شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 182596
تحميل: 4444

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182596 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

فقال: ما كنت لأرى لهؤلاء القوم هذا الفضلَ، فإمّا أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم، وإمّا أن يكونوا ليس هكذا.

فقال أبان: لا يمنعنا أن نقول بالحقّ ما صنعوا، وهم على ما وصفنا في كتابنا هذا. قال: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذاك حتّى أذكره لأمير... لعلّه يخالفه، فأمر بذلك الكتاب فخُرق، وقال: أسأل أمير... إذا رجعت، فإن يوافقه فما أيسر نسخه. فرجع سليمان فأخبر أباه بالذي كان من قول أبان، فقال عبد الملك: وما حاجتُك أن تُقْدِم بكتابٍ ليس لنا فيه فضل؟ تُعرِّف أهل الشأم أموراً لا نريد أن يعرفوها! قال سليمان: فلذلك أمرتُ بتخريق ما كنتُ نسخته حتّى أستطلع رأي أمير... فصوّب رأيه(١) .

فإذا كانوا لا يتحمّلون ذكر فضل الأنصار الذين ضربوهم على الإسلام وقد ذكرنا انتصار أمير المؤمنين عليّ لهم من ابن النابغة، وضمّ نفسه الزكيّة إليهم؛ فكيف يتحمّلون ذكر فضل أهل البيت وسيّدهم أمير المؤمنين عليّعليهم‌السلام ؟ !

وهذا خالد القسريّ، أحد ولاة الشجرة المعلونة، طلب من أحدهم أن يكتب له السيرة، فقال الكاتب: فإنّه يمرّ بي الشيء من سيرة عليّ بن أبي طالب، أفأذكره؟

فقال خالد: لا، إلّا أن تراه في قعر جهنّم!!(٢)

كيف يكون هذا وقد ذكر عن الحسن بن أبي الحسن البصريّ، عن أنس بن مالك، عن أبي بكر، قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: (إنّ على الصراط لعقبةٌ لا يجوزها أحد إلّا بجواز من عليّ بن أبي طالب)(٣) .

____________________

(١) الموفّقيّات للزبير بن بكّار: ٢٢٢ - ٢٢٣.

(٢) الأغاني ٢٢: ٢٥.

(٣) مناقب الإمام عليّ، لابن المغازليّ: ٢٤٢، حلية الأولياء ١: ٢٤١، ميزان الاعتدال ١: ٢٨، لسان الميزان ١: ٥١، ينابيع المودّة.

٦٢١

كلام أحمد بن حنبل في الحديث: قال القاضي ابن أبي يعلى (ت ٣٠٧) الحنفيّ: سمعت محمّد بن منصور يقول: كنّا عند أحمد بن حنبل فقال له رجل: يا أبا عبد الله! ما تقول في هذا الحديث الذي يروى أنّ عليًّا قال: (أنا قسيمُ النار)؟ فقال أحمد: وما تنكرون من ذا؟ أليس رَوَينا أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّ: (لا يُحبّك إلّا مؤمن ولا يُبغضك إلّا منافق)؟ قلنا: بلى، قال: فأين المؤمن؟ قلنا: في الجنّة، قال: وأين المنافق؟ قلنا: في النار؛ قال: فعليٌّ قسيم النار(١) .

فأيُّهم أولى بها صِليّاً؟ ومَن هو خالدٌ في قعر جهنّم، القسريُّ خالد، وغيرُه من مُبغضي عليّ؛ أم عليٌّ وهو قسيمُ النار ومحبّوه؟!

حديث الولاية برواية الإمام الحسينعليه‌السلام

عن عبد الله بن الحسين الهاشميّ قال: جاء رجل إلى الحسين بن عليّ فقال: حدّثني

____________________

(١) طبقات الحنابلة، للقاضي أبي يعلى ١: ٣٢٠، كفاية الطالب: ٧٢.

وحديث: (حبُّ عليّ إيمان وبُغضه نفاق) يرد من أكثر من طريق وبألفاظ عدّة وفي أكثر من مناسبة؛ فنذكر مصادره فقط: مسند الحميدي ١: ٣١ ح ٥٨، المصنّف، لابن أبي شيبة ٧: ٥٠٥ / ٦٤، مسند أحمد بن حنبل ١: ٨٤، كتاب الفضائل له: ١٤٣ / ٢٠٨، صحيح الترمذي ٢: ٣٠١، المستدرك على الصحيحين ٣: ١٢٩، كتاب الولاية، لابن عقدة: ١٧٤، المحاسن والمساوئ، للبيهقي ١: ٢٩٠، تفسير الحبري: ٣٥٠، سنن ابن ماجة - المقدّمة: ١١٤، تذكرة الخواصّ: ١٥، تاريخ بغداد ٢: ٢٥٥، سنن النسائي - في الإيمان - ٨: ١١٧، معجم الصحابة، للبغوي الشافعي: ٤٢٠، شرح السنّة له ١٤: ١١٤ / ٣٩٠٩، الشفا، للقاضي عياض: ٣١، تفسير فرات: ١١٥، مناقب أميرالمؤمنين، للكوفي ٢: ٣٤٢ / ٩٧٥ و ٩٩٠ و ٩٩١، صحيح مسلم ١: ٨٦ ح ١٣١ - كتاب الإيمان، مسند أبي يعلى ١: ٢٥١ / ٢٩١، معرفة علوم الحديث، للحاكم: ١٨٠، أنساب الأشراف ١: ٣٥٠، المعجم الأوسط، للطبراني ٥: ٨٩ / ٤١٦٣، كفاية الطالب: ٦٩، مناقب الإمام عليّ، لابن المغازلي: ١٣٧، بشارة المصطفى، للطبريّ: ٦٤ و ٧٦، مجمع الزوائد ٩: ١٣٣، الإرشاد، للمفيد: ٣٩، أمالي الطوسيّ ح ٣ من المجلس ٢٨، الصواعق المحرقة: ٧٥، تاريخ الإسلام، للذهبي ٣: ٦٣٤، الاستيعاب ٣: ٤٦ - ٤٧، مختصر تاريخ دمشق ١٨: ١٥، فضائل عليّ، لابن مردويه: ١١٥ ح ١٣٨، كشف الأستار، للبزّار ٣: ١٩٩.

