دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

دلائل الصدق لنهج الحق13%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140973 / تحميل: 5350
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٥-١
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

والمستفاد من خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار عند ما قصد زيارة الحسين (عليه السّلام) قادماً من الكوفة لأواخر عهد الدولة الاُمويّة ذكر باب الحائر وكرّر لفظه، بينما ابن اُخته الحسين اقتصر على ذكر القبر دون إيراد لفظ الباب(1) .

ومن الممكن إن لم يكن يقصد بالباب حدود حومة الحائر وجود بناء على سبيل الإجمال على التربة الطاهرة، وكلاهما يصرّخان إنّهما كانا على خوف ووجل من القتل، وصرح ابن الثمالي بوجود المسلحة المطوّقة للحفرة الطاهرة من الجند الاُموي للحيلولة دون مَنْ يؤم قصده.

كان لحركة الشيعة في استعراضهم لجند الشام بعين الوردة بزعامة سليمان بن صرد الخزاعي واستماتتهم بطلب ثأر الحسين (عليه السّلام)، وإعادتهم الكرّة تحت لواء إبراهيم الأشتر، واستقصائهم للجندي الاُموي مع زعيمهم ابن زياد، مستهونين غير محتفين بكلّ ما سامهم معاوية من خطوب وخسف، وما أذاقهم من مرّ العذاب وصنوف التنكيل بغارات بسر بن أرطأة، وصلب وقتل وسمل في ولاية زياد بن أبيه وسمرة بن جندب وابن زياد، ممّا خلف أثراً عميقاً سيئاً في نفوس آل مروان ودويّاً هائلاً.

فبعد أن تسنّى لعبد الملك بن مروان وصل حلقات فترة الحكم الذي دهم دور حكم آل أمية بموت يزيد بإقصائه آل الزبير عن منصّة الحكم والإمرة، أراد أن يستأصل الثورة من جذورها؛ لذلك اتّبع سياسة القسوة والشدّة تجاه أهل العراق، وضغط ما لا مزيد عليه لمستزيد، خصوصاً في ولاية الحجاج بن يوسف.

ونهج خلفاؤه عين خططه دون أيّ شذوذ مع تصلّب بالغ؛ كابن هبيرة،

____________________

(1) يقول في خبر طويل بعد أن نزل الغاضرية وقد أدركه الليل، وهدأت العيون ونامت، أقبل بعد أن اغتسل يريد القبر الشريف يقول: حتّى إذا كنت على باب الحير... وساق في خبره وقد كرّر لفظ الباب حيث يقول بعد ذلك: فلمّا انتهيت إلى باب الحائر... (إقبال الأعمال - لابن طاووس / 28)، ومجلد المزار من بحار الأنوار 22 / 120.

٦١

وخالد بن عبد الله القسري، ويوسف بن عمر.

فترى ممّا تقدّم أنّ من المستحيل إفساحهم المجال بأن يُشيّد بناء على قبر الحسين (عليه السّلام)، ويكون موضعاً للتعظيم والتقدير؛ ممّا يتنافى وسياستهم المبنية على الكراهية لآل البيت (عليهم السّلام) والتنكيل بشيعتهم.

وإن سلّمنا بتحقق خبر الحسين بن أبي حمزة الثمالي على سبيل استدراك الورود لفظ الباب، من الممكن أن نقول: أي وجود بناء في الفترة بين سنة أربع وستين لإحدى وسبعين، ونلتزم بتغاضي المروانيين من التعرّض لهم، وبقائه ليوم ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي لزيارة الضريح الأقدس.

وورد خبر لا يوثق به ولا يعوّل عليه من أنّ المختار بن أبي عبيدة الثقفي بنى على القبر الشريف وأقام حوله قرية(2) .

وقيل: إنّ سكينة بنت الحسين (عليه السّلام) أقامت بناء على الرمس الأقدس أمد اقترانها بمصعب في ولايته للكوفة، ففي أمد الفترة لسنة ست وستين عندما أمَّ التوّابون (عند مسيرهم للتلاقي مع جند عين الوردة) التربة الزاكية، وازدحموا على القبر

____________________

(1) جاء في مزار بحار الأنوار - للمولى محمّد باقر المجلسي / 120 ما نصه: (عن الحسين ابن بنت أبي حمزة الثمالي قال: خرجت في آخر زمان بني مروان إلى قبر الحسين (عليه السّلام) مستخفياً من أهل الشام حتّى انتهيت إلى كربلاء، فاختفيت في ناحية القرية، حتّى إذا ذهب من الليل نصفه أقبلت نحو القبر، فلمّا دنوت منه... حتّى كاد يطلع الفجر أقبلت... فقلت له عافاك الله، وأنا أخاف أن أصبح فيقتلوني أهل الشام إن أدركوني ها هنا... وصلّيت الصبح وأقبلت مسرعاً مخافة أهل الشام.

(2) ذكر هذا القبر صاحب كنز المصائب دون إسناد، وفضلاً عن ذلك فإنّ هذا الكتاب لا يُعتمد عليه كثيراً؛ لِما حُشي متنه من الأخبار الغير واردة.

وقد ذكر هذا الخبر عند سرده لما دار بين المختار ومصعب بن الزبير، وعدد المواقع التي دارت بينهم والتي انتصر في جميعها المختار، =

٦٢

كازدحام الناس على الحجر الأسود(1) .

لم يكن حينذاك ما يظلل قبره الشريف أيّ ساتر، واستقصوا أمد البقية من الفترة، المختار بن أبي عبيدة الثقفي، ومصعب، وابن أخيه حمزة؛ فالأخبار الواردة في زيارة الحسين (عليه السّلام) عن السجّاد علي، والباقر(2) محمّد بن علي (عليه السّلام) (لكونهما قضيا حياتهما في الدولة المروانية) يشفان عن خوف ووجل.

وممّا يؤيد وجود بناء بسيط (بل له بعض الشأن) على القبر الشريف في زمن ورود الحسين ابن بنت أبي حمزة للزيارة، ما جاء من الألفاظ في الزيارات الواردة عن الصادق (سلام الله عليه) لجدّه الحسين (عليه السّلام)(3) ، حيث يقول في خبر: «... بعد الغسل بحيال قبره الشريف في الفرات، فتتوجه إلى القبر حتّى تدخل الحير من جانبه الشرقي، وتقول:...، ثمّ إذا استقبلت القبر...، ثمّ اجلس عند رأسه الشريف...، ثمّ تحوّل عند رجليه...، ثمّ تحوّل عند رأس علي بن الحسين...، ثمّ تأتي قبور الشهداء»(4) .

وفي خبر المفضل بن عمر عن الصادق (سلام الله عليه): «إذا أتيت باب الحير

____________________

= وهزيمة مصعب، إلى أن تمكّن مصعب من المختار آخر الأمر.

وإذ لم ترد مثل هذه الأخبار في الكتب التأريخية - والمعروف بل المحقّق أنّه لم يكن بين المختار ومصعب من مواقف سوى ما كان بالمذار، ثمّ تحصّن المختار بقصر إمارة الكوفة إلى أن قُتل -؛ لذا قلّ الاعتماد على ما ورد في هذا الكتاب من قيام المختار بتشييد قبر الحسين (عليه السّلام)، وإن كان المحلّ مناسب لإعطاء مثل هذه النسبة له.

كيف لا وقد قام المختار بأخذ ثأر الحسين (عليه السّلام)، وقتل قاتليه وصلبهم، وأحرق بعضهم بالنار؟ فلا يبعد من أن يقوم بتشييد قبره الشريف، إلاّ أنّنا نحكم بوقوع مثل هذا الأمر وجداناً لا استناداً على ما ورد في هذا الكتاب؛ للأسباب السالفة.

(1) تاريخ الطبري 7 / 70، وكان ذلك سنة 65 هـ.

(2) مجلد المزار 22 / 110.

(3) فقد توفي الصادق (عليه السّلام) سنة 148، والثمالي توفي في زمن المنصور.

(4) مجلد المزار / 145.

٦٣

فكبر الله أربعاً، وقل:...»(1) .

وفي خبر ابن مروان عن الثمالي عند آخر فصول الزيارة يقول: ثمّ تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتومئ إليهم، وتقول:...(2) .

وفي خبر صفوان الجمّال عن الصادق (عليه السّلام) يقول: «فإذا أتيت باب الحائر فقف... وقل:... ثمّ تأتي باب القبة وقف من حيث يلي الرأس، وقل:...، ثمّ اخرج من الباب الذي عند رجلي علي بن الحسين (عليه السّلام) وقل:...، ثمّ توجه إلى الشهداء وقل:...»(3) .

وفي خبر آخر عن صفوان يقول: «فإذا أتيت الباب فقف خارج القبة وارم بطرفك نحو القبر وقل:...، ثمّ ادخل رجلك اليمنى القبر وأخّر اليسرى، ثم ادخل الحائر وقم بحذائه وقل:...»(4) . وهذا ما يدلّك على أنّ له باباً شرقيّاً وغربيّاً.

فخلاصة القول: إنّ المستفاد من هذه الزيارات هو وجود بناء ذو شأن على قبره في عصر الصادق (سلام الله عليه).

ومع هذا فقد كان الاُمويّون يقيمون على قبره المسالح لمنع الوافدين إليه من زيارته، ولم يزل القبر بعد سقوط بني اُميّة وهو بعيد عن كلّ انتهاك؛ وذلك لانشغال الخلفاء العباسيِّين بإدارة شؤون الملك، ولظهورهم بادئ الأمر مظهر القائم بإرجاع سلطة الهاشميِّين، وهو غير خفي أنّ القائمين بالدعوة كانوا من أهل خراسان، وأكثر هؤلاء إن لم نقل كلّهم كانوا من أنصار آل البيت (عليهم السّلام).

ولمّا رسخت قدم العباسيِّين في البلاد، وقمعوا الثورات جاهروا بمعاداة شيعة علي (عليه السّلام)، ولكنّها كانت خفيفة الوطأة أيام السفّاح، فتوارد الزائرون

____________________

(1) المصدر نفسه / 148.

(2) المصدر نفسه / 105.

(3) المصدر نفسه / 159.

(4) المصدر نفسه / 179.

٦٤

لقبر الحسين (عليه السّلام) من شيعته عند سنوح هذه الفرصة جهاراً، واشتدّت الوطأة أيام المنصور بوقيعته بوجوه آل الحسن(1) ، وخفّت ثانية في أيام المهدي والهادي.

