دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

دلائل الصدق لنهج الحق13%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-355-1
الصفحات: 456

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 456 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 140822 / تحميل: 5342
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٢

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٥-١
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وجوب الرؤية عند حصول شروطها

قال المصنّف(١) :

المبحث الثالث

في وجوب الرؤية عند حصول هذه الشرائط

أجمع العقلاء كافّة ـ عدا الأشاعرة ـ على ذلك ؛ للضرورة القاضية به ، فإنّ عاقلا من العقلاء لا يشكّ في حصول الرؤية عند اجتماع شرائطها.

وخالفت الأشاعرة جميع العقلاء في ذلك ، وارتكبوا السفسطة فيه ، وجوّزوا أن تكون بين أيدينا وبحضرتنا جبال شاهقة ، من الأرض إلى عنان السماء ، محيطة بنا من جميع الجهات ، ملاصقة لنا ، تملأ الأرض شرقا وغربا بألوان مشرقة مضيئة ، ظاهرة غاية الظهور ، وتقع عليها الشمس وقت الظهيرة ، ولا نشاهدها ، ولا نبصرها ، ولا شيئا منها ألبتّة!

وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة تملأ أقطار الأرض ، بحيث ينزعج(٢) منها كلّ أحد يسمعها ، أشدّ ما يكون من الأصوات ، وحواسّنا سليمة ، ولا حجاب بيننا وبينها ، ولا بعد ألبتّة ، بل هي في غاية القرب منّا ، ولا نسمعها ولا نحسّها أصلا!

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤١ ـ ٤٢.

(٢) كان في الأصل : « يتزعزع » ، وفي المصدر : « يدعّج » ، وكلاهما تصحيف ؛ وما أثبتناه من إحقاق الحقّ هو المناسب للسياق.

٦١

وكذا إذا لمس أحد بباطن كفّه حديدة محميّة بالنار حتّى تبيضّ ، ولا يحسّ بحرارتها! بل يرمى في تنّور أذيب فيه الرصاص أو الزيت ، وهو لا يشاهد التنّور ولا الرصاص المذاب ، ولا يدرك حرارته ، وتنفصل أعضاؤه وهو لا يحسّ بالألم في جسمه!(١) .

ولا شكّ أنّ هذا [ هو ] عين السفسطة ، والضرورة تقضي بفساده ، ومن يشكّ في هذا فقد أنكر أظهر المحسوسات [ عندنا ].

__________________

(١) انظر مؤدّى ذلك ـ مثلا ـ في : تفسير الفخر الرازي ١٣ / ١٣٥ ـ ١٣٦ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٨ ـ ٢٠٠ ، شرح العقائد النسفية ـ للتفتازاني ـ : ١٣١.

٦٢

وقال الفضل(١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ شرائط الرؤية إذا تحقّقت لم تجب الرؤية(٢) .

ومعنى نفي [ هذا ] الوجوب : إنّ الله تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط ، وإن كانت العادة جارية على تحقّق الرؤية عند تحقّق الأمور المذكورة.

ومن أنكر هذا وأحاله عقلا ، فقد أنكر خوارق العادات ومعجزات الأنبياء.

فإنّه ممّا اتّفق على روايته ونقله أصحاب جميع المذاهب ـ من الأشاعرة والمعتزلة والإمامية ـ أنّ النبيّ ٦ لمّا خرج ليلة الهجرة من داره ، وقريش قد حفّوا بالدار يريدون قتله ، فمرّ بهم ورمى على وجوههم بالتراب ، وكان يقرأ سورة يس ، وخرج ولم يره أحد ، وكانوا جالسين ، غير نائمين ولا غافلين(٣) .

فمن لا يسلّم أنّ عدم حصول الرؤية جائز مع وجود الشرائط ، بأن يمنع الله [ تعالى ] البصر بقدرته عن الرؤية ، فعليه أن ينكر هذا وأمثاله.

ومن الأشاعرة من يمنع وجوب الرؤية عند استجماع الشرائط : بأنّا

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٠٤ ـ ١٠٦.

(٢) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٦.

(٣) انظر : الشفا ـ للقاضي عياض ـ ١ / ٣٤٩ ، تفسير القرطبي ١٥ / ٨ ـ ٩ ، زاد المعاد ٣ / ٤٣ ـ ٤٤ ، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ ٢ / ٢٣٠ ، السيرة الحلبية ٢ / ١٩٣ ، مجمع البيان ٨ / ٢٢٩.

٦٣

نرى الجسم الكبير من البعد صغيرا ، وما ذلك إلّا لأنّا نرى بعض أجزائه دون بعض مع تساوي الكلّ في حصول الشرائط ، فظهر أنّه لا تجب الرؤية عند اجتماع الشرائط(١) .

والتحقيق ما قدمناه [ من ] أنّهم يريدون من عدم الوجوب : جواز عدم الرؤية عقلا ، وإمكان تعلّق القدرة به.

فأين إنكار المحسوسات؟! وأين هو من السفسطة؟!

ثمّ ما ذكر من تجويز أن تكون بحضرتنا جبال شاهقة ـ مع ما وصفها من المبالغات والتقعقعات(٢) الشنيعة ، والكلمات الهائلة المرعدة المبرقة ، التي تميل بها خواطر القلندرية(٣) والعوامّ إلى مذهبه الباطل ، ورأيه الكاسد الفاسد ـ فهو شيء ليس بقول ولا مذهب لأحد من الأشاعرة.

بل يورد الخصم عليهم في الاعتراض ، ويقول : إذا اجتمعت شرائط الرؤية في زمان وجب حصول الرؤية ، وإلّا جاز أن يكون بحضرتنا جبال

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٦.

(٢) التقعقع : التحرّك ، وتقعقع الشيء : صوّت عند التحريك أو التحرّك ، واضطرب وتحرّك.

انظر : الصحاح ٣ / ١٢٦٩ ، لسان العرب ١١ / ٢٤٧ ، تاج العروس ١١ / ٣٩٢ ، مادّة « قعع ».

(٣) القلندرية : كلمة أعجمية بمعنى المحلّقين ، وهم فرقة صوفية يحلقون رؤوسهم وشواربهم ولحاهم وحواجبهم ، وكانت هذه الفرقة مكروهة من الفقهاء المسلمين وعلمائهم ، وقد نشأت في عهد الظاهر بيبرس ، وهو الذي شجّعها ، وكان سبب انتشارها في مصر والشام ، ومن مشاهير رجالها الشيخ عثمان كوهي الفارسي ، وقال بعضهم : إنّ هذه الفرقة أوّل ما ظهرت بدمشق سنة ٦١٦ ه‍ وكان لها عدّة زوايا في الشام ومصر.

انظر : معجم الألفاظ التاريخية : ١٢٥.

٦٤

شاهقة ونحن لا نراها.

هذا هو الاعتراض.

وأجاب الأشاعرة عنه : بأنّ هذا منقوض بجملة العاديّات ، فإنّ الأمور العاديّة تجوز نقائضها مع جزمنا بعدم وقوعها ، ولا سفسطة هاهنا.

فكذا الحال في الجبال الشاهقة التي لا نراها ، فإنّا نجوّز وجودها ونجزم بعدمها ؛ وذلك لأنّ الجواز لا يستلزم الوقوع ، ولا ينافي الجزم بعدمه ، فمجرّد تجويزها لا يكون سفسطة(١) .

وحاصل كلام الأشاعرة ـ كما أشرنا إليه سابقا ـ : أنّ الرؤية لا تجب عقلا عند تحقّق الشرائط ، ويجوّز العقل عدم وقوعها عندها مع كونه محالا عادة ، والخصوم لا يفرّقون بين المحال العقلي والعادي ، وجملة اعتراضاته ناشئة من عدم هذا الفرق.

ثمّ ما ذكره من الأضواء وتوصيفها والمبالغات فيها ، فكلّها من قعقعة الشنآن بعد ما قدمنا لك البيان.

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

٦٥

وأقول :

سبق أنّ حقيقة مختار الأشاعرة نفي سببيّة الأسباب الطبيعيّة واقعا ، ونسبة المسبّبات حقيقة إلى فعل القادر ، بلا دخل للأسباب ، ولا توقّف للمسبّبات عليها عقلا.

وحينئذ فيجوز عقلا وواقعا ـ مع تمام السبب واجتماع الشرائط ـ عدم حصول الرؤية منّا لجبال بحضرتنا ، موصوفة بما وصفها المصنّف ، وعدم سماع الأصوات ، وإحساس حرارة الحديدة ، على ما وصفهما المصنّف ;.

وقد نقل الخصم في آخر كلامه هذا التجويز عن الأشاعرة مع دعوى الجزم بعدمها عادة ، وهو خطأ ؛ لأنّ إثبات العادة على العدم فرع الاطّلاع على الواقع ، والاطّلاع عليه غير ثابت.

بل على قولهم بالجواز العقلي ، يمكن أن تكون العادة على وجود تلك الجبال ، إلّا أنّا لم نطّلع عليها ، فإنّ مجرّد عدم مشاهدتها لا يدلّ على عدمها ؛ لإمكان أن تكون موجودة دائما ونحن لا نشاهدها!

كما أنّ عدم لمسنا لها. وعدم مصادمتها لنا حال السير ، لا يدلّان على انتفائها ؛ لجواز أن لا يخلق الله تعالى اللمس والمصادمة مع وجود سببهما الطبيعي!

وكذا الحال في دعوى حصول العادة على العدم ، بالنسبة إلى الأصوات والحرارة اللتين ذكرهما المصنّف ;.

٦٦

فالحقّ أن لا منشأ للجزم بالعدم سوى ارتكاز وجوب الرؤية والسماع وإحساس الحرارة بالبديهية العقلية عند اجتماع الشرائط ، لكنّ الأشاعرة كابروا ارتكازهم.

وأمّا تفسيره لنفي الوجوب بأنّ الله تعالى قادر على أن يمنع البصر من الرؤية مع وجود الشرائط ، فليس تفسيرا صحيحا.

وقد أراد به إدخال الإيهام والاستهجان على السامع بأنّ القائل بالوجوب ينفي قدرة القادر ، بخلاف الأشاعرة ، وهو ممّا لا يروج على عارف ؛ لأنّا إذا قلنا بوجوب الرؤية عند اجتماع الشرائط يكون عدمها حينئذ ممتنعا.

وقد عرفت أنّ الممتنع ليس محلّا للقدرة ، بلا نفي لها عن محالّها ، ولا نقص فيها.

فالفرق بيننا وبينهم هو أنّا نقول بامتناع عدم الرؤية مع اجتماع شرائطها وتحقّق سببها الطبيعي ، فلا تتعلّق بعدمها القدرة حينئذ لنقص في المحلّ ، وهم يقولون بإمكانه فتتعلّق به ؛ وضرورة العقلاء هي الحاكمة.

