دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

دلائل الصدق لنهج الحق0%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420

دلائل الصدق لنهج الحق

مؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف:

ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420
المشاهدات: 190810
تحميل: 3865


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 190810 / تحميل: 3865
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء 3

مؤلف:
ISBN: 964-319-356-x
العربية

وأقول :

لا يخفى أنّ تفسيره للجواز بالإمكان الذاتي خطأ ظاهر ، فإنّ المراد بالجواز كما يظهر من دليلهم وكلماتهم هو الصحّة وعدم الامتناع أصلا حتّى بالغير.

فإنّا نقول أيضا بإمكان التكليف بما لا يطاق ذاتا ، وعدم كونه من الممتنعات الذاتية ،لكن نقول : إنّه ممتنع بالغير ، من حيث قبحه وكونه ظلما ومنافيا للحكمة(١) ، وهم لا يقولون بذلك.

وقد عرفت سابقا ما في قولهم : « لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء » ، وما في إنكارهم للحسن والقبح العقليّين(٢) .

وأمّا قوله : « أحدها : أن يمتنع الفعل لعلم الله بعدم وقوعه »

ففيه ما تقدّم أيضا من أنّ العلم وصدق الخبر تابعان للمعلوم ووقوع المخبر به ، لا متبوعان ، فلا يجعلان خلافهما ممتنعا لا يطاق(٣) .

وأمّا ما زعمه من أنّ القدرة مع الفعل ، فهو أحد السفسطات ، وستعرف ما فيه.

وقوله : « والتكليف بهذا جائز ، بل واقع إجماعا »

باطل لأمور :

الأوّل : إنّه عليه يلزم كذب قوله تعالى :( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ

__________________

(١) أوائل المقالات : ٥٦ ـ ٥٨.

(٢) انظر ردّ الشيخ المظفّر1 في ج ٢ / ٣٣٢ و ٣٥٣.

(٣) انظر ردّ الشيخ المظفّر1 في ج ٢ / ٣٥٣.

١٠١

وُسْعَها ) (١) ؛ لأنّ كلّ ما علم الله وأراد عدم وقوعه أو أخبر بعدمه ، ممتنع على ما زعم ، فإذا كان التكليف به جائزا وواقعا كان تكليفا بما لا يطاق ولا يسع المكلّف.

كما إنّ كلّ ما يقع بعلمه أو إخباره أو إرادته واجب حينئذ ، والواجب لا تتعلّق به الطاقة والوسع ، لعدم تيسّر عدمه.

فإذا كلّف الله سبحانه به كان أيضا تكليفا بما لا يطاق ، فيكون كلّ ما تعلّق به التكليف عندهم ممّا لا يطاق ، كما ذكره المصنّف ، وتكذب الآية كذبا كلّيّا.

وإن أبيت عن كون الواجب ممّا لا يسع ، فلا ريب أنّ الممتنع ليس ممّا يسع ، فتكذب الآية كذبا جزئيّا.

الثاني : إنّ دعوى الإجماع المذكور إن كانت على وقوع التكليف بما لا يطاق ـ كما هو ظاهر كلامه ـ فهي افتراء ؛ لما عرفت أنّ مذهب الإمامية والمعتزلة امتناعه(٢) ، وأنّ تعلّق علم الله تعالى وإخباره بالشيء لا يجعل نقيضه ممتنعا ، وأنّ إرادته التكوينية لم تتعلّق بأفعال العباد.

وإن كانت دعواه الإجماع على وقوع التكليف بأفعال البشر ـ بما هي لا تطاق عندهم وتطاق عندنا ـ كان إظهاره الإجماع على التكليف بما لا يطاق في المرتبة الأولى تدليسا.

الثالث : إنّ القول بوقوع التكليف بما لا يطاق في المرتبة الأولى مناف لعدم تجويز التكليف بما لا يطاق في المرتبة الثانية ؛ لأنّ المرتبة

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٨٦.