٦٢٢

في عليّ بن أبي طالب. فقال: وما عسيت أن أحدّثك في عليّ وهو أبي؟! قال: بلى فحدّثني، قال:

إنّ الله تبارك وتعالى أدّب نبيّه الآداب كلّها، فلمّا استحكم النبيّ الأدب، فوّض الله الأمر إليه فقال:( مَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) . إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدّب عليًّا بتلك الآداب التي أدّبه بها، فلمّا استحكم الآداب كلّها فوّض الأمر إليه فقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه(١) .

فوجبت على كلّ مسلم سمعها، ولقد وعاها القوم كما وعيناها، حفظها من حفظها، وحقّ علينا أن نوالي من والاه ونعادي عدوّه لأمر الله وأمر رسوله.

وعن إبراهيم بن رجاء الشيباني قال: قيل لجعفر بن محمّد: ما أراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله لعليّ يوم الغدير: (مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه أللّهم وال من والاه وعادِ من عاداه)، فاستوى جعفر بن محمّد قاعداً ثمّ قال: (سئل والله عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: الله مَولاي وأولى بي من نفسي، لا أمر لي معه؛ وأنا وليّ المؤمنين أولى بهم من أنفسهم لا أمر لهم معي، ومن كنتُ أولى به من نفسه، لا أمر له معي، فعليّ بن أبي طالب مولاه، أولى به من نفسه، لا أمر له معه)(٢) .

ما هذا النسيج الواحد، بدءاً بحسد عليّعليه‌السلام إذ انتجاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا: انتجى ابن عمّه من دوننا! فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: (ما أنا انتجيته ولكنّ الله انتجاه) وتزويجه بضعته الطاهرة فاطمة بعد أن ردّ أصحاب الأريكة، وتأميره عليهم بآية الولاية والغدير

____________________

(١) مناقب أميرالمؤمنين، للكوفي ٢: ٢٨٥ / ٩٢٢.

(٢) نفس المصدر السابق: ٢٢٣ / ٨٦٣. (وهذا معنى التفويض في الحديث السابق، وهو نفسه في آية الولاية والتصدّق بالخاتم).

٦٢٣

واتّخاذه أخاً من بين الجميع، وإعلانه أنّه منه بمنزلة هارون من موسى، وجعله نفسه وأبناءه أبناءه وزوجته نساءه وذلك يوم المباهلة ولو كان هناك مَن هو أكرم منهم عند الله تعالى لخرج يُباهل بهم؛ فكانوا معجزته غلب بهم النصارى؛ وهم الثقل الثاني بعد القرآن، ولم يطهر بيت غير بيتهم، وهم الأَجْرُ في تبليغ الرسالة وهم وهم...؛ فكيف لا يعترض المعترضون عليهم منزلتهم! فيمنعوا من كتابة الكتاب ويواصلوا ذلك بحرق الكتب والمنع من الحديث؟! فإذا تولّى ابن هند ونظائره، ساروا على السكّة ذاتها وأوغلوا في دماء أهل البيت الطاهر وشيعتهم، فكان حُجر بن عديّ وصحبه من مفردات تلك السيرة.

والدلائل قائمة على أنّ السبب الحقيقيّ في إخفاء الحديث الشريف سبب سياسيّ القصد منه إخفاء فضائل أهل البيت ليسهل إقصاؤهم والتنكيل بهم، حتّى وصل الأمر أن يسنّ ابن هند سنّته في لعن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام بعد كلّ صلاة!

قال ابن قتيبة الدينوريّ: أهملوا من ذكره - أي الإمام عليّعليه‌السلام - أو روى حديثاً في فضائله، حتّى تحامى كثير من المحدّثين أن يتحدّثوا بها، وعُنوا بجمع فضائل عمرو بن العاص، ومعاوية، كأنّهم لا يُريدونهما بذلك، وإنّما يُريدونه(١) .

وأخرج ابن الجوزيّ، عن طريق عبد الله بن أحمد، قال: سألت أبي: ما تقول في عليّ ومعاوية؟

فأطرق، ثمّ قال: إعلم أنّ عليًّا كان كثير الأعداء، ففتّش أعداؤه له عَيْباً فلم يجدوا، فعمدوا إلى رجل قد حاربه فأطْروه، كيداً منهم لعليّ(٢) .

____________________

(١) الاختلاف في اللفظ، لابن قُتيبة (ت ٢٧٦ هـ): ٤٨.

(٢) فَتح الباري ٧: ٨٣، الصَواعقُ المحرقة: ٧٦.

٦٢٤

وعلى نفس النهج والسيرة، سار ابن تَيْمِيَه، وشيعته الوهّابيّة: أطروا ابن هند وابن ميسون وابن النابغة وابن سميّة وابن مَرجانة وابن الـمُستفرمة بزبيب العجم (الحجّاج) والخوارج؛ وفضّلوا هؤلاء على أمير المؤمنين وأهل البيت! وقالوا: إنّ الرافضيّ لا يستطيع أن يُثبت إيمان عليّ فضلاً عن جهاده ما لم يثبتوا مثلَ هذا لمعاوية ويزيد والحجّاج....

سيرة المغيرة في الكوفة

ذكرنا من سيرة المغيرة بن شعبة ما يؤهّله أن يكون ظهيراً للمجرمين وعدوّاً للمؤمنين؛ فقد اشتُهر بشدّة الشَّبَق وبالخديعة والغدر والحسد. فكان من غدره ببني مالك لـما رأى من احتفاء ملك الروم بهم وتقريبه لهم وإتحافهم الهدايا، وازدرائه له واقصائه له. فلمّا رجعوا، غدر بهم وهم نيامٌ فذبحهم جميعاً - ذكرنا قصّته - ومكر بسيّده! ابن هند إذ أشار عليه بتوليته يزيد من بعده، وقال عقب ذلك: وضعتُ رجل معاوية في غَرْز غَيٍّ إلى يوم القيامة. ومكر بابنِ سُميّة وأقنعه أن يضمّ نسبه إلى نسب ابن هند.