فلمّا كانت أيام الرشيد(2) ، وكانت قد استقرّت الأوضاع، وثبتت دعائم الحكم، وقضت على ثورات العلويِّين بما دبّرته من طرق الغدر والخيانة، فأرغمت أنوفهم الحمية، وأخمدت نفوسهم الطاهرة، فأرادت القضاء عليهم في محو قبور أسلافهم، فسلكوا سلوك بني اُميّة؛ إذ أمر الرشيد بهدم قبره الشريف ومحو أثره، فأخذت الشيعة الوسائط بالاهتداء إلى تعيين موضع القبر، وتعيين محلّ الحفرة منها السدرة، فبلغ الرشيد ذلك فأمر بقطعها(3) ، ثمّ وضع المسالح على حدوده إلى أن انتقل إلى طوس ومات فيها.

فلم يتتبع الأمين ذلك لِما كان منشغلاً باللهو والطرب وصنوف المجون والبذل، فاغتنموا الحال وبادروا إلى تشييد قبره الشريف، وقد اتخذوا عليه بناءً عالياً.

ولمّا جاء دور المأمون وتمكّن من سرير الخلافة تنفس الشيعة الصعداء، واستنشقوا ريح الحرية، ولم يتعرّض لذلك، وكان المأمون يتظاهر بحبّه لآل البيت (عليهم السّلام) حبّاً جمّاً حتّى إنّه استعاض بلبس السواد - وهو شعار العباسيِّين - بلبس الخضرة - وهو شعار العلويِّين -، وأوصى بالخلافة من بعده لعلي الرضا

____________________

(1) مروج الذهب - للمسعودي 2 / 171.

(2) الظاهر إنّ الرشيد لم يتعرّض لقبر الحسين (عليه السّلام) إلاّ في اُخريات أيامه، ولعل سبب ذلك غضبه ممّا كان يشاهد من إقبال الناس لزيارة الحسين (عليه السّلام) وتعظيمه والسكنى بجواره، وكان قبل ذلك يجري ما أجرته أمّ موسى من الأموال على الذين يخدمون قبر الحسين في الحير. انظر الطبري 10 / 118. (عادل)

(3) روى ذلك محمّد بن الحسن الطوسي في أماليه / 206 طبع إيران، بسنده إلى جرير بن عبد الحميد، وذكر أنّه عندما سمع جرير بالخبر رفع يديه قائلاً: الله أكبر! جاءنا فيه حديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «لعن الله قاطع السدرة» ثلاثاً. فلم نقف على معناه حتّى الآن.

٦٥

ابن موسى الكاظم (عليه السّلام)، ولعل ذلك كيد منه، وكان هذا الوقوع بعد قتل أخيه الأمين، واسترضاء لمناصريه الخراسانيين.

وقد زعم البعض أنّه هو الذي شيّد قبره الشريف، وبنى عليه لهذه الفترة(1) ، وفي ورود أبي السرايا بن السري بن المنصور إلى قبر الحسين (عليه السّلام) أيام المأمون عام تسعة وتسعين بعد المئة حين قام ببيعة محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل طباطبا بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن السبط، دليل على تشييد قبر الحسين(2) بعد مضي الرشيد إلى طوس.

وبقي الحال على هذا المنوال والشيعة في حالة حسنة حتّى قام حول قبره الشريف سوقاً، واتخذت دوراً حوله، وأخذ الشيعة بالتوافد إلى قبره للسكنى بجواره، إلى أن كان من المغنّية الشهيرة التي قصدت من سامراء في شعبان زيارة قبره الشريف، وكانت تبعث بجواريها إلى المتوكّل قبل أن يلي الخلافة يغنين له إذا شرب، وقد بعث إليها بعد استخلافه فأخبر بغيبتها، فأسرعت بالرجوع عندما أبلغها الخبر بطلب المتوكّل لها، فبعثت إليه بجارية وكان يألفها، فقال لها: أين كنتم؟

قالت: خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها.

فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟

قالت: إلى قبر الحسين (عليه السّلام).

فاستطير غضباً(3) ، وفيه من بغض آل أبي طالب ما هو غني عن البيان، فبعث بالديزج بعد أن استصفى أملاك المغنّية - وكان الديزج يهودياً قد أسلم - إلى قبر الحسين (عليه السّلام)، وأمره بحرث قبره الشريف ومحوه، وهدم كلّ ما حوله من الدور والأسواق، فمضى لذلك وعمل بما أمر به، وقد حرث نحو مئتي جريب من جهات القبر، فلمّا بلغ الحفرة لم يتقدّم

____________________

(1) نزهة الحرمين - للعلاّمة السيد حسن الصدر (مخطوط) نقلاً عن تسلية المجالس.

(2) انظر مقاتل الطالبيِّين - لأبي الفرج الإصبهاني / 341 ط النجف.

(3) المصدر نفسه / 386.

٦٦

إليه أحد، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه، وأجرى الماء عليه(1) ، فحار الماء عند حدود قبره الشريف(2) ، ثمّ وكّل به المسالح بين كلّ مسلحتين ميل، ولا يزوره أحد إلاّ وأخذوه ووجهوا به إلى المتوكّل(3) ، فحصل للشيعة من ذلك كرب عظيم لِما طرأ على قبره من الجور، ولم يعهد مثله إلى هذا الحد.

فضاق بمحمد بن الحسين الأشناني بعد طول عهده بالزيارة، فوطّن نفسه على المخاطر، وساعده رجل من العطّارين، فخرجا يمكثان النهار ويسيران الليل حتّى بلغا الغاضرية، وخرجا منها نصف الليل، فسارا بين مسلحتين وقد ناموا حتّى دنا من القبر الشريف، فخفى عليهما موضعه، فجعلا يتحرّيان موضع القبر حتّى أتياه وقد قُلع الصندوق الذي كان عليه واُحرق، وفي الموضع اللبن قد خُسف وصار الخندق، فزاراه وانكبّا عليه، وقد شمّا من القبر رائحة ما شمّا مثلها قطّ من الطيب.

فقال الأشناني للعطّار: أي رائحة هذه؟

فقال: والله ما شممت مثلها بشيء من العطر.

فودّعاه وجعلا حوله علامات في عدّة مواضع، وبعد قتل المتوكّل حضر مع بعض الطالبيِّين والشيعة فأخرجوا العلامات وأعادوا القبر إلى ما كان عليه أوّلاً.

وقد نالت الشيعة شيء من الحرية على عهد المنتصر، وكان هذا محبّاً لآل البيت (عليهم السّلام)، مقرّباً لهم، رافعاً مكانتهم، معظّماً قدرهم، ومن حسناته إليهم أنّه شيّد قبر الحسين (عليه السّلام)، ووضع ميلاً عالياً يرشد الناس إليه(4) ، وذلك في عام السابع والأربعين بعد المئتين.

ولم يُهدم بناء المنتصر ظلماً؛ لعدم تعرّض أخلافه له؛ لِما ظهر من الوهن في دولتهم، وانحلال أمرهم، وتسلّط الأتراك عليهم، وانشغالهم بأنفسهم.

وفي خلافة المسترشد ضاقت الأرض على رحبها على الشيعة؛ وذلك عندما أمر بأخذ جميع ما اجتمع من هدايا

____________________

(1) المصدر نفسه / 386.

(2) المصدر نفسه / 386.

(3) المصدر نفسه / 387.

(4) فرحة الغري - لعبد الكريم بن طاووس.

٦٧

الملوك والأمراء والوزراء والأشراف من وجوه الشيعة من الأموال والمجوهرات في خزانة الروضة المطهّرة، وأنفقه على العسكر، واعتذر بأنّ القبر لا يحتاج إلى الخزانة(1) ، إلاّ أنّه لم يتعرّض للبناء ولم يمسّه؛ لقصور يده، وضعف شأنه لا لشيء آخر.

وكان البناء الذي شيّد في عهد المنتصر قد سقط في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين ومئتين(2) ، فقام إلى تجديده محمّد بن زيد القائم بطبرستان في خلافة المعتضد بالله العباسي(3) لسنة ثلاث وثمانين ومئتين(4) ، وقد أخذ حال القبر الشريف منذ تشييد المنتصر إيّاه بالعروج إلى مدارج العمران يوماً بعد يوم حيث أمن الناس من إتيانه واتخاذ الدور عند رمسه.

وقد زار القبر عضد الدولة بن بويه سنة (370 هـ) بعد أن بالغ في تشييد الأبنية حول الضريح وزخرفتها(5) ، وكان آل بويه يناصرون الشيعة.

وقد استحفل التشيّع على عهدهم حتّى إنّ معزّ الدولة أمر سنة 352 بإقامة المآتم في عاشوراء، وكان ذلك أوّل مأتم أُقيم في بغداد.

____________________

(1) المناقب - لابن شهر آشوب، وكان ذلك سنة 511 هـ.

(2) فرحة الغري / 61.

(3) جاء في بحر الأنساب (العائد لخزانة المرحوم الشيخ عبد الحسين شيخ العراقيين الطهراني) عند ذكره لنسب المعتضد بالله العباسي بقوله: وأمر بعمارة مشهد الغري بالكوفة ومشهد كربلاء، وافتقد الخزائن بدار الخلافة، فأخرج منها ما وجده من نهب الواثق من مال مشهد الحسين بن علي (عليه السّلام) وأعاده إليه.

(4) فرحة الغري، وكان محمّد بن زيد هذا دائم التصدّق على العلويِّين في المشاهد؛ فقد بعث في خلافة المعتضد بالله اثنين وثلاثين ألف دينار لمحمد بن ورد ليفرّقها على العلويِّين. (انظر الكامل 6 / 80، والطبري 12 / 346).

(5) تسلية المجالس - لمحمد المجدي (بالفارسية)، طبع حجر.

٦٨

(وعندما عفا عضد الدولة عن عمران بن شاهين البطائحي بنى الرواق المشهور برواق عمران بن شاهين في المشهدين الشريفين الغروي والحائري (على مشرفهما السّلام»(1) .

وفي سنة سبع وأربعمئة هجـ احترق الحرم الشريف إثر اندلاع حريق عظيم كان سببه إشعال شمعتين كبيرتين سقطتا في الليل على التأزير واحترق، وتعدّت النار بعد الحرق القبة إلى الأروقة(2) ، فكان البناء على القبر الشريف بعد وقوع هذا الحريق ما وصفه الطنجي في رحلته، إلاّ أنّي لم أقف على خبر مَنْ شيّد هذا البناء، وفي أيّ تاريخ كان ذلك(3) ، ولعله كان قد تبقى شيء من البناء الذي

____________________

(1) فرحة الغري / 67.

