شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء ٣

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية0%

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية مؤلف:
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 697

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

مؤلف: حبيب طاهر الشمري
تصنيف:

الصفحات: 697
المشاهدات: 182635
تحميل: 4444

توضيحات:

الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 697 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 182635 / تحميل: 4444
الحجم الحجم الحجم
شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية

شهداء الإسلام من سنة 40 إلى 51 الهجرية الجزء 3

مؤلف:
العربية

الحوأب! ولقد غلط فيما أخبرك به. ولحقها طلحة فأقسم أنّ ذلك ليس الحوأب، وشهد معهم خمسون رجلاً ممّن كان معهم، فكان ذلك أوّل شهادة زور في الإسلام(١) .

أتباع البعير يتشاحّون في الصلاة!

وكان مؤذّنهم مروان بن الحكم فقال: من أدعو للصلاة؟ فقال ابن الزبير: ادع أبا عبد الله، وقال محمّد بن طلحة: ادع أبا محمّد. فقالت عائشة: ما لنا ولك يا مروان؟ أتريد أن تغري بين القوم وتحمل بعضهم على بعض؟! ليصلّ أكبرهما، فصلّى الزبير(٢) .

____________________

(١) مروج الذهب ٢: ٣٥٨، تاريخ الطبريّ ٣: ٣٧٥، الفتوح ٢: ٢٨٨، أنساب الأشراف ٣: ٢٤. وفي (المعيار والموازنة، للإسكافيّ ت ٢٢٠ هـ): عن ابن عبّاس قال: طرقت عائشة ومن معها ماء الحوأب ليلاً، فنبحتهم كلاب الحوأب، فنفرت صِعابُ إبلهم..، قالت عائشة: أيّ ماء هذا!؟ فقال محمّد بن طلحة وعبد الله بن الزبير: هذا ماء الحوأب، فقالت عائشة: رُدّوني رُدّوني والله لا صحبتكم، إنّي سمعت رسول الله يقول: (كأنّي بكلاب ماء يدعى الحوأب قد نبحت على امرأة من نسائي وهي في فئة باغية)، ثمّ قال: (لعلّك أنت يا حميراء)، قالت: ثمّ دعا عليًّا ناجاه بما شاء. ردّوني، فقال لها الزبير: مهلاً يرحمك الله، يراك الناس والمسلمون فيصلح الله ذات بينهم. وقال طلحة: ليس هذا بحين رجوع. ثمّ جاء عبد الله بن الزبير فقال: ليس هذا بماء الحوأب وحلف لها على ذلك قالت: وهل من شاهد؟ فأقاموا لها خمسين رجلاً من الأعراب يشهدون أنّه ليس ماء الحوأب، وجعلوا لهم - جعلاً -، أي مالاً، وكانت أوّل شهادة زور أقيمت في الإسلام. المصدر ٥٥. وفي المصنّف، لابن أبي شيبة ٧: ٥٣٨ / ٣٧٧٤ عن ابن عبّاس قال قال رسول الله: (أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبب يقتل حولها قتلى كثيرة بعد ما كادت) وفيه برقم ٣٧٧٧ عن أبي بكرة قيل له: ما منعك أن تكون قاتلت على بصيرتك يوم الجمل؟ قال: سمعت رسول الله يقول: (يخرج قوم لا يفلحون، قائدهم امرأة). فهلّا سمعت عائشة هذه الأحاديث أم أنّ الفلاح لها وهم الخاسرون؟

(٢) المعيار والموازنة: ٥٦، مروج الذهب ٢: ٣٥٨. ولقد أنبأ أمير المؤمنين عن حال الرجلين إذ خطب بعد أن بلغه مسيرهم فقال: (قد سارت عائشة وطلحة والزبير، وكلّ يدّعي الأمر دون صاحبه، يطلبه طلحة لأنّه ابن عمّ عائشة، ولا يرى الزبير إلّا أنّه أحقّ بالخلافة لأنّه ختن عائشة. فوالله لئن ظفروا بما يريدون، ولا يرون ذلك أبداً ليضربنّ طلحة عنق الزبير، والزبير عنق طلحة، تنازعاً شديداً على الملك!) (المعيار والموازنة: ٥٣).

هيهات هيهات! أن يقسم أبو الحسنعليه‌السلام على شيء باطلاً، فتنازع الرجلان الصلاة وقتلا ولم يَصِلا إلى شيء سوى العار فالنار.

٨١

وقيل: أمرت عبد الله بن الزبير ومحمّد بن طلحة بالصلاة، فكان أحدهما يصلّي بالناس صلاة والآخر يصلّي بالناس صلاة(١) . (وتشاحّ طلحة والزبير في الصلاة بالناس، ثمّ اتّفقوا على أن يصلّي بالناس عبد الله بن الزبير يوماً، ومحمّد بن طلحة يوماً، في خطب كان بين طلحة والزبير إلى أن اتّفقا على ما وصفنا)(٢) .

إنّ الخوارج لا دين لهم! فزعيم القوم لم يردعها ما سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتحذيره لها، فعصته، ومعصية النبيّ معصية لله مع سبق الإصرار، فهل تنفع والحال هذه توبة، مع لحاظ أنّ الخروج على من تجب طاعته وهو نفس رسول الله وأخوه ومن بيده عقدة نكاحها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...، فمضت على غير بصيرة وقد اعتراها الشيطان! فلمّا نبحتها كلاب ماء الحوأب وسألت: فشهد لها ابن أختها عبد الله، وابن ابن عمّها محمّد أنّه ماء الحوأب، شاء الشيطان أن يجعلهم في اختبار فخلّى عنهم هنيعة! فقالت زعيمة القوم: لا صحبتكم ردّوني، وذكرت لهم حديث رسول الله في خروجها في فئة باغية...، فتصدّى لها الحوراي طالباً منها الثبات ليراها الناس فيصلح أمرهم. واتّخذها وصاحبه طلحة سلعة للوصول إلى أمر ماتا دونه! وأمّا العائذ ابن الحواري فعاد إليها ليكذب عليها ويغيّر قوله الأوّل فقال: ليس هذا ماء الحوأب وحلف على ذلك، ثمّ أعطوا رشوةً إلى أعراب شهدوا لها أنّه ليس ماء الحوأب.

