دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

دلائل الصدق لنهج الحق0%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: 456

دلائل الصدق لنهج الحق

مؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف:

ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: 456
المشاهدات: 131824
تحميل: 4455


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131824 / تحميل: 4455
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء 2

مؤلف:
ISBN: 964-319-355-1
العربية

الجمر(١) ، بحيث لا تمايز ؛ أو يتّحد به ، بحيث لا اثنينية ولا تغاير ، وصحّ أن يقول : هو أنا ، وأنا هو ، وحينئذ يرتفع الأمر والنهي ، ويظهر من الغرائب والعجائب ما لا يتصوّر من البشر »(٢) !

وقال القوشجي في « شرح التجريد » عند بيان أنّ وجوب الوجود يدلّ على نفي الاتّحاد : « قال بعض الصوفية : إذا انتهى العارف نهاية مراتب العرفان ، انتفى هويّته ، فصار الموجود هو الله وحده ، وهذه المرتبة هي الفناء في التوحيد »(٣) .

وحينئذ فمعنى « الفناء » : هو نفي الشخص هويّته ، وصيرورته هويّة أخرى ، فيصير الموجود هو الله وحده ، ويتّحد وجود العبد بوجوده تعالى!

وعليه : فمعنى « البقاء » : هو بقاء العبد بلحاظ ترقّيه إلى الرتبة العالية ، واتّحاده مع ربّه ، فتكون كثرة الرياضات مفنية للعبد من جهة هويّته الناقصة ، مبقية له من جهة كماله واتّحاده مع الله سبحانه!

وهذا هو الكفر الصريح ، وعين الإلحاد.

فإذا صدق المصنّف في نقله عن بعض الصوفية ، فما وجه تلك القعقعة التىّ ارتكبها الفضل؟!

وما ذلك الإنكار والوقيعة بوليّ الله المصنّف ، الصادق في نقله عن الخارجين عن الدين ، المخالفين لنهج سيّد المرسلين في عبادته وجميع أحواله؟!

وأمّا ما ذكره في تحقيق وحدة الوجود ، من أنّ نسبة الوجود والعدم

__________________

(١) في المصدر : « الحجر ».

(٢) شرح المقاصد ٤ / ٥٧ و ٥٩.

(٣) شرح التجريد : ٤٢٥ المقصد الثالث.

٢٠١

إلى الممكن على السواء ؛ فهو لا يقتضي إلّا نفي الرجحان الذاتي للممكن بالنسبة إلى الوجود والعدم ، وأمّا نفي الوجود الحقيقي للممكن كما زعمه ، فلا ؛ اللهمّ إلّا أن يكون بنحو المسامحة ، وعدّ وجود الممكن ك‍ « لا وجود » بالنسبة إلى وجود الواجب ؛ لأنّه الأصل ، ووجود الممكن فرعه وأثره.

فعبّر عن هذا بتلك الاصطلاحات الفارغة الهائلة ، لكنّه غير ما يريده القائلون بوحدة الوجود من الصوفية وغيرهم

فإنّهم يريدون أنّ الوجود المطلق عين الواجب تعالى ، وأنّ الممكنات تعيّنات له ، فيلزم منه نفي الماهية ، وأن يكون وجود الممكنات من معيّنات وجود الباري ومصاديقه.

فيتمّ ما نقله المصنّف عنهم ، من أنّ الله تعالى نفس الوجود ، وأنّ كلّ موجود هو الله!!(١) .

تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

__________________

(١) تجد عقيدة المتصوّفة في الحلول والاتّحاد في أقوالهم المبثوثة في تراجمهم ، إذا راجعت مظانّها ، فمثلا :

قال المحقّق نصير الدين الطوسي ;: ذهب بعض النصارى إلى حلول الله تعالى في المسيح ، وبعض المتصوّفة إلى حلوله في العارفين الواصلين!

ونقل الفخر الرازي أنّ أبا يزيد البسطامي قال : سبحاني ما أعظم شأني!

وأنّ الحسين بن منصور الحلّاج قال : أنا الحقّ!

وقال : ما في الجبّة إلّا الله!

وأنشد شعرا قال فيه :

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرته

وإذا أبصرته أبصرتنا

انظر : المنتظم ٨ / ٣٠ حوادث سنة ٣٠٩ ه‍ ، المسائل الخمسون : ٤١ ـ ٤٢ المسألة ١٢ ، تلخيص المحصّل : ٢٦٠ ـ ٢٦١ ، وفيات الأعيان ٢ / ١٤٠ رقم ١٨٩ ، سير أعلام النبلاء ١٤ / ٣٤٧ و ٣٥٢ ، شذرات الذهب ٢ / ٢٥٥ حوادث سنة ٣٠٩ ه‍.

٢٠٢

إنّه تعالى لا يحلّ في غيره

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

المبحث السادس

في أنّه تعالى لا يحلّ في غيره

من المعلوم القطعي أنّ الحالّ مفتقر إلى المحلّ ، والضرورة قضت بأنّ كلّ مفتقر إلى الغير ممكن

فلو كان الله تعالى حالّا في غيره لزم إمكانه ، فلا يكون واجبا ، وهذا خلف.

وخالفت الصوفية من الجمهور في ذلك ، وجوّزوا عليه الحلول في أبدان العارفين(٢) ؛ تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فانظر إلى هؤلاء المشايخ الّذين يتبرّكون بمشاهدهم ، كيف اعتقادهم في ربّهم ، وتجويزهم عليه : تارة الحلول ، وأخرى الاتّحاد ، وعبادتهم الرقص والتصفيق والغناء(٣) ؟!