(2) الكامل - لابن الأثير 9 / 110 ط ليدن، و7 / 295 من ط القاهرة، والمنتظم - لابن الجوزي 7 / 283، البداية - لابن كثير 12 / 4، والنجوم الزاهرة - لابن تغري بردى 4 / 241.

(3) ذكر كلّ من العلاّمة السيد حسن الصدر الكاظمي في نزهة الحرمين / 35، والعلامة السيد محسن الأمين العاملي في أعيان الشيعة 4 / 302، ومن أخذ عنهما، أنّ أبا محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان وزير سلطان الدولة البويهي هو الذي جدّد بناء الحائر بعد وقوع هذا الحريق، لكن المصادر التي عوّلوا عليها لم تنسب إلى ابن سهلان هذا سوى بناء سور الحائر وليس تجديد بنائه، كما في المنتظم 7 / 283، والبداية والنهاية 12 / 16، ومجالس المؤمنين / 211، والنجوم الزاهرة 4 / 259.

هذا فضلاً عن أنّ ابن سهلان بدأ ببناء سور الحائر في سنة 400 هـ، أيّ قبل وقوع الحريق بسبعة أعوام، وهي نفس السنة التي أمر ببناء سور على مشهد أمير المؤمنين(عليه السّلام). (الكامل 7 / 249. ط القاهرة).

فقد ورد في المنتظم 7 / 246: وفي جمادى الأولى (سنة 400 هجـ) بدأ ببناء السور على المشهد بالحائر، وكان أبو محمّد الحسن بن الفضل بن سهلان قد زار هذا المشهد، وأحبّ أن يؤثر فيه مؤثراً، ثمّ ما نذر لأجله أن يعمل عليه سوراً حصيناً مانعاً؛ لكثرة مَنْ يطرق الموضع من العرب، وشرع في قضاء هذا النذر، ففعل وعمل السور، وأحكم وعرض، ونصبت عليه أبواب وثيقة وبعضها حديد، وتمّم وفرغ منه، وتحسّن المشهد به، وحسن الأثر فيه. (عادل).

٦٩

شيّده عضد الدولة، إلى أن شيّد عليه البناء الموجود اليوم على القبر الشريف، أو إنّه قد جدّده بعد الحريق أخلاف عضد الدولة؛ إذ كانت دولتهم قائمة عند وقوع الحريق.

هذا وكان إكمال بناء الحرم في سنة سبع وستين وسبعمئة، وقد أمر بتشييده السلطان أويس الإيلكاني، وأتمّه وأكمله ولده السلطان حسين(1) .

____________________

(1) زينة المجالس - لمحمد المجدي (مخطوط) باللغة الفارسية / 84، والمجدي من معاصري الشيخ البهائي، وقد صنّف كتابه هذا سنة 1004 هجـ، فقد جاء فيه: إلى أن أمر السلطان أويس الإيلكاني، وابنه السلطان حسين ببناء عمارة عالية.

وللسيد المؤلّف (عبد الحسين) ملاحظة مهمة في هذا الخصوص، خطر لي أن أثبتها هنا، يقول: ذكر سماحة السيد محسن الأمين العاملي في المجلد 3 / 593، من أعيان الشيعة، قال فضيلته عن آخر كتاب الأماقي في شرح الإيلاقي لعبد الرحمن العتايقي الحلّي المجاور بالنجف الأشرف، في نسخته المخطوطة في خزانة العلوية الذي تمّت كتابته في محرّم سنة 755 هجـ، قال: (في هذه السنة احترقت الحضرة الغروية (صلوات الله على مشرّفها)، وعادت العمارة وأحسن منها في سنة 760 سبعمئة وستون). انتهى.

أقول: هذا الحريق هو الذي ذكره ابن مهنا الداودي في العمدة / 5، ولكنّه لم يذكر اسم المجدّد للبناء الذي شيّد على الروضة المطهّرة الحيدرية، حيث المدّة تقارب زمن البناء الذي قام به السلطان أويس، وولده السلطان حسين الإيلكانية في سنة (767) على قبر الحسين (سلام الله عليه) الموجود اليوم على الروضة الطاهرة.

من المقتضي أن يكون السلطان حسين الإيلكاني هو منفرداً أقام البناء على الروضة الطاهرة الحيدرية، وبالخاصة لموقع قبورهم التي ظهرت في سنة الخامس عشر بعد الثلاثمئة والألف هـ وسط الصحن الشريف ما يلي باب الطوسي، أحد أبواب الصحن الشريف، في القسم الشمالي من الروضة الزاكية؛ إذ ظهر سرب فيه ثلاثة قبور على أحدهم في القاشاني مرقوم (توفي الشاهزاده الأعظم معزّ الدين عبد الواسع في 15 جمادى الأوّل سنة 790)، وعلى لوح القبر الثاني (هذا ضريح الطفل الصغير سلالة السلاطين الشاهزادة ابن الشيخ أويس (طاب ثراه). توفي يوم الأربعاء حادي عشر محرّم الحرام سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة).

وعلى لوح القبر الثالث (هذا قبر الشاهزادة سلطان بايزيد (طاب ثراه). توفي في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وثمانمئة هلالية)، وعلى قبر آخر (هذا قبر المرحومة السعيدة بايندة السلطان).

وقد ابتدأ حكم الأسرة الإيلكانية الجلائرية في بغداد وآذربايجان بعد موت أبي سعيد بن أولجياتو محمّد خدابنده بقليل بالشيخ حسن الكبير، تقريباً بين سنة تسع وثلاثين وسبعمئة، أو سنة الأربعون، وكانت وفاته سنة 757 هـ، ثمّ تلاه في الحكم ولده السلطان أويس سنة 757 هـ، وتوفي سنة 776 هـ، ثمّ تلاه ولده السلطان حسين من سنة 776 هـ، إلى أن توفي في سنة 784 هـ، ثمّ تلا السلطان حسين أخوه السلطان أحمد الجلائري ابن أويس، إلى أن قُتل في تبريز بين سنة ثلاث عشرة وثمانمئة وأربع عشرة، وبه تقريباً انتهت أيامهم.

٧٠

وكان تاريخ هذا البناء موجوداً فوق المحراب الذي موضعه اليوم الرخام المنعوت بنخل مريم(1) فيما يلي الرأس الشريف، وقد شاهد ذلك التأريخ بنفسه محمّد بن سليمان بن زوير السليماني، وذكره في كتابه المسمّى بـ (الكشكول).

وقد كان إنزال هذا التاريخ سنة السادس عشر بعد المئتين والألف (1216)، ومن موضعه، عند عمل المرايا والتزيينات للحرم الشريف بأمر محمّد علي خان القواينلو كما تشير إلى ذلك الكتابة

____________________

(1) جاء في كتاب (دلائل الدين) تأليف عبد الله ابن الحاج هادي ما ترجمته: روى عن السجّاد (عليه السّلام): أنّ الله تعالى ذكر في القرآن أنّ السيدة مريم (عليها السّلام) عندما أرادت أن تلد ابنها المسيح ابتعدت عن قومها، وذهبت إلى كربلاء - بصورة معجزة - بجنب نهر الفرات، وقد ولد المسيح قرب مكان ضريح الحسين (عليه السّلام)، وفي نفس الليلة عادت السيدة مريم إلى دمشق.

ومصداق هذا الخبر ما ورد عن الباقر (عليه السّلام) - على ما أتذكر - أنّ صخرة على مقربة من قبر الحسين نُصبت في الحائط قد أجمع ساكنوا هذا المقام على أنّ الرأس الشريف قد حزّ على هذه الصخرة، ويقولون أنّ المسيح قد ولد على نفس تلك الصخرة أيضاً.

٧١

الموجودة في أعلى الباب الثالث من أبواب الحرّم المقابل للشبكة المباركة: (واقفه محمّد علي خان القواينلو سنة 1216) هـ.

وكذلك هذا التأريخ موجود بعينه في الكُتيبة القرآنية داخل القبّة على الضريح المقدّس، وفي سنة 920 هـ أهدى الشاه إسماعيل الصفوي صندوقاً(1) إلى القبر الشريف،

____________________

(1) عندما دخل الشاه إسماعيل الصفوي الأوّل - مؤسس الدولة الصفوية في إيران والذي يرتقي نسبه إلى الإمام السابع موسى بن جعفر (عليه السّلام) - بغداد فاتحاً سنة 914 هـ كان همّه الأول هو التبرّك بزيارة أجداده الأئمّة المعصومين (عليهم السّلام)، فقصد زيارة مرقد الحسين (عليه السّلام)، وعمل ثوباً حريرياً لقبره الشريف، وعلّق اثنى عشر قنديلاً من الذهب أطراف القبر، وفرش تلك الحضيرة القدسية بالبسط، وجلّله بأنواع الحرير والإستبرق، وبذل الأموال الكثيرة لللائذين بقبره الشريف، ثمّ خرج قاصداً النجف الأشرف. (وقد ترجم النص المتقدّم العلاّمة المؤلّف عن (حبيب السير) لخواند مير بالفارسية - مخطوط في 3 مجلدات في مكتبة المؤلّف سنة 1008 هـ).

وقد جاء أيضاً في (عالم آراى عباسي) لإسكندر منشي جـ 2 عن زيارة هذا الشاه ما ترجمته: توجه الشاه من بغداد إلى تربة كربلاء بعد إخلاص النيّة، وتشرّف بزيارة مرقد الحسين المنوّر وشهداء كربلاء، وقد زيّن الروضة وأنعم على المجاورين، ثمّ توجه من هناك إلى زيارة علي المرتضى (عليه السّلام) عن طريق الحلّة. راجع أيضاً فارسنامه ناصري 1 / 93.

وزار كربلاء أيضاً الشاه عباس الأول الصفوي، فقد جاء في فارسنامه ناصري ما ترجمته: غادر الشاه عباس الأول الصفوي أصفهان في سنة 1033 هجري متجهاً نحو بغداد، وفي غرّة ربيع الأوّل من نفس السنة دخل بغداد فاتحاً...، ثمّ توجه إلى النجف الأشرف في محرّم الحرام، وعلى بعد (30) كيلو متر ترجّل عن فرسه وخلع نعله، وأنعم على كافة سكنة النجف، وتوجه بعد ذلك مسروراً فرحاً إلى زيارة كربلاء وطاف بالبقعة الطاهرة، ثمّ أقفل راجعاً إلى بغداد وزار الإمامين الكاظمين وسامراء.

