دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

دلائل الصدق لنهج الحق13%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140823 / تحميل: 5342
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٥-١
العربية

١
٢

٣
٤

المقدمة

من هم الفرة الناجية؟

٥

٦

من هم الفرقة الناجية؟

قال المصنّف العلّامة ـ بعد الحمد والصلاة ـ(١) :

وبعد ،

فإنّ الله تعالى حيث حرّم في كتابه العزيز كتمان بيّناته وآياته ، وحظر إخفاء براهينه ودلالاته ، فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ )(٢) .

وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ * أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ )(٣) .

وقال رسول الله ٦ : « من علم علما وكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار »(٤) .

__________________

(١) نهج الحقّ : ٣٦ ـ ٣٨.

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٥٩.

(٣) سورة البقرة ٢ : ١٧٤ و ١٧٥.

(٤) ورد الحديث بألفاظ وأسانيد مختلفة في العديد من مصادر الفريقين ، منها :

سنن أبي داود ٣ / ٣٢٠ ح ٣٦٥٨ ، سنن ابن ماجة ١ / ٩٦ ـ ٩٨ ح ٢٦١

٧

تفضّلا منه على بريّته ، وطلبا لإدراجهم في رحمته ، فيرجع الجاهل عن زلله ، ويستوجب الثواب [ بعلمه ] على عمله.

فحينئذ وجب على كلّ مجتهد وعارف إظهار ما أوجب الله تعالى إظهاره من الدين ، وكشف الحقّ ، وإرشاد الضالّين ؛ لئلّا يدخل تحت الملعونين على لسان ربّ العالمين ، وجميع الخلائق أجمعين ، بمقتضى الآيات القرآنية ، والأحاديث النبوية.

وقد قال رسول الله ٦ : «إذا ظهرت البدع في أمّتي فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله »(١) .

ولمّا كان أبناء هذا الزمان ممّن استغواهم الشيطان ـ إلّا الشاذّ القليل ، الفائز بالتحصيل ـ حتّى أنكروا كثيرا من الضروريّات ، وأخطأوا في معظم المحسوسات ، وجب بيان خطئهم ؛ لئلّا يقتدي غيرهم بهم ، فتعمّ البليّة جميع الخلق ، ويتركون نهج الصدق.

وقد وضعنا هذا الكتاب الموسوم ب‍ «نهج الحقّ وكشف الصدق »(٢) طالبين فيه الاختصار ، وترك الاستكثار ، بل اقتصرنا فيه على مسائل ظاهرة

__________________

و ٢٦٤ ـ ٢٦٦ ، سنن الترمذي ٥ / ٢٩ ح ٢٦٤٩ ، مسند أحمد ٢ / ٢٦٣ ، مسند أبي يعلى ٤ / ٤٥٨ ح ٢٥٨٥ ، المعجم الكبير ١٠ / ١٢٨ ح ١٠١٩٧ ، المعجم الأوسط ٣ / ٥٣ ح ٢٣١١ ، المعجم الصغير ١ / ١٦٢ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ١٨٢ ح ٣٤٥ و ٣٤٦ ، كنز العمّال ١٠ / ٢١٧ ح ٢٩١٤٦ ، الأمالي ـ للطوسي ـ : ٣٧٧ ح ٨٠٨.

(١) الكافي ١ / ٧٥ ح ١٥٨ ، المحاسن ١ / ٣٦١ ح ٧٧٦ ، وانظر ما بمعناه في : تاريخ دمشق ٥٤ / ٨٠ ح ١١٣٦٦ ، مختصر تاريخ دمشق ٢٣ / ٦ رقم ٣ ، كنز العمّال ١٠ / ٢١٦ ح ٢٩١٤٠.

(٢) كان في الأصل : « كشف الحقّ ونهج الصدق » ، وما أثبتناه هو الصواب وفقا للمصدر.

٨

معدودة ، ومطالب واضحة محدودة.

وأوضحت فيه لطائفة المقلّدين من طوائف المخالفين ، إنكار رؤسائهم ومقلّديهم القضايا البديهية ، والمكابرة في المشاهدات الحسّيّة ، ودخولهم تحت فرق السوفسطائية(١) ، وارتكاب الأحكام التي لا يرتضيها لنفسه ذو عقل ورويّة ؛ لعلمي بأنّ المنصف منهم إذا وقف على مذهب من يقلّده تبرّأ منه ، [ وحاد عنه ، ] وعرف أنّه ارتكب الخطأ والزلل ، وخالف الحقّ في القول والعمل.

فإن اعتمدوا الإنصاف ، وتركوا المعاندة والخلاف ، وراجعوا أذهانهم الصحيحة ، وما تقتضيه جودة القريحة ، ورفضوا تقليد الآباء ، والاعتماد على أقوال الرؤساء ، الّذين طلبوا اللذّة العاجلة ، وأهملوا أحوال الآجلة ، حازوا القسط الأوفى من الإخلاص ، وحصلوا بالنصيب الأسنى من النجاة والخلاص.

وإن أبوا إلّا استمرارا على التقليد ، فالويل لهم من نار الوعيد ، وصدق عليهم قوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ )(٢) .

وإنّما وضعنا هذا الكتاب حسبة لله ، ورجاء لثوابه ، وطلبا للخلاص

__________________

(١) السفسطة : هي المغالطة والتمويه والتلبيس بالقول والإيهام ، واللفظ مركّب في اليونانية من « سوفيا » وهي الحكمة ، ومن « أسطس » وهي المموّه ؛ فمعناها حكمة مموّهة ، وكلّ من له قدرة على التمويه والمغالطة بالقول في أيّ شيء كان ، قيل له : إنّه سوفسطائي.

أنظر : معجم المصطلحات العلمية العربية : ٩٠ ـ ٩١ ، التعريفات ـ للجرجاني ـ: ١١٨.

(٢) سورة البقرة ٢ : ١٦٦.

٩

من أليم عقابه ، بكتمان الحقّ ، وترك إرشاد الخلق!

وامتثلت فيه مرسوم سلطان وجه الأرض ، الباقية دولته إلى يوم النشر والعرض ، سلطان السلاطين ، خاقان الخواقين ، مالك رقاب العباد وحاكمهم ، وحافظ أهل البلاد وراحمهم ، المظفّر على جميع الأعداء ، المنصور من إله السماء ، المؤيّد بالنفس القدسية ، والرئاسة الملكية ، الواصل بفكره العالي ، إلى أسنى مراتب المعالي ، البالغ بحدسه الصائب ، إلى معرفة الشهب الثواقب ، غياث [ الملّة و ] الحقّ والدين : أولجايتو خدابنده محمّد(١) ، خلّد [ الله ] ملكه إلى يوم الدين ، وقرن دولته بالبقاء والنصر والتمكين.

وجعلت ثواب هذا الكتاب واصلا إليه ، أعاد الله بركاته عليه ، بمحمّد وآله الطاهرين ، صلوات الله عليهم أجمعين.

وقد اشتمل هذا الكتاب على مسائل

__________________

(١) هو : خدابنده محمّد بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن تولي بن جنكيز خان المغولي ، ملك العراق وخراسان وعراق العجم والروم وأذربيجان والبلاد الأرمينية وديار بكر ، وأولجايتو معناه السلطان الكبير المبارك ، وخدابنده معناه عبد الله ، وقيل : خربندا ، ولد سنة ٦٨٠ ه‍ ، اعتنق الإسلام وسمّي بمحمّد ، وتلقّب بغياث الدين ، كان عادلا كريما سمحا ، تحوّل إلى مذهب الشيعة الإمامية سنة ٧٠٨ ه‍ بعد أن كان حنفيّا ، على أثر مناظرات كثيرة بين المذاهب الإسلامية ـ وقيل : إنّ ذلك كان على يد العلّامة الحلّي ١ ـ ، توفّي في آخر شهر رمضان عام ٧١٦ ه‍ عن بضع وثلاثين سنة ، ودفن بتربته في مدينة « السلطانية » التي أنشأها بين مدينتي قزوين وهمذان.

انظر : أعيان الشيعة ٩ / ١٢٠ ـ ١٢١ ، مراقد المعارف ١ / ٢١٨ ـ ٢٢٠ ، دول الإسلام : ٤٠٩ ، العبر ٤ / ٤٤ ، البداية والنهاية ١٤ / ٦٢ حوادث سنة ٧١٦ ه‍ ، دول الإسلام : ٤٠٩ حوادث سنة ٧١٦ ه‍ ـ ، تاريخ ابن خلدون ٥ / ٦٤٩ ، شذرات الذهب ٦ / ٤٠ وفيات سنة ٧١٦ ه‍.

