دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٤

دلائل الصدق لنهج الحق8%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-357-8
الصفحات: 442

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99212 / تحميل: 5039
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٤

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٧-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وأقول :

أدلّة النهي عن المنكر عامّة للكبائر والصغائر بلا فرق ، ومجرّد العفو عن الصغيرة مع اجتناب الكبائر لا يخرجها عن كونها منكرا يجب النهي عنه ، ولا يجعلها بحكم المباح ، كما يجب نهي فاعل الكبيرة وإن علمنا أنّه يتوب بالأثر.

فإن قلت : النبيّ لا يتأذّى بشيء يعود إلى النهي عن المنكر.

قلت : كيف لا يتأذّى وقد منع عمّا رغب فيه ولا سيّما بالقسر ، وإن كان ربّما يرتفع الأذى في ما بعد لكنّه لا يجدي بعد أن كان الناهي فاعلا للإيذاء.

ثمّ إنّهم أجازوا على الأنبياء فعل الكبائر سهوا ، وهذا الدليل يبطله ، إذ إنّ المنكرات لا يراد وقوعها حتّى سهوا ، غاية الأمر أنّ الساهي غير معاقب في الآخرة ، وهو أمر آخر ، مع أنّه لا يعلم السهو غالبا إلّا بعد أن يعتذر الساهي به.

* * *

١٨١

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

ومنها : سقوط محلّه ورتبته عند العوامّ فلا ينقادون إلى طاعته ، فتنتفي فائدة البعثة.

ومنها : إنّه يلزم أن يكونوا أدون حالا من آحاد الأمّة ؛ لأنّ درجات الأنبياء في غاية الشرف ، وكلّ من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش ، كما قال تعالى :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ) (٢) ، والمحصن يرجم وغيره يحدّ ، وحدّ العبد نصف حدّ الحرّ.

والأصل فيه أنّ علمهم بالله أكثر وأتمّ ، وهم مهبط وحيه ومنازل ملائكته ، ومن المعلوم أنّ كمال العلم يستلزم كثرة معرفته والخضوع والخشوع فينا في صدور الذنب ، لكنّ الإجماع دلّ على أنّ النبيّ لا يجوز أن يكون أقلّ حالا من آحاد الأمّة.

ومنها : إنّه يلزم أن يكون مردود الشهادة ؛ لقوله تعالى :( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (٣) ، فكيف تقبل شهادته في الوحي؟!

ويلزم أن يكون أدنى حالا من عدول الأمّة ، وهو باطل بالإجماع!

ومنها : إنّه لو صدر عنه الذنب لوجب الاقتداء به ؛ لقوله تعالى :

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٥٧.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٠.

(٣) سورة الحجرات ٤٩ : ٦.

١٨٢

( وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (١) ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (٢) ( فَاتَّبِعُونِي ) (٣) ، والتالي باطل بالإجماع ، وإلّا اجتمع الوجوب والحرمة.

* * *

__________________

(١) سورة المائدة ٥ : ٩٢.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٢١.

(٣) سورة آل عمران ٣ : ٣١ ، وسورة طه ٢٠ : ٩٠.

١٨٣

وقال الفضل(١) :

قد سبق أنّ هذه الدلائل حجّة على من قال بجواز صدور الكبائر عنهم ، والإكثار من الصغائر حتّى يصير سببا لحطّ منزلتهم عند الناس ، وموجبا للإيذاء والتعنيف ، وترجيح الأمّة عليه(٢) .

وأمّا صدور الصغائر التي عفا الله عنها إذا كان على سبيل الندرة فغير ممتنع ، ولا تدلّ المعجزة على وجوب انتفاء شيء منها ، وكلّ هذه الدلائل قد ذكرناها في ما سلف(٣) ، وأنّ الأشاعرة ذكروها على سبيل الاستدلال على من يقول بجواز الكبائر ، وقد قدّمنا أنّ بعض تلك الأدلّة يدلّ على وجوب نفي الذنب عن الأنبياء مطلقا ؛ والله أعلم.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٧١.

(٢) انظر الصفحتين ٢١ و ٢٢ من هذا الجزء.

(٣) انظر الصفحة ٢٢ وما بعدها من هذا الجزء.

١٨٤

وأقول :

لا ريب أنّ الدليل الأوّل يثبت عصمتهم عن الكبائر والصغائر ، حال النبوّة وقبلها ، عمدا وسهوا ؛ لأنّ الذنب وإن قلّ وصغر يسقط محلّ المذنب ولو في الجملة ، ويمنع من الوثوق التامّ به والانقياد الكامل إليه حتّى مع العلم بسهوه ؛ لأنّ السهو يقع غالبا من التساهل ويجهل الناس سببه فتنتفي فائدة البعثة.

وبالجملة : النبيّ منار الدعوة إلى الله تعالى ، وباب طاعته ، فيجب أن يكون بريئا من كلّ عيب يمسّ مقام الدعوة ، ونقيّا من كلّ حزونة(١) لا تسهّل سبيل الطاعة ، فلا يجوز أن يصدر عنه ذنب أصلا.

وأمّا الدليل الثاني : فهو أيضا يثبت عصمتهم عن الذنوب مطلقا حتّى قبل النبوّة ؛ لأنّ معصية الكبير أكبر ، فلو عصوا كانوا أدون حالا من أداني الأمم ؛ لأنّ أصغر الصغائر من أعلى المكلّفين أكبر الكبائر من أدناهم حتّى مع السهو ؛ لأنّ التمييز بالمعرفة يستدعي المحافظة التامّة ، وبدونها يكون أدنى من الأداني ولو في الجملة ، وهو خلاف ضرورة العقل والملّيّين.

وأمّا الدليل الثالث : فهو يثبت عصمتهم عمّا ينافي العدالة حال النبوّة وقبلها عمدا وسهوا ، مع عدم العلم بسهوه ؛ لأنّ صدورها حينئذ

__________________

(١) الحزونة : الخشونة في النفس لما يحصل فيها من الغمّ على المجاز هنا ؛ انظر مادّة « حزن » في : لسان العرب ٣ / ١٥٩ ، تاج العروس ١٨ / ١٣٧.

١٨٥

يثبت فسقه ، والفاسق مردود الشهادة ، فكيف تقبل شهادته(١) بالوحي؟! ويلزم أن يكون أدون حالا من عدول الأمم إذا صدرت عمدا.

وأمّا الدليل الرابع : فهو يثبت عصمتهم عن الكبائر والصغائر عمدا وسهوا ، لكن حال النبوّة ، وإنّما جعل المصنّف هذا الدليل مستقلّا مع أنّه أحد شقّي الترديد في الدليل الذي ذكره سابقا بقوله : « ومنها : إنّه إذا فعل المعصية فإمّا أن يجب علينا اتّباعه » ؛ لأنّ الكتاب العزيز يقتضي تعيينه ، فذكره هنا معيّنا لذلك ، وذكره سابقا بنحو الترديد ؛ لأنّ المراد هناك بيان وجوه الاحتمال.

فثبتت من الأدلّة المذكورة عصمتهم عن الذنوب مطلقا ، وفي جميع الأحوال حتّى قبل النبوّة وإن اختصّ بعض تلك الأدلّة ببعض الذنوب ، وحينئذ فيبطل ما زعمه القوم جميعا من أنّه يجوز عقلا صدور الصغائر والكبائر عنهم عمدا وسهوا ، حال النبوّة وقبلها سوى الكذب في دعوى النبوّة وفي التبليغ كما سبق.