والخوارج هؤلاء لم ينالوا شيئاً بعد أن تنازعوا على إمامة الصلاة؛ فماذا سيكون أمرهم لو آلت الخلافة إليهم؟! إلّا أن يقطع الزبير رأس طلحة، وطلحة يفعل ذلك بالزبير، وليس لعائشة حينئذ إلّا أن تستأجر فيلاً تركبه وتصرخ قتل فلان مظلوماً لآخذنّ بثاره!

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢٤.

(٢) الفتوح ٢: ٢٩٠.

٨٢

وعلى ذكر الصلاة: هل يقبل الله تعالى صلاة قوم يقام عليهم إمام بالفرض والجبر؟!

إفحام عائشة في الحوار

ما يصدر من باطل لا يصمد لحقّ. فلقد هزمت عائشة في حوارها لأمّ سلمة.

ولمّا قربت عائشة من البصرة بعث إليها عثمان بن حنيف والي أمير المؤمنين علىعليه‌السلام البصرة عمران بن الحصين الخزاعيّ، وأبا الأسود الدّؤليّ، فلقياهم بحفر أبي موسى، فلمّا دخلا عليها قالا لها: يا أمّ المؤمنين! أبعهد من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرجت من بيتك؟ ألم يبايع الناس لابن عمّ نبيّهم ووصيّ رسولهم وخير من تعلمون؟ فتركت بلد رسول الله وحرمه وأتيت البصرة؟! قالت: جئنا نطلب بدم عثمان! فقال لها عمران بن حصين: ليس بالبصرة أحد من قتلة عثمان! قالت: لكنّهم مع عليّ بن أبي طالب فجئنا نقاتلهم فيمن تبعنا من أهل البصرة وغيرهم!! غضبنا لكم من السوط والعصا على عثمان، ولا نغضب لعثمان على السيف؟! فقالا لها: وما أنت من سيفنا وسوطنا وسوط عثمان وعصاه؟ إنّما أنت حبيسة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أمرك أن تقرّي في بيتك وتذكري ما يتلى فيه من آيات ربّك، فتركتِ ذلك وجئتِ تضربين الناس بعضهم ببعض! ولست من طلب الدماء وحضور القتال في شيء، وعليّ أولى بعثمان منكِ. فقالت: وهل أحد يقاتلني؟ قالا: إي والله قتالاً أهوَلُه الشديد. فقالت: إنّما جئت مصلحة. فقال لها عمران بن حصين: اتّقي الله يا أمّ المؤمنين، فإنّ الله إنّما عظّمك وشرّفك في أعين الناس ببني هاشم، فاتّقي الله واحفظي قرابة عليّ من رسول الله وحبّه إيّاه؛ قد بايع الناس أباك ولم يخالف ولم ينكث، ثمّ جعله عمر سادس ستّة، ثمّ كان من أحداث

٨٣

عثمان وأمر الناس فيه ما قد علمت، وكنت أشدّ الناس فيه قولاً وأكثرهم عليه تحريضاً. ثمّ بايعه طلحة والزبير والناس، وأتتنا كتبهم بذلك فرضينا وبايعنا، فما الذي بدا لكم؟!

فلم يكن عندها شيء أكثر من أن قالت لهما: القيا طلحة(١) .

من خلال الحوار الماضي فإنّ عائشة تتحوّل من ذريعة إلى أخرى، وهذا شأن الباطل! فهي ادّعت أنّها جاءت البصرة طلباً لدم عثمان؛ فلمّا قيل لها: ليس فيها أحد منهم؛ تحوّلت إلى سبب آخر وهو أنّ أهل البصرة مع عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وآخرين منهم ليسوا معه فهي تقاتل بهم وبمن معها عليًّاعليه‌السلام وأصحابه من أهل البصرة. ثمّ أردفت بالقول: (غضبنا لكم من السوط والعصا على عثمان...)، وفيه اعتراف منها من قيامتها على سياسة عثمان وتحريضها عليه؛ ثمّ اتّهمت أمير المؤمنين بدم عثمان! فكان الجواب لها أنّها مخالفة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخروجها وأنّ عليًّا أولى بدم عثمان لأنّه أميرالؤمنين ووليّ الأمر.

فعادت إلى لهجة التحدّي فأجابها بأشدّ من لهجتها! فتحوّلت إلى مصلحة لا مقاتلة ولا طالبة ثأر! فذكّرها بجملة حقائق منها: أنّها قصارى جهدها وعظيم شرفها قربها من بني هاشم ولولا ذلك كانت ضاحية! وذلك أنّها واحدة من زوجات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرضها أبوها عليه فقبلها، وبكلمة واحدة تخرج من حياة رسول الله (طالق) أمّا أمّهات المؤمنين، فحكمة الله تعالى اقتضت ذلك إذ حرم بذلك الزواج منهنّ بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولولا ذلك لكانت مصيبة!.

مقدّمات الجمل: ليس هذا مقام التاريخ لتلك الوقائع، ولكن ما نؤرّخ له من

____________________

(١) المعيار والموازنة: ٥٧ - ٥٨، أنساب الأشراف ٣: ٢٤ - ٢٥، تاريخ الطبريّ ٣: ٤٨٠.

٨٤

وقائع فيما بعد هو وليد هذه الأمور، ولولا تتابع سلسلة الخوارج لـما كان خارجة أهل الشأم وابن هند وعظائم الأمور، ثمّ ظهور خارجة المارقة، وتوالي العدوان على أئمّة الهدى واستباحة الحرمين في ثلاثة عهود!! ! ومتابعة شيعة عليّعليه‌السلام بالقتل اقتداءً بسيرة أبي بكر وعمر في الخروج على الله ورسوله ووليّه على ما أوضحنا ومروراً بالسقيفة والعدوان على الأنصار وتحريق بيت النبوّة والخروج على الله في كيفيّة التعامل لرافضيّ بيعة أبي بكر وما كان من خالد، وها هي عائشة على سرّ أبيها في الخروج وإعلانها أنّ بالبصرة شيعة لعليّ جاءت لتقتلهم!