وكان إذا ذكر قيل: الأعور الزنّاء لاشتهاره بكثرة الزنا، وذكرنا قصّة زناه التي رفعت إلى عمر بن الخطّاب، وظهر أنّ المرأة لم تكن مجهولة لعمر! وأفرغَ عمر وُسْعه وناضل أشدّ النِضال في تبرئة المغيرة الذي ما استطاع أن يمسك شهوته وهو في طريقه إلى عمر بسبب فعلته الشنيعة، فرأى امرأة فأعجبته فخطبها إلى أبيها فزوّجه منها.

وبذل عمر جهداً يعجز عنه الشجعان في ميدان القتال! فلقد تقدّم ثلاثة شهود، كلّما تقدّم واحد منهم؛ كان عمر يقول: أرى وجهَ رجلٍ أرجو أن لا يُخزي الله أحداً من

٦٢٥

صحابة رسول الله على يديه! إيحاءً منه للشاهد والشهود الآخرين أنّ رغبته أن ينكصوا عن الشهادة لتبرئة ساحة المغيرة. فتقدّم الشاهد الأوّل فذكر أنّه رأى المغيرة متبطّناً المرأة عارِيْين...؛ إلّا أنّ عمر لم يثبت الشهادة إلّا بعد أن يسأله: إنْ رآه يدخله في المرأة ويخرجه منها كما يدخل الميل ويخرج من المِكْحَلة؟! فيجيبه: نعم؛ ويعيد عليه السؤال فيجيبه أن نعم؛ فيلتفت عمر إلى المغيرة ويقول له: ذهب رُبعُ دينك! ويتقدّم الشاهد الثاني فيبادره عمر بقوله الإيحائيّ السالف وبعد الوصف الدقيق لوضع المغيرة مع المرأة والشهود بالإيلاج والإخراج، قال: ذهب نصف دينك يا مغيرة. وهكذا الشاهد الثالث، حتّى جاء ابن سميّة زياد، فلمّا سمع كلام عمر، تلكّأ قليلاً ثمّ شهد برؤيته المغيرة متبطّناً المراة رافعةً رجليها و... وعمر يصرّ عليه إن كان شاهدَ كذا وكذا؟ عندها أنكر زياد إن كان شاهدَ ذلك؛ فكبّر عمر! وجلد الشهود؛ وجاءه أبوبَكْرة وهو أخو زياد لأُمّه، فقال له: اتّق الله يا زياد! فلقد رأيت ما رأينا؛ فأمر عمر بجلده! فقال له أمير المؤمنين عليّ: إذا جلدته؛ رجمتُ صاحبك، فتركه. وذلك أنّ عمر لو جلدَ أبا بَكْرة ثانيةً، لكان ذلك مقابل شهادتين؛ فيستحقّ المغيرة بذلك الرجم.

المغيرة عامل عمر

وكان عمر قد استعمل المغيرة على البحرين فكرهوه، فعزله، واستعمله على البصرة؛ فكان منه ما ذكرناه مع المرأة، فأرسل عمرُ أبا موسى الأشعريّ إلى البصرة، ومعه كتاب إلى المغيرة، وقد كان المغيرة أرسل إلى أبي موسى حين قدم عليه بجاريةٍ من مولَّدات الطائف يقال لها عَقِيلة، وقال: إنّي رضِيتُها لك فاتّخذها لنفسك(١) .

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٢٥: ١٦٧.

٦٢٦

ولاية المغيرة الكوفة

فلمّا رأى عمر أنّه انتصر لصاحبه المغيرة ووجد أن ليس من المصلحة أن يردّه إلى البصرة، ولا أن يضيّعه وقد جهد في الدفع عنه فنقله إلى الكوفة وصيّره والياً عليها.

(يروى عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: ما تقولون في توليه ضعيفٍ مسلم، أو قويّ فاجر؟ فقال له المغيرة: المسلم الضعيف إسلامه لك، وضعفه عليك وعلى رعيّتك وأمّا القويُّ الفاجر ففجوره عليه، وقوّته لك ولرعيّتك. فقال له عمر: فأنت هو، وأنا باعثك يا مغيرة)(١) .

هذا هو منطق صاحب الاريكة المتهوّك الذي حذّر منه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! متى كان الفجّار خيراً من الأخيار؟! وكيف يطمأنّ إليهم ليتولّوا شؤون البلاد والعباد، وقد نهى القرآن الكريم، وليس الوحي الثاني وهو السنّة الشريفة المرفوضة من أصحاب الأريكة المتهوّكين! نهى عن قبول شهادة الفاسق؛ فكيف لو صار حاكماً؟! وهل خلت الأرض من المسلمين الأقوياء، حتّى يلجأ إلى الفجّار الأقوياء الذين يحفظون الأريكة والمجتمع؛ أم أنّ حفظ الأريكة لا يكون إلّا من خلال فاجر يعمل بدستور صاحب الأريكة فيرفض الحديث ويعاقب عليه؟!

وقول عمر للمغيرة: فأنت هو، أي فأنت الفاجر القويّ، وهذا يؤيّد شهادة الشهود بفجور المغيرة بالمرأة! فذهب المغيرة وعمل بدستور عمر في منع الحديث؛ ثمّ عمل لابن هند على الكوفة وقد ذكرنا دستور ابن هند للمغيرة في عمله الذي تعهّد الالتزام به وهو لعن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام وأهل بيته والعيب لأصحاب عليّعليه‌السلام ، والإقصاء لهم.

فعليٌّ وأهل البيت وشيعتهم، الأصل الذي بنى عليه مانعوا الحديث عملهم.