وأمّا ما ذكره من وقوع خرق العادة في معجزات الأنبياء ، كالمعجزة المذكورة لنبيّنا ٦ فغير مفيد له ؛ لأنّهذه المعجزة إنّما هي بإيجاد حاجب على خلاف العادة ، لا بعدم الرؤية مع وجود شرائطها.

كما يرشد إلى ذلك قراءة النبيّ ٦ حين خروجه لسورة يس ، فإنّ قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ )(١) ظاهر في أنّ عدم الرؤية لوجود السدّ والغشاوة.

__________________

(١) سورة يس ٣٦ : ٩.

٦٧

وقد يستفاد من تفريع عدم الإبصار على وجود الغشاوة ، أنّ الإبصار محتاج في ذاته إلى عدم الحاجب ، الذي هو أحد الشروط المتقدّمة.

وأمّا ما نقله عن بعض الأشاعرة ، من حصول جميع شرائط الرؤية لكلّ جزء من أجزاء الجسم الكبير البعيد ، مع عدم ثبوت الرؤية لبعضها ، ففيه :

إنّ فرض حصول الشرائط لجميع الأجزاء يوجب أن يكون تخصيص البعض بالرؤية ترجيحا بلا مرجّح ، وهو باطل.

فلا بدّ من الالتزام بعدم حصول الشرائط لبعضها ، أو الالتزام بتعلّق الرؤية في القرب والبعد بمجموع الجسم لا بأجزائه.

وإنّما يرى كبيرا في القرب ، صغيرا في البعد ، لأمور محتملة

أحدها : إنّ صغر المرئي إنّما هو بحسب صغر الزاوية الجليدية وكبرها ، إن قلنا : إنّ الإبصار بالانطباع.

أو بحسب صغر زاوية مخروط الشعاع وعظمها ، إن قلنا : إنّ الإبصار بخروج الشعاع.

وأورد عليه صاحب « المواقف » بما هو مبنيّ على تركّب الجسم من أجزاء لا تتجزّأ ، وعلى إنّ المرئي حال البعد نفس الأجزاء لا المجموع(١) .

وكلاهما باطل.

واعلم أنّ قول المصنّف ; : « وكذا يكون بحضرتنا أصوات هائلة » دالّ على ما ذكرناه سابقا ، من أنّه أراد بالإدراك ـ في عنوان المسألة ـ مطلق الإحساس الظاهري ، لا خصوص الرؤية.

__________________

(١) انظر : المواقف : ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ، شرح المواقف ٨ / ١٣٦ ـ ١٣٧.

٦٨

وإنّما لم يتعرّض هنا لتجويزهم عدم إدراك الطعوم والروائح ـ البالغة في الظهور منتهاه ـ مع سلامة الذائقة والشامّة ، واجتماع سائر الشرائط ؛ استغناء عنه ببيان أخواتهما.

٦٩
٧٠

امتناع الإدراك مع فقد الشرائط

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

المبحث الرابع

في امتناع الإدراك مع فقد الشرائط

فجوّزوا في الأعمى إذا كان في المشرق ، أن يشاهد ويبصر النملة الصغيرة السوداء ، على صخرة سوداء ، في طرف المغرب ، في الليل المظلم! [ وبينهما ما بين المشرق والمغرب من البعد ] ، وبينهما حجبت جميع الجبال والحيطان.

ويسمع الأطرش وهو في طرف المشرق أخفى صوت وهو في طرف المغرب!(٢) .

وكفى من اعتقد ذلك نقصا ، ومكابرة للضرورة ، ودخولا في السفسطة.

[ هذا اعتقادهم! وكيف(٣) يجوز لعاقل أن يقلّد من كان هذا

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٢ ـ ٤٤.

(٢) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٣٩ ، شرح التجريد ـ للقوشجي ـ : ٤٣٦ المقصد الثالث.

(٣) كان في المصدر : « وكيف من » ولا يستقيم الكلام بإثبات « من » هنا ، فحذفناها.

٧١

اعتقاده؟! ].

وما أعجب حالهم! يمنعون من لزوم(١) مشاهدة أعظم الأجسام قدرا ، وأشدّها لونا وإشراقا ، وأقربها إلينا ، مع ارتفاع الموانع ، وحصول الشرائط! و [ من ] سماع الأصوات الهائلة القريبة! ويجوّزون مشاهدة الأعمى لأصغر الأجسام وأخفاها في الظلم الشديدة ، وبينهما غاية البعد! وكذا في السماع!

فهل بلغ أحد من السوفسطائية ـ في إنكار المحسوسات ـ إلى هذه الغاية ، ووصل إلى هذه النهاية؟!

مع إنّ جميع العقلاء حكموا عليهم بالسفسطة ، حيث جوّزوا انقلاب الأواني التي في دار الإنسان ، حال خروجه ، أناسا فضلاء مدقّقين في العلوم ، حال الغيبة!

وهؤلاء جوّزوا حصول مثل هذه الأشخاص في الحضور ، ولا يشاهدون ، فهم أبلغ في السفسطة من أولئك!

فلينظر العاقل المنصف المقلّد لهم! هل يجوز له أن يقلّد مثل هؤلاء القوم ، ويجعلهم واسطة بينه وبين الله تعالى ، ويكون معذورا برجوعه إليهم وقبوله منهم ، أو لا؟!

فإن جوّز ذلك لنفسه ـ بعد تعقّل ذلك وتحصيله ـ فقد خلّص المقلّد من إثمه ، وباء هو بالإثم ؛ نعوذ بالله من مزالّ الأقدام!

وقال بعض الفضلاء(٢) ـ ونعم ما قال ـ : كلّ عاقل جرّب الأمور

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) انظر مؤدّاه في الرسالة السعدية : ٤٣.

٧٢

فإنّه لا يشكّ في إدراك السليم حرارة النار إذا بقي فيها مدّة مديدة حتّى تنفصل أعضاؤه.

ومحالّ أن يكون أهل بغداد ـ على كثرتهم وصحّة حواسّهم ـ يجوز عليهم جيش عظيم ، ويقتلون ، وتضرب فيهم البوقات الكثيرة ، ويرتفع الريح ، وتشتدّ الأصوات ، ولا يشاهد ذلك أحد منهم ، ولا يسمعه!

ومحال أن يرفع أهل الأرض ـ بأجمعهم ـ أبصارهم إلى السماء ، ولا يشاهدونها!

ومحال أن يكون في السماء ألف شمس ، وكلّ واحدة منها ألف ضعف من هذه الشمس ، ولا يشاهدونها!

ومحال أن يكون لإنسان واحد ، مشاهد أنّ عليه رأسا واحدا ، ألف رأس لا يشاهدونها ، وكلّ واحد منها مثل الرأس الذي يشاهدونه!

ومحال أن يخبر واحد بأعلى صوته ألف مرّة ، بمحضر ألف نفس ، كلّ واحد منهم يسمع جميع ما يقوله ، بأنّ زيدا ما قام ، ويكون قد أخبر بالنفي ، ولم يسمع الحاضرون حرف النفي ، مع تكرّره ألف مرّة ، وسماع كلّ واحد منهم جميع ما قاله!

بل علمنا بهذه الأشياء أقوى بكثير من علمنا بأنّه حال خروجنا من منازلنا ، لم تنقلب الأواني ـ التي فيها ـ أناسا مدقّقين في علم المنطق والهندسة.

وأنّ ابني الذي شاهدته بالأمس ، هو الذي شاهدته الآن.

وأنّه لم(١) يحدث حال تغميض العين ألف شمس ، ثمّ تعدم عند

__________________

(١) سقطت من المصدر.

٧٣

فتحها.

مع إنّ الله تعالى قادر على ذلك كلّه(١) ، وهو في نفسه ممكن.

وأنّ المولود الرضيع ـ الذي يولد في الحال ـ إنّما يولد من الأبوين ، ولم يمرّ عليه ألف سنة ، مع إمكانه في نفسه ، وبالنظر إلى قدرة الله تعالى.

وقد نسبت السوفسطائية إلى الغلط ، وكذّبوا كلّ التكذيب في هذه القضايا الجائزة ، فكيف بالقضايا التي جوّزها الأشاعرة التي تقتضي زوال الثقة عن المشاهدات؟!

ومن أعجب الأشياء جواب رئيسهم ، وأفضل متأخّريهم ، فخر الدين الرازي في هذا الموضع ، حيث قال :

« يجوز أن يخلق الله تعالى في الحديدة المحماة بالنار برودة عند خروجها من النار ، فلهذا لا يحسّ بالحرارة ، واللون الذي فيها ، والضوء المشاهد منها يجوز أن يخلقه الله تعالى في الجسم البارد »(٢) .

وغفل عن أنّ هذا ليس بموضع النزاع ؛ لأنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي هو في غاية الحرارة ، يلمسه الإنسان الصحيح البنية ، السليم الحواسّ ، حال شدّة حرارته ، ولا يحسّ بتلك الحرارة ؛ فإنّ أصحابه يجوزون ذلك ، فكيف يكون ما ذكره جوابا؟!

__________________

(١) ليست في المصدر.

(٢) انظر مؤدّاه في : المطالب العالية من العلم الإلهي ٣ / ٢٨٣.

٧٤

وقال الفضل(١) :

حاصل جميع ما ذكره في هذا الفصل ـ بعد وضع القعقعة ـ : أنّ الأشاعرة لا يعتبرون وجود الشرائط وعدمها في تحقّق الرؤية وعدم تحقّقها ، ولعدم هذا الاعتبار دخلوا في السوفسطائية.

ونحن نبيّن لك حاصل كلام الأشاعرة في الرؤية ، لتعرف أنّ هذا الرجل ـ مع فضيلته ـ قد أخذ [ سبل(٢) ] التعصّب عين بصيرته! فنقول :

ذهب السوفسطائية إلى نفي حقائق الأشياء ، فهم يقولون : إنّ حقيقة كلّ شيء ليست حقيقته ، فالنار ليست بالنار ، والماء ليس بالماء ، ويجوز أن تكون حقيقة الماء حقيقة النار ، وحقيقة الماء حقيقة الهواء ، وليس لشيء حقيقة ما ، فيلزمهم أن تكون النار التي نشاهدها لا تكون نارا ، بل ماء وهواء أو غير ذلك.

وهذا هو السفسطة.

ويجرّ هذا إلى ارتفاع الثقة من المحسوسات ، وتبطل به الحكمة الباحثة عن معرفة الأشياء.

وأمّا حاصل كلام الأشاعرة في مبحث الرؤية وغيرها ـ ممّا ذكره هذا الرجل ـ فهو : أنّ الاشياء الموجودة عندهم إنّما تحصل وتوجد بإرادة

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١١ ـ ١١٤.

