شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 182492
تحميل: 4444

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182492 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

وعلّم بُسْر بن أبي أرطاة كيف يَدرؤوا عن أنفسهم الموت المحتّم المعلَّق بسيفِ ذي الفقار، إذا أحرج كلّ واحد منهم للخروج يوم صفّين إلى فتى الإسلام عليُّ بن أبي طالبعليهما‌السلام ، فلم يكن لأحدهم مَنجىً من الموت المعلَّق بذي الفقار إلّا ما فعله ابن النابغة من كشف عُورته السَوداء ورفْع رجليْه فكان أمير المؤمنين وهو القرآن الناطق يشيح وجهه الشريف ويُكرم سيفه الميمون، فهو ليس طالب نصر عسكريّ، إنّما يريد إحقاق الحقّ وأن يرى الإسلام شرعةً ونظاماً.

ومن قصيدة تُسمّى الجلجليّة بعثها إلى ابن هند جواباً له على كتابه إليه يطلب خراج مصر ويُعاتبه على امتناعه عنه:

ولَـمّا عصيتُ إمامَ الهُدى

وفي جَيْشه كلُّ مُستفحلِ

أَبِالْبَقَرِ البُكم أهل الشآم

لأهلِ التُّقى والحِجَى أبتلي؟!

فقلت: نعم، قم فإنّي أرى

قتالَ المفضَّل بالأفضلِ

فَبِي حاربوا سيّدَ الأوصياء

بقَوْلي: دمٌ طُلَّ من نَعْثَلِ!(١)

وكِدتُ لهم أن أقاموا الرِّماح

عليها المصاحفُ في القَسْطَلِ

وعلّمتُهم كشْفَ سَوْءاتهمْ

لِرَدِّ الغَضَنْفَرَةِ الـمُقْبِلِ

____________________

وما أن وصلت أرض الشأم حتّى تناولت ابن ميسون بما يستحقّ ثمّ حين دخلت مجلس الجبابرة صبّت شؤبوب سخطها على ابن النابغة وقرأت بعض سجلّ خزايات أُمّه التي غليها ينتمي، فإذا هي أَمَةٌ سوداء مجنونة ولذا يسهل تداولها، تبول واقفة كالحمار ورذّال الرجال وسفلتهم، غاية في الجنس! تفرغ قبل المواقع لها! وأيّ شيء هي؟! يركبها في يوم واحد أربعون حماراً ولو وُجد عدّتهم لـما تعبت! فلا دهشة أن يرى ابن النابغة إمرأته تحت رجل وعلى فراشه فله في أُمِّهِ مَثَلٌ يُحتذى.

(١) طُلّ الدم: هُدِر ولم يُثأر له، ونعثل اسمٌ لعثمان سمّته به عائشة.

٥٨١

ورقيتك المنبرَ الـمُشْمَخِرَّ

بلا حدِّ سيفٍ ولا منصلِ

ولو لم تكن أنتَ من أهله

وربِّ المقام ولم تكملِ!

وعن إقراره بالمنزلة العليّة لعليّعليه‌السلام واعترافه بيوم الغدير - الذي أنكره الخارجيّ ابن تَيْمِيَه الحرّاني الدمشقي وشايعه على ذلك خارجة نَجْد الوهّابيّون - وأنّهما - ابن هند وابن النابغة - حطبُ جهنّم:

نصرناك من جهلنا يا ابنَ هند

على النبأ الأعظم الأفضلِ!(١)

وحيث رفعناك فوق الرؤوس

نزلنا إلى أسفل الأسفلِ!

وكم قد سمِعنا من المصطفى

وصايا مخصّصةً في عليّ؟!

وفي يوم (خُمٍّ) رقى منبراً

يُبلِّغ، والرِّكبُ لم يَرحلِ(٢)

____________________

(١) أخرج الحاكم الحسكاني الحنفيّ (من أعلام القرن الرابع الهجريّ)، من طُرُق عدّة بشأن قوله تعالى:( عَنِ النّبَإِ الْعَظِيمِ ) [ النبأ: ٧٨ ] أنّه عليّعليه‌السلام . (شواهد التنزيل ٢: ٣١٧ - ٣١٨ / ١٠٧٢ - ١٠٧٥).

(٢) حديث يوم الغدير، وأخذ الولاية لأميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، أشهر من أن يُتحدّث عنه وأغنى من أن يُتكلَّم فيه. وأحصينا ما بلغنا من رواته من الصحابة (٨٦) ومن مشاهير التابعين (٦٩). ولا يسعنا هنا إلّا ذكر بعض مصادره:

وقعة صفّين: ١٨٦، المعيار والموازنة: ٧١ و ٢٩١ و ٢٢٨، مسند أحمد ١: ١١٨ و ٤: ٣٧٠ و ٥: ٣٦٦، المصنّف، لابن أبي شيبة ٧: ٤٩٥ / ٩، التاريخ الكبير، للبخاري ٤: ١٩٣ / ٢٤٥٨، صحيح مسلم ٢: ٣٢٥ و ١٥: ١٧٩، المعارف، لابن قتيبة: ٢٩١، الإمامة والسياسة له: ٩٣، سنن ابن ماجة ١: ٢٨ وغيرها، سنن الترمذي ٢: ٢٩٨ و ٢٩٧٥، أنساب الأشراف ٢: ٣٥٥ و ٣٥٦ - ٣٥٧، تفسير الحبري: ٢٦٢، تفسير العيّاشي ١: ٣٣١ - ٣٣٤، خصائص أميرالمؤمنين، للنسائي: ٧ وغيرها، تفسير الطبري ٣: ٤٢٨، كتاب الولاية، لابن عقدة: ١٧٣، كتاب الأغاني ٧: ٢٦٣ وغيرها، مشكل الآثار ٢: ٣٠٧، العقد الفريد ٢: ٣٧٥ و ٢: ٤٢، مروج الذهب ٢: ١١، المعجم الصغير ١: ٦٤ - ٦٥، المعجم الكبير ٣: ٣٠٥٢ كلاهما للطبراني، تفسير الثعلبي (الكشف والبيان) ٤: ٩٢، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٠٩ ومواضع كثيرة منه، محاضرات الأدباء ٤: ٤٦٣، تاريخ بغداد ١٢: ٣٤٤ و ٥: ٤٧٤ و ٧: ٣٧٧ و ٨: ٢٩٠ و ١٤: ٢٣٦، الاستيعاب ٣: ٣٦،