١٠

وقال الفضل(١) :

الحمد لله المتعزّز بالكبرياء والرفعة والمناعة ، المتفرّد بإبداع الكون في أكمل نظام وأجمل بداعة ، المتكلّم بكلام أبكم كلّ منطيق من قروم(٢) أهل البراعة ، فانخزلوا(٣) آخرا في حجر(٤) العجز وإن بذلوا الوسع والاستطاعة.

أحمده على ما تفضّل بمنح كرائم الأجور على أهل الطاعة ، وفضّل

__________________

(١) إبطال نهج الباطل وإهمال كشف العاطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل ـ ١ / ٢٢ ـ ٣٥.

(٢) قروم ـ جمع : قرم ـ : أي السيّد المعظّم ، المقدّم في المعرفة وتجارب الأمور.

انظر : الصحاح ٥ / ٢٠٠٩ ، لسان العرب ١١ / ١٣٠ ، تاج العروس ١٧ / ٥٦٢ ، مادّة « قرم ».

(٣) كان في طبعة القاهرة : « فانخذلوا » بالذال المعجمة.

والخزل والانخزال : القطع والانقطاع. والخذل والخذلان : ترك الإعانة والنصرة ، والضعف.

انظر مادّتي « خذل » و« خزل » في : الصحاح ٤ / ١٦٨٣ و ١٦٨٤ ، لسان العرب ٤ / ٤٥ و ٨٤ ، تاج العروس ١٤ / ١٩٤ و ١٩٧.

(٤) في طبعة طهران : « حجز ».

وحجر الإنسان ـ بالفتح أو الكسر ـ : حضنه. أو : حجر ـ جمع حجرة ـ : وهي الغرفة.

وحجز أو حجزات ـ جمع حجزة ـ : وهي موضع الالتجاء والاعتصام ، والتمسّك بالشيء ، والتعلّق به ، والأخذ بسبب منه.

أو : حجز ـ بالكسر أو الضمّ ـ : الأصل والمنبت والناحية.

أنظر مادّتي « حجر » و« حجز » في : الصحاح ٢ / ٦٢٣ ، لسان العرب ٣ / ٥٧ و ٦٢ ، تاج العروس ٦ / ٢٤١ و ٢٤٦ وج ٨ / ٤٢ ـ ٤٣.

١١

على فرق الإسلام الفرقة الناجية من أهل السنّة والجماعة ، حتّى كشف نقاب الارتياب عن وجوه مناقبهم صاحب المقام المحمود والعظمى من الشفاعة ، بقوله صلّى الله عليه وسلّم : «لا تزال طائفة من أمّتي منصورين ، لا يضرّهم من خذلهم حتّى تقوم الساعة »(١)

صلّى الله وسلّم وبارك على سيّدنا ونبيّنا محمّد ، الذي فرض الله على كافّة الناس اتّباعه ، وجعل شيعة الحقّ وأئمّة الهدى أشياعه ، وهدى إلى انتقاد «نهج الحقّ » وإيضاح «كشف الصدق » أتباعه.

ثمّ السلام والتحيّة والرضوان على عترته أهل بيته ، وكرام صحبه ، أرباب النجدة والجود والشجاعة ، الّذين جعل الله موالاتهم في سوق الآخرة خير بضاعة ، ما دام ذبّ الباطل عن حريم الحقّ أفضل عمل وخير صناعة.

أمّا بعد :

فإنّ الله بعث نبيّه محمدا صلّى الله عليه وسلّم حين تراكم الأهواء الباطلة ، وتصادم الآراء العاطلة ، والناس هائمون في معتكر حندس(٢) ليل الضلال ،

__________________

(١) هذا من الأحاديث المتواترة معنى ، وقد روته أمّهات مصادر وجوامع الجمهور ، منها : صحيح البخاري ٩ / ١٨١ ح ٨٢ ، التاريخ الكبير ٤ / ١٢ رقم ١٧٩٧ ، صحيح مسلم ١ / ٩٥ ، سنن أبي داود ٣ / ٤ ح ٢٤٨٤ ، سنن ابن ماجة ١ / ٤ ـ ٥ ح ٦ و ٧ و ٩ و ١٠ ، سنن الترمذي ٤ / ٤٢٠ ح ٢١٩٢ ، سنن النسائي ٦ / ٢١٤ ـ ٢١٥ ، مسند الطيالسي : ٩ ، سنن سعيد بن منصور ٢ / ١٤٤ ـ ١٤٥ ح ٢٣٧٢ و ٢٣٧٥ و ٢٣٧٦ ، مسند أحمد ٣ / ٣٨٤ ، مسند أبي يعلى ١٣ / ٣٧٥ ح ٧٣٨٣ ، المعجم الكبير ٢ / ٢٣٨ ح ١٩٩٦ ، المستدرك على الصحيحين ٢ / ٨١ ح ٢٣٩٢.

(٢) اعتكر الليل : اشتدّ سواده واختلط والتبس ؛ أنظر : الصحاح ٢ / ٧٥٦ ، لسان

١٢

يعبدون الأوثان ، ويخرّون للأذقان [ سجّدا ] عندها بالغدوّ والآصال ، لا يعرفون ملّة ، ولا يهتدون إلى نحلة ، ولا سير لهم إلى مراتع الحقّ ولا رحلة.

فأقام الله تعالى برسوله الملّة العوجاء ، وهداهم بإيضاح الحقّ إلى السنن الميتاء(١) ، وأوضح للملّة منارها ، وأعلم آثارها ، وأسّس قواعد الدين على رغم الكفرة الماردين ، هم الّذين أبوا إلّا الإقامة على الكفر والبوار ، وإن هداهم إلى سبيل النجاح ، فما أذعنوا للحقّ إلّا بعد ضرب القواضب(٢) وطعن الرماح.

فندب صلّى الله عليه وسلّم لنصرة الدين ، وإعانة الحقّ ، عصبة من صحبه الصادقين ، فانتدبوا ، ونصروا ، ونصحوا ، وأوذوا في سبيل الله ، ثمّ هاجروا واغتربوا.

هم كانوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكرش والعيبة(٣) ، حين كذّبه عتبة

__________________

ـ العرب ٩ / ٣٣٧ ، تاج العروس ٧ / ٢٥٦ ، مادّة « عكر ».

والحندس : الشديد الظلمة ؛ انظر : الصحاح ٣ / ٩١٦ ، لسان العرب ٣ / ٣٥٦ ، تاج العروس ٨ / ٢٥٢.

(١) في إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن « إحقاق الحقّ » : « المتناء » و« الغرّاء » نسخة بدل عنها.

(٢) القواضب ـ جمع قاضب ـ : السيوف القواطع ؛ انظر : الصحاح ١ / ٢٠٣ ، لسان العرب ١١ / ٢٠٢ ، تاج العروس ٢ / ٣٢٧ ، مادّة « قضب ».

(٣) الكرش أو الكرش ـ لغتان بمعنىً ـ : هي لكلّ مجترّ بمنزلة المعدة للإنسان ، ومن المجاز : الجماعة من الناس.

انظر : الصحاح ٣ / ١٠١٧ ، لسان العرب ١٢ / ٦٩ ، تاج العروس ٩ / ١٨١ ، مادّة « كرش ».

والعيبة ـ جمعها : عيب وعياب وعيّبات ـ : ما يجعل فيه الثياب ، ووعاء يكون ـ

١٣

وشيبة(١)

فأثنى الله عليهم في مجيد كتابه ، ورضي عنهم ، وتاب عليهم(٢) ، وجعل مناط أمور الدين مرجوعة إليهم.

ثمّ وثب فرقة بعد القرون المتطاولة ، والدول المتداولة ، يلعنونهم ويشتمونهم [ ويسبّونهم ] ، ولكلّ قبيح ينسبونهم ، فويل لهذه الفئة

__________________

فيه المتاع ، وعيبة الرجل : موضع سرّه.

انظر : الصحاح ١ / ١٩٠ ، لسان العرب ٩ / ٤٩٠ ـ ٤٩١ ، تاج العروس ٢ / ٢٧٠ ، مادّة « عيب ».

أي إنّهم جماعته وصحابته وبطانته ، وموضع سرّه وأمانته ، الّذين يثق بهم ويعتمد عليهم في أموره.

(١) ذكر عتبة وشيبة ـ هنا ـ لم يقصد منه خصوص الرجلين ، بل المراد عموم كفّار قريش.

