات أن يكون لغدّار مثلك فيها موضع إنّما تُنصب للغادر في جهنّم راية، فكيف بغدّار مثلك.

وأين نباحك هذا وأنت تقود البقر البُكم - كما قال وزيرك ابن النابغة - خوارج القاسطين يوم صفّين، فلم يكن عندك إلّا رفع الأرجل وإبداء السوءة تعلّمت ذلك من ابن النابغة وتعلّمها بُسر بن أبي أرطاة، فجميعكم رضع ضرع الشيطان.

وعظيم هو قيس بن سعد بن عُبادة إذ أبركك لتمسح أنت على يده وبينكما الرمح! فما سمعنا ببيعة مثلها. وكنت أنت الذي راسلت إمام الحقّ تدعوه إلى الصّلح، فرأىعليه‌السلام أنّ حقن الدماء أفضل من سفكها، فحاشا لسيّد شباب أهل الجنّة هو وأخوه وأبوهما سيّد المسلمين والعرب والأوصياء وجدّه سيّد المرسلين وجدّته سيّدة وأكمل النساء هي ومريم وآسية وامرأة فرعون أن يردّ دعوة صلح ولم يكن للإمرة عنده موضع فرفضها إذ شرطتها له من بعدك وكان همّه أخذ الأمان للنّاس أينما كانوا وأن تعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه. وكلاهما يشدّدان على إقام الصلاة وأداء الحجّ والصوم والزكاة وينكران على من قصّر في ذلك؛ وابن هند لا يهمّه من أمر ذلك شيء، وأقصى همّته أن يتأمّر عليهم، أليس هو القائل: (ما اختلفت أمّة بعد نبيّها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقّها)؟!

قال شريك في خطبة ابن هند بالنخيلة: (هذا هو التهتّك)(١) .

ومن تهتّك ابن هند ما رواه حبيب بن أبي ثابت قال: لـمـّا بويع معاوية خطب فذكر عليًّا فنال منه ونال من الحسن، فقام الحسين ليردّ عليه فأخذ الحسن بيده فأجلسه ثمّ

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين: ٤٦.

٥٣٣

قام فقال: أيّها الذاكر عليًّا! أنا الحسن وأبي عليّ، وأنت معاوية وأبوك صخر(١) وأمّي فاطمة وأمّك هند وجدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجدّك حرب وجدّتي خديجة وجدّتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكراً، وألأمنا حسباً وشرّنا قدماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً. فقال طوائف من أهل المسجد: آمين. قال فضل - بن دُكَين -: فقال يحيى بن مَعين: ونحن نقول: آمين. قال أبو عبيد - القاسم بن سلام -: ونحن أيضاً نقول: آمين. قال أبو الفرج - الأصفهاني -: وأنا أقول: آمين(٢) .

ونحن نقول آمين.

أميرالمؤمنين يُنبئ بضلال ابن هند

دخل معاوية الكوفة بعد فراغه من خطبته بالنُخيلة، وبين يديه خالد بن عُرْفطة ومعه رجل يُقال له حبيب بن عمّار(٣) يحمل رايته حتّى دخل الكوفة فصار إلى المسجد فدخل من باب الفيل فاجتمع الناس إليه.

بسند عن عطاء بن السائب عن أبيه قال: بينما عليّ -عليه‌السلام - على المنبر إذ دخل رجل فقال: يا أمير المؤمنين مات خالد بن عُرْفطة، فقال: لا والله ما مات! إذ دخل رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين مات خالد بن عُرْفطة، فقال: لا والله ما مات، إذ دخل رجل آخر فقال: يا أميرالمؤمنين، مات خالد بن عُرْفطة، فقال: لا والله ما مات ولا يموت حتّى يدخل من باب هذا المسجد (يعني باب الفيل) براية ضلالة يحملها له حبيب بن عمّار - حمار - قال: فوثب رجل فقال: يا أمير المؤمنين أنا حبيب بن عمّار وأنا لك شيعة؛

____________________

(١) تمشيّاً مع العرف العام وإلاّ فالإمامعليه‌السلام يعلم معاوية ابن مَن؟!

(٢) مقاتل الطالبيّين: ٤٦.

(٣) في الإصابة ١: ٤١٠ (حبيب بن حمار).

٥٣٤

قال: فإنّه كما أقول! فقدم خالد بن عُرْفطة على مقدّمة معاوية يحمل رايته حبيب بن عمّار(١) .