٥٨٢

وفي كفّهِ كفُّه مُعلناً

يُنادي بأمرِ العزيز العلي:

ألستُ منكم في النفوس

بأولى؟ فقالوا: بلى فافعلِ

فأَنْحَلهُ إمرةَ المؤمنين

من الله مُستخلَف الـمَنْحَلِ

وقال: فَمَن كنت مولىً له

فهذا له اليوم نِعْمَ الولي

فوالِ مُواليه يا ذا الجلا

لِ وعادِ مُعادي أخِ الـمُرسَلِ

ولا تَنْقُضوا العهدَ مِن عِتْرتي

فقاطِعُهمْ بي لم يُوصَلِ

____________________

حلية الأولياء ٤: ٢٣ و ٥: ٣٦٤ و ٩: ٦٤، أسباب النزول، للواحدي: ١٣٥، تفسير فرات: ٣٨، أمالي الطوسي: ٤٧، مناقب الإمام علي، لابن المغازلي الشافعيّ: ١٦ - ٢٧، شواهد التنزيل ١: ١٩٠، الأمالي الخميسيّة، للمرشد بالله ١: ٥ وغيرها، مصابيح السنّة ٢: ١٩٩، المناقب، للموفّق الخوارزميّ: ١٥٤ - ١٥٧، صفة الصفوة، لأبي الفرج ابن الجوزي ١: ١٢١، التفسير الكبير، للفخر الرازي ٣: ٦٣٦، معجم الأدباء، لياقوت الحموي ١٨: ٨٤، تذكرة الخواصّ: ٣٥ - ٤٠، شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ١: ٢٨٩ و ٢: ٢٧٣، سَعد السُعود: ٦٩ - ٧٣، كفاية الطالب: ٥٦ - ٦٢، الرياض النضرة ٢: ١٦١، ذخائر العقبى له: ٦٧، العُمدة في عيون صحاح الأخبار: ٥٣، مختصر تاريخ دمشق ١٧: ٣٥٢ - ٣٥٩، فرائد السمطين ١: ١٧١، تهذيب الكمال ٢٠: ٤٨٤، التلخيص، للذَهبي هامش المستدرك على الصحيحين ٣: ١٠٩ وموارد أخرى، ميزان الاعتدال ١: ١١٥ و ٢: ٣٠٣ و ٣: ٢٢٤، البداية والنهاية ٢: ٢٤٦ و ٣: ٣٤٠ و ٥: ٢٠٩ و ٧: ٣٤٧، تفسير النيسابوري ٦: ١٩٤، فضائل عليّ بن أبي طالب، لابن مَردويه: ٣٤٠ حديث ٥٧٣، مجمع الزوائد ٩: ١٠٣، أسنى المطالب: ٤٨ - ٥١، المناقب، لابن شهر آشوب ٣: ٢١، تهذيب التهذيب ١: ٣٩١ و ٧: ٣٣٧، الإصابة ٢: ٥٠٩، الصواعق المحرقة: ٢٥، الفصول المهمّة: ٢٥، مقتل الحسين، للخوارزمي: ٤٧، عمدة القاري، للعيني ٨: ٥٨٤، تاريخ الخلفاء، للسيوطي: ١١٤ وغيرها، الدرّ المنثور له ٢: ٢٥٩ وغيرها، مطالب السؤول: ١٦ وغيرها، كنز العمّال ١١: ٦٠٨ - ٦١٠، الخطط، للمقريزي ٢: ٢٢٢، كنوز الحقائق: ١٤٧، شرح المواهب اللّدنيّة ٧: ١٣، ينابيع المودّة: ٣٠ - ٣٤، نور الأبصار: ١٥٩، المناقب الثلاثة: ١٩ - ٢١، تاريخ الإسلام، للذهبي ٢: ١٩٥ ومواضع أخرى.

وأنت ترى أنّ المصادر التي ذكرناها لعلماء المصنّفات أساتذة أصحاب الصحيحين أو الصحاح، وأئمّة المذاهب الأربع وعلمائهم.

٥٨٣

فَبَخْبَخَ شيخُك لـمّا رأى

عُرَى عَقدِ حَيْدرَ لم تُحْلَلِ

فقال: وليُّكُمُ فاحفظوه

فَمَدْخَلُه فيكُم مَدْخَلي

وإنّا وما كان من فعلنا

لَفي النار في الدَّرك الأسفلِ

وما دمُ عثمان منجٍ لنا

من الله في الموقف الـمُخْجَلِ

وإنّ عليًّا غداً خصمُنا

ويعتزُّ باللهِ والمرسَلِ

يُحاسبُنا عن أمورٍ جَرَتْ

ونحن عن الحقّ في مَعْزِلِ

فما عُذْرُنا يومَ كَشْفِ الغطا؟!

لك الويلُ منه غداً، ثمّ لي!(١)

إذا تقاطعت المصالح الشخصيّة؛ وهذا ما حصل بعد أن حطّت حرب صفّين أوزارها، وتنفّس الأبناء الصعداء بعد ما كادوا يهلكوا وخسرت الشأم أكثر من خمس وأربعين أكثرهم قُتل وهو يظنُّ أنّ سيّد المتّقين عليًّاعليه‌السلام لا يُصلّي! ماطَلَ ابنُ هند وزيرَه ابن النابغة بشأن مصر، وكان وعده بها طُعمةً إن كان معه في حربه الظالمة لأمير المؤمنين عليٍّعليه‌السلام ، وكان له شرِّ نصير! يعرف الحقّ فيقاتله، وكان ابن هند مفتقراً إلى رأي ابن النابغة الذي تعلّم من أمّه ما يدفع عنه فعلّمه ابنَ هند فسلم بعد أن كاد يهلك! وحفظ له كرسيّه بخُدعته المعروفة ورجع ابن هند إلى الشأم، فلمّا تنصّل من الوفاء بعث إليه بهذه القصيدة التي بدأها بإقرارِه بعصيانه لإمامِ الهدى الذي عسكره جيش المهتدين الأبطال، وإعترافه أنّ عليًّا سيّد الأوصياء وهو النبأ الأعظم الذي ذكره القرآن الكريم الذي خصّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوصايا وفضائل - وابن تَيميَه في كتابه منهاج السنّة بأربع مجلّدات جعله وقفاً لإنكار فضائل عليّ وأهل البيتعليهم‌السلام ؛ فإذا اضطرّ إلى الإقرار بواحدة منها صرف اللفظ إلى غير المعنى الذي وُضع له مع تقطيعه للنصّ وأكثر من

____________________

(١) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ٢: ٥٢٢.

