دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٣

دلائل الصدق لنهج الحق0%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420

دلائل الصدق لنهج الحق

مؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف:

ISBN: 964-319-356-x
الصفحات: 420
المشاهدات: 190839
تحميل: 3865


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 190839 / تحميل: 3865
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء 3

مؤلف:
ISBN: 964-319-356-x
العربية

الله تعالى ، كما عن أبي إسحاق الإسفراييني(١) ، أو بنحو الاستقلال والإيجاب كما عن الفلاسفة(٢) ، أو بنحو الاستقلال والاختيار كما هو مذهب العدلية(٣) ، فمن أين يتعيّن الأخير؟!

وفيه : بعد كون المطلوب في المقام هو إبطال مذهب الأشاعرة ، وما ذكر كاف في إبطاله : إنّ مذهب الفلاسفة مثله في مخالفة الضرورة ؛ لأنّ وجود الاختيار وتأثيره من أوضح الضروريات.

على أنّ الإيجاب ينافي فرض وجود القدرة لاعتبار تسلّطها على الطرفين في القول الأحقّ ، ويمكن أن يحمل كلامهم على الإيجاب بالاختيار فيكون صحيحا.

وأمّا مذهب أبي إسحاق ، فظاهر البطلان أيضا ؛ لأنّ الله سبحانه منزّه عن الاشتراك في فعل الفواحش كنزاهته عن فعلها بالاستقلال ، ولأنّه يقبح بأقوى الشريكين أن يعذّب الشريك الضعيف على الفعل المشترك ، كما بيّنه إمامنا وسيّدنا الكاظمعليه‌السلام وهو صبي لأبي حنيفة(٤) .

__________________

(١) كما في محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٠ ، تلخيص المحصّل : ٣٢٥ ، مطارح الأنظار في شرح طوالع الأنوار : ١٩٠.

وقد مرّت ترجمة الإسفراييني في ج ٢ / ٥٩ ه‍ ١ ؛ فراجع.

(٢) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨٠ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٧ ، مطارح الأنظار في شرح طوالع الأنوار : ١٩٠ ، شرح العقيدة الطحاوية : ١٢٢.

(٣) الذخيرة في علم الكلام : ٨٤ و ٨٦ ، شرح جمل العلم والعمل : ٩٢ و ٩٦ ـ ٩٧ ، تجريد الاعتقاد : ٢٠٥.

وانظر رأي المعتزلة في : شرح الأصول الخمسة : ٣٢٥ و ٣٦٢ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٨١ ، شرح المواقف ٨ / ١٤٦.

(٤) انظر ذلك مثلا في : التوحيد ـ للصدوق ـ : ٩٦ ب‍ ٥ ح ٢ ، الأمالي ـ للصدوق ـ : ٤٩٤ ح ٦٧٣ المجلس ٦٤ ، مناقب آل أبي طالب ٤ / ٣٣٩ ، الاحتجاج ٢ / ٣٣١ ح ٢٦٩ ، أعلام الدين : ٣١٨.

١٢١

وأمّا ما زعمه من إبطال دعوى الضرورة بقوله : « لأنّ علماء السلف كانوا منكرين » إلى آخره

ففيه : إنّ علماء السلف من العدلية إنّما ذكروا الأدلّة على المدّعى الضروري ، للتنبيه عليه لا لحاجته إليه ، ولذا ما زالوا يصرّحون بضروريّته ، مضافا إلى أنّ عادة الأشاعرة لمّا كانت على إنكار الضروريات ، احتاج منازعهم إلى صورة الدليل مجاراة لهم.

وأمّا قوله : « وأيضا : إنّ كلّ سليم العقل » إلى آخره

فتوضيحه : إنّ سليم العقل يعلم أنّ إرادته لا تتوقّف على إرادة أخرى ، فلا بدّ أن تكون إرادته من الله تعالى ، إذ لو كانت منه لتوقّفت على إرادة أخرى ؛ لتوقّف الفعل الاختياري على إرادته ، فيلزم التسلسل في الإرادات ، وهو باطل.

