دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

دلائل الصدق لنهج الحق0%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: 456

دلائل الصدق لنهج الحق

مؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف:

ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: 456
المشاهدات: 131565
تحميل: 4448


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131565 / تحميل: 4448
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء 2

مؤلف:
ISBN: 964-319-355-1
العربية

وأقول :

لا معنى لعصمة الأنبياء عن تعمّد الكذب في دعوى الرسالة ، فإنّه بعد فرض النبوّة والرسالة لا يتصوّر الكذب فيها حتّى يعصم الأنبياء عنه.

وأمّا بالنظر إلى ما قبل الرسالة ، فلا تقتضي المعجزة اللاحقة عصمتهم عن الكذب قبلها ، ولكن لمّا كانت المعجزة تدلّ على صدقهم في دعوى الرسالة استنتج صاحب « المواقف » عصمتهم عن الكذب في دعواها(١) ، وأخذه منه الخصم بلا تدبّر ليقال : إنّهم ممّن يقول بعصمة الأنبياء في الجملة.

ثمّ إنّ دعوى إفادة المعجزة القطع لا تتمّ على مذهب الأشاعرة ، إذ يجوز عقلا ـ بناء على قولهم : « لا يقبح منه شيء »(٢) ـ أن يظهرها على يد الكاذب.

ودعوى العادة على عدم ظهورها على يد الكاذب موقوفة على الاطّلاع على كلّ من ظهرت على يده المعجزة ، وأنّه غير كاذب ، وهو غير حاصل ، بل لعلّ كلّ من ظهرت على يده المعجزة كاذب!

على إنّ التخلّف عن العادة ليس قطعي العدم ، لا سيّما في مورد التخلّف عن العادة بصدور المعجزة.

__________________

(١) المواقف : ٣٥٨.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ١١٦ ، المسائل الخمسون : ٦١ المسألة ٣٦ ، المواقف : ٣٢٨.

٣٨١

وأمّا ما زعمه من الإجماع على عصمتهم عن الكفر ، فمناف لما سيأتي في بحث النبوّة من أنّ بعض الأشاعرة وغيرهم من السنّة يجوّزون عليهم الكفر ، بل قال بعضهم بوقوعه(١)

ومناف أيضا لمام يروونه عن النبيّ ٦ أنّه قال : « لو كان نبيّ بعدي لكان عمر »(٢) ، فإنّ العصمة عن الكذب لا تجامع صلاحية عمر للنبوّة وهو كافر أكثر عمره.

فلا بدّ إمّا من منع وجوب العصمة عندهم عن الكفر ، أو الحكم بكذب هذه الرواية وأنّها من مفتعلات القوم.

وأمّا ما نسبه إلى الشيعة تبعا ( للمواقف ) من أنّهم يجوّزون إظهار الكفر تقيّة(٣) ، فكذب عليهم ، وإلّا فليسندوه إلى كتاب من كتبهم!

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ٢٦٤ ، وسيأتي تخريج ذلك مفصّلا في بحث النبوّة.

(٢) سنن الترمذي ٥ / ٥٧٨ ح ٣٦٨٦ وقال : « هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلّا من حديث مشرح بن هاعان » ، تاريخ دمشق ٤٤ / ١١٤ ـ ١١٦ ح ٩٥٦٤ ـ ٩٥٦٩ ، أسد الغابة ٣ / ٦٥٨ ، مختصر تاريخ دمشق ١٨ / ٢٩٠ ، تحفة الأحوذي ١٠ / ١١٩ ح ٣٩٣٣.

وذكره ابن الجوزي في الموضوعات ١ / ٣٢٠ ـ ٣٢١ بلفظ « لو لم أبعث فيكم لبعث عمر » بطريقين ، أوّلهما عن زكريّا بن يحيى ، وثانيهما عن مشرح بن هاعان ، وقال : « هذان حديثان لا يصحّان عن رسول الله ٦.

أمّا الأوّل : فإنّ زكريّا بن يحيى كان من الكذّابين الكبار.

قال ابن عديّ : كان يضع الحديث.

وأمّا الثاني : فقال أحمد ويحيى : عبد الله بن واقد ليس بشيء.

وقال النسائي : متروك الحديث.

وقال ابن حبّان : انقلبت على مشرح بن هاعان صحائفه فبطل الاحتجاج به ».

وقال ابن حبّان أيضا بترجمة مشرح بن هاعان في الثقات ٥ / ٤٥٢ : يخطئ ويخالف.

(٣) المواقف : ٣٥٩ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ٢٦٤.