____________________

(١) نفس المصدر السابق: ١٦٩.

٦٢٧

بين المغيرة وصَعْصَعَة

قال المغيرة بن شعبة، والي الكوفة من قبل معاوية، لصعصعة بن صَوْحان: إيّاك أن يبلغني عنك أنّك تظهر شيئاً من فضل عليّ، فأنا أعلم بذلك منك! ولكن هذا السلطان قد ظهر، وقد أخذ بإظهار عيبه للناس، فنحن ندَعُ شيئاً كثيراً ممّا أمرنا به، ونذكر الشيء الذي لا نجدُ منه بُدّاً ندفعُ به هؤلاء القوم عن أنفسنا، فإن كنت ذاكراً فضله فاذكره بينك وبين أصحابك في منازلكم سرّاً، وأمّا علانية في المسجد فغنّ هذا لا يحتمله الخليفة لنا(١) .

إنّ المغيرة عمل لعمر بن الخطّاب الذي كان له نصيراً شديداً فدفع عنه حدّ الرجم الذي كاد يوقعه فيه أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ففي قلبه شيء من عليّعليه‌السلام لذلك ولانحراف المغيرة أخلاقيّاً، ولأنّ عمر قد منع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتابة الكتاب الذي اراد النبيّ أن يصرّح باسم عليّ للخلافة كما قال عمر؛ وثبته ابن هند في إمارة الكوفة مشروطا بما لا حاجة لابن شعبة من شرطه وهو الدوام على شتم عليّ وذمّه والعيب لاصحاب عليّ والإقصاء لهم؛ مع عُقْدته من عينه العوراء وافتضاحه بالزنا، فمجموع هذه العوامل جعلت من ابن شعبة يمنع من الحديث بفضائل أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، مع إقراره بتلك الفضائل وأنّه أكثر معرفة بحقّها من صعصعة بن صوحان؛ فإنّ الحديث بها خطرٌ على السلطان، فهم مُلْزَمون بإخفاء فضائل أميرالمؤمنين، وبالحديث افتراءً لتقوية سلطان الظالمين!

تولية ابن سُمَيّة

ومن العام نفسه الذي استعمل ابن هند المغيرة على الكوفة فقد استعمل ابن سميّة

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٣: ٤٣٠.

٦٢٨

على البصرة وخراسان وسجستان ثمّ جمع إليه البحرين والهند وعمان، وقدم البصرة والفسق ظاهر فاش، فخطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها، فكان ممّا قال: أما بعد فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والفُجر الموقد لأهله النار الباقي عليهم سعيرُها ما يأتي سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام - وخطبته طويلة كلّها تقريعٌ وتوبيخ وتهديد - من ذلك: (وإنّي أقسم بالله لآخذنّ الوليّ بالوليّ والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والصحيح منكم بالسقيم، حتّى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انجَ سعدُ فقد هلك سعيد، وقد أجّلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الكوفة ويرجع إليّ... وكان يؤخّر العشاء حتّى يكون آخر مَن يصلّي ثمّ يصلّي، يأمر رجلا فيقرأ سورة البقرة ومثلها يرتّل القرآن ثمّ يأمر صاحب شرطته بالخروج فيخرج ولا يرى إنساناً إلّا قتله....

وكان زياد أوّل مَن شدّ أمر السلطان وأكد الملك لمعاوية وألزم الناس الطاعة وتقدّم في العقوبة وجرّد السيف وأخذ بالظنّة وعاقب على الشُبهة وخافه الناس في سلطانه خوفاً شديداً...(١) .

وروي أنّه رقى المنبر فقال: أيّها الناس أنّه بلغني ما لا صبر عليه، إنّي قد أجّلتكم في أن يبلغ شاهدكم غائبكم ثلاثاً، إنّا إن وجدنا أحداً بعد صلاة العَتَمة ضربنا عنقه، ثمّ نزل.

وجعلوا يتحدّثون بقوله فيهزأون، فلمّا مضى الأجل دعا عبّاد بن الحصين الحَبَطي، وكان ولاّه شُرَطه، فأمره فطاف فلم يجد أحداً بعد العَتَمة إلّا ضرب عنقه، فأصبح في الرحبة خمسمائة رأس! وفعل ذلك ليالي متواليةً، فجعل الناس إذا سلّم الإمام في العتمة نهض الرجل من خلفه مبادراً فربّما ترك نعلَيْه من العَجَلة(٢) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ١٦٥ - ١٦٨.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٢٠٦.

٦٢٩

وبرواية هشام الكلبي، قال: قدم أعرابيّ بغنم له ذات ليلة يريد، فلمّا استوحش من الجبّانة، دخل البيوت، فأخذه عَبّاد بن الحصين فقال: ويحك أما علمت بنداء الأمير؟ قال: لا والله، فرحمه عبّاد. فلمّا أصبح دفعه إلى زياد فسأله عن قصّته فأخبره، فقال: لا أراك إلّا صادقاً ولكن أكره أن أُكذّب نفسي في وعدي ووعيدي، اضربوا عنقه. فقُتل(١) .

أمامَنا كثير من أخبار ابن سميّة؛ ولكن لابدّ من وقفتين فيما ذكرنا من خبره، فنقول: هل من الإسلام والوجدان بثّ الرعب في قلوب الناس إن هم خرجوا من بيوتهم بعد العتمة، فإذا شاء أحدهم أن يصلّي جماعةً، فعليه أن يشغل قلبه بالنجاة والحفاظ على نعليه خوفاً من فوات الوقت الذي أقامه ابن سميّة للمجتمع.

ولعلّ قطع خمسمائة راس في ليلة واحدة لتجاوز أصحابها دستور ابن سميّة، إذ كانوا خارج بيوتهم بعد العتمة! هو ما حبّبه إلى قلب ابن تيميه! وجعله يفضّله على كثير من ثقات الشيعة! وقد فعل ذلك ليالي متوالية.