غاية الأمر أنّ أكثر الأشاعرة ـ على ما ادّعاه في « المواقف » ـ قالوا بعدم جواز تعمّدهم الكبائر للدليل السمعي في حال النبوّة خاصّة وإن جاز وقوعها عقلا(٢) .

هذا ، ولا نحتاج في مطلوبنا بعد هذه الأدلّة إلى دلالة المعجزة حتّى يقول الخصم : « ولا تدلّ المعجزة على وجوب انتفاء شيء منها ».

وأمّا قوله : « إنّ الأشاعرة ذكروها على سبيل الاستدلال »

__________________

(١) المراد هنا هو إخباره بالوحي ، فلن يقبل إخباره بالوحي مثلما لم تقبل شهادة الفاسق.

(٢) المواقف : ٣٥٩.

١٨٦

فمسلّم ؛ لذكر بعضهم لها تبعا لغيرهم ، لكن ما بالهم لم يتّبعوا دلالتها على وجوب العصمة عن الذنوب مطلقا كما عرفت؟!

والظاهر أنّ منشأه عدم التدبّر من وجه ؛ لأنّهم إنّما ذكروها تبعا ، والتعصّب لمذهب الأسلاف من وجه آخر ، كما يشهد له إقرار الخصم بدلالة بعضها على العصمة عن الذنوب مطلقا ومخالفته له في باقي كلماته.

ثمّ إنّه يدلّ على المطلوب أمور أخر ، يغني عن تطويل الكلام فيها ما عرفت ، وسيأتي بعضها في عصمة الإمام إن شاء الله تعالى ، كقوله تعالى :( لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) ، وقوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) .

* * *

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٢٤.

(٢) سورة النساء ٤ : ٥٩.

١٨٧
١٨٨

نزاهة النبيّ

عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ(١) :

المبحث الثالث

في أنّه يجب أن يكون منزّها

عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات

ذهبت الإمامية إلى أنّ النبيّ يجب أن يكون منزّها عن دناءة الآباء وعهر الأمّهات ، بريئا من الرذائل والأفعال الدالّة على الخسّة ، كالاستهزاء به والسخرية والضحك عليه(٢) ؛ لأنّ ذلك يسقط محلّه من القلوب ، وينفّر الناس عن الانقياد إليه ، فإنّه من المعلوم بالضرورة الذي لا يقبل الشكّ والارتياب.

وخالفت السنّة فيه

أمّا الأشاعرة فباعتبار نفي الحسن والقبح(٣) ، فلزمهم أن يذهبوا إلى

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٥٨.

(٢) تجريد الاعتقاد : ٢١٣ ـ ٢١٤ ، قواعد المرام : ١٢٧.

(٣) محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٢٩٣ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٨٢ و ٢٨٣.

١٨٩

جواز بعثة ولد الزنا المعلوم لكلّ أحد

وأن يكون أبوه فاعلا لجميع أنواع الفواحش وأبلغ أصناف الشرك ، وهو ممّن يسخر به ويضحك عليه ويصفع في الأسواق ويستهزأ به ، ويكون قد ليط به دائما لأبنة فيه ، قوّادا.

وتكون أمّه في غاية الزنا والقيادة والافتضاح بذلك ، لا تردّ يد لامس

ويكون هو في غاية الدناءة والسفالة ممّن قد ليط به طول عمره ، حال النبوّة وقبلها ، ويصفع في الأسواق ، ويعتمد المناكير ، ويكون قوّادا بصّاصا(١) .

فهؤلاء يلزمهم القول بذلك حيث نفوا التحسين والتقبيح العقليّين ، وأنّ ذلك ممكن ، فيجوز من الله وقوعه ، وليس هذا بأبلغ من تعذيب الله من لا يستحقّ العذاب ، بل يستحقّ الثواب طول الأبد(٢) !

* * *

__________________

(١) البصّاصة : العين ، واستعيرت هنا لمن لا يغضّ بصره عن الحرمات ؛ انظر : لسان العرب ١ / ٤٢١ مادّة « بصص ».

(٢) انظر ج ٢ / ٣٥٦ من هذا الكتاب.

١٩٠

وقال الفضل(١) :

نعوذ بالله من هذه الخرافات والهذيانات وذكر الفواحش عند ذكر الأنبياء ، والدخول في زمرة :( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ) (٢) .

وكفى به إساءة الأدب أن يذكر عند ذكر الأنبياء أمثال هذه الترّهات ، ثمّ يفتري على مشايخ السنّة وعلماء الإسلام ما لا يلزم من قولهم شيء منه.

وقد علمت أنّ الحسن والقبح يكون بمعان ثلاثة :

أحدها : وصف النقص والكمال.

والثاني : الملاءمة والمنافرة.

وهذان المعنيان عقليّان لا شكّ فيه ، فإذا كان مذهب الأشاعرة أنّهما عقليّان ، فأيّ نقص أتمّ من أن يكون صاحب الدعوة موصوفا بهذه القبائح التي ذكرها هذا الرجل السوء الفحّاش ، وكأنّه حسب أنّ الأنبياء أمثاله من رعاع الحلّة ، الّذين يفسدون على شاطئ الفرات بكلّ ما ذكره!

نعوذ بالله من التعصّب ، فإنّه أورده النار!

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٧٨.

(٢) سورة النور ٢٤ : ١٩.

١٩١

وأقول :

لا يخفى أنّ كون المعنى الأوّل عقليّا عندهم لا دخل له بالمقام ؛ لأنّ الكلام في جواز بعث الله سبحانه لصاحب الصفات المذكورة ، والبعث من أفعال الله تعالى لا صفاته حتّى يكون وصف نقص أو كمال ، وكون تلك الأمور نقصا في صاحب الدعوة مسلّم ، إلّا أنّ الكلام في جواز بعث الله للناقص ، الذي هو من أفعال الله تعالى التي لا تتّصف عندهم بالقبح أصلا كخلقه لسائر القبائح والفواحش.

وأمّا المعنى الثاني ، فهو وإن ثبت في الأفعال إلّا أنّ أفعال الله تعالى عندهم لا تعلّل بالأغراض ، فلا ملاءمة ولا منافرة فيها مع ما عرفت من الكلام في كونه عقليّا ، فراجع(١) .

وبالجملة : لو سلّم قولهم بالحسن والقبح العقليّين بهذين المعنيين لم يلزم عدم جواز بعث الله تعالى صاحب الأوصاف المذكورة ، بل يجوز عندهم بعث مثله ، إذ لا يقبح عندهم من الله سبحانه شيء وهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

وقد سبق أنّهم جوّزوا بعض المعاصي على الأنبياء ، بحجّة عدم دلالة المعجزة على امتناعه(٢) ، وهو آت في المنفّرات المذكورة.

ويدلّ على تجويزهم إرسال صاحب هذه الأوصاف أنّ صاحب

__________________

(١) راجع ج ٢ / ٤١٣ من هذا الكتاب.

(٢) انظر الصفحات ١٧ و ٢٨ وما بعدها من هذا الجزء.

١٩٢

« المواقف » وشارحها قالا : « ولا يشترط في الإرسال شرط من الأغراض(١) والأحوال المكتسبة بالرياضات والمجاهدة في الخلوات والانقطاعات ، ولا استعداد ذاتي ، من صفاء الجوهر وذكاء الفطرة كما يزعمه الحكماء ، بل الله يختصّ برحمته من يشاء من عباده ، فالنبوّة رحمة وموهبة متعلّقة بمشيئته فقط »(٢)

فإنّ قولهما : « بل الله يختصّ » إلى آخره ، دالّ على جواز بعث أيّ شخص كان ، فيجوز أن يكون النبيّ كما وصفه المصنّف إذا تعلّقت بإرساله المشيئة.