(٢) السبل : داء في العين شبه غشاوة كأنّها نسج العنكبوت بعروق حمر ؛ انظر : الصحاح ٥ / ١٧٢٤ ، لسان العرب ٦ / ١٦٤ ، تاج العروس ١٤ / ٣٢٧ ، مادّة « سبل ».

٧٥

الفاعل المختار وقدرته ، التي هي العلّة التامّة لوجود الأشياء.

فإذا كانت القدرة هي العلّة التامّة ، فلا يكون وجود شيء واجبا عند حصول الأسباب الطبيعيّة ، ولا يكون شيء مفقودا بحسب الوجود(١) عند فقدان الأسباب والشرائط.

ولكن جرت عادة الله تعالى في الموجودات أنّ الأشياء تحصل عند وجود شرائطها ، وتنعدم عند انعدامها ، فهذه العادة في الطبيعة جرت مجرى الوجوب.

فالشيء الذي له شرائط في الوجود ، يجب تحقّقه عند وجود تلك الشرائط ، وانتفاؤه عند انتفائها ، بحسب ما جرى من العادة.

وإن كان ذلك الشيء ـ بالنسبة إلى القدرة ـ غير واجب ، لا في صورة التحقّق ، لتحقّق الشرائط ، ولا في صورة الانتفاء ، لانتفائها ، بل جاز في العقل تحقّق الشرائط وتخلّف ذلك الشيء ، وجاز تحقّقه مع انتفاء الشرائط ، إذ لم يلزم منه محال عقلي ، وذلك بالنسبة إلى قدرة المبدئ ، الذي هو الفاعل المختار.

مثلا : الرؤية التي نباحث فيها لها شرائط ، وجب تحقّقها عند تحقّقها ، وامتنع وقوعها عند فقدان الشرائط.

كلّ ذلك بحسب ما جرى من عادة الله تعالى في خلق بعض الموجودات ، بإيجاده عند وجود الأسباب الطبيعيّة ، دون انتفائها.

فعدم تحقّق الرؤية عند وجود الشرائط ، [ أ ] وتحقّقها عند فقدان الشرائط ، محالّ عاديّ(٢) ؛ لأنّه جار على خلاف عادة الله تعالى ، وإن كان

__________________

(١) في المصدر : الوجوب.

(٢) في المصدر : عادة.

٧٦

جائزا عقلا إذا جعلنا قدرة الفاعل وإرادته علّة تامّة لوجود الأشياء.

هذا حاصل مذهب الأشاعرة.

فيا معشر الأذكياء! أين هذا من السفسطة؟!

وإذا عرفت هذا سهل عليك جواب كلّ ما أورده هذا الرجل في هذه المباحث من الاستبعادات والتشنيعات.

وأمّا جواب الإمام الرازي فهو واقع بإزاء الاستبعاد ، فإنّهم يستبعدون أنّ الحديدة المحماة الخارجة من التنوّر يجوز عقلا أن لا تحرق شيئا.

فذكر الإمام وجه الجواز عقلا بخلق الله تعالى عقيب الخروج من التنّور برودة في تلك الحديدة ؛ فيكون جوابه صحيحا.

والله أعلم بالصواب.

وأمّا قوله : « إنّ المتنازع فيه أنّ الجسم الذي في غاية الحرارة ، يلمسه الإنسان الصحيح البنية ، السليم الحواسّ ، حال شدّة حرارته ، ولا يحسّ بتلك الحرارة ؛ فإنّ أصحابه يجوّزون ذلك ».

فنقول فيه : قد عرفت آنفا ما ذكرناه من معنى هذا التجويز ، وأنّه لا ينافي الاستحالة عادة ، فهم لا يقولون : إنّ هذا ليس بمحال عادة ، ولكن لا يلزم منه محال عقلي ـ كاجتماع الوجود والعدم ـ ، فيجوز أن تتعلّق به القدرة الشاملة الإلهية ، وتمنع الحرارة عن التأثير.

ومن أنكر هذا ، فلينكر كون النار بردا وسلاما على إبراهيم.

٧٧

وأقول :

ما ذكره من مغايرة الأشاعرة للسوفسطائية في خصوصيات الأقوال ، لا ينافي مشابهتهم لهم في مخالفة الضرورة ، كما هو مطلوب المصنّف ;.

فالمراد أنّهم مثلهم في إنكار المحسوسات الضرورية ، وغلطهم فيها غلطا بيّنا يستوضحه كلّ ذي عقل.

وأمّا ما ذكره في بيان مذهب الأشاعرة ، فهو تكرير لما سبق ، وقد عرفت أنّ قولهم بنفي سببية الأسباب الطبيعية واقعا ، وجواز تخلّف المسبّبات عنها ، وجواز وجود المسبّبات بدونها ، مخالف للضرورة ، ومستلزم لعدم صحّة الحكم على الجسم بالحدوث ، وعلى المركّب بالإمكان إلى غير ذلك ممّا سبق.

مع إنّ تجويز رؤية الأعمى ، وسماع الأطرش ـ العادمين لقوّتي البصر والسمع ـ مستلزم لجواز قيام العرض بلا معروض ، وهو محال.

وفرض قوّة أخرى يجعل النزاع لفظيا ، وهو ليس كذلك ، فلا يمكن تخلّف المسبّب عن سببه الطبيعي ، ولا وجوده بدونه ، بلا منافاة في ذلك لعموم القدرة ، لاعتبار الإمكان في محلّها ، كما سبق.

فكما لا يصحّ تعلّقها بإيجاد شريك الباري سبحانه ، وبالجمع بين الوجود والعدم ، لا يصحّ تعلّقها بالمسبّب بدون السبب المفروض السببية.

وأمّا ما يظهر منه من كون القدرة علّة تامّة لوجود الأشياء ، فخطأ

٧٨

ظاهر ، لاستلزامه قدم الحادثات ، أو حدوث القدرة.

ولمّا أنكر الأشاعرة علّيّة الأسباب الطبيعية ـ والحال أنّها من أظهر أحوال الموجودات ـ لزمهم نفي الثقة بالموجودات البديهية ـ من المحسوسات وغيرها ـ ودخلوا في السوفسطائية ، المخالفين للبديهة.

وأمّا ما ذكره في توجيه جواب الرازي ، فمنحلّ إلى أنّه إقناعيّ خارج عن محلّ الكلام ، وأنت تعلم أنّ مثله لا يقع في بحث العلماء.

وأمّا قوله : « ومن أنكر ذلك ، فلينكر كون النار بردا وسلاما على إبراهيم » ، فمدفوع بأنّ صريح الآية الكريمة صيرورة النار بردا ـ كما في فرض الرازي ـ ، فلا دخل لها بمطلوبه من عدم تأثيرها للإحراق حال حرارتها.

٧٩
٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

مخصوص ، أي : العلم المتعلّق بالذات المخصوصة المعينة يتوقّف تحصيله على جهة العلّة ويمتنع حصوله من المعلول. ولا ريب انّ العلم بالحقيقة المعينة المخصوصة أولى وأكمل من العلم بحقيقة ما ، فهذا هو الوجه في مزية البرهان اللمّي على الإنّي.

ولا ريب أيضا في انّ المقصود من البرهان في اثبات الواجب ـ تعالى شأنه ـ اثبات خصوصية العلّة للكلّ ـ اعني : الواجب بالذات ـ ، وبرهان الإنّ لا يفيد هذا الأمر ، فيجب المصير فيه إلى برهان اللمّ.

والجواب : انّ هذا مجرّد دعوى لا دليل عليه ، والفرق غير ظاهر عند التأمّل. فانّ العلم بالعلّة إن لم يكن تامّا ـ أي : لم يعلم العلّة بحقيقتها ولوازمها وخواصّها وما لها بالقياس إلى نفسها وما لها بالقياس إلى غيرها ـ لم يفد العلم بخصوصية المعلول اصلا ، لأنّه لم يعلم صفاتها وخواصّها ليعلم انّ معلولها يلزم أن يكون على صفة كذا وخصوصيّة كذا. ولو افاد مجرد ذلك العلم بخصوصية المعلول لقلنا : العلم بالمعلول أيضا يوجب العلم بخصوصية العلّة وإن لم يكن تامّا ، لعدم تعقّل الفرق أصلا. ولو كان العلم بها تامّا ـ أي : علمت العلّة بحقيقتها المخصوصة وصفاتها المعينة وخواصّها اللازمة ـ فلا ريب في أنّه يفيد العلم بخصوصية المعلول بمعنى انّه بعد ما علم انّ العلّة حقيقتها كذا وصفاتها وخواصّها كذا يحكم العقل بانّ معلول مثل هذه العلة يجب أن يكون على صفة كذا أو خصوصية كذا ـ للزوم المناسبة بين العلّة والمعلول ـ. إلاّ أنّ المعلول أيضا إذا علم بهذا الوجه علمت العلّة أيضا بالتعيّن(١) والخصوصية ، فانّه إذا علم أنّ المعلول على حقيقة كذا وخواصّه وآثاره كذا وكذا ، يحكم العقل بانّ علّته يلزم أن يكون على صفات مخصوصة وخصوصيات معينة ـ لوجوب المناسبة بين العلة والمعلول ـ فانّا كما إذا تعقّلنا الواجب ـ تعالى شأنه ـ بصفاته المعيّنة من بساطته وتجرّده نحكم بأنّه / ٢٢ DB / يجب أن يكون معلوله الأوّل جوهرا بسيطا مجرّدا وهو العقل الاوّل ، كذلك إذا تعقّلنا العقل الأوّل ببساطته وتجرّده وامكانه نحكم بانّ علّته يجب أن تكون بسيطا مجرّدا واجبا ، وقس عليه أمثال ذلك. فانّا كما إذا تعقّلنا تعفّن(٢) مطلق خلط علمنا حصول

__________________

(١) الاصل : باليقين.

(٢) الاصل : تعقل.

١٠١

مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى ، وإذا علمنا تعفّن خلط صفراويّ علمنا حصول حمى صفراويّ ، فكذلك إذا علمنا حصول مطلق حمى من دون العلم بخواصّ هذه الحمى علمنا تعفّن مطلق خلط من دون حصول العلم بخصوصية هذا الوسط ، ولو علمنا خصوصية الحمى من كونه حمّى صفراويا أو بلغميا علمنا خصوصية الخلط أيضا من كونه صفراء أو بلغما ؛ هذا.