(٢) راجع الصفحة ٩٧ من هذا الجزء.

١٠٢

الأولى تكون حقيقة من الثانية إذا حصلت المخالفة للتكليف ؛ لأنّ المخالفة لا بدّ أن تكون بنقيض المطلوب ، فيكون التكليف بالمطلوب راجعا إلى التكليف بالجمع بينه وبين نقيضه ، بل قد يرجع إلى التكليف بالجمع بين الضدّين أيضا.

مثلا : إذا كلّف الكافر بالإيمان ، والحال أنّ كفره لازم لتعلّق الإرادة الإلهيّة به ، يكون مكلّفا بأن يجمع الضدّين : الإيمان والكفر ، والنقيضين : الإيمان وعدمه ، وكلاهما ممتنع لنفس مفهومه.

وأمّا قوله : « فهذا محلّ النزاع »

ففيه ما لا يخفى ؛ لأنّه في المرتبتين الأوليين ـ أيضا ـ محلّ النزاع بيننا وبينهم.

أمّا الأولى : فلما عرفت أنّهم يجوّزونه فيها وقالوا بوقوعه ، ونحن نمنع من جوازه ووقوعه أصلا ؛ لأنّ محلّ التكليف مطاق عندنا في هذه المرتبة.

وأمّا الثانية : فلأنّا نمنع منه في غيرها ـ فضلا عنها ـ وهم يجوّزونه فيها ؛ لأنّهم يقولون ـ كما ذكر الخصم ـ : إنّ التكليف بهذا القسم الثاني فرع تصوّره ، فمن يقول بتصوّره لا يمنع من التكليف به ، ومن ينكر تصوّره لا يمنع من التكليف به من حيث هو ، وإنّما يمنع منه لعدم إمكان تصوّر الممتنع لذاته لا لعدم جواز التكليف بما لا يطاق.

ولا أدري كيف لا يمكن تصوّره ، فهل يمتنع تصوّره على الباري تعالى أو على عباده؟!

وأمّا تعليله لعدم الجواز في المرتبة الثانية بقوله : « التكليف بالممتنع طلب تحصيل ما لم يمكن بالذات » ، فممّا لا يرضى به الأشاعرة ؛ لأنّه ليس

١٠٣

مانعا عندهم بعد إنكارهم للحسن والقبح العقليّين ، وقولهم : « لا يقبح منه تعالى شيء »(١) .

فظهر أنّ تكلّف الخصم ـ تبعا للمواقف وشرحها(٢) ـ في بيان هذه المراتب ، ودعوى الفرق بينها ، لا يجديهم نفعا سوى تلبيس الحقيقة ، وإضاعة الحقّ وما ضرّهم لو سلكوا الصراط السوي ، واتّبعوا الكتاب المجيد؟!

* * *

__________________

(١) المسائل الخمسون : ٦١ ، تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٤٤ ، المواقف : ٣٢٨ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٨٢ ـ ٢٨٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٩٥.

(٢) المواقف : ٣٣٠ ـ ٣٣١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٠٠ ـ ٢٠٢.

١٠٤

إرادة النبيّ موافقة لإرادة الله

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

المطلب التاسع

في أنّ إرادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم موافقة لإرادة الله تعالى

ذهبت الإمامية إلى أنّ النبيّ يريد ما يريده الله تعالى ويكره ما يكرهه ، وأنّه لا يخالفه في الإرادة والكراهة(٢) .

وذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك ، وأنّ النبيّ يريد ما يكرهه الله تعالى ، ويكره ما يريده ؛ لأنّ الله تعالى يريد من الكافر الكفر ، ومن العاصي العصيان ، ومن الفاسق الفسوق ، ومن الفاجر الفجور ، والنبيّ أراد منهم الطاعات ، فخالفوا بين مراد الله تعالى وبين مراد النبيّ ، وأنّ الله كره من الفاسق الطاعة ومن الكافر الإيمان ، والنبيّ أرادهما منهما ، فخالفوا بين كراهة الله وكراهة نبيّه(٣) .