وما ذنب الأعرابيّ وقد لاذ بالبيوت فلا يرحمه ابن الحصين فيطلق سراحه؟ وما بالُ ابن سميّة يُصدّق الأعرابيّ ويقتله! لأنّه لا يريد أن يكذّب نفسه في وعده ووعيده، فهلّا كان صادقاً مع نفسه فأبى أن ينتسب إلى غير أبيه ويرفض دعوته ابن هند؟!

المدائني: أنّ جماعة قال بعضهم لبعض: أزياد أفضل أم عبيد الله؟ فقال شيخ منهم: إن لم يولد لعبيد الله ابنٌ مثله فزياد أفضل من عبيد الله(٢) .

ضمّ الكوفة إلى زياد

قال ابن الكلبي: قدم زياد وهو يريد البصرة، فلمّا صار ببعض الطريق أتاه موت

____________________

(١) نفس المصدر السابق: ٢٠٦ - ٢٠٧.

(٢) نفس المصدر السابق: ٢٠٨.

٦٣٠

المغيرة بن شعبة بالكوفة، فخاف أن يُستعمل ابن عامر على الكوفة وقال: إن وليها أخاف أن يضرّنا جواره ويلجأ أهل خراجنا إليه، فكتب إلى معاوية: كتبتُ إليك وقد مات المغيرة وترك بحمد الله عُروةَ بن المغيرة خلفاً صالحاً أميناً طيّباً مسلماً، وأرى أن يولّيه أمير... عَمَلَ والده فيصطنعه ويرعى حقّ والده فيه، فإنّي أرجو أن يرى الخيرة في ذلك إن شاء الله. فلمّا قرأ معاوية الكتاب ضحك وعرف ما أراد، فكتب إليه: لِيُفْرِخْ رَوْعُك يا أبا المغيرة، لستُ بموَلٍّ ابن عامر، وبعث إليه بعهده على الكوفة، فجمع له الـمِصْرَيْن وأعمالهما، فكان أوّلُ مَن ضُمّا إليه(١) .

أبو بكرة ينصح زياداً

أراد زياد الحجّ، فأتاه أبو بكرة - وهو لا يُكلّمه مذ ترك زياد الشهادة على المغيرة بن شعبة وعرَّضه لأن حُدَّ - فدخل عليه وأخذ ابنَه فأجلسه في حِجْره ليخاطبه ويُسمع أباه زياداً، فقال: إن أباك هذا أحمق قد فجرَ في الإسلام ثلاث فجرات: أولاهنّ كتمانه الشهادة على المغيرة، والله يعلم أنّه قد رأى ما رأينا، والثانية في انتفائه من عُبيد وادّعائه إلى أبي سفيان، وأقسم أنّ أبا سفيان لم يَرَ سميّة قطُّ، والثالثة أنّه يريد الحج وأم حبيبة - أختُ معاوية وزوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - زوج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هناك، وإن أذنت الأختُ لأخيها فأعظم بها مصيبة وخيانة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، وإن هي حَجَبَتْه فاعْظِمْ بها عليه حجّةً، فقال زياد: ما تدعُ النُصْحَ لأخيك على حالٍ، وترك الحجّ في تلك السنة، وماتت أمّ حبيبة في سنة أربع وأربعين(٢) .

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٠٧.

(٢) نفس المصدر السابق: ٢١٠.

٦٣١

المدائني عن مسلمة بن محارب قال: قال زياد: يُعجبني من الرجل إذا سِيمَ خُطّة ضيْم أن يقول: (لا) بملء فيه، وإذا أتى مجلس قوم أن يعرف قدره فيجلس فيه، وإذا ركب دابّة أن يحملها على ما يُريد ولا تحمله على ما تريد، وقلَّ مَن رأيته هكذا إلّا وجدته مُبرّزاً(١) .

ونقول لزياد: وهل كانت خُطّة ابن هند خُطّةَ ضَيْم إذ نفاك من عُبيد ونقلك إلى أبي سفيان، وجعل أُمّك سميّة حديث الألسن ولولا ذلك ربّما رحمك الدهر ولما خاض الرجال والنساء في سيرتها النتنة من يومئذ فهلّا قلت (لا) بملء فيك؟!

وهل كنت دابّة ركبك ابن هند على ما يريد، أم كان الدابّة فحملته على ما تريد؟!

سيرة الطواغيت

عن عوانة وغيره قالوا: لـمّا جمع معاوية لزياد الكوفة والبصرة في سنة خمسين، كان يخلف سَمُرَة بن جُنْدَب الفَزاري بالبصرة إذا خرج إلى الكوفة، ويخلُفُه بالكوفة إذا خرج إلى البصرة عمرو بن حُريْث، وكان يقيم بالكوفة ستّة اشهر وبالبصرة ستّة أشهر، وكان سمرة يُحْدِثْ أحداثاً عظيمة من قتل الناس وظلمهم، أعطى رجلٌ زكاةَ ماله ثمّ صلّى ركعتين فأمر به سمرة فقُتل، فقال أبو بكرة: ما شأنُ هذا؟ فأخبروه فقال: لقد قتله سمرة عند أحسن عمله فاشهدوا أنّه - أي المقتول - منّي وأنا منه، ثمّ قال لسمرة: ويلك لـِمَ قتلتَ رجلاً عند أحسن عمله؟ فقال: هذا عمل أخيك زياد هو يأمرني بهذا، فقال: أنت وأخي في النار، أنت وأخي في النار، وتلا أبو بكرة:( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكّى‏ * وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلّى ) (٢) ويزعمون أنّ زياداً نهاه بعد ذلك

____________________

(١) نفس المصدر السابق: ٢١١.

(٢) الاعلى: ١٤ - ١٥.

٦٣٢

عن القتل(١) .

عن أبي المعلّى الجنّابي عن أبيه قال: كنتُ واقفاً على رأس سمرة بن جندب فقدّم إليه بضعة عشر رجلاً، يسأل الرجل: ما دينك؟ فيقول: الإسلام ديني ومحمّد نبيّي، فيقول: قدّماه فاضربا عنقه، فإن يك صادقاً فهو خير له(٢) .