٥٨٤

ذلك وهو رافضيّ خارجيّ ناصبيّ! يأبى أن تكون تلك الفضيلة خاصّةً بهعليه‌السلام ! - وقد أقرّ ببيعة الغدير وتنصيب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ أميراً للمؤمنين وأنّه وليُّ مَن النبيّ وليُّه ودُعاؤه بنصرة الله له ومعاداته لـِمَن عاداه؛ مع إقراره بحديث الثقلين وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بريء مِمَّن عادى عترته... وأنّ ما كان منهم سيأخذ بهم إلى الدَّركِ الأسفل من النار إذ خصيمُهم عليٌّ ونصيرُه عليهم الله ورسوله فمَن نصيرهم على الله ورسوله ووليّه يوم كشفِ الغطا، البَقَر البُكْم أهل الشآم؟! على وصف ابن النابغة؛ وكفى به شاهداً فمثل هؤلاء وهم يعرفون أنّ أميرهم يُنسب إلى أربع! وإنّ التي وضعت به متزوّجه غير هؤلاء ثلاثة؛ وقد شفاها الحَبَشي واشتفى منها! ووزيره زادَ عليه فنُسب إلى ستّة؛ ولها الحظّ الأوفر إذ ضاجعت أربعين رذيلاً فأتعبتهم في يوم واحد ولا ندري في ليلٍ كان هذا أم في نهار! ولقد عرفوا من ابن مَيْسون ورضوه أميراً! ومن ابن الزرقاء وقد عرفتَ وعرفوا كذب نسبته إلى الحَكَم ورضوه أميراً لهم وخليفةً لابن هند، وابن ميسون ليبدأ عهد القِرَدة الذين أزعجت رؤية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاهم ينزون على مِنبره نزو القردة. وعرفوا مهنة أبي قائدهم بُسْر بن أبي أرطاة وهي خَصْي البُهَم وبيع ماء فحولها! ومن جُبْنِه أن يرمي نفسه أمام صَوْلةِ أبي الحسنعليه‌السلام ، ويكشف سوءته فله في ابن هند وابن النابغة مثال يحتذيه، وقد ارتضاه أهل الشأم خليفة ابن ميسون لـمـّا جاءهم خبرُ هلاكه بعد تخريبهم الكعبة وحَرْقِها حتّى قضى عليه ابن الزرقاء مروان - يأتي تفصيله -.

وهل سمعتَ خبر حبّابة، وسلاّمة؟! فاجرتان مغنّيتان أولع بهما يزيد، ولهما صَوْلة في قصر الإمارة بدمشق، ولا عيبَ في مجتمع يرتضي حاكماً مثل ابن هند الذي تتلوّى على رأسه سياطُ جارية، ويموت من زنيةٍ بامرأة فارسيّة - ذكرنا ذلك -.

في مثل هذا المجتمع، كفى بابن هند أن يزعم أنّ ابن أبيه وسُميّة أخوه، فلا يحتاج

٥٨٥

إلى شهود، ولو قال لهم: أنّه شقيقه وإنّما أرضعته سميّة، لقبلوا منه! أَوَلَم يقبلوا أنّ أميّة الروميّ هو ابن عبد شمس ويرتضوا عتق أميّة عبدَه ذَكوان ويتّخذه ولداً وينزل له عن زوجته فتزوّجها في حياته؟!

إنّما أراد ابن هند بذلك أموراً: أن يخرج عن المألوف في الاستلحاق بأن يستلحق الرذيل عبده ويتّخذه ولداً، أو يسكت على أفعال امرأته لأنّه مثلهافي الدناءة! فيقبل ابنها وينسبه إلى نفسه، أو يغلب المجتمع عليه فينسبه إليه؛ وماذا يصير زياد في ميزان صخر بعد أن صار معاوية فيه؟!

فأراد ابن هند للمجتمعات غير الشأميّة مسوّغاً لاستلحاق ابن سميّة مع الفارق: فأولئك الحقوا أبناء الآخرين لأصلابهم؛ وابن هند ألحق ابن سميّة لصُلب ربيبه أبي سفيان صَخْر بن حرب، فما زاده نُعمَةَ عينٍ ولا كرامة إذ نقله من دناءة إلى أخرى وشهّر به ولولا ذلك لـما خاض الناس في سيرتيهما أكثر!

الأمر الآخر من إقامة الشهود: ليقطع الطريق على ابن سميّة في النكوص عن قبول الدعوة المخالفة لحكم القرآن والسنّة والوجدان!

ملاحظة: ذكر ابن عساكر أنّ أبا سفيان قد طلّق هند(١) . ولم يذكر إيضاحاً لظروف وأسباب ذلك الطلاق ومتى كان؟!

ويبدو أنّ الاستلحاق كان بعد عرض ابن هند على ابن سميّة ذلك، فتأبّى عليه، وفي لحظة داخله فيها الشيطان؛ خارت عزائمه فقبل الدعوة!

ومن خلال الرواية، يبدو أنّ الـمُغيرة قد وطّأ الأمرَ لابن هند فوضع رجل ابن

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٢٧: ١٩١.

٥٨٦

سميّة في غَرْز غيٍّ(١) ، إذ على أثر ذلك تنمّر ففعل ما عجز عنه سلَفُه الـمُغيرة بن شُعبة، فكان من نصيحة المغيرة له! أن ينقل أصله إلى أصل ابن هند، ولا أظنّ أنّ المغيرة سيجد حرَجاً لو سأله ابن سميّة: إلى أيّهم أنقل أصلي من الرجال إلى وحشيّ، أم الرجال الستّة، أم إلى الأزواج الثلاثة، أم إلى أبي سفيان؟! فجوابه حاضر وقد سبقه قبل السؤال بأن ينقل أصله إلى أصله وأن يُعيرَ الناس أُذناً صَمّاء! فهو ربيب عُبيد ومعاوية ربيب أبي سفيان!

