دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ١

دلائل الصدق لنهج الحق18%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-354-3
الصفحات: 307

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174811 / تحميل: 4897
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ١

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٤-٣
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

المطلب الثالث

مناقشة الصحاح الستّة

إنّ أخبارهم غير صالحة للاستدلال بها على شيء من مطالبهم ؛ لأنّ منتقى أخبارهم ما جمعته الصحاح الستّة ، وهي مشتملة على أنواع من الخلل ، ساقطة عن الاعتبار ألبتّة ؛ لأمور :

الأمر الأوّل

[ كيفيّة جمعها ]

إنّهم ذكروا في كيفيّة جمعها وفي جامعيها ما يقضي بوهنها.

ذكر ابن حجر في « تهذيب التهذيب » بترجمة سويد بن سعيد الهروي ، أنّ إبراهيم بن أبي طالب قال لمسلم : كيف استجزت الرواية عن سويد [ في الصحيح ]؟! قال : ومن أين [ كنت ] آتي بنسخة حفص بن ميسرة؟!(١) .

ومثله في « ميزان الاعتدال »(٢) .

فهل ترى أنّ هذا عذر في الرواية عن الضعفاء؟! وهو يدّعي أنّه

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٣ / ٥٦١.

(٢) ميزان الاعتدال ٣ / ٣٤٧.

٤١

لا يروي في صحيحه إلّا عن ثقة! فيكون غارّا(١) خائنا ، فيسقط كتابه عن الاعتبار!

ونقل الذهبي في ( الميزان ) بترجمة أحمد بن عيسى بن حسّان المصري ، أنّ أبا زرعة ذكر عنده صحيح مسلم فقال : « هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه ، فعملوا شيئا يتشرّفون(٢) به.

وقال : يروي عن أحمد بن عيسى في ( الصحيح ) ما رأيت أهل مصر يشكّون في أنّه ـ وأشار إلى لسانه ـ »(٣) .

وذكر ابن حجر بترجمة عمرو بن مرزوق ، أنّ الأزدي قال : « كان عليّ ابن المديني صديقا لأبي داود ، وكان أبو داود لا يحدّث حتّى يأمره عليّ ، وكان ابن معين يطري عمرو بن مرزوق ويرفع ذكره ، ولا يصنع ذلك بأبي داود لطاعته لعليّ »(٤) .

وهذا يدلّ على أنّ اعتبارهم للرجال تبع للهوى لا للحقّ!

وذكر ابن حجر بترجمة أحمد بن صالح المصري ، أنّ الخطيب قال :

احتجّ بأحمد بن صالح جميع الأئمّة إلّا النسائي ، فإنّه نال منه جفاء في مجلسه ، فذلك السبب الذي أفسد الحال بينهما.

وقال العقيلي : كان أحمد بن صالح لا يحدّث أحدا حتّى يسأل عنه ، فجاءه النسائي ، فأبى أن يأذن له ، فشنّع عليه(٥) . انتهى ملخّصا.

__________________

(١) الغارّ ، اسم فاعل من : غرّه يغرّه غرّا وغرورة وغرّة : خدعه وأطمعه بالباطل ؛ انظر : لسان العرب ١٠ / ٤١ مادّة « غرر ».

(٢) في المصدر : يتسوّقون.

(٣) ميزان الاعتدال ١ / ٢٦٩.

(٤) تهذيب التهذيب ٦ / ٢٠٨ باختلاف يسير.

(٥) تهذيب التهذيب ١ / ٧١.

٤٢

وذكر ابن حجر بترجمة ابن ماجة محمّد بن يزيد بن ماجة ، أنّ في كتابه « السنن » أحاديث ضعيفة جدّا ، حتّى بلغني أنّ السريّ كان يقول : مهما انفرد بخبر [ فيه ] فهو ضعيف غالبا ووجدت بخطّ الحافظ شمس الدين محمّد بن عليّ الحسيني ما لفظه : سمعت شيخنا الحافظ أبا الحجّاج المزّي يقول : كلّ ما انفرد به ابن ماجة [ فهو ] ضعيف(١) .

وذكر كلّ من الذهبي وابن حجر ـ أو أحدهما ـ في كتابيهما المذكورين ، أنّ البخاري احتجّ بجماعة في صحيحة ضعّفهم بنفسه ، كما يعلم من تراجمهم في الكتابين ، كأيّوب بن عائذ(٢) ، وثابت بن محمّد العابد(٣) ، وحصين بن عبد الرحمن السلمي(٤) ، وحمران بن أبان(٥) ، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر الأزدي(٦) ، وكهمس بن المنهال(٧) ، ومحمّد بن يزيد الحزامي(٨) ، ومقسم بن بجرة(٩) .

وإنّما خصّصنا البخاري بهذا لأنّه أعظم أرباب صحاحهم عندهم ، وإلّا فكلّهم على هذا النمط!

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٧ / ٤٩٩.

(٢) ميزان الاعتدال ١ / ٤٥٩ رقم ١٠٨٥ بعنوان « أيّوب بن صالح بن عائذ » ، تهذيب التهذيب ١ / ٤٢٢ رقم ٦٥٨ ، وانظر : التاريخ الكبير ١ / ٤٢٠ رقم ١٣٤٦.

(٣) ميزان الاعتدال ٢ / ٨٧ رقم ١٣٧٤ ، تهذيب التهذيب ١ / ٥٥٦ رقم ٨٧٢.

(٤) ميزان الاعتدال ٢ / ٣١١ رقم ٢٠٧٨.

(٥) ميزان الاعتدال ٢ / ٣٧٦ رقم ٢٢٩٤.

(٦) ميزان الاعتدال ٤ / ٣٢٨ رقم ٥٠١٢.

(٧) ميزان الاعتدال ٥ / ٥٠٣ رقم ٦٩٨٨ ، تهذيب التهذيب ٦ / ٥٩٣ رقم ٥٨٦٦.

(٨) تهذيب التهذيب ٧ / ٤٩٧.

(٩) ميزان الاعتدال ٦ / ٥٠٨ رقم ٨٧٥٢ ولم يذكر اسم أبيه ، تهذيب التهذيب ٨ / ٣٣١.

٤٣

بل وجدنا أبا داود كذّب نعيم بن حمّاد الخزاعي(١) ، والوليد بن مسلم مولى بني أميّة(٢) ، وهشام بن عمّار السلمي(٣) ، وروى عنهم في سننه!

وقال في حقّ صالح بن بشير : لا يكتب حديثه(٤) ، وكذا في حقّ عاصم بن عبيد الله(٥) ، وروى عنهما!

مع أنّه كان يزعم أنّه لا يروي إلّا عن ثقة! كما ذكره في « تهذيب التهذيب » بترجمة داود بن أميّة(٦) .

ووجدنا النسائي قال في حقّ كلّ من : عبد الرحمن بن يزيد بن تميم الدمشقي(٧) وعبد الكريم بن أبي المخارق(٨) وعبد الوهّاب بن عطاء الخفّاف(٩) : « متروك » ، وروى عنهم في سننه!

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٧ / ٤٢ ، تهذيب التهذيب ٨ / ٥٢٩.

(٢) ميزان الاعتدال ٧ / ١٤٢ ، تهذيب التهذيب ٩ / ١٧٠.

(٣) ميزان الاعتدال ٧ / ٨٦ رقم ٩٢٤٢ ، تهذيب التهذيب ٩ / ٥٩.

(٤) تهذيب التهذيب ٤ / ٦.

(٥) تهذيب التهذيب ٤ / ١٤٠.

(٦) تهذيب التهذيب ٣ / ٣ رقم ١٨٣٩.

(٧) ميزان الاعتدال ٤ / ٣٢٧ رقم ٥٠١١ ، تهذيب التهذيب ٥ / ١٩٨ ، وانظر : الضعفاء والمتروكين ـ للنسائي ـ : ١٥٨ رقم ٣٨٠ ، وفيها : « متروك الحديث ».

(٨) ميزان الاعتدال ٤ / ٣٨٨ ، تهذيب التهذيب ٥ / ٢٨٠ ، وانظر : الضعفاء والمتروكين ـ للنسائي ـ : ١٧٠ رقم ٤٢٢ وفيه : « متروك الحديث ».

وكان في الأصل : عبد الرحمن بن أبي المخارق ؛ وهو سهو ، والصحيح ما أثبتناه ، لاحظ المصادر المتقدّمة وغيرها من كتب الرجال.

(٩) ميزان الاعتدال ٤ / ٤٣٥ رقم ٥٣٢٧ وفيه : « متروك الحديث » ، تهذيب التهذيب ٥ / ٣٥٢ وفيه : « ليس بالقويّ » ، وانظر : الضعفاء والمتروكين ـ للنسائي ـ : ١٦٣ رقم ٣٩٥ وفيه : « ليس بالقويّ ».

٤٤

وكذا الترمذي ، قال في حقّ سليمان بن أرقم أبي معاذ البصري ، وعاصم بن عمرو بن حفص : « متروك »(١) ، وروى عنهما في سننه!

وذكروا في حقّ البخاري ومسلم ـ اللذين هما أجلّ أرباب الصحاح عندهم ، وأصحّهم خبرا ـ ما يخالف الإجماع ، وهو احتجاجهما بجماعة لا تحصى مجهولة الحال ، لرواية جماعة عنهم ، بل لرواية الواحد عنهم ، مع أنّ هذا الواحد لم ينصّ على قدح أو مدح في المرويّ عنه!

ولنذكر لك بعض من اكتفيا في الاحتجاج بخبره بمجرّد رواية الواحد عنه ، لتراجع « تهذيب التهذيب » فترى صدق ما قلناه

فمنهم : محمّد بن عثمان بن عبد الله بن موهب(٢) .

ومحمّد بن النعمان بن بشير(٣) .

فإنّ البخاري ومسلما احتجّا بهما ، ولم يرو عن كلّ منهما سوى الواحد!

