دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

دلائل الصدق لنهج الحق13%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140844 / تحميل: 5344
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٥-١
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

النظر واجب بالعقل لا بالسمع

قال المصنّف ـ طاب رمسه ـ(١) :

المبحث الثاني

في أنّ النظر واجب بالعقل

الحقّ أنّ مدرك وجوب النظر عقليّ لا سمعي ، وإن كان السمع قد دلّ عليه أيضا بقوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا )(٢) .

وقال الأشاعرة قولا يلزم منه انقطاع حجج الأنبياء ، وظهور المعاندين عليهم ، وهم معذورون في تكذيبهم! مع إنّ الله تعالى قال : (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )(٣)

فقالوا : إنّه واجب بالسمع لا بالعقل ، وليس يجب بالعقل شيء ألبتّة!(٤) .

فيلزمهم إفحام الأنبياء ، واندحاض حجّتهم ؛ لأنّ النبيّ إذا جاء إلى المكلّف فأمره بتصديقه واتّباعه ، لم يجب ذلك عليه إلّا بعد العلم بصدقه ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٠ ـ ٥١.

(٢) سورة يونس ١٠ : ١٠١.

(٣) سورة النساء ٤ : ١٦٥.

(٤) الملل والنحل ١ / ٨٨ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٦٤ ـ ٦٥ ، شرح المقاصد ١ / ٢٦٢ ، شرح المواقف ١ / ٢٧٠ ـ ٢٧١.

١٤١

إذ بمجرّد الدعوى لا يثبت صدقه ، بل ولا بمجرّد ظهور المعجزة على يده ما لم ينضمّ إليه مقدّمات

منها : إنّ هذه المعجزة من عند الله تعالى.

[ومنها : إنّه تعالى ] فعلها لغرض التصديق.

ومنها : إنّ كلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق

لكنّ العلم بصدقه حيث يتوقّف على هذه المقدّمات النظرية ، لم يكن ضروريا ، بل يكون نظريّا.

فللمكلّف أن يقول : لا أعرف صدقك إلّا بالنظر ، والنظر لا أفعله إلّا إذا وجب عليّ وعرفت وجوبه ، ولم أعرف وجوبه إلّا بقولك ، وقولك ليس بحجّة عليّ قبل العلم بصدقك!

فتنقطع حجّة النبيّ ، ولا يبقى له جواب يخلص به ، فتنتفي فائدة بعثة الرسل ، حيث لا يحصل الانقياد إلى أقوالهم ، ويكون المخالف لهم معذورا.

وهذا هو عين الإلحاد والكفر! نعوذ بالله منه.

فلينظر العاقل المنصف [ من نفسه ] ، هل يجوز له اتّباع من يؤدّي مذهبه إلى الكفر؟!

وإنّما قلنا بوجوب النظر ؛ لأنّه دافع للخوف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة.

١٤٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ النظر في معرفة الله واجب بالإجماع ، والاختلاف في طريق ثبوته.

فعند الأشاعرة طريق ثبوته : السمع ، لقوله تعالى : (انْظُرُوا )(٢) ؛ ولأنّ معرفة الله واجبة إجماعا ، وهي لا تتمّ إلّا بالنظر ، وما لا يتمّ الواجب المطلق إلّا به فهو واجب ، ومدرك هذا الوجوب هو السمع كما سيتحقّق بعد هذا.

وأمّا المعتزلة ومن تبعهم من الإمامية(٣) ، فهم أيضا يقولون بوجوب النظر ، لكن يجعلون مدركه العقل لا السمع(٤) .

ويعترضون على الأشاعرة بأنّه لو لم يجب النظر إلّا بالشرع لزم إفحام

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٥١ ـ ١٥٥.

(٢) سورة يونس ١٠ : ١٠١.

(٣) إنّ القول بأنّ الإمامية تبع للمعتزلة في علم الكلام ، وأنّهم متّفقون معهم في العقيدة ، قول باطل لا أساس له من الصحّة جملة وتفصيلا

فللإمامية رأيهم المستقلّ ، ومن الخطأ في التعليل والاعتباط في الرأي أن نجعل موافقة الإمامية للمعتزلة دليلا على تأثّرهم بهم ، أو حضور إماميّ عند معتزليّ شاهدا على استجداء العقيدة واستماحة الفكر ، بل إنّ الاحتكاك الفكري هو الذي ينمّي التفكير ويصحّح طرق الاستدلال ويقصّر السبل ويسهّلها ؛ وقد نشأ علم الكلام واستقرّت طرقه ومناهجه عند الإمامية قبل غيرهم.

وقد فصّل البحث في ذلك سماحة الشيخ محمّد رضا الجعفري ـ حفظه الله ـ في مقاله : « الكلام عند الإمامية » المنشور في مجلّة « تراثنا » ، العددين ٣٠ ـ ٣١ ، ص ١٤٤ ـ ٢٩٩ ؛ فراجع.

(٤) شرح الأصول الخمسة : ٤٢ ـ ٤٣ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٦٧ ـ ١٧١.

١٤٣

الأنبياء ، وعجزهم عن إثبات نبوّتهم في مقام المناظرة كما ذكره من الدليل.

والجواب من وجهين :

[ الجواب ] الأوّل : النقض :

وهو : إنّ ما ذكرتم من إفحام الأنبياء ، مشترك بين الوجوب الشرعي ـ الذي هو مذهبنا ـ ، والوجوب العقلي ـ الذي هو مذهبكم ـ ، فما [ هو ] جوابكم فهو جوابنا!

وإنّما كان مشتركا ، إذ لو وجب النظر بالعقل فوجوبه ليس ضروريا ، بل بالنظر فيه ، والاستدلال عليه بمقدّمات مفتقرة إلى أنظار دقيقة من أنّ المعرفة واجبة ، وأنّها لا تتمّ إلّا بالنظر ، وأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب

فيقول المكلّف حينئذ : لا أنظر أصلا ما لم يجب ، ولا يجب ما لم أنظر ، فيتوقّف كلّ واحد من وجود النظر مطلقا ، ووجوبه على الآخر.

لا يقال : إنّه يمكن أن يكون وجوب النظر فطريّ القياس ، فيضع النبيّ للمكلّف مقدّمات ينساق ذهنه إليها بلا تكلّف ، ويفيده العلم بذلك ـ يعني بوجوب النظر ضرورة ـ ، فيكون الحكم بوجوب النظر ضروريا محتاجا إلى تنبيه على طرفيه.

لأنّا نقول : كونه فطريّ القياس مع توقّفه على ما ذكرتموه من المقدّمات الدقيقة الأنظار ، باطل.

وعلى تقدير صحّته ـ بأن يكون هناك دليل آخر ـ فللمكلّف أن لا يستمع إليه وإلى كلامه الذي أراد تنبيهه به ، ولا يأثم بترك النظر أو الاستماع ، إذ لم يثبت بعد وجوب شيء أصلا ، فلا يمكن الدعوة وإثبات

١٤٤

النبوّة ، وهو المراد بالإفحام.