مسألة أُخرى مهمّة في رواية (المسعودي): في رواية غيره أنّ ابن سميّة قال في عُبيد (أبٍ مبرور ووالٍ مشكور)، وفي رواية المسعودي: (رَبيبٌ مبرورٌ)؛ وفرق بيّن بين اللفظين؛ والثاني أقرب إلى الواقع!

فقوله (رَبيب) غيرُ والد، وأب؛ اللذان تعنيان انتساب الولد إلى رجلٍ أصالةً وأنّه من صلبه. وأمّا: ربيب، شخص يعني ويرعى آخر لكونه زوج أمّه أو قريباً له أو لسبب آخر؛ وعلى هذا فقد نفى زيادُ أبوّة عُبيد له، وفي نفس الوقت نفى أُبوّة أبي سفيان إذ أقرَّ بفضل ربيبه ووليّ نعمته عُبيد من غير أن يذكر أبا سفيان، مع تشكيكه بشهادة الشهود. فهو بعُبيد أولى.

وإذا رضينا تنزّلاً بمواقعة أبي سفيان لسُميّة وهي ذات زوج ولها راية يأخذ الحارث منها ضريبة كدحها في البغاء؛ فأمر زياد مشترك بين أبي سفيان وعُبيد وكلّ من أتاها؛ فكيف بك والدعوة كانت بعد الإسلام الذي يحكم بأنّ الولد للفراش وللعاهر

____________________

(١) في بيعة الناقص ابن ميسون: عن الحسن البصريّ: أنّ المغيرة بن شُعبة أشار على معاوية ببيعة ابنه ففعل، فقيل له: ما وراءَك؟ قال: وضعتُ رجل معاوية في غَرْزِ غيٍّ لا يزال فيه إلى يوم القيامة، قال الحسن: فمن أجل ذلك بايع هؤلاء أولادهم ولولا ذلك لكانت شورى. سير أعلام النُبلاء، للذهبيّ ٤: ٣٩.

٥٨٧

الحجر؟! مع تمسّكنا بأنّ ابن هند ليس لأبي سفيان وقد علمتَ نفي أبي سفيان له، والرجال وهم كثيرون في حياة هند؛ فحتّى في حال الدعوة المرفوضة! فإنّ زياداً لا يكون لأبي سفيان وإنّما تختار له سميّة أباً من بين هؤلاء كما اختارت النابغة أباً لعمرو من بين مجموع رجال!

وقفة أخيرة:

أيّ بيت مهلهل بيتُ هند! إن لم يكن لكم دين ولا تخافون المعاد! فارجعوا إلى أحسابكم؛ ولكن أي حسب وأيُّ نسب؟! فلقد ذكر المسعودي في روايته: أنّ جُويرية بنت أبي سفيان أرسلت إلى زياد عن أمر معاوية، فأتاها فأذنت له وكشفت عن شعرها بين يديه وقالت: أنتَ أخي أخبرني بذلك أبو مريم.

وجُويرية هذه أمّها هند بنت رَبيعة، فهي أخت معاوية ابن هند. ولو أمرها معاوية أبعد من ذلك لفعلت؛ أليس ابن سميّة أخاها من زنيةٍ بشهادة الخمّار الجامع بين الزناة والبغايا؟! وهل من اللزوم لها الكشف عن شعرها وهو عورةٌ لتثبتَ له أنّها أخته، فلو كان مصدّقاً لها لكفى بقولها من غير أن تجمع عدّة معاصي في آنٍ واحد: الخلوة بين أجنبيّين وكشف شعرها ودعوة باطلة؟!

وصدق عمر بن الخطّاب إذ يقول لابن هند: (لَئِن أطعتُك لتُدخلُني النار)(١) .

ولعلّ النسيان الذي ابتلي به ابن حَنْتَمة - حنتمة بنت المغيرة المخزوميّة، عمّة خالد بن الوليد - مضافاً إلى إعجابه بابن هند ووَلَعِه به، حملاه على إقراره على الشأم.

بسندٍ عن سعيد بن المسيّب قال: كان عمر بن الخطّاب قد اعتراه نسيان في الصلاة

____________________

(١) أنساب الأشراف ١٠: ٣٣٩.

٥٨٨

فجعل رجل خلفه يُلقّنه الصلاة، فإذا أومأ إليه أن يسجد أو يقوم فعل(١) .

وكان يتحرّج في الأحكام لئلّا يُخطئ. عن سالم بن عبد الله أنّ عمر بن الخطّاب كان يدخل يدَه في دَبْرَةِ البعير ويقول: إنّي لخائف أن أُسأل عمّا بك(٢) .

وعن ابن عون عن محمّد قال: قال عمر: ما بقي فيَّ شيء من أمر الجاهليّة إلّا أنّي لستُ أبالي أيَّ الناس نكحت وأيّهم أنكحت(٣) .

أهل الكوفة ودعوة ابن سُميّة

في الشأم؛ صار ابن سميّة: ابن أبي سفيان لا غُبار على ذلك! طاعتُه من طاعة ابن هند؛ وأمّا في العراق: أخرج الطبريّ بسنده عن أبي إسحاق - السَّبيعيّ - أنّ زياداً لـمّا قدم الكوفة قال: قد جئتكم في أمرٍ ما طلبته إلّا لكم، قالوا: ادعُنا إلى ما شئت، قال: تُلحقون نَسبي بمعاوية! قالوا: أمّا بشهادة الزور، فلا! فأتى البصرة فشهد له رجل(٤) .

إلى أيّ قدْرٍ هو سافل ابن سميّة؟! يستجدي النسب، ويقولها بملء فمه: (تُلحقون نسبي بمعاوية)، لم يكْفه أن ألحقه ابن هند بنسبه ووصل حَبْله بحبله وكشف له شَعرُ أخته، فأصفق أهل الشأم على أخوّته لابن هند؛ فهو في الشام أخو مَلِكهم، وفي العراق نائبه، فهلّا جزاه ذلك حتّى اصطدم بأناسٍ ذوي رأيٍ أَبَوا أن يَشهدوا زُوراً فيلحقوه بابن هند وفي البصرة لم يشهد له غير رجلٍ واحد لم يُسمّه الطبريّ!

____________________

(١) أنساب الأشراف ١٠: ٣٣٨.

(٢) نفس المصدر السابق: ٣٤١.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) تاريخ الطبري ٤: ١٦٣ - ١٦٤.