ومنهم : عطاء أبو الحسن السوائي(٤) .

وعمير بن إسحاق(٥) .

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٣ / ٤٥٦ رقم ٢٦٠٨ وفيه : « متروك الحديث » ، وج ٤ / ١٤٣ رقم ٣١٥١.

(٢) تهذيب التهذيب ٧ / ٣١٨ رقم ٦٣٨٢ ، وانظر : الثقات ٧ / ٤١٠.

(٣) تهذيب التهذيب ٧ / ٤٦٣ رقم ٦٦١١ ، وانظر : الثقات ٥ / ٣٥٧.

(٤) تهذيب التهذيب ٥ / ٥٨٤ رقم ٤٧٤٥.

(٥) تهذيب التهذيب ٦ / ٢٥٣ رقم ٥٣٦٦.

٤٥

ومالك [ بن مالك ] بن جشعم(١) .

ومبارك بن سعيد اليماني(٢) .

ونبهان الجمحي(٣) .

فإنّ البخاري أخرج عنهم في صحيحه ، ولم يرو عن كلّ منهم غير الواحد!

ومنهم : قرفة بن بهيس العبدي(٤) .

ومحمّد بن عبد الله بن أبي رافع الفهمي(٥) .

ومحمّد بن عبد الرحمن بن غنج(٦) .

ومحمّد بن عبد الرحمن ، مولى بني زهرة(٧) .

ومحمّد بن عمرو اليافعي(٨) .

ونافع ، مولى عامر بن سعد بن أبي وقّاص(٩) .

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٨ / ٢٢ رقم ٦٧١٠ ، وانظر : الثقات ٥ / ٣٨٢.

(٢) تهذيب التهذيب ٨ / ٣٠ رقم ٦٧٢٥ وفيه : « اليمامي » بدل « اليماني » ، وانظر :الثقات ٩ / ١٩٠.

(٣) تهذيب التهذيب ٨ / ٤٧٧ رقم ٧٣٧١.

(٤) تهذيب التهذيب ٦ / ٥٠٠ رقم ٥٧٢٦ ، وفيه : « العدوي » بدل « العبدي ».

(٥) تهذيب التهذيب ٧ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠ رقم ٦٢٥٩.

(٦) تهذيب التهذيب ٧ / ٢٨٣ رقم ٦٣٢٤ ، وانظر : الثقات ٧ / ٤٢٤.

(٧) تهذيب التهذيب ٧ / ٢٩١ رقم ٦٣٣٤.

(٨) تهذيب التهذيب ٧ / ٣٥٧ رقم ٦٤٤٨ ، وانظر : الثقات ٩ / ٤٠.

(٩) تهذيب التهذيب ٨ / ٤٧٥ رقم ٧٣٦٨.

٤٦

ووهب بن ربيعة الكوفي(١) .

وأبو شعبة المدني ، مولى سويد بن مقرّن(٢) .

فإنّ مسلما احتجّ بهم في صحيحه ، ولم يرو عن كلّ منهم غير الواحد!

ولا موثّق لهم أصلا ، وليسوا من أهل زمن الشيخين حتّى يقال :

إنّهما يعرفان وثاقتهم بالاطّلاع!

نعم ، ذكر ابن حبّان بعضهم في « الثقات »(٣) كما هي عادته في مجاهيل التابعين ، فلا عبرة به ، مع أنّه متأخّر الزمان عن البخاري ومسلم ، فلا يمكن أن يعتمدا على توثيقه!

وهذا النحو كثير جدّا في الصحيحين وبقيّة صحاحهم ، وكم رووا عمّن نصّ على جهالته ، كما ستعرف أقلّ القليل منهم قريبا عند ذكر الأسماء!

وقال في « ميزان الاعتدال » بترجمة حفص بن بغيل بعد ما ذكر قول ابن القطّان فيه : « لا يعرف له حال [ ولا يعرف ] »

قال : « لم أذكر هذا النوع في كتابي ، فإنّ ابن القطّان يتكلّم في كلّ من

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٩ / ١٧٩ رقم ٧٧٥٧ ، وانظر : الثقات ٥ / ٤٨٩.

(٢) تهذيب التهذيب ١٠ / ١٤٢ رقم ٨٤٤٣ ، وانظر : الثقات ٥ / ٥٧٢.

وكان في الأصل : « المري » بدلا من « المدني » وهو تصحيف ؛ وما أثبتناه من تهذيب التهذيب ؛ وفي تقريب التهذيب ٢ / ٧٣٠ رقم ٨٤٤٣ : « المزني » وهي نسبة إلى مولاه « سويد بن مقرّن المزني الكوفي » ؛ انظر : تهذيب التهذيب وتهذيب الكمال ٨ / ٢١٨ رقم ٢٦٣٣ ترجمة سويد وج ٢١ / ٢٩١ رقم ٨٠٢٠ ترجمة أبي شعبة.

(٣) كما في الإحالات على تراجم بعضهم المارّة آنفا.

٤٧

لم يقل فيه إمام عاصر ذلك الرجل ، أو أخذ ممّن عاصره ، ما يدلّ على عدالته ، وهذا شيء كثير

ففي الصحيحين من هذا النمط خلق كثير مستوون ، ما ضعّفهم أحد ، ولاهم بمجاهيل »(١) .

أي : ليسوا بمجاهيل النسب ـ وإن كانوا مجاهيل الأحوال ـ كما قال ابن القطّان.

وأنت تعلم أنّه لا يكفي في اعتبار الرجل والاحتجاج بخبره مجرّد عدم تضعيف أحد له ، بل لا بدّ من ثبوت وثاقته.

وأمّا حكمه باستوائهم فغير مستو ، بعد فرض الجهالة بأحوالهم ، على أنّه غير نافع في الاحتجاج بأخبارهم ما لم تثبت وثاقتهم.

* * *

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٢ / ٣١٧ رقم ٢١١٢ وفيه : « مستورون » بدل « مستوون ».

٤٨

الأمر الثاني

[ اشتمالها على الكفر ]

إنّ جملة من أخبار صحاحهم مشتملة على الكفر! كتجسّم الله سبحانه! وإثبات المكان والانتقال والتغيير له! وكعروض العوارض عليه من الضحك ونحوه! إلى غير ذلك ممّا يوجب الإمكان!(١)

__________________

(١) جاء في صحيح البخاري ٩ / ٢٣٢ ما لفظه : « لا تضارّون في رؤية ربّكم

فيأتيهم الجبّار بصورة غير صورته التي رأوه فيه أوّل مرّة فيكشف عن ساقه »!!

وفي صحيح مسلم ١ / ١١٥ ـ ١١٦ قريب من هذا اللفظ أيضا!

وجاء في صحيح البخاري ٦ / ٢٦٠ ـ ٢٦١ ح ٣٨٢ أيضا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لقد عجب الله عزّ وجلّ أو ضحك من فلان وفلانة فأنزل »!

وجاء في صحيح البخاري ٩ / ٢٣١ ذ ح ٦٥ وصحيح مسلم ١ / ١١٤ ضمن حديث : « فلا يزال يدعو الله حتّى يضحك الله تبارك وتعالى منه ، فإذا ضحك الله منه »!

وروى مسلم في صحيحه ١ / ١٢٠ أيضا ما نصّه : « فقالوا : ممّ تضحك يا رسول الله؟ قال : من ضحك ربّ العالمين حين قال : أتستهزئ منّي وأنت ربّ العالمين؟! »!

كما جاء في سنن ابن ماجة ١ / ٦٤ ح ١٨١ ما لفظه : « قال رسول الله ضحك ربّنا من قنوط عباده وقرب غيره ؛ قال : قلت : يا رسول الله! أو يضحك الربّ؟! قال :

نعم ؛ قلت : لن نعدم من ربّ يضحك خيرا »!

وانظر ـ على سبيل المثال ـ هذه الدواهي وغيرها في :

صحيح البخاري ١ / ٢٣٠ ح ٣١ ، وج ٦ / ٢٢٥ ح ٣٠٦ ، وص ٢٧٩ ح ٤١٢ ، وج ٨ / ١٢٧ ح ١٧ ، وج ٩ / ٢١٦ ح ٣٤ ، وص ٢١٧ ـ ٢٢٠ ح ٣٩ ـ ٤٣ ، وص

٤٩

حتّى رووا أنّ الله سبحانه يدخل رجله في نار جهنم فيزوي بعضها لبعض وتقول : قط قط!(١) .

ومشتملة على وهن رسل الله ورسالاتهم!(٢)

__________________

٢٢٢ ح ٤٧ ، وص ٢٢٨ ـ ٢٣٧ ح ٦٢ ـ ٦٦ و ٦٩ و ٧٠ ، وص ٢٣٩ ـ ٢٤٠ ح ٧٥ و ٧٧ ، وص ٢٦٣ ـ ٢٦٤ ح ١٣٨ ـ ١٤٠.

صحيح مسلم ١ / ١١٢ ـ ١١٧ و ١٢٢ و ١٢٤ ، وج ٢ / ١٧٥ و ١٧٦ ، وج ٨ / ٣٢ و ١٢٥ و ١٢٦ و ١٤٩.

سنن ابن ماجة ١ / ٦٣ ـ ٧٣ ح ١٧٧ ـ ٢٠٠ باب في ما أنكرت الجهمية ، وج ٢ / ٩٣٦ ح ٠٠ / ٢ ، وص ١٢٥٥ ح ٣٨٢١ و ٣٨٢٢ ، وص ١٤٥٠ ح ٤٣٣٦.

سنن أبي داود ٢ / ٣٥ ح ١٣١٥ ، وج ٤ / ٢٣١ ـ ٢٣٤ ح ٤٧٢٣ ـ ٤٧٣٣.