نعوذ بالله من مذهب يؤدّي إلى القول بأنّ مراد النبيّ يخالف مراد الله

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٠.

(٢) إنقاذ البشر من الجبر والقدر ـ المطبوع ضمن رسائل الشريف المرتضى ـ ٢ / ٢٣٦ ، مجمع البيان ٧ / ٣٩٩ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٨٥.

(٣) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٣١٠ ـ ٣١١ ، وانظر ج ٢ / ٣٦٥ من هذا الكتاب.

١٠٥

تعالى ، وأنّ الله تعالى لا يريد من الطاعات ما يريده أنبياؤه ، بل يريد ما أرادته الشياطين من المعاصي وأنواع الفواحش والفساد!

* * *

١٠٦

وقال الفضل (١) :

الإرادة قد تقال ويراد بها : الرضا والاستحسان ، ويقابلها السخط والكراهة ، وقد يراد بها الصفة المرجّحة والتقدير قبل الخلق ، وبهذا المعنى لا يقابلها الكراهة.

فالإرادة إذا أريد بها الرضا والاستحسان ، فلا شكّ أنّ مذهب الأشاعرة أنّ كلّ ما هو مرضيّ لله تعالى فهو مرضيّ لرسوله ، وكلّ ما هو مكروه عند الله مكروه عند رسوله.

وأمّا قوله : « ذهبت الأشاعرة إلى خلاف ذلك ، فإنّ النبيّ يريد ما يكرهه الله ويكره ما يريده ؛ لأنّ الله يريد من الكافر الكفر ، ومن المعاصي العصيان والنبيّ أراد منهم الطاعات »

فإن أراد بهذه الإرادة والكراهة الرضا والسخط ، فقد بيّنّا أنّه لم يقع بين إرادة الله وإرادة رسوله مخالفة قطّ.

وإن أراد أنّ الله يقدّر الكفر للكافر والنبيّ يريد منه الطاعة ، بمعنى الرضا والاستحسان ، فهذا صحيح ؛ لأنّ الله أيضا يستحسن منهم الطاعة ويريدها ، بمعنى يقدّرها.

والحاصل : إنّه يخلط بين المعنيين ويعترض ، وكثيرا ما يفعل في هذا الكتاب أمثال هذا ، والله يعلم المصلح من المفسد.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ١ / ٤٨٥ ـ ٤٨٦.

١٠٧

وأقول :

لا أعرف معنى للتقدير قبل الخلق ـ أي في الأزل ـ كما عبّر به سابقا ، إذ لا أزلي إلّا الله عندنا(١) ، وإلّا هو وصفاته عندهم(٢) .

ولعلّه يريد به الصفة المرجّحة على أنّ يكون عطفه عليها للتفسير ، كما يشهد له جعلهما في كلامه معنى واحدا ، لكنّ التعبير عن الصفة الذاتية بالتقدير ـ الذي هو فعل ـ غير مناسب.

وكيف كان فقوله : « لا شكّ أنّ كلّ ما هو مرضيّ لله تعالى فهو مرضيّ لرسوله » باطل ؛ لأنّ الله سبحانه لمّا كان عندهم مريدا لأفعال العباد ، خالقا لها ، لزم أن يكون راضيا بالموجود منها كارها للمعدوم ؛ لتوقّف إرادة الفعل بمعنى الصفة المرجّحة على الرضا به ، وتوقّف إرادة العدم على كراهة الفعل ، إذ بالإرادة يحصل الترجيح

والترجيح فرع الرضا بالراجح والكراهة للمرجوح

فيكون الله سبحانه راضيا بالكفر والمعاصي الموجودة ، كارها للإيمان والطاعات المفقودة ، والنبيّ بخلاف ذلك ، فيختلفان بالرضا والكراهة.