٣٨٢

ومجرّد قول الشيعة بالتقيّة لا يستلزم تعميمها في جميع المقامات ، بل ذلك مذهب بعض السنّة ـ كما ستعرفه في مباحث النبوّة ـ ، وهو الأنسب بهم ، فإنّهم إذا نسبوا إلى رسول الله ٦ قصّة الغرانيق حيث أظهر الكفر تأليفا لقومه ، فتجويزهم عليه وعلى الأنبياء إظهاره تقيّة أولى(١) .

ونسبوا إليه ٦ وإلى إبراهيم الشكّ حيث قال : « نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم »(٢) كما سيجيء.

ومن المعلوم أنّ الشاكّ ليس بمؤمن ، فإظهار الكفر للتقيّة أولى ؛ لأنّ الشكّ أسوأ.

وأمّا تكذيبه للمصنّف ; في نسبته إلى الأشاعرة تجويز الكبائر على الأنبياء ، فسيأتي ما فيه في محلّه إن شاء الله تعالى.

وأمّا ما ادّعاه من أنّ تعظيم الأنبياء وأهل البيت شعارهم ، فستعرف كذبه من نسبتهم إلى الأنبياء ما لا يليق بشأنهم ، وتأويلهم ما لا يقبل التأويل من النصوص على إمامة أمير المؤمنين ٧ ، وجعلهم أهل البيت من سائر المسلمين ، وفضّلوا الأداني عليهم ، مع إنّ الله تعالى ميّزهم بالطهارة من الرجس(٣) ، وأوجب على الأمّة التمسّك بهم ، وجعلهم عدل القرآن المجيد

__________________

(١) المعجم الكبير ٩ / ٣٤ ح ٨٣١٦ وج ١٢ / ٤٢ ح ١٢٤٥٠ ، مجمع الزوائد ٧ / ٧١ و ١١٥ ، وستأتي القصّة بتمامها في مبحث النبوّة.

(٢) صحيح البخاري ٤ / ٢٩٠ ح ١٧٤ كتاب الأنبياء ، صحيح مسلم ٧ / ٩٨ باب فضائل إبراهيم الخليل ٧ ، فتح الباري ٦ / ٥٠٧ كتاب أحاديث الأنبياء ؛ وسيأتي تمام الحديث في مبحث النبوّة.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

٣٨٣

إلى يوم الدين(١) .

وأمّا قوله : « والتعظيم ليس عداوة الصحابة » ، ففيه :

إنّا لا نعادي إلّا المنقلبين على أعقابهم ، الّذين ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ، و

يقول فيهم رسول الله ٦ : «سحقا سحقا حتّى لا يخلص من النار إلّا مثل همل النعم »(٢)

وقال تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ )(٣) .

* * *

__________________

(١) إشارة إلى حديث الثقلين ؛ وقد مرّ تخريجه مفصّلا في الصفحة ١٨٧ ه‍ ١ من هذا الجزء.

(٢) انظر : صحيح البخاري ٨ / ٢١٦ ح ١٦٤ باب في الحوض ؛ باختلاف يسير.

(٣) سورة المجادلة ٥٨ : ٢٢.

٣٨٤

ترجيح أحد المذهبين

قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ(١) :

فلينظر العاقل في المقالتين ، ويلمح المذهبين ، وينصف في الترجيح ، ويعتمد على الدليل الواضح الصحيح ، ويترك تقليد الآباء ، والمشايخ الآخذين بالأهواء ، وغرّتهم الحياة الدنيا ، بل ينصح نفسه ، ولا يعوّل على غيره ، فلا يقبل عذره يوم القيامة ، أنّي قلّدت شيخي الفلاني ، ووجدت آبائي وأجدادي على هذه المقالة ، فإنّه لا ينفعه ذلك يوم القيامة ، يوم يتبرّأ المتبوعون من أتباعهم ، ويفرّون من أشياعهم.

وقد نصّ الله تعالى على ذلك في كتابه العزيز(٢) ، ولكن أين الآذان السامعة والقلوب الواعية؟!

وهل يشكّ العاقل في الصحيح من المقالتين ، وأنّ مقالة الإمامية هي أحسن الأقاويل ، وأنّها أشبه بالدين ، وأنّ القائلين بها هم الّذين قال الله تعالى فيهم : (فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ )(٣) ؟!

فالإمامية هم الّذين قبلوا هداية الله واهتدوا بها ، وهم أولوا الألباب.

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٩.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ) سورة البقرة ٢ : ١٦٦.

(٣) سورة الزمر ٣٩ : ١٧ و ١٨.