فإذا كانت إرادته من الله تعالى وغير اختيارية للعبد ، لم يكن الفعل من آثار العبد وقدرته ، بل من آثار الله تعالى ، لوجوب حصول الفعل عقيب الإرادة المتعلّقة به ، الجازمة الجامعة للشرائط ، المخلوقة لله تعالى ، فلم تكن إرادة العبد ولا حصول الفعل عقيبها من آثار العبد ، بل من الله تعالى.

وفيه : إنّ عدم احتياج الإرادة إلى إرادة أخرى ، لا يدّل على عدم كونها من أفعال العبد المستندة إلى قدرته ، فإنّ تأثير قدرته في الفعل لا يتوقّف ذاتا على الإرادة ، ولذا كان الغافل يفعل بقدرته وهو لا إرادة له ، وكذا النائم.

وإنّما سمّي الفعل المقدور اختياريا لاحتياجه غالبا إلى الإرادة والاختيار ، فتوهّم من ذلك اشتراط سبق الإرادة في كلّ فعل مقدور ، وهو

١٢٢

خطأ.

وبالجملة : فعل العبد المقدور نوعان : خارجي ، كالقيام والقعود ونحوهما ؛ وذهني ، وهو أفعال القوى الباطنة ، كالإرادة والعلم والرضا والكراهة ونحوها.

والأوّل مسبوق بالإرادة إلّا نادرا كفعل الغافل والنائم ،والثاني بالعكس ، والجميع مقدور ومفعول للعبد ، ولذا كلّف الإنسان عقلا وشرعا بالمعرفة ، ووجب عليه الرضا بالقضاء ، وورد العفو عن النيّة

وقال تعالى :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (١)

وقال سبحانه :( بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ) (٢)

وقال تعالى :( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ) (٣)

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّما لكلّ امرئ ما نوى »(٤)

وقال : «نيّة المرء خير من عمله »(٥) .

__________________

(١) سورة الأنفال ٨ : ٥٣.

(٢) سورة يوسف ١٢ : ٨٣.

(٣) سورة المائدة ٥ : ٣٠.

(٤) صحيح البخاري ١ / ٢ ح ١ وص ٣٧ ح ٥٣ وج ٣ / ٢٩٠ ح ١٣ وج ٨ / ٢٥٢ ح ٦٣ وج ٩ / ٤٠ ح ١ ، صحيح مسلم ٦ / ٤٨ ، سنن أبي داود ٢ / ٢٦٩ ح ٢٢٠١ ، سنن ابن ماجة ٢ / ١٤١٣ ح ٤٢٢٧ ، سنن الترمذي ٤ / ١٥٤ ح ١٦٤٧ ، سنن النسائي ١ / ٥٩ ، مسند أحمد ١ / ٢٥ ، تهذيب الأحكام ١ / ٨٣ ح ٢١٨ وج ٤ / ١٨٦ ح ٥١٩ ، الأمالي ـ للطوسي ـ : ٦١٨ ح ١٢٧٤ ، دعائم الإسلام ١ / ١٥٦.

(٥) المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ٦ / ١٨٥ ح ٥٩٤٢ ، حلية الأولياء ٣ / ٢٥٥ ، تاريخ بغداد ٩ / ٢٣٧ ، إحياء علوم الدين ٥ / ٢٧٠ ، فردوس الأخبار ٢ / ٣٧٣ ح ٧٠٩٦ و ٧٠٩٧ ، أصول الكافي ٢ / ١١٢ ح ١٦٦٩ ، المحاسن ١ / ٤٠٥ ح ٩١٩ ، الهداية ـ للصدوق ـ : ٦٢.