والجواب الثاني : الحلّ :

وهو أن يقال : [ النبيّ له أن يقول ] ـ إذا قال المكلّف : لا أعرف صدقك إلّا بالنظر ، والنظر لا أفعله إلّا إذا وجب عليّ وعرفت وجوبه ـ:

إنّ الوجوب عليك محقّق بالشرع في نفس الأمر ، ولكن لا يلزم أن تعرف ذلك الوجوب.

فإن قال : الوجوب موقوف على علمي به.

قلنا : لا يتوقّف ؛ إذ العلم بالوجوب موقوف على الوجوب ، فلو توقّف الوجوب على العلم بالوجوب لزم الدور ، فليس الوجوب في نفس الأمر موقوفا على العلم بالوجوب.

فإن قال : ما لم أعرف الوجوب لم أنظر.

قلنا : ماذا تريد بالوجوب الذي ما لم تعرفه لم تنظر؟!

فإن قال : أريد بالوجوب ما يكون ترك الواجب به إثما وفعله ثوابا.

قلنا : فقد أثبتّ الشرع حيث قلت بالثواب ، وإلّا فبطل قولك :

« ووجوبه لا أعرفه إلّا بقولك » ، فاندفع الإفحام.

وإن قال : أردت بالوجوب ما يكون ترك الواجب به قبيحا لا يستحسنه العقلاء ، ويترتّب عليه المفسدة ، فيرجع إلى استحسان العقل.

قلنا : فأنت تعرف هذا الوجوب إذا راجعت العقلاء ، وتأمّلت فيه بعقلك ، فإنّ كلّ عاقل يعرف أنّ ترك النظر في معرفة خالقه ـ مع بثّ النعم ـ

١٤٥

قبيح ، وفيه مفسدة ، فبطل قوله : « ولم أنظر ما لم أعرف الوجوب » ، واندفع الإفحام.

لا يقال : هذا الوجه الثاني هو عين [ القول ب‍ ] الحسن والقبح العقليّين ، وليس هذا مذهب الأشاعرة ، بل هذا إذعان لمذهب المعتزلة ومن تابعهم.

قلنا : لأنّا نقول : ليس هذا من الحسن والقبح اللذين وقع فيهما المنازعة أصلا ؛ لأنّ الحسن والقبح ، بمعنى تعلّق المدح والثواب والذمّ والعقاب ، هو محلّ النزاع ، فهو عند الأشاعرة شرعيّ ، وعند المعتزلة عقليّ.

وأمّا الحسن والقبح ، بمعنى ملاءمة الغرض ومنافرته ، وترتّب المصلحة والمفسدة عليهما ، فهما عقليّان بالاتّفاق ؛ وهذا من ذاك الباب ، وسنبيّن لك [ حقيقة ] هذا المبحث في فصل الحسن والقبح إن شاء الله تعالى.

ثمّ اعلم أنّا سلكنا في دفع لزوم الإفحام [ عن الأنبياء ] مسلكا لم يسلكه قبلنا أحد من السلف ، وأكثر ما(١) اطّلعنا عليه من كلامهم لم يفد دفع الإفحام ، كما هو ظاهر على من يراجع كلامهم ، والله العالم.

إذا عرفت هذا ، علمت أنّ الإفحام مندفع على تقدير القول بالوجوب الشرعي في هذا المبحث ، فأين الانجرار إلى الكفر والإلحاد؟!

ثمّ إنّ من غرائب طامّات هذا الرجل أنّه أورد شبهة على كلام الأشاعرة ، وهي مندفعة بأدنى تأمّل ، ثمّ رتّب عليه التكفير والتفسيق ، وهذا

__________________

(١) كان في الأصل : « من » ، وهو تصحيف ؛ والمثبت في المتن من المصدر.

١٤٦

غاية الجهل والتعصّب ، وهو رجل يريد ترويج طامّاته ليعتقده القلندرية والأوباش(١) ورعاع الحلّة من الرفضة والمبتدعة.

__________________

(١) الأوباش من الناس : الأخلاط والضروب المتفرّقون والسفلة ؛ انظر : الصحاح ٣ / ١٠٢٤ ، لسان العرب ١٥ / ٢٠٠ ، تاج العروس ٩ / ٢١٩ ، مادّة « وبش ».

١٤٧

وأقول :

إنّ الجواب النقضي إنّما يتوجّه إذا كان الدليل العقلي على الوجوب ـ نظريا أو ضروريا ـ محتاجا إلى تنبيه.

وأمّا إذا كان ضروريا غنيا عن التنبيه ، فلا ، كالدليل الذي ذكره المصنّف.

فإنّالمقدّمة الأولى منه ، وهي :

« إنّ النظر دافع للخوف » وجدانية ؛ لأنّ النظر إمّا أن يحصل به القطع المؤمّن للقاطع ، أو يوجب الأمان من جهله لو لم يقطع ؛ لأنّ النظر غاية المقدور.

والمقدّمة الثانية ، وهي :

« إنّ دفع الخوف واجب » ضرورية أوّلية ، لا تحتاج إلى التنبيه كالأولى.

فإن قلت :

أين الخوف حتّى يوجب دفعه؟!

قلت :

لا ريب أنّ كلّ عاقل يحتمل بالضرورة أنّ له ربّا لازم العبادة ، وأنّه يعاقبه بجهله فيه ، وترك النظر في معرفته ، والإخلال بعبادته ، فيحصل له الخوف بالضرورة ، فيحتاج إلى النظر ، ويجب عليه عقلا.

١٤٨

ولا يخفى أنّ الخصم أخذ هذا الجواب النقضي بعينه من « المواقف » وشرحها ، من غير تدبّر بعدم انطباقه على المورد ؛ لأنّ المصنّف ذكر لوجوب النظر دليلا ضروريا ، وما ذكره في « المواقف » دليل آخر نظريّ!

فرأى الخصم أنّ صاحب « المواقف » ذكر جوابا سمّاه نقضيا ، فأخذه بلفظه من غير معرفة بعدم انطباقه على الدليل الذي في الكتاب ، وأنّه لا يكون نقضا عليه ، وإنّما يكون نقضا على ما بيّنه في « المواقف ».

ثمّ إنّه قد ذكر في « المواقف » نظير الدليل البديهي المذكور ، وجعله دليلا على وجوب المعرفة عقلا ، لا على وجوب النظر ، فقال : « المعرفة دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ، وهو ـ أي الخوف ـ ضرر ، ودفع الضرر عن النفس واجب [ عقلا ] »(١) .

ولو قال : المعرفة دافعة للخوف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة ؛ لكان أولى.