__________________

(١) نهج الحقّ : ٥٨ ـ ٥٩.

(٢) انظر : شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٣ / ٢٣٢ ، تلخيص المحصّل : ٢٦١ ، شرح التجريد ـ للقوشجي ـ : ٤٢٥.

(٣) انظر في ذلك : إحياء علوم الدين ٢ / ٣٩٨ ـ ٤٢٠ ، شرح ديوان ابن الفارض ١ / ١٠.

٢٠٣

وقد عاب الله على الجاهلية الكفّار في ذلك ، فقال عزّ من قائل : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً )(١) .

وأيّ تغفّل أبلغ من تغفّل من يتبرّك بمن يتعبّد الله بما عاب عليه الكفّار؟! (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ )(٢) .

ولقد شاهدت جماعة من الصوفية في حضرة مولانا الحسين صلوات الله عليه ، وقد صلّوا المغرب سوى شخص واحد منهم ، كان جالسا لم يصلّ ، ثمّ صلّوا بعد ساعة العشاء سوى ذلك الشخص ، فسألت بعضهم عن ترك صلاة ذلك الشخص ، فقال : وما حاجة هذا إلى الصلاة وقد وصل؟!

أ يجوز أن يجعل بينه وبين الله حاجبا؟!

فقلت : لا.

فقال : الصلاة حاجب بين العبد والربّ!

فانظر أيها العاقل إلى هؤلاء! وعقائدهم في الله تعالى كما تقدّم ، وعبادتهم ما سبق ، واعتذارهم في ترك الصلاة كما مرّ ، ومع ذلك فإنّهم عندهم الأبدال ، فهؤلاء أجهل الجهّال.

* * *

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٣٥.

والمكاء : الصفير ؛ انظر : الصحاح ٦ / ٢٤٩٥ ، لسان العرب ١٣ / ١٦٤ مادّة « مكا ».

والتصدية : التصفيق ؛ انظر : الصحاح ٦ / ٢٣٩٩ ، لسان العرب ٧ / ٢٩٨ ، مادّة « صدي / صدد ».

(٢) سورة الحجّ ٢٢ : ٤٦.

٢٠٤

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : أنّه تعالى لا يجوز أن يحلّ في غيره ؛ وذلك لأنّ الحلول هو الحصول على سبيل التبع ، وأنّه ينفي الوجوب الذاتي.

وأيضا : لو استغنى عن المحلّ لذاته(٢) لم يحلّ فيه ، وإلّا لاحتاج إليه لذاته ، ولزم حينئذ قدم المحلّ ، فيلزم محالان معا(٣) .

وأمّا ما ذكر أنّ الجمهور من الصوفية جوّزوا عليه الحلول ، فقد ذكرنا في الفصل السابق أنّه إن أراد بهذه الصوفية مشايخنا المحقّقين ، فإنّ اعتقاداتهم مشهورة ، ومن أراد الاطّلاع على حقائق عقائدهم فليطالع الكتب التي وضعوها لبيان الاعتقادات

كالعقائد المنسوبة إلى سهل بن عبد الله التستري(٤)

وكاعتقادات الشيخ أبي عبد الله محمّد بن الخفيف ، المشهور بالشيخ الكبير(٥)

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٨٦ ـ ١٩٠.

(٢) في إحقاق الحقّ : بذاته.

(٣) المواقف : ٢٧٤ ، شرح المواقف ٨ / ٢٨ ـ ٢٩ مختصرا.

والمحالان هما : قدم المحلّ وهو حادث ممكن ، وإمكان الباري وهو القديم الواجب.

(٤) مرّت ترجمته في الصفحة ١٩٦.

(٥) هو : أبو عبد الله محمّد بن خفيف بن إسفكشاد الشيرازي الشافعي ، شيخ الصوفية ، قيل : هو من أولاد الأمراء في إقليم فارس ، وكان شاعرا ، لقي الحلّاج.

٢٠٥

وكاعتقادات الشيخ حارث بن أسد المحاسبي(١)

وك « التعرّف » للكلاباذي(٢)

و« الرسالة » للقشيري(٣)

__________________

وصحب ابن عطاء وغيره ، ولد سنة ٢٧٦ ه‍ ، وتوفّي سنة ٣٧١ ه‍ ، له تصانيف عديدة ، منها : المعتقد الصغير ، المعتقد الكبير ، آداب المريدين ، الفصول في الأصول ، جامع الإرشاد ، اختلاف الناس في الروح.

انظر : طبقات الصوفية : ٤٦٢ رقم ٩ ، تلبيس إبليس : ٣٢٦ ، سير أعلام النبلاء ١٦ / ٣٤٢ رقم ٢٤٩ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٣ / ١٤٩ رقم ١٣٥ ، البداية والنهاية ١١ / ٢٥٥ حوادث سنة ٣٧١ ه‍ ، هديّة العارفين ٦ / ٤٩ ـ ٥٠.

(١) هو : أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي البصري البغدادي ، أحد مشايخ الصوفية ، وينسب إليه أكثر متكلّمي الصفاتية ، قيل : إنّ أحمد بن حنبل هجره لأنّه تكلّم في شيء من الكلام ، فاستخفى المحاسبي من العامة حتّى أنّه لمّا مات سنة ٢٤٣ ه‍ لم يصلّ عليه إلّا أربعة نفر ؛ ووصف أبو زرعة كتبه بأنّها كتب بدع وضلالات وخطرات ووساوس ؛ ومن مصنّفاته العديدة : رسالة المسترشدين في التصوّف ، وكتاب التفكير والاعتبار ، وكتاب الرعاية لحقوق الله.