سنن الترمذي ٤ / ٥٩٢ ـ ٥٩٥ ح ٢٥٥١ ـ ٢٥٥٥ باب ما جاء في رؤية الربّ تبارك وتعالى ، وص ٥٩٦ ح ٢٥٥٧ ، وج ٥ / ٢٦٧ ح ٣١٠٥ ، وص ٤٩٢ ح ٣٤٩٨.

الموطّأ : ٢٠٧ ح ٣٠ باب ما جاء في الدعاء.

مسند أحمد ١ / ٣٨٨ ، وج ٢ / ٢٤٤ و ٢٥١ و ٢٦٤ ـ ٢٦٥ و ٢٦٧ و ٢٨٢ و ٤٦٣ و ٤٨٧.

(١) صحيح البخاري ٦ / ٢٤٥ ـ ٢٤٦ ح ٣٤٢ ـ ٣٤٤ ، وج ٩ / ٢٠٨ ح ١١ وص ٢٠٩ ح ١٣ وص ٢٤٠ ذ ح ٧٥ كتاب التوحيد ، صحيح مسلم ٨ / ١٥١ ، سنن الترمذي ٤ / ٥٩٦ ح ٢٥٥٧.

و « قط » و « قد » بمعنى : حسب ، وهو الاكتفاء. انظر : الصحاح ٣ / ١١٥٣ ، النهاية في غريب الحديث والأثر ٤ / ٧٨ ، لسان العرب ١١ / ٢١٨ ـ ٢١٩ ، مادّة « قطط ».

(٢) جاء في صحيح البخاري ٤ / ٣٠٥ ح ٢٠٤ في ما قصّه الله تعالى من أمر النبيّ موسىعليه‌السلام ، ومثله في صحيح مسلم ٧ / ٩٩ ، ما نصّه : « فخلا يوما وحده فوضع ثيابه على الحجر ثمّ اغتسل ، فلمّا فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإنّ الحجر عدا بثوبه! فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر! حتّى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا! وقام الحجر ، فأخذ ثوبه فلبسه ، وطفق بالحجر ضربا بعصاه! ».

وفي صحيح مسلم ٧ / ١٠٠ ـ في حديث ـ : « فلطم موسى عليه‌السلام عين ملك

٥٠

حتّى إنّهم صيّروا سيّد النبيّين جاهلا في أوّل البعثة بأنّه رسول مبعوث ، فعلّمه النصراني وزوجته خديجة أنّه رسول الله!(١) .

ومشتملة على ما يوجب كذب آي من القرآن!(٢)

__________________

الموت ففقأها! ».

وانظر مثل هذه الافتراءات في : صحيح البخاري ٤ / ٢٩٠ ح ١٧٤ وص ٢٩٥ ح ١٩٠ وص ٢٩٩ ح ١٩٧ و ١٩٨ وص ٣٠٠ ح ٢٠١ وج ٩ / ٢٣٤ و ٢٣٥ و ٢٦٥ ح ١٤٢ ، صحيح مسلم ١ / ١٢٤ وج ٧ / ٩٦ ـ ١٠٢ ، سنن أبي داود ١ / ٦٨ ح ٢٧٠ ، سنن الترمذي ٥ / ٢٨٨ ح ٣١٤٨.

(١) صحيح البخاري ١ / ٥ وج ٤ / ٢٩٧ ح ١٩٥ وج ٦ / ٣٠٠ ـ ٣٠٢ ح ٤٥٠ ، صحيح مسلم ١ / ٩٧ و ٩٨.

(٢) قال الله تعالى في كتابه الكريم :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) سورة الحجر ١٥ : ٩.

وقال عزّ من قائل : ( لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) سورة فصّلت ٤١ : ٤٢.

وقال جلّ شأنه : ( وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ ) سورة يونس ١٠ : ٣٧.

إلّا أنّه ورد في الصحاح الستّة وغيرها ، ما ينافي ويناقض ذلك ؛ فقد جاء فيها أنّ في القرآن زيادة ونقيصة وتبديل ألفاظ!!

* فمن الأوّل : ما ورد من زيادة ( ما خَلَقَ ) في قوله تعالى : ( وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) سورة الليل ٩٢ : ٣ ؛ انظر : صحيح البخاري ٦ / ٢٩٦ ح ٤٣٩ و ٤٤٠ ، صحيح مسلم ٢ / ٢٠٦ ، سنن الترمذي ٥ / ١٧٥ ح ٢٩٣٩.

وزيادة سورتي المعوّذتين وأنّهما ليستا من القرآن ؛ انظر : مسند أحمد ٥ / ١٣٠.

* ومن الثاني : ما ورد من سقوط سورتين من القرآن ، إحداهما تشبه في الطول والشدّة سورة براءة ، والثانية تشبه إحدى المسبّحات ؛ انظر : صحيح مسلم ٣ / ١٠٠ كتاب الزكاة.

وسقوط آية الرجم ؛ انظر : صحيح البخاري ٨ / ٣٠٢ ذ ح ٢٥ ، صحيح مسلم ٥ / ١١٦ ، مسند أحمد ١ / ٣٦ و ٤٠ و ٤٣ و ٥٥ ، الموطّأ : ٧١٨ ح ١٠ كتاب

٥١

وعلى المناكير والخرافات!(١)

كما ستعرف ذلك في طيّ مباحث الكتاب إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

الحدود ، سنن ابن ماجة ١ / ٦٢٥ ح ١٩٤٤.

وسقوط آية الرغبة ؛ انظر : صحيح البخاري ٨ / ٣٠٢ ذ ح ٢٥.

وسقوط آية الشهادة ؛ انظر : صحيح مسلم ٣ / ١٠٠.

وسقوط لفظة « وصلاة العصر » من آية المحافظة على الصلوات ؛ انظر : صحيح مسلم ٢ / ١١٢ ، مسند أحمد ٥ / ٨ وج ٦ / ٧٣ ، الموطّأ : ١٢٩ ح ٢٦ و ٢٧ باب الصلاة الوسطى ، سنن أبي داود ١ / ١٠٩ ح ٤١٠ ، سنن الترمذي ٥ / ٢٠١ ـ ٢٠٢ ح ٢٩٨٢ ، سنن النسائي ١ / ٢٣٦.

* ومن الثالث : ما روي أنّ آية ( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) سورة الذاريات ٥١ : ٥٨ ، كان أصلها ( إنّي أنا الرزّاق ذو القوّة المتين ) ؛ انظر : مسند أحمد ١ / ٣٩٤ ، سنن الترمذي ٥ / ١٧٦ ح ٢٩٤٠.

(١) انظر مثلا أسطورة « الجسّاسة » التي ادّعوا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نادى الصلاة جامعة! وأمر المصلّين ألّا يبرحوا أماكنهم! ثمّ تحدّث بها على المنبر! ولم يروها عنه أحد من الصحابة إلّا فاطمة بنت قيس! ولا حفظها عنها غير الشعبي! على الرغم ممّا فيها من الوصف الخطير والتهويل الكبير!

انظرها في : صحيح مسلم ٨ / ٢٠٣ ـ ٢٠٥ كتاب الفتن وأشراط الساعة ، مسند أحمد ٦ / ٣٧٣ ـ ٣٧٤.

٥٢

الأمر الثالث

[ تدليس أكثر رواتها ]

إنّ أكثر رواتهم ، بل كلّهم ، مدلّسون في رواياتهم ، أي ملبّسون فيها ، ومظهرون خلاف الواقع ، كما لو كانت الرواية عن شخص مقبول بواسطة شخص غير مرضيّ ، فيتركون الواسطة ويروونها عن المقبول ابتداء!

أو يروونها عن شخص ضعيف وينسبونها إلى آخر ثقة ؛ ليروج الحديث منهم ويقبل.

أو يروونها عن ضعيف ويأتون باللفظ المشترك بين الضعيف والثقة ؛ ليوهم الراوي على القارئ أنّ المراد الثقة ؛ لأنّه يظهر أنّه لا يروي إلّا عن ثقة!

إلى غير ذلك من أنواع التدليس ، ولا يكاد يسلم أحد من رواتهم عنه.

قال شعبة : « ما رأيت من لا يدلّس من أصحاب الحديث إلّا عمرو بن مرّة وابن عون » ، كما نقله عنه في « ميزان الاعتدال » و « تهذيب التهذيب » بترجمة عمرو بن مرّة الجملي(١) .

ويكفيك أنّ البخاري ومسلما كانا من المدلّسين!

__________________

(١) تهذيب التهذيب ٦ / ٢١٠ ، ميزان الاعتدال ٥ / ٣٤٦ ، باختلاف يسير.

٥٣

[ تدليس البخاري : ]

قال الذهبي في ( الميزان ) بترجمة عبد الله بن صالح بن محمّد الجهني المصري : « روى عنه البخاري في الصحيح ولكنّه يدلّسه فيقول : حدّثني عبد الله ، ولا ينسبه »(١) .

وبمعناه في « تهذيب التهذيب » بترجمة عبد الله أيضا(٢) .

وقد كان البخاري يدلّس أيضا في صحيحه محمّد بن سعيد المصلوب ، الكذّاب الشهير ، لكنّ الذهبي حمله على الخطأ! قال بترجمة ابن سعيد : « أخرجه البخاري في مواضع وظنّه جماعة »!(٣) .

وهو حمل بعيد ، ولو سلّم فهو يقتضي عيبا آخر في « صحيح البخاري » وسيأتي ذكر هذين الرجلين في الأسماء.

ونقل ابن حجر عن ابن مندة ، أنّه قال في كلام له : « أخرج البخاري : ( قال فلان ) و ( قال لنا فلان ) وهو تدليس ».

ثمّ قال ابن حجر : « الذي يظهر [ لي ](٤) أنّه يقول في ما لم يسمع : ( قال ) وفي ما سمع ـ لكن لا يكون على شرطه ، أو موقوفا ـ : ( قال لي ) أو : ( قال لنا ) ؛ وقد عرفت ذلك بالاستقراء من صنيعه »(٥) .