وفي ربيع هذه السنة أعاد الكرّة لزيارة كربلاء والنجف الأشرف، وقبل أعتاب هاتين الحضرتين أدّى لوازم الزيارة، وأهدى من الصناديق القيمة والطنافس الحريرية المطرّزة والديباج الشيء الكثير، ورجع مقفلاً إلى بغداد، وأعاد الزيارة مرّة أخرى إلى الروضة الحسينيّة.

وانظر أيضاً =

٧٢

ولم يرد ما يهمّ خبره من أخلافه الصفوية إلاّ الإقدام بأمور طفيفة لا مجال لذكرها، إلاّ أنّه بلغني - ولم أتثبّت من ذلك أنّ الشاه سليمان الصفوي قام ببناء القسم الشمالي من الصحن المطهّر، والإيوان الكبير الذي فيه المسمّى (بصافي صفا) نسبة إلى الصفويِّين، وليس اليوم في هذا الإيوان دليل على ذلك سوى إنّ الكاشي المعرّق الموجود في سقف هذا الإيوان، والزخارف المعمولة من البورق فيه يستدل منها أنّ بناء هذه الجهة أقدم بناء من الجهات الثلاث للصحن الشريف، فضلاً عن أنّ نقوش الكاشي المعرّق وصنعتها تشبه إلى حدّ كبير نقوش الكاشي المعرّق الموجود في روضة الجوادين (سلام الله عليهما)، وحرم حضرة الرضا (عليه السّلام)، ومقبرة خواجه ربيع، والقدم كاه.

وقد كان في حواشي الكاشي المعرّق الموجود في جنبتي هذا الإيوان - الشرقي والغربي - كُتيبة تنص على اسم الباني وتأريخ بنائه، ولكن مع مرور الزمن تلف واندرس أثره، ومع شديد الأسف لم يسعَ أحد بعد

____________________

= عالم آراي عباسي، وهناك مصدر لا بدّ من الإشارة إليه في هذا الخصوص هو (تاريخ دهامر الألماني) الذي تُرجم من اللغة الفرنسية إلى الفارسية باسم: سلطان التواريخ، في تاريخ سلاطين آل عثمان، يقع في ثلاث مجلدات ضخام، تحتوي على 72 باباً، ينتهي به مؤلفه إلى آخر عهد عبد الحميد الأول العثماني، بعد حرب الروس والأتراك وعقد معاهدة (كنارجة).

وفي سنة 1034 هـ أعاد السلطان مراد الرابع العثماني العراق إلى حوزة دولته، وفي 27 جمادى الأولى سنة 1039 هـ احتل بغداد مرّة أخرى الشاه صفي حفيد الشاه عباس الأول، وزار كربلاء في سنة 1048 هـ في يوم عيد، فقبّل أعتاب ضريح سيد الشهداء وأخيه العباس بعد أن أنذر النذور، وأكرم ذوي الحاجة. (روضة الصفاي ناصري المجلد الثامن).

وفي سنة 1156 هـ توجه نادر شاه من النجف الأشرف إلى تقبيل أعتاب الحسين (عليه السّلام) الذي حرمه مطاف ملائكة الرحمن، وقدّمت زوجته رضية سلطان بيكم كريمة الشاه سلطان حسين الصفوي عشرين ألف نادري لتعمير جامع الحرم الشريف (التاريخ النادري).

٧٣

ذلك لإرجاع هذا النص التأريخي المهم إلى موضعه.

وعندما أرادوا دفن ميرزا موسى الوزير فيه(1) عملوا موضعية الكُتيبة

____________________

(1) وقد شيّد هذا الإيوان الكبير في سنة 1281 هـ من قبل المرحوم ميرزا موسى وزير طهران، لتكون مقبرة له ولعائلته، وقد جدّد المرايا والكُتيبة القرآنية، وزوّق جدرانها الداخلية بالكاشي النفيس.

وقد نظم الشاعر (قلزم) الذي كان من الشعراء الشهيرين في تلك الفترة، هذه القصيدة بالمناسبة:

اي نمودار حريمت حرم عرش برين

ظـل دركـاهت خـركه زده بر عليين

قـدسيان بسته بفرمان تو از عرش كمر

آسمان سوده در ايوان تو بر فرش جبين

بـوده دارلـت شـاهنشه اقـليم شهود

بـيشكا رانـت فـرمان ده سرحد يقين

ظل خركاه تو را قبله كند روح القدس

خاك دركاه تو را سجده برد حور العين

از ازل تـاج شـهادة جه نهادي بر سر

شـد ترا ملك شفاعت همه در زير نكين

از بـهاي كـهر باك تو اين توده خاك

كعبه دين شود وشد سجده كه أهل زمين

إلى أن يقول:

قـصة طـور كـليم الله فاخلع نعليك

هـمه از خاك درت مظهر آيات مبين

عكس از شمسه ايوان تو شد شمس فلك

بر تو اوبر همه كون مكان كشت مكين

سـاكـنان حـرم وجـلال مـلكوت

هـه بـرخاك رهـت بايد خاك نشين

=

٧٤

الموجودة اليوم من المرايا، رُقمت بهذه الآية:( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً

____________________

=

بـهر فـراشي حجابت هر شام وسحر

قيصر أز روم كمر بندى وفقفور أز جين

إلى أن يقول:

اين هـمان وادى دوروا تـش شـوق

صـه جـه موسى باميد قبسي خاك نشين

انـدرين عـهد هـمايون از فـو ظـفر

رايـت دولـت اسـلام بر از جرخ برين

شـاه شـاهان جهان ظل خدا كهف زمان

خـسرو مـلك مـلل بـادشاه دولت ودين

شـهـر بـازيكه زأواز كـوي سـخطش

تـااب درشـده در جـحمه كـوه طـنين

مـير فـرخنده نـزادى زد راوكـه بـود

افـتـاب فـلك ورفـعت كـوه وتـمكين

داشـت جـون كوهري آراسته نور صفا

كـرد ايـن صـفه ايـوان صفارا ترين

دولت نـاصرى وسـعى امـام مـلت

أنـدرين عـهد بـود مـحيي آثار جنين

افـتـخار فـضلا قـبله أربـاب فـلاح

بـيشواى دو جـهان بـادشاه شرع مبين

انـكه از بـندكي صـاحب روضـه باك

شـده بـرخا جـكي علم ازل صدر تشين

جون زفيض كف موسى شد اين طور صفا

..........................................

كـلك قـلزم بي تاريخ سخنور شده وكفت

بـا كـف مـوسى آراسـته طـور سنين

٧٥

وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ... ) .

هذا وقام السلطان مراد الرابع العثماني سنة ثمان وأربعين وألف بتعمير وتجديد القبّة السامية، وجصّصها من الخارج(1) .

وفي سنة 1135 هـ نهضت زوجة نادر شاه وكريمة حسين الصفوي إلى تعمير المسجد المطهّر، وأنفقت على ذلك عشرين ألف نادري.

وقام أغا محمّد خان (الخصي) مؤسس الدولة القاجارية في إيران بتذهيب القبّة السامية للسنة السابعة بعد المئتين والألف الهجرية(2) .

وقد نظم بهذه المناسبة الميرزا سليمان خان المشهور بصباحي الشاعر، مؤرّخاً هذا التذهيب بقوله:

كلك صباحي از اين تاريخ أونوشت

در كبند حسين علي زيب بافت زر

1207 هـ

____________________

(1) لم نعثر على مصدر هذا الخبر، ولكنّه قد جاء في كلشن خلفاء (ص 102 وجه) لنظمي زاده بالتركية: أنّ الوالي علي باشا الوند زادة، بأمر من السلطان مراد الثالث العثماني قد جدّد بناء جامع الحسين وقبّته المنوّرة، وذلك سنة 984 هـ.

وقد أرّخ هذا البناء أحد الشعراء المشهورين بأبيات مطلعها:

بـحمد الله كه از عون الهي

نـموده خـدمت شاه شهيدان

شه كشور ستان خاقان اعظم

مـراد بن سليم ابن سليمان

وقد وهم الأستاذ حسن الكليدار في كتابه (مدينة الحسين / 38) إذ ذكر أنّ هذه الأبيات قد قيلت بمناسبة تشييد القبّة من قبل مراد الرابع العثماني، إلاّ أنّ الصحيح ما ذكرناه. (عادل)

(2) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ - للسان الملك سبيهر / 33 سنة 1206 هـ.

٧٦

وفي أوائل القرن التاسع عشر (1214هـ) أهدى فتح علي شاه القاجاري - أحد ملوك إيران - شبكة فضية(1) ، وهي إلى اليوم موجودة على القبر الشريف، وحوالي هذا التاريخ أمرت زوجته بتذهيب المأذنتين حتّى حدّ الحوض.

وفي سنة 1259 هـ قام محمّد علي شاه - ملك أود - سلطان الهند بتذهيب الإيوان الشريف وصياغة بابه بالفضة.

ويوجد اليوم على الفردة اليمنى من باب الفضة في إيوان الذهب: (هو الله الموفّق المستعان، قد أمر بصنع هذا الباب المفتوح لرحمة الملك المنان، وبإتمام تذهب هذا الإيوان الذي هو مختلف ملائكة الرحمن، وبحفر الحسينيّة وبناء قناطرها التي هي معبر أهل الجنان).

وعلى الفردة الثانية، الجانب الأيسر تتمته: (وتعمير بقعة قدوة الناس مولانا وسيدنا أبو الفضل العباس، السلطان ابن السلطان، والخاقان ابن الخاقان، السلطان الأعظم والخاقان الأكرم، سلطان الهند، محمّد على شاه (تغمّده الله بغفرانه، وأسكنه فسيح جناته)، وكان ذلك في سنة 1259 هـ ألف ومئتين وتسعة وخمسين).

وقام بعد ذلك أمراء الأكراد البختيارية إلى تزيين المسجد والأروقة، وقد وسع الضلع الغربي من الصحن الشريف، وجدّد بناءه المتغمّد برحمته المرحوم الشيخ عبد الحسين الطهراني(2) (شيخ العراقين) من قبل شاه

____________________

(1) مجلد القاجارية من ناسخ التواريخ / 63.

(2) جاء في مستدرك الوسائل - للعلاّمة النوري 3 / 397 في ترجمة الشيخ عبد الحسين الطهراني: (شيخي وأستاذي ومَنْ إليه في العلوم الشرعية استنادي، أفقه الفقهاء، وأفضل العلماء، العالم الرباني، الشيخ عبد الحسين الطهراني... حتّى يقول: وجاهد في الله في محو صولة المبتدعين، وأقام أعلام الشعائر في العتبات العاليات، وبالغ مجهوده في عمارة القباب الساميات).