وحينئذ فعلى تقدير أن يريد المصنّف بالإرادة الرضا ، يكون كلامه

__________________

(١) شرح جمل العلم والعمل : ٥٠ ، تقريب المعارف : ٧٥ و ٨٣ ، المنقذ من التقليد ١ / ٧٠.

(٢) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٢٦ و ٣٢ و ٤٧ ، تمهيد الأوائل : ٤٨ ـ ٤٩ ، الملل والنحل ١ / ٨٢ ، المسائل الخمسون : ٤٣ ـ ٤٤ ، شرح المواقف ٨ / ٤٤ ـ ٤٥.

١٠٨

تامّا وما نسبه إلى الأشاعرة صحيحا.

وأمّا قوله : « وإن أراد أنّ الله تعالى يقدّر الكفر »

ففيه : إنّه لو فرض إرادة المصنّف له ، فهو يستلزم الرضا بالموجود والكراهة للمعدوم ، سواء أريد بالتقدير الصفة المرجّحة أم الفعل ؛ لتوقّف الصفة على الرضا والكراهة كما عرفت ، وتوقّف الفعل على الصفة ، وحينئذ يلزم المخالفة بين الله ورسوله بالرضا والكراهة ، كما عرفت.

* * *

١٠٩
١١٠

إنّا فاعلون

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

المطلب العاشر

في : إنّا فاعلون

اتّفقت الإمامية والمعتزلة على : « إنّا فاعلون » وادّعوا الضرورة في ذلك(٢) .

فإنّ كلّ عاقل لا يشكّ في الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية ، وإنّ هذا الحكم مركوز في عقل كلّ عاقل ، بل في قلوب الأطفال والمجانين.

فإنّ الطفل لو ضربه غيره بآجرة تؤلمه فإنّه يذمّ الرامي دون الآجرة ، ولو لا علمه الضروري بكون الرامي فاعلا دون الآجرة لما استحسن ذمّ الرامي دون الآجرة ، بل هو حاصل في البهائم.

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠١.

(٢) الذخيرة في علم الكلام : ٧٣ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٢ ، المنقذ من التقليد ١ / ١٥٠ ـ ١٥١ ، تجريد الاعتقاد : ١٩٩.

وانظر رأي المعتزلة في : المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٨ / ٣ و ١٣ ، شرح الأصول الخمسة : ٣٢٣ و ٣٣٦ ، المحيط بالتكليف : ٢٣٠ ، الملل والنحل ١ / ٣٩ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠.

١١١

قال أبو الهذيل : « حمار بشر أعقل من بشر(١) ؛ لأنّ حمار بشر إذا أتيت به إلى جدول كبير فضربته لم يطاوع على العبور ، وإن أتيت به إلى جدول صغير جازه ؛ لأنّه فرّق بين ما يقدر عليه ، وما لا يقدر عليه ، وبشر لم يفرّق بينهما ، فحماره أعقل منه »(٢) .

وخالفت الأشاعرة في ذلك وذهبوا إلى أنّه لا مؤثّر إلّا الله تعالى(٣) ، فلزمهم من ذلك محالات.

* * *

__________________

(١) هو : أبو عبدالرحمن بشر بن غياث المريسي ، فقيه حنفي متكلّم ، كان يقول بالإرجاء ، ومن اصحاب الرأي ، وله مقالات فاسدة ، توفّي ببغداد سنة ٢١٨ أو ٢١٩ ه‍.

انظر ترجمته في : تاريخ بغداد ٧ / ٥٦ رقم ٣٥١٦ ، معجم البلدان ٥ / ١٣٨ رقم ١١١٧٩ ، وفيات الأعيان ١ / ٢٧٧ رقم ١١٥.

(٢) منهاج السنّة النبوية ٣ / ١٠٨.