١٢٣

ويشهد لكون الإرادة من الأفعال المستندة إلى قدرة العبد ؛ أنّ الإنسان قد يتطلّب معرفة صلاح الفعل ليحدث له إرادة به ، وقد يتعرّف فساده بعد وجودها فيزيلها بمعرفة فساده ، وإن كانت جازمة فإنّها قد تكون فعلية والمراد استقباليا ، فالقدرة في المقامين على الإرادة حاصلة من القدرة على أسبابها كسائر أفعال القلب ، فكلّ فعل باطني مقدور للإنسان حدوثا وبقاء وزوالا.

فثبت أنّ الإرادة ومقدّماتها ـ أعني : تصوّر المراد والتصديق بمصالحه والرضا به من الجهة الداعية إليه ـ مقدورة للعبد ، ومن أفعاله المستندة إليه.

نعم ، ربّما يكون بعض مقدّمات الإرادة من الله تعالى ، وبذلك تحصل الإعانة من الله تعالى لعبده ، كما تحصل بتهيئة غيرها من مقدّمات الفعل ، وعليه يحمل

قول إمامنا الصادقعليه‌السلام : «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين »(١) .

فإنّه لا يبعد أنّ المراد بالأمر بين الأمرين دخل الله سبحانه في أفعال العباد ، بإيجاد بعض مقدّماتها ، كما هو واقع في أكثر المقدّمات الخارجية ، التي منها تهيئة المقتضيات ورفع الموانع.

فحينئذ لا يكون العبد مجبورا على الفعل ولا مفوّضا إليه بمقدّماته ، وبذلك يصحّ نسبة الأفعال إلى الله تعالى.

فإنّ فاعل المقدّمات ، لا سيّما الكثيرة القريبة إلى الفعل قد يسمّى

__________________

(١) الكافي ١ / ١٧٩ ح ٤٠٦ ، عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ١ / ١٤١ ، التوحيد ـ للصدوق ـ : ٣٦٢ ح ٨ ، الاحتجاج ٢ / ٤٩٠.

١٢٤

فاعلا له ، وعليه يحمل ما ظاهره إسناد أفعال العباد إلى الله تعالى ، كبعض آيات الكتاب العزيز(١) .

والله وأولياؤه أعلم.

* * *

__________________

(١) انظر : سورة البقرة ٢ : ٢٥٣ ، سورة الرعد ١٣ : ١٦ ، سورة الصافّات ٣٧ : ٩٦ ، سورة الزمر ٣٩ : ٦٢.

١٢٥

قال المصنّف ـ زاد الله فضله عليه ـ (١) :

منها : مكابرة الضرورة ، فإنّ العاقل يفرّق بالضرورة بين ما يقدر عليه كالحركة يمنة ويسرة ، والبطش باليد اختيارا ، وبين الحركة الاضطرارية ؛ كالوقوع من شاهق ، وحركة المرتعش ، وحركة النبض ، ويفرّق بين حركات الحيوان الاختيارية وحركات الجماد.

ومن شكّ في ذلك فهو سوفسطائي ، إذ لا شيء أظهر عند العاقل من ذلك ولا أجلى منه.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٢.

١٢٦

وقال الفضل(١) :

قد عرفت جواب هذا في ما مرّ(٢) ، وقد ذكر هذا الرجل هذا الكلام ثمّ كرّره ، كما هو عادته في التكريرات القبيحة الطويلة الخالية عن الجدوى ؛ والجواب ما سبق.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٨.

(٢) راجع الصفحة ١١٣ فما بعدها.

١٢٧

وأقول :

مراد المصنّف رحمه‌الله سابقا هو : بيان مدّعى العدلية من كون العباد فاعلين بالضرورة(١) .

ومراده هنا : بيان ما يلزم الأشاعرة من مكابرة الضرورة ، غاية الأمر أنّه بيّن سابقا وجه الضرورة بيانا للمدّعى ، وهو ليس من التكرار.