٣٨٥

ولينصف العاقل من نفسه أنّه لو جاء مشرك وطلب شرح أصول دين المسلمين في العدل والتوحيد رجاء أن يستحسنه ويدخل فيه معهم ،هل كان الأولى أن يقال له ـ حتّى يرغب في الإسلام ويتزيّن في قلبه أنّه من ديننا ـ : إنّ جميع أفعال الله تعالى حكمة وصواب ، وإنّا نرضى بقضائه ، وإنّه منزّه عن فعل القبائح والفواحش ، لا تقع منه ، ولا يعاقب الناس على فعل يفعله فيه ، ولا يقدرون على دفعه عنهم ، ولا يتمكّنون من امتثال أمره

أو يقال : ليس في أفعاله حكمة وصواب ، وإنّه يفعل السفه والفاحشة ، ولا نرضى بقضاء الله تعالى ، وإنّه يعاقب الناس على ما فعله فيهم ، بل خلق فيهم الكفر والشرك ويعاقبهم عليهما ، ويخلق فيهم اللون والطول والقصر ويعذّبهم عليها؟!

وهل الأولى أن يقول : من ديننا أنّ الله لا يكلّف الناس ما لا يقدرون عليه ولا يطيقون

أو نقول : إنّه يكلّف الناس ما لا يطيقون ، ويعاقبهم على ترك ما لا يقدرون على فعله؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى يكره الفواحش ولا يريدها ولا يحبّها ولا يرضاها

أو نقول : إنّه يحبّ أن يشتم ويسبّ ويعصى بأنواع المعاصي ، ويكره أن يمدح ويطاع ، ويعذّب الناس لمّا كانوا كما أراد ولم يكونوا كما كره؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولا يجوز عليه ما يجوز عليها

٣٨٦

أو نقول : إنّه يشبهها؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّ الله تعالى يعلم ويقدر ويحيي ويدرك لذاته

أو نقول : إنّه لا يدرك ولا يحيي ولا يقدر ولا يعلم إلّا بذوات قديمة ، ولولاها لم يكن قادرا ولا عالما ولا غير ذلك من الصفات؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى لمّا خلق الخلق أمرهم ونهاهم

أو نقول : إنّه لم يزل في القدم ، ولا يزال بعد فنائهم طول الأبد يقول : أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، لا يخلّ بذلك أصلا؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى تستحيل رؤيته والإحاطة بكنه ذاته

أو نقول : يرى بالعين ، إمّا من جهة من الجهات له أعضاء وصورة : أو يرى بالعين لا في جهة؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّ أنبياءه وأئمّته منزّهون عن كلّ قبيح وسخيف

أو نقول : إنّهم اقترفوا المعاصي المنفّرة عنهم ، وإنّه يقع منهم ما يدلّ على الخسّة والذلّة ، كسرقة درهم وكذب وفاحشة ، ويداومون على ذلك مع إنّهم محلّ وحيه وحفظة شرعه وإنّ النجاة تحصل بامتثال أوامرهم القوليّة والفعليّة؟!

فإذا عرفت أنّه لا ينبغي أن يذكر لهذا السائل عن دين الإسلام إلّا مذهب الإمامية دون قول غيرهم ، عرفت عظم موقعهم في الإسلام!

وتعلم أيضا بزيادة بصيرتهم ؛ لأنّه ليس في التوحيد دليل ولا جواب عن شبهة إلّا من أمير المؤمنين ٧ وأولاده : أخذ ، وكان جميع العلماء

٣٨٧

يستندون إليه على ما يأتي.

فكيف لا يجب تعظيم الإمامية والاعتراف بعلوّ منزلتهم؟!

فإذا سمعوا شبهة في توحيد الله أو في عبث بعض أفعاله ، انقطعوا بالفكر فيها عن كلّ أشغالهم ، فلا تسكن نفوسهم ولا تطمئنّ قلوبهم حتّى يتحقّق الجواب عنها.

ومخالفهم إذا سمع دلالة قطعية على إنّ الله تعالى لا يفعل الفواحش والقبائح ، ظلّ ليله ونهاره مهموما طالبا لإقامة شبهة يجيب بها ، حذرا أن يصحّ عنده أنّ الله تعالى لا يفعل القبيح ، فإذا ظفر بأدنى شبهة قنعت نفسه وعظم سروره بما دلّت الشبهة عليه.

فشتّان ما بين الفريقين ، وبعد ما بين المذهبين!