ذو الخويصرة النجديّ، قال في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جملةً فخلّده التاريخ على أنّه الخارجي الأوّل، والمارقة لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فيهم وأنّ عليًّاعليه‌السلام ومعه أهل العراق يقتلونهم، والناكثون والقاسطون لأنّ النبيّ قال لعليّ وأمره بقتالهم؛ ولكن يبقى أولئك بمنأى عن تسمية الخروج مع علمنا بحالهم! فلنقل: إنّهم خرجوا بتأويل واجتهاد، وبعضهم تاب وندم كما حصل لأبي بكر لـمّا قال: ثلاثة فعلتهنّ وليتني لم أفعلهنّ وثلاثة تركتهنّ... إلى آخر قوله، وإنّ عائشة كانت كلّما ذكرت يوم الجمل بكت حتّى تبل خمارها، وكانت تحدّث ببعض فضائل عليّعليه‌السلام .

يوم الجمل الصغير

ويصلح تسميته بذلك، لأنّ طلحة والزبير وعائشة دخلوا المربد، حيٌّ قديم بالبصرة، وجاء عثمان بن حُنيف ومعه أهل البصرة. وخطب طلحة والزبير أنّ عثمان أحدث أحداثاً ثمّ أعتب لـمّا استعتب، وقُتل مظلوماً، واتّهما أمير المؤمنين بذلك فقال قائلون: نطِقا بالحقّ! وقال آخرون: كذبا، ولهما كانا أشدّ الناس على عثمان. وارتفعت الأصوات، وأُتي بعائشة على بعيرها، فتكلّمت فقالت: إنّ عثمان خليفتكم! قُتل

٨٥

مظلوماً بعد أن تاب إلى ربّه وخرج من ذنبه...، فينبغي في الحقّ أن يؤخذ قتلته فيقتلوا به ويجعل الأمر شورى!

فقال قائلون: صدقت، وقال آخرون: كذبت... فصاروا فرقتين، فرقة مع عائشة، وفرقة مع ابن حُنيف وكان على خيل ابن حُنيف حكيم بن جَبَلة العبدي، وتأهّبوا للقتال. إنّ الذين صدّقوا الخوارج في أقوالهم هم الذين كانت إليها قيادة الخوارج تراهن عليهم في قتال أصحاب عليّ في البصرة. والخوارج لو تخلّوا عن مقولة توبة عثمان ولكنّ الناس قتلوه ظلماً، إذ بعد التوبة حوبة! لكان لهم خيراً؛ ذلك أنّهم كانوا أشدّ الناس عليه ومنعوه حتّى من الماء الذي أدخله إليه رغم أنوفهم! عليّ أمير المؤمنينعليه‌السلام وعائشة أظهرت السرور لـمّا بلغها مقتل عثمان؛ فأولى الناس أن يؤخذ بقتل عثمان هم هؤلاء الخوارج الذين الناس لهم تبع:

وأقبل جارية بن قدامة السعديّ فقال: يا أمّ المؤمنين، والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على الجمل الملعون عرضةً للسلاح؛ إنّه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكتِ ستركِ وأبحتِ حرمتك. إنّه مَن رأى قتالك فإنّه يرى قتْلَك؛ إن كنت أتيتينا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتينا مستكرهة فاستعيني بالناس. وله شعر في هتك طلحة والزبير لحرمة عائشة.

عن الزهريّ قال: لـمّا قدم طلحة والزبير البصرة أتاهما عبد الله بن حكيم التميميّ بكتب كتبها طلحة إليهم يؤلّبهم فيها على عثمان، فقال له حكيم: أتعرف هذه الكتب؟ قال: نعم. قال: فما حملك على التأليب عليه أمس والطلب بدمه اليوم؟ فقال: لم أجد في أمر عثمان شيئاً إلّا التوبة والطلب بدمه!(١)

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢٨.

٨٦

( فَتُوبُوا إِلَى‏ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ ) (١) .

غدر الخوارج: وليس عليهم بجديد! بدأوا حياتهم وأنهوها بذلك. تأهّب الخوارج للقتال، فقام طلحة والزبير خطيبين - فكذبا! - فقالا: يا أهل البصرة توبة بحوبة، إنّما أردنا أن يستعتب أمير المؤمنين عثمان!! ولم نرد قتله فغلب سفهاء الناس الحلماء حتّى قتلوه. فقال الناس لطلحة: قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا! فقال الزبير: فهل جاءكم منّي كتاب في شأنه؟ ثمّ ذكر قتل عثمان... وأظهر عيب عليّ! فقام إليه رجل من عبد القيس، فحاجّ الزبير في مجريات الخلافة، وإنّهم رضوا بما رضى به المهاجرون انتهاءً ببيعتهم لعليّ ونكثهم لها، طالباً سبباً وجيهاً لهذا الإنقلاب ليكونوا معهم على عليّ! فهمّوا بقتله، فقام من دونه عشيرته، فلمّا كان الغد وثبوا عليه وعلى من معه فقتلوا سبعين رجلاً(٢) .

غدر آخر: وزحف إليهم عثمان بن حنيف فقاتلهم أشدّ القتال، فكثرت بينهم القتلى وفشت الجراح. ثمّ إنّهم تداعوا إلى الصّلح فكتبوا بينهم كتاباً بالموادعة إلى قدوم عليّعليه‌السلام ، على أن لا يعرض بعضهم لبعض في سوق ولا مشرعة، وأنّ لعثمان بن حنيف دار الإمارة وبيت المال والمسجد. فلمّا كان في بعض الليالي بيّتوا عثمان بن حنيف وهو يصلّي بالناس العشاء الآخرة فأسروه، وأمرت عائشة بقتله! ثمّ إنّ القوم استرجعوا وخافوا على مخُلَّفيهم بالمدينة من أخيه سهل بن حنيف وغيره من الأنصار. فاكتفوا بضربه وحلقوا راسه ونتفوا لحيته وشاربيه وأشفار عينيه، ثمّ حبسوه. وأرادوا

____________________

(١) البقرة: ٥٤.

(٢) أنساب الأشراف ٣ ذ: ٢٨، تاريخ الطبريّ ٣: ٤٨٦، موجزاً.