وقال بعض الأفاضل : انّه لا ريب في انّ العلم الحاصل من البرهان سواء كان لمّيا أو إنّيا انّما هو العلم التصديقيّ ـ أي : المتعلّق بثبوت النسبة الخبريّة ـ دون العلم التصوريّ الّذي هو تصوّر الأشياء بالحدّ أو الرسم ، فانّ العلّية والمعلولية اللّتين اعتبرنا بين حدود البرهان ـ أعني : الأوسط والأكبر والأصغر ـ ليستا معتبرتين بين ذوات تلك الحدود ، بل بين أوصافها العنوانية باعتبار ثبوت تلك الاوصاف لذوات تلك الحدود أو نفيها عنها. فقولهم : الأوسط إذا كان علّة للحكم فالبرهان لمّي وإلاّ فإنّي ؛ فيه مسامحة واعتماد على الظهور ، ومعناه انّ وصف الأوسط باعتبار ثبوته للأصغر أو نفيه عنه إن كان علّة لثبوت وصف الأكبر للأصغر أو نفيه عنه فالبرهان لمّى ، وإلاّ فإنّي. فاذا قيل : العالم متغير وكلّ متغير حادث فالعالم حادث ، برهان لمّي أريد به انّ ثبوت الأوسط / ٢٣ MA / ـ أعني : التغيّر ـ للعالم علّة لثبوت الحدوث له ، وهو الحكم المطلوب. بمعنى انّه متقدّم عليه بالذات بحسب نفس الأمر ، وما لم يثبت للعالم وصف التغيّر في الواقع لم يثبت له وصف الحدوث. وإذا قيل : زيد محموم وكل محموم متعفّن الاخلاط ، برهان انّي أريد به انّ ثبوت الأوسط ـ أعني : المحموم ـ لزيد معلول لثبوت تعفّن الاخلاط له وهو الحكم المطلوب ؛ يعنى انّه متأخّر عنه بحسب نفس الأمر. وما لم يثبت لزيد وصف بعض الاخلاط ـ أي : الحكم المطلوب ـ لم يثبت له وصف الحمى ـ أي : الأوسط ـ. فظهر انّ العلّية والمعلولية المأخوذتين في مطلق البرهان انّما ترجعان إلى ثبوت النسبة الّذي هو من العلوم التصديقية.

وإذا كان الحاصل من البرهان هو العلم التصديقي دون التصوريّ نقول : لا يجوز التفاوت بالكمال والنقصان في العلم التصديقى سواء حصل من برهان اللمّ أو الإنّ ، إذ

١٠٢

لا فرق في كيفية العلم الحاصل منهما لعدم التشكيك فيه ـ كما بيّن في موضعه ـ ، ولا في متعلّق التصديق ـ إذا لتصديق المنتج من ايّهما متعلّق بحقيقة النسبة الخبرية المطلوبة ـ ، فالعلم الّذي يمكن أن يتفاوت بالكمال والنقصان انّما هو العلم التصوريّ من حيث المتعلّق ، فانّ العلم التصوريّ الحاصل من الحدّ يكون متعلّقا بحقيقة الشيء ، والحاصل من الرسم يكون متعلّقا بخواصّه ولوازمه. وتفاوت هذا العلم لا مدخلية له فيما نحن فيه ، فانّ قولنا : العالم حادث متعلّق العلم ثبوت الحدوث للعالم أعمّ من أن يكتسب من جهة علّيته أو من جهة معلوليّته ، ولا يتصوّر التفاوت فيه من هذه الجهة. نعم! يمكن التفاوت في تصوّر الحدوث أو العالم بالكنه أو الوجه ، إلاّ انّه لا مدخلية له في نفس التصديق بثبوت الحدوث للعالم.

فان قيل : يجوز أن يختلف العلم بالنسبة الخبرية باختلاف تصور الاطراف بالكنه أو بالوجه ؛

قلنا : التفاوت فيه على هذا التقدير ليس من حيث انّه(١) مستفاد من البرهان ، بل من حيث تصوّر بعض الاطراف بالكنه وبعضها بالوجه ، فبالحقيقة يكون التفاوت في العلم التصوري ؛ وبواسطته يحصل تفاوت ما في العلم التصديقى أيضا. ولكن ذلك لا يفيد التفاوت في المقصود ، لأنّه ليس من حيث انّه مستنتج من البرهان ، بل من حيث تصوّر الاطراف ؛ إلاّ أن يقال : انّ مقصود القائل انّ البرهان اللمّي لا ينفكّ عن تصوّر الاطراف على وجه اتمّ واكمل ، بخلاف الإنّي ، لا أنّ العلم الحاصل بالمطلوب من اللمّي من حيث انّه حاصل منه يكون اتمّ من العلم الحاصل به من الإنّي من حيث انّه حاصل منه ، وهذا القدر يكفي لمزية اللمّ على الإن.

وغير خفيّ إنّا نلتزم مثل هذه المزية ولا ننكره! ، إلاّ أنّ مبنى هذا الكلام على لزوم تصوّر الاطراف في اللمّي بالحدّ والكنه وفي الإنّي بالرسم وبالوجه ، وعلى جعل حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه من اللمّ وإن لم يكن علّة فاعلية له ، بل يكفى كونه جزء العلّة ومن مقوّماته. والظاهر أنّ مجرّد حصول الشيء ممّا يتوقّف عليه وأن

__________________

(١) الاصل : ـ انه.

١٠٣

يكن علّة فاعلية من اللمّ بشرط كونه تصديقا ، لأنّ المراد بالعلّة هاهنا يجب ان يكون ما يتوقّف عليه الشيء مطلقا لا العلّة التامّة ولا خصوص إحدى العلل الاربع ، فانّ الاستدلال / ٢٣ DA / من المعلول على أيّ جزء من العلّة التامة برهان انّي ، والاستدلال من الجزء الأخير للعلّة التامة أو يستلزم الجزء الاخير له على المعلول برهان لمّي.

وأمّا لزوم كون تصور الاطراف ممّا يتوقّف هذه الاطراف عليه ـ أعني : بالحدّ والكنه في اللمّ ـ فغير معلوم ، لانّه من العلوم التصورية الّتي لا مدخل لها في البرهان الّذي هو من العلوم التصديقية ـ ، فلا معنى لاشتراطه في البرهان اللمّي.

وأنت خبير بانّ اتمام أصل الجواب المنقول عن بعض الأفاضل يتوقّف على عدم التشكيك في حقيقة العلم المتعلق بالنسبة الخبريّة ، وهو محلّ كلام ؛ والنزاع في مثله مشهور.

وقد تلخّص ممّا ذكر انّ ما ذكروه في بيان الأمر الاوّل ـ أعني : اوثقية اللمّي من الإنّي ـ غير تمام ، ولا تفاوت بينهما إلاّ في أنّه يعلم المطلوب في اللمّي من جهة ما يوجبه من لمّه وسببه ، بخلاف الإنّي ؛ هذا.

وذكروا في بيان الوجه الثاني ـ أعني : لميه منهج الإلهيين ـ وجوها :

منها : انّه استدلال بحال من مفهوم الوجود ـ أعني : احتياج فرده الممكن إلى العلّة أو كونه ذا تقرّر أو ذا فرد في نفس الأمر ـ على حال اخرى منه ، / ٢٣ MB / وهي اتّصافه بكون بعضه واجبا لا على ذات الواجب في نفسه ، فانّ كون طبيعة الوجود مشتملة على فرد هو الواجب لذاته حال من أحوال تلك الطبيعة ، فالاستدلال بحال من تلك الطبيعة على حال أخرى لها معلولة للحال الاولى.

وفيه : انّ الحالة الّتي يستدلّ بها ـ أعني : كون الوجود ذا تقرّر أو ذا فرد أو احتياج فرده الممكن إلى علّة ـ إنّما هي معلومة ومستفادة من الوجودات الامكانية ، وهي معلولة للواجب الحقّ ـ تعالى شأنه ـ ، فكيف يكون علّة له في الخارج حتّى يكون الاستدلال بها عليه لمّيا؟!. كيف ولو كان الاستدلال بالوجود المطلق على الواجب بأيّ طريق كان استدلالا بالعلّة على المعلول لكان للواجب علّة؟!

١٠٤

وبما ذكر يظهر ضعف ما ذكره بعض المشاهير المعتقدين للمّية هذا الوجه حيث قال : إن قيل : الاستدلال بالوجود على الواجب ليس استدلالا بالعلّة على المعلول ، وإلاّ لزم أن يكون الواجب معلولا ؛ قلنا : الاستدلال بالعلّة على المعلول هو الاستدلال من واجب الوجود على معلولاته. فانّا في الطريقة المختارة نثبت واجب الوجود أوّلا ثمّ نستدلّ به على ساير الموجودات بان نقول : لمّا كان الواجب في غاية البساطة والتجرد يجب أن يصدر عنه أوّلا امر بسيط مجرّد عن الموادّ وبعد فتح ابواب الكثرة يصدر منه ـ تعالى ـ بطريق التناوب الاشياء الأخر ، ولمّا كان غنيا عن كلّ شيء يجب أن لا يكون فعله معلّلا بالاغراض ، وإن كانت المنافع لازمة لفعله ـ تعالى ـ على وجه لا يكون غرضا له وعائدا إليه. ولمّا كان جوادا مطلقا فيجب أن لا ينقطع منه الفيض ، ولمّا كان مجرّدا يجب أن لا يسنح له شيء بعد ما لم يكن ، وغير ذلك من الخواصّ المثبتة بمجرّد ملاحظة وجوب الوجود. وأمّا القوم فيثبتون ساير الموجودات ويستدلّون بها على وجود واجب الوجود. وبعبارة اخرى : نحن نثبت الحقّ ونستدلّ به على الخلق ، وامّا هم فيثبتون الخلق ويستدلّون به على الحقّ ، فطريقتنا أوثق وأشرف. انتهى ما ذكره مع تفصيل وتوضيح.

ووجه ضعفه : انّ استدلالكم على الواجب انّما هو بافراد الوجودات المعلولة أو بالوجود المطلق من حيث أنّه في ضمن الافراد الممكنة المعلولة ، فهو استدلال من المعلول على العلّة دون العكس ، فلا فرق بين طريقتكم وطريقة غيركم.

وأمّا ثبوت اللوازم والخواصّ المذكورة للواجب بعد اثباته فهو امر آخر يتأتّى على جميع الطرق بعد أن يثبت الواجب بأيّ منها.