(٣) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧١ ـ ٧٢ ، الإبانة عن أصول الديانة : ١٢٦ ـ ١٣١ المسألة ١٩٤ ـ ٢٠٥ وص ١٤٢ ذيل المسألة ٢٢٦ وص ١٤٦ الجواب ٢٣٣ ، تمهيد الأوائل : ٣١٧ ـ ٣١٩ ، الإنصاف ـ للباقلّاني ـ : ٤٣ ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ٢ / ٩٩ ، الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ : ١١٥ الدعوى الرابعة ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٨٣ ، الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠ الفرقة الرابعة ، المسائل الخمسون : ٥٩ المسألة ٣٤ ، شرح العقائد النسفية : ١٣٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٣ و ٢٣٨ وما بعدها ، شرح المواقف ٨ / ١٤٥ ـ ١٤٦ و ١٧٣ ـ ١٧٤ ، شرح العقيدة الطحاوية : ١٢٠ ـ ١٢١ ؛ وانظر : خلق أفعال العباد ـ للبخاري ـ : ٢٥ ـ ٤٦.

١١٢

وقال الفضل (١) :

مذهب الأشاعرة : إنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ، وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله سبحانه أجرى عادته بأنّه يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله تعالى إبداعا وإحداثا ، ومكسوبا للعبد.

والمراد بكسبه إيّاه : مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو دخل في وجوده سوى كونه محلّا له ، وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري(٢) ، فأفعال العباد الاختيارية على مذهبه تكون مخلوقة لله تعالى مفعولة للعبد

فالعبد فاعل وكاسب ، والله خالق ومبدع هذا حقيقة مذهبهم.

ولا يذهب على المتعلّم أنّهم ما نفوا نسبة الفعل والكسب عن العبد حتّى يكون الخلاف في أنّه فاعل أو لا ، كما صدّر الفصل بقوله : « إنّا فاعلون » واعترض الاعتراضات عليه.

فنحن أيضا نقول : إنّا فاعلون ، ولكن هذا الفعل الذي اتّصفنا به هل هو مخلوق لنا أو خلقه الله فينا وأوجده مقارنا لقدرتنا واختيارنا ، وهذا شيء لا يستبعده العقل.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٥.

(٢) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧٢ ـ ٧٨ ، تمهيد الأوائل : ٣٤٢ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٥ و ١٤٦.

١١٣

فإنّ الأسود هو الموصوف بالسواد ، والسواد مخلوق لله تعالى ، فلم لا يجوز أن يكون العبد فاعلا ويكون الفعل مخلوقا لله تعالى؟!

ودليل الأشاعرة : إنّ فعل العبد ممكن في نفسه ، وكلّ ممكن مقدور لله تعالى ؛ لشمول قدرته ـ كما ثبت في محلّه ـ ، ولا شيء ممّا هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد ؛ لامتناع اجتماع قدرتين مؤثّرتين على مقدور واحد ؛ لما هو ثابت في محلّه.

وهذا دليل لو تأمّله المتأمّل يعلم أنّ المدّعى حقّ صريح ، ولا شكّ أنّ الممكن ، إذا صادفته القدرة القديمة المستقلّة توجده ، ولا مجال للقدرة الحادثة.

والمعتزلة اضطرّتهم الشبهة إلى اختيار مذهب رديء ، وهو إثبات تعدّد الخالقين غير الله تعالى في الوجود ، وهذا خطأ عظيم واستجراء كبير ، لو تأمّلوا قباحته لارتدعوا منه كلّ الارتداع ، كما سنبيّن لك إن شاء الله تعالى في أثناء هذه المباحث.

ثمّ إنّ مذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية ، أنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب ، بل باختيار ، ولهم في اختيار هذا المذهب طرق

منها : ما اختاره أبو الحسين(١) من مشايخهم وذكره هذا الرجل ،

__________________

(١) هو : محمّد بن علي بن الطيّب البصري ، شيخ المعتزلة ، وصاحب التصانيف الكلامية ، بصري سكن بغداد ودرس فيها الكلام إلى حين وفاته سنة ٤٣٦ ه‍ ، ولم تذكر أيّ من المصادر تاريخا لولادته ، إلّا إنّه قيل : قد شاخ.