انظر : طبقات الصوفية : ٥٦ رقم ٦ ، الأربعين في شيوخ الصوفية : ١٤٢ رقم ١٥ ، تاريخ بغداد ٨ / ٢١١ رقم ٤٣٣٠ ، وفيات الأعيان ٢ / ٥٧ رقم ١٥٢ ، سير أعلام النبلاء ١٢ / ١١٠ رقم ٣٥ ، تهذيب التهذيب ٢ / ١٠٦ ـ ١٠٧ رقم ١٠٥٦ ، هديّة العارفين ٥ / ٢٦٤.

(٢) هو : أبو بكر محمّد بن إبراهيم بن يعقوب الحنفي البخاري الكلاباذي ؛ وكلاباذ محلّة ببخارى ، كان أحد شيوخ الصوفية ، له من المصنّفات : الأربعين في الحديث ، والأسفار والأوتار ، والتعرّف لمذهب التصوّف ، توفّي سنة ٣٨٠ أو ٣٨٤ ه‍.

انظر : معجم البلدان ٤ / ٥٣٦ رقم ١٠٣٣١ ، هديّة العارفين ٦ / ٥٤ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٣٧ رقم ١١٥١١.

(٣) هو : أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري النيسابوري الشافعي الصوفي ، ولد سنة ٣٧٦ ه‍ ، قدم بغداد سنة ٤٤٨ ه‍ وحدّث بها ، أديب شاعر ، أخذ التصوّف عن أستاذه أبي عليّ الدقّاق ، وتوفّي سنة ٤٦٥ ه‍ ، وله تصانيف عديدة ، منها : الأربعين في الحديث ، والرسالة ـ وهو كتاب مشهور

٢٠٦

وك‍ « العقائد » للشيخ ضياء الدين أبي النجيب السهروردي(١)

[ وك‍ « عوارف المعارف » للشيخ شهاب الدين أبي حفص عمر السهروردي(٢) ]

ليظهر عليه عقائدهم المطابقة للكتاب والسنّة ، وما بالغوا فيه من نفي الحلول والاتّحاد.

وأمّا ما ذكره من أنّ عبادتهم الرقص والتصفيق ، فو الله إنّه أراد أن يفضح فافتضح ، فإذا لم يكن المشايخ الصوفية من أهل العبادات ـ مع جهدهم في العبادة وتعمير الأوقات بوظائف الطاعات ، وترك اللذّات ، والإعراض عن المشتهيات ـ فمن هو قادر على أن يعدّ نفسه من أهل الطاعات بالنسبة إليهم؟!

نعم ، هذا الرجل الطامّاتي الذي يصنّف الكتاب ، ويردّ على أهل

__________________

في التصوّف ـ ، والتيسير في علم التفسير.

انظر : تاريخ بغداد ١١ / ٨٣ رقم ٥٧٦٣ ، وفيات الأعيان ٣ / ٢٠٥ رقم ٣٩٤ ، سير أعلام النبلاء ١٨ / ٢٢٧ رقم ١٠٩ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٥ / ١٥٣ رقم ٤٧٣ ، شذرات الذهب ٣ / ٣١٩ سنة ٤٦٥ ه‍.

(١) هو : أبو النجيب عبد القاهر بن عبد الله بن محمّد بن عمّويه السهروردي ، وهو عمّ شهاب الدين عمر السهروردي ، أحد شيوخ الصوفية ، ولد سنة ٤٩٠ ه‍ في قرية سهرورد ، وهي قرية قريبة من زنجان ، ثمّ قدم بغداد ودرس فيها ، ودخل أصفهان ، توفّي سنة ٥٦٣ ه‍ ، له عدّة مصنّفات ، منها : آداب المريدين ـ في التصوّف والأخلاق ـ ، ومختصر مشكاة المصابيح للبغوي.

انظر : معجم البلدان ٣ / ٣٢٩ رقم ٦٨١١ ، سير أعلام النبلاء ٢٠ / ٤٧٥ رقم ٣٠٢ ، طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ٧ / ١٧٣ رقم ٨٨١ ، الطبقات الكبرى ـ للشعراني ـ ١ / ١٤٠ رقم ٢٦١ ، شذرات الذهب ٤ / ٢٠٨ سنة ٥٦٣ ه‍ ، هديّة العارفين ٥ / ٦٠٦.

(٢) مرّت ترجمته في الصفحة ١٩٧.

٢٠٧

الحقّ ، ويبالغ في إنكار العلماء والأولياء طلبا لرضا السلطان محمّد خدا بنده ليعطيه إدرارا(١) ، ويفيض عليه مدرارا(٢) ، فله أن لا يستحسن عبادة المشايخ ، المعرضين عن الدنيا ، الزاهدين عن الشهوات ، القاطعين بادية الرياضات ، كما نقل أنّ أبا يزيد البسطامي ترك شرب الماء سنة تأديبا لنفسه ، حيث دعته نفسه إلى شيء من اللذّات(٣) .

شاهت وجوه المنكرين ، وكلّت ألسنتهم ، وعميت أبصارهم.

وأمّا ما ذكر أنّ الله عاب على أهل الجاهلية بالتصدية ؛ فما أجهله بالتفسير ، وبأسباب نزول القرآن! وقد ذكر أنّ طائفة من جهلة قريش كانوا يؤذون رسول الله ٦ بالمكاء والتصدية عند البيت ليوسوسوا عليه صلاته ، فأنزل الله هذه الآية.