٥٨٩

أفضل ما قيل في ابن سُميّة

المدائني: أنّ جماعة قال بعضُهم لبعض: أزياد أفضل أم عبيد الله؟ فقال شيخ منهم: إن لم يولّدْ لعُبيد الله ابنٌ مثلُه فزيادُ أفضل من عبيد الله(١) .

انظر فطنة هذا الشيخ وبلاغته! فهو لم يخفّف لام الفعل (يولد) وإنّما شدّدها كناية عن أنّ عبيد الله ليس لزياد ولذا اشتُهر في تسميته (ابن مَرْجانة) مثلما غلب على زياد: ابن أبيه وابن عُبيد وابن سميّة؛ ولم تشفع له حواضن ابن هند وابن ميسون، ومن قبل لم تشفع لزياد.

والأمر الآخر في كلام الشيخ هو السيرة الواحدة لابن سميّة وابن مرجانة، في غلظتهما وشدّتهما على خيار الأمّة من قتلٍ وتقطيع للأوصال وحمل الرؤوس على الرماح من بلدٍ إلى آخر.

البلاذريّ، حدّثنا عمرو الناقد عن موسى بن قيس عن سَلَمَة بن كُهَيْل قال: أوّل مَن وطئَ على صِماخ الإسلام زياد(٢) .

وقال: حدّثني بكر بن الهيثم عن عبد الرزّاق عن مَعْمَر عن قَتادة قال: كان زياد سَيّئة من سيّئات معاوية، وكان سَمُرَة بن جُنْدَب سيّئة من سيّئات زياد(٣) .

قالوا: ومات زياد وعلى الكوفة من قِبَلهِ عبد الله بن خالد بن أسيد، وعلى البصرة سَمُرة، فأقرّ معاوية سَمُرة على البصرة ستّة أشهر، ويقال ثمانية عشر شهراً، ثمّ عزله فقال سَمُرة: لعن الله معاوية! لو أطعتُ الله كما أطعت معاوية ما عذّبني أبداً(٤) .

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٠٨.

(٢) نفس المصدر السابق: ٢٤٩.

(٣) نفس المصدر السابق: ٢٤٨.

(٤) نفس المصدر السابق.

٥٩٠

أمرُ ابن سُميّة بعد الدعوة

ثمّ إنّ ابن هند استعمل ابن سميّة على البصرة وخراسان وسجستان ثمّ جمع له الهند والبحرين وعمان، وقدم البصرة في آخر شهر الربيع الآخر سنة (٤٥ هـ) وكان ادّعاؤه سنة (٤٤ هـ)(١) .

تخوّف المغيرة من ابن سميّة

لـمـّا سار ابن سميّة إلى البصرة كان طريقه على الكوفة فنزلها فظنّ المغيرة أنّه قد عزل وأنّ ابن سميّة حلّ محلّه.

قال الطبري بسنده عن معبد بن خالد الجدليّ، قال: قدم علينا زياد الذي يقال له ابن أبي سفيان من عند معاوية فنزل دارَ سلمان بن ربيعة الباهلي ينتظر أمر معاوية فبلغ المغيرة بن شعبة وهو أمير على الكوفة أنّ زياداً ينتظر أن تجيء إمارته على الكوفة(٢) .

فدعا قَطَن بن عبد الله الحارثي فقال: هل فيك خيرٌ تكفيني الكوفة حتّى آتيك من عند أمير...؟ قال: ما أنا بصاحب ذا، فدعا عُيينة بن النهاس العجلي فعرض عليه فقبل، فخرج المغيرة إلى معاوية فلمّا قدم عليه سأله أن يعزله وأن يقطع له منازل بقرقيسيا بين ظهري قيس، فلمّا سمع بذلك معاوية خاف بائقته وقال: والله لترجعنّ إلى عملك يا أبا عبد الله، فأبى عليه، فلم يزده ذلك إلّا تُهمةً! فردّه إلى عمله فطرَقنا ليلاً وإنّي لَفوقَ القصر أحرسه فلمّا قرعَ الباب أنكرناهُ فلمّا خاف أن ندلي عليه حجراً تسمّى لنا فنزلت إليه فرحّبت به وسلّمت، فقال: اذهب إلى ابن سميّة فرحّله حتّى لا يصبح إلّا من وراء

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ١٦٤.

(٢) نفس المصدر السابق: ١٦٤ - ١٦٥. وانظر دقّة تعبير الطبريّ وأهل الكوفة (زياد الذي يقال له ابن أبي سفيان).

٥٩١

الجِسر، فخرجنا فأتينا زياداً فأخرجناه حتّى طرحناه من وراء الجسر قبل أن يُصبح(١) .

قال: استعمل معاويةُ زياداً على البصرة وخراسان وسجستان ثمّ جمع له الهند والبحرين وعُمان، وقدِم البرة في آخر شهر الربيع الآخر أو غرّة جمادى الأولى سنة ٤٥(٢) .

فائدة: لقد تمّ الاستلحاق وصار زياد في الشأم: زياد بن أبي سفيان، وهو في العراقَيْن: الكوفة، والبصرة ابنُ أبيه وابن سميّة، ووجد منهم صدوداً خصوصاً في الكوفة فأوقع بهم لـمّا صار أمرهم إليه.

وفي تاريخ الطبري، فهو (زياد) لا يزيد على ذلك، إلّا في هذا الموضع، واللفظُ لغيره ومع ذلك لم ينسبه إلى أبي سفيان ربيب ابن هند معاوية؛ إنّما قال: زياد الذي يقال له ابن أبي سفيان فجاء بكلمة (يُقال) وهي تفيد التضعيف والتوهين! فهو زياد لا شكّ في ذلك، إلّا أنّ البعض قال عنه ابن أبي سفيان.

والأمر الآخر في الخبر: أنّ مجموعة ذِئاب! يعمل أحدُهم للآخر ويتوجّس أحدُهم من الآخر! فإنّ المغيرة هو الذي أقنع ابن سميّة في نقل نسبه إلى ربيب أبي سفيان معاوية وأن يوصل حبله بحبله ولا يلتفت إلى ما سيقوله الناس فيه وأن يعيرهم أُذناً صمّاء، فلمّا ورد ابن سميّة الكوفة وبلغ المغيرة إنّما جاء أميراً عليها وهو ينتظر أمرَ ابن هند، أَوْجَسَ المغيرة في نفسه خيفةً فمضى لوجهه إلى ابن هند مبادراً بطلب عزله وأن يقطعه منازل وإنّما أراد بذلك أن يستجلي الحقيقة؛ فإن كان ابن هند عزله فعلاً؛ فإنّه قد سبقه إلى ذلك؛ فيكون أطيبَ لخاطره وقطعاً لِلقالِة فيه، مع حصوله على منازل.