له تصانيف عديدة ، منها : المعتمد في أصول الفقه ـ ومنه أخذ فخر الدين الرازي كتاب « المحصول » ـ ، تصحيح الأدلّة ، شرح الأصول الخمسة ، كتاب في

١١٤

وهو : ادّعاء الضرورة في إيجاد العبد فعله ، ويزعم أنّ العلم بذلك ضروري لا حاجة به إلى الاستدلال(١) .

وبيان ذلك : إنّ كلّ فاعل يجد من نفسه التفرقة بين حركتي المختار والمرتعش ، وإنّ الأوّل مستند إلى دواعيه واختياره ، وإنّه لولا تلك الدواعي والاختيار لم يصدر عنه شيء ، بخلاف حركة المرتعش ، إذ لا مدخل فيه لإرادته ودواعيه.

وجعل أبو الحسين ومن تابعه من الإمامية إنكار هذا سفسطة مصادمة للضرورة(٢) كما اشتملت عليه أكثر دلائل هذا الرجل في هذا المبحث.

والجواب : إنّ الفرق بين الأفعال الاختيارية وغير الاختيارية ضروري ، لكنّه عائد إلى وجود القدرة ، منضمّة إلى الاختيار في الأولى وعدمها في الثانية ، لا إلى تأثيرها في الاختيارية وعدم تأثيرها في غيرها(٣) .

والحاصل : إنّا نرى الفعل الاختياري مع القدرة ، والفعل الاضطراري بلا قدرة ، والفرق بينهما يعلم بالضرورة ، ولكن وجود القدرة مع الفعل الاختياري لا يستلزم تأثيرها فيه ، وهذا محلّ النزاع ، فتلك التفرقة التي تحكم بها الضرورة لا تجدي للمخالف نفعا.

__________________

الإمامة ، وغير ذلك.

انظر : تاريخ بغداد ٣ / ١٠٠ رقم ١٠٩٦ ، وفيات الأعيان ٤ / ٢٧١ رقم ٦٠٩ ، لسان الميزان ٥ / ٢٩٨ رقم ١٠٠٩ ، شذرات الذهب ٣ / ٢٥٩ حوادث سنة ٤٣٦ ه‍ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٥١٨ رقم ١٤٧٦٢.

(١) الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠.

(٢) المواقف : ٣١٣.

(٣) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٥٢.

١١٥

ثمّ إنّ دعوى الضرورة في إثبات هذا المدّعى باطل صريح ؛ لأنّ علماء السلف كانوا بين منكرين لإيجاد العبد فعله ، ومعترفين مثبتين له بالدليل.

فالموافق والمخالف له اتّفقوا على نفي الضرورة عن هذا المتنازع فيه ، لا التفرقة بالحسّ بين الفعلين ، فإنّه لا مدخل له في إثبات المدّعى ؛ لأنّه مسلّم بين الطرفين ، فكيف يسمع نسبة كلّ العقلاء إلى إنكار الضرورة فيه؟!

وأيضا : إنّ كلّ سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه ، علم أنّ إرادته للشيء لا تتوقّف على إرادته لتلك الإرادة ، وأنّه مع الإرادة الجازمة منه الجامعة يحصل المراد ، وبدونها لا يحصل ، ويلزم منها : إنّه لا إرادة منه ولا حصول الفعل عقيبها ، وهذا ظاهر للمنصف المتأمّل ، فكيف يدّعي الضرورة في خلافه(١) ؟!

فعلم أنّ كلّ ما ادّعاه هذا الرجل من الضرورة في هذا المبحث فهو مبطل فيه.

* * *

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٥٢ ـ ١٥٣.