ولنشرع في تفصيل المسائل ، وكشف الحقّ فيها بعون الله تعالى ولطفه

* * *

٣٨٨

وقال الفضل(١) :

حاصل ما ذكر في هذا الفصل تحكيم الإنصاف ، والرجوع إلى الوجدان ، والدليل في ترجيح مذهب الإمامية ، وأنّ المنصف إذا ترك التقليد ، ونظر إلى المذهبين نظر الإنصاف ، علم أنّ مذهب الإمامية مرجّح.

ومثل هذا في حال من أراد دخول الإسلام وحاول أن يتبيّن عنده ترجيح مذهب من المذاهب ، فلا شكّ أنّ معتقدات الإمامية أبين وأظهر عند العقول ، وأقرب من سائر المذاهب إلى التلقّي والقبول.

ونحن إن شاء الله تعالى في هذا الفصل نحذو حذوه ، ونجاريه فصلا بفصل ، وعقيدة بعقيدة ، على شرط تجنّب التهمة والافتراء ، ومحافظة شريطة الصدق والإنصاف

فنقول : لو استجار مشرك في بلاد الإسلام ، وأراد أن يسمع كلام الله رجاء أن يستحسنه ويميل قلبه إلى الإسلام ، فطلب من العلماء أصول دين الإسلام في العدل والتوحيد ، ليرغب بفهمه إلى الملّة البيضاء

فيا معشر العقلاء :

هل الأولى أن يقال له ـ حتّى يرغب ويتزيّن الإسلام في قلبه ـ : إنّ الإله الذي ندعوك إلى طاعته وعبوديّته هو خالق كلّ الأشياء ، وهو الفاعل المختار ، ولا يجري في ملكه إلّا ما يشاء ، وهو يحكم ما يريد ، ولا شريك له في الخلق والتصرّف في الكائنات ، ولا تسقط ورقة ولا تتحرّك نملة إلّا

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣١٧.

٣٨٩

بحكمه وإرادته وقضائه وقدره ، دبّر أمور الكائنات في أزل الآزل ، وقدّر ما يجري وما يصدر عنهم قبل خلقهم وإيجادهم ، ثمّ خلقهم وأمرهم ونهاهم ، وأفعاله حكمة وصواب ، ولا قبيح في فعله ، ولا يجب عليه شيء

وكلّ ما يفعله في العباد من إعطاء الثواب وإجراء العقاب ، فهو تصرّف في ملكه ، ولا يتصوّر منه ظلم ، ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون ، وهو منزّه عن فعل القبائح ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه ، ونحن نرضى بقضائه ، والقضاء غير المقتضي

هل الأولى هذا؟! أو يقال : الإله الذي ندعوك إليه له شركاء في الخلق ، فأنت تخلق أفعالك والناس يخلقون أفعالهم ، وهو الموجب الذي لا تصرّف له في الكائنات بالإرادة والاختيار ، بل هو كالنار إذا صادف الحطب يجب عليه الإحراق.

والعبد إذا عمل حسنة وجب عليه الثواب ، فهذه الحسنة كالدين على رقبته يجب عليه ثوابها ، وإذا عمل سيّئة يجب عليه عقابها ، وليس له أن يتفضّل ويتجاوز بفضله عن ذلك الذنب ، بل الواجب واللازم عليه عقابه ، كالنار الواجب عليها الإحراق.

وإنّه خلق العالم ولم يجر له قضاء سابق وعلم متقدّم ، بل يحدث الأشياء على سبيل الاتّفاق ، وله الشركاء في الخلق ، وهو يخلق والناس يخلقون؟!

وهل الأولى أن يقال له : من ديننا أنّه تعالى حاكم قادر مختار ، يكلّف الناس كيفما شاء ؛ لأنّه يتصرّف في ملكه ، فإذا أراد كلّفهم حسب طاقتهم ، وجاز له ولا يمتنع عليه أن يكلّف فوق الطاقة ، لكن بفضله وكرمه لم يكلّف الناس فوق الطاقة ولم يقع هذا

٣٩٠

أو يقال : إنّه يجب عليه أن يكلّف الناس حسب طاقتهم ، وليس له التصرّف فيهم ، ويمتنع عليه التكليف حسبما أراد؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّ كلّ ما جرى في العالم فهو تقديره وإرادته ، ولكنّ الخير والطاعة برضاه وحبّه ، والشر والمعصية بغير رضاه

أو نقول : إنّه مغلول اليد ، فيجب عليه أن يحبّ الخير وهو خالقه ، ولا يخلق الشرّ ، فللشرّ فواعل غيره ، وله شركاء في الملك والتصرّف؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولكن له صفات تأخذ معرفتها أنت من صفات نفسك ، غير إنّ صفات نفسك حادثة وصفاته قديمة