وقد أحلّ الله ورسوله اللهو في مواضع كثيرة ، منها : الختان والعرس والإملاك وأيّام العيد ؛ والسماع الذي يعتاده الصوفية مشروط بشرائط كلّها من الشرع ، ولهم فيها آداب وأحوال لا يعرفها الجاهل فيقع فيها.

ثمّ ما نقل من قول واحد من القلندرية(٤) الفسقة ، الّذين يزورون مشهد مولانا الحسين بأيّام الموسم والزيارة ، وجعله مستندا للردّ على كبار المشايخ المحقّقين المشهورين

__________________

(١) إدرارا : عطاء مستمرّا على المجاز هنا ؛ انظر مادّة « درر » في : لسان العرب ٤ / ٣٢٦ ـ ٣٢٧ ، تاج العروس ٦ / ٤٠٠.

(٢) المدرار : الكثير المتتابع المتوالي على المجاز هنا ؛ انظر مادّة « درر » في : لسان العرب ٤ / ٣٢٦ ، تاج العروس ٦ / ٣٩٧ ، مجمع البيان ٥ / ٢٦١.

(٣) انظر : وفيات الأعيان ٢ / ٥٣١ رقم ٣١٢ ، البداية والنهاية ١١ / ٣٠ حوادث سنة ٢٦١ ه‍.

(٤) مرّت ترجمتها في الصفحة ٦٤.

٢٠٨

فيا للعجب انسلّ إلى الناس من كلّ حدب من حال هذا الرجل الطامّاتي! أنّه لم ينظر إلى كتاب « عوارف المعارف » و« الرسالة القشيرية » ليعرف اهتمام القوم بمحافظة الصلوات ودقائق الآداب ، الذي لا يشقّ أحد من الفقهاء ـ من أهل جميع المذاهب ـ غبارهم في رعاية دقائق الآداب والخشوع والاهتمام بحفظها ومحافظتها ، ليعتقد في كمالاتهم ، ويجعل قول قلندري فاسق [ فسّيق ] سندا في جرحهم وإنكارهم.

وهذا غاية التعصّب والخروج عن قواعد الإسلام ، نعوذ بالله من عقائده الفاسدة الكاسدة.

٢٠٩

وأقول :

لعلّ الفضل بعدوله عن دليل المصنّف على بطلان الحلول ، إلى الدليلين المذكورين الموجودين بلفظهما في « المواقف » وشرحها(١) ؛ تخيّل أنّ الأشاعرة سلكوا طريقة أخرى في الاستدلال على بطلان الحلول ، ولم يعلم أنّ الأدلّة متكرّرة الذكر في كتب المتكلّمين ، وأنّ المناط ـ في هذه الأدلّة حتّى الأخير ـ على استلزام الحلول : الحاجة إلى المحلّ ، والافتقار إليه ؛ إذ لو منعه مانع لما تمّ شيءّ من هذه الأدلّة.

فقد ذكر في « شرح المواقف » وجه قول الماتن في الدليل الأخير :

« لو استغنى عن المحلّ لذاته لم يحلّ فيه »(٢) ، بقوله : « إذا لا بدّ في الحلول من حاجة ، ويستحيل أن يعرض للغنيّ بالذات ما يحوجه إلى المحلّ ؛ لأنّ ما بالذات لا يزول بالغير »(٣) .

على إنّ دليل « المواقف » الأوّل هو عين ما ذكره المصنّف ، والاختلاف في التعبير ، فالأولى الاقتصار على ما ذكره المصنّف.

ثمّ إنّه لا ريب في قول جماعة بالحلول ، كما يدلّ عليه كلام « المواقف » و« شرح المقاصد »(٤) اللذان ذكرناهما في المبحث السابق(٥) ،

__________________

(١) المواقف : ٢٧٤ ، شرح المواقف ٨ / ٢٨.

(٢) المواقف : ٢٧٤.

(٣) شرح المواقف ٨ / ٢٨ المقصد الخامس.

(٤) المواقف : ٢٧٤ ـ ٢٧٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٥٧ و ٥٩.

(٥) انظر الصفحة ٢٠٠ وما بعدها.

٢١٠

وقول القوشجي عند بيان أنّ وجوب الوجود يدلّ على نفي الحلول ؛ قال : « وذهب بعض الصوفية إلى أنّه تعالى يحلّ في العارفين »(١) .

ويشهد له ترديد الخصم في مراد المصنّف ، وإن أغفل فيه ذكر القائلين بالحلول تلبيسا للأمر! وليتسنّى له الكلام والطعن على وليّ الله وداعي الحقّ : المصنّف أعلى الله مقامه!

وأمّا إنكاره على المصنّف في أنّ عبادتهم الرقص والتصفيق ، فهو إنكار بارد

قال في « الكشّاف » في تفسير قوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ )(٢) : « وأمّا ما يعتقده أجهل الناس ، وأعداهم للعلم وأهله ، وأمقتهم للشرع ، وأسوأهم طريقة ، وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء شيئا واحدا ، وهم الفرقة المفتعلة من التصوّف(٣) ، وما يدينون به من المحبّة والعشق والتغنّي على كراسيّهم ـ خرّبها الله تعالى ـ وفي مراقصهم ـ عطّلها الله ـ بأبيات الغزل المقولة في المردان(٤) الّذين يسمّونهم : شهداء ، وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى عند دكّ الطور!! فتعالى الله عنه علوّا كبيرا »(٥) .