__________________

(١) ميزان الاعتدال ٤ / ١٢٢ وفيه : « حدّثنا » بدل « حدّثني ».

(٢) تهذيب التهذيب ٤ / ٣٤٢.

(٣) ميزان الاعتدال ٦ / ١٦٦ ذيل رقم ٧٥٩٨.

(٤) إضافة توضيحية منهقدس‌سره .

(٥) تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس ـ المطبوع بمصر سنة ١٣٢٢ ـ : ٦ [ ٤٣ ـ ٤٤ رقم ٢٣ ترجمة البخاري ]. منهقدس‌سره .

٥٤

[ تدليس مسلم : ]

ونقل ابن حجر أيضا عن ابن مندة ، أنّه قال في حقّ مسلم : « كان يقول في ما لم يسمعه من مشايخه : ( قال لنا فلان ) وهو تدليس »(١) .

فإذا كان هذا حال الصحيحين وصاحبيهما ـ وهما بزعمهم أصحّ الكتب ـ فكيف حال غيرهما؟! وكيف تعتبر أخبارهم؟! وبأيّ شيء يحصل الأمن لمن يريد الاحتجاج بها؟!

[ خطورة التدليس : ]

والتدليس طريقة شائعة مستمرّة بين جميع طبقاتهم ، على أنّه كذب في نفسه غالبا ، والكذب موجب لفسق صاحبه(٢) .

__________________

(١) تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس : ٧ [ ٤٥ ـ ٤٦ رقم ٢٨ ترجمة مسلم ]. منهقدس‌سره .

(٢) لقد ذكروا للتدليس في الحديث أنواعا ونصّوا على شناعة بعضها جدّا ، وذمّوه ، ووصفوه بأنّه أخو الكذب ، وقد أدرجوا ـ في الغالب ـ تلك الأنواع تحت قسمين من التدليس ، هما :

١ ـ تدليس الإسناد : وهو أن يروي المحدّث الحديث عمّن لقيه ولم يسمعه منه ، موهما أنّه سمعه منه.

أو عمّن عاصره ولم يلقه ، موهما أنّه لقيه أو سمعه منه.

أو يسقط الراوي شيخ شيخه أو من هو أعلى منه ، لكونه ضعيفا أو صغير السنّ تحسينا للحديث.

٢ ـ تدليس الشيوخ : وهو أن يروي الراوي عن شيخ حديثا سمعه منه ، فيسمّيه أو يكنّيه ، ويصفه بما لم يعرف به كيلا يعرف.

انظر : معرفة علوم الحديث : ١٠٣ ـ ١١٢ النوع ٢٦ ، مقدّمة ابن الصلاح : ٤٢ ـ

٥٥

قال ابن الجوزي : « من دلّس كذّابا فالإثم له لازم ؛ لأنّه آثر أن يؤخذ في الشريعة بقول باطل »(١) .

كما نقله عنه في « ميزان الاعتدال » بترجمة محمّد بن سعيد المصلوب(٢) .

والأولى لابن الجوزي أن لا يخصّص بالكذّاب ؛ لأنّ الإثم لازم أيضا لمن دلّس ضعيفا من غير جهة الكذب ؛ لأنّ الضعيف مطلقا لا يجوز الاحتجاج به.

بل من دلّس ثقة عنده كان آثما(٣) ؛ لأنّ الثقة عنده ربّما لا يكون ثقة في الواقع وعند السامع وغيره ، فكيف يوقعه بالغرور ، ويدلّس عليه ما ليس له الأخذ به؟!

وسيمرّ عليك إن شاء الله تعالى ذكر بعض من عرف بالتدليس عندهم.

* * *

__________________

٤٤ ، علوم الحديث ـ لابن الصلاح ـ : ٧٣ ـ ٧٦ ، الباعث الحثيث : ٥٠ ـ ٥٣ ، فتح المغيث : ٩٣ ـ ٩٩ ، التعريفات : ٥٤ ، النكت على كتاب ابن الصلاح : ٢٤٢ ـ ٢٦٢ النوع الثاني عشر ، تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس : ٢٥ ـ ٢٦ ، تدريب الراوي ١ / ٢٢٣ ـ ٢٣١ ، قواعد التحديث : ١٣٢.

(١) الضعفاء والمتروكين ـ لابن الجوزي ـ ٣ / ٦٥ رقم ٣٠١٤ ترجمة محمّد بن سعيد المصلوب ؛ وجاء مؤدّاه أيضا في كتابه الموضوعات ١ / ٢٧٩.

(٢) ميزان الاعتدال ٦ / ١٦٥.

(٣) أي إنّه كان ينبغي لابن الجوزي أن يقول : « من دلّس فالإثم له لازم » أي مطلقا فلا يخصّص أصلا ، لأنّ الإثم لازم سواء دلّس كذّابا أو ضعيفا ، بل ثقة عنده ، لحرمة الأخذ في الشريعة بقول باطل ؛ وقد بيّن المصنّفقدس‌سره وجه لزوم الإثم في تدليس الضعيف والثقة ، أمّا في تدليس الكذّاب فواضح.

٥٦

الأمر الرابع

[ جرح أكثر رواتها ]

إنّ أكثر رجال السند في أخبار الصحاح الستّة ، مطعون فيهم عندهم بغير التدليس أيضا ، من الكذب ونحوه ، حتّى قال يحيى بن سعيد القطّان ـ وهو أكبر علمائهم ، وأعلمهم بأحوال رجالهم ـ : « لو لم أرو إلّا عمّن أرضى ، ما رويت إلّا عن خمسة! » كما حكي عنه في ( الميزان ) بترجمة إسرائيل بن يونس(١) .

[ منهج تحقيق حال رجال الصحاح الستّة : ]

ولنذكر لك جماعة ممّن طعنوا بهم من غير الصحابة ، مرتّبا أسماءهم على حروف المعجم.

واشترطت على نفسي أن أذكر من رواة الصحاح من طعن به عالمان أو أكثر ، وأن يكون الطعن شديدا كقولهم : كذّاب ، أو : متّهم بالكذب ، أو :

متروك ، أو : هالك ، أو : لا يكتب حديثه ، أو : لا شيء ، أو : ضعيف جدّا ، أو : مجمع على ضعفه أو نحو ذلك.

ولم أذكر من قيل فيه أنّه : ضعيف ، أو : منكر الحديث ، أو : غير ضابط ، أو : كثير الخطأ ، أو : لا يحتجّ به أو نحو ذلك ، وإن أسقط روايته عن الحجّيّة ؛ طلبا للاختصار ، ولكفاية من جمع الشروط المذكورة في

__________________

(١) ميزان الاعتدال ١ / ٣٦٦.

٥٧

الدلالة على سقم صحاحهم.

وربّما ذكرت بعض المجاهيل ، والمدلّسين ، وبعض النصّاب ؛ لتعرف اشتمال صحاحهم على أنواع الوهن.

ولا يخفى أنّ النصب أعظم العيوب ؛ لأنّ الناصب منافق كما عرفت(١) ، والمنافق كافر ، بل أشدّ منه ؛ لأنّه يسرّ الكفر ويظهر الإيمان ، فيكون أضرّ على الإسلام من الكافر الصريح.

وقد ذمّ الله المنافقين ، وأعدّ لهم الدرك الأسفل من النار ـ كما أخبر به في كتابه العزيز ـ ولعنهم في عدّة مواطن من الكتاب(٢) .

وكذلك لعنهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ما لا يحصى من المواطن(٣) .

ومن المعلوم أنّ الكافر لا تقبل روايته أصلا ، في الأحكام وغيرها ،

__________________

(١) تقدّم في صفحة ٣٥.

(٢) قال الله تعالى :( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) سورة النساء ٤ :١٤٥.

وقال الله تعالى : ( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ) سورة الأحزاب ٣٣ : ٦٠ و ٦١.

وقال تعالى :( بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) سورة النساء ٤ : ١٣٨.

وقال تعالى :( إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ) سورة النساء ٤ : ١٤٠.

وقال تعالى :( وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ ) سورة التوبة ٩ : ٦٨.

وقال تعالى : ( وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ ) سورة الفتح ٦٣ : ١.

(٣) انظر مثلا : سنن النسائي ٢ / ٢٠٣ ، تاريخ الطبري ٥ / ٦٢٢ ، المعجم الكبير ٣ / ٧١ ـ ٧٢ ح ٢٦٩٨ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٣ / ٢٢١ ح ١٩٨٤ و ١٩٨٥ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٦ / ٢٨٩ ، مجمع الزوائد ١ / ١١٣ وج ٧ / ٢٤٧ ، كنز العمّال ٨ / ٨٣ ح ٢١٩٩٤ وج ١٦ / ٧٤٣ ح ٤٦٦٠٩.

٥٨

حتّى لو وثّقه جماعة.

وإن أردت زيادة الاطّلاع على أحوال من سنذكرهم ، وأحوال غيرهم ، من ضعاف رجال الصحاح الستّة ، فارجع إلى كتابنا المسمّى ب‍ «الإفصاح عن أحوال رجال الصحاح » فإنّه مشتمل على جلّ المجروحين منهم ، وجلّ المطاعن فيهم.

وقد أخذت ما ذكرته هنا في أحوالهم من « ميزان الاعتدال » للذهبي ، وجعلت رمزه : ن ، ومن « تهذيب التهذيب » لابن حجر العسقلاني ، وجعلت رمزه : يب.

فإن اتّفقا على نقل ما قيل في صاحب الترجمة ، ذكرته بعد اسمه بلا نسبة لأحدهما ، وإن اختصّ أحدهما بالنقل ، ذكرته بعد رمز الناقل منهما ، على أن يكون كلّ ما بعد رمزه من خواصّه في النقل ، إلى أن تنتهي الترجمة ، أو أنقل عن الآخر.