وعتبة وشيبة هما ابنا ربيعة بن عبد شمس ، قتلا والوليد بن عتبة يوم بدر كفّارا ، بيد أمير المؤمنين الإمام عليّ ٧وحمزة وعبيدة بن الحارث ، وفيهم جميعا نزل قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ )سورة الحجّ ٢٢ : ١٩.

انظر مثلا : صحيح البخاري ٥ / ١٨٣ ـ ١٨٤ ح ١٧ ـ ٢١ وج ٦ / ١٨١ ح ٢٦٤ و ٢٦٥ ، صحيح مسلم ٨ / ٢٤٦ ، سنن ابن ماجة ٢ / ٩٤٦ ح ٢٨٣٥ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٨ / ٤٧٤ ح ٣١ ، مسند البزّار ٢ / ٢٩١ ـ ٢٩٢ ح ٧١٥ ، وغيرها كثير.

(٢) أشار ابن روزبهان ـ في كلامه هذا ـ إلى آيات قرآنية عديدة بخصوص الثناء والرضا والتوبة على الصحابة ، منها :

قوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً )سورة الفتح ٤٨ : ٢٩.

وقوله عزّ وجلّ : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ )سورة الفتح ٤٨ : ١٨.

وقوله سبحانه : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ )سورة التوبة ٩ : ١١٧.

١٤

الباغية ، التي يسخطون العصبة الرضيّة ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، شاهت الوجوه ، ونالت كلّ مكروه.

ثمّ إنّ زماننا قد أبدى من الغرائب ، ما لو رآه محتلم في رؤياه لطار من وكر الجفن نومه ، ولو شاهده يقظان في يومه لاعتكر من ظلام الهموم يومه(١) .

وممّا شاع فيه أنّ فئة من أصحاب البدعة استولوا على البلاد ، وأشاعوا الرفض والابتداع بين العباد.

فاضطرّني حوادث الزمان ، إلى المهاجرة عن الأوطان ، وإيثار الاغتراب وتوديع الأحبّة والخلّان ، وأزمعت الشخوص من وطني أصفهان ، حتّى حططت الرحل بقاسان(٢) .

عازما على أن لا يأخذ جفني القرار(٣) ، ولا تضاجعني الأرض بقرار ،

__________________

(١) في المصدر : بومه.

(٢) قاسان ـ بالسين المهملة ـ : مدينة كانت عامرة آهلة ، كثيرة الخيرات ، واسعة الساحات ، متهدّلة الأشجار ، حسنة النواحي والأقطار ، بما وراء النهر في حدود بلاد الترك ، خربت بغلبة الترك عليها.

وقاسان أو قاشان ـ بالسين المهملة أو الشين المعجمة ـ : مدينة قرب أصفهان ، بينها وبين قم اثنا عشر فرسخا ، وبينها وبين أصفهان ثلاث مراحل.

والتي عناها الفضل هنا هي الأولى دون الثانية ؛ لأنّ أهل الأولى من الجمهور دون الثانية التي أهلها كلّهم شيعة إمامية.

انظر : معجم البلدان ٤ / ٣٣٥ و ٣٣٦ رقمي ٩٣٦١ و ٩٣٦٤ ، مراصد الاطّلاع ٣ / ١٠٥٦ و ١٠٥٧.

(٣) القرار : الهدوء والنوم ، وأقرّ الله عينه ، أي أنام الله عينه ؛ أنظر : لسان العرب ١١ / ١٠٠ ـ ١٠١ مادّة « قرر ».

وفي المصدر : « الغرار » ، وهو النوم القليل.

انظر : الصحاح ٢ / ٧٦٨ ، لسان العرب ١٠ / ٤٥ ، مادّة « غرر ».

١٥

حتّى أستوكر مربعا من مرابع الإسلام ، لم يسمعني فيه الزمان صيت هؤلاء اللئام.

وأستوطن مدينة أتّخذها دار هجرتي ، ومستقرّ رحلتي ، تكون فيها السنّة والجماعة فاشية ، ولم يكن فيها شيء من البدع والإلحاد ناشية.

وأتمسّك بسنّة النبيّ [ صلّى الله عليه وسلّم الرصين ] ( وآله وصحبه المرضيّين )(١) ، وأعبد ربّي حتّى يأتيني اليقين.

فإنّ التمسّك [ بالسنّة ] عند فساد الأمّة طريق رشيد ، وأمر سديد ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : «من تمسّك بسنّتي عند فساد أمّتي فله أجر مائة شهيد »(٢) .

فلمّا استقرّ ركابي بمدينة قاسان ، اتّفق لي مطالعة كتاب من مؤلّفات المولى الفاضل ، جمال الدين ابن المطهّر الحلّي ، غفر الله ذنوبه ، وقد سمّاه بكتاب «نهج الحقّ وكشف الصدق » ، قد ألّفه في أيّام دولة السلطان غياث الدين أولجايتو محمّد خدابنده ، وذكر أنّه صنّفه بإشارته.

وقد كان ذلك الزمان أوان فشو البدعة ، ونبغ نابغة الفرقة الموسومة ب‍ : « الإمامية » من فرق الشيعة!

فإنّ عامّة الناس يأخذون المذاهب من السلاطين وسلوكهم ، والناس على دين ملوكهم ، إلّا الّذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وقليل

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في « إبطال نهج الباطل ».

(٢) انظر مثلاً ـ وفي بعضها : « فله أجر شهيد » ـ : المعجم الأوسط ٥ / ٤٧١ ح ٥٤١٤ ، الكامل في ضعفاء الرجال ٢ / ٣٢٧ رقم ٤٦٠ ، حلية الأولياء ٨ / ٢٠٠ ، فردوس الأخبار ٢ / ٣٥٥ ح ٦٨٨٩ ، مصابيح السنّة ١ / ١٦٣ ح ١٣٩ ، الترغيب والترهيب ١ / ٤٥ ح ٥ ، مشكاة المصابيح ١ / ٩٧ ح ١٧٦ ، مجمع الزوائد ١ / ١٧٢ الجامع الصغير : ٥٤٩ ح ٩١٧١ ، كنز العمّال ١ / ١٨٤ ح ٩٣٦ وص ٢١٤ ح ١٠٧١.

١٦

ما هم!

وقد ذكر في مفتتح ذلك الكتاب أنّه حاول بتأليفه إظهار الحقّ ، وبيان خطأ الفرقة الناجية من أهل السنّة والجماعة ؛ لئلّا يقلّدهم المسلمون ، ولئلّا يقتدوا بهم ، فإنّ الاقتداء بهم ضلالة.

وذكر أنّه أراد بهذا إقامة مراسم الدين ، وحوز(١) [ أجور ] الآخرة ، واقتناء ثواب الّذين يبغون(٢) الحقّ ولا يكتمونه.

ومع ذلك فإنّ جلّ كتابه مشتمل على مطاعن الخلفاء الراشدين ، والأئمّة المرضيّين ، وذكر مثالب العلماء المجتهدين!

فهو في هذا كما ذكر بعض الظرفاء ـ على ما يضعونه على ألسنة البهائم ـ أنّ الجمّال سأل جملا : من أين تخرج؟ قال الجمل : من الحمّام ؛ قال : صدقت ، ظاهر من رجلك النظيف ، وخفّك اللطيف.

فنقول : نعم ، ظاهر على ابن المطهّر أنّه من دنس الباطل ودرن التعصّب مطهّر ، وهو خائض في مزابل المطاعن ، وغريق في حشوش(٣) الضغائن ، فنعوذ بالله من تلبيس إبليس ، وتدليس ذلك الخسيس ، كيف سوّل له وأملى له ، وكثّر في إفشاء الباطل ـ على رغم الحقّ ـ إملاءه؟!

__________________

(١) الحوز : الجمع ، وكلّ من ضمّ شيئا إلى نفسه من مال أو غير ذلك ، فقد حازه حوزا وحيازة ؛ انظر : الصحاح ٣ / ٨٧٥ ، لسان العرب ٣ / ٣٨٨ ، مادّة « حوز ».

(٢) في إبطال نهج الباطل : « يبيّنون » ؛ ولعلّ ما في المتن تصحيف : يبلّغون.

(٣) الحشوش ، جمع : الحشّ والحشّ : الكنف ومواضع قضاء الحاجة.

انظر : الصحاح ٣ / ١٠٠١ ، النهاية في غريب الحديث والأثر ١ / ٣٩٠ ، لسان العرب ٣ / ١٨٩ ـ ١٩٠ ، القاموس المحيط ٢ / ٢٧٩ ، تاج العروس ٩ / ٩٠ ـ ٩١ ، مادّة « حشش ».