وأمّا ما ذكره في الحلّ :

فيرد عليه أمور :

الأوّل :

إنّ قوله : « الوجوب عليك محقّق بالشرع في نفس الأمر » كلام غير نافع ، وهو الذي اقتصر عليه علماء الأشاعرة ؛ لأنّ تحقّق وجوب النظر في الواقع وإن لم يتوقّف على العلم ، لكن لا يؤثّر في لزوم إطاعة المكلّف له

__________________

(١) المواقف : ٢٨ ـ ٣١ ، شرح المواقف ١ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

١٤٩

ما لم يعلمه ، فإنّ من لا يعرف الوجوب يكون معذورا في مخالفته وترك النظر ، فيلزم الإفحام.

ولو ادّعيت عدم المعذورية عقلا في مخالفة الوجوب الشرعي الواقعي ، بمجرّد احتمال المكلّف له ، رجعت إلى حكم العقل ، وصار المحرّك للمكلّف على النظر هو العقل لا الشرع.

وبالجملة : إنّما يرتفع الإفحام بعلم المكلّف بالوجوب ، لا بمجرّد وجوده في الواقع ، وقول مدّعي النبوّة لا يفيده العلم ، فلا يرتفع الإفحام ، بخلاف الدليل العقلي ، فإنّه يثبت الوجوب ، ويفيد العلم به ، فيرتفع الإفحام.

الثاني :

إنّه لا يلزم من قول المكلّف : « أريد بالوجوب ما يكون ترك الواجب به إثما وفعله ثوابا » أن يكون مثبتا للشرع ، مذعنا به ؛ لأنّ استعمال اللفظ في معنى لا يستلزم اعتقاد المستعمل بالمعنى ، بل يكفيه سماعه له مستعملا به عند أهل الشرع ، فإذا أراده صحّ كلامه من غير اعتقاد به ، ولزم الإفحام.

الثالث :

إنّ نتيجة قوله : « وإن قال : أردت بالوجوب ما يكون الواجب به قبيحا » إلى آخره ، أن يكون الوجوب عقليا ، وحينئذ ـ لو تمّ ـ لا يكون جوابا حلّيا عن إشكال الإفحام بناء على الوجوب الشرعي.

فظهر أنّ زيادة الخصم على جواب الأشاعرة بقوله : « فإن قال : ما لم أعرف الوجوب لم أنظر » إلى آخر جوابه ، زيادة لاغية لا تنفع

١٥٠

الأشاعرة ؛ لاشتمالها على مقدّمتين :

أولاهما : لا تدفع الإفحام.

والثانية : تجعل الوجوب عقليا كما عرفته في الأمرين الأخيرين.

واعلم أنّ دليل المصنّف العقلي كما يثبت وجوب النظر لمعرفة الله تعالى ، يثبت وجوب النظر لمعرفة النبيّ ، إلّا أنّ وجه الخوف مختلف ، ولا يبعد أنّ المصنّف أراد الأمرين كما هو ظاهر من كلامه.

والله العالم.

* * *

١٥١
١٥٢

المعرفة واجبة بالعقل

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ(١) :

المبحث الثالث

في أنّ معرفة الله تعالى واجبة بالعقل

الحقّ أنّ وجوب معرفة الله تعالى مستفاد من العقل ، وإن كان السمع [ قد ] دلّ عليه ؛ لقوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ )(٢) ؛ لأنّ شكر النعمة(٣) واجب بالضرورة ، وآثار النعمة علينا ظاهرة ، فيجب علينا أن نشكر فاعلها ، وإنّما يحصل بمعرفته ؛ ولأنّ معرفة الله دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة.

وقالت الأشاعرة : إنّ معرفة الله واجبة بالسمع لا بالعقل(٤) ، فلزمهم ارتكاب الدور ، المعلوم بالضرورة بطلانه ؛ لأنّ معرفة الإيجاب تتوقّف على معرفة الموجب ، فإنّ من لا نعرفه بشيء من الاعتبارات ألبتّة ، نعلم ـ بالضرورة ـ أنّا لا نعرف أنّه أوجب ، فلو استفيدت معرفة الموجب من معرفة الإيجاب لزم الدور المحال.

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥١ ـ ٥٢.

(٢) سورة محمّد ٦ ٤٧ : ١٩.

(٣) في المصدر : المنعم.

(٤) الملل والنحل ١ / ٨٨ ، المواقف : ٢٨ ، شرح المواقف ١ / ٢٧٠ ـ ٢٧١.

١٥٣

وأيضا : لو كانت المعرفة إنّما تجب بالأمر ، لكان الأمر بها إمّا أن يتوجّه إلى العارف بالله تعالى ، أو إلى غير العارف ، والقسمان باطلان ، فتعليل الإيجاب بالأمر محال.

أمّا بطلان الأوّل ؛ فلأنّه يلزم منه تحصيل الحاصل ، وهو محال.

وأمّا بطلان الثاني ؛ فلأنّ غير العارف بالله يستحيل أن يعرف : أنّ الله قد أمره ، وأنّ امتثال أمره واجب.

وإذا استحال أن يعرف أنّ الله تعالى قد أمره ، وأنّ امتثال أمره واجب ، استحال أمره ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق ، وسيأتي بطلانه إن شاء الله تعالى.

١٥٤

وقال الفضل(١) :

لا بدّ في هذا المقام من تحرير محلّ النزاع أوّلا ، فنقول :

وجوب معرفة الله تعالى ـ الذي اختلف فيه ـ هل إنّه مستفاد من الشرع أو العقل؟

إن أريد به الاستحسان ، وترتّب المصلحة ، فلا يبعد أن يقال : إنّه مستفاد من العقل ؛ لأنّ شكر المنعم موقوف على معرفته ، والشكر واجب ـ بهذا المعنى ـ بالعقل ، ولا نزاع للأشاعرة في هذا.

وإن أريد به ما يوجب ترتّب الثواب والعقاب ، فلا شكّ أنّه مستفاد من الشرع ؛ لأنّ العقل ليس له أن يحكم بما يوجب الثواب عند الله.

والمعتزلة يوافقون أهل السنّة في أنّ الحسن والقبح ـ بهذا المعنى ـ مركوزان في العقل ، ولكنّ الشرع كاشف عنهما.

ففي المذهبين لا بدّ وأن يؤخذ(٢) من الشرع ، إمّا لكونه حاكما ، أو لكونه كاشفا(٣) .

فكلّ ما يرد على الأشاعرة في هذا المقام بقولهم : « إنّ الشرع حاكم بالوجوب دون العقل » يرد على المعتزلة بقولهم : « إنّ الشرع كاشف للوجوب » ؛ لأنّ في القولين لا بدّ من الشرع ليحكم أو يكشف.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٦٠ ـ ١٦١.

(٢) كان في الأصل : « يوجد » ، وهو تصحيف ؛ والمثبت في المتن من المصدر.

(٣) أي كاشفا عن حكم العقل بوجوب النظر.

١٥٥

ثمّ ما ذكر من أنّ معرفة الله دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف ، ودفع الخوف واجب بالضرورة

فنحن نقول فيه ـ بعد تسليم حكم العقل بالحسن والقبح في الأفعال ، وما يتفرّع عليهما من الوجوب والحرمة وغيرهما ـ : نمنع حصول الخوف المذكور ؛ لعدم الشعور بما جعلتم الشعور به سببا له من الاختلاف وغيره.

