دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٤

دلائل الصدق لنهج الحق0%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-357-8
الصفحات: 442

دلائل الصدق لنهج الحق

مؤلف: الشيخ محمد حسن المظفر
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف:

ISBN: 964-319-357-8
الصفحات: 442
المشاهدات: 92248
تحميل: 4146


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92248 / تحميل: 4146
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء 4

مؤلف:
ISBN: 964-319-357-8
العربية

طريق تعيين الإمام

قال المصنّف ـ قدّس الله روحه ـ(١) :

المبحث الثالث

في طريق تعيين الإمام

ذهبت الإمامية كافّة إلى أنّ الطريق إلى تعيين الإمام أمران :

الأوّل : النصّ من الله تعالى ، أو نبيّه ، أو إمام ثبتت إمامته بالنصّ عليه

أو(٢) : ظهور المعجزة على يده ؛ لأنّ شرط الإمامة العصمة ، وهي من الأمور الخفيّة الباطنة التي لا يعلمها إلّا الله تعالى(٣) .

وخالفت السنّة في ذلك ، وأوجبوا إطاعة أبي بكر على جميع الخلق في شرق الأرض وغربها ، باعتبار مبايعة عمر بن الخطّاب له برضا أربعة : أبي عبيدة بن الجرّاح(٤) ، وسالم مولى أبي

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٦٨.

(٢) هذا هو الأمر الثاني من طريق تعيين الإمام.

(٣) انظر : أوائل المقالات : ٦٥ ، الذخيرة في علم الكلام : ٤٣٦ ـ ٤٣٧ ، شرح جمل العلم والعمل : ١٩٩ ، المقنع في الإمامة : ١٤٥ ، المنقذ من التقليد ٢ / ٢٩٦ ، تجريد الاعتقاد : ٢٢١ ـ ٢٢٣.

(٤) هو : عامر بن عبد الله الجرّاح بن هلال بن أهيب الفهري القرشي ، كان يعمل حفّارا للقبور ، استخلفه عمر على الشام بعد تولّيه الخلافة ، وعزل خالد بن الوليد

٢٤١

حذيفة(١) ، وبشير بن سعد(٢) ، وأسيد بن حضير(٣) ، لا غير(٤) .

فكيف [ يحلّ ] لمن يؤمن بالله واليوم الآخر إيجاب اتّباع من لم ينصّ الله عليه ولا رسوله ، ولا اجتمعت الأمّة عليه ، على جميع الخلق لأجل مبايعة أربعة نفر؟!

بل ذهب الجويني ، وكان من أكثرهم علما وأشدّهم عنادا لأهل

__________________

عنها ، توفّي بالطاعون سنة ١٨ ه‍ وله ٥٨ عاما.

انظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ٢٢٨ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٣٩ ، الاستيعاب ٢ / ٧٩٢ رقم ١٣٣٢ ، أسد الغابة ٣ / ٢٤ رقم ٢٧٠٥ ، سير أعلام النبلاء ١ / ٥ رقم ١.

(١) هو : سالم بن عتبة ، وقيل : عبيد بن ربيعة ، وقيل : ابن معقل ، أصله من إصطخر فارس ، كان مولى لامرأة من الأنصار ، اختلف في اسمها ، قتل في اليمامة.

انظر : أسد الغابة ٢ / ١٥٥ رقم ١٨٩٢ ، سير أعلام النبلاء ١ / ١٦٧ رقم ١٤ ، الإصابة ٣ / ١٣ رقم ٣٠٥٤.

(٢) هو : بشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس ، وقيل : جلاس ـ بضمّ الجيم ـ ، الأنصاري الخزرجي ، يكنّى أبا النعمان ، هو أوّل أنصاري بايع أبا بكر في السقيفة ، قتل يوم عين التمر مع خالد بن الوليد بعد انصرافه من اليمامة عام ١٢ أو ١٣ ه‍.

انظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ٤٠٢ رقم ٢١١ ، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ ١ / ٣٩٧ رقم ٢٩٤ ، أسد الغابة ١ / ٢٣١ رقم ٤٥٩ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٢٤٧ حوادث سنة ١٢ ، تهذيب الكمال ٣ / ١٠٨ رقم ٧٠٦ ، الإصابة ١ / ٣١١ رقم ٦٩٤.

(٣) هو : أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن نافع بن امرئ القيس ، الأنصاري الأوسي الأشهلي ، أسلم بعد العقبة الأولى ، وقيل : الثانية ، ولم يشهد بدرا ، كان أبوه يلفّ حصير الكتائب ؛ توفّي سنة ٢٠ أو ٢١ ه‍.

انظر : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ٤٥٣ رقم ٣٢٦ ، معرفة الصحابة ـ لأبي نعيم ـ ١ / ٢٥٨ رقم ١١٦ ، الاستيعاب ١ / ٩٢ رقم ٥٤ ، أسد الغابة ١ / ١١١ رقم ١٧٠ ، سير أعلام النبلاء ١ / ٣٤٠ رقم ٧٤ ، الإصابة ١ / ٨٣ رقم ١٨٥.

(٤) انظر : تمهيد الأوائل : ٤٨٠ ـ ٤٨١ ، الأحكام السلطانية ـ للماوردي ـ : ٧ ، المواقف : ٤٠٠ ، شرح العقائد النسفية : ٢٢٩.

٢٤٢

البيتعليهم‌السلام إلى أنّ البيعة تنعقد لشخص واحد من بني هاشم إذا بايعه رجل واحد لا غير(١) .

فهل يرضى العاقل لنفسه الانقياد إلى هذا المذهب ، وأن يجب على نفسه الانقياد وبذل الطاعة لمن لا يعرف عدالته ، ولا يدري حاله من الإيمان وعدمه ، ولا عاشره ليعرف جيّده من رديّه ، وحقّه من باطله ، لأجل أنّ شخصا لا يعرف عدالته بايعه؟!

وهل هذا إلّا محض الجهل والحمق والضلال عن سبيل الرشاد؟!

نعوذ بالله من اتّباع الهوى وغلبة حبّ الدنيا.

ومن أغرب الأشياء وأعجبها : بحث الأشاعرة عن الإمامة وفروعها وعن الفقه وتفاصيله ، مع تجويز أن يكون جميع الخلق على الخطأ والزلل ، وأن يكون الله تعالى قد قصد إضلال العبيد بهذه الشرائع والأديان ، فإنّهم غير جازمين بصدقها ولا ظانّين.

فإنّه مع غلبة الضلال والكفر وأنواع العصيان الصادرة منه تعالى ، كيف يظنّ العاقل أو يشكّ في صحّة الشرائع؟! بل يظنّ بطلانها عندهم حملا على الغالب ، إذ الصلاح في العالم أقلّ القليل.

ثمّ مع تجويزهم أن يحرّم الله علينا التنفّس في الهواء مع الضرورة والحاجة إليه وعدم الغناء عنه من كلّ وجه ، ويحرّم علينا شرب الماء السائغ مع شدّة العطش والانتفاع بذلك الماء وعدم التضرّر به وانتفاء المفاسد كلّها كيف يحصل الجزم بأنّه يفعل اللطف بالعبد والمصلحة في إيجاب اتّباع هذا الإمام؟!

__________________

(١) انظر : غياث الأمم : ٨٨.

٢٤٣

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ الشخص بمجرّد صلوحه للإمامة وجمعه لشرائطها لا يصير إماما ، بل لا بدّ مع ذلك من أمر آخر ، وإنّما تثبت بالنصّ من الرسول ، ومن الإمام السابق بالإجماع.

وتثبت ببيعة أهل الحلّ والعقد عند أهل السنّة والجماعة والمعتزلة والصالحية من الزيدية(٢) ، خلافا للإمامية من الشيعة ، فإنّهم قالوا : لا طريق إلّا النصّ(٣) .

لنا : ثبوت إمامة أبي بكر ببيعة أهل الحلّ والعقد ، كما سيأتي بعد هذا مفصّلا في محالّه.