وعن أنس بن سيرين قال: استخلف زياد سمرة على البصرة وخرج إلى الكوفة فجاء وقد قتل ثمانية آلاف، فقال له: هل تخاف أن تكون قتلت بريئاً؟ فقال: لو قتلت مثلهم لم أخفْ أن أقتل بريئاً(٣) .

عن أبي السَوّار العَدَوي، قال: قتل سمرة بن جندب من قومي في غداة واحدة سبعة وأربعين رجلاً كلّهم قد جمع القرآن(٤) .

إنّ الأفعال السابقة وغيرها كثير من أفعال سمرة وهي رضىً عند ابن سميّة، وأفعال ابن سميّة رضىً عند ابن هند وهو القائل له: إنّي ضبطت العراق بشمالي ويميني فارغة، فولّني الحجاز...؛ وضبطه العراق إشارة إلى المقاتل العظيمة التي باشرها هو ورجاله من أمثال سمرة.

أوس بن خالد قال: كنت أقدم على أبي مَحذورة فيسألني عن سمرة، وأقدم على سمرة فيسألني عن أبي محذورة، فقلت لأبي محذورة: إنّك لتسألني عن سمرة فلِمَ ذاك؟ فقال: كنت أنا وسمرة وأبو هريرة في بيت واحد فأخذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعضادتي الباب وقال: (إنّ آخركم موتاً في النار)، قال: فمات أبو هريرة ثمّ مات أبو محذورة ثمّ

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢١٩ - ٢٢٠.

(٢) نفس المصدر السابق: ٢٢٠.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) نفس المصدر السابق.

٦٣٣

سمرة(١) .

عن جرير بن حازم قال: كان زياد بن سميّة أوّل من أخذ بالظنّة وعاقب على الشُبهة وأخاف الناس في سلطانه، فلمّا قدم الحجّاج سأل عن سيرته فأخذ بشدّته وترك لينه(٢) .

وجمع معاوية لزياد البصرة والكوفة في سنة خمسين حين مات المغيرة بن شعبة. وكتب إلى زياد أن أوفدْ إليَّ بنيك من مُعاذة العُقَيْليّة، وهم: عبد الرحمن، ومغيرة، ومحمّد، وكُنْ معهم ففعل، فزوّج عبد الرحمن فاختة بنت عتبة بن أبي سفيان، وزوّج المغيرة ابنة المهاجرين طليق بن سفيان بن أميّة، وزوّج محمّداً ابنته صَفِيّة بنت معاوية، وقال: أما إنّها أحسن بناتي، فقال زياد: وهو أحسن بنيّ(٣) .

ومن أجل أن يشدّ أواصره برجاله، فإنّه مثلما صنع مع ابن سميّة، فكذلك مع المغيرة بن شعبة.

قال ابن شَوْذَب: أحصن المغيرة بن شعبة أربعاً من بنات أبي سفيان، وكان آخر من تزوّج بها عَرَج، فلمّأ خطبها قال له معاوية: إنّها ضَمِنة(٤) ، قال: إنّي لست أُريد أراهن عليها، إنّما أردتُ بناتِ أبي سفيان. فزوّجه إيّاها(٥) .

قول الحسن في ابن سميّة

عن الحسن البصري وذكر زياداً فقال: ما كان أجرأه على الله، سمعته يقول: لآخذنّ

____________________

(١) أنساب الأشراف ٥: ٢٢٠.

(٢) نفس المصدر السابق: ٢٢٥.

(٣) نفس المصدر السابق: ٢٣١.

(٤) الضَمِن: المصاب بعاهة أو علّة. اللسان (ضمن).

(٥) مختصر تاريخ دمشق ٢٥: ١٧٤.

٦٣٤

الجارَ بالجار، والله يقول:( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (١) .

شدّته على الشيعة

وقد علمتَ دستور ابن هند في لعن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام والبراءة منه ولعن شيعته؛ فعمل ابن سميّة بذلك ومضى به بعيداً.

عن الحسن قال: تتبّع زياد شيعة عليّ بن أبي طالب يقتلهم، فقال الحسن: أللّهمَّ تَفَرَّدْ بمَوْتِهِ فإنَّ القَتْلَ كَفَّارَةٌ(٢) .

قالوا: وبنى زياد مساجد لشيعة بني أميّة ومن يُبغض عليًّا، فمنها مسجد بني عَديّ - قوم عمر بن الخطّاب -، ومسجد بني مجاشع، ومسجد الأساورة، ومسجد الحُدّان، وكان لا يدع أحداً يبني بقُرب مسجد الجماعة مسجداً، فكان مسجد بني عَديّ أقربها منها(٣) .

شهادة حُجر بن عَديّ وأصحابه

من الموبقات العظمى التي اشترك فيها ابن سميّة وابن هند قتلهم خيار أهل الكوفة (حُجر بن عُديّ، وأصحابه الكرام) قتلوا بمَرْج عَذراء، وكان حُجر هو الذي فتحها.

عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، قال: يا أهل الكوفة، سيُقتل منكم سبعة نفر خياركم، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود، منهم حُجْر بن الأدبر وأصحابه(٤) .

وعن عائشة قالت: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: سيُقتل بعذراء ناس يغضب الله

____________________

(١) الإسراء: ١٥.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٢١٢.

(٣) نفس المصدر السابق: ٢٣٩.

(٤) مختصر تاريخ دمشق ٦: ٢٤١.

٦٣٥

لهم وأهل السماء(١) .

قال معاوية: ما قتلتُ أحداً إلّا وأنا أعلم فيمَ قتلتُه، وما أردتُ به، إلّا حجر بن عديّ، فإنّي لا أعرفُ فيمَ قتلتُه(٢) .