وقد توفي في الكاظمية في 22 شهر رمضان سنة 1286 هـ، ونُقل إلى كربلاء، ودُفن في إحدى حجرات الصحن الحسيني.

٧٧

إيران ناصر الدين شاه القاجاري سنة 1275 هـ، وشيّد إيوانه الكبير وحجر جهتيه.

وقد أنشد الشيخ جابر الكاظمي الشاعر الكبير مؤرّخاً لهذا البناء بالفارسية يقول:

بـنائي ناصر الدين شاه بنا كرد

زخـاك أوست بائين كاخ خضرا

نه صحن وكنبدي جرخي مكوكب

زنـور أو مـنور روي غـبرا

بـراي كـشوار عـرش يـعني

حـسين بـن عـلي دلبند زهرا

بـناي سـال أو جابر همي كوي

أز ايوان شـكست كـسرى

بكو تأريخ ايوانش مؤرخ 1275 هـ

وله تأريخ بالعربية:

لـله إيوانٌ سما رفعةً

فطاول العرشَ به الفرشُ

قال لسانُ الغيب تأريخه

أنت لأملاك السما عرشُ

ولم يحدث بعد ذلك ما يهمّ ذكره سوى ما جدّدت إنشاءه إدارة الأوقاف في العهد الأخير، في القسم الغربي من الصحن؛ لظهور الصدع فيه.

وفي المشهد الحسيني عدّة نقوش وكتابات تدلّ على تواريخ إصلاحه والزيارات فيه؛ ففي أعلى عمود وسط الضلع الجنوبي من شبكة الفولاد المنصوبة على قبر الحسين (عليه السّلام) ما يقابل الوجه الشريف، هذه العبارة: (مَنْ بكى وتباكى على الحسين فله الجنّة صدق الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سنة 1185 هـ).

وما يقابل الزوايا الأربعة من القبر الشريف عبارة: (واقفه الموفّق بتوفيقات الدارين، ابن محمّد تقي خان اليزدي محمّد حسين سنة 1222 هـ).

٧٨

ويوجد في الإيوان الخارج من جدار الرواق الغربي المقابل للشبكة المباركة في الكاشي، فوق الشباك: (عمل أوسته أحمد المعمار سنة 1296 هـ).

ويستفاد من أبيات منظومة بالفارسية فوق شباك المقبرة الشمالية المقابلة للضريح أنّه بمباشرة الحاج عبد الله ابن القوام على نفقة الحاج محمّد صادق التاجر الشيرازي الأصفهاني الأصل، قد قام بتكميل تعمير سرداب الصحن الحسيني، وتطبيق الأروقة الثلاثة الشرقي والشمالي والغربي بالكاشي في سنة ألف وثلاثمئة الهجرية.

إيضاح ما يوجد في خارطة كربلاء من المواقع

أنهار كربلاء

(النهرين): فرعان يشتقان من عمود الفرات، ويتصلان ببعضهما في قرية نينوى في جوار الحاير الحسيني، ويتجهان إلى الشمال الشرقي إلى الكوفة معاً على سبيل توحيد وتفرد؛ وللفارق يعرفان بنهري كربلاء، يتوضّح على ضوء ما سرده أبو الفرج في المقاتل(1) ، ونورد بين قوسين ما تفرّد بإيراده صاحب الدرّ النظيم(2) :

قال أبو الفرج: لمّا قُتل زيد بن علي دفنه ابنه يحيى، تفرّق عنه الناس ولم يبقَ معه إلاّ عشرة نفر. قال سلمة بن ثابت: قلت له: أين تريد؟

قال: أريد النهرين. ومعه الصياد العبدي.

قلت: إن كنت تريد النهرين فقاتل ها هنا حتّى تُقتل.

قال: اُريد نهري كربلاء (وظننت أنّه يريد أن يتشطط الفرات)، فقلت له: النجاء قبل الصبح. فخرجنا فلمّا

____________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 61 ط القاهرة.

(2) الدرّ النظيم في مناقب الأئمّة اللهاميم - لجمال الدين الشامي جـ 2 خط.

٧٩

جاوزنا الأبيات سمعنا الأذان، فخرجنا مسرعين، فكلّما استقبلني قوم استطعمتهم فيطعموني الأرغفة، فأطعمه إيّاها وأصحابي حتّى أتينا نينوى، فدعوت سابقاً فخرج من منزله ودخله يحيى، ومضى سابق إلى الفيوم فأقام به.

(فلمّا خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذنين فصلّينا الغداة بالنخيلة، ثمّ توجهنا سراعاً قبل نينوى، فقال: اُريد سابقاً مولى بشر بن عبد الملك. فأسرع السير إلى أن انتهينا إلى نينوى وقد أظلمتنا، فأتينا منزل سابق فاستخففت الباب فخرج إلينا).

وذكر ابن كثير في البداية(1) عن محمّد بن عمرو بن الحسن قال: كنّا مع الحسين بنهري كربلاء. وأورد ابن شهر آشوب في المناقب: مضى الحسين قتيلاً يوم عاشوراء بطفّ كربلاء بين نينوى والغاضرية من قرى النهرين(2) .

قال الطبري(3) بعد مهادنة أهل الحيرة لخالد بن الوليد في مفتتح الفتح، وخضوع الدهاقين لأداء جزية وضريبة، وزع بينهم العمال؛ ولتمهيد الأمن أقام مخافر عهد بعمالة النهرين إلى بشر بن الخصاصية، فاتخذ بشر الكويفة ببابنورا قاعدة لعمالته.

وذكر عند حوادث سنة 278 هـ(4) ابتداء أمر القرامطة: وردت الأخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة بسواد الكوفة، فكان ابتداء أمرهم قدوم رجل من خوزستان، ومقامه بموضع يُقال له: النهرين، يظهر الزهد والتقشّف، ويسفّ الخوص ويأكل من كسبه، ويكثر الصلاة.

إذا قعد إليه إنسان ذكّره أمر الدين، وزهده في الدنيا، وأعلمه أنّ الصلاة المفروضة

____________________

(1) ج 8 / 188.

(2) المناقب 4 / 83، ط بمبي.

(3) ج 4 / 17، ط ليدن.

(4) ج 8 / 159، ط الاستقامة.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

وأقول :

لا معنى لعصمة الأنبياء عن تعمّد الكذب في دعوى الرسالة ، فإنّه بعد فرض النبوّة والرسالة لا يتصوّر الكذب فيها حتّى يعصم الأنبياء عنه.

وأمّا بالنظر إلى ما قبل الرسالة ، فلا تقتضي المعجزة اللاحقة عصمتهم عن الكذب قبلها ، ولكن لمّا كانت المعجزة تدلّ على صدقهم في دعوى الرسالة استنتج صاحب « المواقف » عصمتهم عن الكذب في دعواها(١) ، وأخذه منه الخصم بلا تدبّر ليقال : إنّهم ممّن يقول بعصمة الأنبياء في الجملة.

ثمّ إنّ دعوى إفادة المعجزة القطع لا تتمّ على مذهب الأشاعرة ، إذ يجوز عقلا ـ بناء على قولهم : « لا يقبح منه شيء »(٢) ـ أن يظهرها على يد الكاذب.

ودعوى العادة على عدم ظهورها على يد الكاذب موقوفة على الاطّلاع على كلّ من ظهرت على يده المعجزة ، وأنّه غير كاذب ، وهو غير حاصل ، بل لعلّ كلّ من ظهرت على يده المعجزة كاذب!

على إنّ التخلّف عن العادة ليس قطعي العدم ، لا سيّما في مورد التخلّف عن العادة بصدور المعجزة.

__________________

(١) المواقف : ٣٥٨.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ١١٦ ، المسائل الخمسون : ٦١ المسألة ٣٦ ، المواقف : ٣٢٨.

٣٨١

وأمّا ما زعمه من الإجماع على عصمتهم عن الكفر ، فمناف لما سيأتي في بحث النبوّة من أنّ بعض الأشاعرة وغيرهم من السنّة يجوّزون عليهم الكفر ، بل قال بعضهم بوقوعه(١)

ومناف أيضا لمام يروونه عن النبيّ ٦ أنّه قال : « لو كان نبيّ بعدي لكان عمر »(٢) ، فإنّ العصمة عن الكذب لا تجامع صلاحية عمر للنبوّة وهو كافر أكثر عمره.

فلا بدّ إمّا من منع وجوب العصمة عندهم عن الكفر ، أو الحكم بكذب هذه الرواية وأنّها من مفتعلات القوم.

وأمّا ما نسبه إلى الشيعة تبعا ( للمواقف ) من أنّهم يجوّزون إظهار الكفر تقيّة(٣) ، فكذب عليهم ، وإلّا فليسندوه إلى كتاب من كتبهم!

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ٢٦٤ ، وسيأتي تخريج ذلك مفصّلا في بحث النبوّة.

(٢) سنن الترمذي ٥ / ٥٧٨ ح ٣٦٨٦ وقال : « هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلّا من حديث مشرح بن هاعان » ، تاريخ دمشق ٤٤ / ١١٤ ـ ١١٦ ح ٩٥٦٤ ـ ٩٥٦٩ ، أسد الغابة ٣ / ٦٥٨ ، مختصر تاريخ دمشق ١٨ / ٢٩٠ ، تحفة الأحوذي ١٠ / ١١٩ ح ٣٩٣٣.

وذكره ابن الجوزي في الموضوعات ١ / ٣٢٠ ـ ٣٢١ بلفظ « لو لم أبعث فيكم لبعث عمر » بطريقين ، أوّلهما عن زكريّا بن يحيى ، وثانيهما عن مشرح بن هاعان ، وقال : « هذان حديثان لا يصحّان عن رسول الله ٦.

أمّا الأوّل : فإنّ زكريّا بن يحيى كان من الكذّابين الكبار.

قال ابن عديّ : كان يضع الحديث.

وأمّا الثاني : فقال أحمد ويحيى : عبد الله بن واقد ليس بشيء.

وقال النسائي : متروك الحديث.

وقال ابن حبّان : انقلبت على مشرح بن هاعان صحائفه فبطل الاحتجاج به ».

وقال ابن حبّان أيضا بترجمة مشرح بن هاعان في الثقات ٥ / ٤٥٢ : يخطئ ويخالف.

(٣) المواقف : ٣٥٩ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ٢٦٤.

٣٨٢

ومجرّد قول الشيعة بالتقيّة لا يستلزم تعميمها في جميع المقامات ، بل ذلك مذهب بعض السنّة ـ كما ستعرفه في مباحث النبوّة ـ ، وهو الأنسب بهم ، فإنّهم إذا نسبوا إلى رسول الله ٦ قصّة الغرانيق حيث أظهر الكفر تأليفا لقومه ، فتجويزهم عليه وعلى الأنبياء إظهاره تقيّة أولى(١) .