وأمّا تطويله ، فهو لإيضاح الحجّة للعوامّ عسى أن يرتدع من له قلب.

وأمّا ما أشار إليه من الجواب بمجرّد وجود القدرة وعدمها من دون تأثير لوجودها ، فقد عرفت أيضا أنّه مخالف للضرورة ، فإنّ الضرورة كما تحكم بوجود القدرة تحكم بتأثيرها ، ولو لم يكن لها تأثير لم نعلم بوجودها ؛ لاحتمال الفرق بمجرّد وجود الاختيار وعدمه(٢) .

* * *

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ١١١.

(٢) تقدّم في الصفحة ١٢٠.

١٢٨

قال المصنّف ـ طاب ثراه ـ(١) :

ومنها : إنكار الحكم الضروري من حسن مدح المحسن وقبح ذمّه ، وحسن ذمّ المسيء وقبح مدحه.

فإنّ كلّ عاقل يحكم بحسن مدح من يفعل الطاعات دائما ولا يفعل شيئا من المعاصي ، ويبالغ بالإحسان إلى الناس ، ويبذل الخير لكلّ أحد ، ويعين الملهوف ، ويساعد الضعيف وإنّه يقبح ذمّه ، ولو شرع أحد في ذمّه باعتبار إحسانه عدّه العقلاء سفيها ، ولامه كلّ أحد ، ويحكمون حكما ضروريا بقبح مدح من يبالغ في الظلم والجور والتعدّي والغصب ونهب الأموال وقتل الأنفس ، ويمتنع من فعل الخير وإن قلّ ، وإنّ من مدحه على هذه الأفعال عدّ سفيها ولامه كلّ عاقل.

ونعلم ضرورة قبح المدح والذّم على كونه طويلا وقصيرا ، أو كون السماء فوقه والأرض تحته ، وإنّما يحسن هذا المدح والذمّ لو كان الفعلان صادرين عن العبد ، فإنّه لو لم يصدر عنه لم يحسن توجّه المدح والذمّ إليه.

والأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح والذمّ ، فلم يحكموا بحسن مدح الله تعالى على إنعامه ولا الثناء عليه ، ولا الشكر له ، ولا بحسن ذمّ إبليس وسائر الكفّار والظلمة المبالغين في الظلم ، بل جعلوهما متساويين

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٢.

١٢٩

في استحقاق المدح والذمّ(١) .

فليعرض العاقل المنصف من نفسه هذه القضية على عقله ، ويتّبع ما يقوده عقله إليه ، ويرفض تقليد من يخطئ في ذلك ويعتقد ضدّ الصواب ، فإنّه لا يقبل منه غدا يوم الحساب

وليحذر من إدخال نفسه في زمرة الّذين قال الله تعالى عنهم :( وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) انظر : نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٧٠ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٤ ، طوالع الأنوار : ٢٠٢.

(٢) سورة غافر ٤٠ : ٤٧.

١٣٠

وقال الفضل(١) :

حاصل ما ذكره في هذا الفصل : أنّ المدح والذمّ يتوجّهان إلى الأمور الاختيارية ، ويحسن مدح المحسن ويقبح ذمّه ، ويقبح مدح المسيء ويحسن ذمّه ، ولو لا أنّ تلك الأفعال باختيار الفاعل وقدرته لما كان فرق بين الأعمال الحسنة والسيّئة ، ولا يستحقّ صاحب الأعمال الحسنة المدح ولا صاحب الأعمال القبيحة الذمّ ، فعلم أنّ الأفعال اختيارية ، وإلّا يلزم التساوي المذكور ، وهو باطل.

والجواب : إنّ ترتّب المدح والذمّ على الأفعال ، باعتبار وجود القدرة والاختيار في الفاعل وكسبه ومباشرته للفعل ؛ أمّا أنّه لتأثير قدرته في الفعل ، فذلك غير ثابت ، وهو المتنازع فيه ، ولا يتوقّف ترتّب المدح والذمّ على التأثير ، بل يكفي وجود المباشرة والكسب في حصول الترتّب المذكور.