كما إنّي رمزت إلى أهل صحاحهم برموزهم المتداولة عندهم ، فللبخاري ( خ ) ولمسلم ( م ) وللنسائي ( س ) ولأبي داود ( د )

وللترمذي ( ت ) ولابن ماجة القزويني ( ق ) ولهم جميعا ( ع ) ولمن عدا مسلم والبخاري ( ٤ ).

وقد جعلت قبل اسم صاحب الترجمة رمز الراوي عنه من أهل هذه الصحاح ، متّبعا نسخة ( التهذيب ) ؛ لأنّها أصحّ إلّا قليلا ، فإنّه قد يقوى عندي صحّة نسخة ( الميزان ) فأعوّل عليها في الرمز.

هذا ، وربّما كان لي كلام أو نقل عن غير هذين الكتابين ، أذكره بعد قولي : «أقول ».

فنقول وبالله المستعان :

٥٩
٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما كان ضخماً ذا سمنة كثير الشعر(1) . وأمّا صفاته النفسية : فقد ورث صفات جدّه أبي سفيان وأبيه معاوية مِن الغدر والنفاق والطيش والاستهتار. يقول السيد مير علي الهندي :

وكان يزيد قاسياً غداراً كأبيه ، ولكنّه ليس داهية مثله ؛ كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرفاته القاسية بستار مِن اللباقة الدبلوماسية الناعمة ، وكانت طبيعته المنحلّة وخلقه المنحطّ لا تتسرب إليهما شفقة ولا عدل.

كان يقتل ويعذّب نشداناً للمتعة واللذة التي يشعر بها وهو ينظر إلى آلام الآخرين ، وكان بؤرة لأبشع الرذائل ، وها هم ندماؤه مِن الجنسين خير شاهد على ذلك ؛ لقد كانوا مِن حُثالة المجتمع(2) .

لقد كان جافي الخُلُق مستهتراً ، بعيداً عن جميع القيم الإنسانية ، ومِن أبرز ذاتياته ميله إلى إراقة الدماء ، والإساءة إلى الناس.

ففي السّنة الأولى مِن حكمه القصير أباد عترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وفي السّنة الثانية أباح المدينة ثلاثة أيّام ، وقتل سبعمئة رجل مِن المهاجرين والأنصار وعشرة آلاف مِن الموالي والعرب والتابعين.

ولَعه بالصيد :

ومِن مظاهر صفات يزيد : ولعه بالصيد فكان يقضي أغلب أوقاته فيه.

ويقول المؤرخون : كان يزيد بن معاوية كلفاً بالصيد لاهياً به ، وكان يُلبس كلاب

__________________

(1) تاريخ الإسلام للذهبي 1 / 267.

(2) روح الإسلام / 296.

١٨١

الصيد الأساور مِن الذهب والجِلال المنسوجة منه ، ويُهب لكلّ كلب عبداً يخدمه(1) .

شغفه بالقرود :

وكان يزيد ـ فيما أجمع عليه المؤرخون ـ ولِعاً بالقرود ، فكان له قرد يجعله بين يديه ويكنيه بأبي قيس ويسقيه فضل كأسه ، ويقول : هذا شيخ مِن بني إسرائيل أصابته خطيئة فمُسخ ، وكان يحمله على أتان وحشية ويرسله مع الخيل في حلَبَة السّباق ، فحمله يوماً فسبق الخيل فسرّ بذلك ، وجعل يقول :

تمسّك أبا قيس بفضل زمامها

فليس عليها إنْ سقطت ضمان

فقد سبقت خيل الجماعة كلّها

وخيل أمير المؤمنين أتان

وأرسله مرّة في حلَبَةِ السباق فطرحته الريح فمات فحزن عليه حزناً شديداً وأمر بتكفينه ودفنه ، كما أمر أهل الشام أنْ يعزّوه بمصابه الأليم ، وأنشأ راثياً له :

كم مِن كرامٍ وقومٍ ذوو محافظه

جاؤوا لنا ليعزّوا في أبي قيسِ

شيخِ العشيرة أمضاها وأجملها

على الرؤوس وفي الأعناق والريسِ

لا يبعد الله قبراً أنت ساكنه

فيه جمال وفيه لحية التيس(2)

وذاع بين الناس هيامه وشغفه بالقرود حتى لقّبوه بها. ويقول رجل مِن تنوخ هاجياً له :

__________________

(1) الفخري / 45.

(2) جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب / 143 ، مِِن مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم.

١٨٢

يزيد صديق القرد ملّ جوارنا

فحنّ إلى أرض القرود يزيد

فتبّاً لِمَ أمسى علينا خليفةً

صحابته الأدنون منه قرود(1)

إدمانه على الخمر :

والظاهرة البارزة مِن صفات يزيد إدمانه على الخمر ، وقد أسرف في ذلك إلى حدٍّ كبيرٍ ، فلمْ يُرَ في وقت إلاّ وهو ثمِلٌ لا يعي مِن السكر.

ومِنْ شعره في الخمر :

أقولُ لصحبٍ ضمّتِ الكاسُ شملَهم

وداعي صباباتِ الهوى يترنمُ

خذُوا بنصيبٍ مِنْ نعيمٍ ولذّةٍ

فكلٌّ وإنْ طالَ المدى يتصرّمُ(2)

وجلس يوماً على الشراب وعن يمينه ابن زياد بعد قتل الحُسين ، فقال :

اسقني شربةً تروّيَ شاشي

ثمّ مِلْ فاسقِ مثلها ابن زيادِ

صاحبَ السرّ والأمانةِ عندي

ولتسديدِ مغنمي وجهادي(3)

وفي عهده طرّاً تحوّل كبير على شكل المجتمع الإسلامي ؛ فقد ضعف ارتباط المجتمع بالدين ، وانغمس الكثيرون مِن المسلمين في الدعارة والمجون ، ولمْ يكن ذلك التغيير إقليميّاً ، وإنّما شمل جميع الأقاليم الإسلامية ، فقد سادت فيها الشهوات والمتعة والشراب ، وقد تغيّرت الاتجاهات الفكرية التي ينشدها الإسلام عند أغلب المسلمين.

وقد اندفع الأحرار مِنْ شعراء المسلمين في أغلب عصورهم إلى هجاء

__________________

(1) انساب الاشراف 2 / 2.

(2) تاريخ المظفري.

(3) مروج الذهب 2 / 74.

١٨٣

يزيد لإدمانه على الخمر. يقول الشاعر بن عرادة :

أبَني أُميّة إنّ آخر ملككم

جسدٌ بحوارين ثمّ مقيمُ

طرقَتْ منيته وعند وساده

كوبٌ وزِقٌ راعفٌ مرثومُ

ومرنةٌ تبكي على نشوانه

بالصنجِ تقعدُ تارةً وتقومُ(1)

ويقول فيه أنور الجندي :

خُلقت نفسه الأثيمة بالمكر

وهامت عيناه بالفحشاءِ

فهو والكاس في عناقٍ طويل

وهو والعار والخناء في خباءِ

ويقول فيه بولس سلامة :

وترفّق بصاحبِ العرشِ مشغو

لا عن اللهِ بالقيانِ الملاحِ

ألف (الله أكبر) لا تساوي

بين كفَي يزيد نهلةَ راحِ

تتلظّى في الدن بكراً فلمْ

تدنّس بلثمٍ ولا بماءِ قراحِ(2)

لقد عاقر يزيد الخمر وأسرف في الإدمان حتّى أنّ بعض المصادر تعزو سبب وفاته إلى أنّه شرب كمية كبيرة مِنه فأصابه انفجار فهلك منه(3) .

ندماؤه :

واصطفى يزيد جماعة مِن الخُلعاء والماجنين فكان يقضي معهم لياليه الحمراء بين الشراب والغناء ، وفي طليعة ندمائه الأخطل الشاعر المسيحي الخليع

__________________

(1) تاريخ الطبري 7 / 43.

(2) ملحمة الغدير / 227.

(3) تاريخ المظفري مِن مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم ، وجاء في أنساب الأشراف 4 / ق 2 / 2 أنّ سبب وفاة يزيد أنّه حمل قرده على أتان ، وهو سكران فركض خلفها فاندقّت عنقه ، فانقطع شيء في جوفه فمات.

١٨٤

فكانا يشربان ويسمعان الغناء وإذا أراد السفر صحبه معه(1) ، ولمّا هلك يزيد وآلَ أمر الخلافة إلى عبد الملك بن مروان قرّبه فكان يدخل عليه بغير استئذان ، وعليه جبّة خزّ وفي عُنقه سلسلةٌ مِنْ ذهب والخمر يقطر مِنْ لحيته(2) .

نصيحة معاوية ليزيد :

ولمّا شاع استهتار يزيد واقترافه لجميع ألوان المنكر والفساد ، استدعاه معاوية فأوصاه بالتكتّم في نيل الشهوات ؛ لئلاّ تسقط مكانته الاجتماعية ، قائلاً : يا بُني ، ما أقدرك على أنْ تصير إلى حاجتك مِنْ غير تهتّك يذهب بمرؤتك وقدرك ، ثمّ أنشده :

انصب نهاراً في طلاب العلا

واصبر على هجر الحبيب القريبِ

حتى إذا الليل أتى بالدجا

واكتحلت بالغمض عين الرقيبِ

فباشر الليل بما تشتهي

فإنّما الليل نهار الأريبِ

كم فاسق تحسبه ناسكاً

قد باشر الليل بأمرٍ عجيبِ(3)

دفاع محمّد عزّة دروزة :

مِن الكتّاب الذين يحملون النزعة الأمويّة في هذا العصر محمّد عزّة دروزة ؛ فقد جهد نفسه ـ مع الأسف ـ على الدفاع عن منكرات الأمويين

__________________

(1) الأغاني 7 / 170.

(2) الأغاني 7 / 170.