__________________

(١) شرح التجريد : ٤٢٥.

(٢) سورة المائدة ٥ : ٥٤.

(٣) في المصدر : « وهم الفرقة المتفعّلة المفتعلة من الصوف » وهو الأنسب بالسياق.

(٤) المردان : جمع أمرد على غير قياس ، كأسود وسودان ، وقياسه : مرد.

والأمرد : هو الشابّ الذي طرّ شاربه ولم تنبت ، ولم تبد لحيته بعد.

انظر مادّة « مرد » في : لسان العرب ١٣ / ٧٠ ، تاج العروس ٥ / ٢٥١ ، القاموس المحيط ١ / ٣٥٠ ، المصباح المنير : ٢١٧.

(٥) تفسير الكشّاف ١ / ٦٢١ ـ ٦٢٢.

٢١١

وكيف ينكر على المصنّف؟! والحال أنّ ابن الفارض(١) ، وهو من أكبر مشايخهم ، قد كان جلّ فضائله عندهم : الرقص والغناء والصعقة في اللهو واللعب!

فلو لم يكن ذلك طريقة مألوفة عندهم ، وشرفا كبيرا بينهم ، لما مدحوه بتلك الجهالات.

نقل شارح ديوانه عن ولده ، أنّه قال : رأيت الشيخ نهض ورقص طويلا ، وتواجد وجدا عظيما ، وتحدّر منه عرق كثير ، حتّى سال تحت قدميه ، وخرّ إلى الأرض واضطرب اضطرابا عظيما

إلى أن قال : فسألته عن سبب ذلك ، فقال : يا ولدي! فتح الله عليّ بمعنى في بيت لم يفتح عليّ مثله ، وهو [ من الكامل ] :

__________________

(١) هو : عمر بن علي بن مرشد بن علي ، الحموي الأصل ، المصري المولد والدار والوفاة ، ولد سنة ٥٧٦ وتوفّي سنة ٦٣٢ ه‍ ، أشعر المتصوّفين ، له ديوان شعر ، وفي شعره فلسفة تتّصل بما يسمّى « وحدة الوجود » ، وكان يلقّب بسلطان العاشقين.

وقد كانت له جوار بالبهنسا ـ وهي مدينة بمصر في الصعيد الأدنى غربي النيل ـ يذهب إليهنّ فيغنّين له بالدفّ والشبّابة وهو يرقص ويتواجد! فماتت إحداهنّ فاشترى جارية تغني له بدلها.

قال عنه الذهبي : صاحب الاتّحاد الذي قد ملأ به التائية ، فإن لم يكن في تلك القصيدة صريح الاتّحاد الذي لا حيلة في وجوده ، فما في العالم زندقة ولا ضلال! شيخ « الاتّحادية » ينعق بالاتّحاد الصريح في شعره ، وهذه بليّة عظيمة! فتدبّر نظمه وما ثمّ إلّا زيّ الصوفية وإشارات مجملة ، وتحت الزيّ والعبارة فلسفة وأفاعي!

انظر : معجم البلدان ١ / ٦١٢ رقم ٢٢٨٤ ، وفيات الأعيان ٣ / ٤٥٤ رقم ٥٠٠ ، سير أعلام النبلاء ٢٢ / ٣٦٨ رقم ٢٣٢ ، ميزان الاعتدال ٥ / ٢٥٨ رقم ٦١٧٩ ، لسان الميزان ٤ / ٣١٧ رقم ٩٠٢ ، الكواكب الدرّية في تراجم السادة الصوفية ٢ / ١٤٧ رقم ٥٧٥ ، شذرات الذهب ٥ / ١٤٩ سنة ٦٣٢ ه‍ ، الأعلام ٥ / ٥٥.

٢١٢

وعلى تفنّن واصفيه بحسنه

يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف(١)

وقال ولده : كان الشيخ ماشيا في السوق بالقاهرة ، فمرّ على جماعة من الحرس يضربون بالناقوس ويغنّون بهذين البيتين ، وهما [ من المواليا(٢) ] :

مولاي [ سهرنا ] نبتغي منك وصال

مولاي فلم تسمح فنمنا بخيال

مولاي فلم يطرق فلا شكّ بأن

ما نحن إذا عندك مولاي ببال

فلمّا سمعهم الشيخ صرخ صرخة عظيمة ، ورقص رقصا كثيرا في

__________________

(١) شرح ديوان ابن الفارض ١ / ١٠ ، وقد كان في الأصل : « ما لا يوصف » بدل « ما لم يوصف » وهو تصحيف أصلحناه من الديوان وشرحه ؛ انظر : ديوان ابن الفارض : ١٤٧.

(٢) المواليا : هو من فنون الشعر المتأخّرة الموضوعة للغناء ، ولا يلزم فيه مراعاة قوانين العربية ، وهو من بحر البسيط لو لا أنّ له أضربا تخرجه عنه ، أوّل من اخترعه أهل واسط ، اقتطعوا من البسيط بيتين وقفوا شطر كلّ بيت بقافية ، تعلّمه عبيدهم المتسلّمون عمارتهم والغلمان ، وصاروا يغنّون به في رؤوس النخل وعلى سقي المياه ، ويقولون في آخر كلّ صوت : « يا مواليا » إشارة إلى ساداتهم ، فسمّي بهذا الاسم ، ثمّ استعمله البغداديّون فلطّفوه حتّى عرف بهم دون مخترعيه ثمّ شاع.