١٧

ومن الغرائب أنّ ذلك الرجل وأمثاله ينسبون مذهبهم إلى الأئمّة الاثني عشر ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وهم صدور إيوان(١) الاصطفاء ، وبدور سماء الاجتباء ، ومفاتيح أبواب الكرم ، ومجاديح(٢) هواطل النعم ، وليوث غياض(٣) البسالة ، وغيوث رياض الإيالة(٤) ، وسبّاق مضامير(٥) السماحة ، وخزّان نقود الرجاحة ، والأعلام الشوامخ في الإرشاد والهداية ، والجبال الرواسخ في الفهم والدراية وهم كما قلت فيهم شعرا :

شمّ المعاطس من أولاد فاطمة

علوا رواسي طود العزّ والشرف

فاقوا العرانين(٦) في نشر الندى كرما

بسمح كفّ خلا من هجنة السرف

__________________

(١) الإيوان ـ بكسر الهمزة ـ : الصفّة العظيمة كالأزج ـ وهو البيت الذي يبنى طولا غير مسدود الوجه ـ وجمعه : إيوانات وأواوين.

أنظر : الصحاح ٥ / ٢٠٧٦ ، لسان العرب ١ / ٢٧٣ و ١٣٠ ، تاج العروس ١٨ / ٤٠ ر ج ٣ / ٢٨٧ ، مادّتي « أون » و« أزج ».

(٢) مجاديح السماء : أنواؤها ؛ انظر : الصحاح ١ / ٣٥٨ ، لسان العرب ٢ / ١٩٧ ، مادّة « جدح ».

(٣) الغياض ـ جمع : غيضة ـ : وهي الأجمة ، وهي مجتمع الشجر في مغيض الماء ، يجتمع فيه الماء فينبت فيه الشجر ، من أيّ الشجر كان ، وكذا هي الشجر الملتفّ.

انظر : الصحاح ٣ / ١٠٩٧ ، لسان العرب ١٠ / ١٥٨ ، تاج العروس ١٠ / ١١٧ ، مادّة « غيض ».

(٤) الإيالة : السياسة ، يقال : آل الأمير رعيّته يؤولها أولا وإيالا ، أي ساسها وأحسن رعايتها ؛ انظر : الصحاح ٤ / ١٦٢٨ ، لسان العرب ١ / ٢٦٧ ، مادّة « أول ».

(٥) في طبعتي طهران والقاهرة : « مظاهر » ، والمثبت هو الأنسب بالسياق.

(٦) عرانين القوم : سادتهم وأشرافهم ووجوههم ؛ انظر : الصحاح ٦ / ٢١٦٣ ، لسان العرب ٩ / ١٧٥ ، مادّة « عرن ».

١٨

تلقاهم في غداة الروع إذ رجفت

أكتاف أكفائهم من رهبة التلف

مثل الليوث إلى الأهوال سارعة

حماسة النفس لا ميلا إلى الصلف

بنو عليّ وصيّ المصطفى حقّا (؟)(١)

أحلاف(٢) صدق نموا من أشرف السلف

وهؤلاء الأئمّة الكرام(٣) ، قد كانوا يثنون على الصحابة الكرام ، الخلفاء الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ بما هم أهله من ذكر المناقب والمزايا.

وقد ذكر الشيخ عليّ بن عيسى الإربلي(٤) ـ رحمه الله تعالى ـ في

__________________

(١) علامة الاستفهام من الشيخ المظفّر ١.

(٢) كذا في الأصل ؛ وفي إحقاق الحقّ : أخلاف.

(٣) في إبطال نهج الباطل : « العظام ».

(٤) هو : الشيخ بهاء الدين أبو الحسن عليّ بن عيسى بن فخر الدين أبي الفتح الإربلي ، من كبار علماء الشيعة الإمامية ، كان فاضلا محدّثا ثقة ، شاعرا أديبا منشئا ، جامعا للفضائل والمحاسن ، مؤلّفا شهيرا.

كان والده أميرا حاكما بإربل أيّام تاج الدين محمّد بن الصلايا الحسين ، له تصانيف كثيرة ، منها : كشف الغمّة في معرفة الأئمّة : ، رسالة الطيف في الإنشاء ، نزهة الأخيار ، حياة الإمامين زين العابدين ومحمّد الباقر ٨ ، ديوان شعر ، وله رسائل علمية وأدبية ، وله أيضا شعر كثير في مدح أهل البيت : ».

ولقبه « الإربلي » نسبة إلى إربل ، وهي : قلعة حصينة ومدينة كبيرة بين الزابين ، من أعمال الموصل ، من جهتها الشرقية.

وجاء في خاتمة كتابه « كشف الغمّة » أنّه فرغ من تصنيفه سنة ٦٨٧ ه‍ ، وتوفّي سنة ٢ / ٦٩٣ ه‍ في بغداد ودفن فيها ؛ ولعلّ ما في شذرات الذهب من أنّه توفّي سنة ٦٨٣ ه‍ تصحيف ، لمنافاته مع ما سبق.

١٩

كتاب « كشف الغمّة في معرفة الأئمّة » ـ واتّفق جميع الإمامية أنّ عليّ بن عيسى من عظمائهم ، والأوحدي النحرير من جملة علمائهم ، لا يشقّ غباره ، ولا يبتدر آثاره ، وهو المعتمد المأمون في النقل ـ وما ذكره هو في الكتاب المذكور نقلا عن كتب الشيعة ، لا عن كتب علماء السنّة :

أنّ الإمام أبا جعفر محمّدا الباقر رضي الله عنه سئل عن حلية السيف ، هل يجوز؟

فقال : نعم [ يجوز ] ، قد حلّى أبو بكر الصدّيق سيفه [ بالفضّة ].

قال الراوي : فقال السائل : أتقول هكذا؟!

فوثب الإمام من مكانه وقال : نعم الصدّيق ، فمن لم يقل له :

« الصدّيق » فلا صدّقه الله في الدنيا والآخرة(١) .

هذه عبارة « كشف الغمّة » وهو كتاب مشهور معتمد عند الإمامية.

وذكر أيضا في الكتاب المذكور ، أنّ الإمام أبا عبد الله جعفر بن محمّد الصادق قال : « ولدني أبو بكر ( الصدّيق )(٢) مرّتين » ؛ وذلك أنّ أمّ الإمام جعفر كانت أمّ فروة بنت القاسم بن محمّد بن أبي بكر الصدّيق ،

__________________

أمّا مرقده فهو بالكرخ ببغداد ، بداره على الضفة اليمنى لنهر دجلة قرب الجسر العتيق ( جسر الأحرار ) بين الزقاق ونهر دجلة.

انظر : أمل الآمل ٢ / ١٩٥ رقم ٥٨٨ ، رياض العلماء ٤ / ١٦٦ ، الكنى والألقاب ٢ / ١٨ ، مراقد المعارف ٢ / ٩٠ رقم ١٧٤ ، معجم البلدان ١ / ١٦٦ رقم ٤٠٦ ، شذرات الذهب ٥ / ٣٨٣ وفيات سنة ٦٨٣ ه‍ ، هديّة العارفين ٥ / ٧١٤ ، معجم المؤلّفين ٢ / ٤٨٤ رقم ٩٨٠٥.

(١) كشف الغمّة في معرفة الأئمّة ٢ / ١٤٧ ، نقلا عن صفة الصفوة ـ لأبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي ـ ١ / ٣٩٩ ، باختلاف يسير ؛ وما بين القوسين المعقوفتين أثبتناه من « إبطال نهج الباطل » المطبوع ضمن « إحقاق الحقّ ».

(٢) ليست في كشف الغمّة.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

ولـمـّا أخبر النبي عن نزول الوحي وتلا الآيتين إرتفعت أصواتهم بقولهم: اتنهينا، اتنهينا.

وكلّ هذا يعرف عن رسوخ هذه العادة الشنيعة وهذا العمل القبيح في المجتمع العربي آنذاك إلى درجة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يستطع ـ تحت ضغط الظروف ـ أن يقطع مادة الفساد منذ هبوطه أرض المدينة دفعة واحدة، بل تدرّج في تحقيق التحريم، وترسيخه في أذهانهم ونفوسهم.

رووا أصحاب السنن والمسانيد أنّه لـمّا نزل تحريم الخمر قال عمر: أللّهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في البقرة:( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ ) قال فدعي عمر فقرئت عليه فقال: أللّهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في سورة النساء:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ ) فكان منادي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا اُقيمت الصّلاة ينادي ألّا يقربنّ الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: أللّهم بيّن لنا بياناً شافياً، فنزلت:( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) .

قال عمر: اتنهينا، اتنهينا(١) .