أو نقول : إنّه لا صفات له ، ولا يجوز عليه أن يعرف صفاته من صفات الكمال؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّ الله تعالى عالم بعلم أزلي ، قادر بقدرة أزلية ، حيّ بحياة سرمدية ، متكلّم بكلام أزلي

أو يقال له : إنّ الصفات مسلوبة عنه ، وليس له علم ولا قدرة ، بل ذاته تعلم الأشياء بلا علم ؛ فيتحيّر ذلك المسكين ، أنّ العالم كيف يعلم بلا علم ، وكيف يقدر بلا قدرة؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّ الله تعالى كان في الأزل متكلّما بكلام نفسي هو صفة ذاته ، وبعد ما خلق الخلق خاطب الرسل بذلك الكلام ، وأمر الناس ونهاهم

أو يقال له : إنّه خلق الكلام وليس هو بمتكلّم ، فإنّ خالق الكلام لا يسمّى متكلّما ، وإنّه أحدث الأمر والنهي بعد الخلق بلا تقدير وإرادة سابقة؟!

٣٩١

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى مرئي يوم القيامة لعباده ، ليزداد بذلك شغفه في عبادة ربّه ، رجاء أن ينظر إليه يوم القيامة ، ولكن هذه الرؤية بلا كيفية كما سترى وتعلم

أو يقال له : هذا الربّ لا ينظر إليه في الدنيا ولا في الآخرة؟!

وهل الأولى أن يقال : إنّ أنبياء الله تعالى مكرّمون معصومون من الكذب والكبائر ، ولكنّهم بشر لا يأمنون من إمكان وقوع الصغائر عنهم ، فلا تيأس أنت من عفو الله وكرمه ، إن صدر عنك معصية فإنّهم أسوة الناس ، ويمكن أن يقع منهم الذنب ، فأنت لا تقنط من الرحمة

أو يقال له : الأنبياء كالملائكة يستحيل عليهم الذنب ، فإذا سمع بشيء من ذنوب الأنبياء ، كما جاء في القرآن : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ )(١) يتردّد في نبوّة آدم ؛ لأنّه وقع منه المعصية فلا يكون نبيّا؟!

وهل الأولى أن يقال : إنّ رسول الله ٩ لمّا بعث إلى الناس تابعه جماعة من أصحابه ، وأقاموا في خدمته وصحبته طول أعمارهم ، وقاسوا الشدائد والبلايا في إقامة الدين ودفع الكفرة ، وذكرهم الله في القرآن وأثنى عليهم بكلّ خير ورضي عنهم

ثمّ بعده قاموا بوظائف الخلافة ، ونشروا الدين ، وفتحوا البلاد ، وأظهروا أحكام الشريعة ، وأحكموا قواعد الحدود ، حتّى بقي منهم الدين ، وانحفظت من سعيهم الشريعة إلى يوم الدين

أو يقال له : إنّ هؤلاء الأصحاب بعد رسول الله ٩خالفوه ، ورجعوا إلى الكفر ، ولم يهد محمّد ٩ إلّا سبعة عشر نفرا؟!

__________________

(١) سورة طه ٢٠ : ١٢١.

٣٩٢

فيا معشر العقلاء : انظروا إلى المذهبين! وتأمّلوا وأمعنوا في عقائد الفريقين! (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً )(١) (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )(٢) .

وأمّا ما ذكر أنّه ليس في التوحيد دليل ولا جواب شبهة إلّا ومن أمير المؤمنين عليّ ؛ فإنّ هذا لا يختصّون به دوننا ، بل كلّ ما نأخذه من العقائد ، ونتلقّى من الأدلّة ، فإنّها مأخوذة من تلك الحضرة ومن غيره من أكابر الصحابة كالخلفاء الراشدين سواء ، وككبار الصحابة الّذين شهد رسول الله ٩ بعلمهم واجتهادهم وأمانتهم.

وهم يذكرون الأشياء من الأئمّة ويمزجون كلّ ما ينقلون عنهم بألف كذبة كالكهنة السامعة لأخبار الغيب ، ونحن لا نرويه ولا ننقله إلّا بالأسانيد الصحيحة المعتبرة المعتمدة ، والحمد لله على ذلك التوفيق.

* * *

__________________

(١) سورة هود ١١ : ٢٤.

(٢) سورة العنكبوت ٢٩ : ٦٣.

٣٩٣

وأقول :

لا يخفى أنّه قد دلّس في مذهب قومه ، وموّه ما شاء ولبّس في مذهب الإمامية ، وافترى من غير حياء ـ كما ستعرفه إن شاء الله تعالى ـ ، فخالف ما اشترطه من الصدق والإنصاف ، اتّباعا للهوى ، وتعصّبا لدين الأسلاف.