ونسبوا إليه ٦ وإلى إبراهيم الشكّ حيث قال : « نحن أحقّ بالشكّ من إبراهيم »(٢) كما سيجيء.

ومن المعلوم أنّ الشاكّ ليس بمؤمن ، فإظهار الكفر للتقيّة أولى ؛ لأنّ الشكّ أسوأ.

وأمّا تكذيبه للمصنّف ; في نسبته إلى الأشاعرة تجويز الكبائر على الأنبياء ، فسيأتي ما فيه في محلّه إن شاء الله تعالى.

وأمّا ما ادّعاه من أنّ تعظيم الأنبياء وأهل البيت شعارهم ، فستعرف كذبه من نسبتهم إلى الأنبياء ما لا يليق بشأنهم ، وتأويلهم ما لا يقبل التأويل من النصوص على إمامة أمير المؤمنين ٧ ، وجعلهم أهل البيت من سائر المسلمين ، وفضّلوا الأداني عليهم ، مع إنّ الله تعالى ميّزهم بالطهارة من الرجس(٣) ، وأوجب على الأمّة التمسّك بهم ، وجعلهم عدل القرآن المجيد

__________________

(١) المعجم الكبير ٩ / ٣٤ ح ٨٣١٦ وج ١٢ / ٤٢ ح ١٢٤٥٠ ، مجمع الزوائد ٧ / ٧١ و ١١٥ ، وستأتي القصّة بتمامها في مبحث النبوّة.

(٢) صحيح البخاري ٤ / ٢٩٠ ح ١٧٤ كتاب الأنبياء ، صحيح مسلم ٧ / ٩٨ باب فضائل إبراهيم الخليل ٧ ، فتح الباري ٦ / ٥٠٧ كتاب أحاديث الأنبياء ؛ وسيأتي تمام الحديث في مبحث النبوّة.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

٣٨٣

إلى يوم الدين(١) .

وأمّا قوله : « والتعظيم ليس عداوة الصحابة » ، ففيه :

إنّا لا نعادي إلّا المنقلبين على أعقابهم ، الّذين ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ، و

يقول فيهم رسول الله ٦ : «سحقا سحقا حتّى لا يخلص من النار إلّا مثل همل النعم »(٢)

وقال تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ )(٣) .

* * *

__________________

(١) إشارة إلى حديث الثقلين ؛ وقد مرّ تخريجه مفصّلا في الصفحة ١٨٧ ه‍ ١ من هذا الجزء.

(٢) انظر : صحيح البخاري ٨ / ٢١٦ ح ١٦٤ باب في الحوض ؛ باختلاف يسير.

(٣) سورة المجادلة ٥٨ : ٢٢.

٣٨٤

ترجيح أحد المذهبين

قال المصنّف ـ أعلى الله درجته ـ(١) :

فلينظر العاقل في المقالتين ، ويلمح المذهبين ، وينصف في الترجيح ، ويعتمد على الدليل الواضح الصحيح ، ويترك تقليد الآباء ، والمشايخ الآخذين بالأهواء ، وغرّتهم الحياة الدنيا ، بل ينصح نفسه ، ولا يعوّل على غيره ، فلا يقبل عذره يوم القيامة ، أنّي قلّدت شيخي الفلاني ، ووجدت آبائي وأجدادي على هذه المقالة ، فإنّه لا ينفعه ذلك يوم القيامة ، يوم يتبرّأ المتبوعون من أتباعهم ، ويفرّون من أشياعهم.

وقد نصّ الله تعالى على ذلك في كتابه العزيز(٢) ، ولكن أين الآذان السامعة والقلوب الواعية؟!

وهل يشكّ العاقل في الصحيح من المقالتين ، وأنّ مقالة الإمامية هي أحسن الأقاويل ، وأنّها أشبه بالدين ، وأنّ القائلين بها هم الّذين قال الله تعالى فيهم : (فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ )(٣) ؟!

فالإمامية هم الّذين قبلوا هداية الله واهتدوا بها ، وهم أولوا الألباب.

__________________

(١) نهج الحقّ : ٧٩.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ) سورة البقرة ٢ : ١٦٦.

(٣) سورة الزمر ٣٩ : ١٧ و ١٨.

٣٨٥

ولينصف العاقل من نفسه أنّه لو جاء مشرك وطلب شرح أصول دين المسلمين في العدل والتوحيد رجاء أن يستحسنه ويدخل فيه معهم ،هل كان الأولى أن يقال له ـ حتّى يرغب في الإسلام ويتزيّن في قلبه أنّه من ديننا ـ : إنّ جميع أفعال الله تعالى حكمة وصواب ، وإنّا نرضى بقضائه ، وإنّه منزّه عن فعل القبائح والفواحش ، لا تقع منه ، ولا يعاقب الناس على فعل يفعله فيه ، ولا يقدرون على دفعه عنهم ، ولا يتمكّنون من امتثال أمره

أو يقال : ليس في أفعاله حكمة وصواب ، وإنّه يفعل السفه والفاحشة ، ولا نرضى بقضاء الله تعالى ، وإنّه يعاقب الناس على ما فعله فيهم ، بل خلق فيهم الكفر والشرك ويعاقبهم عليهما ، ويخلق فيهم اللون والطول والقصر ويعذّبهم عليها؟!

وهل الأولى أن يقول : من ديننا أنّ الله لا يكلّف الناس ما لا يقدرون عليه ولا يطيقون

أو نقول : إنّه يكلّف الناس ما لا يطيقون ، ويعاقبهم على ترك ما لا يقدرون على فعله؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى يكره الفواحش ولا يريدها ولا يحبّها ولا يرضاها

أو نقول : إنّه يحبّ أن يشتم ويسبّ ويعصى بأنواع المعاصي ، ويكره أن يمدح ويطاع ، ويعذّب الناس لمّا كانوا كما أراد ولم يكونوا كما كره؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولا يجوز عليه ما يجوز عليها

٣٨٦

أو نقول : إنّه يشبهها؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّ الله تعالى يعلم ويقدر ويحيي ويدرك لذاته

أو نقول : إنّه لا يدرك ولا يحيي ولا يقدر ولا يعلم إلّا بذوات قديمة ، ولولاها لم يكن قادرا ولا عالما ولا غير ذلك من الصفات؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى لمّا خلق الخلق أمرهم ونهاهم

أو نقول : إنّه لم يزل في القدم ، ولا يزال بعد فنائهم طول الأبد يقول : أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، لا يخلّ بذلك أصلا؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى تستحيل رؤيته والإحاطة بكنه ذاته

أو نقول : يرى بالعين ، إمّا من جهة من الجهات له أعضاء وصورة : أو يرى بالعين لا في جهة؟!

وهل الأولى أن نقول : إنّ أنبياءه وأئمّته منزّهون عن كلّ قبيح وسخيف

أو نقول : إنّهم اقترفوا المعاصي المنفّرة عنهم ، وإنّه يقع منهم ما يدلّ على الخسّة والذلّة ، كسرقة درهم وكذب وفاحشة ، ويداومون على ذلك مع إنّهم محلّ وحيه وحفظة شرعه وإنّ النجاة تحصل بامتثال أوامرهم القوليّة والفعليّة؟!

فإذا عرفت أنّه لا ينبغي أن يذكر لهذا السائل عن دين الإسلام إلّا مذهب الإمامية دون قول غيرهم ، عرفت عظم موقعهم في الإسلام!

وتعلم أيضا بزيادة بصيرتهم ؛ لأنّه ليس في التوحيد دليل ولا جواب عن شبهة إلّا من أمير المؤمنين ٧ وأولاده : أخذ ، وكان جميع العلماء

٣٨٧

يستندون إليه على ما يأتي.

فكيف لا يجب تعظيم الإمامية والاعتراف بعلوّ منزلتهم؟!

فإذا سمعوا شبهة في توحيد الله أو في عبث بعض أفعاله ، انقطعوا بالفكر فيها عن كلّ أشغالهم ، فلا تسكن نفوسهم ولا تطمئنّ قلوبهم حتّى يتحقّق الجواب عنها.

ومخالفهم إذا سمع دلالة قطعية على إنّ الله تعالى لا يفعل الفواحش والقبائح ، ظلّ ليله ونهاره مهموما طالبا لإقامة شبهة يجيب بها ، حذرا أن يصحّ عنده أنّ الله تعالى لا يفعل القبيح ، فإذا ظفر بأدنى شبهة قنعت نفسه وعظم سروره بما دلّت الشبهة عليه.

فشتّان ما بين الفريقين ، وبعد ما بين المذهبين!

ولنشرع في تفصيل المسائل ، وكشف الحقّ فيها بعون الله تعالى ولطفه

* * *

٣٨٨

وقال الفضل(١) :

حاصل ما ذكر في هذا الفصل تحكيم الإنصاف ، والرجوع إلى الوجدان ، والدليل في ترجيح مذهب الإمامية ، وأنّ المنصف إذا ترك التقليد ، ونظر إلى المذهبين نظر الإنصاف ، علم أنّ مذهب الإمامية مرجّح.

ومثل هذا في حال من أراد دخول الإسلام وحاول أن يتبيّن عنده ترجيح مذهب من المذاهب ، فلا شكّ أنّ معتقدات الإمامية أبين وأظهر عند العقول ، وأقرب من سائر المذاهب إلى التلقّي والقبول.

ونحن إن شاء الله تعالى في هذا الفصل نحذو حذوه ، ونجاريه فصلا بفصل ، وعقيدة بعقيدة ، على شرط تجنّب التهمة والافتراء ، ومحافظة شريطة الصدق والإنصاف

فنقول : لو استجار مشرك في بلاد الإسلام ، وأراد أن يسمع كلام الله رجاء أن يستحسنه ويميل قلبه إلى الإسلام ، فطلب من العلماء أصول دين الإسلام في العدل والتوحيد ، ليرغب بفهمه إلى الملّة البيضاء

فيا معشر العقلاء :

هل الأولى أن يقال له ـ حتّى يرغب ويتزيّن الإسلام في قلبه ـ : إنّ الإله الذي ندعوك إلى طاعته وعبوديّته هو خالق كلّ الأشياء ، وهو الفاعل المختار ، ولا يجري في ملكه إلّا ما يشاء ، وهو يحكم ما يريد ، ولا شريك له في الخلق والتصرّف في الكائنات ، ولا تسقط ورقة ولا تتحرّك نملة إلّا

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣١٧.