____________________

(١) تاريخ الطبريّ ٤: ١٦٤ - ١٦٥.

(٢) نفس المصدر السابق: ١٦٥.

٥٩٢

ولم يكن ابن هند وهو أحد جماعة يُعدّون دُهاةً: المغيرة بن شعبة، وابن النابغة عمرو، وابن سميّة زياد، وابن هند معاوية؛ أن يخفى عليه ما في ضمير ابن شعبة، فلمّا سمع كلامه خاف بائقته، أي غَدْره ومَكْرَه؛ وزاد تُهمتَه له أنّه لـمّا عزم عليه أن يرجع إلى عمله، أبى عليه؛ فردّه إلى عمله.

وكما ذكرنا: أنّ المغيرة هو الذي أقنع ابن سميّة بنقل نسبه إلى نسب ابن هند وأن يوصل حبله بحبله، فهو هنا عاد إلى تسميته: (ابن سميّة) تحقيراً له وتضعيفاً لئلّا يفكّر بالكوفة ولم يمهله أن يصبح فيها، فحملوه وطرحوه خارجها مذؤوماً مدحوراً!

وكانت ولاية المغيرة بن شعبة في سنة إحدى وأربعين ووفاته في سنة خمسين، فمجموع ولايته تسع سنين.

دستور ابن هند للمُغيرة

حين أراد ابن هند المغيرة، أوصاه، فكان ممّا قال له: يا مغيرة: قد يجزئ عنك الحلم بغير تعليم، وقد أردت أن أوصيك بأشياء كثيرة، فتركت ذلك اعتماداً على بصرك بما يرضيني ويشدّد سلطاني ويصلح رعيّتي، غير أنّي لا أدع إيصاءك بخصلةٍ: لا تَكَفْكَفَنَّ عن شَتْم عليّ وذمّه، والترحّم على عثمان والاستغفار له، والعَيْبَ لأصحاب عليّ والإقصاء لهم، وترك الاستماع منهم، والإطراء لشيعة عثمان والاستماع لهم.

فقال المغيرة: قد جَرَّبتُ وجُرِّبت، وعملت قبلك لغيرك، فلم يُذمم لي رَفْع ولا وَضْع، وسَتَبلوا فتحمدَ أو تذم، فقال: نحمد إن شاء الله(١) .

موقفُ حُجْر من المغيرة

رجع المغيرة من عند ابن هند وقد ازداد غوايةً وضلالاً إلى ما هو عليه.

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٥٢.

٥٩٣

وسمع حُجْرُ المغيرةَ يقول يوماً: لعن الله فلاناً - يعني عليًّا! - فإنّه خالف ما في كتابك، وترك سنّةَ نبيّك، وفرّق الكلمة وهراق الدماء وقتل ظالماً، أللّهم العنْ أشياعه وأتباعه ومحبّيه والمهتدين بهَدْيه والآخذين بأمره. فوثب حُجر رضي الله تعالى عنه، فنَعَر(١) نَعْرة سُمعت من كلّ جانب في المسجد، وسُمعت خارجاً منه فقال له: إنّك لا تدري بمن تولَعُ، وقد هَرِمْتَ أيّها الإنسان وحرمتَ الناس أرزاقهم، وأخّرت عنهم عطاءهم، وإنّما أراد بهذا القول تحريض الناس عليه. وقام مع حُجْر أكثر من ثلاثين كلّهم يقول مثل قوله ويسمعون المغيرة، فيقولون له: أُولِعْتَ بذمّ الصالحين وتقريض المجرمين(٢) ، فنزل المغيرة فدخل داره، فعاتبه أصحابه على احتمال حُجر وقالوا: إنّ معاوية غير محتملك على هذا، فقال: ويحكم إنّي قد قتلته بحلمي عنه، سيأتي بعدي من لا يحتمله فيقتله في أوّل وَهْلَةٍ، وقد قرب أجلي وضعف عملي ولا أحبّ أن أبتدئ أهلَ المصر بقتل خيارهم ووجوههم، فيَسعدوا وأشقى، ويَعِزُّ معاوية في الدنيا ويذلُّ المغيرة في الآخرة، ولكنّي قابل من محسنهم وعافٍ عن مسيئهم، وحامد حليمهم وواعظ سفيههم، حتّى يفرّق الموت بيني وبينهم(٣) .

وأنا بادئ مع المغيرة من امتناعه عن قتل حجر موكلاً ذلك إلى من يجيء بعده، لمعرفته برغبة ابن هند الشديدة بولاية ابن سميّة للكوفة. وهو متناقض مع نفسه! فهو أوّلاً يلعن خير البشر، وأشياعه فلمّا كان من حجر وأصحابه موقفهم الشجاع الرافع للمغيرة، فدخل داره وعاتبه أصحابه؛ كان من جملة معاذيره: أنّ أجله بات وشيكاً

____________________

(١) نعر: صاح وصوّت بخيشومه. القاموس.

(٢) تقريض: المدح والذم. القاموس.

(٣) أنساب الأشراف ٥: ٢٥٢ - ٢٥٣.

٥٩٤

ولذا لا يريد أن يبدأ عمله بقتل وجوه وأشراف أهل الكوفة وخيارهم من شيعة أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وأتباعه ومحبّيه والمهتدين بهديه. وهو قبل وهلة لعن سيّدهم وإمامهم، ولعنهم معه؛ فكيف صاروا وجوه البلد وخياره وشهد لهم بالجنّة والسعادة ولنفسه بالشقاء في جهنّم؛ إن هو أقدم على قتلهم، وليس في قتلهم إلّا تعزيز ملك ابن هند في هذه الدنيا الفانية، وذلّ ابن شعبة في الآخرة التي لا انتهاء لها!