ومن العجب استدلال صاحب « المواقف » على عدم اشتراط الإرسال بشرط بقوله تعالى :( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) (٣) ، فإنّ الآية ظاهرة الدلالة أو صريحتها في أنّ صاحب الدعوة أهل في نفسه فيبعثه الله تعالى ؛ لعلمه بأهليّته وأنّه مستعدّ الذات.

ولذا أورد عليه الشارح بقوله : « وفي دلالة هذه الآية على المطلوب نوع خفاء »(٤) .

ويدلّ أيضا على تجويزهم إرسال صاحب النقائص المذكورة قول صاحب « المواقف » ، وشارحها أيضا ، في مقام عصمة الأنبياء ، قال :

« وأمّا قبله ـ أي قبل الوحي ـ فقال الجمهور ـ أي أكثر أصحابنا وجمع من المعتزلة ـ : لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة ، إذ لا دلالة للمعجزة

__________________

(١) كذا في المطبوع ، وفي المخطوط والمصدر : الأعراض.

(٢) المواقف : ٣٣٧ ، شرح المواقف ٨ / ٢١٨.

(٣) سورة الأنعام ٦ : ١٢٤.

(٤) شرح المواقف ٨ / ٢١٨.

١٩٣

عليه ، ولا حكم للعقل بامتناعها ، ولا دلالة سمعية عليه أيضا.

وقال أكثر المعتزلة : تمتنع الكبيرة وإن تاب عنها ؛ لأنّه ـ أي صدور الكبيرة ـ يوجب النفرة ، وهي تمنع عن اتّباعه فتفوت مصلحة البعثة ، ومنهم من منع عمّا ينفّر مطلقا ، أي سواء لم يكن ذنبا [ لهم ، أو كان ](١) كعهر الأمهات والفجور في الآباء ودناءتهم واسترذالهم »(٢) .

فإنّ هذا الكلام دالّ على اختصاص بعض المعتزلة بمنع المنفّرات المذكورة ، فيكون الأشاعرة وبعض المعتزلة مجوّزين لها.

فتحقّق أنّ ما نسبه المصنّف إليهم حقّ وصدق ، وأنّ القوم أولى بحبّ إشاعة الفاحشة في الّذين آمنوا ؛ لأنّهم أجازوا أن يكون النبيّ كما وصفه المصنّف رحمه الله تعالى ، بل نسبوا إليهم فواحش الأعمال وأشاعوها في كتبهم على ممرّ الأيام ، كرقص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بأكمامه ، وحضوره مجالس المغنّين والمغنّيات ، وضرب الدفوف(٣) ، وقوله في مدح الأصنام : تلك الغرانيق العلا(٤) إلى غير ذلك من المخزيات.

وأمّا المصنّفقدس‌سره فلم يقصد بذكر تلك الأوصاف الشنيعة إلّا الإنكار على القوم واستفظاع آرائهم ، ليرتدع من له قلب ، وناقل الكفر ليس بكافر ، فإساءة الأدب مع الأنبياء إنّما هي ممّن يجوّز فيهم أن يكونوا على تلك الفضائح ، لا ممّن يريد الردع عنه والإنكار عليه!

لكن الخصم لعجزه وحيرته يلوذ بهذه التهمة للمصنّف ، ويشهد

__________________

(١) أثبتناه من شرح المواقف.

(٢) شرح الأصول الخمسة : ٥٧٣ ، المواقف : ٣٥٩ ، شرح المواقف ٨ / ٢٦٥.

(٣) انظر الصفحتين ٧٤ و ٧٥ من هذا الجزء.

(٤) انظر الصفحة ١٨ من هذا الجزء.

١٩٤

لتحلّيه في هذا التنزّه المصطنع في إجلال مقام الأنبياء قوله سابقا في حقّ الله سبحانه ما هو أعظم وأشنع ، وهو أنّه مغلول اليد(١) ، معبّرا به عن تنزيه الإمامية لله تعالى عن فعل القبائح وعقاب من لا ذنب له وإن كان قادرا عليهما.

* * *

__________________

(١) انظر ج ٢ / ٣٩١ من هذا الكتاب.

١٩٥

قال المصنّف ـ طيّب الله رمسه ـ(١) :

وأمّا المعتزلة ، فلأنّهم حيث جوّزوا صدور الذنب عنهم(٢) ، لزمهم القول بجواز ذلك أيضا ، واتّفقوا على وقوع الكبائر منهم كما في قصّة إخوة يوسف(٣) .

فلينظر العاقل بعين الإنصاف ، هل يجوز المصير إلى هذه الأقاويل الفاسدة والآراء الرديئة؟!

وهل يبقى مكلّف ينقاد إلى قبول قول من كان يفعل به الفاحشة طول عمره إلى وقت نبوّته ، وأنّه يصفع ويستهزأ به حال النبوّة؟!

وهل يثبت بقول هذا حجّة على الخلق؟!

واعلم أنّ البحث مع الأشاعرة في هذا الباب ساقط ، وأنّهم إن بحثوا في ذلك استعملوا الفضول ؛ لأنّهم يجوّزون تعذيب المكلّف على أنّه لم يفعل ما أمره الله تعالى به من غير أن يعلم ما أمر به ، ولا أرسل إليه رسولا ألبتّة ، بل وعلى امتثال ما أمره به

وأنّ جميع القبائح من عنده تعالى ، وأنّ كلّ ما وقع في الوجود فإنّه فعله تعالى وهو حسن ؛ لأنّ الحسن هو الواقع والقبيح هو الذي لم يقع.

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٦٢.

(٢) شرح المواقف ٨ / ٢٦٥.

(٣) شرح الأصول الخمسة : ٥٧٣ ، وانظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ٢ / ١١٦ ـ ١١٧ ، محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين : ٣٢٠ ـ ٣٢١ ، شرح المواقف ٨ / ٢٦٥.

١٩٦

فهذه الصفات الخسيسة في النبيّ وأبويه تكون حسنة ؛ لوقوعها من الله تعالى ، فأيّ مانع من البعثة باعتبارها؟!

فكيف يمكن الأشاعرة منع كفر النبيّ وهو من الله تعالى ، وكلّ ما يفعله فهو حسن؟! وكذا أنواع المعاصي!

وكيف يمكنهم مع هذا المذهب التنزيه للأنبياء؟!

نعوذ بالله من مذهب يؤدّي إلى تحسين الكفر وتقبيح الإيمان وجواز بعثة من اجتمع فيه كلّ الرذائل والسقطات!

وقد عرفت من هذا أنّ الأشاعرة في هذا الباب قد أنكروا الضروريات.

* * *

١٩٧

وقال الفضل(١) :

استدلال المعتزلة على وقوع الكبائر من الأنبياء قبل البعثة بقصّة إخوة يوسف استدلال قويّ ؛ لأنّ الإجماع واقع على أنّ إخوة يوسف صاروا أنبياء بعد إلقاء يوسف في الجبّ ، وغيره من الذنوب التي لا شكّ أنّها كبائر.

وهذا الرجل ما تعرّض بجوابه إلّا بالفحش والخز عبلية(٢) واللّوذعية(٣) كالرعاع والأجلاف السوقية ، والمعتزلة يثبتون الوقوع(٤) ، وهو لا يقدر على الدفع ويبحث معهم في الجواز ، وهذا من غرائب أطواره في البحث.