(3) البداية والنهاية 8 / 228.

١٨٥

وتبرير ما أُثر عنهم مِن الظلم والجور والفساد ، وقد دافع عن معاوية ونزّهه عمّا اقترفه مِن الموبقات التي هي لطخة عارٍ في تاريخ الإنسانية. وقد علّق على هذه البادرة بقوله : نحن ننزّه معاوية صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وكاتب وحيه ، والذي أثرت عنه مخافةَ الله وتقواه ، وحرصه عن أنْ يرضى مِن ابنه الشذوذ عن هذه الحدود ، بل التشجيع ، بل نستبعد هذا عن يزيد(1) . وهذا ممّا يدعو إلى السّخرية والتفكّه ؛ فقد تنكّر دروزة للواضحات التي لا يشكّ فيها أي إنسان يملك عقله واختياره ، وقديماً قد قيل :

وليس يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليلِ

إنّ ما أُثر عن معاوية مِن الأحداث الجِسام كقتله حِجْر بن عَدِيّ ورشيد الهجري ، وعمرو بن الحمق الخزاعي ونظرائهم مِن المؤمنين ، وسبّه للعترة الطاهرة ونكايته بالأُمّة بفرض يزيد خليفة عليها ، وغير ذلك مِن الجرائم التي ألمعنا إلى بعضها في البحوث السّابقة ، وهي ممّا تدلّ على تشويه إسلامه وانحرافه عن الطريق القويم ، ولكنّ دروزة وأمثاله لا ينظرون إلى الواقع إلاّ بمنظار أسود ، فراحوا يقدّسون الأمويين الذين أثبتوا بتصرفاتهم السّياسية والإدارية أنّهم خصوم الإسلام وأعداؤه.

إقرار معاوية لاستهتار يزيد :

وهام معاوية بحبّ ولده يزيد فأقرّه على فسقه وفجوره ولمْ يردعه عنه. ويقول المؤرخون : إنّه نُقِلَ له أنّ ولده على الشراب فأتاه يتجسّس عليه فسمعه ينشد :

__________________

(1) تاريخ الجنس العربي 8 / 86.

١٨٦

أقولُ لصحبٍ ضمّتِ الكاسُ شملهم

وداعي صبابات الهوى يترنمُ

خذوا بنصيبٍ مِن نعيمٍ ولذّةٍ

فكلّ وإنْ طالَ المدى يتصرّمُ

ولا تتركوا يومَ السّرورِ إلى غدٍ

فإنّ غداً يأتي بما ليس يُعلمُ

ألا إنّ أهنأ العيشِ ما سمحَتْ بهِ

صروفُ الليالي والحوادثُ نُوّمُ

فعاد معاوية إلى مكانه ولمْ يعلمه بنفسه ، وراح يقول :

والله لا كنت عليه ، ولا نغّصت عليه عيشه(1) .

حقد يزيد على النبي :

وأترعت نفس يزيد بالحقد على النّبي (صلّى الله عليه وآله) والبغض له ؛ لأنّه وتِره بأُسرته يوم بدر ، ولمّا أباد العترة الطاهرة جلس على أريكة المُلْك جذلانَ مسروراً يهز أعطافه ، فقد استوفى ثأره مِن النّبي (صلّى الله عليه وآله) وتمنّى حضور أشياخه لِيَرَوا كيف أخذ بثأرهم ، وجعل يترنم بأبيات ابن الزبعرى :

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرجِ مِن وقع الأسل

لأهلوا واستهلّوا فرحا

ثمّ قالوا يا يزيدَ لا تُشل

قد قتلنا القرمَ مِن أشياخهم

وعدلناه ببدرٍ فاعتدل

لعبت هاشم بالمُلْك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

لستُ مِنْ خندفَ إنْ لمْ أنتقم

مِنْ بني أحمدَ ما كان فعل(2)

__________________

(1) تاريخ المظفري مِن مصوّرات مكتبة الإمام الحكيم.

(2) البداية والنهاية 8 / 192.

١٨٧

بغضه للأنصار :

وكان يزيد يبغض الأنصار بغضاً عارماً ؛ لأنّهم ناصروا النّبي (صلّى الله عليه وآله) وقاتلوا قريش ، وحصدوا رؤوسَ أعلامهم ، كما كانوا يبغضون بني أُميّة ، فقد قُتِلَ عثمان بين ظهرانيهم ولم يدافعوا عنه ، ثمّ بايعوا علياً وذهبوا معه إلى صفين لحرب معاوية ، ولمّا استشهد الإمام كانوا مِنْ أهم العناصر المعادية لمعاوية ، وكان يزيد يتميّز مِنْ الغيظ عليهم وطلب مِنْ كعب بن جعيل التغلبي أن يهجوهم فامتنع ، وقال له : أردتني إلى الإشراك بعد الإيمان ، لا أهجو قوماً نصروا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ولكنْ أدلّك على غلامٍ منّا نصراني كان لسانه لسان ثور ـ يعني الأخطل ـ.

فدعا يزيد الأخطلَ وطلب منه هجاء الأنصار فأجابه إلى ذلك ، وهجاهم بهذه الأبيات المقذعة :

لعن الإلهُ مِن اليهودِ عصابةً

ما بين صليصلٍ وبين صرارِ(1)

قومٌ إذا هدرَ القصيرُ رأيتَهم

حمراً عيونهم مِن المسطارِ(2)

خلّوا المكارمَ لستمُ مِن أهلها

وخذوا مساحيكم بني النجّارِ

إنّ الفوارسَ يعلمون ظهوركم

أولادَ كلّ مقبّحٍ أكّازِ(3)

ذهبت قريشٌ بالمكارمِ كلّها

واللؤم تحت عمائمِ الأنصارِ(4)

__________________

(1) صليصل وصرار : مِن الأماكن القريبة للمدينة.

(2) المسطار : الخمر الصارعة لشاربها.

(3) أكّاز : الحراث.

(4) طبقات الشعراء / 392.

١٨٨

لقد ابتدأ الأخطل هجاءه للأنصار بذمِ اليهود وقرن بينهم وبين الأنصار ، لأنّهم يساكنونهم في يثرب ، وقد عاب على الأنصار بأنّهم أهل زرع وفلاحة وأنّهم ليسوا أهل مجدٍ ولا مكارم ، واتهمهم بالجبن عند اللقاء ونسب الشرف والمجد إلى القرشيين واللؤم كلّه تحت عمائم الأنصار.

وقد أثار هذا الهجاء المرّ حفيظة النعمان بن بشير الذي هو أحد عملاء الأمويين ، فانبرى غضباناً إلى معاوية ، فلمّا مَثُلَ عنده حسر عمامته عن رأسه وقال : يا معاوية ، أترى لؤماً؟.

لا ، بل أرى خيراً وكرماً ، فما ذاك؟!

زعم الأخطل أنّ اللؤم تحت عمائمنا!

واندفع النعمان يستجلب عطف معاوية قائلاً :

معاوي ألا تعطنا الحقّ تعترف

لحقّ الأزد مسدولاَ عليها العمائمُ

أيشتمُنا عبدُ الأراقم ضلّةً

فماذا الذي تجدي عليك الأراقمُ

فما ليَ ثأرٌ دون قطعِ لسانهِ

فدونكَ مَنْ ترضيه عنه الدراهمُ(1)

قال معاوية : ما حاجتك؟

ـ لسانه.

ـ ذلك لك.

وبلغ الخبرُ الأخطلَ فأسرع إلى يزيد مستجيراً به ، وقال له : هذا الذي كنت أخافه! فطمأنه يزيد وذهب إلى أبيه فأخبره بأنّه قد أجاره ، فقال معاوية : لا سبيل إلى ذمّة أبي خالد ـ يعني يزيداً ـ فعفى عنه.

وجعل الأخطل يفخر برعاية يزيد له ، ويشمت بالنعمان بقوله :

__________________

(1) العقد الفريد 5 / 321 ـ 322.

١٨٩

أبا خالدٍ دافعتَ عنّي عظيمةً

وأدركتَ لحمي قبل أنْ يتبددا

وأطفأت عنّي نارَ نعمان بعدما

أغذّ لأمرٍ عاجزٍ وتجردا

ولمّا رأى النعمان دوني ابن حرّة

طوى الكشح إذ لمْ يستطعني وعرّدا(1)

هذه بعض نزعات يزيد واتجاهاته ، وقد كشفت عن مسخه وتمرّسه في الجريمة ، وتجرّده مِنْ كلّ خُلُقٍ قويم. وإنّ مِنْ مهازل الزمن وعثرات الأيّام أنْ يكون هذا الخليعُ حاكماً على المسلمين ، وإماماً لهم.

دعوةُ المغيرة لبيعة يزيد :

وأوّل مَنْ تصدى لهذه البيعة المشؤومة أعورُ ثقيف المغيرة بن شعبة ، صاحب الأحداث والموبقات في الإسلام(2) ، وقد وصفه (بروكلمان) بأنّه رجلٌ انتهازي ، لا ذمة له ولا ذمام(3) ، وهو أحد دهاة العرب الخمسة(4) ، وقد قضى حياته في التآمر على الأُمّة ، والسعي وراء مصالحه الخاصة.

أمّا السبب في دعوته لبيعة يزيد ـ فيما يرويه المؤرّخون ـ فهو أنّ معاوية أراد عزله مِن الكوفة ليولّي عليها سعيد بن العاص(5) ، فلمّا بلغه ذلك سافر إلى دمشق ليقدّم استقالته مِن منصبه حتّى لا تكون حزازة عليه في عزله ، وأطال التفكير في أمره ، فرأى أنّ خير وسيلة لإقراره في منصبه

__________________

(1) ديوان الأخطل / 89.

(2) مِن موبقات المغيرة أنّه أوّل مَنْ رُشِيَ في الإسلام كما يروي البيهقي ، كما أنّه كان الوسيط في استلحاق زياد بمعاوية.

