دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٤

دلائل الصدق لنهج الحق0%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-357-8
الصفحات: 442

دلائل الصدق لنهج الحق

مؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف:

ISBN: 964-319-357-8
الصفحات: 442
المشاهدات: 92234
تحميل: 4146


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92234 / تحميل: 4146
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء 4

مؤلف:
ISBN: 964-319-357-8
العربية

وأقول :

أدلّة النهي عن المنكر عامّة للكبائر والصغائر بلا فرق ، ومجرّد العفو عن الصغيرة مع اجتناب الكبائر لا يخرجها عن كونها منكرا يجب النهي عنه ، ولا يجعلها بحكم المباح ، كما يجب نهي فاعل الكبيرة وإن علمنا أنّه يتوب بالأثر.

فإن قلت : النبيّ لا يتأذّى بشيء يعود إلى النهي عن المنكر.

قلت : كيف لا يتأذّى وقد منع عمّا رغب فيه ولا سيّما بالقسر ، وإن كان ربّما يرتفع الأذى في ما بعد لكنّه لا يجدي بعد أن كان الناهي فاعلا للإيذاء.

ثمّ إنّهم أجازوا على الأنبياء فعل الكبائر سهوا ، وهذا الدليل يبطله ، إذ إنّ المنكرات لا يراد وقوعها حتّى سهوا ، غاية الأمر أنّ الساهي غير معاقب في الآخرة ، وهو أمر آخر ، مع أنّه لا يعلم السهو غالبا إلّا بعد أن يعتذر الساهي به.

* * *

١٨١

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

ومنها : سقوط محلّه ورتبته عند العوامّ فلا ينقادون إلى طاعته ، فتنتفي فائدة البعثة.

ومنها : إنّه يلزم أن يكونوا أدون حالا من آحاد الأمّة ؛ لأنّ درجات الأنبياء في غاية الشرف ، وكلّ من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش ، كما قال تعالى :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ) (٢) ، والمحصن يرجم وغيره يحدّ ، وحدّ العبد نصف حدّ الحرّ.

والأصل فيه أنّ علمهم بالله أكثر وأتمّ ، وهم مهبط وحيه ومنازل ملائكته ، ومن المعلوم أنّ كمال العلم يستلزم كثرة معرفته والخضوع والخشوع فينا في صدور الذنب ، لكنّ الإجماع دلّ على أنّ النبيّ لا يجوز أن يكون أقلّ حالا من آحاد الأمّة.

ومنها : إنّه يلزم أن يكون مردود الشهادة ؛ لقوله تعالى :( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (٣) ، فكيف تقبل شهادته في الوحي؟!

ويلزم أن يكون أدنى حالا من عدول الأمّة ، وهو باطل بالإجماع!

ومنها : إنّه لو صدر عنه الذنب لوجب الاقتداء به ؛ لقوله تعالى :

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٥٧.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٠.

(٣) سورة الحجرات ٤٩ : ٦.

١٨٢

( وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (١) ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٢) ( فَاتَّبِعُونِي ) (٣) ، والتالي باطل بالإجماع ، وإلّا اجتمع الوجوب والحرمة.

* * *

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٩٢.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٢١.

(٣) سورة آل عمران ٣ : ٣١ ، وسورة طه ٢٠ : ٩٠.

١٨٣

وقال الفضل(١) :

قد سبق أنّ هذه الدلائل حجّة على من قال بجواز صدور الكبائر عنهم ، والإكثار من الصغائر حتّى يصير سببا لحطّ منزلتهم عند الناس ، وموجبا للإيذاء والتعنيف ، وترجيح الأمّة عليه(٢) .

وأمّا صدور الصغائر التي عفا الله عنها إذا كان على سبيل الندرة فغير ممتنع ، ولا تدلّ المعجزة على وجوب انتفاء شيء منها ، وكلّ هذه الدلائل قد ذكرناها في ما سلف(٣) ، وأنّ الأشاعرة ذكروها على سبيل الاستدلال على من يقول بجواز الكبائر ، وقد قدّمنا أنّ بعض تلك الأدلّة يدلّ على وجوب نفي الذنب عن الأنبياء مطلقا ؛ والله أعلم.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٧١.