ثمّ ما ذكر أنّ البحث مع الأشاعرة ساقط لأنّهم يجوّزون تعذيب الكفّار(٥) وغيره من الطامّات قد عرفت في ما سبق جواب كلّ ما ذكر ، وأنّ الحسن والقبح شرعيّان بمعنى ، وعقليّان بمعنيين(٦)

وعلمت أنّ كلّ ما ذكره ليس من مذهبهم ولا يرد عليهم شيء ، وأنّهم لا يخالفون ضرورة العقل.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٨٢.

(٢) الخزعبل : الباطل ، والخزعبل : الأحاديث المستطرفة التي يضحك منها ؛ انظر مادّة « خزعبل » في : لسان العرب ٤ / ٨٣ ، تاج العروس ١٤ / ١٩٨.

(٣) اللّوذعي : الحديد الفؤاد والنفس واللسان ، اللسن الفصيح ، الظريف الذهن ، الذكيّ ، كأنّه يلذع من ذكائه ؛ انظر مادّة « لذع » في : لسان العرب ١٢ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ، تاج العروس ١١ / ٤٣٢.

(٤) أثبته الجبّائي ومنعه القاضي عبد الجبّار ؛ انظر : شرح الأصول الخمسة : ٥٧٣.

(٥) كذا في الأصل ، وفي « إحقاق الحقّ » : « المكلّف » ، وهو المناسب.

(٦) انظر ج ٢ / ٣٣٠ و ٤١١ من هذا الكتاب.

١٩٨

وأقول :

لمّا كان الاستدلال على صدور الكبائر من الأنبياء قبل البعثة بقصّة إخوة يوسف ساقط جدّا ، اكتفى المصنّفرحمه‌الله في الجواب عنه بإثبات المحاليّة ، ولم يتعرّض لكلمة القائلين بنبوّتهم ودليلهم ، إذ لم يقل بها إلّا من لا عبرة به وبرأيه.

لكنّ الخصم على عادته وعادة أصحابه في التسامح بدعاوي الإجماعات ، قال : الإجماع على نبوّتهم واقع.

ويشهد لعدم الإجماع ما ذكره ابن حزم(١) إذ قال : « إنّ إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء ، ولا جاء قطّ في أنّهم أنبياء نصّ ، لا من قرآن ولا من سنّة صحيحة ، ولا من إجماع ، ولا من قول أحد من الصحابة ».

وقال القاضي عياض في « الشفاء » : « وأمّا قصّة يوسف وإخوته فليس على يوسف منها تعقّب ، وأمّا إخوته فلم تثبت نبوّتهم »(٢) .

ونقل ابن أبي الحديد(٣) عن المعتزلة : « إنّهم قالوا : يجب أن ينزّه النبيّ قبل البعثة عن الكفر والفسق ».

ثمّ نقل عن أبي محمّد بن متّويه(٤) أنّه قال : في كتاب « الكفاية » :

__________________

(١) الفصل في الملل والأهواء والنحل ٤ / ٩ [ ٢ / ٢٩٤ ]. منهقدس‌سره .

(٢) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ / ١٦٤.

(٣) شرح النهج ٢ / ١٦٢ [ ٧ / ٨ ـ ١٠ ]. منهقدس‌سره .

(٤) هو أبو محمّد الحسن بن أحمد بن متّويه ، أخذ عن القاضي عبد الجبّار ، وله

١٩٩

« إنّ أهل العدل كلّهم منعوا من تجويز بعثة من كان فاسقا قبل النبوّة »(١) .

ثمّ قال : « وقال قوم من الأشعرية ومن أهل الظاهر وأرباب الحديث :

إنّ ذلك جائز واقع ، واستدلّوا بأحوال إخوة يوسف ، ومنع المانعون من ذلك من ثبوت نبوّة إخوة يوسف »(٢) .

ويشهد لذلك أيضا كلام صاحب « المواقف » المتقدّم في المبحث السابق ؛ لنقله فيه عن أكثر المعتزلة المنع من صدور الكبيرة على الأنبياء قبل الوحي(٣) .

ونقله القوشجي عن كثير منهم ، وهو يستلزم القول بعدم نبوّة إخوة يوسف(٤) .

فأين الإجماع الذي ادّعاه الخصم؟!

على أنّ سادة الأمّة وأئمّتها الّذين أمرنا بالتمسّك بهم قد أنكروا نبوّة إخوة يوسفعليه‌السلام (٥) ، وكذلك شيعتهم.

وأعلم أنّ ظاهر كلام « المواقف » السابق أنّ بعض المعتزلة قائلون بجواز عهر أمهات الأنبياء ، وفجور آبائهم ودناءتهم واسترذالهم ، فيكون شاهدا لما قاله المصنّفرحمه‌الله من تجويز المعتزلة لذلك.

__________________

كتب ، منها : المحيط في أصول الدين ، التذكرة في لطيف الكلام.

انظر : طبقات المعتزلة ـ لابن المرتضى ـ : ١١٩.

(١) شرح نهج البلاغة ٧ / ١٠.

(٢) شرح نهج البلاغة ٧ / ١٠.

(٣) تقدّم في الصفحتين ١٩٣ و ١٩٤.

(٤) شرح التجريد : ٤٦٤.

(٥) الغيبة ـ للنعماني ـ : ١٦٣ ح ٤ ، إكمال الدين : ١٤٤ ح ١١ وص ٣٤١ ح ٢١ ، علل الشرائع ١ / ٢٨٥ ب‍ ١٧٩ ح ٣ ، دلائل الإمامة : ٢٩٠ ، تفسير العيّاشي ٢ / ٢٠٦ ح ٧٤ ـ ٧٧ ، مجمع البيان ٥ / ٣٢٨ ، إعلام الورى ٢ / ٢٣٦.

٢٠٠

هذا ، وقد استدلّ بعضهم على نبوّة إخوة يوسفعليه‌السلام بقوله تعالى :( وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ ) (١) الآية.

قال الرازي في تفسيرها : « اختلفوا في الاجتباء ، فقال الحسن : يجتبيك ربّك بالنبوّة ، وقال آخرون : المراد به إعلاء الدرجة وتعظيم الرتبة ».

.. إلى أنّ قال : « واعلم أنّا لمّا فسّرنا الآية بالنبوّة لزم الحكم بأنّ أولاد يعقوب كلّهم كانوا أنبياء ؛ وذلك لأنّه قال :( وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ ) ، وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لآل يعقوب ، فلمّا كان المراد من تمام النعمة النبوّة لزم حصولها لآل يعقوب وترك العمل به في حقّ من عدا أبنائه ، فوجب أن يبقى معمولا به في حقّ أولاده »(٢)

وفيه نظر ظاهر ؛ حتّى إذا أريد بالاجتباء الاصطفاء للنبوّة ، كما هو الأقرب ؛ لأنّ عطف إتمام النعمة على الاجتباء دليل على المغايرة بينهما ، ولهذا خصّ يوسفعليه‌السلام بالاجتباء ، وعمّه وغيره من آل يعقوب بإتمام النعمة.

على أنّه لو أريد بإتمام النعمة النبوّة ، فلا بدّ أن يكون إتمامها عليهم بلحاظ ثبوتها لبعضهم لا لمطلق آل يعقوب ، وإلّا لزم خروج الأكثر ، وهو غير صحيح في العربية ، فكيف يثبت بالآية نبوّة إخوة يوسفعليه‌السلام ؟!

هذا ، وأمّا ما أشار إليه الخصم من أجوبته السابقة ، فقد عرفت أنّها

__________________

(١) سورة يوسف ١٢ : ٦.