ودعوى ضرورة الشعور من العاقل ممنوعة ؛ لعدم الخطور في الأكثر ، فإنّ أكثر الناس لا يخطر ببالهم أنّ هناك اختلافا بين الناس في ما ( ذكروا : أنّ )(١) لهذه النعم منعما قد طلب منهم الشكر عليها ، بل هم ذاهلون عن ذلك ، فلا يحصل لهم خوف أصلا.

وإن سلّم حصول الخوف ، فلا نسلّم أنّ العرفان ـ الحاصل بالنظر ـ يدفعه ، إذ قد يخطئ فلا يقع العرفان على وجه الصواب ؛ لفساد النظر ، فيكون الخوف حينئذ أكثر.

ثمّ ما ذكر من لزوم الدور ، مندفع بأنّ وجوب المعرفة بالشرع في نفس الأمر ، لا يتوقّف على معرفة الإيجاب [ وإن توقّف على الإيجاب ] في نفس الأمر ، فلا يلزم الدور.

ثمّ ما ذكر من أنّ المعرفة لا تجب إلّا بالأمر ، والأمر إمّا أن يتوجّه إلى العارف أو الغافل ؛ وكلاهما باطل

فنقول في جوابه : المقدّمة الثانية القائلة : بأنّ تكليف غير العارف باطل لكونه غافلا ؛ ممنوعة

__________________

(١) في المصدر : « ذكر ، وأنّ ».

١٥٦

إذ شرط التكليف : فهمه وتصوّره ، لا العلم والتصديق به ؛ لأنّ الغافل من لا يفهم الخطاب ، أو لم يقل له : إنّك مكلّف ؛ فتكليف غير العارف ليس من المحال في شيء ؛ والله أعلم.

١٥٧

وأقول :

لا يخفى أنّ معنى الوجوب هو : لزوم الفعل ، وعبّر بعضهم بطلب الفعل مع المنع من الترك ، وهذا ممّا لا يشتبه في نفسه على أحد ، ولا في كونه ـ هو دون غيره ـ محلّ النزاع ، فأيّ وجه لتركه؟!

والترديد في معنى الوجوب بين أمرين لا ربط لهما بالمقصود ، اللهمّ إلّا أن يريد الترديد في سبب الوجوب العقلي ودليله ، لا في معناه ، فهو حسن إذا كان غرضه ـ من الشقّ الأوّل في الترديد ـ تسليم الدليل الأوّل الذي استدلّ به المصنّف ، مع إرادة الخصم بالاستحسان هو الاستحسان على وجه اللزوم.

لكنّ دعوى تسليم الأشاعرة لهذا الدليل ، وعدم النزاع لهم في وجوب شكر المنعم ، غير صحيحة ، لا سيّما إذا أريد به إثبات وجوب المعرفة عقلا.

فإنّهم أنكروا وجوب المعرفة عقلا ـ كما سمعت ـ ، وأنكروا وجوب شكر المنعم عقلا ، مدعين :

أوّلا : إنّه تصرّف في ملك الغير ، فلا يجوز بدون إذنه.

وثانيا : إنّه لو وجب عقلا ، فإن كان لا لفائدة ، يلزم العبث ؛ وإن كان لفائدة : إمّا في الدنيا ، وأنّه مشقّة ؛ أو في الآخرة ، ولا استقلال للعقل فيها.

ويرد على الأوّل : إنّهم إن أرادوا بملك الغير : الجوارح والقوى المدركة ؛ ففيه : إنّ الله سبحانه إنّما خلقها ليتصرّف بها صاحبها ، إلّا أن

١٥٨

يثبت منع الشرع في مورد فيستثنى.

وإن أرادوا به أفعال العبد ؛ فهي عندهم مخلوقة لله تعالى ، فلا تصرّف للعبد فيها ، على إنّ الأصل الإباحة عند الشكّ كما حقّق في أصول الفقه(١) .

ويرد على الثاني : إنّا نختار أنّه لفائدة الشاكر ، سواء قلنا : إنّها في الدنيا ؛ لأنّ المشقّة لا يلتفت إليها في جنب الفائدة ، كيف؟! ولا تحصل فائدة غالبا بدون مشقّة

أم في الآخرة ؛ لأنّ العقل مستقلّ بها ، وحاكم بالثواب عند الله تعالى ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

وأمّا قوله : « وإن أريد به ما يوجب ترتّب الثواب والعقاب ، فلا شكّ أنّه مستفاد من الشرع »

فهو خارج عن المقام ؛ لأنّ الكلام إنّما هو في أصل الوجوب العقلي ودليله ، ولا ربط له بمسألة استحقاق الثواب والعقاب على طاعة التكاليف الشرعية ومخالفتها.

كما إنّ قولنا بالاستحقاق لا يتوقّف على كشف الشرع بالضرورة.

وكيف كان ، فإن أقرّ الخصم بوجوب معرفة الله تعالى عقلا ، وأنّ العقل ملزم للإنسان بالمعرفة وإن لم يعرف الشرع ، لوجوب شكر المنعم عقلا ، الموقوف على المعرفة ، فهو المطلوب.

__________________

(١) انظر : المستصفى من علم الأصول ١ / ٧٥ ، إرشاد الفحول : ٤٧٣ ، المواهب السنية ـ المطبوع بهامش الأشباه والنظائر ، للسيوطي ـ : ٨٣ ، العدّة في أصول الفقه ٢ / ٧٤١ ـ ٧٥١ ، كفاية الأصول : ٣٣٨ و ٣٥٥.

١٥٩

ولكنّ أصحابه لا يعترفون به وإن أنكر ذلك تبعا لأصحابه! فما هذه التفاصيل الخارجة عن المقصود ، والأغاليط التي لا يعرف معناها ، ولا نتيجة لها ، إلّا تشويش الكلام وتلبيس الحقّ!

ومن جملة الخبط في كلامه قوله : « والمعتزلة يوافقون أهل السنّة في أنّ الحسن والقبح بهذا المعنى مركوزان في العقل »

فإنّ حقّ العبارة أن يقول : « ثابتان بالشرع » ، بدلا عن قوله :

« مركوزان في العقل » ؛ لأنّ الأشاعرة لا يقولون بالثواب والعقاب عقلا(١) .

وأمّا ما أجاب به عن الدليل الثاني الذي ذكره المصنّف ، فهو عين لفظ « المواقف » وشرحها ، من قوله : « نحن نقول بعد تسليم » إلى قوله :

« فيكون الخوف حينئذ أكثر »(٢)

ويرد عليه أوّلا : إنّ منع حصول الخوف بدعوى عدم شعور الناس بسببه وهو « الاختلاف » خطأ ظاهر ، سواء أراد المصنّف بالاختلاف ، الاختلاف في وجود الله تعالى ، أم في أنّ لهذه النعم منعما.