(٢) انظر الصفحتين ٢١ و ٢٢ من هذا الجزء.

(٣) انظر الصفحة ٢٢ وما بعدها من هذا الجزء.

١٨٤

وأقول :

لا ريب أنّ الدليل الأوّل يثبت عصمتهم عن الكبائر والصغائر ، حال النبوّة وقبلها ، عمدا وسهوا ؛ لأنّ الذنب وإن قلّ وصغر يسقط محلّ المذنب ولو في الجملة ، ويمنع من الوثوق التامّ به والانقياد الكامل إليه حتّى مع العلم بسهوه ؛ لأنّ السهو يقع غالبا من التساهل ويجهل الناس سببه فتنتفي فائدة البعثة.

وبالجملة : النبيّ منار الدعوة إلى الله تعالى ، وباب طاعته ، فيجب أن يكون بريئا من كلّ عيب يمسّ مقام الدعوة ، ونقيّا من كلّ حزونة(١) لا تسهّل سبيل الطاعة ، فلا يجوز أن يصدر عنه ذنب أصلا.

وأمّا الدليل الثاني : فهو أيضا يثبت عصمتهم عن الذنوب مطلقا حتّى قبل النبوّة ؛ لأنّ معصية الكبير أكبر ، فلو عصوا كانوا أدون حالا من أداني الأمم ؛ لأنّ أصغر الصغائر من أعلى المكلّفين أكبر الكبائر من أدناهم حتّى مع السهو ؛ لأنّ التمييز بالمعرفة يستدعي المحافظة التامّة ، وبدونها يكون أدنى من الأداني ولو في الجملة ، وهو خلاف ضرورة العقل والملّيّين.

وأمّا الدليل الثالث : فهو يثبت عصمتهم عمّا ينافي العدالة حال النبوّة وقبلها عمدا وسهوا ، مع عدم العلم بسهوه ؛ لأنّ صدورها حينئذ

__________________

(١) الحزونة : الخشونة في النفس لما يحصل فيها من الغمّ على المجاز هنا ؛ انظر مادّة « حزن » في : لسان العرب ٣ / ١٥٩ ، تاج العروس ١٨ / ١٣٧.

١٨٥

يثبت فسقه ، والفاسق مردود الشهادة ، فكيف تقبل شهادته(١) بالوحي؟! ويلزم أن يكون أدون حالا من عدول الأمم إذا صدرت عمدا.

وأمّا الدليل الرابع : فهو يثبت عصمتهم عن الكبائر والصغائر عمدا وسهوا ، لكن حال النبوّة ، وإنّما جعل المصنّف هذا الدليل مستقلّا مع أنّه أحد شقّي الترديد في الدليل الذي ذكره سابقا بقوله : « ومنها : إنّه إذا فعل المعصية فإمّا أن يجب علينا اتّباعه » ؛ لأنّ الكتاب العزيز يقتضي تعيينه ، فذكره هنا معيّنا لذلك ، وذكره سابقا بنحو الترديد ؛ لأنّ المراد هناك بيان وجوه الاحتمال.

فثبتت من الأدلّة المذكورة عصمتهم عن الذنوب مطلقا ، وفي جميع الأحوال حتّى قبل النبوّة وإن اختصّ بعض تلك الأدلّة ببعض الذنوب ، وحينئذ فيبطل ما زعمه القوم جميعا من أنّه يجوز عقلا صدور الصغائر والكبائر عنهم عمدا وسهوا ، حال النبوّة وقبلها سوى الكذب في دعوى النبوّة وفي التبليغ كما سبق.

غاية الأمر أنّ أكثر الأشاعرة ـ على ما ادّعاه في « المواقف » ـ قالوا بعدم جواز تعمّدهم الكبائر للدليل السمعي في حال النبوّة خاصّة وإن جاز وقوعها عقلا(٢) .

هذا ، ولا نحتاج في مطلوبنا بعد هذه الأدلّة إلى دلالة المعجزة حتّى يقول الخصم : « ولا تدلّ المعجزة على وجوب انتفاء شيء منها ».