وقد ذكره ابن حجر على مثل ما في المقاتل إلّا أنّه قال: (إنّ ابن زياد بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن عليّ، فجعل خالداً على مقدّمته وحبيب بن حمار صاحب رايته فدخل بها المسجد من باب المقبل)(٢) .

إنّ إنباء أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام بالمغيّبات كثير تحقّقت كلّها على نحو ما وصف، وهي من العلوم التي اختصّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليًّاعليه‌السلام بها، ومن ذلك ما كان منه مع قاتله ابن ملجم المرادي - لعنه الله - إذ كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول على المنبر في أكثر من مرّة: (متى يبعث أشقاها حتّى يخضّب هذه من هذا) ويشير إلى لحيته ورأسه. حتّى خطب فقال في آخر خطبته: (متى يبعث أشقى مراد! حتّى يخضّب هذه من هذا) فخاف ابن ملجم المرادي وقام إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال له: يا أميرالمؤمنين! هذه يدي فاقطعها! فقال له: ويحك كيف أقتلك ولم تقتلني بعد. حتّى كان اليوم الموعود فضربه ابن ملجم على رأسه وهو ساجد في محراب المسجد بالكوفة.

موقف الشيعة من البيعة وتفسير الإمام

ذكرنا أنّ الشيعة لـمّا سمعوا كلام ابن هند وغدره بعهوده ونكثه للمواثيق؛ غضبوا من ذلك وضجّوا وتكلّموا وشتموا ابن هند وهمّوا به، وكادت الفتنة تقع، وخشي معاوية على نفسه فندم على ما تكلّم أشدّ الندم.

البلاذري: حدّثني عبّاس بن هشام عن أبيه، عن أبيه مخنف، عن أبي الكنود عبد

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين: ٤٦.

(٢) الإصابة ١: ٤١٠.

٥٣٥

الرحمن بن عبيد قال: لـمّا بايع الحسن بن عليّ معاوية، أقبلت الشيعة تتلاقى بإظهار الأسف والحسرة على ترك القتال، فخرجوا بعد سنتين من يوم بايع معاوية فقال له سليمان بن صرد الخزاعي: ما ينقضي تعجّبنا من بيعتك معاوية ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة كلّهم يأخذ العطاء، وهم على أبواب منازلهم - كناية عن الاتّعاد للقتال - ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم شيعتك من أهل البصرة وأهل الحجاز ثمّ لم تأخذ لنفسك ثقة في العقد ولا حظّاً في العطيّة، ولو أنّك إذ فعلت ما فعلت أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب، وكتبت عليه كتاباً بأنّ الأمر لك من بعده كان الأمر علينا أيسر، ولكنّه أعطاك أشياء بينك وبينه ثمّ لم يفِ به، ثمّ لم يلبث أن قال على رؤوس الناس: إنّي كنت شرطت شروطاً ووعدتُ عِداةً إرادةً لإطفاء نار الحرب، فأمّا إذ جمع الله لنا الكلمة والإلفة فإنّ ذلك تحت قدمي؛ فو الله ما اغترّني بذلك إلّا ما كان بينك وبينه وقد نُقض، فإذا شئتَ فأعد الحرب جَذعةً، وأنذر لي في تقدّمك إلى الكوفة، فأخرج عنها عامله وأظهر خلعه وتنبذ إليه( عَلَى‏ سَوَاءٍ إِنّ اللّهَ لاَيُحِبّ الْخَائِنِينَ ) (١) .

وتكلّم الباقون بمثل كلام سليمان، فقال الحسنعليه‌السلام: (أنتم شيعتنا وأهل مودّتنا، فلو كنت بالحزم في أمر الدنيا أعمل، ولسلطانها أربض وأنصب ما كان معاوية بأبأس منّي بأساً، ولا أشدّ شكيمة ولا أمضى عزيمة، ولكنّي أرى غير ما رأيتم، وما أردتُ فيما فعلت إلّا حقْنَ الدم، فارضوا بقضاء الله، وسلّموا لأمره، والزموا بيوتكم وأمسكوا حتّى يستريح بِرّ أو يستراح من فاجر)(٢) .

____________________

(١) الأنفال: ٥٨.

(٢) أنساب الأشراف ٣: ٢٩٠ - ٢٩١.