(٢) تفسير الفخر الرازي ١٨ / ٩١ ـ ٩٢.

٢٠١

لا تستحقّ أن توسم بالجواب.

وقد عرفت أنّ كلّ ما نسبه المصنّف إليهم حقّ بلا ارتياب

وأنّ القول بالحسن والقبح العقليّين بالمعنيين المذكورين لا ينفع في منع بعثة من يوصف بتلك القبائح(١) ، فلاحظ واستقم!

* * *

والله هو الموفّق ،

وله الحمد حمدا دائما ،

ونسأله العصمة عن الخلل في القول والعمل ،

إنّه أكرم المسؤولين ، وأجود المعطين.

والصلاة والسلام على محمّد وآله المعصومين.

تمّ بقلم مصنّفه محمّد حسن بن الشيخ محمّد مظفّرقدس‌سره .

* * *

__________________

(١) راجع ردّ الشيخ المظفّرقدس‌سره في ج ٢ / ٤١٣ من هذا الكتاب.

٢٠٢

مباحث الإمامة

٢٠٣
٢٠٤

بسم الله الرّحمن الرحيم

الحمد ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّد النبيّين وآله المعصومين ، الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ(١) :

المسألة الخامسة في الإمامة

وجوب عصمة الإمام

وفيها مباحث :

[ المبحث ] الأوّل

في أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما

ذهبت الإمامية إلى أنّ الأئمّة كالأنبياء في وجوب عصمتهم عن جميع القبائح والفواحش من الصغر إلى الموت ، عمدا وسهوا.

لأنّهم حفظة الشرع والقوّامون به ، حالهم في ذلك كحال النبيّ ، ولأنّ الحاجة إلى الإمام إنّما هي للانتصاف للمظلوم من الظالم ، ورفع الفساد ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٦٤.

٢٠٥

وحسم مادّة الفتن ، وأنّ الإمام لطف يمنع القاهر من التعدّي ، ويحمل الناس على فعل الطاعات واجتناب المحرّمات ، ويقيم الحدود والفرائض ، ويؤاخذ الفسّاق ، ويعزّر من يستحقّ التعزير ، فلو جازت عليه المعصية وصدرت عنه ، انتفت هذه الفوائد وافتقر إلى إمام آخر ، وتسلسل(١) .

وخالفت السنّة في ذلك ، وذهبوا إلى جواز إمامة الفسّاق والعصاة والسرّاق(٢) ، كما قال الزمخشري ـ وهو من أفضل علمائهم _ :

« لا كالدوانيقي المتلصّص »(٣) ! يشير به إلى المنصور(٤) .

فأيّ عاقل يرضى لنفسه الانقياد الديني والتقرّب إلى الله تعالى بامتثال أوامر من كان يفسق طول وقته وهو غائص في القيادة وأنواع الفواحش ، ويعرض عن المطيعين المبالغين في الزهد والعبادة؟! وقد أنكر الله تعالى بقوله :( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ

__________________

(١) الذخيرة في علم الكلام : ٤٢٩ ـ ٤٣١ ، شرح جمل العلم والعمل : ١٩٢ ، المنقذ من التقليد ٢ / ٢٧٨ ، تجريد الاعتقاد : ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(٢) انظر : أصول السنّة ـ لأحمد بن حنبل ـ : ٨٠ ، الأحكام السلطانية ـ للفرّاء _ : ٢٤ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ٣٥٨ ، شرح المقاصد ٥ / ٢٥٧ ، شرح العقائد النسفية : ٢٣٩ ـ ٢٤١ ، إتحاف السادة المتّقين ٢ / ٢٣٣.

(٣) تفسير الكشّاف ١ / ٣٠٩.

(٤) هو : أبو جعفر عبد الله بن محمّد بن علي بن العبّاس ، الملقّب بالمنصور ، ولد سنة ٩٥ ه‍ ، وكان يلقّب في صغره بمدرك التراب وبالطويل كذلك ، ثمّ لقّب في أيّام حكومته بأبي الدوانيق والدوانيقي ، لبخله ومحاسبته الصّنّاع على الدوانيق والحبّات وأمّه سلّامة البربريّة ؛ أباد جماعة كبارا حتّى توطّد له الملك ودانت له الأمم على ظلمه ، توفّي سنة ١٥٨ ه‍.

انظر : مروج الذهب ٣ / ٢٨١ ، تاريخ بغداد ١٠ / ٥٣ رقم ٥١٧٩ ، سير أعلام النبلاء ٧ / ٨٣ رقم ٣٧ ، تاريخ الخميس ٢ / ٣٢٤.

٢٠٦

أُولُوا الْأَلْبابِ ) (١) .

فالأشاعرة لا يتمشّى هذا على قواعدهم ، حيث جوّزوا صدور القبائح عنه تعالى ومن جملتها الكذب ، فجاز الكذب في هذا القول ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وأمّا الباقون فإنّهم جوّزوا تقديم المفضول على الفاضل(٢) ، فلا يتمشّى هذا الإنكار على قولهم أيضا

فقد ظهر أنّ الفريقين خالفوا الكتاب العزيز!

* * *

__________________

(١) سورة الزمر ٣٩ : ٩.

(٢) المغني ـ للقاضي عبد الجبّار ـ ٢٠ ق ١ / ٢١٥ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٣.

وقد قال جمع من متكلّمي الأشاعرة وعلمائهم بذلك أيضا وإن اشتهر أنّه من مختصّات المعتزلة ، فانظر : غياث الأمم : ١٤٠ ، تفسير القرطبي ١ / ١٨٧ المسألة ١٢ من الآية ٢ لكريمة ( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) سورة البقرة ٢ : ٣٠ ، شرح المقاصد ٥ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ، شرح العقائد النسفية : ٢٣٨ ، شرح المواقف ٨ / ٣٧٢ ـ ٣٧٣.

٢٠٧

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ مبحث الإمامة عند الأشاعرة ليست من أصول الديانات والعقائد ، بل هي عند الأشاعرة من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين(٢) .

والإمامة عند الأشاعرة : هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملّة ، بحيث يجب اتّباعه على كافّة الأمّة(٣) .

وشروط الإمام الذي هو أهل للإمامة ومستحقّها أن يكون :

مجتهدا في الأصول والفروع ؛ ليقوم بأمر الدين

ذا رأي وبصارة بتدبير الحرب وترتيب الجيوش

شجاعا قويّ القلب ؛ ليقوى على الذبّ عن الحوزة

عدلا ؛ لئلّا يجور ، فإنّ الفاسق ربّما يصرف الأموال في أغراض نفسه ، والعدل عندنا من لم يباشر الكبائر ولم يصرّ على الصغائر

عاقلا ؛ ليصلح للتصرّفات الشرعية

بالغا ؛ لقصور عقل الصبي

ذكرا ؛ إذ النساء ناقصات العقل والدين

حرّا

قرشيّا.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٩٤.

(٢) الإرشاد ـ للجويني ـ : ٣٤٥ ، المواقف : ٣٩٥ ، شرح المواقف ٨ / ٣٤٤.

(٣) غياث الأمم في التياث الظلم : ٥٥ و ٥٩ ، المواقف : ٣٩٥ ، شرح المواقف ٨ / ٣٤٥.

٢٠٨

فمن جمع هذه الصفات فهو أهل للإمامة والزعامة الكبرى(١) .

وأمّا العصمة فقد شرطها الشيعة الإمامية والإسماعيلية ، واستدلّ عليها هذا الرجل بأنّ الحاجة إلى الإمام بالأمور المذكورة ، ولو جازت المعصية عليه وصدرت عنه ، انتفت هذه الفوائد.