ويظهر ممّا رواه ابن هشام عن بعض أهل العلم: انّ نهي الرسول عن الخمر كان مشهوراً عندما كان مقيماً بمكّة بين ظهراني قريش، وخرج الأعشى إلى رسول الله يريد الإسلام ومعه قصيدته المعروفة في مدح النبي التي مستهلّها:

الم تغتمض عينك ليلة أرمدا

وبتّ كما بات السليم مسهّدا

وما ذاك من عشق النساء وإنّما

تناسيت قبل اليوم صحبة مهددا

__________________

(١) سنن أبي داود: ج ٢ ص ١٢٨، مسند أحمد: ج ١ ص ١٥٣، سنن النسائي: ج ٨ ص ١٨٧، مستدرك الحاكم: ج ٢ ص ٢٧٨، إلى غير ذلك من المصادر.

٤١

إلى أن قال:

فإيّاك والميتات لاتقربنها

لا تأخذن سهماً حديداً لتفصدا

و لاتقربنَّ حرّة كان سرها

عليك حراماً فانكحن أو تأبّدا(١)

فلمّا كان بمكّة أو قريباً منها إعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنّه يريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للسلم فقال له: يا أبا بصير إنّه حرّم الزنا، فقال الأعشى: والله إنّ ذلك لأمر ما لي فيه من ارب، فقال له يا أبا بصير:

فإنّه يحرّم الخمر، فقال الأعشى:

أمّا هذه فو الله إنّ في النفس منها لعُلالات، ولكنّي منصرف فأتروّى منها عامي هذا، ثم آتيه فاُسلم، فانصرف فمات في عامه هذا، ولم يعد إلى رسول الله(٢) .

وببالي أنّه جاء في بعض المصادر أنّه قيل له: إنّه يحرّم الأطيبين والمراد بهما الخمر والزنا، وقد عرفت أنّه مع ما رأى من نور النبوّة ودخل عليه من بصيص الإيمان لم يتحمّل ترك الخمر، فعاد ليتروّى منها، ليعود بعد عام إلى المدينة، ولكن وافاه الأجل قبل أن يسلم.

وهذا مَثل آخر يعرب عن ترسّخ هذه العادة القبيحة في ذلك المجتمع.

٨ ـ وأد البنات

أوّل من لطّخ يده بدم البنات البريئات هم العرب الجاهليّون، فقد كانوا يئدون بناتهم لأعذار مختلفة واهية، فتارة يتذرّعون بخشية الإملاق، والاُخرى يتجنّون بحجّة

__________________

(١) الأرمد: الذي يشتكي عينيه من الرمد، والسليم: الملدوغ، والمسهّد: الذي منع من النوم، والمهدد ـ على وزن معلل ـ: اسم امرأة، وتأبّد: أي تعزّب وابتعد عن النساء.

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٣٨٦.

٤٢

الاجتناب عن العار، وقد حكى سبحانه عقيدة العرب في بناتهم ووأدهنّ في آيات نذكر ما يلي:

( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) ( النحل / ٥٨ و ٥٩ ).

والآية تصوّر احساس القوم وإنفعالهم عندما كان أحدهم يبشّر بولادة أُنثى له، فكان يتجهّم وجهه ويتغيّر إلى السواد، ويظهر فيه أثر الحزن والكراهة، والقوم يكرهون الاُنثى مع أنّهم جعلوها لله سبحانه(١) ، ثمّ لم يزل الحزن يتزايد فيمتلئ الشخص غيظاً، وعند ذلك يستخفي من القوم الذي يستخبرونه عمّا ولد له، إستنكافاً منه، وخجلاً ممّا بشّر به من الاُنثى، ثمّ هو ينكر في أمر البنت المولودة له أيحفظها على ذل وهوان، أم يخفيها في التراب، ويدفنها حيّة وهذا هو الوأد( أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) أي في قتل البنات البريئات المظلومات.

ثمّ إنّه سبحانه يحارب بشدّة هذا العمل الإجرامي في بعض الآيات ويقول:

( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ) ( الإسراء / ٣١ ).

فالله سبحانه هو المتكفّل برزقهم ورزق أولادهم وقتلهم خطأ عظيم عند الله.

وقال سبحانه:( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) ( الأنعام / ١٥١ )

ويؤكّد القرآن على تحريم قتل هذه البنات المظلومات بأنّ المؤودة سيسأل منها يوم القيامة، قال سبحانه:( وَإِذَا المَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ) ( التكوير / ٨ ).

__________________

(١) إشارة إلى قوله سبحانه:( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَىٰ *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ) ( النجم / ٢١ و ٢٢ ).

٤٣

وقد ذكر أصحاب السير بعض الدوافع التي دفعت العرب إلى اتّخاذ مثل هذا الموقف الظالم بشأن تلك البريئات لا يسع المجال لنقلها، ولكن يظهر ممّا نقله صعصعة بن ناجية ـ جد الفرزدق ـ: أنّ ذلك العمل الإجرامي كان شائعاً ورائجاً في غير واحدة من القبائل آنذاك، وإليك البيان:

إنّ صعصعة بن ناجية بن عقال كان يفدّي المؤودة من القتل، ولـمـّا أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: يا رسول الله إنّي كنت أعمل عملاً في الجاهلية، أفينبغي ذلك اليوم ؟ قال: وما عملك ؟ فقال: إنّه حضر ولادة امرأة من العرب بنتاً، فأراد أبوها أن يئدها، قال فقلت له: أتبيعها ؟ قال: وهل تبيع العرب أولادها ؟ قال: قلت إنّما أشتري حياتها ولا أشتري رقّها، فاشتريتها منه بناقتين عشراوين وجمل، وقد صارت لي سُنَّة في العرب على أن أشتري ما يئدونه بذلك فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا مؤودة وقد أنقذتها.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لك أجره إذ منّ الله عليك بالإسلام(١) .

وقد ذكر الفرزدق إحياء جدّه للمؤودات في كثير من شعره كما قال:

ومنّا الذي منع الوائدات

وأحيى الوئيد فلم يؤدد(٢)

ويعرب عن شيوع هذه العادة الوحشيّة والمروّعة قوله سبحانه:

( وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ) ( الأنعام / ١٣٧ ).

وكذا قوله:( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) ( الأنعام / ١٤٠ ).

__________________

(١) بلوغ الارب: ج ٣ ص ٤٤.

(٢) المصدر نفسه.

٤٤

٩ ـ أكل الخبائث من الدماء والحشرات

كانت العرب تأكل لحوم الأنعام وغيرها من الحيوانات كالفأر والضب الوزغ، وتأكل من الأنعام ما قتلته بذبح ونحوه، وتأكل الميتة بجميع أقسامها أعني المنخنقة، والموقوذة، والمتردّية والنطيحة، وما أكل السبع، وكانوا يملؤون الأمعاء من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، وكانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال وشربوا ما يسيل منها من الدماء.

هذا ورغم أنّه مضى على ظهور التشريع الإسلامي إلى الآن أربعة عشر قرناً كثيراً من الاُمم غير المسلمة تأكل أصناف الحيوانات حتّى الكلب والهر، بل والديدان والأصداف، وقد اتّخذ الإسلام بين هذا وذاك طريقاً وسطاً، فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة من بني الإنسان، فحلّل من البهائم الضأن والمعز والبقر والإبل، وكرّه أكل لحوم الفرس والحمار، وحلّل من الطيور غير ذات الجوارح ممّا له حوصلة ودفيف ولا مخلب له، كما حلّل من لحوم البحر بعض أنواع السمك، واشترط في كل واحد من هذه اللحوم نوعاً من التذكية.

والإمعان في الآية التالية يقودنا إلى أنّ العرب كانت تفقد نظام التغذية، أو كانت تتغذّى من كلّ ما وقعت عليه يدها من اللحوم، كما أنّها كانت تفقد الطريقة الصحيحة لذبح الحيوان، فكانوا يقتلونه بالتعذيب بدل ذبحه، وإليه يشير قوله سبحانه:

( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ) ( المائدة / ٣ ).

فقد كانوا ينتفعون من الميتة والدم ولحم الخنزير والمذبوح باسم الأصنام والأوثان.

كما كانوا يستفيدون من « المنخنقة » وهي التي تدخل رأسها بين شعبتين من

٤٥

شجرة فتختنق فتموت أو تخنق بحبل الصائد، « والموقوذة » وهي التي تضرب حتّى تموت، « والمترديّة » وهي التي تقع من جبل أو مكان عال أو تقع في بئر، « والنطيحة » وهي التي ينطحها غيرها فتموت.