وأمّا ما ذكر : أنّ خلافة أبي بكر انعقدت ببيعة عمر ورضا أربعة

فهذا أمر باطل ، يكذّبه النقول المتواترة وإجماع الأمّة ، فإنّ خلافة أبي بكر انعقدت يوم السقيفة بمحضر من أرباب الحلّ والعقد ، وهم كانوا ذلك اليوم جماعة الأنصار سيّما(٤) الخزرج ؛ لأنّ المراد من أهل الحلّ والعقد أمراء العساكر ومن لم يتمّ أمر الإمارة والخلافة بغير رضاهم ، وكانوا في ذلك الوقت جماعة الأنصار أهل الحلّ والعقد بهذا المعنى.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٣٣٦.

(٢) شرح المواقف ٨ / ٣٥١.

(٣) راجع ما مرّ آنفا في الصفحة ٢٤١.

(٤) سيّ : اسم بمنزلة « مثل » وزنا ومعنى ، وتثنيته سيّان ، ومن الخطأ استخدامها بدون تقدّم « لا » عليها ، والغالب تقدّم « الواو » أيضا ، هكذا : « ولا سيّما ».

انظر : مغني اللبيب : ١٨٦.

٢٤٤

وهل اختلف رجل واحد من زمان الصحابة إلى اليوم من أرباب التواريخ أنّ أبا بكر لم يفارق السقيفة حتّى بايعه جميع الأنصار ، إلّا سعد بن عبادة(١) ، وهو كان مريضا ، ومات بعد سبعة أيّام(٢) ؟! فكيف يقول : إنّ خلافته انعقدت ببيعة عمر ورضا أربعة من الصحابة؟!

وهل هذا إلّا افتراء باطل يكذّبه جميع التواريخ المثبّتة في الإسلام؟!

نعم ، البادئ بالبيعة كان عمر بن الخطّاب ، وتتابع الأنصار وبايعوه بعد تلجلج وتردّد ومباحثة.

ولو كان الأنصار سمعوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله النصّ على خلافة عليّ ، فلم لم يجعلوه حجّة على أبي بكر ، ولم لم يدفعوا خلافته بهذه الحجّة؟!

أكانوا يخافون من أبي بكر وعمر وهم كانوا في عقر دارهم وقد اجتمعوا لنصب الإمام من قومهم وكانوا زهاء ألف أو زيادة؟!

__________________

(١) هذا ادّعاء باطل ، فهناك عدد كبير من أكابر الصحابة لم يبايعوا أبا بكر ، منهم :

أبيّ بن كعب ، فروة بن عمرو بن ودقة الأنصاري البياضي ـ وكان ممّن جاهد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وشهد العقبة وبدرا وما بعدها من المشاهد ـ ، أبان وخالد وعمرو أبناء سعيد بن العاص ، البراء بن عازب ، أبو ذرّ الغفاري ، سلمان الفارسي ، عمّار ابن ياسر ، المقداد بن عمرو ، الزبير بن العوّام ، بريدة الأسلمي ، خزيمة بن ثابت ، ابن التيّهان ، سهل وعثمان ابنا حنيف ، حذيفة بن اليمان ، أبو أيّوب الأنصاري ، أبو سفيان بن حرب الأموي ، مالك ومتمّم ابنا نويرة وقومهما ، علاوة على سعد بن عبادة ورهطه ، وطائفة من الخزرج ، وفرقة من قريش ؛ انظر : الاستيعاب ٣ / ٩٧٣ ، روضة المناظر ـ لابن الشحنة ـ ١١ / ١١٢ ـ ١١٣.

وقبل كلّ هؤلاء الإمام عليّعليه‌السلام والعبّاس وبنو هاشم ؛ انظر : تاريخ اليعقوبي ٢ / ٩ ، الأخبار الموفّقيّات : ٤٧١.