وقيل : إنّ أوّل من تكلّم بهذا النوع بعض أتباع البرامكة بعد نكبتهم ، فكانوا ينوحون عليهم ويكثرون من قولهم : « يا مواليّا » ، فصار يعرف بهذا الاسم.

ونسج عليه كثير من شعراء الفترة المظلمة ، وبالأخصّ في مصر ، وهو يتركّب في الغالب من بيتين تختتم أشطرهما الأربعة برويّ واحد ، وكثيرا ما تسكّن بالحشو أواخر الألفاظ ، ويدخل فيه من كلام العامة ، ومنه قول صفي الدين الحلّي :

من قال جودة كفوفك والحيا مثلين

أخطا القياس وفي قوله جمع ضدّين

ما جدت إلّا وثغرك مبتسم يا زين

وذاك ما جاد إلّا وهو باكي العين

انظر : تاج العروس ٢٠ / ٣١٦ ـ ٣١٧ مادّة « ولي » ، ميزان الذهب : ٢٤٠ ـ ٢٤١.

٢١٣

وسط الطريق ، ورقص جماعة كثيرة من المارّين في الطريق ، حتّى صارت جولة وإسماع عظيم [ وتواجد الناس إلى أن سقط أكثرهم إلى الأرض ] والحرس يكرّرون ذلك ، وخلع الشيخ كلّ ما [ كان ] عليه من الثياب ورمى بها إليهم ، وخلع الناس معه ثيابهم ، وحمل بين الناس إلى الجامع الأزهر وهو عريان مكشوف الرأس وأقام في هذه السكرة أيّاما ملقى على ظهره مسجّى كالميّت

وفي تتمّة الواقعة أنّهم اتّخذوا ثيابه للتبرّك(١) !

وحكى ولده ، قال : « حجّ الشيخ شهاب الدين السهروردي شيخ الصوفية ـ إلى أن قال : ـ فصرخ الشيخ شهاب الدين ، وخلع كلّ ما كان عليه ، وخلع المشايخ والقوم الحاضرون كلّ ما كان عليهم »(٢) .

فهذه فضائلهم ، بين تجنّن ، ورقص ، وغناء ، وكشف العورات ، وترك الصلاة أيّاما ، يدّعون بذلك حبّ الله وذكره وعبادته [ من الوافر ] :

أقال الله : صفّق لي وغنّ

وقل كفرا ، وسمّ الكفر ذكرا؟!

وأمّا ما وصفهم به من ترك اللذّات والشهوات ، فالظاهر أنّه من قبيل ما انتقاه من ترك شرب الماء سنة ، الذي لا يصدّق به عاقل ، وهو ممّا لم ترد به الشريعة المطهّرة ، بل حرّمته ؛ لأنّه من الإلقاء باليد إلى التهلكة ، وإضرار النفس وتأليمها.

فليت شعري أكان نبيّنا الأطيب ، والأنبياء قبله ، وخواصّهم ، على

__________________

(١) شرح ديوان ابن الفارض ١ / ١٠ ، وانظر : ج ٢ / ١٩٧ بتفصيل آخر قريب منه.

(٢) شرح ديوان ابن الفارض ١ / ١٣.

٢١٤

تلك الآداب والأحوال السخيفة والعبادات الساخرة؟!

أو كان المشايخ أفضل منهم وأعرف بالله وأعبد له؟!

أو كانت الأحوال والعبادات ممّا زيّنها الشيطان والهوى ، ودعت إليها النفس الأمّارة ، للسمعة والامتياز على الناس؟!

وأمّا ما ذكره من أنّ المصنّف صنّف هذا الكتاب طلبا لرضا السلطان ، فمن المضحكات ؛ لأنّ ذلك السلطان الرشيد ، إنّما نال سعادة الإيمان بسعي الإمام المصنّف وإرشاده ، وهو أمسّ من السلطان بمذهب الإمامية ، فكيف يطلب رضاه بتصنيف هذا الكتاب؟!

وأعجب من ذلك قوله : « ليعطيه إدرارا » فإنّ هذا ليس من عادة علماء الإمامية ، لا سيّما المصنّف ، الذي طلّق الدنيا بعد أن جاءته ، وهجر الرئاسة بعد أن واتته وعاد إلى بلاده!

وأعجب من الجميع نسبة الجهل بالتفسير إلى المصنّف ، وذكره أحد الوجهين في نزول الآية ؛ ليروّج فيه تأييد طريقة الصوفية ، وإلّا فالمذكور عند أصحابه في نزول الآية وجهان :

أحدهما : ما ذكره(١) .

والثاني : ما عن ابن عبّاس : كانت بطون قريش يطوفون بالبيت عراة ، يصفّرون ويصفّقون(٢) .

__________________

(١) مرّ في الصفحة ٢٠٤.

(٢) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٩ ح ١٦٠٤٨ ، تفسير البغوي ٢ / ٢٠٨ ، الكشّاف ٢ / ١٥٦ ، تفسير القرطبي ٧ / ٢٥٤ ، تفسير البيضاوي ١ / ٣٨٣ ، تفسير البحر المحيط ٤ / ٤٩١ ، تفسير ابن كثير ٢ / ٢٩٣ ، الدرّ المنثور ٤ / ٦١.

٢١٥

ونحوه عن ابن عمر(١) .

فهم يقيمون الصفير والتصفيق مقام الصلاة بحسب طريقتهم(٢) .