ومنها : انّ كون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكون الواجب صانعا للعالم ، أي : هو علّة لهذا الوجود الرابطي الاضافي للواجب ـ تعالى ـ لا لوجوده في نفسه ، لانّ وجوده في نفسه ليس معلولا لشيء ، فوجود العالم في نفسه معلول للواجب ـ تعالى شأنه ـ. والوجود الرابطي للواجب ـ تعالى ـ وهو كونه صانع العالم معلول للعالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته ، فكون العالم مصنوعا ومجعولا علّة لكونه ذا جاعل واجب

١٠٥

بالذات. ولا استبعاد في ذلك كما ذكره الشيخ في المؤلّفية وذوي المؤلّفية ، فانه قال : انّ قولنا كلّ جسم مؤلّف وكلّ مؤلّف فله مؤلّف برهان لمّي ، لانّ المؤلّف ـ بالفتح ـ وإن كان معلولا للمؤلّف ـ بالكسر ـ بحسب الخارج والواقع ، لكن ذا المؤلّف ـ أعني : مفهوم ٢٣ DB / قولنا : له مؤلّف ـ هو الحدّ الأكبر ، والوجود الرابطي للمؤلّف ـ بالكسر ـ معلول للمؤلّف ـ بالفتح ـ. وأيّد ذلك بعضهم بانّه لا يثبت من هذه الدلائل إلاّ وجود علّة ما لجميع الممكنات خارجة عنها ـ أي : غير ممكنة ـ ، ولا يثبت بها خصوص وجود الذات المقدّسة الالهية. والشيخ قد صرّح بانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود علّة ما في الحقيقة استدلال من العلّة على المعلول ، لأنّ ثبوت علّة ما لشيء يكون في الحقيقة معلّلا بمعلولها ، فيكون لمّيا.

قيل : وبهذا الوجه ـ أي : بجعل المعلولية راجعة إلى الوجود الاضافي الرابطي لا إلى الوجود الحقيقي الخارجى ـ يندفع الايراد المشهور ؛ وهو انّه لا يمكن الاستدلال اللمّى على وجود الواجب لان كلّ شيء سوى الواجب ـ تعالى ـ معلول له ـ تعالى ـ إمّا بواسطة أو بدونها ، وليس الواجب معلولا لشيء ؛ فلا يمكن الاستدلال على وجوده بطريق / ٢٤ MA / اللمّ.

وأيضا : كلّ ما يحصل في اذهاننا ونتعقّله فهو ممكن ، وكلّ ممكن معلول له ، فانحصر طريق اثباته في الإنّي.

ووجه الدفع : انّ ما يثبت بالبرهان اللمّي هو الوجود الاضافي الرابطي للواجب ـ تعالى ـ وهو يجوز أن يكون معلولا ، وعدم معلوليته انّما هو باعتبار وجوده في نفسه. ولا امتناع في كون الواجب معلولا باعتبار الوجود الرابطي ، فانّ الشيء قد يكون علّة بحسب الذات ومعلولا بحسب الوجود الاضافى الرابطي ، فانّ ثبوت رازقية زيد للواجب ـ تعالى ـ يتوقّف على وجود زيد المرزوق ولا يمكن ثبوتها له بدونه ، بل يحتاج هذا الثبوت إلى وجود زيد مع انّه موجد زيد وغني عن كلّ شيء.

وغير خفيّ انّ هذا الوجه في غاية السقوط ولا يسمن ولا يغني من جوع! ، كيف وهو يجري في جميع ادلّة اثبات الواجب من أيّ منهج كان ولا اختصاص له بمنهج

١٠٦

الإلهيين ، بل يجري في جميع الأدلّة الآتية في أيّ مطلب كان ولا اختصاص له بادلّة اثبات الواجب! ؛ فأيّ مزية تثبت بهذا التكلّف والتعمّل لمنهج الإلهيين؟!.

مع انّه لو سلّم عدم جريانه في غيره نقول : انّ مطلوب القوم من ردّ أدلّة اثبات الواجب إلى اللمّي انّما هو لأن يكون أوثق وأحكم ، ولا ريب في أن مثل هذا التعمّل والتغيّر في بعض العبارات لا يصير سببا لتفاوت الدليل في الواقع ونفس الأمر حتّى يصير لأجله أوثق ، بل انّما هو تكلّف لا يرجع إلى فائدة وتحصيل. فالفرق بين منهجي الالهيين والمتكلّمين بلمّية الأوّل وإنّية الثاني تحكّم بحت!.

ولو قيل بعكس ذلك لكان له وجه في الجملة ، لأنّ المتكلّمين يجعلون الوسط في براهين اثبات الواجب هو الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، وهم يعتقدون انّ علّة الحاجة إلى المؤثّر هي الحدوث أو الامكان بشرط الحدوث ، فالاستدلال على الواجب به استدلال لمّي وإن كان ما اعتقدوه من علّة الحاجة باطلا عندنا. وأمّا الإلهيون فلمّا جعلوا الوسط في البراهين هو الوجود فلا يمكنهم القول باللمّية ، لأنّ الوجود ليس عندهم علّة الحاجة بل علّتها عندهم هي الامكان البحث. نعم ؛ لو جعلوا الوسط في البراهين هو الامكان فقط واستدلّوا على الواجب ـ تعالى ـ بمجرّده لكان للقول بلمّية طريقتهم وجه ، إلاّ أنّ الاستدلال بمجرّد الامكان من غير التمسّك بالوجود أو الحدوث غير ممكن.

وبذلك يندفع ضعف ما افتخر به بعض الفضلاء بالتفطّن به ، وقال : أمّا اثبات الواجب فظاهر النظر يقتضي أن يكون دليله على الطريقين إنّيا ، والنظر الصائب يفضي إلى أنّ الّذي لهم من الدعوى على الطريقين يثبت ببرهان لمّي ، فانّ دعواهم انّ الممكنات منتهية إلى الواجب أو انّ الممكن له موجود واجب أو انّ العالم له خالق صانع لا مجرّد انّ الواجب موجود ، بل هو لازم ثانيا من دليلهم ، وبين هذا وما قدمنا من الدعوى فرق ؛ انتهى.

ووجه الدفع : انّ الممكن ما لم يؤخذ منه الوجود أو الحدوث أو ما يرجع إليهما لم يدلّ على احتياجه إلى المؤثّر ، ووجهه ظاهر.

١٠٧

وبما ذكر يظهر فساد ما قيل : انّ جميع براهين اثبات الواجب لمّية بحسب الحقيقة ـ بناء على ما نقل عن الشيخ من حديث المؤلّف وذي المؤلّف ـ ، إلاّ أنّ صورة ساير الطرق شبيهة بصورة الإنّ لانّها بظاهرها انتقال من المعلول إلى العلّة ، لانّ الممكن والمحدث والحركة ـ الّتي ينتقل منها إلى الواجب تعالى ـ معلولة له. بخلاف منهج الالهيين ، فانّه انتقال من الموجود إلى الواجب ، وهو بظاهره لا يشبه إلاّ انّ الموجود ليس معلولا للواجب مطلقا وإن كان بعض افراده معلولة له ، بخلاف الممكن والحادث والحركة.

ووجه الفساد : أمّا أوّلا فبأنّه أيّ فائدة في التفاوت في / ٢٤ DA / الصورة مع عدم الفرق الواقعي في الوثوق؟! ؛

وأمّا ثانيا : فبانّه تخصيص لادلّة اثبات الواجب مع جريان ما ذكره الشيخ في جميع ما يتصوّر دليلا.

وأمّا ثالثا : فبانّ الموجود الّذي يقع به الانتقال إلى الواجب انّما هو افراده الّتي هي معلولة ، والفرد الّذي هو غير معلول لم يقع به انتقال. ولا فرق بينه وبين الممكن والحادث.

ثمّ التأييد الّذي نقلناه عن بعضهم للوجه المذكور ـ : من كون / ٢٤ MB / الاستدلال لوجود المعلول على وجود علّة ما استدلالا لمّيا ـ لا يخفى فساده وضعفه وان نسبه الأكثرون إلى الشيخ ؛ لأنّ القريحة السليمة حاكمة بانّه لا فرق بين علّة ما والعلّة المعينة ، فانّ الاستدلال بوجود المعلول على وجود العلّة لمّي سواء كانت العلّة علّة ما أو علّة معينة ، وأيّ باعث للفرق؟!. والظاهر انّ نسبته إلى الشيخ فرية. وصرّح بعضهم بانّه ليس في كلمات الشيخ ما يدلّ عليه.

وأورد على الوجه المذكور : بانّه إذا كان العالم باعتبار مصنوعيته ومجعوليته علّة لكون الواجب صانعا للعالم لزم أن لا يثبت للواجب ـ تعالى ـ صانعية العالم لذاته ، بل يتوقّف على ملاحظة حال العالم ، لأنّ صانعيته ـ تعالى ـ حينئذ معلولة لمصنوعية العالم كما هو شأن البرهان اللمّي. فلو قطع النظر عن مصنوعية العالم لم يثبت له صانعية(١)

__________________

(١) الاصل : لم يثبت لصانعه.

١٠٨

في ذاته ، فلا يجوز أن تكون مصنوعية العالم علّة لهذا الوجود الرابطي ـ وهو كون الواجب صانعا للعالم ـ.

وأجاب عنه بعض الأفاضل : بانّ صانعية العالم يمكن اعتبارها من وجهين :

أحدهما : بحيث يكون وصفا للعالم ومعناها كون العالم بحيث يكون له صانع واجب الوجود بالذات ؛ وثانيهما : أن يكون وصفا لواجب ـ تعالى شأنه ـ. ومعناها حينئذ كون الواجب بحيث يكون صانعا للعالم ؛ وللعالم وصفان : أحدهما : المصنوعية والمجعولية ، والآخر : كونه ذا صانع جاعل ؛ والأوّل علّة للثاني والنتيجة هي كون العالم ذا صانع واجب الوجود بالذات ، لا كون الواجب صانع العالم ، فصورة القياس هكذا : العالم مصنوع ومجعول ، وكلّ مصنوع ومجعول ذو جاعل صانع واجب بذاته ، فالعالم ذو جاعل صانع واجب بالذات. وكون الواجب صانع العالم يظهر وينكشف بعد حقّية تلك النتيجة من غير احتياج إلى كسب ونظر ، وهذا الظهور بطريق الاتّفاق. فثبوت صانعية العالم للواجب انّما هو بالنظر إلى ذاته لا بواسطة أمر ؛ غاية ما فى الباب انّه ينكشف عندنا بعد حقّية ذلك القياس. ونظير هذا انّ التصديق قد يكون خفيا وبعد تصوّر الطرفين يصير بديهيا ، إلاّ أنّ تصوّر الطرفين كاسب له لأنّ التصديق لا يكون مكتسبا من التصوّر ، فحقّية كون الواجب صانع العالم لازمة لحقّية ذلك القياس ، لكن هذا اللزوم ليس لزوما اصطلاحيا بأن يكون حقّية القياس المذكور ملزومة لحقّية كون الواجب صانع العالم وعلّة بالقياس إليه ، لأنّ كلّ ملزوم اصطلاحي علّة للازمه ، وثبوت صانعية العالم له ـ تعالى ـ ليس معلّلا بغير ذاته أصلا ، فاللزوم فيها بالمعنى اللغوي ـ يعني : انّه لا ينفكّ أحد العلمين عن الآخر ـ. لانّه إذا ثبت القياس المذكور يصير كون الواجب صانع العالم بديهيا لا يحتاج إلى فكر ونظر اصلا ، فكون(١) الواجب صانع العالم ثابت له باعتبار ذاته بلا علّة غير ذاته.