ثمّ ما ذكر أنّ المدح والذمّ لم يترتّب على ما لم يكن بالاختيار ، فباطل مخالف للعرف واللغة ، فإنّ المدح يعمّ الأفعال الاختيارية وغيرها بخلاف الحمد ، واختلف في الحمد أيضا.

وأمّا قوله : « والأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح »

إن أراد أنّهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقلي للمدح والذمّ المذكورين ، فذلك كذلك ؛ لأنّهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقلي أصلا.

وإن أراد نفي الحكم بحسن مدح الله تعالى وثنائه مطلقا ، فهذا من

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٩.

١٣١

مفترياته ، فإنّهم يحكمون بحسن مدح الله وثنائه ؛ لأنّ الشرع أمر به ، لا لأنّ العقل حكم به ، كما مرّ مرارا(١) .

* * *

__________________

(١) انظر ردّ الفضل بن روزبهان في ج ٢ / ٤١١ ـ ٤١٢.

١٣٢

وأقول :

لا ريب أنّ المدح والذمّ يتبعان حسن الأشياء وقبحها ، والحسن والقبح في الأفعال إنّما يكونان من حيث صدورها من فاعلها وتأثيره فيها بقدرته واختياره ، لا لذواتها ، ولذا لو صدر من النائم أو المكره فعل لم يمدح ولا يذمّ عليه.

وحينئذ فلا يصحّ تعلّق المدح والذمّ بالعبد بمجرّد جعل الله تعالى له محلّا لفعله من دون قدرة له على الامتناع ولا تأثير له في الفعل ، فلا وجه لجعل الكسب موجبا لترتّب مدح العبد وذمّه على الفعل ، فإنّه بأيّ معنى فسّر لم يصدر كأصل الفعل بقدرة العبد واختياره ، وما لم يصدر من العبد شيء لا يحسن مدحه أو ذمّه عليه.

وأمّا ما حكاه عن أهل اللغة من أنّ المدح يعمّ الأفعال الاختيارية وغيرها(١)

ففيه : إنّ مرادهم بالغير هو الصفات كصفاء اللؤلؤ ، لا ما يعمّ الأفعال التي تقع بلا قدرة واختيار ، فإنّه خلاف الضرورة.

ولكن على هذا يشكل ذكر المصنّف للطول والقصر ، وكون السماء فوقنا والأرض تحتنا ، فإنّها ليست من الأفعال حتّى يكون عدم المدح والذمّ عليها شاهدا للمدّعى.

__________________

(١) مثل الثناء على الشيء بما فيه من الصفات الجميلة ، خلقية كانت أو اختيارية ؛ انظر مادّة « مدح » في : المصباح المنير : ٢١٦ ، تاج العروس ٤ / ١٩٩.

١٣٣

ويمكن الجواب عنه : بأنّ مراده أنّهم إذا لم يجعلوا لجهة الصدور مدخلا في حسن المدح والذمّ وقبحهما ، كان اللازم عدم قبح المدح والذمّ على المثالين ونحوهما ممّا لم يصدر عن الإنسان ، وهو خلاف الضرورة.

وأمّا ما ردّد به في بيان مراد المصنّف بقوله : « الأشاعرة لم يحكموا بحسن هذا المدح والذمّ »

فخطأ ، إذ ليس شيء ممّا ذكره مرادا له ، وإنّما مراده أنّهم لمّا لم يجعلوا الأفعال صادرة من العبد ـ والحال كما عرفت أنّ لجهة الصدور في الأفعال مدخلا تامّا في استحقاق المدح والذمّ ، وفي حسنهما وقبحهما ـ لزمهم إنكار حسن مدح الله على إنعامه ، وذمّ إبليس والكافرين والظالمين ؛ لأنّ المدح والذمّ غير صادرين من العبد ، وهذا الإنكار خلاف الضرورة.