١١٦

وأقول :

قوله : « نحن أيضا نقول : إنّا فاعلون »

مغالطة ظاهرة ؛ لأنّ فعل الشيء عبارة عن إيجاده والتأثير في وجوده ، وهم لا يقولون به ، وإنّما يقولون : إنّا محلّ لفعل الله سبحانه(١) ، والمحلّ ليس بفاعل ، فإنّ من بنى في محلّ بناء لا يقال : إنّ المحلّ بان ، وفاعل ؛ نعم ، يقال : مات وحيي ونحوهما ، وهو قليل.

وقوله : « وهذا شيء لا يستبعده العقل »

مكابرة واضحة ؛ لأنّ المشاهد لنا صدور الأفعال منّا لا مجرّد كوننا محلّا ، كما تشهد به أعمال الأشاعرة أنفسهم فإنّهم يجتهدون في تحصيل غاياتهم كلّ الاجتهاد ، ولا يكلونها إلى إرادة الله تعالى ، وتراهم ينسبون الخلاف بينهم وبين العدلية إلى الطرفين ، ويجعلون الأدلّة والردود من آثار الخصمين ، ويتأثّرون كلّ التأثّر من خصومهم ، وينالونهم بما يدلّ على إنّ الأثر في المخاصمة لهم

فكيف يجتمع هذا مع زعمهم أنّا محلّ صرف؟!

وأمّا قياس ما نحن فيه على الأسود فليس في محلّه ، إذ ليس السواد متعلّقا لقدرة العبد حتّى يحسن الاستشهاد به وقياس فعل العبد عليه!

وأمّا ما ذكره من دليل الأشاعرة ، فإن كان المراد بالمقدّمة القائلة : « كلّ ممكن مقدور لله تعالى » ، هو : أنّ كلّ ممكن مصدر قدرته تعالى حتّى أفعال

__________________

(١) اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧٢ ـ ٧٨ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٥ ـ ١٤٦.

١١٧

العباد ، فهو مصادرة ، ولا يلزم من إمكانها المبيّن في المقدّمة الأولى إلّا احتياجها إلى المؤثّر ، وجواز تأثير قدرة الله تعالى فيها ، لا تأثيرها فعلا بها.

وبهذا بطلت المقدّمة الثالثة ؛ لأنّه لم يلزم اجتماع قدرتين مؤثّرتين ، فإنّ التأثير عندنا لقدرة العبد في فعله ، وإنّما قدرة الله تعالى صالحة للتأثير فيه ، وأن تتغلّب على قدرة العبد.

ولسخافة هذا الدليل لم يشر إليه نصير الدينرحمه‌الله في « التجريد » ، ولا تعرّض له القوشجي الشارح الجديد.

وأمّا ما ذكره من أنّ المعتزلة اضطرّتهم الشبهة إلى اختيار مذهب رديء وهو : إثبات تعدّد الخالقين غير الله تعالى ، فهو منجرّ إلى الانتقاد على الله سبحانه حيث يقول في كتابه العزيز :( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (١) .

وقد مرّ أنّ الرديء هو إثبات تعدّد الخالقين المستقلّين بقدرتهم وتمام شؤون أفعالهم.

أمّا إثبات فاعل غير الله تعالى ، أصل وجوده وقدرته من الله تعالى ، وتمكّنه وفعله من مظاهر قدرة الله سبحانه وتوابع مخلوقيّته له ، فمن أحسن الأمور وأتّمها اعترافا بقدرة الله تعالى ، وأشدّها تنزيها له.

أترى أنّ عبيد السلطان إذا فعلوا شيئا بمدد السلطان يقال : إنّهم سلاطين مثله ، ويكون ذلك عيبا في سلطانه ، مع أنّ مددهم منه ليس كمدد العباد من الله تعالى ، فإنّ السلطان لم يخلق عبيده وقدرتهم ولا شيئا من

__________________

(١) سورة المؤمنون ٢٣ : ١٤.