(3) تاريخ الشعوب الإسلامية 1 / 145.

(4) تاريخ الطبري.

(5) الإمامة والسياسة 2 / 262.

١٩٠

أنْ يجتمع بيزيد فيحبّذ له الخلافة حتّى يتوسّط في شأنه إلى أبيه. والتقى الماكر بيزيد فأبدى له الإكبار ، وأظهر له الحبّ ، وقال له :

قد ذهب أعيان محمّد وكبراء قريش وذوو أسنانهم ، وإنّما بقى أبناؤهم وأنت مِنْ أفضلهم وأحسنهم رأياً ، وأعلمهم بالسُنّة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أنْ يعقد لك البيعة؟!

وغزت هذه الكلمات قلبَ يزيد ، فشكره وأثنى على عواطفه ، وقال له : أترى ذلك يتمّ؟

ـ نعم.

وانطلق يزيد مسرعاً إلى أبيه فأخبره بمقالة المغيرة ، فسرّ معاوية بذلك وأرسل خلفه ، فلمّا مَثُلَ عنده أخذ يحفّزه على المبادرة في أخذ البيعة ليزيد قائلاً : يا أمير المؤمنين ، قد رأيت ما كان مِنْ سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان ، وفي يزيد منك خَلَفٌ فاعقد له ؛ فإنْ حدثَ بك حدثٌ كان كهفاً للناس ، وخَلَفاً منك ، ولا تُسفكُ دماءٌ ، ولا تكون فتنةٌ.

وأصابت هذه الكلمات الوتر الحساس في قلب معاوية ، فراح يخادعه مستشيراً في الأمر قائلاً : مَنْ لي بهذا؟

ـ أكفيك أهل الكوفة ، ويكفيك زياد أهل البصرة ، وليس بعد هذين المصرين أحد يُخالف.

واستحسن معاوية رأيه فشكره عليه ، وأقرّه على منصبه ، وأمره بالمبادرة إلى الكوفة لتحقيق غايته. ولمّا خرج مِنْ عند معاوية قال لحاشيته : لقد وضعت رِجْلَ معاوية في غرزٍ بعيد الغاية على أُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ،

١٩١

وفتقت عليه فتقاً لا يُرتق. ثم تمثّل بقول الشاعر :

بمثلي شاهد النّجوى وغالى

بي الأعداء والخصم الغِضابا

ففي سبيل المغنم فتق المغيرة على أُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) فتقاً لا يُرتق ، وأخلد لها الكوارث والخطوب.

وسار المغيرة إلى الكوفة وهو يحمل الشرّ والدمار لأهلها ولعموم المسلمين ، وفور وصوله عقد اجتماعاً ضم عُملاء الاُمويِّين ، فعرض عليهم بيعة يزيد فأجابوه إلى ذلك ، وأوفد جماعة منهم إلى دمشق وجعل عليهم ولده أبا موسى ، فلمّا انتهوا إلى معاوية حفّزوه على عقد البيعة ليزيد ، فشكرهم على ذلك وأوصاهم بالكتمان ، والتفت إلى ابن المغيرة ، فقال له : بكم اشترى أبوك مِنْ هؤلاء دينهم؟

ـ بثلاثين ألف درهم.

فضحك معاوية ، وقال ساخراً : لقد هانَ عليهم دينُهم. ثمّ أوصلهم بثلاثين ألف درهمٍ(1) .

لقد استجاب لهذه البيعة ورضي بها كلّ مَنْ يحمل ضميراً قلِقاً عرضه للبيع والشراء.

تبريرُ معاوية :

ودافع جماعة مِن المؤلّفين والكتاب عن معاوية ، وبرّروا بيعته ليزيد التي كانت مِنْ أفجع النكبات التي مُنِيَ بها العالم الإسلامي ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ أحمد دحلان :

ومِنْ أصلب المدافعين عن معاوية أحمد دحلان ، قال : فلمّا نظر

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 249.

١٩٢

معاوية إلى قوّة شوكتهم ـ يعني الاُمويِّين ـ واستحكام عصبيتهم ، حتّى إنّهم لو خرجت الخلافة عنهم بعده يُحدِثون فتنةً ، ويقع افتراق للأُمّة ، فأراد اجتماع الكلمة بجعل الأمر فيهم. ثمّ إنّه نظر فيمَنْ كان منهم أقوى شوكة فرآه ابنه يزيد ؛ لأنّه كان كبيراً ، وباشر إمارة الجيوش في حياة أبيه ، وصارت له هيبةٌ عند الأُمراء ، وله تمكّن ونفاذ كلمةٍ ، فلو جعل الأمر لغيره منهم كان ذلك سبباً لمنازعته ، لا سيما وله تمكّن واقتدار على الاستيلاء على ما في بيت المال مِن الأموال ، فيقع الافتراق والاختلاف. فرأى أنّ جعل الأمر له بهذا الاجتهاد يكون سبباً للأُلفة وعدم الافتراق ، وهذا هو السبب في جعله وليّ عهده ، ولمْ يعلم ما يبديه الله بعد ذلك(1) .

حفنة من التراب على أمثال هؤلاء الذين دفعتهم العصبية الآثمة إلى تبرير المنكر وتوجيه الباطل ، فهل إنّ أمر الخلافة التي هي ظلّ الله في الأرض يعود إلى الاُمويِّين حتّى يرعى معاوية عواطفهم ورغباتهم ؛ وهم الذين ناهضوا نبي الإسلام وناجزوه الحرب ، وعذّبوا كلّ مَنْ دخل في دين الإسلام ، فكيف يكون أمر الخلافة بأيديهم؟! ولو كان هناك منطق ووعي ديني لكانوا في ذيل القافلة ، ولا يُحسب لهم أي حساب.

2 ـ الدكتور عبد المنعم :

ومن المبررين لمعاوية في بيعته ليزيد الدكتور عبد المنعم ماجد قال : ويبدو أنّ معاوية قصد مِنْ وراء توريث يزيد الخلافة القضاء على افتراق كلمة الأُمّة الإسلامية ووقوع الفتنة ، مثلما حدث بعد عثمان.

ولعلّه أيضاً أراد أنْ يوجد حلاً للمسألة التي تركها النّبي (صلّى الله عليه وآله) دون حلّ ؛ وهي إيجاد سلطة دائمة للإسلام ، ومِن المحقّق أنّ معاوية لمْ يكن له مندوحة مِنْ أنْ يفعل

__________________

(1) تاريخ دول الإسلامية / 28.

١٩٣

ذلك ؛ خوفاً مِنْ غضب بني أُميّة الذين لمْ يكونوا يرضون بتسليم الأمر إلى سواهم(1) . وهذا الرأي لا يحمل أي طابعٍ مِن التوازن ؛ فإنّ معاوية في بيعته ليزيد لمْ يجمع كلمة المسلمين ، وإنّما فرّقها وأخلد لهم الشرّ والخطوب ؛ فقد عانت الأُمّة في عهد يزيد مِن ضروب البلاء والمحن ما لا يوصف ؛ لفضاعته ومرارته ، فقد جهد حفيد أبي سفيان على تدمير الإسلام وسحق جميع مقدّساته وقيمه ؛ فأباد العترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم حسب النصوص النّبوية المتواترة ، وأنزل بأهل المدينة في واقعة الحرّة مِن الجرائم ما يندى له جبين الإنسانية ، فهل جمع بذلك معاوية كلمة المسلمين ووحّد صفوفهم؟! وممّا يدعو إلى السّخرية ما ذهب إليه مِن أنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) ترك مسألة الخلافة بغير حلّ ، فجاء معاوية فحلّ هذه العقدة ببيعته ليزيد!! إنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله) لمْ يترك أي شأنٍ مِن شؤون أُمّته بغير حلّ ، وإنّما وضع لها الحلول الحاسمة ، وكان أهم ما عنى به شأن الخلافة ، فقد عَهِدَ بها إلى أفضل أُمّته ، وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وقد بايعه كبار الصحابة وعموم مَنْ كان معه في يوم الغدير ، ولكنّ القوم كرهوا اجتماع النّبوة والخلافة في ببت واحد ، فزووا الخلافة عن أهل بيت نبيهم (صلّى الله عليه وآله) ، فأدّى ذلك إلى أنْ يلي أمر المسلمين يزيد وأمثاله مِن المنحرفين الذين أثبتوا في تصرفاتهم أنّهم لا علاقة لهم بالإسلام ، ولا عَهْدَ لهم بالدين.

3 ـ حسين محمّد يوسف :

ومِن المدافعين بحرارة عن معاوية في ولايته ليزيد حسين محمّد يوسف ، وقد أطال الكلام بغير حجّة في ذلك ، قال في آخر حديثه : وخلاصة القول في موقف معاوية أنّه كان مجتهداً في رأيه ، وأنّه حين دعا

__________________

(1) التاريخ السياسي للدولة العربية 2 / 62.

١٩٤

الأُمّة إلى بيعة يزيد كان حسن الظن به ؛ لأنّه لمْ يثبت عنده أي نقص فيه ، بل كان يزيد يدسّ على أبيه مَنْ يحسّن له حاله حتّى اعتقد أنّه أولى مِنْ أبناء بقية الصحابة كلّهم ؛ فإنْ كان معاوية قد أصاب في اختياره فله أجران ، وإنْ كان قد أخطأ فله أجر واحد ، وليس لأحدٍ بعد ذلك أنْ يخوض فيما وراء ذلك ؛ فإنّما الأعمال بالنّيات ، ولكلِّ امرئ ما نوى(1) .