وهذا الوجه أنسب بتعبير الآية بالصلاة ، وأرجح عند المفسّرين ، وهو دالّ على إنّ الله سبحانه عاب أهل الجاهلية بجعل التصفيق عبادة ، فكيف إذا انضمّ إليه الرقص والغناء والصياح؟!

والمصنّف قد بيّن الإيراد على هذا الوجه الظاهر الراجح ، وإلّا فأيّ وجه لتسمية الآية لذلك العمل بالصلاة؟!

على أنّه لا تنافي بين الوجهين ؛ لجواز أن تكون قريش ـ بعبادتها السخيفة ـ أرادت أن توسوس على النبيّ ٦ في صلاته.

وأمّا قوله : « وقد أحلّ الله ورسوله اللهو في مواضع ».

فلو سلّم ، فلهو الصوفية خارج عن هذه المواضع عادة ، وهو دائم للعبادة في كراسيّهم ومراقصهم ، كما يستفاد من كلام « الكشّاف » السابق(٣) ، ولا يتوقّف على وقت وشرط كاستماعهم للغناء.

روى ابن خلّكان في ترجمة الجنيد من « وفيات الأعيان » ، وهو من أكبر مشايخ الصوفية ، أنّه قال : ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها! قيل له : وما هي؟ قال : مررت بدرب القراطيس فسمعت جارية تغنّي من

__________________

(١) تفسير الطبري ٦ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩ ح ١٦٠٤٠ ـ ١٦٠٤٣ و ١٦٠٤٦ و ١٦٠٤٧ ، أسباب النزول ـ للنيسابوري ـ : ١٣١ ، لباب النقول : ١١١.

(٢) تنوير المقباس : ١٩٢ ، تفسير الطبري ٦ / ٢٣٨ ح ١٦٠٣٨ ، تفسير الماوردي ٢ / ٣١٦ ، زاد المسير ٣ / ٢٦٩ ، تفسير الفخر الرازي ١٥ / ١٦٥ ، الدرّ المنثور ٤ / ٦١.

(٣) تقدّم في الصفحة ٢١١.

٢١٦

دار ، فأنصتّ لها ، فسمعتها تقول [ من الطويل ] :

إذا قلت : أهدى الهجر لي حلل البلى(١)

تقولين : لولا الهجر لم يطب الحبّ

وإن قلت : هذا القلب أحرقه الهوى

تقولي : بنيران الهوى شرف القلب

وإن قلت : ما أذنبت! قلت مجيبة :

حياتك ذنب لا يقاس به ذنب

فصعقت وصحت(٢) !

وليت شعري كيف حسن له الإنصات إلى غناء الأجنبية؟!

وكيف لم ينتفع بكتاب الله العظيم ، وكلمات نبيّه الكريم مثل ما انتفع بشعر المغنّية؟!

وظنّي أنّه لو انضمّ إلى غناها رقصها معه لكان أنفع!!

وأمّا ما شاهده المصنّف في حضرة سيّد الشهداء ٧ ، فغير عجيب من جهة ترك الصلاة ، فهذا ابن الفارض ـ المعظّم عندهم ـ قد أقام أيّاما في سكرته بلا صلاة ، كما عرفت.

وقال شارح ديوانه : « حكى جماعة ممّن يوثق بهم ، ممّن صحبوه وباطنوه ، أنّه لم ينظمها ـ أي قصيدته التي زعم أنّ النبيّ ٦ في المنام

__________________

(١) البلى : التلف والهلاك ، وبلي الثوب : خلق فهو بال ، وإخلاق الثوب : تقطيعه ، وبلي الميّت : أفنته الأرض.

انظر : المصباح المنير : ٢٤ مادّة « بلي » ، لسان العرب ٤ / ١٩٥ ـ ١٩٦ ، مادّة « خلق ».

(٢) وفيات الأعيان ١ / ٣٧٤ رقم ١٤٤.

٢١٧

سمّاها ب‍ : نظم السلوك ـ على حدّ نظم الشعراء أشعارهم ، بل كانت تحصل له جذبات يغيب فيها عن حواسّه [ نحو ] الأسبوع والعشرة أيّام ؛ فإذا أفاق أملى ما فتح الله عليه منها من الثلاثين والأربعين والخمسين بيتا! ثمّ يدع حتّى يعاوده(١) ذلك الحال »(٢) .

والظاهر أنّ المراد بغيبوبة حواسّه مجرّد تعطيل حركاته الظاهرية عن فعل الواجبات ونحوها ، وإلّا فكيف يقدر على نظم الشعر ، ولا يمكن دعوى الكرامة ـ بفتح الله عليه ـ من دون شعوره أصلا؟! فإنّ الكرامة لا تكون مع عدم التوفيق للصلاة التي هي عمود الدين.

وكذا ما شاهده المصنّف غير عجيب من جهة دعوى الوصول إلى الله تعالى ، فإنّ عليها جماعة من الصوفية كما صرّح به ابن القيّم الحنبلي في « شرح منازل السائرين » ـ على ما نقله السيّد السعيد عنه ـ قال : « ويعرض للسالك على درب الفناء معاطب ومهالك ، لا ينجيه منها إلّا بصيرة العلم ، منها : [ أنّه ] إذا اقتحم عقبة الفناء ظنّ أنّ صاحبها قد سقط عنه الأمر والنهي ، ويقول قائلهم : من شهد الحقيقة سقط عنه الأمر ؛ ويحتجّون بقوله تعالى : (اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ )(٣) ، ويفسّرون ( اليقين ) بشهود الحكم التكويني(٤) ، وهي الحقيقة عندهم ؛ وهذا زندقة ونفاق وكذب منهم على أنفسهم ونبيّهم وإلههم »(٥) .