على أنّه لو أراد المصنّف ما ذكره الخصم أوّلا كان جديرا بالذكر والعجب

إذ كيف يدّعي عاقل أنّه ـ مع قطع النظر عن التكليف الشرعي ـ لا يحسن مدح الله على نعمائه وشكره على آلائه ، ولا يقبح مدح إبليس والكافرين ، وأنّه لا فرق عقلا بين هذين المدحين ، كما لا فرق أيضا بين مدح الله على نعمه وذمّه عليها ، ومدح الظالم على ظلمه وذمّه عليه؟!

فمن ادّعى ذلك كان حقيقا بأن يلحق في المجانين!

* * *

١٣٤

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

ومنها : إنّه يقبح منه تعالى حينئذ تكليفنا فعل الطاعات واجتناب المعاصي ؛ لأنّا غير قادرين على ممانعة القديم

فإذا كان فاعل فينا للمعصية هو الله تعالى لم نقدر على الطاعة ؛ لأنّ الله تعالى إن خلق فينا فعل الطاعة كان واجب الحصول وإن لم يخلقه كان ممتنع الحصول. ولو لم يكن العبد متمكّنا من الفعل والترك ، كانت أفعاله جارية مجرى حركات الجمادات ، وكما إنّ البديهة حاكمة بأنّه لا يجوز أمر الجماد ونهيه ومدحه وذمّه ، وجب أن يكون الأمر كذلك في أفعال العباد.

ولأنّه تعالى يريد منّا فعل المعصية ويخلقها فينا ، فكيف نقدر على ممانعته؟!

ولأنّه إذا طلب منّا أن نفعل فعلا ولا يمكن صدوره عنّا ، بل إنّما يفعله هو ، كان عابثا في الطلب ، مكلّفا لما لا يطاق ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٣.

١٣٥

وقال الفضل(١) :

هذه الشبهة اضطرّت المعتزلة إلى اختيار هذا المذهب ، وإلّا لم يجترئ أحد من المسلمين على إثبات تعدّد الخالقين في الوجود.

والجواب : إنّ تكليف فعل الطاعات واجتناب المعاصي باعتبار المحلّيّة لا باعتبار الفاعليّة ، ولأنّ العبد لمّا كانت قدرته واختياره مقارنة للفعل ، صار كاسبا للفعل ، وهو متمكّن من الفعل والترك ، باعتبار قدرته واختياره الموجب للكسب والمباشرة ، وهذا يكفي في صحّة التكليف ولا يحتاج إلى إثبات خالقيّته للفعل ، وهو محلّ النزاع(٢) .

وأمّا الثواب والعقاب المترتّبان على الأفعال الاختيارية ، فكسائر العاديّات المترتّبة على أسبابها بطريق العادة من غير لزوم عقلي والتجاء سؤال.

وكما لا يصحّ عندنا أن يقال : لم خلق الله الإحراق عقيب مسيس النار؟ ولم لا يصحّ ابتداء؟ فكذا ها هنا لا يصحّ أن يقال : لم أثاب عقيب أفعال مخصوصة ، وعاقب عقيب أفعال أخرى ، ولم لا يفعلها ابتداء ولم يعكس فيهما؟

وأمّا التكليف والتأديب والبعثة والدعوة ، فإنّها قد تكون دواعي العبد إلى الفعل واختياره ، فيخلق الله الفعل عقيبها عادة ، وباعتبار ذلك يصير

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٢.

(٢) انظر : شرح التجريد : ٤٤٤ ـ ٤٤٥.

١٣٦

الفعل طاعة ومعصية ، ويصير علامة للثواب والعقاب(١) .