١١٨

صفاتهم ، فكيف يكون القول : بأنّا فاعلون لأفعالنا رديّا منافيا لعظمة الله تعالى؟! واعلم أنّ الخلق لغة : الفعل والاختراع ، قال تعالى :( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) (١) ( وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ) (٢) .

نعم ، المنصرف منه عند الإطلاق فعل الله تعالى ، فتخيّل الخصم أنّه قد أمكنت الفرصة ، وهو من جهالاته! ولو كان مجرّد صحّة إطلاق الخالقين على العباد عيبا في مذهبنا لكان عيبا في قوله تعالى :( تَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) (٣) .

وكان إطلاق القادرين العالمين المريدين عليهم أولى بالعيب في مذهبهم ؛ لأنّ القدرة والعلم والإرادة صفات ذاتية لله تعالى ، زائدة على ذاته بزعمهم(٤) كزيادتها على ذوات العباد.

فكيف يشركون فيها معه البشر ، ويثبتون القادرين المريدين العالمين غير الله؟!

نعم ، لا ريب عند كلّ عاقل برداءة القول بقدماء شركاء لله في القدم ، محتاج إليهم في حياته وبقائه وأفعاله وعلمه حتّى بذاته ، كما هو مذهب الأشاعرة.

وما بالهم لا يستنكرون من إثبات الملك لأنفسهم كما يثبتونه لله تعالى فيقولون : الله مالك ونحن مالكون؟!

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ١١٠.

(٢) سورة العنكبوت ٢٩ : ١٧.

(٣) سورة المؤمنون ٢٣ : ١٤.

(٤) راجع ج ٢ / ٢٦٧ ومصادر الهامش رقم ٤.

١١٩

وأمّا ما ذكره من الجواب عن دعوى الضرورة ، فممّا تكرّر ذكره في كتبهم ، وهو ظاهر الفساد ؛ لأنّ الضرورة كما تحكم بوجود القدرة والاختيار في الحركات الاختيارية ، تحكم بتأثير القدرة فيها ، وأنّا فاعلون لها ، ولذا يذمّ الطفل الرامي لعلمه الضروري بأنّه مؤثّر ، كما بيّنه المصنّفرحمه‌الله .

على أنّه لو لم يكن للقدرة تأثير لم يعلم وجودها ، إذ لا دليل عليها غيره ، ومجرّد الفرق بين الحركات الاختيارية والاضطرارية لا يقضي بوجودها ؛ لاحتمال الفرق بخصوص الاختيار وعدمه.

فإن قلت : الاختيار هو الإرادة ، وهي : عبارة عن الصفة المرجّحة لأحد المقدورين ، فيكون وجود الاختيار مستلزما لوجود القدرة.

قلت : المراد أنّها مرجّحة في مورد حصول القدرة لا مطلقا حتّى يلزم وجودها ، على أنّه يمكن أن تكون مرجّحة لأحد مقدوري الله تعالى ، بأن يكون قد أجرى عادته على أنّ تكون إرادة العبد مخصّصة لأحد مقدوريه تعالى ، بأن يخلق الفعل عند خلقها.

هذا ، مضافا إلى أنّ إثبات القدرة بلا تأثير ليس إلّا كإثبات الباصرة للأعمى بلا إبصار ، وإثبات السامعة للأصمّ بلا إسماع! وكما إنّ القول بهذا مخالف للضرورة ، فالقول بوجود القدرة بلا تأثير كذلك.

وهل خلق القدرة ـ وكذا الاختيار ـ بلا تأثير إلّا من العبث؟! تعالى الله عنه.

نعم ، قد يرد على العدلية أنّ تأثير قدرة العبد في الأفعال الاختيارية ، وإن كان ضروريا ، إلّا إنّه أعمّ من أن يكون بنحو الاشتراك بينها وبين قدرة

١٢٠