٨٧

بيتَ المال فمانعهم الخزّان والموكّلون به، فقتل من الخزّان سبعون رجلاً، خمسون منهم ضربت أعناقهم صبراً من بعد الأسر، غير مَن جُرح.

وركب حكيم بن جبلة العبديّ، معه إخوته: الرَّعل، والأشرف ابنا جَبَلة، في ثلاثمائة رجل، فطلب من طلحة والزبير أن يحلاّ عثمان بن حنيف ويرجع إلى دار الإمارة وبيت المال، فأبوا عليه ذلك ووقع القتال، فقتل حكيم والرَّعل والأشرف أبناء جبلة، وقتل من قوم حكيم سبعون رجلاً. وكانت الوقعة لخمس بقين من ربيع الآخر سنة ستّ وثلاثين.

وقفة قصيرة مع الخوارج

لمّا أتاهم من يقدّم إليهم كتب طلحة أحد العشرة المبشّرة! يؤلّب أهل البصرة فيها على عثمان، لم يكن عند طلحة إلّا أن يقول: لم أجد في أمر عثمان شيئاً إلّا التوبة والطلب بدمه! فكان عليه أن يبدأ بعائشة والزبير، ثمّ يضع ظبة سيفه في بطنه فيتّكئ عليه؛ ذلك أزكى له. ومتى كان عثمان عند الخوارج (أميرالمؤمنين)...، وإنّما هو عندهم نعثل؛ ولذا تصدّى له الناس بقولهم: قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا؛ فما أصفق وجهه!

وأيّ عيب يا ابن العوّام القبطيّ وقد أدنتك صفيّة بنت عبد المطّلب الهاشميّة وعمّة الشمس الساطعة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فأدنتك من الظلّ ولولاها كنت ضاحية! وأيّ عيب في عليّ تذكره...؟!

وحالة الغدر التي اتّسم بها الخوارج، من غدرهم بعثمان، إلى نفاقهم في الطلب بدمه من ناصره! إلى غدرهم ببني عبد القيس فقتلوا منهم سبعين رجلاً؛ إلى خيانتهم للعهد بينهم وبين عثمان بن حنيف وما أحدثوه به. فقتلهم لسبعين آخرين هم خزّان

٨٨

بيت مال لأنّهم دافعوا السرّاق الخوارج عن بيت مال المسلمين! ثمّ قتلوا حكيم والرعل والأشرف وسبعين رجلاً من قوم حكيم؛ ولو أمهلهم أبو الحسنعليه‌السلام أكثر لأوغلوا في الدماء أكثر.

مسير أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى العراق

بلغ أمير المؤمنين ما أحدثه الخوارج البغاة من الناكثين وغيرهم، فسار في سبعمائة من المهاجرين والأنصار، منهم سبعون بدريّاً، واستخلف على المدينة سهل بن حنيف.

وسار إليه من أهل الكوفة تسعة آلاف، وتوارد عليه ستّة آلاف من أهل المدينة والحجاز وأهل مصر، وجعل الناس يجتمعون إليه حتّى صاروا في تسعة عشر ألف رجل - ليس فيهم امرأة! -.

مبدأ أمير المؤمنين فيعليه‌السلام القتال

لقد بدأنا بهذا العنوان ولم نفِه حقَّه؛ أمرعليه‌السلام أصحابه أن يُصافّوهم ولا يبدأوهم بقتال ولا يرموهم بسهم ولا يضربوهم بسيف ولا يطعنوهم برمح وأن لا يجهزوا على جريح ولا يمثّلوا بقتيل، ولا يدخلوا داراً بغير إذن، ولا يشتموا أحداً ولا يلحقوا مدبراً ولا يهيجوا امرأة، ولا يأخذوا إلّا ما في عسكرهم ولا يكشفوا عورة، ولا يهتكوا ستراً.

أين هذا من مبدأ الخوارج على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو في السقيفة وما بعدها ومروراً بمبدأ التحريق والعدوان على الأنصار، والقتل العام للقبائل المسلمة وسبي نسائهم وذراريهم وحرقهم. وانتهاءً بأفعال الخوارج يوم الجمل الصغير؛ فكان لأميرالمؤمنين أن يبدأهم القتال ولم يفعل وتلى على أصحابه إرشاداته السامية ثمّ قال لأصحابه:

٨٩

(أيّكم يعرض عليهم هذا المصحف وما فيه، فإن قطعت يده أخذه باليد الأخرى! وإن قطعت أخذه بأسنانه؟) قال فتىً شاب يقال له: مسلم المجاشعيّ من تميم: أنا، فقال له أميرالمؤمنين: (أعرض عليهم هذا وقل: هو بيننا وبينكم من أوّله إلى آخره، والله في دمائنا ودمائكم). فحمل الفتى وفي يده المصحف فقطعت يداه فأخذه بأسنانه حتّى قتل. ورمى أصحابُ أصحابَ أمير المؤمنين فعقروا منهم جماعة، ثمّ جيء برجل من أصحابهعليه‌السلام قد رمي بسهم فقتل؛ فقال: (أللّهم اشهد). ثمّ أذن بالقتال وهو يقول: (الآن طاب الضّراب)....

قتل في المعركة من رؤوس الخوارج الزبير بن العوّام، وطلحة، قتله مروان كما ذكرنا! وهلك من الخوارج عشرون ألفاً؛ واستشهد من أصحاب أمير المؤمنين ألف وسبعون شهيداً. وبعد الوقعة نادى أمير المؤمنينعليه‌السلام في أصحابه: (لا تتّبعوا مولّياً ولا تجهزوا على جريح ولا تنتهبوا مالاً، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن). - فله في النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة -.