إنّ مِن المؤسف حقّاً أنْ ينبري هؤلاء لتبرير معاوية في اقترافه لهذه الجريمة النكراء التي أغرقت العالم الإسلامي بالفتن والخطوب! ومتّى اجتهد معاوية في فرض ابنه خليفة على المسلمين؟! فقد سلك في سبيل ذلك جميع المنعطفات والطريق الملتوية ، فأرغم عليها المسلمين ، وفرضها عليهم تحت غطاءٍ مكثّفٍ من قوة الحديد. إنّ معاوية لمْ يجتهد في ذلك وإنّما استجاب لعواطفه المترعة بالحنان والولاء لولده ، مِن دون أنْ يرعى أي مصلحةٍ للأُمّة في ذلك.

هؤلاء بعض المؤيدين لمعاوية في عقده البيعة ليزيد ، وهم مدفوعون بدافعٍ غريبٍ على الإسلام ، وبعيد كلّ البعد عن منطق الحقّ.

كلمةُ الحسن البصري :

وشجب الحسن البصري بيعة يزيد وجعلها مِنْ جملة موبقات معاوية ، قال : أربع خصال كُنَّ في معاوية ، لو لمْ يكن فيه منهنَّ إلاّ واحدة لكانت موبقة : ابتزاؤه على هذه الأُمّة بالسّفهاء حتّى ابتزّها أمرها بغير مشورة منهم ، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ، واستخلاف ابنه بعده سكّيراً خمّيراً ، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير ، وادّعاؤه زياد وقد

__________________

(1) سيد شباب أهل الجنّة الحسين بن علي (عليه السّلام) / 208.

١٩٥

قال رسول (صلّى الله عليه وآله) : «الولد للفراش وللعاهر الحَجَر». وقتله حِجْراً وأصحابه ، ويلٌ له مِنْ حِجْر وأصحابه(1) !

كلمةُ ابن رشد :

ويرى الفيلسوف الكبير ابن رشد أنّ بيعة معاوية ليزيد قد غيّرت مجرى الحياة الإسلامية ، وهدمت الحكم الصالح في الإسلام ، قال : إنّ أحوال العرب في عهد الخلفاء الراشدين كانت على غاية مِن الصلاح ، فكأنّما وصف أفلاطون حكومتهم في (جمهوريته) الحكومة الجمهورية الصحيحة التي يجب أنْ تكون مِثالاً لجميع الحكومات ، ولكنّ معاوية هدم ذلك البناء الجليل القديم ، وأقام مكانه دولة بني أُميّة وسلطانها الشديد ؛ ففتح بذلك باباً للفتن التي لا تزال إلى الآن قائمة حتّى في بلادنا هذه(2) ـ يعني الأندلس ـ.

لقد نَقِمَ على معاوية في بيعة يزيد جميعُ أعلام الفكر وقادة الرأي في الأُمّة الإسلامية ، منذ عهد معاوية حتّى يوم الناس هذا ، ووصفوها بأنّها اعتداء صارخ على الأُمّة ، وخروج على إرادتها.

دوافعُ معاوية :

أمّا الدوافع التي دعت معاوية لفرض ابنه السكّير خليفة على المسلمين ، فكان مِنْ أبرزها الحبّ العارم لولده ؛ فقد هام بحبّه ، وقد أدلى بذلك

__________________

(1) تاريخ الطبري 6 / 257 وغيره.

(2) ابن رشد وفلسفته ـ فرج انطون / 60.

١٩٦

في حديثه مع سعيد بن عثمان حينما طلب مِنه أنْ يرشّحه للخلافة ويدع ابنه يزيد ، فسخِرَ مِنه معاوية وقال له : والله ، لو ملأتَ لي الغوطة رجالاً مثلك لكان يزيد أحبّ إليّ مِنكم كلّكم(1) .

لقد أعمّاه حبّه لولده ، وأضله عن الحقّ ، وقد قال : لولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي(2) . وكان يؤمن بأنّ استخلافه ليزيد مِن أعظم ما اقترفه مِن الذنوب ، وقد صارح ولده بذلك فقال له : ما ألقى الله بشيء أعظم في نفسي مِن استخلافي إيّاك(3) .

لقد اقترف معاوية وزراً عظيماً فيما جناه على الأُمّة بتحويل الخلافة إلى مُلْكٍ عضوضٍ لا يُعنى فيه بإرادة الأٌمّة واختيارها.

الوسائل الدبلوماسية في أخذ البيعة :

أمّا الوسائل الدبلوماسية التي اعتمد عليها معاوية في فرض خليعه على المسلمين فهي :

1 ـ استخدام الشعراء :

أمّا الشعراء فكانوا في ذلك العصر مِنْ أقوى أجهزة الإعلام ،

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 80.

(2) المناقب والمثالب ـ القاضي نعمان المصري / 68.

(3) تاريخ الخلفاء ـ لمؤلّف مجهول قامت بنشره أكاديمية العلوم للاتحاد السوفيتي.

١٩٧

وقد أجزل لهم معاوية العطاء ، وأغدق عليهم الأموال ، فانطلقت ألسنتهم بالمديح والثناء على يزيد ، فأضافوا إليه الصفات الرفيعة ، وخلعوا عليه النعوت الحسنة ، وفيما يلي بعضهم :

أ ـ العجّاج :

ومدحه العجّاج مدحاً عاطراً ، فقال فيه :

إذ زُلزِلَ الأقوامُ لمْ تزلزلِ

عن دينِ موسى والرسولِ المُرسلِ

وكنتَ سيف الله لمْ يفلّلِ

يفرع(1) أحياناً وحيناً يختلي(2)

ومعنى هذا الشعر أنّ يزيد يقتفي أثر الرسول موسى والنّبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وأنّه سيف الله البتّار ، إلاّ أنّه كان مشهوراً على أولياء الله وأحبّائه.

الأحوس :

ومدحه الشاعر الأحوس بقصيدة جاء فيها :

ملِكٌ تدينُ له الملوكُ مباركٌ

كادت لهيبته الجبالُ تزولُ

يُجبى له بلخٌ ودجلةُ كلّها

وله الفراتُ وما سفى والنيلُ

لقد جاءته تلك الهيبة التي تخضع لها الجباه ، وتزول منها الجبال مِن إدمانه على الخمر ، ومزاملته للقرود ، ولعبه بالكلاب ، واقترافه للجرائم والموبقات!

مسكين الدارمي :

ومِن الشعراء المرتزقة مسكين الدارمي ، وقد أوعز إليه معاوية أنْ يحثّه على بيعة يزيد أمام مَنْ كان عنده مِنْ بني أُميّة ، وأشراف أهل الشام ،

__________________

(1) يفرع : يعلو رؤوس الناس.

(2) شعراء النصرانية بعد الإسلام / 234.

١٩٨

فدخل مسكين على معاوية ، فلمّا رأى مجلسه حاشداً بالناس رفع عقيرته :

إنْ ادُعَ مسكيناً فإنّي ابنُ معشرٍ

مِن الناس أحمي عنهم وأذودُ

ألا ليت شعري ما يقول ابنُ عامرٍ

ومروانُ أمْ ماذا يقول سعيدُ

بني خلفاء اللهِ مهلاً فإنّما

يبوِّئها الرحمنُ حيث يريدُ

إذا المنبر الغربي خلاّه ربّهُ

فإنّ أميرَ المؤمنين يزيدُ

على الطائر الميمون والجدّ ساعدٌ

لكلّ اُناس طائرٌ وجدودُ

فلا زلتَ أعلى الناس كعباً ولمْ تزلْ

وفودٌ تساميها إليك وفودُ

ولا زال بيتُ المُلْك فوقك عالياً

تُشيَّد أطنابٌ له وعمود(1)

هؤلاء بعض الشعراء الذين مدحوا يزيد ، وافتعلوا له المآثر لتغطية ما ذيع عنه مِن الدعارة والمجون.

بذلُ الأموال للوجوه :

وأنفق معاوية الأموال الطائلة بسخاءٍ للوجوه والأشراف ؛ ليقرّوه على فرض ولده السكّير خليفة على المسلمين. ويقول المؤرّخون : إنّه أعطى عبد الله بن عمر مئة ألف درهم فقبلها منه(2) ، وكان ابن عمر مِنْ أصلب المدافعين عن بيعة يزيد ، وقد نَقِمَ على الإمام الحسين (عليه السّلام) خروجه عليه ، وسنذكر ذلك بمزيد مِن التفصيل في البحوث الآتية.

__________________

(1) الأغاني 8 / 71.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 250.

١٩٩

مراسلةُ الولاة :

وراسل معاوية جميع عمّاله وولاته في الأقاليم الإسلاميّة بعزمه على عقد البيعة ليزيد ، وأمرهم بتنفيذ ما يلي :

1 ـ إذاعة ذلك بين الجماهير الشعبية ، وإعلامها بما صمّمت عليه حكومة دمشق مِنْ عقد الخلافة ليزيد.

2 ـ الإيعاز للخطباء وسائر أجهزة الإعلام بالثناء على يزيد ، وافتعال المآثر له.

3 ـ إرسال الوفود إليه مِن الشخصيات الإسلاميّة حتّى يتعرّف على رأيها في البيعة ليزيد(1) . وقام الولاة بتنفيذ ما عهد إليهم ، فأذاعوا ما صمّم عليه معاوية مِن عقد البيعة ليزيد ، كما أوعزوا للخطباء وغيرهم بالثناء على يزيد.

وفودُ الأقطار الإسلاميّة :

واتّصلت الحكومات المحلّية في الأقطار الإسلاميّة بقادة الفكر ، فعرضت عليهم ما عزم عليه معاوية مِنْ تولية ولده للخلافة ، وطلبوا منهم السّفر فوراً إلى دمشق لعرض آرائهم على معاوية. وسافرت الوفود إلى دمشق وكان في طليعتهم :

1 ـ الوفد العراقي بقيادة زعيم العراق الأحنف بن قيس.

2 ـ الوفد المدني بقيادة محمّد بن عمرو بن حزم(2) .

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 250.

(2) المصدر نفسه.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307