(٢) بل اتّفاق أهل العلم والمؤرّخين على أنّه قتل في إمارة عمر ، بحوران من أعمال دمشق ، وسيأتي بيان المصنّفقدس‌سره بصدد ذلك في الصفحة ٢٦٥ منهذا الجزء.

٢٤٥

وقالوا بعد المباحثة : « منّا أمير ومنكم أمير » فلم لم يقولوا : يا أبا بكر! يا عمر! إنّ العهد لم يطل ، وإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في غدير خمّ نصّ بخلافة عليّ ، فلم تبطلون قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! ولم لا تنقادون بقوله؟!

وكان أقلّ فائدة هذه المباحثة دفع البيعة عن أنفسهم؟!

ولم يجترئ أحد من الإمامية أن يدّعي أنّ الأنصار قالوا يوم السقيفة هذا القول(١) .

فيا معشر العقلاء! هل يمكن وجود النصّ في محضر جميع الناس ولم يحضر الأنصار؟!

وهل يمكن أنّ الأنصار ، الّذين نصروا الله ورسوله وتبوّأوا الدار والإيمان ، وارتكبوا عداوة العرب وقتل الأشراف في نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كانوا ساكتين في وقت المعارضة ولم يذكروا النصّ أصلا ، مع أنّ عمر وأبا عبيدة ألزموهم بقوله : «الأئمّة من قريش »(٢) ؟!

فلم لم يقولوا : الإمامة لعليّ بنصّ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم غدير خمّ؟!

__________________

(١) سيأتي عن الطبري وابن الأثير ، أنّ الأنصار ـ أو بعض الأنصار ـ قالوا : لا نبايع إلّا عليّا.

(٢) تاريخ دمشق ٣٠ / ٢٨٦.

وانظر : مسند أحمد ٣ / ١٨٣ ، مسند أبي يعلى ٦ / ٣٢١ ح ٣٦٤٤ وج ٧ / ٩٤ ح ٤٠٣٢ و ٤٠٣٣ ، مسند أبي داود الطيالسي : ١٢٥ ح ٩٢٦ وص ٢٨٤ ح ٢١٣٣ ، الفتن ـ لنعيم بن حمّاد ـ : ٦٧ ، السنّة ـ لابن أبي عاصم ـ : ٥١٧ ح ١١٢٠ و ١١٢٥ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٨ / ١٤٣ ـ ١٤٤ ، تاريخ دمشق ٢٠ / ٢٠٥ وج ٦١ / ١١ ـ ١٤.

٢٤٦

والعاقل المسلم المنصف لو تأمّل في ما قلنا من سكوت الأنصار ، وعدم الاستدلال في دفع بيعة أبي بكر بالنصّ على عليّ ، لجزم بعدم النصّ من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على أحد ، ويعلم أنّ خلافة أبي بكر ثبتت ببيعة أرباب الحلّ والعقد.

ثمّ ما ذكر هذا الرجل من أنّ الأشاعرة لا يقدرون على هذا المبحث ، وتعجّب من بحثهم في الإمامة لقولهم : « بأنّ الله خالق كلّ شيء »(١) ، فهذا شيء ذكره مرارا ، وهو لا يعرف غير هذا وتصوير المحالات على رأيه الباطل الفاسد.

وقد بيّنّا لك أنّ شيئا ممّا ذكره لا يلزم الأشاعرة ، وكثرة التكرار من شأن الكوزيّين(٢) وأمثاله.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٣٢٠ ـ ٣٢١.

(٢) الكوز : إناء للشرب ، وجمعه : أكواز وكيزان وكوزة ؛ انظر : لسان العرب ١٢ / ١٨٦ مادّة « كوز ».

ومراد الفضل هنا أنّ العلّامة الحلّي مثله مثل صانع الكيزان ، الذي من دأبه أن يكون عمله مكرّرا على شاكلة واحدة ، من الصباح إلى المساء وعلى مدار الأيّام ، فلا يأتي بجديد ، ولمّا كان هذا العمل من الصنائع الدنيئة في المجتمع ، أراد ابن روزبهان إهانة العلّامة فمثّله بهذا المثل!