١٠ ـ التقسيم بالأزلام

كان التقسيم بالأزلام ميسراً رائجاً بينهم، وكان لهذا العمل صبغة الدين، وقد اختلفوا في تفسيره على قولين:

١ ـ قالوا: المراد طلب قسم الأرزاق بالقداح التي كانوا يتفائلون بها في أسفارهم، وابتداء أُمورهم، وهي سهام كانت في الجاهليّة مكتوب على بعضها: « أمرني ربّي »، وعلى بعضها « نهاني ربّي »، وبعضها غفل لم يكتب عليه شيء، فإذا أرادوا سفراً أو أمراً يهتمّون به، ضربوا على تلك القداح، فإن خرج السهم الذي عليه « أمرني ربّي »، مضى الرجل في حاجته، وإن خرج الذي عليه « نهاني ربّي » لم يمض، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعاد.

٢ ـ روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين كيفيّة التقسيم بالأزلام بشكل آخر، فقال:

إنّ الأزلام عشرة، سبعة لها انصباء وثلاثة لا انصباء لها، فالتي لها انصباء: الفذ، التوأم، المسبل، النافس، الحلس، الرقيب، المعلى. فالفذ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستّة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم.

والتي لا انصباء لها: السفيح والمنيح والوغد.

وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزّئونه أجزاء، ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام، ويدفعونه إلى رجل، وثمن الجزور على من تخرج له « التي لا انصباء لها »

٤٦

وهو القمار، فحرّمه الله تعالى(١) .

والتفسير الثاني أنسب لكون البحث في الآية عن اللحوم المحرّمة.

١١ ـ النسيء في الأشهر الحرم

لقد شاع في الألسن أنّ العرب لـمّا كانوا أصحاب غارات وحروب وكان استمرار الحروب والغارات مانعاً عن إدارة شؤون المعاش، عمدوا إلى تحريم القتال والحرب في الأشهر الأربعة المعروفة بالأشهر الحرم أعني: « رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرّم ».

والظاهر من بعض الآيات أنّ التحريم هذا كان مستنداً إلى تشريع سماوي، كما هو المستفاد من قول الله تعالى:

( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) ( التوبة / ٣٦ ).

فإنّ قوله( ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) إشارة إلى أنّه جزء من الدّين القيّم لا من طقوس العرب الجاهلي، ولعلّه كان سنّة من سنن النبي إبراهيم ورثتها عنه العرب.

وعلى كلّ تقدير فقد كان العرب يتدخّلون في هذا التشريع الإلهي فيؤخّرون الحرمة من الشهر الحرام إلى بعض الأشهر غير المحرّمة.

وبعبارة اُخرى كانوا يؤخّرون الحرمة، ولا يبطلونها برفعها من أساسها واصلها حفاظاً على السنّة الموروثة عن أسلافهم عن النبي إبراهيمعليه‌السلام .

فمثلاً كانوا يؤخّرون تحريم محرّم إلى صفر، فيحرّمون الحرب في صفر

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٢ ص ١٥٨ وما أشبه التقسيم بالأزلام بالعمل المعروف في عصرنا ب‍ « اليانصيب الوطني ».

٤٧

ويستحلّونها في محرّم فيمكثون على ذلك زماناً ثمّ يزول التحريم عن صفر ويعود إلى محرّم، وهذا هو المعنى بالنسيء ( أي التأخير ).

وكان الدافع وراء هذا النسيء هو انّهم أصحاب حروب وغارات، فكان يشقّ عليهم أن يمتنعوا عن القتال ثلاثة أشهر متوالية وهي: ذو القعدة وذو الحجة ومحرّم، ولا يغزون فيها، ولهذا كانوا يؤخّرون تحريم الحرب في محرّم إلى شهر صفر، قال سبحانه:

( إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) ( التوبة / ٣٧ ).

روى أهل السير أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في خطبة حجّة الوداع:

« ألا وانّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات، ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم ورجب مضربين جمادى وشعبان »(١) .

والحديث يعرب عن شكل آخر للنسيء غير ما ذكرناه فإنّ ما ذكرناه كان مختصاً بتأخير حكم الحرب من محرّم إلى صفر، ولكن النسيء المستفاد من الحديث على وجه آخر وهو أنّ المشركين كانوا يحجّون في كل شهر عامين فحجّوا في ذي الحجة عامين، وحجّوا في محرّم عامين، ثمّ حجوا في صفر عامين، وكذا في بقيّة الشهور اللاحقة حتّى إذا وافقت الحجّ التي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة ثمّ حجّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في العام القادم حجّة الوداع، فوافقت في ذي الحجة، فعند ذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته ».

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٢٢.

٤٨

١٢ ـ الربا ذلك الاستغلال الجائر

كان العرب الجاهليّون يرون البيع والربا متماثلين، ويقولون: « إنّما البيع مثل الربا » فيضفون الشرعيّة على الربا كإضفائها على البيع، ولكن شتّان ما بين البيع والربا، فإنّ الثاني ينشر القسوة والخسارة، ويورث البغض والعداوة، ويفسد الأمن والاستقرار، ويهيء النفوس للانتقام بأية وسيلة ممكنة ويدعو إلى الفرقة والاختلاف سواء كان الربا مأخوذاً من قبل الفرد أو مأخوذ من جانب الدولة.

وفي الثاني من المفاسد ما لا يخفى إذ أدنى ما يترتّب عليه تكديس الثروة العامّة، وتراكمها في جانب، وتفشّي الفقر والحرمان في الجانب الآخر، وظهور الهوّة السحيقة بين المعسرين والموسيرين بما لا يسدّه شيء.

ولسنا هنا بصدد بيان هذه المفاسد والمساوئ، لكن الهدف هو الإشارة إلى أنّ الربا كان من دعائم الاقتصاد الجاهلي، والقرآن نزل يوبّخ العرب على ذلك بوجه لا مثيل له، ويقول سبحانه:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) ( البقرة / ٢٧٨ و ٢٧٩ ).

ويقول سبحانه:( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) ( البقرة / ٢٧٥ ).

والآية تشبّه آكل الربا بالممسوس المجنون، فكما أنّه لأجل اختلال قوّته المميّزة لا يفرّق بين الحسن والقبح، والنافع والضار، والخير والشر، فهكذا حال المرابي عند أخذ الربا، فلأجل ذلك عاد لا يفرّق بين الربا والبيع، ويقول:( إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ) مع أنّ الذي تدعو إليه الفطرة وتقوم عليه الحياة الإجتماعية للإنسان، هو أن يعامل بمعاوضة ما عنده من المال الذي يستغني عنه، بما عند غيره من المال الذي يحتاج إليه.

٤٩

وأمّا إعطاء المال وأخذ ما يماثله بعينه، مع زيادة فهذا شيء يخالف قضاء الفطرة وأساس المعيشة، فإنّ ذلك يؤدِّي من جانب المرابي إلى إختلاس مال المدين، وتجمّعه عند المرابي وهذا المال لا يزال ينمو ويزيد، ولا ينمو إلّا من مال الغير، فهو في الانتقاص والانفصال من جانب، وفي الزيادة والانضمام من جانب آخر، ونتيجة ذلك هو ظهور الاختلاف الطبقي الهائل الذي يؤول إلى انقسام المجتمع إلى طبقتين: طبقة ثريّة تملك كل شيء، وطبقة فقيرة تفقد كل شيء، والأُولى تعاني من البطنة، والثانية تتضرر من السغب.

خاتمة المطاف

ونختم البحث بما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره من أنّه قدم أسعد بن زرارة وذكوان بن عبد قيس ـ وهما من الخزرج ـ وكان بين الأوس والخزرج حرب قد بغوا فيها دهوراً طويلة، وكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار، وكان آخر حرب بينهم يوم بعاث، وكانت الأوس على الخزرج، فخرج أسعد بن زرارة وذكوان إلى مكّة في عمرة رجب يسألون الحلف على الأوس، وكان أسعد بن زرارة صديقاً لعُتبة بن ربيعة، فنزل عليه فقال له: إنّه كان بيننا وبين قومنا حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم. فقال عتبة: بعدت دارنا عن داركم ولنا شغل لا نتفرّغ لشيء.

قال: وما شغلكم وأنتم في حرمكم وأمنكم ؟

قال له عتبة: خرج فينا رجل يدّعي أنّه « رسول الله » سفَّه أحلامَنا وسبَّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرّق جماعتنا.

فقال له أسعد: من هو منكم ؟

قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً.

وكان أسعد وذكوان وجميع الأوس والخزرج يسمعون من اليهود الذين كانوا بينهم: النضير وقريظة وقينقاع: أنّ هذا أوان نبيّ يخرج بمكّة يكون مهجره المدينة لنقتلنّكم به يا معشر العرب.