__________________

(١) في الأصل : يعتاده.

(٢) شرح ديوان ابن الفارض ١ / ٨.

(٣) سورة الحجر ١٥ : ٩٩.

(٤) في المصدر : الكوني.

(٥) مدارج السالكين في شرح منازل السائرين ١ / ١٦٠ ـ ١٦٤ ، وعنه في إحقاق الحقّ ١ / ١٩٩ ـ ٢٠٠.

٢١٨

وعن الغزّالي في « الإحياء » أنّه أنكر على دعواهم بلوغ العبد بينه وبين الله إلى حالة أسقطت عنه الصلاة ، وأحلّت له شرب الخمر ، ولبس الحرير ، وترك الصلاة ، ونحوها ، وحكم بأنّ قائل هذا يجب قتله ، وإن كان في خلوده في النار نظر(١) .

وعن اليافعي اليمني الشافعي(٢) ، أنّه انتصر لهم في كتابه الموسوم ب‍ : « روض الرياحين »(٣) ، وردّ على الغزّالي ، فقال : « ولو أنّ الله تعالى أذن

__________________

(١) فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ـ المطبوع ضمن مجموعة رسائل الغزّالي ـ :٢٤٨ ، وعنه في إحقاق الحقّ ١ / ٢٠١.

ولم نجده في « إحياء علوم الدين » ، ولعلّ الكتاب المذكور كان ملحقا بكتاب « الإحياء » في إحدى طبعاته فنسب النصّ إليه دونه سهوا ، أو كان فصلا أو بابا من « الإحياء » ثمّ انتسخ وكثرت نسخه على شكل رسالة مستقلّة ، وكم له من نظير!

كما حكم ابن حزم بكفرهم حين ذكر شنائع عقائدهم ، فانظر : الفصل ٣ / ١٦٦ ـ ١٦٧.

(٢) هو : أبو السعادات عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي اليمني الشافعي ، ويافع قبيلة باليمن من قبائل حمير ، ولد سنة ٦٩٨ ه‍ ، وتوفّي بمكّة المكرّمة سنة ٧٦٨ ه‍ ، صوفي شاعر ، كان يتعصّب للأشعري ، وله مبالغة في تعظيم ابن عربي ، مشارك في العلوم ، له تصانيف كثيرة ، منها : مرآة الجنان وعبرة اليقظان ، روض الرياحين في حكايات الصالحين ، مرهم العلل المعضلة في أصول الدين ، الإرشاد والتطريز في التصوّف ، ديوان شعر.

انظر : طبقات الشافعية ـ للسبكي ـ ١٠ / ٣٣ رقم ١٣٥٤ ، طبقات الشافعية ـ للأسنوي ـ ٢ / ٣٣٠ رقم ١٢٨٩ ، الكواكب الدرّية في تراجم السادة الصوفية ٣ / ٢٤ رقم ٦٣٥ ، شذرات الذهب ٦ / ٢١٠ سنة ٧٦٨ ه‍ ، البدر الطالع : ٣٨٥ رقم ٢٥٥ ، هديّة العارفين ٥ / ٤٦٥ ، معجم المؤلّفين ٢ / ٢٢٩ رقم ٧٨٣٣.

(٣) كان في الأصل : « رفض الصالحين » وفي إحقاق الحقّ : « روض الصالحين » ، وكلاهما تصحيف بيّن من اسم كتابه « روض الرياحين في حكايات الصالحين » ،

٢١٩

لبعض عباده أن يلبس ثوب حرير مثلا ، وعلم العبد ذلك الإذن يقينا فلبسه ، لم يكن منتهكا(١) للشرع »!

ثمّ قال : « فإن قيل : من أين يحصل له علم اليقين؟!

قلت : من حيث حصل للخضر حيث قتل الغلام ، وهو وليّ لا نبيّ ـ على القول الصحيح ـ عند أهل العلم ، كما إنّ الصحيح عند أهل الجمهور [ منهم ] أنّه الآن حيّ ، وبهذا قطع الأولياء ، ورجّحه الفقهاء والأصوليّون وأكثر المحدّثين »(٢) .

وفيه :

أنّه لو جاز هذا ، لجاز نسخ أحكام الشريعة بلا نبوّة!

ومن سوّغ هذا فقد أعطى منزلة الأنبياء لغيرهم ، وأثبت أنبياء بلا خاصّة نبوّة ـ من العصمة ، والنصّ من الله تعالى ، ونحوهما ـ ، ونفى الحاجة إلى النبيّ في الأحكام!

وهذا مخالف لضرورة الدين ،

وقد قال رسول الله ٦ : «حلال محمّد حلال [ أبدا ] إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام [ أبدا ] إلى يوم القيامة »(٣) .

__________________

وقد أثبتنا الصحيح وفق ما ورد في ترجمته من كتب التراجم ؛ انظر الهامش السابق.

(١) كان في الأصل وإحقاق الحقّ : « متهتّكا » وهو تصحيف ، وما أثبتناه من المصدر.

(٢) روض الرياحين : ٥٥٥ ، وعنه في إحقاق الحقّ ١ / ٢٠١.

(٣) الكافي ١ / ٧٩ ح ١٧٥ والحديث فيه عن الإمام أبي عبد الله الصادق ٧.

٢٢٠