ونقول : ماذا يريد من العصمة؟! إن أراد وجوب الاجتناب في جميع أحواله عن الصغائر والكبائر ، فلا نسلّم لزوم ذلك ؛ لأنّ صدور بعض الصغائر المعفوّ عنها لاجتنابه عن الكبائر لا يوجب أن لا يكون منتصفا من الظالم للمظلوم وباقي الأمور المذكورة.

وإن أراد وجود ملكة مانعة من الفجور ، فنحن أيضا نقول بهذه العصمة ووجوبها للإمام ؛ لأنّا شرطنا أن يكون عدلا ، والعدل من له ملكة العصمة المانعة من الفجور

وصدور بعض الصغائر عنه في بعض الأوقات لا يبطل ملكة العصمة ؛ لأنّ الملكة كيفية راسخة في النفس ، متى يراد صدور الفعل عنهصدر بلا مشقّة ورويّة وكلفة ، وصدور خلاف مقتضى الملكة لا ينفي وجود الملكة لعوارض لا يخلو الإنسان عنها ، كصاحب الملكة الخلقيّة من العفّة والشجاعة قد يعرض له ما يعرّضه إلى إصدار خلاف الملكة ومع ذلك لا تزول عنه الملكة.

فالعصمة بمعنى الملكة حاصلة للمجتنب عن الكبائر المصرّ في تركها وإن صدر عنه نادرا بعض الصغائر ، فاندفع الإشكال ، ولم يلزم التسلسل ، كما ذكره.

__________________

(١) انظر : تمهيد الأوائل : ٤٧١ ، أصول الإيمان ـ للبغدادي ـ : ٢٢٠ ـ ٢٢١ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ٣٥٨ ـ ٣٥٩ ، المواقف : ٣٩٨ ، شرح المواقف ٨ / ٣٤٩.

٢٠٩

وأمّا ما قال : « إنّ أهل السنّة خالفوا ذلك وذهبوا إلى جواز إمامة السرّاق والفسّاق »

فأنت تعلم أنّ هذا من مفترياته ؛ لأنّ كتب أهل السنّة مشحونة بالقول بوجوب عدالة الأئمّة ، فالفاسق كيف يجوز أن يكون عندهم إماما؟! والحال أنّه ضدّ العدل ، فعلم أنّه مفتر كذّاب ، ونعم ما قلت فيه شعرا [ من المتقارب ] :

إذا ما رأى طيّبا في الكلام

بقاذورة الكذب قد دنّسه

يخلّط بالطهر أنجاسه

فابن المطهّر ما أنجسه

* * *

٢١٠

وأقول :

لا يخفى أنّ أصل الشيء أساسه وما يبتنى عليه ، فأصول الدين هي التي يبتنى عليها الدين ، وبالضرورة أنّ الشهادتين كذلك ، إذ لا يكون الشخص مسلما إلّا بهما ، وكذلك الاعتراف بالإمام ؛ للكتاب والسنّة

*أمّا الكتاب ، فقوله تعالى :( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) (١)

فإنّ الاستفهام فيه ليس على حقيقته ؛ لاستلزامه الجهل ، فلا بدّ أن يراد به الإنكار أو التوبيخ ، وكلّ منهما لا يكون إلّا على أمر محقّق بالضرورة ، فيكون انقلابهم بعد موت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله محقّقا ، ولذا قال :( انْقَلَبْتُمْ ) بصيغة الماضي تنبيها على تحقّقه.

ومن المعلوم أنّ الصحابة بعد موت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعدلوا عن الشهادتين ، فيتعيّن أن يراد به أمر آخر ، وما هو إلّا إنكار إمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، إذ لم يصدر منهم ما يكون وجها لا نقلابهم عموما غيره بالإجماع.

فإذا كان إنكار إمامتهعليه‌السلام انقلابا عن الدين ، كانت الإمامة أصلا من أصوله

ولا ينافيه أنّ الآية نزلت يوم أحد ، حيث أراد بعض المسلمين الارتداد ، فإنّ سببية نزولها في ذلك لا تمنع صراحتها في وقوع الانقلاب

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ١٤٤.

٢١١

بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كما يقتضيه الترديد في الآية بين الموت والقتل ، فإنّ ما وقع يوم أحد إنّما هو لزعم القتل.

وقد فهم ذلك أمير المؤمنينعليه‌السلام في ما رواه الحاكم(١) ، عن ابن عبّاس ، قال :

« كان عليّعليه‌السلام يقول في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الله تعالى يقول :

( أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والله لئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتّى أموت ، والله إنّي لأخوه ، ووليّه ، وابن عمّه ، ووارث علمه ؛ فمن أحقّ به منّي؟! »

* وأمّا السنّة ، فنحن لا نذكر منها إلّا أخبار القوم كعادتنا ؛ لتكون حجّة عليهم.

فمنها : ما هو كالآية الشريفة في الدلالة على ارتداد الأمّة بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كروايات الحوض ، ولنذكر منها ما هو صريح بارتداد الأمّة إلّا النادر ،

كرواية البخاري في ( كتاب الحوض ) ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال :

« بينما أنا قائم ، فإذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلمّ!

فقلت : أين؟!

قال : إلى النار والله!

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٢٦ كتاب معرفة الصحابة [ ٣ / ١٣٦ ح ٤٦٣٥ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : فضائل الصحابة ـ لأحمد بن حنبل ـ ٢ / ٨١٠ ح ١١١٠ ، المعجم الكبير ١ / ١٠٧ ح ١٧٦ ، ذخائر العقبى : ١٧٨ ، الرياض النضرة ٣ / ٢٠٦ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٣٤ ، الدرّ المنثور ٢ / ٣٣٨.

٢١٢

قلت : وما شأنهم؟!

قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى.

ثمّ إذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال :

هلمّ!

فقلت : أين؟!

قال : إلى النار والله!

قلت : ما شأنهم؟!

قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى.

فلا أراه يخلص منهم إلّا مثل همل النعم »(١)

فهذه الرواية قد دلّت على ارتداد الصحابة إلّا القليل الذي هو في القلّة كالنعم المهملة المتروكة سدى(٢) .

وقد عرفت أنّ الصحابة لم يرتكبوا ما يمكن أن يكون سببا للارتداد غير إنكار إمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فلا بدّ أن تكون الإمامة أصلا من أصول الدين.

ومنها : الأخبار المستفيضة الدالّة على أنّ من مات بلا إمام مات ميتة جاهليّة ، ونحو ذلك ، فتكون أصلا للدين ألبتّة ، كرواية مسلم في باب : ( الأمر بلزوم الجماعة ، من كتاب الإمارة ) ، عن ابن عمر ، قال :

__________________

(١) صحيح البخاري ٨ / ٢١٧ ح ١٦٦ باب في الحوض ، وانظر : الجمع بين الصحيحين ـ للحميدي ـ ٣ / ١٩٤ ح ٢٤٣٤ ، الترغيب والترهيب ٤ / ١٩٢ ح ٧٥ وقال : « رواه البخاري ومسلم » ، فتح الباري ١١ / ٥٦٨ ح ٦٥٨٧ ، كنز العمّال ١١ / ١٣٢ ح ٣٠٩١٨.

(٢) السّدى والسّدى : المهمل ، الواحد والجمع فيه سواء ؛ انظر مادّة « سدا » في : النهاية في غريب الحديث والأثر ٢ / ٣٥٦ ، لسان العرب ٦ / ٢٢٣.