٥٠

فلمّا سمع ذلك أسعد وقع في قلبه ما كان سمعه من اليهود.

فقال: فأين هو ؟ قال: جالس في الحجر وإنّهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم فلا تسمع منه ولا تكلَّمه فإنّه ساحر يسحرك بكلامه، وكان هذا في وقت محاصرة بني هاشم في الشعب.

فقال له أسعد: فكيف أصنع وأنا معتمر ؟ لابدّ أن أطوف بالبيت، فقال له: ضع في أُذنيك القطن.

فدخل أسعد المسجد وقد حشّى اُذنيه من القطن، فطاف بالبيت ورسوله اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جالس في الحجر مع قوم من بني هاشم فنظر إليه فجأة.

فلمّا كان الشوط الثاني قال في نفسه: ما أجد أجهل منّي أيكون مثل هذا الحديث بمكّة فلا أعرفه حتّى أرجع إلى قومي فأخبرهم، ثمّ أخذ القطن من اُذنيه ورمى به، وقال لرسول الله: « أنعم صباحاً » فرفع رسول الله رأسه إليه وقال: قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا، تحيّة أهل الجنّة: السلام عليكم.

فقال أسعد: إنّ عهدي بهذا لقريب، إلى ما تدعو يا محمّد ؟

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إلى شهادة اَن لاَ إلَه إلّا الله وإنّي رسولُ الله وأدعوكم:

١ ـ إلّاتُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .

٢ ـوَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا .

٣ ـوَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ .

٤ ـوَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .

٥ ـوَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلّا بِالحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .

٦ ـوَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ .

٧ ـوَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالمِيزَانَ بِالْقِسْطِ .

٥١

٨ ـلا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلّا وُسْعَهَا .

٩ ـوَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ .

١٠ ـوَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( الأنعام / ١٥١ و ١٥٢ ).

فلمّا سمع أسعد هذا قال: أشهد أنْ لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وإنّك رسول الله، يا رسول الله بأبي أنت وأُمّي، أنا من أهل يثرب من الخزرج، بيننا وبين إخواننا من الأوس حبال مقطوعة، فإن وصلها الله بك، فلا أحد أعزّ منك، ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الأمر رجوت أن ينعم الله لنا أمرنا فيه، والله يا رسول الله لقد كنّا نسمع من اليهود خبرك، كانوا يبشّروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك وأرجو أن تكون دارنا دار هجرتك، وعندنا مقامك، فقد أعلمنا اليهود ذلك، فالحمد لله الذي ساقني إليك، والله ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا، وقد آتانا الله بأفضل ممّا أتيت له(١) .

إنّ هذا النص التاريخي يدفعنا إلى القول بأنّ رئيس الخزرج كان قد وقف على داء قومه العيّاء، ودوائه الناجع، وإنّ قومه لن يسعدوا أبداً بالتحالف مع هذا وذاك وشن الغارات وإن انتصروا على الأوس، وإنّما يسعدون إذا رجعوا إلى مكارم الأخلاق، وتحلّوا بفضائلها التي جاءت أُصولها في هاتين الآيتين اللتين تلاهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حجر إسماعيل.

عرف وافد الخزرج على أنّ مجتمع يثرب ومن والاه قد أشرفوا على الدمار والإنهيار، لأجل أنّهم غارقين في غمرات الشرك، ووأد البنات، واقتراف الفواحش، وقتل النفس المحترمة، وأكل مال اليتيم، وبخس الأموال عند الكيل والتوزين، وترك العدل والقسط في القول والعمل، ونقض عهود الله إلى غير ذلك من الأعمال السيئة فلا يصلحهم إلّا إذا خرجوا عن شراك هذه المهالك والموبقات.

__________________

(١) أعلام الورى بأعلام الهدى: ص ٥٧، وللقصة ذيل جدير بالمطالعة وقد أخذنا منها موضع الحاجة.

٥٢

فخرج إلى يثرب ومعه مبعوث من قبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أعني « مُصعبَ بن عُمير » فبشّر أهل يثرب بما عرف من الحقّ، وصار ذلك تمهيداً لقدوم الرسول الأكرم إلى بلده، بعد ما بعثوا وفوداً إلى مكّة ليتعرّفوا على رسول الله ويبايعوه على ما هو مذكور في السيرة والتاريخ.

فنقول: كان هذا هو موطن النبي ودار ولادته وهذه هي ثقافة قومه وحضارة بيئته، وهذه صفاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهذه هي علومهم ومعارفهم، حروبهم وغاراتهم، عطفهم وحنانهم، كل ذلك يعرب عن إنحطاط حضاري، وإنحلال خلقي، كاد أن يؤدي بهم إلى الهلاك والدمار لو لا أن شاء الله حياتهم الجديدة وميلادهم الحديث.

وأين هذا ممّا جاء به القرآن الكريم والسنّة النبويّة من الدعوة إلى التوحيد، ورفض الأصنام والأوثان، وحرمة النفوس، والأعراض والأموال، والدعوة إلى العلم، والقراءة والكتابة، والحث على العدل والقسط في القول والعمل، والتجنّب عن الدعارة والفحشاء، ومعاقرة الخمر والميسر، فلو دلّ ذلك على شيء فإنّما يدل على أنّ ما جاء به من الأُصول لا يمتّ إلى بيئته بصلة.

هذا ما في الذكر الحكيم حول الوضع الإجتماعي والثقافي والعقائدي والعسكري للعرب في العصر الجاهلي وما كانوا عليه من حيرة وضلال، وسقوط وانهيار، فهلمّ معي ندرس وضع العرب الجاهلي عن طريق آخر وهو الإمعان في كلمات الإمام أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام الذي عاين الوضع الجاهلي بأُمّ عينيه، فقد قام الإمام في خطبه ورسائله وقصار كلماته ببيان أحوال العرب قبل البعثة، وما كان يسودهم من الوضع المؤسف، وبما أنّ الإمام هو الصادق المصدّق، نقتطف من كلامه في مجال الخطب والرسائل والكلم القصار ما يمتّ إلى الموضوع بصلة، وفي ذلك غنى وكفاية لمن أراد الحقّ:

٥٣

أ ـ الفوضويّة العقائديّة

١ ـ« وَأَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقةٌ، وَأهْواءٌ مُنتَشِرَةٌ، وَطَرائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ، بَيْنَ مُشَبِّهٍ للهِ بِخَلْقِهِ، اَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ اَوْ مُشِيرٍ إلى غَيْرِهِ، فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ وَاَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الجَهَالَةِ » (١) .

٢ ـ« بَعَثَهُ والنَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ، وَحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ، واسْتَزَلَّتْهُمُ الكِبْرِيَاءُ، واسْتَخَفَّتْهُمُ الجَاهِلِيَّةُ الجَهْلاَءُ، حَيَارَىٰ فِي زَلْزَالٍ مِنَ الأَمْرِ، وَبَلاَء مِنَ الجَهْلِ فَبَالَغَ صلى‌الله‌عليه‌وآله فِي النَّصِيْحَةِ ومضَىٰ عَلَى الطَّرِيقَةِ وَدَعَا إلى الحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ » (٢) .

٣ ـ« والنَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَزَمَ فِيْهَا حَبْلُ الدِّينِ، وتزَعْزَعَتْ سَوَارِي اليَقِينِ، وَاخْتَلَفَ النَّجْرُ، وتشَتَّتَ الأَمْرُ، وَضَاقَ المَخْرَجُ، وَعَمِيَ المَصْدَرُ، فَالهُدَى خَامِلٌ، وَالعَمَى شَامِلٌ، عُصِيَ الرَّحْمنُ، وَنُصِرَ الشَّيْطَانُ، وَخُذِلَ الاِيمَانُ، فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ، وتنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ، وَدَرَسَتْ سُبُلُهُ، وَعَفَتْ شُرُكُهُ. اَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ، بِهِمْ سَارَتْ اَعْلاَمُهُ، وقامَ لِوَاؤُهُ. فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِاَخْفَافِهَا، وَوَطِئَتْهُمْ بِاَظْلاَفِهَا، وقامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا، فَهُمْ فِيْهَا تَائِهُونَ، حَائِرُونَ، جَاهِلُونَ، مَفْتُونُونَ، في خَيْرِ دَارٍ وَشَرِّ جِيْرَانٍ، نَوْمُهُمْ سُهُودٌ، وَكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ، بِاَرْض عَالِمِهَا مُلْجَمٌ، وَجَاهِلُهَا مُكْرَمٌ » (٣) .