تسيير عائشة

بعث أميرالؤمنينعليه‌السلام عبد الله بن عبّاس إلى عائشة يأمرها بالخروج إلى المدينة، فدخل عليها بغير إذنها، واجتذب وسادة فجلس عليها، فقالت له: يا ابن عبّاس، أخطأت السنّة المأمور بها دخلت إلينا بغير إذننا، وجلست على رحلنا بغير أمرنا! فقال لها: لو كنت في البيت الذي خلّفك فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما دخلنا إلّا بإذنك وما جلسنا على رحلك إلّا بأمرك وإنّ أمير المؤمنين يأمرك بسرعة الأوبة والتأهّب للخروج إلى المدينة، فقالت: أبيت ما قلت وخالفت ما وصفت، فمضى إلى أمير المؤمنين فخبّره

٩٠

بامتناعها، فردّه إليها وقال: إنّ أمير المؤمنين يعزم عليك أن ترجعي؛ فأنعمت وأجابت إلى الخروج.

عجب لمنطق الخوارج! امرأة من عرض النساء خاملة الذكر، فلمّا مدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظلّه عليها صارت أمّ المؤمنين، مأمورة قرآناً وسنّةً أن تقرّ في بيتها، وقد حذّرها النبيّ من خروجها هذا، وذكّرتها أمّ المؤمنين أمّ سلمة؛ فمضت في مشروعها غيّاً بعد أن تمّ لها ما أرادت في عثمان! وهي تحتجّ على ابن عبّاس أن يدخل من غير إذن ويجلس على الرحل بغير أمر منها! غير ملتفتة إلى أنّها وبدستور أبيها إلى خالد فهي سبيّة! ولعلّه يجري عليها القتل إذ هي صاحبة البعير المشؤوم والرأس في القيادة. إلّا أنّ أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام جهّزها وأتاها في اليوم الثاني فدخل عليها ومعه الحسن والحسين وباقي ولده وفتيان أهله من بني هاشم وغيرهم من شيعته من همدان، فلمّا بصرت به النسوان صحن في وجهه: يا قاتل الأحبّة! فقال: لو كنت قاتل الأحبّة لأمرت بقتل من في هذا البيت! وأشار إلى بيت من تلك البيوت قد اختفى فيه مروان بن الحكم وعبدالله بن الزبير وعبد الله بن عامر وغيرهم، فضرب من كان معه إلى قوائم سيوفهم لـمّا علموا من في البيت مخافة أن يخرجوا فيغتالوه. فسألته عائشة أن يؤمّن ابن أختها عبد الله فأمّنه وأمّن مروان والوليد بن عقبة وولد عثمان وغيرهم من بني أميّة وأمّن الناس جميعاً.

خروج عائشة من البصرة

وخرجت عائشة من البصرة وقد بعث معها أمير المؤمنين أخاها عبدالرحمن بن أبي بكر وثلاثين رجلاً وعشرين امرأة من ذوات الدين من عبد القيس وهمدان وغيرهما، ألبسهنّ العمائم وقلّدهنّ السيوف وقال لهنّ: (لا تعلمنّ عائشة أنّكنّ نسوة، وتلثَّمنَ

٩١

كأنّكنّ رجال وكنّ اللاتي تلين خدمتها وحملها). فلمّا أتت المدينة قيل لها: كيف كان مسيرك؟ قالت: كنت بخير والله، لقد اعطى عليّ بن أبي طالب فأكثر، ولكنّه بعث معي رجالاً أنكرتهم، فعرّفها النسوة أمرهنّ فقالت: ما ازددت يا ابن أبي طالب إلّا كرماً!(١)

ولم يختلف مبدأ أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام في قتاله الخوارج القاسطين يوم صفّين وفي كلّ موطن: (لا تقاتلوا القوم حتّى يبدؤوكم؛ فإنّكم بحمد الله على حجّة، وترككم إيّاهم حتّى يبدؤوكم حجّة أخرى لكم عليهم، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورةً، ولا تمثّلوا بقتيل. فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً ولا تدخلوا داراً إلّا بإذني، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلّا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأةً بأذىً وإن شتمن أعراضكم وتناولن أمراءكم وصلحاءكم، ولقد كنّا لنؤمر بالكفّ عنهنّ وإنّهنّ لمشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهليّة بالهراوة أو الحديد فيُعيّرُ بها عقِبُه من بعده).

هكذا في كلّ وقعة يوصي أبو الحسنعليه‌السلام بالمرأة، وأبوبكر يأمر خالداً بأسرها والذريّة، وعمر لا يرقّ قلبه لسيّدة نساء أهل الجنّةعليها‌السلام إذ تقول له وقد رأت بيده قبس النار والرجال يحملون الحطب: (أجئت لتحرق البيت علينا؟) فقال: نعم؛ وفعل! وعليّ يمنع من المثلة بالقتيل، وخوارج الجمل مثّلوا بالصحابيّ عثمان بن حنيف حيّاً! وهو يمنع من كشف عورة، وخوارج البغاة كشفوا عوراتهم يدفعون بها عن أنفسهم، فعل ذلك ابن هند، وابن النابغة، وبسر بن أبي أرطاة، يوم صفّين!

ومن المواقف المتباينة بين جبهة الحقّ والباطل يوم صفّين:

____________________

(١) أنساب الأشراف ٣: ٢٨ - ٥١، تاريخ الطبريّ ٣: ٥١٣ - ٥٤٨، الفتوح ٢: ٣٠٨ - ٣٤٣، مروج الذهب ٢: ٣٥٧ - ٣٧٢.