وأمّا قوله : « إنّ الأشاعرة ذكروها على سبيل الاستدلال »

__________________

(١) المراد هنا هو إخباره بالوحي ، فلن يقبل إخباره بالوحي مثلما لم تقبل شهادة الفاسق.

(٢) المواقف : ٣٥٩.

١٨٦

فمسلّم ؛ لذكر بعضهم لها تبعا لغيرهم ، لكن ما بالهم لم يتّبعوا دلالتها على وجوب العصمة عن الذنوب مطلقا كما عرفت؟!

والظاهر أنّ منشأه عدم التدبّر من وجه ؛ لأنّهم إنّما ذكروها تبعا ، والتعصّب لمذهب الأسلاف من وجه آخر ، كما يشهد له إقرار الخصم بدلالة بعضها على العصمة عن الذنوب مطلقا ومخالفته له في باقي كلماته.

ثمّ إنّه يدلّ على المطلوب أمور أخر ، يغني عن تطويل الكلام فيها ما عرفت ، وسيأتي بعضها في عصمة الإمام إن شاء الله تعالى ، كقوله تعالى :( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) ، وقوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٢٤.

(٢) سورة النساء ٤ : ٥٩.

١٨٧
١٨٨

نزاهة النبيّ

عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ(١) :

المبحث الثالث

في أنّه يجب أن يكون منزّها

عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات

ذهبت الإمامية إلى أنّ النبيّ يجب أن يكون منزّها عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات ، بريئا من الرذائل والأفعال الدالّة على الخسّة ، كالاستهزاء به والسخرية والضحك عليه(٢) ؛ لأنّ ذلك يسقط محلّه من القلوب ، وينفّر الناس عن الانقياد إليه ، فإنّه من المعلوم بالضرورة الذي لا يقبل الشكّ والارتياب.

وخالفت السنّة فيه

أمّا الأشاعرة فباعتبار نفي الحسن والقبح(٣) ، فلزمهم أن يذهبوا إلى

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٥٨.

(٢) تجريد الاعتقاد : ٢١٣ ـ ٢١٤ ، قواعد المرام : ١٢٧.

(٣) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٣ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٨٢ و ٢٨٣.

١٨٩

جواز بعثة ولد الزنا المعلوم لكلّ أحد

وأن يكون أبوه فاعلا لجميع أنواع الفواحش وأبلغ أصناف الشرك ، وهو ممّن يسخر به ويضحك عليه ويصفع في الأسواق ويستهزأ به ، ويكون قد ليط به دائما لأبنة فيه ، قوّادا.

وتكون أمّه في غاية الزنا والقيادة والافتضاح بذلك ، لا تردّ يد لامس

ويكون هو في غاية الدناءة والسفالة ممّن قد ليط به طول عمره ، حال النبوّة وقبلها ، ويصفع في الأسواق ، ويعتمد المناكير ، ويكون قوّادا بصّاصا(١) .

فهؤلاء يلزمهم القول بذلك حيث نفوا التحسين والتقبيح العقليّين ، وأنّ ذلك ممكن ، فيجوز من الله وقوعه ، وليس هذا بأبلغ من تعذيب الله من لا يستحقّ العذاب ، بل يستحقّ الثواب طول الأبد(٢) !

* * *

__________________

(١) البصّاصة : العين ، واستعيرت هنا لمن لا يغضّ بصره عن الحرمات ؛ انظر : لسان العرب ١ / ٤٢١ مادّة « بصص ».

(٢) انظر ج ٢ / ٣٥٦ من هذا الكتاب.

١٩٠

وقال الفضل(١) :

نعوذ بالله من هذه الخرافات والهذيانات وذكر الفواحش عند ذكر الأنبياء ، والدخول في زمرة :( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (٢) .

وكفى به إساءة الأدب أن يذكر عند ذكر الأنبياء أمثال هذه الترّهات ، ثمّ يفتري على مشايخ السنّة وعلماء الإسلام ما لا يلزم من قولهم شيء منه.