وذلك لأنّ الاختلاف في الأمرين أظهر الوجدانيات والمشاهدات ، وأبين محالّ الخلاف في الديانات ، فكيف يمكن أن لا يشعر به الناس؟!

نعم ، ربّما لا يبالي الناس بالجهل ومقتضى الخوف ، وهو أمر آخر.

ويرد عليه ثانيا : إنّ تقييد المنعم بأنّه قد طلب الشكر عليها ، خطأ آخر ؛ لمنافاته لمذهبنا ، وهم يريدون حكاية دليلنا ، فإنّا نقول : إنّ وجوب شكر المنعم عقلي لا شرعي ، وإنّما الشرع مؤكّد(٣) .

__________________

(١) الملل والنحل ١ / ٨٨ ، شرح المواقف ٨ / ١٨٣.

(٢) المواقف : ٣١ ، شرح المواقف ١ / ٢٧٠.

(٣) انظر : الذخيرة في علم الكلام : ١٧٠ ـ ١٧١.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وأمّا ما صدر عن الخضر ـ لو سلّم عدم نبوّته ـ فليس من القطع بالأحكام ، بل في الموضوعات ، وهو خارج عن المقام ، فإنّ قتل مثل الغلام جائز في شريعة موسى ٧ لكنّ موسى لم يعلم أنّه من الأشخاص الّذين يجوز قتلهم ؛ ولذا ، بعد العلم ترك الإنكار.

مع إنّ كلام اليافعي خارج عن محلّ النزاع ؛ لأنّ الكلام في دعوى أنّ من شهد الحقيقة سقطت عنه الأحكام بحسب الشرع الأحمدي ، ويكون شرعا كالطفل في عدم التكليف له ، لا في إمكان أن يحصل لشخص يقين بأنّه غير مكلّف بأحكام المسلمين ، كنبيّ جاءه شرع جديد!

ولا ريب أنّ الأوّل ، بل الثاني ، مخالف لضرورة الدين ، وقائله كافر واجب القتل ، كما قال الغزّالي.

هذا ، وينقل عن الصوفية ضلال آخر ، وهو القول بالتناسخ(١) ، قاتلهم الله تعالى ، وعطّل ديارهم.

* * *

__________________

وقد ورد مضمون هذا الحديث ومعناه في مصادر الجمهور ، فانظر مثلا :

صحيح مسلم ٤ / ١٠٢ ، سنن ابن ماجة ١ / ٣ ـ ٤ ح ١ ـ ٣ ، مسند أحمد ٢ / ٢٥٨ ، سنن الدارقطني ٢ / ٢٢٠ ذ ح ٢٦٧٩ ، السنن الكبرى ١ / ٣٨٨ وج ٤ / ٣٢٦ وج ٧ / ١٠٣ ، تفسير القرطبي ١٨ / ١٣ ، تفسير ابن كثير ٤ / ٣٣٧ في تفسير آية (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا )[ سورة الحشر ٥٩ : ٧ ].

(١) انظر : دائرة معارف القرن العشرين ١٠ / ١٧٧ مادّة « نسخ ».

٢٢١
٢٢٢

في حقيقة الكلام

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ(١) :

المبحث السابع

في أنّه تعالى متكلّم

وفيه مطالب :

[ المطلب ] الأوّل

في حقيقة الكلام

الكلام عند العقلاء : عبارة عن المؤلّف من الحروف المسموعة.

وأثبت الأشاعرة كلاما آخر نفسانيا ، مغايرا لهذه الحروف والأصوات ، ( وهذه الحروف والأصوات )(٢) دالّة عليه(٣) .

وهذا غير معقول ، فإنّ كلّ عاقل إنّما يفهم من الكلام ما قلناه

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) ما بين القوسين ليس في المصدر.

(٣) الأربعين في أصول الدين ـ للرازي ـ ١ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٥٠ ، شرح العقائد النفسية : ١٠٨ ، شرح المواقف ٨ / ٩٣ ـ ٩٤.

٢٢٣

فأمّا ما ذهبوا إليه ، فإنّه غير معقول لهم ولغيرهم ألبتّة ، فكيف يجوز إثباته لله تعالى؟!

وهل هذا إلّا جهل عظيم؟! لأنّ الضرورة قاضية بسبق التصوّر على التصديق.

وإذ قد تمهّدت هذه المقدّمة ، فنقول : لا شكّ في أنّه تعالى متكلّم ، على معنى أنّه أوجد حروفا وأصواتا مسموعة ، قائمة بالأجسام الجمادية ، كما كلّم الله موسى من الشجرة ، فأوجد فيها الحروف والأصوات.

والأشاعرة خالفوا عقولهم وعقول كافّة البشر ، فأثبتوا له تعالى كلاما لا يفهمونه هم ولا غيرهم.

وإثبات مثل هذا الشيء والمكابرة عليه ـ مع إنّه غير متصوّر ألبتّة ، فضلا عن أن يكون مدلولا عليه ـ معلوم البطلان ؛ ومع ذلك ، فإنّه صادر منّا أو فينا [ عندهم ] ، ولا نعقله نحن ولا من ادّعى ثبوته!

٢٢٤

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّه تعالى متكلّم ؛ والدليل عليه : إجماع الأنبياء : عليه ، فإنّه تواتر أنّهم كانوا يثبتون له الكلام ، ويقولون : إنّه تعالى أمر بكذا ، ونهى عن كذا ، وأخبر بكذا ؛ وكلّ ذلك من أقسام الكلام ، فثبت المدّعى(٢) .

ثمّ إنّ الكلام عندهم لفظ مشترك ، تارة يطلقونه على المؤلّف من الحروف المسموعة ، وتارة يطلقونه على المعنى القائم بالنفس ، الذي يعبّر عنه بالألفاظ ، ويقولون : هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته [ تعالى ](٣) .

ولا بدّ من إثبات هذا الكلام ، فإنّ العرف لا يفهمون من الكلام إلّا المؤلّف من الحروف والأصوات

فنقول أوّلا : ليرجع الشخص إلى نفسه ، أنّه إذا أراد التكلّم بالكلام ، فهل يفهم من ذاته أنّه يزوّر(٤) ويرتّب معاني ، فيعزم على التكلّم بها؟ كما أنّ من أراد الدخول على السلطان أو العالم ، فإنّه يرتّب في نفسه معاني وأشياء ، ويقول في نفسه : سأتكلّم بهذا.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢٠٣ ـ ٢٠٦.

(٢) شرح المواقف ٨ / ٩١.

(٣) الأربعين في أصول الدين ـ للرازي ـ ١ / ٢٤٨ و ٢٤٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٠٨ ، شرح المواقف ٨ / ٩٣.

(٤) تزوير الكلام : إصلاح الكلام أو تهيئته وتقديره ؛ انظر : لسان العرب ٦ / ١١٢ ـ ١١٣ مادّة « زور ».

٢٢٥

فالمنصف يجد من نفسه هذا ألبتّة ؛ فهذا هو الكلام النفسي.