٩٢

فقد ذكرنا أنّ أمير المؤمنين قد نصر عثمان حيّاً وميّتاً! وكان أشدّ الناس عليه أصحاب البعير في أقوام آخرين، وكان ابن هند يقول: إنّ عثمان غيّر فغيّر الله عليه! ولذا لـمّا استنجده عثمان لم ينجده، وكان هو وأبناء عمومته من بني أميّة سبب نقمة الأقطار الإسلاميّة على عثمان، إذ كانوا ولاته فأفسدوا؛ فلمّا قتل عثمان، صار غنيمةً يطلب بدمه خوارج الناكثين ومن تبعهم؛ فلمّا انتهت الوقعة خرج ابن هند في عسكر الفئة الباغية يطلب بدم عثمان! ومن حوار جرى بينه وبين محمّد بن أبي حذيفة، وكان ابن خال معاوية؛ وكان من أنصار عليّعليه‌السلام وأشياعه ومن خيار المسلمين. فلمّا استشهد أمير المؤمنين أخذه معاوية وأراد قتله، فحبسه في السجن دهراً ثمّ قال ذات يوم: ألا ترسل إلى هذا السفيه فنبكّته ونخبره بضلاله ونأمره أن يسبّ عليًّا؟ قالوا: نعم. فبعث إليه فأخرجه من السجن فقال له: ألم يأن لك أن تبصر ما كنت عليه من الضلالة بنصرتك عليّ بن أبي طالب الكذّاب؟ ألم تعلم أنّ عثمان قتل مظلوماً، وأنّ عائشة وطلحة والزبير خرجوا يطلبون بدمه؟! قال محمّد بن حذيفة: إنّك تعلم أنّي أمسّ القوم بك رحماً وأعرفهم بك. قال: أجل. قال: فو الله الذي لا إله غيره ما أعلم أحداً شرك في دم عثمان وألّب عليه غيرك لـمـّا استعملك ومن كان مثلك، فسأله المهاجرون والأنصار أن يعزلك فأبى، ففعلوا به ما بلغك. ووالله ما شرك قتله بدئياً ولا أخيراً إلّا طلحة والزبير وعائشة؛ فهم الذين شهدوا عليه بالعظيمة - أي بالكفر! - وألّبوا عليه الناس، وشركهم في ذلك عبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، والأنصار جميعاً. قال: قد كان كذلك! قال: وإنّي لأشهد أنّك منذ عرفتك في الجاهليّة والإسلام لعلى خلق واحد ما زاد الإسلام فيك قليلاً ولا كثيراً، وإنّ علامة ذلك فيك لبيّنة، تلومني على حبّ عليّ! كما خرج مع عليّ كلّ صوّام قوّام مهاجريّ وأنصاريّ، وخرج معك أبناءُ

٩٣

المنافقين والطّلقاء والعتقاء، خدعتهم دينهم وخدعوك دنياك. والله يا معاوية ما خفي عليك ما صنعت، وما خفي عليهم ما صنعوا إذ أحلّوا أنفسهم بسخط الله في طاعتك. ووالله لا أزال أحبّ عليًّا، وأبغضك في الله ورسوله أبداً ما بقيت.

قال معاوية: وإنّي أراك على ضلالتك بعد، ردّوه فردّوه إلى السجن وهو يقرأ( رَبّ السّجْنُ أَحَبّ إِلَيّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) (١) فمات في السجن(٢) .

مبدأ عليّعليه‌السلام ، ومبدأ معاوية

إستولى ابن هند على شريعة ماء متفرّعة من الفرات ووكّل أبا الأعور السّلميّ بالشريعة مع أربعين ألفاً وقد أجمعوا أن يمنعوا عسكر أمير المؤمنين الماء، وبات جيش أمير المؤمنين عطاشاً، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: إنّ عليًّا لا يموت عطشاً هو وتسعون ألفاً من أهل العراق وسيوفهم على عواتقهم، ولكن دعهم يشربون ونشرب، فقال معاوية: لا والله أو يموتوا عطشاً كما مات عثمان!

ودعا أمير المؤمنين صعصعة بن صوحان فقال: (ائت معاوية فقل: إنّا سرنا مسيرنا هذا وأنا أكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، وإنّك قد قدمت بخيلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك ونحن من رأينا الكفّ حتّى ندعوك ونحتجّ عليك. وهذه أخرى فعلتموها: حلتم بين الناس وبين الماء فخلّ بينهم وبينه حتّى ننظر فيما بيننا وبينكم...)، وبعد مشاورة معاوية لمن معه قال: لا سقى الله معاوية ولا أباه من حوض محمّد إن شرب عليّ أو أصحابه من ماء الفرات أبداً إلّا أن يغلبوا عليه!

____________________

(١) يوسف: ٣٣.

(٢) رجال الكشيّ ١: ٢٨٦ - ٢٨٨.

٩٤

فانصرف صعصعة إلى عليّ فأخبره؛ فصبحهم أصحابُ عليّ واستعر على الماء القتال ولحقت الهزيمة بأهل الشأم وصار الماء بيد أصحاب عليّعليه‌السلام .

فقال عمرو بن العاص لمعاوية: ما ظنّك بالقوم اليوم إن منعوك الماء كما منعتهم أمس؟ فقال معاوية: دع ما مضى، ما ظنّك بعليّ؟ قال: ظنّي أنّه لا يستحلّ منك ما استحللت منه، لأنّه أتاك في غير أمر الماء، وقد كنت أشرت عليك في بدء الأمر أن لا تمنعه الماء، فخالفتني، فقلّدت نفسك عاراً يحدّث به إلى آخر الأبد.

وأمر أمير المؤمنين إلّا يمنع أهل الشام من الماء، فكانوا يسقون جميعاً، ويختلط بعضهم ببعض ويدخل بعضهم في معسكر بعض، فلا يعرض أحد من الفريقين لصاحبه إلّا بخير، ورجوا أن يقع الصّلح!(١)

ما هذا التفاوت بين ابن هند، وأميرالمؤمنين؛ فالأوّل يمنع الماء وأميرالمؤمنين يبيحه حتّى يصبح سلوكه هذا مبعث اطمئنان للفريقين. وعلى سرّ معاوية كان يزيد وجنده إذ حرّموا الماء على الحسينعليه‌السلام وعياله وسقوا الرضيع سهماً عوضاً عن الماء!

فتنة الخارجيّ الثالث

وضعنا النقاط على الحروف، فسمّينا الخوارج بأسمائهم وأشرنا إلى شيء من أفعالهم فوجدناهم غير التصنيف المتعارف عليه. ولولا الأسلاف لـما كان لابن تيميه خطره وفتنته الكبرى؛ ولولا أعراب نجد أتباع كلّ فتنة، لماتت فتنة ابن تيميه، فأحيوها من بعد هلاكه بعدّة قرون ديناً جديداً عقيدةً وتشريعاً يكفّر من سواه بيسر تحت عنوان: بدعة، وشرك....

____________________

(١) باختصار عن وقعة صفّين، لنصر بن مزاحم: ١٦٠ - ١٩٣.