وقد علمت أنّ الحسن والقبح يكون بمعان ثلاثة :

أحدها : وصف النقص والكمال.

والثاني : الملاءمة والمنافرة.

وهذان المعنيان عقليّان لا شكّ فيه ، فإذا كان مذهب الأشاعرة أنّهما عقليّان ، فأيّ نقص أتمّ من أن يكون صاحب الدعوة موصوفا بهذه القبائح التي ذكرها هذا الرجل السوء الفحّاش ، وكأنّه حسب أنّ الأنبياء أمثاله من رعاع الحلّة ، الّذين يفسدون على شاطئ الفرات بكلّ ما ذكره!

نعوذ بالله من التعصّب ، فإنّه أورده النار!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٧٨.

(٢) سورة النور ٢٤ : ١٩.

١٩١

وأقول :

لا يخفى أنّ كون المعنى الأوّل عقليّا عندهم لا دخل له بالمقام ؛ لأنّ الكلام في جواز بعث الله سبحانه لصاحب الصفات المذكورة ، والبعث من أفعال الله تعالى لا صفاته حتّى يكون وصف نقص أو كمال ، وكون تلك الأمور نقصا في صاحب الدعوة مسلّم ، إلّا أنّ الكلام في جواز بعث الله للناقص ، الذي هو من أفعال الله تعالى التي لا تتّصف عندهم بالقبح أصلا كخلقه لسائر القبائح والفواحش.

وأمّا المعنى الثاني ، فهو وإن ثبت في الأفعال إلّا أنّ أفعال الله تعالى عندهم لا تعلّل بالأغراض ، فلا ملاءمة ولا منافرة فيها مع ما عرفت من الكلام في كونه عقليّا ، فراجع(١) .

وبالجملة : لو سلّم قولهم بالحسن والقبح العقليّين بهذين المعنيين لم يلزم عدم جواز بعث الله تعالى صاحب الأوصاف المذكورة ، بل يجوز عندهم بعث مثله ، إذ لا يقبح عندهم من الله سبحانه شيء وهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

وقد سبق أنّهم جوّزوا بعض المعاصي على الأنبياء ، بحجّة عدم دلالة المعجزة على امتناعه(٢) ، وهو آت في المنفّرات المذكورة.

ويدلّ على تجويزهم إرسال صاحب هذه الأوصاف أنّ صاحب

__________________

(١) راجع ج ٢ / ٤١٣ من هذا الكتاب.

(٢) انظر الصفحات ١٧ و ٢٨ وما بعدها من هذا الجزء.

١٩٢

« المواقف » وشارحها قالا : « ولا يشترط في الإرسال شرط من الأغراض(١) والأحوال المكتسبة بالرياضات والمجاهدة في الخلوات والانقطاعات ، ولا استعداد ذاتي ، من صفاء الجوهر وذكاء الفطرة كما يزعمه الحكماء ، بل الله يختصّ برحمته من يشاء من عباده ، فالنبوّة رحمة وموهبة متعلّقة بمشيئته فقط »(٢)

فإنّ قولهما : « بل الله يختصّ » إلى آخره ، دالّ على جواز بعث أيّ شخص كان ، فيجوز أن يكون النبيّ كما وصفه المصنّف إذا تعلّقت بإرساله المشيئة.

ومن العجب استدلال صاحب « المواقف » على عدم اشتراط الإرسال بشرط بقوله تعالى :( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) (٣) ، فإنّ الآية ظاهرة الدلالة أو صريحتها في أنّ صاحب الدعوة أهل في نفسه فيبعثه الله تعالى ؛ لعلمه بأهليّته وأنّه مستعدّ الذات.

ولذا أورد عليه الشارح بقوله : « وفي دلالة هذه الآية على المطلوب نوع خفاء »(٤) .

ويدلّ أيضا على تجويزهم إرسال صاحب النقائص المذكورة قول صاحب « المواقف » ، وشارحها أيضا ، في مقام عصمة الأنبياء ، قال :

« وأمّا قبله ـ أي قبل الوحي ـ فقال الجمهور ـ أي أكثر أصحابنا وجمع من المعتزلة ـ : لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة ، إذ لا دلالة للمعجزة

__________________

(١) كذا في المطبوع ، وفي المخطوط والمصدر : الأعراض.