قال أبوبكر بن عياش:

دخل عبد الله بن يزيد بن أسد على معاوية وهو في مرضه الذي مات فيه، فرأى منه جزعاً فقال: ما يجزعك يا أمير... إن متَّ؟ قال: الجنّة. وإن عشتَ، فقد علِمَ الله حاجة الناس إليك. قال: رحم الله أباك إن كان لناصحاً، نهاني عن قتل ابن الأدبر يعني حُجْراً، ثمّ عاده عبد الله بن يزيد فعاد معاوية مثل ذلك القول(٣) .

وكان يُقال: أوّلُ ذلّ دخل على الكوفة قتل حُجر بن عديّ(٤) .

شهادةُ (مَن عنده علمُ الكتاب) بمقتل سبعة من أهل الكوفة هم خيارهم، فمثلُهم مثلُ أصحاب الأُخدود الذي ذكرهم القرآن الكريم، منهم حجر وأصحابه؛ فهم شهداء حقٍّ قاتلُهم في السعير؛ وقد وقع الأمر كما أنبأ به أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ولو لم يكن الأمر على ما أخبر لبطلت إمامته.

وقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غضب الله تعالى وأهل السماء لشهداء مرج عذراء، من أعلام النبوّة أوّلاً، وعظم جريمة الأبناء: ابن هند وابن سميّة وعُلُوّ منزلة حجر وأصحابه عند الله تعالى، ثانياً.

وأمّا كلام ابن هند في حُجْر، فهو من باب: حتّى إذا حَضَرَ أحَدَهُم الـْمُوْتُ قال آمنتُ!

____________________

(١) مختصر تاريخ دمشق ٦: ٢٤١.

(٢) نفس المصدر السابق: ٢٤٢.

(٣) نفس المصدر السابق.

(٤) نفس المصدر السابق: ٢٤٠.

٦٣٦

فإنّ ابن هند أمر ابن سميّة، ومن قبله المغيرة بلعن أمير المؤمنين والنيل منه وإقصاء شيعته ولعنهم...، ومن قبل حرب صفّين. والآن وقد حضره الموت، ولات حين نَدْم، إذ يرى مقعده من جهنّم، أظهر ندمه على قتله حجر؛ فكيف بعمّار الذي قتلته الفئة الباغية، وقد جعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علامةً على حقّ الفئة التي يُقتل فيها لأنّه مع الحقّ والحقّ معه وهل عليّعليه‌السلام إلّا الحقّ ومن يُقاتله الباطل، وقد قاتله ابنُ هِند؟! ولم يقفْ عند هذا، بل جعل من سبّ عليّ والبراءة منه سُنّةً بعد الصلاة؛ وسبُّ عليٍّ والبراءة منه سبّ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبراءة منهما. ولقد تتبّع شيعة عليّ في كلّ مكان بين حبس وتشريد وقتل. والمؤمنُ أعظمُ حرمةً من الكعبة كما في حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أقام المغيرة بن شُعْبَة بالكوفة والياً لمعاوية تسع سنين لا يدع ذمّ عليّ والوقيعة فيه(١) . وقد ذكرنا ما كان بينه وبين حجر. وأمّا الطبريّ فقد ذكر أنّ المغيرة كان لا يدع ذمّ عليّ والوقوع فيه والعيب لقتلة عثمان واللعن لهم والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار والتزكية لأصحابه، فكان حجر بن عديّ إذا سمع ذلك قال: بل إيّاكم فذمّم الله ولعن. ثمّ قال: إنّ الله عزّ وجلّ يقول:( كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للّهِ ) (٢) وأنا أشهد أنّ من تذمّون وتعيّرون لَأَحقُّ بالفضل وأنّ مَن تزكّون وتطرون أولى بالذمّ. فيقول له المغيرة: يا حجر، لقد رُمي بسهمِك إذ كنتُ أنا الوالي عليك. يا حجر ويحك اتّق السلطان، اتّق غضبَه وسطوته، فإنّ غضْبةَ السلطان أحياناً ممّا يهلك أمثالك كثيراً ثمّ يكفّ عنه ويصفح حتّى كان في آخر إمارته قام المغيرة فقال في عليّ وعثمان كما كان يقول وكانت مقالته: أللّهم ارحم عثمان بن عفّان وتجاوز عنه واجزه بأحسن عمله،

____________________

(١) في تاريخ الطبري ٤: ١٨٨ (سبع سنين وأشهراً).

(٢) النساء: ١٣٥.

٦٣٧

فإنّه عمل بكتابك واتّبع سنّة نبيّكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجمع كلمتنا وحقن دماءنا وقُتل مظلوماً، أللّهم فارحم أنصاره وأولياءه ومحبّيه والطالبين بدمه... ويدعو على قتلته.

فقام حجر بن عديّ فنعَرَ نَعْرةً بالمغيرة سمعها كلّ مَن كان في المسجد وخارجاً منه وقال: إنّك لا تدري بمن تُوَلِّعْ من هرمك أيّها الإنسان مُرْ لنا بأرزاقنا وأعطياتنا فإنّك قد حبستها عنّا وليس ذلك لك ولم يكن يطمع بذلك مَن كان قبلك. قد أصبحتَ مولعاً بذمِّ المؤمنين وتقريظ المجرمين. فقام معه أكثر من ثلثي الناس يقولون صدق والله حُجر وبَرَّ، مُرْ لنا بأرزاقنا وأُعطياتنا فإنّا لا ننتفع بقولك هذا ولا يجدي علينا شيئاً وأكثروا في مثل هذا القول ونحوه.

فنزل المغيرة فدخل واستأذن عليه قومُه فأذن لهم فقالوا علامَ تترك هذا الرجل يقول هذه المقالة ويجترئ عليك في سلطانك هذه الجرأة، إنّك تجمع على نفسك بهذا خصلتين أمّا أوّلهما فتهوين سلطانك، وأمّا الأخرى: فإنّ ذلك إن بلغ معاوية كان أسخط له عليه...، فقال لهم المغيرة: إنّي قد قتلته، إنّه سيأتي أميرٌ بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيهاً بما ترونه يصنع بي فيأخذه عند أوّل وهلة فيقتله شرّ قتْلةٍ...(١) (ثمّ ذكر ما ذكره البلاذريّ).