ثمّ نقول ـ على طريقة الدليل ـ : إنّ الألفاظ التي نتكلّم بها ، لها مدلولات قائمة بالنفس ، فنقول : هذه المدلولات هي الكلام النفسي.

فإن قال الخصم : تلك المدلولات هي عبارة عن العلم بتلك المعاني.

قلنا : هي غير العلم ؛ لأنّ من جملة الكلام الخبر ، وقد يخبر الرجل عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه أو يشكّ فيه ، فالخبر عن الشيء غير العلم به.

فإن قال : هو الإرادة.

قلنا : هو غير الإرادة ؛ لأنّ من جملة الكلام الأمر ، وقد يأمر الرجل بما لا يريده ، كالمختبر لعبده هل يطيعه أو لا ، فإنّ مقصوده مجرّد الاختبار دون الإتيان بالمأمور به ؛ وكالمعتذر من ضرب عبده بعصيانه ، فإنّه قد يأمره وهو يريد أن لا يفعل المأمور به ، ليظهر عذره عند من يلومه.

واعترض عليه : بأنّ الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر لا حقيقته ؛ إذ لا طلب فيهما أصلا ، كما لا إرادة قطعا.

وأقول : لا نسلّم عدم الطلب فيهما ؛ لأنّ لفظ الأمر إذا وجد فقد وجد مدلوله عند المخاطب ، وهو الطلب.

ثمّ إنّ في الصورتين لا بدّ من تحقّق الطلب من الآمر ؛ لأنّ اعتذاره واختباره موقوفان على أمرين : الطلب منه ، مع عدم الفعل من المأمور ؛ وكلاهما لا بدّ [ من ] أن يكونا محقّقين ليحصل الاعتذار والاختبار.

قال صاحب « المواقف » هاهنا : « ولو قالت المعتزلة : إنّه ـ أي المعنى

٢٢٦

النفسي الذي يغاير العبارات في الخبر والأمر ـ هو إرادة فعل يصير سببا لاعتقاد المخاطب علم المتكلّم بما أخبر به ، أو يصير سببا لاعتقاده إرادته ـ أي إرادة المتكلّم ـ لما أمر به ، لم يكن بعيدا ؛ لأنّ إرادة فعل كذلك موجودة في الخبر والأمر ، ومغايرة لما يدلّ عليها من الأمور المتغيّرة والمختلفة ، وليس يتّجه عليه أنّ الرجل قد يخبر بما لا يعلم ، أو يأمر بما لا يريد ، وحينئذ لا يثبت معنى نفسي يدلّ عليه بالعبارات مغاير للإرادة كما تدّعيه الأشاعرة »(١) .

هذا كلام صاحب « المواقف ».

وأقول : من أخبر بما لا يعلمه ، قد يخبر ولا يخطر له إرادة شيء أصلا ، بل يصدر عنه الإخبار وهو يدلّ على مدلول ؛ هو الكلام النفسي ، من غير إرادة في ذلك الإخبار لشيء من الأشياء.

وأمّا في الأمر ، وإن كان هذه الإرادة موجودة ، ولكن ظاهر أنّه ليس عين الطلب ، الذي هو مدلول الأمر ، بل شيء يلزم ذلك الطلب.

فإذا تلك الإرادة مغايرة للمعنى النفسي ، الذي هو الطلب في هذا الأمر ، وهو المطلوب.

ولمّا ثبت أنّ ها هنا صفة هي غير الإرادة والعلم ، فنقول : هو الكلام النفساني ؛ فإذا هو متصوّر عند العقل ، ظاهر لمن راجع وجدانه غاية الظهور ، فمن ادّعى بطلانه وعدم كونه متصوّرا ، فهو مبطل.

وأمّا من ذهب إلى أنّ كلام الله تعالى هو أصوات وحروف يخلقها الله

__________________

(١) المواقف : ٢٩٤ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ٩٥.

٢٢٧

تعالى في غيره ، كاللوح المحفوظ ، أو جبرئيل ، أو النبيّ ، وهو حادث(١)

فيتّجه عليه : إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم ، وخالق الكلام لا يقال : إنّه متكلّم ، كما إنّ خالق الذوق لا يقال : إنّه ذائق.

وهذا ظاهر البطلان عند من يعرف اللغة والصرف ، فضلا عن أهل التحقيق.

نعم ، الأصوات والحروف دالّة على كلام الله تعالى ، ويطلق عليها « الكلام » أيضا ، ولكنّ « الكلام » في الحقيقة : هو ذلك المعنى النفسي كما أثبتناه.

__________________

(١) انظر : شرح الأصول الخمسة : ٥٢٨ ، المنقذ من التقليد ١ / ٢١٥ ـ ٢١٦ ، وانظر : المواقف : ٢٩٣ ـ ٢٩٤ ، شرح المواقف ٨ / ٩٢ ـ ٩٣.

٢٢٨

وأقول :

لا يخفى أنّه إذا صدر من المتكلّم خبر فليس هناك إلّا خمسة أمور :

الأوّل : اللفظ الصادر عنه.

الثاني : معاني مفردات اللفظ ، ومعنى هيئته.

الثالث : تصوّر الألفاظ والمعاني.

الرابع : مطابقة النسبة للواقع ، وعدمها.

الخامس : التصديق ، والعلم بالنسبة الثبوتية والسلبية حيث يكون معتقدا بها.

كما أنّه إذا صدر منه أمر أو نهيّ لم يكن هناك إلّا أربعة أمور : الثلاثة الأول ، ورابع هو : الإرادة والكراهة ، ومقدّماتهما ؛ كتصوّر المرجّحات والتصديق بها.

ومن الواضح أنّ الكلام النفسي الذي يعنونه في الخبر مخالف للأمر الأوّل.

وكذا للثاني ؛ لأنّ معاني المفردات والهيئة أمور خارجية غالبا غير قديمة ، فكيف تكون هي المراد بالكلام النفسي؟!

ومخالف أيضا للرابع ، ضرورة أنّه غير المطابقة للواقع وعدمها.

وللثالث والخامس ؛ لأنّه غير تصوّر الأطراف والعلم بالنسبة بإقرارهم.

فلا يكون الكلام النفسي في الخبر معقولا.

٢٢٩

وأمّا ما ذكره من صورة التزوير ، فلا يدلّ على وجود غير المذكورات الخمسة ، فإنّ ترتيب أجزاء الكلام أو معانيه في الذهن لا يقتضي أكثر من تصوّرها قبل النطق.

كما إنّ انتفاء العلم عن المخبر الشاكّ أو العالم بالخلاف لا يقتضي إلّا انتفاء التصديق بالمخبر به ، لا ثبوت أمر آخر غير الخمسة.

وكذا الحال في الكلام النفسي في الأمر والنهي ؛ لأنّه لا يصحّ أن يراد به الأوّلان ، أعني : اللفظ ومعاني مفرداته وهيئته ، وهو ظاهر

ولا الثالث ، أعني : تصوّر الألفاظ والمعاني

ولا الرابع ، أعني : الإرادة والكراهة ومقدّماتهما ؛ لأنّ هذين الأمرين ليسا بكلام نفسي عندهم ، ولا نعقل أمرا غير المذكورات يكون كلاما نفسيا.