(٢) المواقف : ٣٣٧ ، شرح المواقف ٨ / ٢١٨.

(٣) سورة الأنعام ٦ : ١٢٤.

(٤) شرح المواقف ٨ / ٢١٨.

١٩٣

عليه ، ولا حكم للعقل بامتناعها ، ولا دلالة سمعية عليه أيضا.

وقال أكثر المعتزلة : تمتنع الكبيرة وإن تاب عنها ؛ لأنّه ـ أي صدور الكبيرة ـ يوجب النفرة ، وهي تمنع عن اتّباعه فتفوت مصلحة البعثة ، ومنهم من منع عمّا ينفّر مطلقا ، أي سواء لم يكن ذنبا [ لهم ، أو كان ](١) كعهر الأمهات والفجور في الآباء ودناءتهم واسترذالهم »(٢) .

فإنّ هذا الكلام دالّ على اختصاص بعض المعتزلة بمنع المنفّرات المذكورة ، فيكون الأشاعرة وبعض المعتزلة مجوّزين لها.

فتحقّق أنّ ما نسبه المصنّف إليهم حقّ وصدق ، وأنّ القوم أولى بحبّ إشاعة الفاحشة في الّذين آمنوا ؛ لأنّهم أجازوا أن يكون النبيّ كما وصفه المصنّف رحمه الله تعالى ، بل نسبوا إليهم فواحش الأعمال وأشاعوها في كتبهم على ممرّ الأيام ، كرقص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بأكمامه ، وحضوره مجالس المغنّين والمغنّيات ، وضرب الدفوف(٣) ، وقوله في مدح الأصنام : تلك الغرانيق العلا(٤) إلى غير ذلك من المخزيات.

وأمّا المصنّفقدس‌سره فلم يقصد بذكر تلك الأوصاف الشنيعة إلّا الإنكار على القوم واستفظاع آرائهم ، ليرتدع من له قلب ، وناقل الكفر ليس بكافر ، فإساءة الأدب مع الأنبياء إنّما هي ممّن يجوّز فيهم أن يكونوا على تلك الفضائح ، لا ممّن يريد الردع عنه والإنكار عليه!

لكن الخصم لعجزه وحيرته يلوذ بهذه التهمة للمصنّف ، ويشهد

__________________

(١) أثبتناه من شرح المواقف.

(٢) شرح الأصول الخمسة : ٥٧٣ ، المواقف : ٣٥٩ ، شرح المواقف ٨ / ٢٦٥.

(٣) انظر الصفحتين ٧٤ و ٧٥ من هذا الجزء.

(٤) انظر الصفحة ١٨ من هذا الجزء.

١٩٤

لتحلّيه في هذا التنزّه المصطنع في إجلال مقام الأنبياء قوله سابقا في حقّ الله سبحانه ما هو أعظم وأشنع ، وهو أنّه مغلول اليد(١) ، معبّرا به عن تنزيه الإمامية لله تعالى عن فعل القبائح وعقاب من لا ذنب له وإن كان قادرا عليهما.

* * *

__________________

(١) انظر ج ٢ / ٣٩١ من هذا الكتاب.

١٩٥

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ(١) :

وأمّا المعتزلة ، فلأنّهم حيث جوّزوا صدور الذنب عنهم(٢) ، لزمهم القول بجواز ذلك أيضا ، واتّفقوا على وقوع الكبائر منهم كما في قصّة إخوة يوسف(٣) .

فلينظر العاقل بعين الإنصاف ، هل يجوز المصير إلى هذه الأقاويل الفاسدة والآراء الرديئة؟!

وهل يبقى مكلّف ينقاد إلى قبول قول من كان يفعل به الفاحشة طول عمره إلى وقت نبوّته ، وأنّه يصفع ويستهزأ به حال النبوّة؟!

وهل يثبت بقول هذا حجّة على الخلق؟!