ويمكن أن يقال : كون الواجب صانع العالم قد ظهر حقّيته بصحابة اللمّ إلاّ أنّ له دليلا لمّيا ؛ انتهى.

__________________

(١) الاصل : فيكون.

١٠٩

واقول : هذا الجواب بطوله ممّا لا يجدي طائلا ، بل هو فاسد! ، لأنّ القول بانّ ظهور كون الواجب صانع العالم انّما هو بطريق الاتفاق ممّا لا معنى له ، والقرائح السليمة لا تقبله ؛ فانّه لا ريب في أنّ صانعيته ـ تعالى ـ للعالم انّما يعلم من مصنوعية للعالم ، ولولاها لم يكن لنا إليها سبيل. بل لو لم يتحقّق المصنوعية في الخارج لم تتحقّق صانعية فيه. نعم! ، يمكن القول بانّ الانتقال من هذا الوجود الرابطي ـ أعني : كونه صانعا ـ إلى الوجود الحقيقيّ انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، لانّ تحقّق الوجود الارتباطى لا يمكن إلاّ بعد تحقّق الوجود في نفسه.

فالحقّ في الجواب عن الشبهة أن يقال : لا مانع من توقّف هذا الوجود الاضافي الارتباطى ـ أعني : ثبوت صانعية العالم للواجب تعالى شأنه ـ على غيره ـ أعني : مصنوعية العالم وعدم ثبوتها له في ذاته ـ ، فانّ المصنوعية والصانعية متضايفتان وتوقّف ثبوت أحد المتضايفين على الآخر ذهنا وخارجا ممّا لا ينكر. وهل هذا مثل الرّازقية والمرزوقية؟ ، فانّه لا ريب في انّه لا يثبت للواجب ـ تعالى ـ رازقية / ٢٤ DB / زيد بدون وجود زيد المرزوق ، بل هي موقوفة عليه. والسرّ انّ مثل الصانعيّة والخالقيّة والرازقيّة وأمثالها من صفات الفعل الّتي لا تتحقّق بدون متعلّقاتها. والحاصل : انّ عدم ثبوت الوجود الرابطي للواجب بالنظر إلى ذاته وتوقّفه على غيره لا منع فيه ، إلاّ أنّ ارجاع البراهين إلى اثبات مثل هذا الوجود ليصير لمّية ممّا لا فائدة / ٢٥ MA / فيه ولا يجدي طائلا ـ كما عرفت ـ.

ثمّ لا يخفى بأنّ مثل هذه الشبهة جارية في الوجه الأوّل أيضا ، بان يقال : إذا كان اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن علّة لاشتماله على الفرد الواجب لزم أن يكون كون الواجب فردا للموجود المطلق معلولا لكون الممكن فردا للموجود المطلق ، فيلزم أن لا يثبت للواجب ـ جلّ وعزّ ـ كونه فردا للموجود المطلق باعتبار ذاته ، بل بملاحظة علته ؛ وهي اشتمال الموجود المطلق على الفرد الممكن واحتياجه إلى العلّة. فمع قطع النظر عن هذه العلّة في نفس الأمر يلزم عدم معلولها في نفس الأمر فيلزم أن لا يكون الواجب فردا للموجود المطلق في ذاته ؛ وهو باطل. لأنّ كون الواجب فردا للموجود

١١٠

ثابت له ـ تعالى ـ بالنظر إلى ذاته وإن قطع النظر عن جميع ما عداه.

والجواب على النحو الّذي نقلناه عن بعض الأفاضل(١) مع ما يرد عليه يعلم ممّا مرّ ، وعلى ما ذكرناه ظاهر ؛ فلا نطيل الكلام بالاعادة.

ومنها : ما ذكره بعض الأفاضل ، وهو أنّ طبيعة الوجوب لمّا كانت طبيعة ناعتية لطبيعة الوجود عارضة لها فهي متأخّرة بالذات عنها ـ كما يظهر من تتبع عبارات الشفا وغيره ـ ، فيكون الموجود بما هو موجود متقدما بالذات على الموجود بما هو واجب والواجب بما هو واجب ، وهذا لا ينافى ما هو المشهور من « أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد » ، لأنّ المراد منه انّ الماهية ما لم يتصف في مرتبة العقل وجودها بصفة الوجوب لم يمكن أن يوجد ، لأنّ اتصاف الشيء في الخارج بصفة الوجوب متقدّم على تحقّقه فيه ، اذ اتصافه بها في الذهن متقدّم على ثبوته فيه. إذا تمهّد هذا فلا يخفى عليك : انّ الاستدلال بالموجود بما هو موجود وانّ له فردا في الخارج على الواجب بما هو واجب وانّ له فردا خارجيا برهان لمّي بلا تعمّل وتكلّف لا انّي ، لأنّ ثبوت الفرد الخارجي

للموجود بما هو موجود متقدّم بالذات والطبع على ثبوت الفرد الخارجى للواجب بما هو واجب. ولا يتوهّم انّه يلزم على هذا أن يكون الواجب بما هو واجب معلولا لشيء ، إذ اللازم تقدّم اعتبار الوجود على اعتبار الوجوب ، وهو ليس بمستنكر ، إذ ذاته ـ تعالى ـ من جهة انّه مبدأ للآثار فرد للموجود ، والوجود من جهة انّه مبدأ لوثاقة الوجود فرد للواجب والوجوب ، والاعتبار الاوّل متقدّم بالذات على اعتبار الثاني ـ كما يقال في تقدّم وجوب الوجوب على ساير الصفات ، وفي تقدّم العلم والقدرة على الإرادة ـ. وطبيعة الوجود والموجود بما هو موجود متقدم على جميع الاشياء ، بل جميع الاعتبارات بالذات ، ولهذا جعل موضوعا للفلسفة الأولى. والمراد بما قال الشيخ وغيره : « انّه لا برهان عليه ـ تعالى ـ بل هو البرهان على كلّ شيء » : انّه لا برهان على ذاته من غيره ، لانّ ذاته باعتبار وملاحظة ليس ببرهان على نفسه باعتبار آخر ، أو بعض صفاته ليس برهانا على بعض آخر ؛ بل هو الشهيد عليه كما على غيره. ولهذا

__________________

(١) الاصل : + ظاهر.

١١١

بعينه صار هذا المنهج أشرف وأخصر من غيره المأخوذ فيه وجود الممكن أو الحادث أو المتحرّك شاهدا عليه ؛ انتهى.

وأنت خبير بأنّ هذا الوجه في غاية الفساد ، ولا يقبل الاصلاح بوجه. لانّ الوجود الّذي يمكن أن يتوهّم تقدّمه على الوجوب وعلّيته له انّما هو الوجود الخاصّ الواجبي والاستدلال لم يقع به ، لانّه عين المطلوب ، بل الاستدلال انّما وقع من الموجود المشاهد المعيّن أو من طبيعة الموجود باعتبار تحقّقها في ضمن موجود معيّن مشاهد ، والبديهة قاضية بانّه ليس متقدّما على الموجود بما هو واجب ولا علّة للواجب بما هو واجب ، كيف وجميع الموجودات المعلومة المشاهدة وطبيعة الموجود من حيث تحقّقها في ضمنها معلولة للواجب ومتأخّرة عن تحقّقه؟! ؛ فكيف يجوز أن تكون متقدّمة عليه وعلة له؟!. على أنّ تأخّر الوجوب لذاته عن الوجود الواجبي وتأخّر الوجوب لغيره عن ساير الوجودات غير مسلّم ، لانّ كلّ وجود ما لم ينسدّ عنه جميع انحاء العدم ولم يصل حدّ الوجوب لم يتحقّق في الخارج ، فالوجوب في مرتبة نفس الأمر ـ أي : العقل الفعّال ـ أو الحال الّذي للشيء في حدّ ذاته بلا تعمّل ـ أي : الّذي يكون / ٢٥ DA / بحيث إذا لاحظه العقل السليم حكم به بالبديهة أو البرهان ـ مقدّم على الوجود.

وما ذكره هذا الفاضل في بيان معنى المقدّمة المشهورة كلام خال عن التحصيل ، لانّه لا شكّ أنّ اتصاف الشيء بالوجود ليس له توقّف على أن يلاحظ العقل اتصافه بالوجوب ، وليس دليل يدلّ عليه ، بل / ٢٥ MB / الدليل انّما يدلّ على انّه يتوقّف على اتصافه به في نفس الأمر. على انّه إذا لم يكن له اتصاف بالوجوب قبل الوجود في نفس الأمر ولم يتحقّق حينئذ وجوب لكونه نفيا لما لم يتحقّق بعد ـ أعني : الوجود ـ لم يمكن للعقل أن يصفه به إلاّ بتعمّل ؛ وكيف يمكن للعقل الصحيح أن يحكم بما ليس له تحقّق في الواقع ونفس الأمر؟! ؛ ولو حكم به تعمّلا لم يكن فيه فائدة ، لأنّ الأمور النفس الأمرية لا تختلف ولا تتفاوت بمجرّد فرض العقل خلافه.

فان قيل : مراد هذا الفاضل بمرتبة العقل هو نفس الأمر ، فيكون مراده انّ الوجوب متقدّم على الوجود في نفس الأمر ؛

١١٢

قلنا : فيصير حينئذ حكمه بتقدّم الوجود على الوجوب وكونه نعتا للوجود باطلا ، لأنّه إذا كان الوجوب مقدّما على الوجود في نفس الأمر فالوجود في أيّ مرتبة يكون مقدّما على الوجود ، إذ لا يتصوّر حينئذ مرتبة وطرف يثبت فيه تأخّر الوجوب عن الوجود ، لانّ الاتصاف بالوجوب قبل الوجود وبعده ليس إلاّ بمعنى واحد ووجه واحد. فاذا كان هو متقدّما على الوجود في نفس الأمر فان فرض تأخّره أيضا لزم تأخّره في نفس الأمر ، وهو تناقض.