٢٤٧

وأقول :

ينبغي هنا بسط المقال لتتّضح الحال ، فنقول : استمرّ النزاع في أنّ تعيين الإمام من الله تعالى أو باختيار الناس؟ ذهبت الإمامية إلى الأوّل ، وأهل السنّة إلى الثاني ، والحقّ هو الأوّل ؛ لأمور :

الأوّل : قوله تعالى :( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) (١) .

الثاني : إنّ الرجوع إلى الاختيار مفسد للإمامة والأمّة والدين ، ولا سيّما إذا اكتفينا باختيار الواحد كما هو مذهب القوم(٢) ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى ؛ لأنّ الاختيار ربّما يؤدّي إلى اختيار فاسق فعلا أو استقبالا فتفسد الإمامة ، وتفسد الأمّة والدين بفساد الإمام ، ولو من أجل أنّ الناس على دين ملوكهم وتبع لأهوائهم كما هو المشاهد.

الثالث : إنّ الأمّة قد تختلف باختيار الإمام ولو لزعم كلّ طائفة أنّ إمامة صاحبهم متعيّنة لاختلال شروطها في الغير ، أو لعدم معرفتهم به ولو لبعد الأماكن وكثرة المسلمين ، فيؤدّي إلى إمامة إمامين أو أكثر ، وإلى الحرب وفساد البلاد وضعف الإسلام.

ودعوى تعيّن المتقدّم كما زعمه في « المواقف »(٣) ، باطلة إذا فرض قول كلّ طائفة بعدم صلوح غير صاحبهم للإمامة ، مع أنّه قد يقع الاختلاف

__________________

(١) سورة القصص ٢٨ : ٦٨.

(٢) تمهيد الأوائل : ٤٦٧ ، غياث الأمم : ٨٦ ـ ٨٩.

(٣) المواقف : ٤٠٠ ، شرح المواقف ٨ / ٣٥٣.

٢٤٨

في المتقدّم.

كما إنّ دعوى وجوب الانتظار إلى الاتّفاق باطلة أيضا ؛ لأنّ الانتظار يوجب إهمال أمر الأمّة زمانا أو أزمنة طويلة أو دائما.

على أنّ إيجاب الانتظار مناف لاختيار عمر وأصحابه لأبي بكر ، وبيعتهم له قبل اتّفاق من في السقيفة فضلا عن غيرهم ، بل مع تصريح الكثير أو الأكثر من أهل السقيفة بالخلاف(١) .

الرابع : إنّ تعيين الإمام باختيار واحد ـ إماما كان أو غيره ـ ، أو باختيار جماعة ـ وإن كانوا جميع أهل الحلّ والعقد ـ ، حيف بحقوق بقيّة المسلمين بلا سلطان جعله الله لأولئك عليهم.

ودعوى الإجماع ساقطة ؛ لأنّها ناشئة من فعل عمر ومن وافقه ، وهم ـ مع عدم تحقّق الإجماع بهم ـ محلّ الكلام.

وكيف يمكن دعوى الإجماع على اعتبار اختيار الناس وقد خالف أمير المؤمنين ، الذي يدور معه الحقّ حيث دار(٢) ، وجماعة من الصحابة في بيعة أبي بكر ، وما حفلوا باختيار من اختاره إلى أن بايعوا بعد مدّة طويلة بالاضطرار ، وبقي بعضهم على المخالفة حتّى لحق بالملك القهّار؟!

__________________

(١) السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ٦ / ٧٧ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٣٤ وما بعدها ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٨٩ وما بعدها ، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٤٦٧ و ٤٦٨.

(٢) انظر : مسند أبي يعلى ١ / ٤١٩ ح ٥٥٠ ، المعجم الكبير ٢٣ / ٣٢٩ ح ٧٥٨ وص ٣٩٥ ح ٩٤٦ ، الإمامة والسياسة ١ / ٩٨ ، الكنى والأسماء ـ للدولابي ـ ٢ / ٨٩ ، المحاسن والمساوئ ـ للبيهقي ـ : ٤١ ، المستصفى من علم الأصول ١ / ٢٧٠ ، فردوس الأخبار ١ / ٤١٠ ح ٣٠٥٠ ، ربيع الأبرار ١ / ٨٢٨ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٤٩٤.