٢١٣

وسمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجّة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة »(١)

وكرواية مسلم أيضا في الباب المذكور ، والبخاري في ثاني أبواب ( كتاب الفتن ) ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : «من كره من أميره شيئا فليصبر عليه ، فإنّه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهليّة »(٢)

وكرواية أحمد(٣) ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « من مات بغير إمام مات ميتة جاهليّة ».

.. إلى نحو ذلك ممّا لا يحصى(٤) .

ومنها : الأخبار الكثيرة التي ناطت الإيمان بحبّ آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) صحيح مسلم ٦ / ٢٢ ، وانظر : مسند أبي عوانة ٤ / ٤١٦ ح ٧١٥٣ ـ ٧١٥٧ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٨ / ١٥٦ ، مصابيح السنّة ٣ / ٩ ح ٢٧٦٥.

(٢) صحيح مسلم ٦ / ٢١ ، صحيح البخاري ٩ / ٨٤ ح ٥ و ٦ وص ١١٣ ح ٧ ، وانظر : سنن الدارمي ٢ / ١٦٦ ـ ١٦٧ ح ٢٥١٥ ، مسند أحمد ١ / ٢٧٥ و ٢٩٧ و ٣١٠ ، المعجم الكبير ١٢ / ١٢٤ ح ١٢٧٥٩ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٨ / ١٥٧ ، شرح السنّة ٦ / ٣٨ ح ٢٤٥٨.

(٣) مسند أحمد ٤ / ٩٦. منهقدس‌سره .

وانظر : مسند أبي يعلى ١٣ / ٣٦٦ ح ٧٣٧٥ ، المعجم الكبير ١٩ / ٣٨٨ ح ٩١٠ ، المعجم الأوسط ٦ / ١٢٨ ح ٥٨٢٠ ، مسند الشاميّين ـ للطبراني ـ ٢ / ٤٣٧ ـ ٤٣٨ ح ١٦٥٤ ، مسند الطيالسي : ٢٥٩ ح ١٩١٣ ، السنّة ـ لابن أبي عاصم ـ : ٤٨٩ ح ١٠٥٧ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٧ / ٤٩ ح ٤٥٥٤ ، حلية الأولياء ٣ / ٢٢٤ وقال : « هذا حديث صحيح ثابت ».

(٤) وقد مرّ تخريج حديث « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » ، الذي هو موضع البحث هنا ، وبألفاظه المختلفة ، مفصّلا ، في مقدّمة السيّد عليّ الحسيني الميلاني ـ حفظه الله ـ لهذا الكتاب ، أجلى البرهان في نقد كتاب ابن روزبهان : ٣١ ه‍ ١ ـ ٤ ؛ فراجع!

٢١٤

والكفر ببغضهم ، فإنّها كناية عن الاعتراف بإمامتهم وإنكارها ؛ للملازمة عادة بين حبّهم الحقيقي والاعتراف بفضلهم وبغضهم وإنكاره ، ولا يراد الحبّ والبغض بنفسيهما ، إذ لا دخل لهما بماهيّة الإيمان والكفر ، فلا بدّ أن يكونا كناية عن ذلك ، فلا بدّ أن تكون أصلا.

فمن هذه الأخبار ما رواه في « الكشّاف » في تفسير قوله تعالى :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (١) ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث طويل قال فيه :

«ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافرا »(٢) .

ومثله عن تفسير الثعلبي(٣) .

وروى في « كنز العمّال »(٤) ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : «أساس الإسلام : حبّي وحبّ أهل بيتي »

وروى أيضا(٥) ، عن ابن عبّاس : « أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعليّ يوم

__________________

(١) سورة الشورى ٤٢ : ٢٣.

(٢) تفسير الكشّاف ٣ / ٤٦٧.

(٣) تفسير الثعلبي ٨ / ٣١٤.

وانظر : تفسير الفخر الرازي ٢٧ / ١٦٧ ، تفسير القرطبي ١٦ / ١٦ ، فرائد السمطين ٢ / ٢٥٥ ح ٥٢٤ ، الفصول المهمّة ـ لابن الصبّاغ ـ : ١٢٨ ، نزهة المجالس ـ للصفوري ـ ٢ / ٢٢٢ ، الصواعق المحرقة : ٣٤٨.

(٤) كنز العمّال ٧ / ١٠٣ [ ١٢ / ١٠٥ ح ٣٤٢٠٦ وج ١٣ / ٦٤٥ ح ٣٧٦٣١ ]. منهقدس‌سره .

(٥) كنز العمّال ٦ / ١٥٤ [ ١١ / ٦٠٧ ح ٣٢٩٣٥ ] ، ونحوه عن ابن عمر ٦ / ١٥٥ [ ١١ / ٦١٠ ـ ٦١١ ح ٣٢٩٥٥ ]. منهقدس‌سره .

٢١٥

المؤاخاة: أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه ليس بعدي نبيّ؟! ألا من أحبّك حقّ (١) بالأمن والإيمان ، ومن أبغضك أماته الله ميتة جاهليّة ».

وروى أيضا(٢) عن الطبراني والحاكم في « المستدرك »(٣) وأبي نعيم ، عن زيد بن أرقم ، أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من أحبّ أن يحيا حياتي ويموت موتي ، ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ، فليتولّ عليّ بن أبي طالب ، فإنّه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة »

وروى بعده نحوه عن جماعة ، إلّا أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «فليتولّ عليّا وذرّيّته من بعده ، فإنّهم لن يخرجوكم من باب هدى ، ولن يدخلوكم في باب ضلالة »(٤)

ويحتمل أن يريد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه بتولّي عليّ الالتزام بولايته ، أي : إمامته ، فيكون دالّا على المطلوب بالصراحة ، ومثله تولّي أولاده في الحديث الأخير.

.. إلى غير ذلك من الأحاديث المستفيضة.

__________________

وانظر : المعجم الكبير ١١ / ٦٢ ـ ٦٣ ح ١١٠٩٢ ، المعجم الأوسط ٨ / ٧٣ ـ ٧٤ ، مجمع الزوائد ٩ / ١١١.

(١) نسخة بدل : حفّ. منهقدس‌سره .

(٢) كنز العمّال ٦ / ١٥٥ [ ١١ / ٦١١ ح ٣٢٩٥٩ ]. منهقدس‌سره .

(٣) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٢٨ [ ٣ / ١٣٩ ح ٤٦٤٢ ]. منهقدس‌سره .

وانظر : المعجم الكبير ٥ / ١٩٤ ح ٥٠٦٧ ، فضائل الصحابة ـ لأبي نعيم ـ : ٩١ ح ٨٨.

(٤) كنز العمّال ١١ / ٦١١ ـ ٦١٢ ح ٣٢٩٦٠ ، وانظر : حلية الأولياء ١ / ٨٦ وج ٤ / ٣٤٩ ، مناقب الإمام عليّعليه‌السلام ـ للخوارزمي ـ : ٧٥ ح ٥٥ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٠٨.

٢١٦

ويشهد لكون الإمامة من أصول الدين ، أنّ منزلة الإمام كالنبيّ في حفظ الشرع ، ووجوب اتّباعه ، والحاجة إليه ، ورئاسته العامّة ، بلا فرق.

وقد وافقنا على أنّها أصل من أصول الدين جماعة من مخالفينا ، كالقاضي البيضاوي في مبحث الأخبار(١) ، وجمع من شارحي كلامه ، كما حكاه عنهم السيّد السعيدرحمه‌الله (٢) .