وهذه الشهادة من المغيرة وهو أحد أركان الهيئة الاستشاريّة لابن هند الذي يخشى بائقته لدهائه! وهو الذي وضع رجل ابن هند في غَرْز غيٍّ إلى يوم القيامة بإشارته عليه في تولية ابن ميسون من بعده؛ وما بعد القيامة أمرّ وأدهى! وهو الذي غلب دهاؤه دهاء ابن سميّة فأوقع الرغبة في نفسه بأن يضمّ نسبه إلى نسبه من بعد شدّة تمنّع؛ ومن قبل قوله في ابن هند (أخبث الناس) وذكرنا قصّته. فشهادته في شيعة عليّعليه‌السلام وأنّهم أهل الجنّة وخيار أهل الكوفة.

وقصيدة وزيره ابن النابغة بيان صريح لحالة الفريقين، فإنّ أهل الكوفة وشيعة عليٍّ هم الأتقياء ذوو العقول وإمامهم إمام هدى سيّد الأوصياء وهو وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة وأمير المؤمنين حقّاً...؛ وأمّا أهل الشأم فهم بَقَرٌ بُكْمٌ غارقون في الجهل يرون في كشف العورة من وسائل الحرب والدفاع عن النفس... وهو مثل المغيرة يعتقد جازماً أنّهم مع معاوية في أسفل درك من النار!

شهادةُ ابن هند في حقّ أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام

لم تكن الشهادة في فضائل عليّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم تجري على لسان الأذلاّء من حاشية ابن هند، إنّما شاءت حكمته أن ينطق بها ابن هند مُرغماً! حدّث الزبير بن بكّار في كتابه الموفّقيّات، قال:

٥٩٥

دخل مِـحْقن بن أبي مـِحْقن الضّبيّ على معاوية فقال: جئتك من عند ألأم العرب وأَبْخَل العرب وأَعْيا العرب وأَجْبَن العرب!! قال: ومَن هو يا أخا بني تميم؟ قال: عليّ ابن أبي طالب! قال معاوية: إسمعوا يا أهلَ الشأم، ما يقول أخوكم العراقيّ! فابْتدَروه أيّهم ينزل عليه ويكرمه! فلمّا تصدّع الناس عنه قال: كيف قلت؟ فأعاد عليه. فقال له: ويحك يا جاهل، كيف يكون ألأم العرب وأبوه أبو طالب، وجدّه عبد المطّلب، وامرأته فاطمة بنت رسول الله؟! وأنّى يكون أبخل العرب؟! فو الله لو كان له بيتان: بيتُ تِبْنٍ وبيتُ تِبْرٍ(١) لأَنفدَ تِبْرَه قبل تِبْنه. وأنّى يكون أجبن العرب؟! فوالله ما التقتْ فئتان قطُّ إلّا كان فارسَهم غير مُدافَع. وأنّى يكون أعيا العرب؟ فوالله ما سَنَّ البلاغةَ لقريش غيرُه. ولَـمَا قامت أمّ محقن عنه ألأم وأبخل وأجبن وأعيا لبَظَرِ أمّه، فوالله لولا ما تعلم لضربتُ الذي فيه عيناك، فإيّاك عليك لعنةُ الله، والعودةُ إلى مثل ذلك.

قال: والله، أنت أظلم منّي، أيّ شيء قاتلتَه وهذا محلّه؟!

قال: على خاتمي(٢) ، حتّى يجوز به أمري(٣) .

هذه شهاداتُ حقٍّ! بحقِّ أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام نطق بها أعداؤه وهم كارهون!

معاوية أكفر الناس وأخبثهم

إنّ إقرار ابن هند بفضائل أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام لا يعني أنّه أناب فتاب! وإنّما هو على كفره ولا أدلّ على ذلك من سنّته الخبيثة التي هلك وهي ماضية إذ أمر أئمّة الجماعة بختم الصلاة بلعنِ أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ودامت هذه السنّة البغيضة حتّى رفعها عمر بن عبد العزيز.

____________________

(١) التِبر: الذهب غير المضروب.

(٢) إشارة إلى مهزلة التحكيم وتثبيت ابن النابغة له بتثبيت الخاتم في إصبعه!

(٣) كشف الغمّة ٢: ٤٧، كشف اليقين: ٤٧٥ - ٤٧٦.

٥٩٦

روى الزبير بن بكّار: قال المطرف بن المغيرة بن شعبة: جاء أبي من عند معاوية ذات ليلةٍ فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتمّاً فانتظرته ساعةً، وظننت أنّه لأمر حدث فينا فقلت: ما لي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟ فقال: يا بنيّ، جئتُ من أكفر الناس وأخبثهم. قلت: وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوت به: إنّك قد بلغتَ سنّاً، فلو أظهرتَ عدلاً وبسطتَ خيراً فإنّك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم، فوصلتَ أرحامهم، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإنّ ذلك ممّا يبقى لك ذِكْره وثوابه؟ فقال: هيهات، هيهات! أيّ ذكر أرجو بقاءه! ملك أخو تيم - أبو بكر - فعدل وفعل ما فعل، فما عدا أن هلك، حتّى هلك ذكره إلّا أن يقول قائل: أبوبكر. ثمّ ملك أخو عديّ - عمر -، فاجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكره، إلّا أن يقول قائل: عمر.

وإنّ ابن أبي كبشة! ليُصاح به كلّ يوم خمس مرّات (أشهد أنّ محمّداً رسول الله) فأيّ عمل يبقى؟ وأيّ ذكر يدوم بعد هذا لا أباً لك؟! إلّا دفناً دفناً(١) .

فالمغيرة على ما هو عليه وما عرف من سيرته القذرة، فإنّه ينكر على ابن هند، ويقول عنه: أكفر وأخبث الناس لما سمعه منه يحطّ من قدر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وإنّه عازم على دفن اسمه الشريف وتشويه معالم رسالته وإحياء مآثر الجاهليّة وقطع نسله.

قصّة أبي كبشة

قال ابن حبيب: كانت قريش تنسب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أبي كبشة فيقولون: (قال ابن أبي كبشة) و (فعل ابن أبي كبشة). وذلك أنّ أكثر من أب من آباء أمّهات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ يكنّى

____________________

(١) الموفّقيّات: ٥٧٦ - ٥٧٧ / ٣٧٥.

٥٩٧

أبا كبشة؛ فكان (وهب) بن عبد مَناف بن زُهرة، أبو آمنة، يكنّى أبا كبشة؛ و (وهب) جدُّه الأعلى لأُمّه (وجز) بن غالب بن عامر... يكنّى أبا كبشة. و (عمرو) بن زيد بن لبيد يكنى أبا كبشة وهو جدّ عبد المطّلب، أبو أمّه(١) .