واعلم أنّ البحث مع الأشاعرة في هذا الباب ساقط ، وأنّهم إن بحثوا في ذلك استعملوا الفضول ؛ لأنّهم يجوّزون تعذيب المكلّف على أنّه لم يفعل ما أمره الله تعالى به من غير أن يعلم ما أمر به ، ولا أرسل إليه رسولا ألبتّة ، بل وعلى امتثال ما أمره به

وأنّ جميع القبائح من عنده تعالى ، وأنّ كلّ ما وقع في الوجود فإنّه فعله تعالى وهو حسن ؛ لأنّ الحسن هو الواقع والقبيح هو الذي لم يقع.

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٦٢.

(٢) شرح المواقف ٨ / ٢٦٥.

(٣) شرح الأصول الخمسة : ٥٧٣ ، وانظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ٢ / ١١٦ ـ ١١٧ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٣٢٠ ـ ٣٢١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٦٥.

١٩٦

فهذه الصفات الخسيسة في النبيّ وأبويه تكون حسنة ؛ لوقوعها من الله تعالى ، فأيّ مانع من البعثة باعتبارها؟!

فكيف يمكن الأشاعرة منع كفر النبيّ وهو من الله تعالى ، وكلّ ما يفعله فهو حسن؟! وكذا أنواع المعاصي!

وكيف يمكنهم مع هذا المذهب التنزيه للأنبياء؟!

نعوذ بالله من مذهب يؤدّي إلى تحسين الكفر وتقبيح الإيمان وجواز بعثة من اجتمع فيه كلّ الرذائل والسقطات!

وقد عرفت من هذا أنّ الأشاعرة في هذا الباب قد أنكروا الضروريات.

* * *

١٩٧

وقال الفضل(١) :

استدلال المعتزلة على وقوع الكبائر من الأنبياء قبل البعثة بقصّة إخوة يوسف استدلال قويّ ؛ لأنّ الإجماع واقع على أنّ إخوة يوسف صاروا أنبياء بعد إلقاء يوسف في الجبّ ، وغيره من الذنوب التي لا شكّ أنّها كبائر.

وهذا الرجل ما تعرّض بجوابه إلّا بالفحش والخز عبلية(٢) واللّوذعية(٣) كالرعاع والأجلاف السوقية ، والمعتزلة يثبتون الوقوع(٤) ، وهو لا يقدر على الدفع ويبحث معهم في الجواز ، وهذا من غرائب أطواره في البحث.

ثمّ ما ذكر أنّ البحث مع الأشاعرة ساقط لأنّهم يجوّزون تعذيب الكفّار(٥) وغيره من الطامّات قد عرفت في ما سبق جواب كلّ ما ذكر ، وأنّ الحسن والقبح شرعيّان بمعنى ، وعقليّان بمعنيين(٦)

وعلمت أنّ كلّ ما ذكره ليس من مذهبهم ولا يرد عليهم شيء ، وأنّهم لا يخالفون ضرورة العقل.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٨٢.

(٢) الخزعبل : الباطل ، والخزعبل : الأحاديث المستطرفة التي يضحك منها ؛ انظر مادّة « خزعبل » في : لسان العرب ٤ / ٨٣ ، تاج العروس ١٤ / ١٩٨.

(٣) اللّوذعي : الحديد الفؤاد والنفس واللسان ، اللسن الفصيح ، الظريف الذهن ، الذكيّ ، كأنّه يلذع من ذكائه ؛ انظر مادّة « لذع » في : لسان العرب ١٢ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ، تاج العروس ١١ / ٤٣٢.

(٤) أثبته الجبّائي ومنعه القاضي عبد الجبّار ؛ انظر : شرح الأصول الخمسة : ٥٧٣.

(٥) كذا في الأصل ، وفي « إحقاق الحقّ » : « المكلّف » ، وهو المناسب.

(٦) انظر ج ٢ / ٣٣٠ و ٤١١ من هذا الكتاب.