ونحن بعون الله تعالى نكشف عن وجه الحقيقة غشاءها ، ونعيد إلى مرآة الحقّ صفاءها.

أمّا ما ذكره أوّلا في تقرير مذهب الأشاعرة بقوله : « خالق كلّ الأشياء »

فهو أوّل تمويه ؛ لأنّ مورد النزاع هو أفعال العباد ، وأنّها مفعولة لله سبحانه أو للعبد ، فكان اللازم النصّ عليها ليتّضح حال المذهبين ، ولم يكف ذكر ما ينصرف لغيرها ، فينبغي أن يقال للمشرك المتحيّر : إنّه تعالى خالق كلّ الأشياء ، حتّى الزنا ، واللواط ، والكذب ، والظلم ، والنهب ، والسرقة ، والقتل ، ونحوها.

ولا ريب أنّه حينئذ يستنكره ويستكرهه ويعدّه من منافيات وجدانه لأنّه يجد أنّه فاعل فعله.

ولو ذكر له الشرك الذي هو عليه وقيل : إنّه مخلوق لله تعالى ، لقال هذا دليل رضاه به ؛ لأنّ الفعل بالاختيار لا يصدر بدون رضا الفاعل فلا داعي للعدول عنه.

ولو اجتهدوا في ترغيبه وإقناعه لقال : ما لكم خرجتم عن مذهبكم؟!

٣٩٤

فإنّه لا فعل لي بزعمكم ، والخالق لشركي هو الله فرغّبوه دوني!

وكذا الكلام في بقية الفقرات التي أراد بها أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وموّه فيها بإظهار ما ينصرف إلى غيرها.

ويزيد إشكالا قوله : « هو الفاعل المختار » ؛ لأنّ الله سبحانه عندهم موجب لصفاته فلا يكون مختارا على الإطلاق.

وبالجملة : هذه الفقرات بالنظر إلى ما عدا أفعال العباد مشتركة بين المذهبين ، وبالنظر إلى أفعال العباد قد موّه بها ، فلا معنى لذكرها في مقام التفاضل.

وأمّا قوله : « دبّر أمور الكائنات في أزل الآزال »

فإن أراد به أنّه أجراها على موازينها وقام بشؤونها ، فهو ليس في الأزل ، بل حين خلقها وأوجدها ، وإن أراد أنّه تروّى بها ورتّب كيفية خلقها ، فهو باطل ؛ لأنّه غني عن التروّي ، عالم بكلّ شيء في الأزل ، فإذا أراد شيئا قال له : (كُنْ فَيَكُونُ )(١) ، بلا إجالة فكر.

وأمّا قوله : « ثمّ خلقهم وأمرهم ونهاهم ».

فهو من الفضول في مقام التفاضل ؛ لاشتراك القول به بين الجميع.

وأمّا قوله : « وأفعاله حكمة وصواب ، ولا قبيح في فعله ».

فهو ممّا أريد به خلاف ظاهره ، فإنّ ظاهره تنزيه وخير ، ولكنّه تأبّط شرّا ؛ لأنّه لو صرّح للمشرك بأنّ من أفعاله الزنا ، واللواط ، وظلم الناس بعضهم بعضا ، والإفساد في الأرض ، وجميع الفتن ، لجزم بأنّها ليست

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١١٧ ، سورة آل عمران ٣ : ٤٧ و ٥٩ ، سورة الأنعام ٦ : ٧٣ ، سورة النحل ١٦ : ٤٠ ، سورة مريم ١٩ : ٣٥ ، سورة يس ٣٦ : ٨٢ ، سورة غافر ٤٠ : ٦٨.

٣٩٥

حكمة وصوابا.

وكذا قوله : « لا يجب عليه شيء ».

فإنّه لو فهم أنّ المقصود منه أنّه لا يجب عليه الرحمة وجزاء عبده بالطاعة وفعل الجميل ، وأنّه يجوز أن يعذّب المطيع المحسن بلا ذنب ، لأنكر صلاحيّته للربوبية ، وحكم بعدم عدله وحكمته ، ولم ير بالدخول بالإسلام على تقدير أحقّيّته فائدة تقتضي إتعاب النفس في اتّباع أحكامه.

وكذا قوله : « وكلّ ما يفعله في العباد من إعطاء الثواب وإجراء العقاب ، فهو تصرّف في ملكه ، ولا يتصوّر منه ظلم ، لا يسأل عمّا يفعل ».