والعرب تدعوا الأبناء لآبائهم الذين هم من صلبهم والقرآن أمر بدعوة الأبناء لآبائهم الذين ولدوهم؛ وليس في آباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أبو كبشة) من (عبد الله) رضي الله عنه وحتّى معدّ بن عدنان. إلّا أنّ ابن هند أبى إلّا كفراً، فشقّ أن ينادى باسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمس مرّات في اليوم؛ فدعا بدعوة الجاهليّة فنسب النبيّ إلى آباء الأمّهات للسبب الذي أشرنا إليه؛ ولعُقْدتِه في نشأته! وليس في واحد ممّن كُنيتُه (أبو كبشة) مَن هو لصيق، إنّما صريح النسب حتّى جدّه الأعلى.

ورائعٌ جواب قيس بن سعد بن عُبادة - ذكرنا ترجمة سَعْد بن عُبادة - إلى ابن هند، وقد كتب إليه أن يصير إليه، وكان مع الإمام الحسنعليه‌السلام فأبى، فكتب إليه ابن هند: يا يهوديّ ابن اليهوديّ إنّما أنت عبدٌ من عبيدنا؛ فكتب إليه: يا وَثَن ابن الوَثَن دخلتم في الإسلام كارهين وخرجتم منه طائعين(٢) .

تجارة ابن هند

لم يكن جواب قيس بن سعد بن عبادة، ردّ فعل، وإنّما نطق بحقيقة ابن هند، فما سبّ أحداً إلّا وردّ بنفس ردّ قيس حتّى بات وكأنّه لا يعرف إلّا (وثن ابن وثن دخلتم في الإسلام كارهين وخرجتم منه طائعين). ويكفي دليلاً على ذلك ما نقله عنه أقرب الناس ممّن يثق به وهو المغيرة بن شعبة من قوله في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

____________________

(١) المحبّر: ١٢٩.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٤٠.

٥٩٨

وإذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد حطّم آلهة ابن هند يوم الفتح؛ فإنّ ابن هند ثأر لها فكانت تجارته بيع الأصنام!

جرير بن الأعمش عن أبي وائل قال: كنت مع مسروق بالسِلسِلة فمرّت به سفائن فيها أصنام من صُفْرٍ - أي نحاس - تماثيل الرجال، فسألهم عنها فقالوا: بعث بها معاويةُ إلى أرض السند والهند تُباع له، فقال مسروق: لو أعلمُ أنّهم يقتلونني لغرّقتُها، ولكنّي أخافُ أن يعذِّبوني ثمّ يفتنوني؛ والله ما أدري أيّ الرجلين معاوية، أرجل قد يئس من الآخرة فهو يتمتّع من الدنيا أم رجل زيّن له سوء عمله(١) .

ابن هند يمنع من الحديث

ومتابعة منه لطمس معالم الإسلام ومحو ذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمد إلى إخفاء أحاديث رسول الله. عن محمّد بن سيرين قال: (كان معاوية قليل الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(٢) .

قال رجاء بن حَيْوَة: (كان معاوية ينهى عن الحديث يقول: لا تحدّثوا عن رسول الله. قال: وما سمعته يروي عن رسول الله إلّا يوماً واحداً)(٣) .

ولا ندري أيّ حديث رواه ابن هند! هل قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه: (لا أشبع الله بطنه)؟ أم قوله: (يطلع عليكم من هذا الفجّ رجل يموت على غير ملّتي) فلمّا طلع معاوية، قال: (هو هذا)؟ أم قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: (إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه)؟ أو (معاوية في تابوت مقفل عليه في جهنّم)؟ أو: (لعن الله الحامل والمحمول والقائد والسائق)؟

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ١٣٧.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٢٥: ٥٠.

(٣) نفس المصدر السابق، الفقيه والمتفقه، للخطيب البغدادي ١: ٧.

٥٩٩

قدوة ابن هند

لم يكن ابن هند فارداً في المنع من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد سبقه إلى ذلك: أبو بكر، وعمر بن الخطّاب، وهما ربّا نعمته على ما مضى بيانه. فأمّا أبوبكر، فقد جمع أحاديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب فبلغ عددها خمسمائة حديث، ثمّ دعا بنارٍ فأحرقها!(١)

وحَذْو النعْل بالنعْل والقذّة بالقذّة؛ فقد استنّ عمر بأبي بكر.

قال يحيى بن جعدة: إنّ عمر بن الخطّاب أراد أن يكتبَ السنّة، ثمّ بدا له أن لا يكتبها، ثمّ كتب في الأمصار: (من كان عنده منها شيءٌ فليمحه)(٢) .

قال القاسم بن محمّد بن أبي بكر: إنّ عمر بن الخطّاب بلغه أنّه قد ظهر في أيدي الناس كتب، فاستنكرها وكرهها، وقال: أيّها الناس، إنّه قد بلغني أنّه قد ظهرت في أيديكم كتب، فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومُها، فلا يُبقينّ أحد عنده كتاباً إلّا أتاني به، فأرى فيه رأيي. قال: فظنّوا أنّه يريد ينظر فيها ويُقوّمها على أمرٍ لا يكون فيه اختلاف، فأَتَوْه بكتبهم، فأحرقها بالنار. ثمّ قال: أُمنية كأمُنية أهل الكتاب(٣) .

والتعليق على صنيع الرجلين يطول فيخرجنا عن المطلوب، ونكتفي بالقول: إنّ هذه الكتب مِلك أصحابها فلا يجوز تلفها. وهي عزيزة على نفوسهم ولو كانوا يعلمون أنّ مصيرها الحرق لـما أحضروها، ولابدّ أنّها كانت تحتوي على أصول السُنن، فهل يوافق علماء الإسلام - باستثناء الوهّابيّين! - على ذلك؟!

وقد صدق الله إذ يقول:( مَن يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) (٤) ، قال ابن حزم:

____________________

(١) تذكرة الحفّاظ، للذهبيّ ١: ٥، علوم الحديث، لصبحي الصالح: ٣٩.

(٢) نفس المصادر السابقة.

(٣) تقييد العلم، للخطيب البغدادي: ٥٢، وانظر طبقات ابن سعد ١: ١٤٠.

(٤) النساء: ٤.

٦٠٠