ولـمّا مات المغيرة سنة (٥٠)(٢) وقيل (٥١)(٣) جُمعت البصرة والكوفة لزياد؛ فيما ذكر ابن عساكر عن يونس بن عبيد: إنّ معاوية عزل المغيرة واستعمل زياداً(٤) ، فلمّا قدم زياد الكوفة، دعا حُجر بن عديّ فقال: يا أبا عبد الرحمن، كيف تعلم حبّي لعليّ؟ قال:

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤: ١٨٨ - ١٨٩ مع اختلاف كثير عمّا ذكرناه عن البلاذري.

(٢) أنساب الأشراف ٥: ٢٥٣.

(٣) تاريخ الطبري ٤: ١٨٩.

(٤) مختصر تاريخ دمشق ٦: ٢٣٦.

٦٣٨

شديداً. قال: فإنّ ذلك قد انسلخ أجمع فصار بُغضاً! فلا تكلّمني بشيء أكرهه، فإنّي أحذّرك(١) .

ما الذي غيّر حبّ ابن سمية الشديد لعليّعليه‌السلام إلى بغض، وهو يعلم أنّ حبّ عليّ إيمان وبغضه نفاق، فمن أحبّه دخل الجنّة، ومن أبغضه دخل النار، وقد تكلّمنا عن الحديث؛ هل هو تفضّل ابن هند عليه إذ نقله من الجنة إلى النار! إذ نقل نسبه إلى أبي سفيان، فقبل كلام ابن هند وترك كلام الله تعالى بدعوة الناس إلى آبائهم؛ فحلّت به لعنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ لعن من انتفى من أبيه وانتسب إلى غيره وغير مواليه؛ وما الذي زاده هذا النسب غير الفضيحة والعار وخسارة الدنيا والآخرة؟! وهل كان أبو سفيان - على ضوء ما عرضنا بعض سيرته - إلّا مَن يأنف منه الشريف؟ ومتى صار زياد بن سميّة، وفي أحسن الأحوال: ابن عُبيد، وابن أبيه! أخاً لمعاوية وهو مثله ابن أبيه، وابن أربع، وابن الـمُغنّي: الصُّبّاح -. ألهذا ولنقله من القلم إلى المنبر، وبهذا يشتمه ابن هند وابن ميسون إن غضبا عليه؛ فبهذا صار حبّه الشديد! لأمير المؤمنين وسيّد الوصيّين ونفس رسول الله وأخيه، بغضاً شديداً، وطاعةً عَمياء لمن يُدانيه في النقيصة ويماثله في الخَسيسة؟!

والأخبار في شهادته كثيرة لـما عُرف عنه من لزومه الحقّ ومقارعته الباطل. وقبل ذكر أخبار نذكر ترجمته:

حُجر بن عَديّ بن جَبَلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين بن الحارث بن معاوية بن ثَوْر بن مَرتع بن معاوية بن كِندة بن عُفَيْر بن عَدي بن الحارث بن مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عُرَيب بن زيد بن كهلان بن سبأ(٢) . وهو حُجر الخير، وأبوه

____________________

(١) نفس المصدر السابق: ٢٣٦ - ٢٣٧.

(٢) طبقات ابن سعد ٦: ٢١٨، مختصر تاريخ دمشق ٦: ٢٣٥، جمهرة أنساب العرب: ٤٢٦.

٦٣٩

عَدِيّ الأدبر طُعن مولّياً فسُمّي الأدبر. وفد على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أخيه هانئ بن عديّ، وشهد حُجر القادسيّة وهو الذي افتتح مَرْج عَذْرى - عذراء -، عداده في أهل الكوفة. وكان من أصحاب عليّ بن أبي طالب وشهد معه الجمل وصفّين(١) .

قُتل وأصحابُه شهداءً بمرج عذراء، قتلهم ابن هند، ومسجد قبره بها معروف(٢) .

وابناه عبيد الله، وعبد الرحمن، قتلهما الناصبيّ مصعب بن الزبير صبراً، وكانا يتشيّعان. وكان حجر ثقةً معروفاً(٣) .

قال أبو معشر: كان حجر بن عديّ رجلاً من كندة، وكان عابداً. قال: ولم يُحدث قطُّ إلّا توضّأ، وما توضّأ إلّا صلّى(٤) .

ذكر ابن سعد، فقال: لـمّا قدم زياد والياً على الكوفة دعا بحُجر بن عديّ، فقال: تعلم أنّي أعرفك! وقد كنت أنا وإيّاك على ما قد علمتَ، يعني من حبّ عليّ بن أبي طالب، وإنّه قد جاء غير ذلك، وإنّي أنشدك الله أن تقطر لي من دمك قطرة فاستفرغه كلّه، أمْلِكْ عليك لسانك وليَسَعْك بيتُك، وهذا سريري فهو مجلسك، وحوائجك مقضيّة لديّ فاكفني نفسَك فإنّي أعرف عجلتك، فأنشدك الله يا أبا عبد الرحمن في نفسك، وإيّاك وهؤلاء السفلة وهؤلاء السفهاء أن يستزلّوك عن رأيك فإنّك لو هُنتَ عليَّ أو استخففتُ بحقّك لم أخصّك بهذا من نفسي.

فقال حُجْر: قد فهمتُ. ثمّ انصرف إلى منزله، فأتاه إخوانه من الشيعة فقالوا: ما قال لك؟ فأخبرهم. قالوا: ما نصح لك. فأقام وفيه بعض الاعتراض وكانت الشيعة

____________________

(١) المصادر جميعاً.

(٢) مختصر تاريخ دمشق ٦: ٢٣٥.

(٣) نفس المصدر السابق: ٢٣٦.

(٤) نفس المصدر السابق.

٦٤٠