واعلم أنّ العصمة ملكة تقتضي عدم مخالفة التكاليف اللزومية عمدا وخطأ مع القدرة على الخلاف ، وهي واجبة الثبوت للإمام لأمور :

* الأوّل : ما أشار إليه المصنّف بقوله : « لأنّهم حفظة الشرع » إلى آخره

وحاصله : إنّ الإمام حافظ للشرع كالنبيّ ؛ لأنّ حفظه من أظهر فوائد إمامته ، فتجب عصمته لذلك ؛ لأنّ المراد حفظه علما وعملا ، وبالضرورة لا يقدر على حفظه بتمامه إلّا معصوم ، إذ لا أقلّ من خطأ غيره ، ولو اكتفينا بحفظ بعضه لكان البعض الآخر ملغى بنظر الشارع ، وهو خلاف الضرورة ، فإنّ النبيّ قد جاء لتعليم الأحكام كلّها وعمل الناس بها على مرور الأيّام ، وهذا الأمر لم يتعرّض الخصم لجوابه.

* الثاني : ما ذكره المصنّف بقوله : « إنّ الحاجة » إلى آخره

وتوضيحه : إنّ الحاجة إلى الإمام في تلك الفوائد توجب عصمته ، وإلّا لافتقر إلى إمام آخر وتسلسل ؛ لأنّ غير المعصوم إمّا فاسق أو عادل ، وبالضرورة أنّ الفاسق لا تحصل منه تلك الفوائد ولو بالنسبة إلى نفسه ،

__________________

(١) منهاج الوصول في معرفة علم الأصول ـ المطبوع بهامش الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج ـ : ١٦٧.

(٢) إحقاق الحقّ ٢ / ٣٠٧.

٢١٧

فيحتاج إلى غيره ، والعادل كذلك ؛ لأنّ الصغائر قد تحصل منه لأنّها لا تنافي العدالة ، والكبائر ربّما تقع منه أيضا ، ولو لا أنّه قد يفسق فيحتاج إلى إمام آخر يمنعه عن الصغائر والكبائر لو وقعت ، أو يحترز به عن وقوعها.

كما إنّ الخطأ غير مأمون عليه ، فيحتاج إلى إمام آخر يمنعه عمّا يخطأ به وإن كان معذورا ، فإنّ معذوريّته لا تصحّح تفويت تلك الفوائد ، وإلّا لما كانت موجبة للحاجة إلى الإمام.

فإن قلت : الصغائر مع ترك الكبائر معفوّ عنها ، فلا يلزم المنع عنها ، والكبائر لا تقع من العادل عمدا حتّى يجب منعه ، ولو فرض وقوعها عمدا وجب عزله ونصب غيره ، وأمّا وقوعها خطأ ، فهو وإن لم يكن مأمونا منه لكن ربّما لا يوجد فلا يلزم نصب آخر ، ولو وقعت نبّهه من يرفع خطأه وإن لم يكن إماما.

قلت : العفو عن الصغائر لا يرفع حرمتها ، وإلّا لما احتاجت إلى العفو ، كما إنّ السهو عن الكبائر إنّما يرفع العقاب ، فلا بدّ من الحاجة إلى من يردّ فاعلهما.

وأمّا الكبائر مع العمد ، فلا يمتنع وقوعها من العادل ، إذ ربّما تعرض له الكبيرة نادرا من دون أن تزول ملكته ، كما إنّه قد يفسق ، وهو كثير ، والالتزام بوجوب عزله حينئذ غير متّجه ؛ للأخبار الكثيرة الآتية ، ولإمكان أن لا يثبت فسقه عند كلّ أهل الحلّ والعقد ، أو يثبت ولكنّهم مثله في الفسق ، أو لا يمكنهم عزله ، أو يحصل من عزله ضرر أعظم ، فتبتلي الأمّة بإمام فاسق لا يحصل منه محلّ الحاجة إلى الإمام ، وهو ناشئ من عدم اعتبار العصمة والاكتفاء بالعدالة ، ولا سيّما مع كون العدالة الواقعية عسرة الإحراز ، وإنّما تثبت ظاهرا ، إذ ربّما كان العادل في الظاهر فاسقا في الواقع ، فتبتلي

٢١٨

الأمّة من أوّل الأمر بإمام فاسق ، فلا يحصل محلّ الحاجة إلى الإمام ولو بالنسبة إلى نفسه ، فيجب نصب إمام آخر على جميع الوجوه ، لئلّا تفوت الفوائد المطلوبة ويتسلسل.

وأمّا دعوى أنّ الخطأ ربّما لا يقع ، فخلاف المقطوع به عادة ، ولا ينكر المخالفون خطأ أئمّتهم الثلاثة الأول ، فضلا عن غيرهم ، ولو سلّم عدم القطع به ، فمع فرض إمكانه عادة يجب نصب إمام آخر يحترز به عن الخطأ المتوقّع ، لئلّا تفوت تلك الفوائد التي لا تتدارك مع الخطأ ، ولو تسامحنا فيها لما وجب نصب الإمام لأجلها.

قولكم : ولو وقع نبّهه من يرفع خطأه.

قلنا : إذا فات محلّ التدارك لم يبق محلّ للتنبيه ، وكذا لو لم يحضر من يصلح للتنبيه أو لم يصوّب الإمام رأيه ، فلا بدّ من إمام آخر ويتسلسل.

* الثالث : إنّ الإمام لو عصى لوجب الإنكار عليه والإيذاء له من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو مفوّت للغرض من نصبه ، ومضادّ لوجوب طاعته وتعظيمه على الإطلاق المستفاد من قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) كما ستعرف.

* الرابع : إنّه لو صدرت المعصية منه لسقط محلّه من القلوب ، فلا تنقاد لطاعته ، فتنتفي فائدة النصب.

* الخامس : إنّه لو عصى لكان أدون حالا من أقلّ آحاد الأمّة ؛ لأنّ أصغر الصغائر من أعلى الأمّة وأولاها بمعرفة مناقب الطاعات ومثالب المعاصي ، أقبح وأعظم من أكبر الكبائر من أدنى الأمّة.

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٥٩.

٢١٩

*السادس : قوله تعالى :( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (١) ، فإنّه دالّ على كون الإمامة من عهد الله تعالى ، وعلى اعتبار عصمة الإمام حين الإمامة وقبلها ؛ لأنّ كلّ عاص ظالم ، لقوله تعالى :( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٢) .

وروى السيوطي في « الدرّ المنثور » بتفسير هذه الآية ، عن ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عبّاس ، قال :

« معناها : إنّه كائن لا ينال عهده من هو في رتبة ظالم ، ولا ينبغي أن يولّيه شيئا من أمره »(٣) .

وروى أيضا ، عن وكيع ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد ، قال : « المعنى : لا أجعل إماما ظالما يقتدى به »(٤) .

فإن قلت : إنّما تدلّ الآية على العصمة حين تولّي العهد ، وأمّا قبله ـ كما ادّعيتموه أيضا ـ فلا ؛ لأنّ الظالم مشتقّ ، والمشتقّ حقيقة فيمن تلبّس بالمبدأ بالحال.

قلت : المراد بالحال حال ثبوت مبدأ المشتقّ للذات وتلبّسها به ، والمبدأ هو الظلم لا نيل العهد ، فيكون الظالم عبارة عن الذات في حين الظلم وإن كان زمانه ماضيا ، وهذا لا دخل له بحال ثبوت العهد.

*السابع : قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ١٢٤.

(٢) سورة البقرة ٢ : ٢٢٩.

(٣) الدرّ المنثور ١ / ٢٨٨.

(٤) الدرّ المنثور ١ / ٢٨٨.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442