٣٨٩

بحكمه وإرادته وقضائه وقدره ، دبّر أمور الكائنات في أزل الآزل ، وقدّر ما يجري وما يصدر عنهم قبل خلقهم وإيجادهم ، ثمّ خلقهم وأمرهم ونهاهم ، وأفعاله حكمة وصواب ، ولا قبيح في فعله ، ولا يجب عليه شيء

وكلّ ما يفعله في العباد من إعطاء الثواب وإجراء العقاب ، فهو تصرّف في ملكه ، ولا يتصوّر منه ظلم ، ولا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون ، وهو منزّه عن فعل القبائح ، إذ لا قبيح بالنسبة إليه ، ونحن نرضى بقضائه ، والقضاء غير المقتضي

هل الأولى هذا؟! أو يقال : الإله الذي ندعوك إليه له شركاء في الخلق ، فأنت تخلق أفعالك والناس يخلقون أفعالهم ، وهو الموجب الذي لا تصرّف له في الكائنات بالإرادة والاختيار ، بل هو كالنار إذا صادف الحطب يجب عليه الإحراق.

والعبد إذا عمل حسنة وجب عليه الثواب ، فهذه الحسنة كالدين على رقبته يجب عليه ثوابها ، وإذا عمل سيّئة يجب عليه عقابها ، وليس له أن يتفضّل ويتجاوز بفضله عن ذلك الذنب ، بل الواجب واللازم عليه عقابه ، كالنار الواجب عليها الإحراق.

وإنّه خلق العالم ولم يجر له قضاء سابق وعلم متقدّم ، بل يحدث الأشياء على سبيل الاتّفاق ، وله الشركاء في الخلق ، وهو يخلق والناس يخلقون؟!

وهل الأولى أن يقال له : من ديننا أنّه تعالى حاكم قادر مختار ، يكلّف الناس كيفما شاء ؛ لأنّه يتصرّف في ملكه ، فإذا أراد كلّفهم حسب طاقتهم ، وجاز له ولا يمتنع عليه أن يكلّف فوق الطاقة ، لكن بفضله وكرمه لم يكلّف الناس فوق الطاقة ولم يقع هذا

٣٩٠

أو يقال : إنّه يجب عليه أن يكلّف الناس حسب طاقتهم ، وليس له التصرّف فيهم ، ويمتنع عليه التكليف حسبما أراد؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّ كلّ ما جرى في العالم فهو تقديره وإرادته ، ولكنّ الخير والطاعة برضاه وحبّه ، والشر والمعصية بغير رضاه

أو نقول : إنّه مغلول اليد ، فيجب عليه أن يحبّ الخير وهو خالقه ، ولا يخلق الشرّ ، فللشرّ فواعل غيره ، وله شركاء في الملك والتصرّف؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولكن له صفات تأخذ معرفتها أنت من صفات نفسك ، غير إنّ صفات نفسك حادثة وصفاته قديمة

أو نقول : إنّه لا صفات له ، ولا يجوز عليه أن يعرف صفاته من صفات الكمال؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّ الله تعالى عالم بعلم أزلي ، قادر بقدرة أزلية ، حيّ بحياة سرمدية ، متكلّم بكلام أزلي

أو يقال له : إنّ الصفات مسلوبة عنه ، وليس له علم ولا قدرة ، بل ذاته تعلم الأشياء بلا علم ؛ فيتحيّر ذلك المسكين ، أنّ العالم كيف يعلم بلا علم ، وكيف يقدر بلا قدرة؟!

وهل الأولى أن يقال له : إنّ الله تعالى كان في الأزل متكلّما بكلام نفسي هو صفة ذاته ، وبعد ما خلق الخلق خاطب الرسل بذلك الكلام ، وأمر الناس ونهاهم

أو يقال له : إنّه خلق الكلام وليس هو بمتكلّم ، فإنّ خالق الكلام لا يسمّى متكلّما ، وإنّه أحدث الأمر والنهي بعد الخلق بلا تقدير وإرادة سابقة؟!

٣٩١

وهل الأولى أن نقول : إنّه تعالى مرئي يوم القيامة لعباده ، ليزداد بذلك شغفه في عبادة ربّه ، رجاء أن ينظر إليه يوم القيامة ، ولكن هذه الرؤية بلا كيفية كما سترى وتعلم

أو يقال له : هذا الربّ لا ينظر إليه في الدنيا ولا في الآخرة؟!

وهل الأولى أن يقال : إنّ أنبياء الله تعالى مكرّمون معصومون من الكذب والكبائر ، ولكنّهم بشر لا يأمنون من إمكان وقوع الصغائر عنهم ، فلا تيأس أنت من عفو الله وكرمه ، إن صدر عنك معصية فإنّهم أسوة الناس ، ويمكن أن يقع منهم الذنب ، فأنت لا تقنط من الرحمة

أو يقال له : الأنبياء كالملائكة يستحيل عليهم الذنب ، فإذا سمع بشيء من ذنوب الأنبياء ، كما جاء في القرآن : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ )(١) يتردّد في نبوّة آدم ؛ لأنّه وقع منه المعصية فلا يكون نبيّا؟!

وهل الأولى أن يقال : إنّ رسول الله ٩ لمّا بعث إلى الناس تابعه جماعة من أصحابه ، وأقاموا في خدمته وصحبته طول أعمارهم ، وقاسوا الشدائد والبلايا في إقامة الدين ودفع الكفرة ، وذكرهم الله في القرآن وأثنى عليهم بكلّ خير ورضي عنهم

ثمّ بعده قاموا بوظائف الخلافة ، ونشروا الدين ، وفتحوا البلاد ، وأظهروا أحكام الشريعة ، وأحكموا قواعد الحدود ، حتّى بقي منهم الدين ، وانحفظت من سعيهم الشريعة إلى يوم الدين

أو يقال له : إنّ هؤلاء الأصحاب بعد رسول الله ٩خالفوه ، ورجعوا إلى الكفر ، ولم يهد محمّد ٩ إلّا سبعة عشر نفرا؟!

__________________

(١) سورة طه ٢٠ : ١٢١.

٣٩٢

فيا معشر العقلاء : انظروا إلى المذهبين! وتأمّلوا وأمعنوا في عقائد الفريقين! (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً )(١) (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ )(٢) .

وأمّا ما ذكر أنّه ليس في التوحيد دليل ولا جواب شبهة إلّا ومن أمير المؤمنين عليّ ؛ فإنّ هذا لا يختصّون به دوننا ، بل كلّ ما نأخذه من العقائد ، ونتلقّى من الأدلّة ، فإنّها مأخوذة من تلك الحضرة ومن غيره من أكابر الصحابة كالخلفاء الراشدين سواء ، وككبار الصحابة الّذين شهد رسول الله ٩ بعلمهم واجتهادهم وأمانتهم.

وهم يذكرون الأشياء من الأئمّة ويمزجون كلّ ما ينقلون عنهم بألف كذبة كالكهنة السامعة لأخبار الغيب ، ونحن لا نرويه ولا ننقله إلّا بالأسانيد الصحيحة المعتبرة المعتمدة ، والحمد لله على ذلك التوفيق.

* * *

__________________

(١) سورة هود ١١ : ٢٤.

(٢) سورة العنكبوت ٢٩ : ٦٣.

٣٩٣

وأقول :

لا يخفى أنّه قد دلّس في مذهب قومه ، وموّه ما شاء ولبّس في مذهب الإمامية ، وافترى من غير حياء ـ كما ستعرفه إن شاء الله تعالى ـ ، فخالف ما اشترطه من الصدق والإنصاف ، اتّباعا للهوى ، وتعصّبا لدين الأسلاف.

ونحن بعون الله تعالى نكشف عن وجه الحقيقة غشاءها ، ونعيد إلى مرآة الحقّ صفاءها.

أمّا ما ذكره أوّلا في تقرير مذهب الأشاعرة بقوله : « خالق كلّ الأشياء »

فهو أوّل تمويه ؛ لأنّ مورد النزاع هو أفعال العباد ، وأنّها مفعولة لله سبحانه أو للعبد ، فكان اللازم النصّ عليها ليتّضح حال المذهبين ، ولم يكف ذكر ما ينصرف لغيرها ، فينبغي أن يقال للمشرك المتحيّر : إنّه تعالى خالق كلّ الأشياء ، حتّى الزنا ، واللواط ، والكذب ، والظلم ، والنهب ، والسرقة ، والقتل ، ونحوها.

ولا ريب أنّه حينئذ يستنكره ويستكرهه ويعدّه من منافيات وجدانه لأنّه يجد أنّه فاعل فعله.

ولو ذكر له الشرك الذي هو عليه وقيل : إنّه مخلوق لله تعالى ، لقال هذا دليل رضاه به ؛ لأنّ الفعل بالاختيار لا يصدر بدون رضا الفاعل فلا داعي للعدول عنه.

ولو اجتهدوا في ترغيبه وإقناعه لقال : ما لكم خرجتم عن مذهبكم؟!

٣٩٤

فإنّه لا فعل لي بزعمكم ، والخالق لشركي هو الله فرغّبوه دوني!

وكذا الكلام في بقية الفقرات التي أراد بها أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وموّه فيها بإظهار ما ينصرف إلى غيرها.

ويزيد إشكالا قوله : « هو الفاعل المختار » ؛ لأنّ الله سبحانه عندهم موجب لصفاته فلا يكون مختارا على الإطلاق.

وبالجملة : هذه الفقرات بالنظر إلى ما عدا أفعال العباد مشتركة بين المذهبين ، وبالنظر إلى أفعال العباد قد موّه بها ، فلا معنى لذكرها في مقام التفاضل.

وأمّا قوله : « دبّر أمور الكائنات في أزل الآزال »

فإن أراد به أنّه أجراها على موازينها وقام بشؤونها ، فهو ليس في الأزل ، بل حين خلقها وأوجدها ، وإن أراد أنّه تروّى بها ورتّب كيفية خلقها ، فهو باطل ؛ لأنّه غني عن التروّي ، عالم بكلّ شيء في الأزل ، فإذا أراد شيئا قال له : (كُنْ فَيَكُونُ )(١) ، بلا إجالة فكر.

وأمّا قوله : « ثمّ خلقهم وأمرهم ونهاهم ».

فهو من الفضول في مقام التفاضل ؛ لاشتراك القول به بين الجميع.

وأمّا قوله : « وأفعاله حكمة وصواب ، ولا قبيح في فعله ».