قيل : انّ الوجوب إمّا نعت للوجود أو كيفية للنسبة ، وعلى التقديرين يلزم تأخّره عن الوجود ؛ أمّا على التقدير الأوّل فظاهر ، إذ تأخّر الوصف عن الموصوف لا يقبل المنع ، وأمّا على التقدير الثاني فلأنّ النسبة الّتي بين الطرفين ـ أعني : الذات والوجود ـ متأخّرة عن الطرفين ، فيكون متأخّرة عن أحد الطرفين الّذي هو الوجود ، ولا ريب أنّ كيفية النسبة متأخّرة عن نفس النسبة المتأخّرة عن الوجود ، فيكون تلك الكيفية ـ أعني : الوجوب ـ متأخرة عن الوجود بمرتبتين. وحينئذ ينبغي إمّا أن يقال : الوجود مقدّم على الوجوب في نفس الأمر وتأوّل المقدّمة المشهورة ، أو يقال : يتقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وتحمل المقدّمة المشهورة عليه ويلتزم تأخّر الوجوب عن الوجود في الخارج لتصحّ الوصفية ، أو كونه كيفية للنسبة.

وأجاب بعضهم : أمّا أوّلا : باختيار الشقّ الثاني وادعاء كون الوجوب وصفا لنفس النسبة ومنع كون نفس النسبة متأخّرة عن الطرفين ، إذ المتأخّر عن الطرفين انّما هو وجود النسبة ـ لأنّه الفرع لوجود الطرفين دون نفسها ـ ، فلا يلزم تأخّر الوجوب عن الوجود ؛

وأمّا ثانيا : باختيار الأوّل ومنع لزوم تأخّر مثل هذا النعت عن الموصوف ـ أعني : الوجود ـ ، لانّه إن ادّعى انّ الثبوت الرابطي من الوجوب للوجود متأخّر عن ثبوت الوجود في نفسه فغير مسلّم ، بل ثبوت الشيء للشيء مستلزم لثبوته في نفسه لا فرع له ـ على ما هو التحقيق ـ ، وإن ادّعى انّ الثبوت في نفسه للوجوب متأخّر عن الثبوت في نفسه للوجود فغير مسلّم أيضا ، إذ الثبوت في نفسه للوجوب انّما هو بمعنى

١١٣

ثبوت ما ينتزع منه إلى موصوفه ، فإذا كان موصوفه الوجود فهو أيضا ثبوته كثبوت الوجود ، فرجع معنى ثبوت الوجوب في نفسه إلى ثبوت الذات المتّصفة بوجوب الوجود في نفسه ، فلا يكون متأخّرا عن ثبوت الوجود ؛ انتهى.

وأنت تعلم إنّ الجواب الّذي ذكره هذا البعض على اختيار الشق الثاني في غاية السقوط! ، لأنّ نفس النسبة أيضا متأخّرة عن الطرفين ، لكونها فرعا لوجود الطرفين ـ لأنّه ما لم يتحقّق الطرفان لم تتصوّر نسبة بينهما ـ. ولو سلّم عدم تأخّرها عنهما وعدم كونها فرعا لوجودهما فلا ريب في أنّها لا تكون متقدّمة عليهما ، بل تكون في مرتبتهما ، فالوجوب الّذي وصف لهما يجب أن يكون متأخّرا عنها ، وإذا كان متأخّرا عنها يكون متأخّرا عما هو في مرتبتها(١) ـ أعني : أحد الطرفين الّذي هو الوجود ـ.

امّا الجواب الّذي ذكره على اختيار الشقّ الأوّل فما ذكره أوّلا من حديث الاستلزام وانكار القاعدة الفرعية للجواب عن صورة ادّعاء تاخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه محلّ الكلام ، وكونه أصحّ القولين غير معلوم ، وتحقيق القول فيه لا يليق بهذا المقام ؛

وما ذكره ثانيا للجواب عن صورة ادّعاء تأخّر ثبوت الوجوب في نفسه عن ثبوت الوجود في نفسه ، فحاصله : انّ الوجوب لمّا كان امرا اعتباريا انتزاعيا فليس له ثبوت على حدة كالصفات الحقيقية ، بل ثبوته انّما هو بمعنى ثبوت ما ينتزع عنه ـ كما هو الشأن في جميع الصفات الاعتبارية الانتزاعية ـ ، فمعنى ثبوت الوجوب في نفسه كمعنى ثبوت ساير الصفات الانتزاعية / ٢٥ DB / يرجع إلى ثبوت الذات المتّصفة به. ولمّا كان الوجود هنا هو الموصوف فمعنى ثبوته هو ثبوت الوجود في نفسه. وتلخيص الجواب على تقدير الادعاء الأوّل والثاني : انّ الوجود ليس إلاّ ذاتا بسيطة واحدة هي حقيقة الوجود الخاصّ ، والوجوب أمر انتزاعي له ، حمله عليه لا يقتضي / ٢٦ MA / التأخّر للاستلزام ، وليس له ثبوت في نفسه حتّى يلزم تأخّره للتعينية.

وأنت تعلم انّه يلزم على هذا أن لا يكون لشيء من الوجود والوجوب ـ سواء

__________________

(١) الاصل : ـ فالوجوب مرتبتها.

١١٤

كان لذاته أو لغيره ـ تقدّم وتأخّر على الآخر ، مع انّه هنا دلالتان متنافيتان إحداهما ـ وهي المقدّمة المشهورة ـ تدلّ على تقدّم الوجوب على الوجود في نفس الأمر وأخراهما ـ وهي كون الوجوب نعتا ـ تدل على العكس. وما ذكره هذا القائل يدلّ على أنّ كون الشيء نعتا ـ إذا كان انتزاعيا ـ لا يوجب تأخّره ، وبذلك يثبت التلازم والاتحاد في الوجود بين الوصف والموصوف. ولا ريب أنّه مخالف للدلالة الأولى ـ أعني : المقدّمة المشهورة ـ ، لاقتضائها تقدّم الوجوب ، وما ذكره لا يدفعها ولا يتخرّج منه جواب عنه.

فالحقّ في الجواب أن يقال : للموجود وجوبان : وجوب سابق ، ووجوب لاحق ، فالوجوب المقدّم على الوجود هو الوجوب السابق ، وليس هو نعتا للوجود لتقدّمه عليه وعلّيته له ـ وهو المراد من المقدّمة المشهورة ـ ، والوجوب الّذي هو نعت للوجود ومتأخّر عنه هو الوجوب اللاّحق. وإذا ثبت ذلك نقول : لا ريب في أنّ تقدّم الوجوب السابق على الوجود وتأخّر الوجوب اللاّحق عنه إنّما هو في الوجودات الامكانية ، ولا يتصوّر ذلك في واجب الوجود ، فانّ الوجوب فيه عين ذاته لا يتصوّر له تقدّم وتأخّر ، فالاستدلال بطبيعة الوجود على طبيعة الوجوب لو سلّم انّه استدلال من المتقدّم ـ أعني : الوجود ـ على المتأخّر ـ أعني : الوجوب ـ انّما يصحّ في الوجود والوجوب اللّذين للممكن دون الواجب ، لأنّ الاستدلال من وجود الواجب على وجوبه ليس استدلالا من المتقدّم على المتأخّر ، لأنّ الوجوب عين ذاته. مع أنّه وقع الاستدلال من الوجودات الامكانية ـ الّتي هي معلولات للواجب ـ على وجوب الوجود الّذي هو عين الواجب ، فأين ذلك من اللمّ؟!.

وبما ذكرنا ثبت وتحقّق انّ جميع براهين اثبات الواجب إنّية ولا يمكن الاستدلال عليه باللمّ.

ولكن هنا دقيقة لا بدّ أن يشار إليها ، وهو أن الأكثر علّلوا انتفاء طريق اللمّ في اثباته ـ تعالى ـ بانّه ـ تعالى ـ علّة لكلّ شيء بواسطة أو بدونها ، فبأيّ شيء استدلّ به عليه كان استدلالا من المعلول على العلّة ، فيكون إنّيا ولا يتصوّر طريق اللمّ.

١١٥

ويرد على هذا التعليل : انّ الثابت بالبرهان ليس إلاّ الوجود الرابطي لا الوجود الأصيل ، لانّ ما ثبت بالبرهان مطلقا يكون لا محالة مفادّا لقضية المستنتجة من مقدّماته ـ أعني : الحكم المطلوب ـ ، وحاصله إمّا ثبوت شيء لشيء أو نفيه عنه ـ أي : ثبوت الأكبر للأصغر أو نفيه عنه ـ ؛ ويقال لهذا الثبوت والنفي « الوجود والعدم الرابطيان » ، وأمّا ثبوت الأكبر في نفسه ـ أي : الوجود الأصيل ـ فليس مستفادا من القضية المذكورة ولا مستنتجا من البرهان.

وإذا كان الثابت بالبرهان هو وجوده الرابطي دون وجوده الأصيل ـ تعالى شأنه ـ فنقول : ما هو علّة لكلّ شيء انّما هو وجوده الأصيل ـ عزّ شأنه ـ لا وجوده الرابطي ، فيجوز أن يكون وجوده الرابطي معلولا لبعض الاشياء مع كون وجوده الأصيل علّة للجميع ؛ فتعليل الأكثر في إنّية هذه البراهين دون لمّيتها عليل ، لأنّ جميع هذه البراهين ـ سواء كان الربط فيها هو الموجود كما هو منهج الإلهيين ، أو المتحرّك كما هو طريقة الطبيعيين ، أو الحادث أو الممكن بشرط الحدوث كما هو مسلك المتكلّمين ـ لا يثبت منها إلاّ الوجودات الرابطية ـ أي : وجود موجد واجب بالذات للموجودات ومحرّك غير متحرّك للمتحرّكات ومحدث صانع للعالم ـ ، ولا دلالة لشيء منها على وجود اصيل بواحد من الموجد والمتحرّك والمحدث ، ولا يثبت برهان وجود أصيل لشيء مطلقا. فالعلّة في انية بعض البراهين ولمّية بعض آخر انّ الاوساط الّتي تؤخذ في البراهين إن كانت باعتبار النسبة الّتي بينها وبين الأصغر علّة للوجودات الرابطية الّتي هي مفاد البرهان في الواقع كما هي علّة لها(١) الذهن كانت البراهين لمّية ، وإلاّ كانت انية. والتحقيق أنّ شيئا من الأوساط المأخوذة في براهين اثبات الواجب باعتبار ثبوتها لموضوعاتها ليست علّة للوجودات الرابطية للواجب ـ تعالى ـ في الواقع ـ أعني : وجود موجد بالذات أو محرّك غير متحرّك أو محدث صانع للعالم ـ ، اذ لا تقدّم ذاتيا لكون الممكن موجودا أو متحرّكا أو حادثا على كونه ذا موجد أو ذا محرّك أو ذا محدث ، بل علّيتها له منحصرة في الذهن ؛ فلا ينعقد البرهان اللمّي على شيء من تلك المناهج.

__________________

(١) الاصل : كما هي عليها.