وأمّا خلوّ صورتي الاعتذار والاختبار عن الإرادة والكراهة ، فلا يدلّ على وجود طلب آخر حتّى يكون كلاما نفسيا ، فإنّا لا نجد في الصورتين طلبا في النفس أصلا ، كما لا نجد في غيرهما إلّا طلبا واحدا يعبّر عنه بالطلب مرّة ، وبالإرادة والكراهة أخرى.

وأمّا ما قاله من وجود الطلب في الصورتين ، بدليل وجوده عند المخاطب ، وبدليل صحّة اعتذار المتكلّم واختباره الدالّة على حصولطلب منه

ففيه : إنّ معنى وجود الطلب عند المخاطب إنّما هو تصوّره وفهمه إيّاه ، فلا يتوقّف على حصوله عند المتكلّم في الواقع ، نظير ما يفهمه السامع للخبر الكاذب ، فإنّه لا يتوقّف على ثبوته في الواقع.

٢٣٠

وأمّا صحّة الاعتذار والاختبار ، فلا تتوقّف إلّا على إظهار ثبوت الطلب ، فلا يكون الموجود في الصورتين إلّا صيغة الطلب وصورته لا حقيقته.

فإن قلت : فعلى هذا يخلو الأمر والنهي عن المعنى واقعا في الصورتين.

قلت : إن أريد من الخلوّ عن المعنى انتفاء ذاته واقعا وعند المتكلّم ، فنحن نلتزم به ، ولا يضرّ في الدلالة ، كما في الخبر الكاذب.

وإن أريد انتفاؤه في مقام الدلالة عند السامع ، فهو ممنوع ؛ لأنّ ثبوت المعنى عند السامع إنّما يكون بتصوّره له ، وهو حاصل عند سماع اللفظ للعالم بمعناه ، ولا يتوقّف على العلم بإرادة المتكلّم له.

على إنّه قد يقال : إنّ معنى الأمر والنهي ليس هو الإرادة والكراهة القائمتين بالنفس حتّى يلزم انتفاء المعنى في صورتي الاختبار والاعتذار ، بل هو الإرادة والكراهة القائمتان باللفظ بإنشائه لهما ؛ لأنّ صيغ الإنشاء منشئة وموجدة لمعانيها ، لا حاكية عن أمور نفسية.

غاية الأمر : إنّ الأمور النفسية إذا ثبتت في الواقع تكون داعية لإنشاء الطلب والإرادة والكراهة وإذا لم تثبت ، يكون الداعي غيرها ، كالاختبار وإظهار العذر في الصورتين.

فحينئذ يكون المعنى في الصورتين موجودا حقيقة ، كغيرهما ، إلّا أنّه موجود بوجود إنشائي في الجميع ، ومثله الكلام في سائر الصيغ الإنشائية.

وكيف كان ، فنحن في غنى عمّا ذكره الفضل عن « المواقف » ، فلا حاجة إلى الإطالة بتحقيق أمره والنظر في ما أورده عليه.

٢٣١

وأمّا قوله : « إنّ كلّ عاقل يعلم أنّ المتكلّم من قامت به صفة التكلّم »

فقد خالف به الأشاعرة ، حيث قالوا : « المتكلّم من قام به الكلام » كما ذكره القوشجي(١) ، وقد فرّ بذلك عمّا أورد عليهم ، وذكره الشريف الجرجاني ـ على ما نقل عنه ـ وهو أنّ الكلام هيئات وكيفيات عارضة للصوت القائم بالهواء(٢) .

فيكون الكلام قائما بالهواء ، والهواء ليس قائما بالمتكلّم حتّى يقال :

ما قام به قائم بالمتكلّم بالوساطة.

فإذا ، نسبة الكلام إلى المتكلّم ليست لقيامه فيه ، بل بأن يعيّن حروفه وكلماته ، ويميّز بعضها عن بعض فلو كان المتكلّم من قام به الكلام ، لم يصحّ إطلاقه على الإنسان.

فالتجأ الشريف وتبعه الفضل إلى القول بأنّ المتكلّم من قام به التكلّم ، ولم يعلما أنّ التكلّم حينئذ يكون بمعنى تعيين الحروف وإيجادها ، والمتكلّم بمعنى موجدها.

فيكون التكلّم قائما بذاته تعالى قيام صدور ، بلا حاجة إلى المعنى النفسي ، كما يقوم بالبشر ، ويوصف كلّ منهما بالمتكلّم بمعنى واحد.

هذا لو حملنا كلامه على ما أراده الشريف.

وأمّا إذا أخذنا بظاهره ، حيث عرّف « المتكلّم » ـ بحسب النسخ التي وجدناها ـ بمن قامت به صفة المتكلّم ، بصيغة اسم الفاعل لا المصدر ،

__________________

(١) شرح التجريد : ٤١٩.

(٢) انظر مؤدّاه في تعريف الصوت من كتابه التعريفات : ١٣٥.

٢٣٢

كانت هذه المقدّمة لاغية ، والمدار على قوله بعدها : « وخالق الكلام لا يقال إنّه متكلّم » ، وهو دعوى مجرّدة يردّها أيضا ما سبق.

فالحقّ أنّ المتكلّم من تلبّس بالتكلّم ، وتلبّسه به من حيث إيجاده للكلام في الهواء بمباشرة لسان المتكلّم ـ كما في كلام الإنسان ـ ، أو بمباشرة شجرة ونحوها ـ كما في كلام الله تعالى ـ ، وهذا نحو من أنحاء التلبّس ، فإنّها مختلفة :

إذ قد تكون بنحو الإيجاد ، كما عرفت ، ومثله الخطّاط والصبّاغ ، فإنّ تلبّسهما بالخطّ والصبغ ، بإيجادهما لهما في الثوب والقرطاس مثلا.

وقد تكون بنحو الحلول ، كالحيّ والميّت.

وقد تكون بنحو الانتزاع ، كما في صفات الباري جلّ وعلا ، بناء على قول أهل الحقّ من كون صفاته تعالى عين ذاته خارجا ، منتزعة منها مفهوما.

.. إلى غير ذلك من أنحاء التلبّس ، كملابسة التمّار للتمر بالبيع.

فلا يلزم أن يكون التلبّس مخصوصا بالحلول ، حتّى يقال بثبوت الكلام النفسي بناء على تصوّره.

ثمّ إنّ هذه الملابسات لا تجعل المشتقّات قياسية ، بل تتبع الورود ، فربّ مشتقّ يستعمل مع ملابسة لا يستعمل الآخر معها ، ولا يستعمل هو بدونها.

فلا يرد على دعوى إطلاق « المتكلّم » عليه تعالى بملابسة الإيجاد ، النقض بالذائق والمتحرّك ، حيث لا يطلقان عليه تعالى مع إيجاده الذوق والحركة.