هذا ، وقد تقدّم تخريج الحديث مفصّلا في ج ١ / ١٦٤ ـ ١٦٥ ه‍ ١ ؛ فراجع!

٢٤٩

الخامس : إنّه يمتنع أن يترك الله سبحانه اختياره للإمام ويأمر الناس بأن يختاروه وهو أنظر لهم وأخبر ، إذ يقبح بالحكيم أن يترك أسهل الطريقين وأوصلهما إلى المطلوب ، ويأمر بسلوك الطريق الصعب الذي لا يوصل إلى المطلوب أحيانا أو غالبا.

السادس : إنّ التكليف بالاختيار ، إن تعلّق بالناس جميعا على نحو الاتّفاق منهم فهو تكليف بما لا يطاق.

وإن تعلّق بهم على نحو يكفي البعض ، ويجب على الباقي القبول بشرط العلم بجامعيّة الإمام للشرائط ، فهو ظاهر البطلان ، إذ يمتنع عادة معرفة الناس جميعا بجامعيّته حتّى من حيث شهادة المختار أو المختارين له بها ؛ لأنّهم إن لم يكونوا فسّاقا فالعادة تقضي بالجهل في عدالتهم عند الناس إلّا النادر ، فيبقى الناس في هرج بلا إمام أزمانا طويلة ، أو إلى أن يموت ذلك الإمام

وربّما تكون شهادتهم معارضة بشهادة آخرين بعدم جامعيّته ، فيزيد الهرج ، وكذا إن كان المختار له واحدا.

وأمّا لو أوجبنا القبول مطلقا ، فالأمر أظهر بطلانا ، إذ يلزم تديّن الشخص بإمامة إمام لا يعرف جامعيّته بمجرّد اختيار واحد أو جماعة لا يعرف عدالتهم ، أو يعرف فسقهم ، وهذا لا يقوله من يؤمن بالله وحكمته.

السابع : إنّ الإمام لا بدّ أن يكون معصوما وأفضل الأمّة وأكملهم صفات ـ كما سبق ـ ، ولا يعلمه الناس إلّا بطريق النصّ من الله تعالى بلسان نبيّه ، أو إمام آخر معصوم حاك عن الله ورسوله ، أو بإظهار المعجزة على

٢٥٠

يده(١) .

ولو لم يكن الإمام السابق معصوما حاكيا عن الله تعالى لم ينفع نصّه ؛ لاحتمال خطئه أو عمده إلى من لم يكن أهلا للإمامة اتّباعا للهوى أو حبّا للرحم.

ففي الحقيقة لم يوافقنا السنّة على ثبوت الإمامة بنصّ الإمام السابق ؛ لأنّا نريد بالسابق إماما خاصّا وهم يريدون غيره.

الثامن : إنّ نصب الإمام واجب على الله تعالى ، فلا بدّ أن يكون الاختيار والتعيين منه تعالى ، ويدلّ على وجوبه عليه الكتاب والعقل

* أمّا الكتاب ، فقوله تعالى :( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (٢) ، وبالضرورة أنّ نصب الإمام رحمة.

وقوله تعالى :( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) (٣) ، ولا ريب أنّ نصب الإمام من الهدى ، أو مقدّمته ، فيجب.

وقوله تعالى :( وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) (٤) ، ومن الواضح أنّ نصب الإمام من قصد السبيل.

* وأمّا العقل ، فأمران :

الأوّل : إنّه لا إشكال بأنّ الناس في كلّ وقت محتاجون إلى عالم بكلّ ما كلّف الله تعالى به عباده وجاء به الرسول من عنده ، من حلال أو حرام ، فإنّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة(٥) .

__________________

(١) راجع الصفحة ٢١٧ وما بعدها من هذا الجزء.

(٢) سورة الأنعام ٦ : ٥٤.