١١٦

فان قلت : إذا كان الحاصل من البراهين هو العلم بوجوده / ٢٦ MB / الرابطي ، فمن أين يحصل العلم بوجود الاصيل ـ تعالى شأنه ـ؟ ، مع انّا بعد تمام البرهان نقطع بوجوده الأصيل كما نقطع بوجوده الرابطي ؛

قلت : العلم بالوجود الأصيل بعد حصول العلم بالوجود الرابطي الّذي هو مقتضى البرهان انّما يحصل من انضمام مقدّمة خفية بديهية مركوزة في العقول إلى مقتضى البرهان ، فيترتّب معها ترتيبا سريعا خفيا يكون منتجا لهذا العلم ـ أي : العلم بوجوده الاصيل ـ. والظاهر انّ تلك المقدّمة / ٢٦ DA / الخفية هي ما ارتكز في العقول من أنّ الأمور العينية الّتي وجودها في أنفسها ممكن بالامكان العام إذا كانت معدومة في انفسها لا يمكن أن تكون موجودة لغيرها ، فاذا ثبت بالبرهان وجودها لغيرها انتقل الذهن بمعاونة هذه المقدّمة إلى وجودها في أنفسها أيضا من غير افتقار إلى تجشّم ترتيب المقدمات والاستنتاج. والظاهر انّ نظر من قال : الانتقال إلى الوجود الحقيقي انّما هو بالحدس لا بالاكتساب ، إلى ما قلناه ؛ وكذا نظر من قال : انّ الترتّب والانتاج لحصول هذا العلم انّما هو من قضايا قياساتها معها إلى ما ذكرناه ؛ لأنّ هذه القضايا هي القضايا المسمّاة « بالفطريات » ، المعرّفة « بقضايا يحكم بها العقل بواسطة لا يعزب عن العقل عند تصور الطرفين » ، كالحكم بأنّ الأربعة زوج ، لانقسامها بمتساويين ؛ هذا.

وقيل : حصول هذا العلم بعد حصول النتيجة من البرهان إنّما هو بطريق الاتّفاق كحصول التصديق بعد تصور الطرفين ؛ وهو كما ترى.

المنهج الثاني

منهج بعض الحكماء

وهو الاستدلال بمجرّد الامكان الوقوعي

والمراد به أن يكون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال ؛ والممكن بالامكان الذاتى اعمّ من أن يلزم من فرض وقوعه محال أم لا. وأنت خبير بأنّ ما مرّ من أدلّة الالهيين كانت مبتنية على اخذ الوجود بالفعل والاستدلال به على الواجب ؛

١١٧

والغرض من هذا المنهج أنّه يكفي الامكان الوقوعي والاستدلال عليه باجراء البراهين المذكورة من دون التمسّك بالوجود بالفعل(١) .

وتقريره : انّه لا شكّ في انّه يمكن أن يقع ممكن ما موجودا في الخارج ، وهذا الفرض لا يصحّ إلاّ مع وجود الواجب ـ تعالى شأنه ـ ، اذ لولاه لزم من فرض وجوده محال ، وهو الدور ـ إذ امكان وقوع موجود ما على هذا التقدير يتوقّف على امكان وقوع ايجاد ما وبالعكس ـ. أو نقول : وقوع طبيعة الموجود بما هو موجود يجب أن يكون بلا مبدأ وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ووقوع طبيعة الممكن بما هو ممكن لا بدّ له من مبدأ ، فلو انحصر الموجود الممكن الوقوع في الممكن لزم التناقض. أو نقول : مجموع الأفراد الّتي يمكن وقوعها لا بدّ له من علّة ولا يمكن أن تكون العلّة هي المجموع ولا جزئه ، بل يكون أمرا خارجا عنه ، فعلى فرض عدم الواجب يلزم أن لا يكون ذلك المجموع ممكنا بالامكان الوقوعي ، وقس على ما ذكر ساير البراهين.

قال بعض الافاضل : ولا يخفى عليك سخافة هذا المنهج ، اذ لا يمكن دعوى الامكان الوقوعي لممكن إلاّ من جهة العلم بوجوده ، إذ ما لم يعلم ذلك احتمل عند العقل أن يكون وقوعه مستلزما لمحال ، سيّما مع ما يتراءى من لزوم الدور وغيره من المفاسد. وإذا كان العلم من جهة العلم بوجوده فالتمسّك به لا بالوجود من قبيل ما اشتهر من الظرافات : انّ رجلا من المستظرفين هيّأ مجمعا من الرجال وقال : إنّي أعددت لكم دواء نافعا جدّا لاجل البراغيث أمنّ عليكم ببيعه منكم ؛ فبعد ما اشتروه منه بالالتماس والمنّة سألوه عن كيفية حاله وطريقة استعماله؟ ؛

فقال : طريقه أن يؤخذ البرغوث ويذر الدواء في عينه حتّى يصير أعمى! ؛

قالوا : انّا إذا أخذنا البرغوث فلم لم نقتله ونسترح من هذه الزحمة؟ ،

فقال : هذا أيضا يكون ، انتهى.

وما ذكره جيّد.

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ج ٢ ص ٤٤٨. حيث اخذ الامام في طريقة الامكان ـ التى هي عنده معتمد الحكماء ـ وجود الموجودات بالفعل.

١١٨

المنهج الثالث

من مناهج الحكماء ، منهج الطبيعيّين منهم

وهو النظر في طبيعة الحركة

والمنقول عنهم في اثبات الواجب على هذا المنهج طريقان :

الطريقة الأولى : هي أنّ كلّ متحرّك سواء كانت الحركة في ذاته ـ كالممكنات المنتقلة من الليسية الذاتية إلى الايسية ـ أو في صفاته ـ كالمتحرّكات في الوضع والأين وغيرهما من المقولات ـ يحتاج إلى محرّك ، لأنّ الحركة أمر حادث لا بدّ له من علّة ، واستناد كلّ حركة إلى محرّك من البديهيات العقلية. ولا يجوز أن يكون المحرّك عين المتحرّك ، لأنّ الشيء لا يجوز أن يكون محرّكا لنفسه ، فلا بدّ أن يكون المحرّك غير المتحرّك ويمتنع ذهاب سلسلة المحرّكات إلى غير النهاية ، فلا بدّ أن تنتهى سلسلة المحرّكات إلى محرّك أوّل غير متغيّر في صفاته / ٢٧ MA / ـ كالمتحرّك في المقولات المشهورة ـ ، ولا في ذاته ـ كالممكن المنتقل من الليس إلى الايس ـ. والمحرّك الأوّل الثابت الذات والصفات هو الواجب الحقّ ـ تعالى شأنه(١) ـ.

وأورد عليه : بانّ الانتقال من الليس إلى الأيس إن اريد به الانتقال من العدم الممتدّ الوجود ـ أي : الحدوث الزماني ـ ؛ ففيه : انّ ذلك الانتقال ليس بحركة حقيقية ، إذ لا يوجد فيه التدريج المعتبر في الحركة ولو اصطلحوا على تسمية ذلك الانتقال مع كونه دفعيا حركة فلا مشاحة فيه ، إلاّ انّه بعينه هو / ٢٦ DB / الحدوث الّذي اعتبره المتكلّمون في طريقتهم ، فيرجع منهجهم إلى منهجهم. وإن اريد به الانتقال من العدم الصرف إلى الوجود ـ أي : الحدوث الدهري ـ أو الانتقال ممّا ثبت للممكن بالذات ـ أعني : عدم اقتضاء الوجود ـ إلى ما ثبت له بالغير ـ أعني : اقتضاء الوجود ـ ؛ ففيه : مع عدم كونه

__________________

(١) راجع : المباحث المشرقية ، ج ٢ ص ٤٥١ ؛ شوارق الالهام ، ج ٢ ص ٤٩٥ ؛ الحكمة المتعالية ، ج ٦ ص ٤٢.

١١٩

حركة أنّه يرجع إلى الايجاد الّذي اعتبره الالهيون ، فيرجع طريقة النظر في الحركة إلى طريقة النظر في الوجود ، ومجرّد تغيّر الألفاظ لا توجب الاختلاف في المعنى. وحينئذ فتتميم الحركة المأخوذة في الدليل بحيث يتناول الانتقال من الليس إلى الايس غير صحيح ، بل اللازم أن يحذف ذلك ويخصّ الحركة بالحركة في المقولات المشهورة ؛

وحينئذ يرد عليه : انّا لا نسلّم انّ ما ينتهى إليه سلسلة الحركات ـ أعني : المحرّك الأوّل ـ يجب أن يكون واجب الوجود بالذات وثابت الذات والصفات ، لجواز أن يكون ذلك المحرّك قديما آخر غير الواجب لم تكن له الحركة في المقولات الّتي سمّوها الحركة في الصفات ، وإن كان من العدم إلى الوجود لجسم أو جسماني ساكن غير متحرّك في مقولة أو نفس أو عقل ، فالحركة الأولى الكلّية أنّى تنتهي إليها سلسلة الحركات ـ أعني : الحركة الفلكية ـ يجوز أن يكون محرّكها هو طبيعة الفلك أو النفس الفلكية أو واحد من العقول. والحقّ أنّه لا يجوز أن تكون الحركة الفلكية طبيعية ولا مستندة إلى جسم ـ لما يأتي في طريقتهم الثانية ـ ، ولكن استنادها إلى النفوس الفلكية غير بعيد على ما ذهب إليه الحكماء ، إلاّ انّه يمكن أن يثبت المطلوب به ولكنّه يرجع إلى طريقتهم الثانية ، ويعرف حقيقتها.

الطريقة الثانية للطبيعيّين : إنّ حركات الأفلاك ليست مستندة إلى اجسامها ـ لامتناع كون الشيء محرّكا لنفسه ، نظرا إلى استحالة كون الشيء فاعلا وقابلا من جهة واحدة ، كما بيّن في موضعه ـ ، ولا يجوز أن تكون تلك الحركات قسرية ـ إذ الحركة القسرية إنّما تكون إلى الجهة المخالفة لمقتضى الطبع فحيث لا طبع ، كما يأتي ، فلا قسر ـ.

وأيضا : الحركة القسرية لا تكون إلاّ إلى الوسط أو من الوسط ويمتنع أن يتحرّك الفلك إلى الوسط أو إلى الفوق لكونه محدّدا لهما بمركزه ومحيطه ، بل حركته إنّما هو على الوسط ـ كما هو المشاهد المحسوس ـ ، فلا يكون قسرية. وأيضا : الحركة الأولى يجب أن تكون مبدعة لا بحركة ولا في زمان متقدّمة على جميع الحركات والحوادث بالطبع ، ولأجل ذلك لا يجوز أن تكون قديمة بالزمان ، لأنّ القديم بالزمان وان لم يسبقه العدم

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456