٩٥

وقد أرجأنا الحديث عن هذا الخارجيّ الناصبيّ؛ لأنّه اختزل روح النَّصب الأمويّ وغير الأمويّ، حتّى أنّك تجد أولئك الذين حاربوا عليًّا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، يقرّون في مناسبات بفضائله، وينكرها ابن تيميه؛ فإذا وجد نفسه محرجاً! أمام فضيلة لأميرالمؤمنين قد ذكرها من لا يستطيع ردّهم، مع قلّة ذلك! تجده يقطع من الحديث شيئاً، ولا يجعله فضيلة خاصّة بهعليه‌السلام ، ثمّ يصرف الحديث إلى غير المعنى المستفاد محمّلاً إيّاه ما لا يحتمل! واللاّفت للنظر: إنّه كثير الدفاع عن بني أميّة شجرةً وأوراق صفراء طفيليّة حتّى يمكن القول: إنّه أمويّ محترق! وفي نفس الوقت فهو منافح عنيد عن الخوارج حتّى لتقول: إنّه إمام الخوارج غير مدافَع! كلّ ذلك ردّاً لفضائل أهل البيت وأميرالمؤمنين وشيعتهم؛ وكتابه (منهاج السّنّة) وهو أولى أن يكون (منهاج الضلالة) بأربعة أجزاء بدأه وختمه بالوقيعة بشيعة أهل بيت محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنكاره فضائل عليّ وأهل البيت المتواترة المجمع عليها.

وصاحب الفتنة هذه واحد من أبناء السوء؛ فابن حمامة، وابن أسماء، وابن هند، وابن النابغة، وابن الزرقاء، وابن سميّة، وابن مرجانة...؛ وابن تيميه:

وهو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن الخضر بن تيميه الحرّاني، ثمّ الدمشقيّ، حنبليّ النشأة. (٦٦١ - ٧٢٨ هـ)(١) .

وأسرته جميعاً إخواناً وأعماماً تنتهي عند (تيميه) وبها تعرف. وتيميه، امرأة وليست برجل. وقد جعل الإسلام النسب للأب لا للأمّ، وليس في تاريخ العرب أن تنتمي أسرة واسعة إلى امرأة. إلّا أنّ اليهود جعلت النسب للأمّهات.

____________________

(١) منهاج السنّة ١: ٢، علم الحديث: ٤١ كلاهما لابن تيميه؛ العقود الدريّة في مناقب ابن تيميه، لابن عبد الهادي السلفي: ٩، تاريخ ابن الوردي ٢: ٢٧٥، تذكرة الحفّاظ، للذهبيّ ٤: ١٤٩٦.

٩٦

وقصارى ما نعلمه عن تيميه أنّها واعظة(١) . وغير تيميه: كان محمّد بن الخضر المعروف بابن تيميه الحرّانيّ الواعظ الحنبليّ. توفّي بحرّان سنة (٥٤٢). قال سبط ابن الجوزي فيه: كان ضنيناً (أي حسوداً) متى نبغ بحرّان أحد لا يزال خلفه حتّى يخرجه ويبعده عنها(٢) .

وعن أمّه فهي: سِتُّ النِعَم بنت عَبْدوس الحرّانيّة، توفّيت بدمشق سنة ٧١٦ هـ، ولدت تسعة بنين، عرف منهم غير صاحب الترجمة، بدر الدين أخو الشيخ ابن تيميه، كان فقيهاً ساكناً قليل الشرّ! توفّي سنة (٧١٧)(٣) .

إنّ قول ابن الوردي السلفي (ت ٧٤٩ هـ) وهو معاصر لابن تيميه ومعجب به! قوله في أخيه بدر الدين: كان ساكناً قليل الشرّ، له دلالته لـما عُرف من سيرة أخيه أحمد ابن تيميه صاحب الفتنة.

ومثلما انقطع نسبه عند امرأة، فإنّ أمّه ومن اسمها تجدها هجيناً غير عربيّة. وقد رجّح أبو زهرة شيخ الأزهر أنّ ابن تيميه من الكرد، وبشأن أمّه قال: (ولم يذكر المؤرّخون شيئاً عن أمّه ولا قبيلها، وهي في الغالب ليست عربيّة)(٤) .

إنّ مثل هذه الأمور تختزن في نفس صاحبها لتتحوّل إلى عاهة تعيقه عن الحقّ وهكذا وجدنا الذين من قبله من ذوي العاهات بين دعيّ ومستلحق ومجهول النسب مضافاً لـما قصرت به الهمّة والعلم والورع، فحالف قرين السوء وعادى أولياء الله تعالى.

____________________

(١) المصادر جميعاً.

(٢) وفيات الأعيان، لابن خلّكان ٤: ٣٨٦ - ٣٨٨.

(٣) تاريخ ابن الوردي ٢: ٢٥٦.

(٤) ابن تيميه حياته وعصره، محمّد أبو زهرة: ١٩.

٩٧

ومن المفارقات في حياة ابن تيميه: إنّه بلغ من العمر سبعاً وستّين سنة حين وفاته ولم يتزوّج، ولا كان له من العلوم إلّا شيء قليل، وكان أخوه يقوم بمصالحه(١) .

رجل بلغ العقد السابع ولم يتزوّج، لماذا؟ هل فيه عيب خفيّ يعلمه فيخاف من عاقبة الزواج؟ أم الذي ذكره ابن الوردي الحنبليّ السلفيّ من أنّه كان كلًّا على أخيه، فهو القائم بمصالحه وعيشه، فيما هو منشغل بالنزاعات والخصومات، ومن هذا شأنه فهو في خوف من عالة الزوجة والذريّة إن كان له إمكان على الإنجاب.

وابن الوردي كان جريئاً فلم تمنعه حنبليّته ولا تلمذته على ابن تيميه أن يُقرّ أنّ أستاذه كان قليل العلم.

وإلى عُقَده وعاهاته، فإنّ بيئته وعامل الوراثة والتقلّبات السياسيّة والأجواء الدينيّة في عصره، زاد كلّ ذلك في أن ينزلق هذا المنزلق.