فإنّه لو علم أنّ المراد أنّه يجوز عقاب من آمن به وعبده طول عمره ولم يذنب قطّ ، وثواب من كفر به وسبّه مدّة حياته ، وأنّه لا يسأل عن ذلك ، لحكم بأنّ تجويز ذلك تجويز للجور والسفه عليه سبحانه ، وبادر إلى الاعتراض والسؤال عن هذا العمل الوحشي.

ومعنى قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ )(١) على مذهب أهل العدل ، أنّه لمّا علمت حكمته وعدله فلا يسأل عن فعله إذا خفي وجهه ، لا أنّه لا يسأل عن فعله وإن نافى الرحمة والعدل والحكمة(٢) .

وأمّا قول الخصم : « وهم يسألون ».

فممّا يزيد المتحيّر حيرة ؛ لأنّه بعد ما ذكر له أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لا يتصوّر وجها لمسؤوليّتهم عن شيء لا تأثير لهم فيه أصلا.

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ : ٢٣.

(٢) انظر : تفسير الكشّاف ٢ / ٥٦٨ ، مجمع البيان ٧ / ٧٠ ، تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٧ ـ ١٥٨.

٣٩٦

وكذا يزيده حيرة قوله : « وهو منزّه عن فعل القبائح ، حيث لا قبيح بالنسبة إليه ».

إذ كيف لا يقبح فعل القبيح في حقّه وهو أحقّ من تنزّه عن القبيح.

وأمّا قوله : « ونحن نرضى بقضائه ».

فهو ـ لو صحّ ـ ممّا يشترك به الفريقان ، إلّا إنّه بإضافة قوله :

« والقضاء غير المقضي » يترك السامع متعجّبا من إرادته به وجوب الرضا بالقضاء دون المقضي ، والحال أنّ الرضا بأحدهما لا ينفكّ عن الرضا بالآخر.

وأمّا ما ذكره في تقرير مذهب الإمامية من أنّ : « الإله الذي ندعوك إليه له شركاء في الخلق »

فتلبيس ظاهر ؛ لأنّ إسناد أفعال العباد إليهم لا يستلزم الشركة ، كإسناد الملكية والقدرة لهم ، بل ذلك من مظاهر القدرة الربّانية وتوابع العبودية ؛ لأنّه تعالى أعطانا قدرة على أفعالنا ومكّننا من الاختيار ، ولا قدرة لنا من عند أنفسنا ففعلناها بإرادتنا مع احتياجنا في كلّ آن إليه.

وهذا هو الصنع العجيب ، حيث خلق ما يؤثّر الآثار بلا مباشرة منه تعالى للأثر ، ولا حاجة له إلى المؤثّر ، بل لنزاهته عن إتيان فواحش الأعمال وحكمته في جعل القدرة والاختيار للعبد ، ففي هذا إطراء لقدرته تعالى وتنزيه له عن القبيح.

وأمّا قوله : « وهو الموجب الذي لا تصرّف له في الكائنات بالإرادة والاختيار »

فهو من أظهر الكذب ؛ لأنّ كلّ أحد يعلم أنّ مذهب أهل العدل أنّ الله تعالى متصرّف بأفعاله من خلق السماوات والأرض والأجسام

٣٩٧

والأعراض بإرادته واختياره ، وإنّما الذي يصف الله سبحانه بالموجب هو الأشاعرة ؛ لأنّه عندهم موجب لصفاته ؛ ومجرّد قولنا : إنّه تعالى يجب عليه برحمته وعدله إعطاء العوض ؛ لا يقتضي أن يكون موجبا لا مختارا حتّى لو سمّينا العوض دينا عليه ، فإنّ أداء الدين اختياري للعبد ، فكيف لله تعالى؟! وهذا من جهالات الخصم وخرافاته.

وأمّا قوله : « وإذا عمل سيّئة يجب عليه عقابها وليس له أن يتفضّل »

فأكذب من الأوّل ، كما ستعرف.

قال نصير الدين ١ في ( التجريد ) : « والعفو واقع ؛ لأنّه حقّه تعالى ولا ضرر عليه في تركه ولأنّه إحسان ، وللسمع والإجماع على الشفاعة »(١) .

وقال القوشجي في شرحه : « اتّفقت الأمّة على إنّه تعالى يعفو عن الأمّة وعن الصغائر مطلقا ، وعن الكبائر بعد التوبة ، ولا يعفو عن الكفر قطعا ، واختلفوا في جواز العفو عن الكبائر بدون التوبة ، فذهب جماعة من المعتزلة إلى أنّه جائز عقلا غير جائز سمعا ، وذهب الباقون إلى وقوعه عقلا وسمعا ، واختاره المصنّف »(٢) .