(٣) سورة الليل ٩٢ : ١٢.

(٤) سورة النحل ١٦ : ٩.

(٥) الكافي ١ / ٧٩ ح ١٧٥ ، وانظر : سنن الدارمي ١ / ٨٥ ح ٤٣٦.

٢٥١

ولا يعلم بهذا العالم إلّا الله تعالى ، فلا بدّ من نصبه له ، ولا يغني الاجتهاد عن العلم الواقعي ؛ لوقوع الخطأ فيه.

وكذلك هم محتاجون إلى عالم بكلّ حجّة ودليل يثبت به الإسلام ليحتجّ به على كلّ بحسب فهمه وحاله.

ولو احتاج الثبوت إلى معجزة لزم أن يكون الإمام محلّا لإظهار الله لها على يده ، وإلّا لا نقطعت حجج الله وبيّناته ، لعدم كفاية معجزات النبيّ في الحجّيّة بالنسبة إلى أكثر الناس المتأخّرين ؛ لجهلهم بها أو بإعجازها.

فيجب على الله تعالى نصب الإمام ، العالم ببيّناته ، القادر على إثبات دينه ولو بالمعجزة ، كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «اللهمّ بلى ، لا تخلو الأرض من قائم لك بحجّة ، إمّا ظاهرا مشهورا ، أو خائفا مغمورا ، لئلّا تبطل حججك وبيّناتك »(١)

فلولا نصب هذا الإمام لكان لأكثر الكافرين والضالّين الحجّة على الله تعالى ؛ إذ يصحّ عذرهم بالجهل والغفلة الآتية بسبب عدم نصب الحجّة عليهم ، فيقولون :( إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ) (٢) .

ولا يضرّ في حجّيّته استتاره ؛ لأنّه بسببهم ، حيث أخافوه ، ففوّتوا الخير عن أنفسهم كمن يخيفون الأنبياء ويشرّدونهم ، فلا تبطل حجج الله بذلك.

وأمّا قوله سبحانه :( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ

__________________

(١) الغارات : ٩١ ، الفصول المختارة : ٣٢٥ ، غرر الحكم ودرر الكلم ـ للآمدي ـ ٢ / ٣٦٢ رقم ٣٨٤.

(٢) سورة الأعراف ٧ : ١٧٢.

٢٥٢

الرُّسُلِ ) (١) ، فلا يدلّ على عدم الحاجة إلى الإمام ؛ لأنّ المراد البعديّة بلحاظ ما جاؤوا به ، وممّا جاؤوا به نصب الإمام.

الثاني : إنّ نصب الإمام لطف ، واللطف واجب على الله عزّ وجلّ.

أمّا الصغرى ؛ فلأنّ اللطف هو ما يقرّب إلى الطاعة ويبعّد عن المعصية ولو بالإعداد ، وبالضرورة أنّ نصب الإمام كذلك ، لما به من تنفيذ الأحكام ورفع الظلم والفساد ونحوها.

ولا ينافي اللطف في نصبه سلب العباد سلطانه أو غيبته ؛ لأنّ الله سبحانه قد لطف بهم بنصب المعدّ لهم ، وهم فوّتوا أثر اللطف عن أنفسهم.

وعورض هذا اللطف بلطف آخر حاصل بعدم الإمام ، فإنّ فاعل الواجب وتارك الحرام مع عدم الإمام أقرب إلى الإخلاص ؛ لانتفاء الخوف منه ، فيكون أكثر ثوابا ، ويكون عدم الإمام لطفا.

بل قيل : إنّ تفويت هذا الثواب مفسدة مانعة من وجوب نصب الإمام.

وفيه : إنّ هذا اللطف لا يصلح للمعارضة ؛ لأنّه لطف خاصّ بقليل من الناس ، ونصب الإمام لطف عامّ.

على أنّا نمنع كونه لطفا ؛ لعدم إحاطة غير الإمام بجهات الإخلاص ، فلا يحصل الإخلاص التامّ بدون الإمام ، للحاجة إلى تعليمه وإرشاده.