فهو ممّا أريد به خلاف ظاهره ، فإنّ ظاهره تنزيه وخير ، ولكنّه تأبّط شرّا ؛ لأنّه لو صرّح للمشرك بأنّ من أفعاله الزنا ، واللواط ، وظلم الناس بعضهم بعضا ، والإفساد في الأرض ، وجميع الفتن ، لجزم بأنّها ليست

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١١٧ ، سورة آل عمران ٣ : ٤٧ و ٥٩ ، سورة الأنعام ٦ : ٧٣ ، سورة النحل ١٦ : ٤٠ ، سورة مريم ١٩ : ٣٥ ، سورة يس ٣٦ : ٨٢ ، سورة غافر ٤٠ : ٦٨.

٣٩٥

حكمة وصوابا.

وكذا قوله : « لا يجب عليه شيء ».

فإنّه لو فهم أنّ المقصود منه أنّه لا يجب عليه الرحمة وجزاء عبده بالطاعة وفعل الجميل ، وأنّه يجوز أن يعذّب المطيع المحسن بلا ذنب ، لأنكر صلاحيّته للربوبية ، وحكم بعدم عدله وحكمته ، ولم ير بالدخول بالإسلام على تقدير أحقّيّته فائدة تقتضي إتعاب النفس في اتّباع أحكامه.

وكذا قوله : « وكلّ ما يفعله في العباد من إعطاء الثواب وإجراء العقاب ، فهو تصرّف في ملكه ، ولا يتصوّر منه ظلم ، لا يسأل عمّا يفعل ».

فإنّه لو علم أنّ المراد أنّه يجوز عقاب من آمن به وعبده طول عمره ولم يذنب قطّ ، وثواب من كفر به وسبّه مدّة حياته ، وأنّه لا يسأل عن ذلك ، لحكم بأنّ تجويز ذلك تجويز للجور والسفه عليه سبحانه ، وبادر إلى الاعتراض والسؤال عن هذا العمل الوحشي.

ومعنى قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ )(١) على مذهب أهل العدل ، أنّه لمّا علمت حكمته وعدله فلا يسأل عن فعله إذا خفي وجهه ، لا أنّه لا يسأل عن فعله وإن نافى الرحمة والعدل والحكمة(٢) .

وأمّا قول الخصم : « وهم يسألون ».

فممّا يزيد المتحيّر حيرة ؛ لأنّه بعد ما ذكر له أنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لا يتصوّر وجها لمسؤوليّتهم عن شيء لا تأثير لهم فيه أصلا.

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ : ٢٣.

(٢) انظر : تفسير الكشّاف ٢ / ٥٦٨ ، مجمع البيان ٧ / ٧٠ ، تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ١٥٧ ـ ١٥٨.

٣٩٦

وكذا يزيده حيرة قوله : « وهو منزّه عن فعل القبائح ، حيث لا قبيح بالنسبة إليه ».

إذ كيف لا يقبح فعل القبيح في حقّه وهو أحقّ من تنزّه عن القبيح.

وأمّا قوله : « ونحن نرضى بقضائه ».

فهو ـ لو صحّ ـ ممّا يشترك به الفريقان ، إلّا إنّه بإضافة قوله :

« والقضاء غير المقضي » يترك السامع متعجّبا من إرادته به وجوب الرضا بالقضاء دون المقضي ، والحال أنّ الرضا بأحدهما لا ينفكّ عن الرضا بالآخر.

وأمّا ما ذكره في تقرير مذهب الإمامية من أنّ : « الإله الذي ندعوك إليه له شركاء في الخلق »

فتلبيس ظاهر ؛ لأنّ إسناد أفعال العباد إليهم لا يستلزم الشركة ، كإسناد الملكية والقدرة لهم ، بل ذلك من مظاهر القدرة الربّانية وتوابع العبودية ؛ لأنّه تعالى أعطانا قدرة على أفعالنا ومكّننا من الاختيار ، ولا قدرة لنا من عند أنفسنا ففعلناها بإرادتنا مع احتياجنا في كلّ آن إليه.

وهذا هو الصنع العجيب ، حيث خلق ما يؤثّر الآثار بلا مباشرة منه تعالى للأثر ، ولا حاجة له إلى المؤثّر ، بل لنزاهته عن إتيان فواحش الأعمال وحكمته في جعل القدرة والاختيار للعبد ، ففي هذا إطراء لقدرته تعالى وتنزيه له عن القبيح.

وأمّا قوله : « وهو الموجب الذي لا تصرّف له في الكائنات بالإرادة والاختيار »

فهو من أظهر الكذب ؛ لأنّ كلّ أحد يعلم أنّ مذهب أهل العدل أنّ الله تعالى متصرّف بأفعاله من خلق السماوات والأرض والأجسام

٣٩٧

والأعراض بإرادته واختياره ، وإنّما الذي يصف الله سبحانه بالموجب هو الأشاعرة ؛ لأنّه عندهم موجب لصفاته ؛ ومجرّد قولنا : إنّه تعالى يجب عليه برحمته وعدله إعطاء العوض ؛ لا يقتضي أن يكون موجبا لا مختارا حتّى لو سمّينا العوض دينا عليه ، فإنّ أداء الدين اختياري للعبد ، فكيف لله تعالى؟! وهذا من جهالات الخصم وخرافاته.

وأمّا قوله : « وإذا عمل سيّئة يجب عليه عقابها وليس له أن يتفضّل »

فأكذب من الأوّل ، كما ستعرف.

قال نصير الدين ١ في ( التجريد ) : « والعفو واقع ؛ لأنّه حقّه تعالى ولا ضرر عليه في تركه ولأنّه إحسان ، وللسمع والإجماع على الشفاعة »(١) .

وقال القوشجي في شرحه : « اتّفقت الأمّة على إنّه تعالى يعفو عن الأمّة وعن الصغائر مطلقا ، وعن الكبائر بعد التوبة ، ولا يعفو عن الكفر قطعا ، واختلفوا في جواز العفو عن الكبائر بدون التوبة ، فذهب جماعة من المعتزلة إلى أنّه جائز عقلا غير جائز سمعا ، وذهب الباقون إلى وقوعه عقلا وسمعا ، واختاره المصنّف »(٢) .

فأين ما اشترطه الفضل من الصدق والإنصاف؟!

وأمّا قوله : « وإنّه خلق العالم ولم يجر له قضاء سابق ولا علم متقدّم ، بل يحدث الأشياء على سبيل الاتّفاق »

فأكذب من الأوّلين ؛ لأنّا نقول : إنّه تعالى عالم لذاته في الأزل وهو

__________________

(١) تجريد الاعتقاد : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

(٢) شرح التجريد : ٥٠١.

٣٩٨

ظاهر ، وقد قضى ـ أي حكم ـ بالأزل بكلّ شيء من الكائنات سوى أفعال عباده كما يظهر من أخبار أهل البيت :.

نعم ، لم يكن بالأزل القضاء ببعض معانيه كالخلق والإعلام والتكليف ، ومجرّد قولنا بعدم زيادة صفاته تعالى على ذاته لا يستلزم عدم علمه في الأزل بالأشياء ، كيف؟! وعلمه عين ذاته!

وأمّا قوله في تقرير مذهبه ثانيا : « وهل الأولى أن يقال له : من ديننا أنّه تعالى حاكم قادر مختار »

فهو لا يختصّ بمذهبه ، بل هم يرونه سبحانه موجبا لصفاته.

وأمّا قوله : « يكلّف الناس كيف ما يشاء » إلى تمام ما ذكره في بيان جواز التكليف بما لا يطاق

ففيه : إنّه لو سمعه المشرك لقال : على هذا يكون الإله الذي تدعون إليه غير منزّه عن السفه والجهل ، ولا مأمون الجور ، ولا يؤمنه دعوى عدم الوقوع ، ولا ضمان أن لا يقع.

وأمّا قوله في تقرير مذهب الإمامية : « أو يقال : إنّه يجب عليه أن يكلّف الناس حسب طاقتهم »

فلا ريب أنّه أنسب بالحكمة والعلم والعدل ، وأقوى في رغبة السامع من القول بأنّه يجوز أن يكلّف بما لا يطاق.

وأمّا قوله : « ليس له التصرّف فيهم »

فظاهره كذب صريح ، وقد أراد به أنّه يمتنع عليه أن يكلّف بما لا يطاق ، كما ذكره بعبارته بعدها ، لكن قال فيها : « ويمتنع عليه التكليف حسبما أراد » وهو كذب صريح ؛ لأنّ التكليف بما لا يطاق ليس من مراده ، وهو ممتنع الفعل والإرادة بالغير ، أعني الحكمة والعدل.

٣٩٩

وأمّا قوله في تقرير مذهبه ثالثا : « وهل الأولى أن يقال : إنّ كلّ ما جرى في العالم فهو تقديره وإرادته »

ففيه : إنّه لو صرّح بأنّ من جملة ما جرى بتقديره وإرادته أفعال الإنسان ، حسنها وقبيحها ، لعدّه السامع مكابرة لوجدانه ، واستنكر من نسبة القبيح إلى من يريد معرفة ربوبيّته ، وحكم بمناقضة نسبة الأفعال إليه مع الحكم بأنّه لا يرضى بالمعصية ؛ لأنّ فعل المختار يستلزم رضاه

على إنّا أولى بأن نقول : الطاعة برضاه والمعصية بغير رضاه ، فلا وجه لتخصيص الأشاعرة به.

وأمّا ما نسبه إلى الإمامية من أنّهم يقولون : إنّه سبحانه مغلول اليد

فكذب بجرأة عظيمة على جلال الله وقدسه ، فإنّ غلّ اليد إنّما يناسب القصور عن الفعل لا التنزّه عنه ، أو كونه جورا وظلما كعذاب من لا ذنب له والتكليف بما لا يطاق ، فيكون ممتنعا بالغير ، وإن كان سبحانه أقدر كلّ قادر عليه.

فعلى رأي الخصم : إنّه سبحانه لمّا وصف نفسه بأنّه ليس بظلّام للعبيد ، كان معناه أنّه سبحانه مغلول اليد ، ولا موجب لهذا الكذب علينا على الوجه الأشنع إلّا الانتصار لدين الأسلاف.

وأمّا قوله : « فيجب عليه أن يحبّ الخير وهو فاعله ، ولا يخلق الشرّ ، فللشرّ فواعل غيره » إلى آخره

فهو من الجهل الفاضح ، لأنّا نقول : إنّا فاعلون لأفعالنا خيرا وشرّا ، فلا وجه للتفصيل.

وأمّا قوله : « وهل الأولى أن يقال : إنّه تعالى لا يشبه الأشياء ، ولكن

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456