ثمّ ما ذكره أنّه يلزم إذا كان الفاعل للمعصية فينا هو الله تعالى أنّا لا نقدر على الطاعة ، لأنّه إن خلق الطاعة كان واجب الحصول ، وإلّا كان ممتنع الحصول

فنقول : هذا يلزمكم في العلم لزوما غير منفكّ عنكم ؛ لأنّ ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور عن العبد وما علم الله وجوده فهو واجب الصدور عن العبد ، ولا مخرج عنهما لفعل العبد وأنّه يبطل الاختيار ، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع.

فيبطل حينئذ التكليف ؛ لا بتنائه على القدرة والاختيار بالاستقلال كما زعم.

فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء.

* * *

__________________

(١) انظر : شرح المواقف ٨ / ١٥٤.

١٣٧

وأقول :

من رأى تعبيره عن هذا الدليل بالشبهة يحسب أنّه يأتي في جوابه بالكلام الجزل والقول الفصل ، وإذا جاء إلى جوابه رآه بالخرافات أشبه! فإنّ كلّ ما ذكره لا يجعل متعلّق التكليف من آثار العبد ، فإنّ كلّ ما في الوجود بزعمهم مخلوق لله تعالى ، حتّى الكسب والمحلّيّة.

فمن أين يكون العبد مؤثّرا وموجدا حتّى يصحّ تكليفه؟!

وبالجملة : إن كان للعبد إيجاد وتأثير في متعلّق التكليف ، تمّ مطلوبنا ، وإلّا فالإشكال بحاله ، فيلزمهم تكليف العباد بما لا يطاق ، وما لا أثر لهم فيه أصلا وحصول العبث في الطلب.

وأمّا ما زعمه من أنّ الثواب والعقاب من العاديّات

ففيه ـ مع ما عرفت من إشكال حصول العلم بالعادة الغيبية ـ : إنّه لا يمكن أن يكون من عاديّات العادل الرحمن أن يعذّب عبده الضعيف على فعل هو خلقه فيه ، ولا أثر للعبد به بوجه ، فلا يقاس بخلق الإحراق عقيب مسيس النار.

وأمّا ما أشار إليه من الجواب عن العبث في الطلب بقوله : « وأمّا التكليف والتأديب والبعثة »

فخروج عن مذهبه ظاهرا ، إذ كيف يدعو التكليف والتأديب والبعثة العبد إلى الفعل والاختيار ، وهما من الله سبحانه ، ولا أثر للعبد فيهما أصلا عندهم؟!

وأمّا ما زعمه من الإلزام لنا بالعلم ، فممّا لا يرضى به عارف من

١٣٨

قومه فضلا عن غيرهم ؛ لما سبق من أنّ العلم تابع للمعلوم لا متبوع(١) ، وإلّا لما كان الله قادرا مختارا ؛ لأنّ ما علم وجوده واجب ، وما علم عدمه ممتنع ، على نحو ما ذكره في كلامه ، ومن الوهن بالإنسان أن يتعرّض للجواب عن مثل هذه الكلمات التي يعلم فيها مقصد صاحبها.

* * *

__________________

(١) راجع ج ٢ / ٣٥٤ ، وانظر الصفحة ١٠١ من هذا الجزء.

١٣٩

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

ومنها : إنّه يلزم أن يكون الله سبحانه أظلم الظالمين ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ؛ لأنّه إذا خلق فينا المعصية ولم يكن لنا فيها أثر ألبتّة ، ثمّ عذّبنا عليها وعاقبنا على صدورها منه تعالى فينا ، كان ذلك نهاية الجور والعدوان ، نعوذ بالله من مذهب يؤدّي إلى وصف الله تعالى بالظلم والعدوان.

فأيّ عادل يبقى بعد الله تعالى ، وأيّ منصف سواه ، وأيّ راحم للعبد غيره ، وأيّ مجمع للكرم والرحمة والإنصاف عداه ، مع أنّه يعذّبنا على فعل صدر عنه ، ومعصية لم تصدر منّا بل منه؟!!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٠٤.

١٤٠