٤ ـ« واشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورسُولُهُ، ابْتَعَثَهُ والنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ، وَيَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ، قَدْ قَادَتْهُمْ اَزِمَّةُ الحَيْنِ، واسْتَغْلَقَتْ عَلَى اَفْئِدَتِهِمْ اَقْفَالُ الرَّيْنِ » (٤) .

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ٩٥.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ٢.

(٤) نهج البلاغة، الخطبة ١٩١.

٥٤

٥ ـ« ثُمَّ اِنَّ الله سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بِالحَقِّ حِيْنَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الاِنْقِطَاعُ، واقْبَلَ مِنَ الآخِرَةِ الإِطِّلاعُ، واظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ اِشْرَاقٍ، وقَامَتْ بِاَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ، وَخَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ، وازِفَ مِنْهَا قِيادٌ، فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا، وَاقْتِرَاب مِنْ اَشْرَاطِهَا، وتصَرُّم مِنْ اَهْلِهَا، وانْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا، وانْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا، وَعَفَاءٍ مِنْ اَعْلاَمِهَا، وتكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا، وقِصَرٍ مِنْ طُولِهَا، جَعَلَهُ اللهُ بَلاَغاً لِرِسَالَتِهِ، وَكَرَامَةً لأمَّتِهِ، وربِيعاً لأهْلِ زَمَانِهِ، ورفْعَةً لأعْوَانِهِ، وَشَرَفاً لأنْصَارِهِ » (١) .

ب ـ الوضع الإجتماعي في العصر الجاهلي

٦ ـ« اَرْسَلَهُ عَلَى حِيْنِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَطُوْلِ هَجْعَةٍ مِنَ الاُمَمِ، واعْتِزَام مِنَ الفِتَنَ وانْتِشَارٍ مِنَ الاُمُورِ، وتلَظٍّ مِنَ الحُرُوبِ، والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ، ظَاهِرَةُ الغُرُورِ، عَلَى حِيْنِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا، وايَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا، واغْوِرَاءٍ مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الهُدَى، وَظَهَرَتْ اَعْلاَمُ الرَّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لأهْلِهَا، عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهِا ثَمَرُهَا الفِتْنَةُ، وَطَعَامُهَا الجِيْفَةُ، وَشِعَارُهَا الخَوْفُ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ، فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللهِ وَاذْكُرُوا تِيْكَ الَّتِي آبَاؤُكُمْ واخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ » (٢) .

ج ـ المستوى الثقافي لأهل الجاهلية

٧ ـ« وَلاَتَكُونُوا كَجُفَاةِ الجَاهِلِيَّةِ، لاَ فِي الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ، وَلاَ عَنِ الله يَعْقِلُونَ، كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي اَدَاحٍ يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً ويخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً » (٣) .

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١٩٨.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ٨٩.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ١٦٦.

٥٥

٨ ـ« اَمَّا بَعْدُ فَاِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله وَلَيْسَ اَحَدٌ مِنَ العَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً، وَلاَيَدَّعِي نُبُوَّةً، وَلاَ وَحْياً » (١) .

د ـ سيادة الوثنية

٩ ـ« فَبَعَثَ الله مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله بِالحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ اِلَىٰ عِبَادَتِهِ، وَمِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إلى طَاعَتِهِ بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَاَحْكَمَهُ » (٢) .

١٠ ـ« بَعَثَهُ حِينَ لاَعَلَمٌ قَائِمٌ، وَلاَ مَنَارٌ سَاطِعٌ، وَلاَ مَنْهَجٌ وَاضِحٌ » (٣) .

ه‍ ـ العصبية الجاهليّة

١١ ـ« اَضَاءَتْ بِهِ البِلاَدُ بَعْدَ الضَّلاَلَةِ المُظْلِمَةِ، والجَهَالَةِ الغَالِبَةِ، وَالجَفْوَةِ الجَافِيَةِ، وَالنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الحَرِيمَ وَيسْتَدِلُّونَ الحَكِيمَ، وَيحْيَونَ عَلَى فَتْرَةٍ، وَيَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَة » (٤) .

و ـ مأكلهم ومشربهم

١٢ ـ« اِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَاَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَاَنْتُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَفِي شَرِّ دَارٍ، مُنْيِخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ، وَحَيَّاتٍ صُمٍّ، تَشْرَبُونَ الكَدِرَ، وَتأْكُلُونَ الجَشِبَ وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ،

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ١٠٤ و ٣٣.

(٢) نهج البلاغة، الخطبة ١٤٧.

(٣) نهج البلاغة، الخطبة ١٩٦.

(٤) نهج البلاغة، الخطبة ١٥١.

٥٦

وَتَقْطَعُونَ اَرْحَامَكُمْ، الاَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، والآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ » (١) .

ز ـ مكانة المرأة في الجاهلية

١٣ ـ كلامه في المرأة الجاهلية مخاطباً عسكره قبل لقاء العدوّ بصفّين:« وَلاَ تَهِيْجُوا النِّسَاءَ بِأَذىً وَاِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَبَبْنَ اُمَرَاءَكُمْ، فَاِنَّهُنَ ضَعِيفَاتُ القُوَى والاَنْفُسِ والعُقُولِ، اِنْ كُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالكَفِّ عَنْهُنَّ وَإِنَّهُنَّ لَمُشْرِكَاتٌ وَاِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَتَنَاوَلُ المَرْأَةَ فِي الجَاهِلِيَّةِ بِالفَهْرِ، أَوِ الهِرَاوَةِ فَيُعَيَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ » (٢) .

( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )

__________________

(١) نهج البلاغة، الخطبة ٢٦.

(٢) نهج البلاغة، الكتاب رقم ١٤ من وصيّته لهعليه‌السلام .

٥٧
٥٨

(٣)

ميلاد النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

أو

تبلّج النور في الظلام الحالك

إنّ التعرّف على حياة النبي يتوقّف على دراسة مراحل ثلاث تشكّل فصول عمره المبارك وهي:

١ ـ من ولادته إلى بعثته.

٢ ـ من بعثته إلى هجرته.

٣ ـ من هجرته إلى رحلته.

إنّ أصحاب السير والتواريخ درسوا الفصول الثلاثة على ضوء الروايات والأحاديث التي تلقّوها عن الصحابة والتابعين، ونحن ندرسها على ضوء القرآن الكريم، فنقول:

إتّفق المؤرخون على أنّ النبي الأكرم ولد عام الفيل، وهي السنة الّتي عمد أبرهة إلى تدمير الكعبة وهدمها ولكنّه باء بالفشل وهلك هو وجنوده بأبابيل، كما يحكي عنه قوله سبحانه:( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ *وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ *تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ *فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ) ( الفيل / ١ ـ ٥ ).

ومن أراد الوقوف على تفصيل القصّة فعليه المراجعة إلى كتب السيرة والتفسير والتاريخ.

٥٩

ويظهر ممّا أخرجه مسلم أنّ هذا اليوم يوم مبارك، قال: إنّ أعربياً قال: يا رسول الله ما تقول في صوم يوم الإثنين ؟ فقال: ذلك يوم ولدت فيه، واُنزل عليّ فيه(١) .

لم يذكر القرآن ما يرجع إلى المرحلة الاُولى من حياته إلّا شيئاً قليلاً نشير إليها إجمالاً:

١ ـ عاش يتيماً فآواه سبحانه.

٢ ـ كان ضالاًّ فهداه.

٣ ـ كان عائلاً فأغناه.

٤ ـ كما ذكر أسماءه في غير واحد من السور.

٥ ـ جاءت البشارة باسمه « أحمد » في الإنجيل.

٦ ـ كان أُمّياً لم يدرس ولم يقرأ ولم يكتب.

٧ ـ كان قبل البعثة مؤمناً موحّداً عابداً لله فقط.

فإليك البحث عن هذه الاُمور واحد بعد آخر:

١ ـ الإيواء بعد اليُتمْ

ولد النبيّ الأكرم من والدين كريمين فوالده عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم.

واتّفقت الإماميّة والزيديّة وجملة من محقّقي السنّة على أنّه كان موحّداً مؤمناً.

ويستدل من صفاته المحمودة، وفضائله المرموقة، والأشعار المأثورة، على

__________________

(١) مسند أحمد: ج ٥ ص ٢٩٧ ـ ٢٩٩، والسنن الكبرى للبيهقي: ج ٤ ص ٢٩٣، وصحيح مسلم ـ كتاب الصيام باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر: ج ١ ص ٩٧.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456