فأين ما اشترطه الفضل من الصدق والإنصاف؟!

وأمّا قوله : « وإنّه خلق العالم ولم يجر له قضاء سابق ولا علم متقدّم ، بل يحدث الأشياء على سبيل الاتّفاق »

فأكذب من الأوّلين ؛ لأنّا نقول : إنّه تعالى عالم لذاته في الأزل وهو

__________________

(١) تجريد الاعتقاد : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

(٢) شرح التجريد : ٥٠١.

٣٩٨

ظاهر ، وقد قضى ـ أي حكم ـ بالأزل بكلّ شيء من الكائنات سوى أفعال عباده كما يظهر من أخبار أهل البيت :.

نعم ، لم يكن بالأزل القضاء ببعض معانيه كالخلق والإعلام والتكليف ، ومجرّد قولنا بعدم زيادة صفاته تعالى على ذاته لا يستلزم عدم علمه في الأزل بالأشياء ، كيف؟! وعلمه عين ذاته!

وأمّا قوله في تقرير مذهبه ثانيا : « وهل الأولى أن يقال له : من ديننا أنّه تعالى حاكم قادر مختار »

فهو لا يختصّ بمذهبه ، بل هم يرونه سبحانه موجبا لصفاته.

وأمّا قوله : « يكلّف الناس كيف ما يشاء » إلى تمام ما ذكره في بيان جواز التكليف بما لا يطاق

ففيه : إنّه لو سمعه المشرك لقال : على هذا يكون الإله الذي تدعون إليه غير منزّه عن السفه والجهل ، ولا مأمون الجور ، ولا يؤمنه دعوى عدم الوقوع ، ولا ضمان أن لا يقع.

وأمّا قوله في تقرير مذهب الإمامية : « أو يقال : إنّه يجب عليه أن يكلّف الناس حسب طاقتهم »

فلا ريب أنّه أنسب بالحكمة والعلم والعدل ، وأقوى في رغبة السامع من القول بأنّه يجوز أن يكلّف بما لا يطاق.

وأمّا قوله : « ليس له التصرّف فيهم »

فظاهره كذب صريح ، وقد أراد به أنّه يمتنع عليه أن يكلّف بما لا يطاق ، كما ذكره بعبارته بعدها ، لكن قال فيها : « ويمتنع عليه التكليف حسبما أراد » وهو كذب صريح ؛ لأنّ التكليف بما لا يطاق ليس من مراده ، وهو ممتنع الفعل والإرادة بالغير ، أعني الحكمة والعدل.

٣٩٩

وأمّا قوله في تقرير مذهبه ثالثا : « وهل الأولى أن يقال : إنّ كلّ ما جرى في العالم فهو تقديره وإرادته »

ففيه : إنّه لو صرّح بأنّ من جملة ما جرى بتقديره وإرادته أفعال الإنسان ، حسنها وقبيحها ، لعدّه السامع مكابرة لوجدانه ، واستنكر من نسبة القبيح إلى من يريد معرفة ربوبيّته ، وحكم بمناقضة نسبة الأفعال إليه مع الحكم بأنّه لا يرضى بالمعصية ؛ لأنّ فعل المختار يستلزم رضاه

على إنّا أولى بأن نقول : الطاعة برضاه والمعصية بغير رضاه ، فلا وجه لتخصيص الأشاعرة به.

وأمّا ما نسبه إلى الإمامية من أنّهم يقولون : إنّه سبحانه مغلول اليد

فكذب بجرأة عظيمة على جلال الله وقدسه ، فإنّ غلّ اليد إنّما يناسب القصور عن الفعل لا التنزّه عنه ، أو كونه جورا وظلما كعذاب من لا ذنب له والتكليف بما لا يطاق ، فيكون ممتنعا بالغير ، وإن كان سبحانه أقدر كلّ قادر عليه.

فعلى رأي الخصم : إنّه سبحانه لمّا وصف نفسه بأنّه ليس بظلّام للعبيد ، كان معناه أنّه سبحانه مغلول اليد ، ولا موجب لهذا الكذب علينا على الوجه الأشنع إلّا الانتصار لدين الأسلاف.

وأمّا قوله : « فيجب عليه أن يحبّ الخير وهو فاعله ، ولا يخلق الشرّ ، فللشرّ فواعل غيره » إلى آخره

فهو من الجهل الفاضح ، لأنّا نقول : إنّا فاعلون لأفعالنا خيرا وشرّا ، فلا وجه للتفصيل.

وأمّا قوله : « وهل الأولى أن يقال : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولكن

٤٠٠