٥٣٦

فهذه شهادة من الإمام المعصوم الحسن الزكيعليه‌السلام في أهل الكوفة؛ فهم شيعة أهل البيتعليهم‌السلام ، وأهل مودّتهم؛ ثمّ بيّنعليه‌السلام أنّه ليس مثل ابن هند الذي كلّ همّه ونصيبه الدنيا ولا يقيم للدماء وزناً إلّا أنّه لا عزيمة له مثل عزيمة سيّد شباب أهل الجنّة، ولا هو أشدّ منه شكيمة؛ إلّا أنّ الإمامعليه‌السلام يعلم أنّ الأمر سينتهي إلى معاوية! بإخبار من جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبيهعليه‌السلام ، بعد أن يفنى أكثر شيعته ومثلهم من أهل الشأم، وقد ذكرنا خبر جرح الإمامعليه‌السلام على يد أحد الخوارج المندسّين في جنده.

كلام المسيّب بن نَجَبة

وكلّم المسيّب بن نَـجَبة الإمام الحسنعليه‌السلام يوم البيعة وكلامه نظير كلام سُليمان بن صُرَد، ودعاه إلى نقض البيعة، ممّا أثار الناس، ونظر الإمام إلى ابن هند وإلى ما قد نزل به من الخوف والجزع، فجعل يسكن الناس حتّى سكنوا، ثمّ قال للمسيّب: يا مسيّب، إنّ الغدر لا يليق بنا ولا خير فيه ولو أنّي أردت بما فعلت الدنيا لم يكن معاوية بأصبر منّي على اللقاء، ولا أثبت عند الوغاء، ولا أقوى على المحاربة إذا استقرّت الهيجاء، ولكنّي أردت بذلك صلاحكم وكفّ بعضكم عن بعض...(١) .

فقال المسيّب: أما والله يا ابن رسول الله، ما يعظم هذا الأمر الذي صار إلى معاوية، ولكنّا نخاف عليكم أن تضامّوا بعد هذا اليوم، وأمّا نحن فإنّهم يحتاجون إلينا وسيطلبون المودّة منّا كلّما قدروا عليه.

فقال له الحسنعليه‌السلام : لا عليك يا مسيّب، فإنّه من أحبّ قوماً كان معهم(٢) .

____________________

(١) الفتوح ٤: ١٦٥.

(٢) نفس المصدر السابق.

٥٣٧

فالتفتَ الحسين إلى أخيه الحسن فقال: والله لو اجتمع الخلق طرّاً على أن لا يكون الذي كان إذاً ما استطاعوا، ولقد كنتُ كارهاً لهذا الأمر ولكنّي لم أُحبّ أن أُغضبك، إذ كنت أخي وشقيقي(١) .

وكلّمه حجر بن عَدِيّ الكندي، فعاتبه على قبوله الصلح فقال له الإمام الحسنعليه‌السلام : ليس كلّ إنسان يُحبّ ما تُحبّ ولا رأيه كرأيك، وإنّي لم أفعل ما فعلت إلّا إبقاءً عليكم، والله تعالى كلّ يوم هو في شأن(٢) .

إنّ كلّ من ذكرناه ممّن عتب على الإمامعليه‌السلام ، لم تغب عنهم الشهادة فقد قتلهم ابن هند فيما بعد وسنأتي على سيرتهم وشهادتهم رضوان الله تعالى عليهم ولعن الله قاتليهم.

كلام سفيان بن أبي ليلى

بسند عن الشعبي عن سفيان بن أبي ليلى قال: أتيت الحسن بن عليّ حين بايع معاوية فوجدته بفناء داره وعنده رهط، فقلت: السلام عليك يا مُذلّ المؤمنين! فقال: عليك السلام يا سفيان انزل فنزلت فعقلت راحلتي ثمّ أتيته فجلست إليه فقال: كيف قلت يا سفيان؟ فقلت: السلام عليك يا مذلّ رقاب المؤمنين. فقال: ما جرَّ هذا منك إلينا؟ فقلت: أنت والله، بأبي أنت وأمّي أذللت رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة وسلّمت الأمر إلى اللعين بن اللعين بن آكلة الأكباد ومعك مائة ألف كلّهم يموت دونك. وقد جمع الله لك أمر الناس.

فقال: (يا سفيان، إنّا أهلُ بيت إذا علمنا الحقّ تمسّكنا به، وإنّي سمعت عليًّا يقول:

____________________

(١) الفتوح ٤: ١٦٥.

(٢) نفس المصدر السابق: ١٦٦.