١٩٨

وأقول :

لمّا كان الاستدلال على صدور الكبائر من الأنبياء قبل البعثة بقصّة إخوة يوسف ساقط جدّا ، اكتفى المصنّفرحمه‌الله في الجواب عنه بإثبات المحاليّة ، ولم يتعرّض لكلمة القائلين بنبوّتهم ودليلهم ، إذ لم يقل بها إلّا من لا عبرة به وبرأيه.

لكنّ الخصم على عادته وعادة أصحابه في التسامح بدعاوي الإجماعات ، قال : الإجماع على نبوّتهم واقع.

ويشهد لعدم الإجماع ما ذكره ابن حزم(١) إذ قال : « إنّ إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء ، ولا جاء قطّ في أنّهم أنبياء نصّ ، لا من قرآن ولا من سنّة صحيحة ، ولا من إجماع ، ولا من قول أحد من الصحابة ».

وقال القاضي عياض في « الشفاء » : « وأمّا قصّة يوسف وإخوته فليس على يوسف منها تعقّب ، وأمّا إخوته فلم تثبت نبوّتهم »(٢) .

ونقل ابن أبي الحديد(٣) عن المعتزلة : « إنّهم قالوا : يجب أن ينزّه النبيّ قبل البعثة عن الكفر والفسق ».

ثمّ نقل عن أبي محمّد بن متّويه(٤) أنّه قال : في كتاب « الكفاية » :

__________________

(١) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٤ / ٩ [ ٢ / ٢٩٤ ]. منهقدس‌سره .

(٢) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ / ١٦٤.

(٣) شرح النهج ٢ / ١٦٢ [ ٧ / ٨ ـ ١٠ ]. منهقدس‌سره .

(٤) هو أبو محمّد الحسن بن أحمد بن متّويه ، أخذ عن القاضي عبد الجبّار ، وله

١٩٩

« إنّ أهل العدل كلّهم منعوا من تجويز بعثة من كان فاسقا قبل النبوّة »(١) .

ثمّ قال : « وقال قوم من الأشعرية ومن أهل الظاهر وأرباب الحديث :

إنّ ذلك جائز واقع ، واستدلّوا بأحوال إخوة يوسف ، ومنع المانعون من ذلك من ثبوت نبوّة إخوة يوسف »(٢) .

ويشهد لذلك أيضا كلام صاحب « المواقف » المتقدّم في المبحث السابق ؛ لنقله فيه عن أكثر المعتزلة المنع من صدور الكبيرة على الأنبياء قبل الوحي(٣) .

ونقله القوشجي عن كثير منهم ، وهو يستلزم القول بعدم نبوّة إخوة يوسف(٤) .

فأين الإجماع الذي ادّعاه الخصم؟!

على أنّ سادة الأمّة وأئمّتها الّذين أمرنا بالتمسّك بهم قد أنكروا نبوّة إخوة يوسفعليه‌السلام (٥) ، وكذلك شيعتهم.

وأعلم أنّ ظاهر كلام « المواقف » السابق أنّ بعض المعتزلة قائلون بجواز عهر أمهات الأنبياء ، وفجور آبائهم ودناءتهم واسترذالهم ، فيكون شاهدا لما قاله المصنّفرحمه‌الله من تجويز المعتزلة لذلك.

__________________

كتب ، منها : المحيط في أصول الدين ، التذكرة في لطيف الكلام.

انظر : طبقات المعتزلة ـ لابن المرتضى ـ : ١١٩.

(١) شرح نهج البلاغة ٧ / ١٠.

(٢) شرح نهج البلاغة ٧ / ١٠.

(٣) تقدّم في الصفحتين ١٩٣ و ١٩٤.

(٤) شرح التجريد : ٤٦٤.

(٥) الغيبة ـ للنعماني ـ : ١٦٣ ح ٤ ، إكمال الدين : ١٤٤ ح ١١ وص ٣٤١ ح ٢١ ، علل الشرائع ١ / ٢٨٥ ب‍ ١٧٩ ح ٣ ، دلائل الإمامة : ٢٩٠ ، تفسير العيّاشي ٢ / ٢٠٦ ح ٧٤ ـ ٧٧ ، مجمع البيان ٥ / ٣٢٨ ، إعلام الورى ٢ / ٢٣٦.

٢٠٠