٢٣٣

على إنّه لو تمّ ما ذكره الفضل من كون « المتكلّم » وضعا هو من قام المبدأ به قيام حلول ، فهو بحث لفظي لا يلتفت إليه مع امتناعه عقلا ، فيلزم أن يراد به معنى الموجد.

مضافا إلى أنّه لم يعلم إطلاق « المتكلّم » عليه تعالى في الكتاب والسنّة ، وإن أطلق عليه فيهما أنّه أخبر وأمر ونهى وقال وكلّم ويكلّم

بل إطلاق « المتكلّم » عليه عرفيّ مستفاد من إطلاق تلك الأمور في الكتاب والسنّة عليه تعالى ، فلا ينفع الخصم بوجه سديد ألبتّة.

ثمّ إنّه على ما ذكرنا من كون المتكلّم موجد الكلام ، يكون التكلّم من الصفات الإضافية الآتية من جهة القدرة : كالرازق والخالق ، لا من الصفات الذاتية القديمة التي هي في عرض القدرة : كالحيّ والعالم ، خلافا للأشاعرة.

هذا ، والأعجب من الأشاعرة : الحنابلة ، فإنّهم وافقوا الأشاعرة في قدم كلامه ، لكن قالوا : هو حروف وأصوات قائمة بذاته تعالى ؛ كما نقله عنهم في « المواقف » و« شرح التجريد » للقوشجي(١) .

ونقلا عن بعضهم أنّه قال : « الجلد والغلاف قديمان » أيضا(٢) .

وهذا هو الجهل المفرط!

وسيذكر المصنّف ; دلالة العقل على حدوث الحروف ، فانتظر.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٢٩٣ ، شرح التجريد : ٤١٦.

(٢) المواقف : ٢٩٣ ، شرح التجريد : ٤١٦ ؛ أي : « فضلا عن المصحف » كما جاء في شرح التجريد وشرح المواقف ٨ / ٩٢.

٢٣٤

كلامه تعالى متعدّد

قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ(١) :

[ المطلب ] الثاني

في أنّ كلامه تعالى متعدّد

المعقول من الكلام ـ على ما تقدّم ـ أنّه الحروف والأصوات المسموعة ، وهذه الحروف المسموعة إنّما تلتئم كلاما مفهوما إذا كان الانتظام على أحد الوجوه التي يحصل بها الإفهام ، وذلك بأن يكون : خبرا ، أو أمرا ، أو نهيا ، أو استفهاما ، أو تنبيها ؛ وهو الشامل للتمنّي ، والترجّي ، والتعجّب ، والقسم ، والنداء ؛ ولا وجود له إلّا في هذه الجزئيات.

والّذين أثبتوا قدم الكلام اختلفوا ، فذهب بعضهم إلى أنّ كلامه [ تعالى ] واحد مغاير لهذه المعاني ؛ وذهب آخرون : إلى تعدّده(٢) .

والّذين أثبتوا وحدته خالفوا جميع العقلاء في إثبات شيء

__________________

(١) نهج الحقّ : ٦٠ ـ ٦١.

(٢) انظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٢٤٩ ـ ٢٥١ ، شرح العقائد النسفية ـ للتفتازاني ـ : ١١٠ ـ ١١١ ، شرح المواقف ٨ / ٩١ ـ ٩٤ ، شرح التجريد : ٤١٨ ـ ٤١٩.

٢٣٥

لا يتصوّرونه هم ولا خصومهم!

ومن أثبت لله تعالى وصفا لا يعقله ولا يتصوّره هو ولا غيره ، كيف يجوز أن يجعل إماما يقتدى به ، ويناط به الأحكام؟!

* * *

٢٣٦

وقال الفضل(١) :

الأشاعرة لمّا أثبتوا الكلام النفساني جعلوه كسائر الصفات ، مثل :

العلم والقدرة ، فكما إنّ القدرة صفة واحدة تتعلّق بمقدورات متعدّدة ، كذلك الكلام صفة واحدة تنقسم إلى الأمر والنهي والخبر والاستفهام والنداء.

وهذا بحسب التعلّق ، فذلك الكلام الواحد باعتبار تعلّقه بشيء على وجه مخصوص يكون خبرا ، وباعتبار تعلّقه بشيء آخر [ أ ] وعلى وجه آخر يكون أمرا ، وكذا الحال في البواقي.

وأمّا من جعل الكلام عبارة عن الحروف والأصوات ، فلا شكّ أنّه يكون متعدّدا عنده.

فالنزاع بيننا وبين المعتزلة والإمامية في إثبات الكلام النفساني ، فإن ثبت ، فهو قديم واحد كسائر الصفات ؛ وإن انحصر الكلام في اللفظي ، فهو حادث متعدّد ؛ وقد أثبتنا الكلام النفسي ، فطامّات الرجل ليست إلّا التّرّهات.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٢١٦.

٢٣٧

وأقول :

صرّح الفضل وغيره أنّ الكلام النفسي مدلول الكلام اللفظي ، ومعه كيف يكون اللفظي متعدّدا دون النفسي؟! وإلّا لخرج عن كونه مدلولا مرتّبا في النفس على حسب ترتيب اللفظي!

على إنّه لا وجه لأن يحصل مفهوم الكلام بمجرّد تعلّقه بأنواع الكلام من دون أن يكون في نفسه على أحد الهيئات المخصوصة.

ثمّ ما أراد بتعلّقه بالأمر والنهي وأخواتهما؟!

فإن أراد به إيجاده لها ، فلا نعرف صفة ذاتية بها الإيجاد سوى القدرة.

وإن أراد كونه جنسا لها ، لزم وجود الجنس في القدم بدون الفصل ، وهو باطل.

وإن أراد به عروضه عليها ، لزم عروض القديم في قدمه على الحادث في حدوثه ، وهو ممتنع ؛ ولا يمكن وجوده قبلها ؛ لامتناع قيام العرض بلا معروض.

وإن أراد العكس ، وأنّه معروض لها ، فإن كان عروضها في القدم ، نافى فرض حدوثها ، ولزم عروض الحادث في حدوثه على القديم في قدمه وإن كان عروضها حال حدوثها ، لزم أن لا يكون في القدم كلاما لعدم العروض حينئذ ؛ ولا نتصوّر وجها لكونه كلاما حقيقيا قبل العروض.

وإن أراد به ما هو من نحو الانكشاف وتعلّق العلم بالمعلوم ، فقد

٢٣٨

صار علما ؛ وهو كما ترى.

وإن أراد غير ذلك ، فليبيّنه أصحابه حتّى نعرف صحّته من فساده.

وبالجملة : كما لا نعقل معنى للكلام النفسي ، لا نعقل وجها صحيحا لتعلّقه ، لا سيّما مع حفظ دلالة الكلام اللفظي عليه على نحو دلالة اللفظ على معناه المطابقي.

* * *

٢٣٩
٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456