البيئة: تلاقحت حرّان ودمشق في تكوين شخصيّة ابن تيميه، ففي حرّان ولد وهي موطن آبائه، وأمضى بها سنيّه السبع الأولى، وهي المرحلة التي يكون ابن آدم أكثر استعداداً للتلقّي والتأثّر بمحيطه، ذلك أنّ تأثير البيئة أسرع وأشدّ من تأثير عامل التي على خطرها فإنّها غير مرتبطة بسنّ معيّنة. ولذا أعطى الإسلام عناية فائقة بهذه المرحلة من وجوب حسن التربية لأنّها أساس لـما بعدها. وكان العرب في جاهليّتهم يختارون لمواليدهم مرضعات من البادية ولا يستردّونهم حتّى يبلغوا السادسة، فكيف هي ملامح حران؟

حرّان موطن الصابئة من أقدم عصورها. ولسنا بصدد شرح الديانة الصابئيّة بقدر ذكر بعض طقوسهم المؤثّرة في نفوس من خالطهم: فلهم سراديب فيها أصنام...

____________________

(١) تاريخ ابن الوردي ٢: ٢٧٩.

٩٨

يأتون بالأطفال ويعرضونهم عليها، فيحدث لهم صُفْرةٌ لـما يسمعون من ظهور أنواع الأصوات وفنون اللغات من تلك الأصنام والأشخاص، بحيلٍ قد اتّخذت ومنافيخ قد عملت...، فيصطادون به العقول، وتسترقّ به الرقاب...(١) .

في مثل هذه البيئة عاش الخارجيّ ابن تيميه سنيّه السبع الأولى، أخطر مرحلة في حياته. ومهما بلغ الإنسان من عمره وارتقى في سلّم المعرفة، تبقى خواطر تلك المرحلة تداعب ذهنه وتهبط على نفسه وربّما أثّرت في سلوكه، وبقدر الحالة النفسيّة للصبيّ، يكون الجذب والطرد للمحيط الاجتماعي في تكوينه.

فإذا قيل: إنّ أسرته حنبليّة؛ فذلك غير شافع في تحصين وليدهم المتمرّد! لـما فيه من طباع الحدّة والعناد؛ ولم تكن أسرة علم بقدر ما هي أسرة وعظ في أحسن الأموال، مع مجاهيل كثيرة تُقال في الأسرة، وشرٍّ في أحدهم لا يُطاق وشرّ قليل في آخر، وذِكر خامل في آخرين؛ فهي أسرة لا ضابط لها أن تنشئ وليدها وتحصّنه من تلك المزالق، فانطبع بطابعهم من حيث التقلّب في المواقف والأقوال حتّى قال له القاضي المالكي في محاكمته: يا ابن تيميه! أنت مثل العصفور كلّما أردت أن أمسكك فررت من غصن إلى غصن.

وأثّرت تلك المرحلة من عمره في نسج أفكاره ومعتقداته بعد، من تشبيه وتجسيم لذات الله تعالى وأنّ له حرفاً وصوتاً وأعضاءً مثل الإنسان...، تعالى الله ربّنا عن ذلك علوّاً كبيراً، وعامل ابن تيميه والخوارج أتباعه بعدله.

وإذا كان هذا أثر البيئة في المرحلة الأولى من عمر الخارجيّ الناصبيّ ابن تيميه، فإنّ عاملاً محتملاً تؤكّده وتقوّيه كلماته التي لا يرقى إليه خارجة أسلافه في النيل - وأنّى له

____________________

(١) مروج الذهب ٢: ٢٣٧.

٩٩

ذلك! - من شخص أمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ ذلك هو عامل الوراثة؛ فقد ذكر ابن أعثم (ت ٣١٠ هـ) أنّ الخوارج الذين فلتوا يومَ النهروان، انتهى منهم ثلاثة إلى الجزيرة، واحد منهم حطّ رحاله على مشارف حرّان، وإنّ الخوارج أولئك كان نسلهم موجود إلى أيّام ابن أعثم. ولا توجد قرينة على انقراضهم، وعلى عكس ذلك فتلك الخوارج الإباضيّة في أيّامنا هذه، وتلك خارجة نجد؛ فلا يبعد أن يكون في دماء الأسرة أصول خارجيّة وابن تيميه يكاد يصرّح بذلك! هذا كتابه بأجزائه الأربعة مشحون بذكر الخوارج فيصفهم أهل دين وعبادة وصدق وأنّهم على الحقّ، وأمّا الشيعة فأهل باطل في كلّ ما يقولون....، ويصف أمير المؤمنين بالنفاق! والكفر! وطالب رياسة...، يقول كلّ ذلك ويلقيه على ألسنة الخوارج، بدعوى أنّهم أهل حقّ وحجّة فإذا قالوا ذلك لم يمكن الشيعة ردّهم. ثمّ يعمد إلى خصائص وفضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام فينكرها، وكما قلنا: ليس له إلّا أن يقول: وهذا كذب بالإجماع! ولا يذكر من ذلك الإجماع شيئاً، أو يقول: وهو كذب عند أهل العلم بالحديث! ولكثرة استعماله هاتين العبارتين: تصل إلى نتيجة مفادها إجماع نفسه الخبيثة، وأنّ أهل العلم بالحديث كذلك يعني نفسه التي وصفها ابن الورديّ بقلّة العلم! وإذا كانت حرّان بيئة ابن تيميه الأولى على ما وصفنا، فهي معقل بني أميّة فقد خضعت لسلطانهم وتأثّرت بآرائهم، وقد اتّخذها مروان، مروان الحمار آخر ملوك بني أميّة مقرّ حكمه بدلاً من دمشق، فكان يخرج منها يحارب ويرجع إليها يعتصم بها، فأشرب الحرّانيّون حبّ بني أميّة. ولـمّا هاجمها المغول فرّت أسرة تيميه تحمل مشؤومها إلى دمشق، فتلاقحت حرّان ودمشق في تكوين شخصيّة ابن تيميه، فدمشق وإلى حدّ دخول أسرة تيميه إيّاها وحتّى ما بعد ذلك أمويّة الهوى، وإن وجدت مذاهب إسلاميّة أخرى؛ فغلب عليه الهوى الأمويّ وما أن استدّ ساعده حتّى

١٠٠