٥٣٨

سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: لا تذهب الليالي والأيّام حتّى يجتمع أمر هذه الأمّة على رجل واسع السُرم ضخم البلعوم يأكل ولا يشبع لا ينظر الله إليه ولا يموت حتّى لا يكون له في السماء عاذر ولا في الأرض ناصر(١) وإنّه لَمعاوية، وإنّي عرفت أنّ الله بالغ أمره).

ثمّ أذّن المؤذّن فخرجنا نمشي إلى المسجد فقال لي: ما جاءنا بك يا سفيان؟ قلت: حبّكم والذي بعث محمّداً بالهدى ودين الحقّ. قال: (فأبشر يا سفيان فإنّي سمعت عليًّا يقول: سمعتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: يرد على الحوض أهلُ بيتي ومَن أحبّهم من أمّتي كهاتين؛ يعني السبّابتين. ولو شئت لقلت هاتين يعني السبّابة والوسطى، إحداهما تفضل على الأخرى. ابشر يا سفيان فإنّ الدنيا تسع البِرّ والفاجر حتّى يبعث الله إمام الحقّ من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(٢) .

وفي الفتوح، والأخبار الطوال:

بينا الحسن يكلّم حُجْر بن عَديّ إذا برجل من أصحابه يقال له سفيان بن أبي ليلى فقال له: السلام عليك يا مذلّ المؤمنين، هلّا قاتلت حتّى تموت ونموت معك! فقال له الحسن: يا هذا! إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخرج من الدنيا حتّى رفع له ملك بني أميّة، فنظر إليهم يصعدون منبره واحداً بعد واحد، فشقّ ذلك عليه، فأنزل الله تعالى في ذلك قرآناً فقال:( إِنّا انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) (٣) من سلطان بني أميّة(٤) .

____________________

(١) في مناقب أميرالمؤمنين، للكوفي ١: ٧٧١ / ٦٢٥ (حامد).

(٢) مقاتل الطالبيّين: ٤٤.

(٣) القدر: ١ - ٣.

(٤) الفتوح ٤: ١٦٦ - ١٦٧، الأخبار الطوال: ٢٨٠.

٥٣٩

وبأسانيد عدّة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في الحسنعليه‌السلام : (إنّ ابني هذا سيّد، وإنّ الله سيُصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين)(١) .

وبسند عن جبير بن نفير عن أبيه قال: قلت للحسن إنّ الناس يقولون إنّك تريد الخلافة. فقال: كانت جماجم العرب بيدي يسالمون مَن سالمت ويحاربون من حاربت فتركتها ابتغاء وجه الله ثمّ أريدها بأهل الحجار؟! وفي قول: بأتياس الحجاز(٢) .

خلاصة البحث

إنّ ابن هند تربّى في بيت مشحون بالفضائح فهو يسمع أبا سفيان يفتخر على هند بابنه يزيد بن أبي سفيان، وهند تفخر بابنها معاوية على أبي سفيان؛ وكلّما شبّ معاوية شابت عليه الخزايات! فقد علم أنّه يُنسب إلى أربع، وإلى الصُّبّاح مغنٍّ أسود، وإلى وَحْشي قاتل حمزة بن عبد المطّلبعليه‌السلام وأنّ هنداً تزوّجت ثلاثة رجال قبل أبي سفيان - ذكرنا تفصيل ذلك - وأنّ الأخير منهم لا يمّت بأميّة القبطيّ! بصلة، لـما قيل في ضياع نسب معاوية، وشهد هو بذلك؛ ولذلك كان بهند ألصق، يتنهّد بها ويفخر فيقول: وأنا ابن هند وغلب على مخاطبيه رجالاً ونساءً بنسبته إلى هند التي ينتهي نسبها إلى عبد شمس، وكان خاملَ الذِكر كلًّا على هاشم إذ كان يُنفق عليه.

وعبد شمس أطلق عبده الروميّ (أميّة) ثمّ استلحقه! فسنّ بذلك سُنّةً سيّئةً إذ أعتق أميّة عبده (ذَكْوان) واستلحقه وسمّاه: أبا عمرو. ومضى بعيداً! فنزل له عن زوجته وزوّجه منها! ومعاوية يعلم كلّ ذلك مع علمه أنّ جدّته (حمامة) من ذوات

____________________

(١) البخاري ٥: ٣٢، النسائي ٣: ١٠٧، الترمذي رقم ٢٣٧٣ وغيرها كثير.

(٢) أنساب الأشراف ٣: ٢٩١ - ٢٩٢، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٧٠، حلية الأولياء ٢: ٣٦ - ٣٧.

٥٤٠