مع أنّ من لا يخالف الأوامر والنواهي مع عدم الإمام ، لا يتفاوت حاله

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ١٦٥.

٢٥٣

في الإخلاص بين وجود الإمام وعدمه ، ضرورة أنّه يوافق التكاليف بالطبع والطوع ، لا بالخوف ألبتّة ، بلا فرق بين حالتي وجود الإمام وعدمه ، بل هو مع الإمام أقرب إلى الإخلاص اقتداء به وسلوكا لنهجه.

وأمّا كون فوات المصلحة مفسدة ، فظاهر البطلان لو سلّم فواتها ، على أنّ مقتضاه عدم جواز نصب الإمام ، لا عدم وجوبه فقط ، لما في نصبه من المفسدة فرضا.

وأمّا الكبرى ؛ فلأنّ ترك هذا اللطف من المولى إخلال بغرضه ومطلوبه ، وهو طاعة العباد له وترك معصيته ، فيجب نصب الإمام على المولى لئلّا يخلّ بمطلوبه ؛ لأنّ الناس غير معصومين ، والمفاسد بنصب المعدّ للطاعة منتفية بالضرورة ، وإلّا لما جاز نصبه ، وهو خلاف الإجماع والضرورة.

على أنّه سبحانه أخبر بأنّه لطيف ، فيلزمه نصب الإمام تصديقا لإخباره.

وهو ـ سبحانه ـ لم يخلق جوارح الإنسان إلّا وجعل لها إماما يهديها إلى أفعالها ، وأميرا يحكم في مشتبهاتها ، وهو القلب ، كما أقرّ به عمرو بن عبيد لمّا سأله هشام بن الحكمرحمه‌الله (١) ، فكيف يترك الناس في حيرة

__________________

(١) راجع ما جرى بين هشام بن الحكم وبين عمرو بن عبيد في : رجال الكشّي ٢ / ٥٤٩ ـ ٥٥١ رقم ٤٩٠ ، الكافي ١ / ١٩٠ ح ٤٢٩ ، إكمال الدين ١ / ٢٠٧ ـ ٢٠٩ ح ٢٣ ، علل الشرائع ١ / ٢٢٨ ح ٢ ، الأمالي ـ للصدوق ـ : ٦٨٥ ـ ٦٨٧ ح ٩٤٢ ، الاحتجاج ٢ / ٢٨٣ ح ٢٤٢.

وأمّا عمرو فهو : أبو عثمان عمرو بن عبيد بن باب ـ وقيل : ابن ثوبان ـ البصري ، شيخ المعتزلة في عصره ، كان جدّه من سبي فارس ، وأبوه نسّاجا ثمّ

٢٥٤

الضلالة بلا إمام يهديهم سواء السبيل ، ويرفع مشتبهاتهم وخلافهم ، مع انتشارهم في أطراف الأرض ، واختلافهم بالطباع والأهواء ، وتباينهم بالمقاصد والآراء؟!

ويمكن إرجاع الدليلين العقليّين(١) إلى دليل واحد ، وهو كون الإمامة لطفا من جهتين :

جهة العلم ؛ وهي الأمر الأوّل

وجهة السياسة ؛ وهو الأمر الثاني

واللطف واجب.

فإذا عرفت أنّه لا يجوز الرجوع إلى اختيار الناس في تعيين الإمام ، وأنّه يجب على الله سبحانه نصبه ، ظهر لك بطلان القول بثبوت الإمامة

__________________

شرطيّا للحجّاج في البصرة ، وكان محظيّا عند أبي جعفر المنصور ، وكان المنصور يحبّه ويعظّمه ، له من الكتب : تفسير القرآن عن الحسن البصري ، وخطب ، ورسائل ، وديوان شعر ، قيل : ولد هو وواصل بن عطاء سنة ٨٠ ه‍ ، وتوفّي سنة ١٤٤ ه‍ ، وقيل : ١٤٣ و ١٤٢ ه‍ ، وهو في طريقه إلى مكّة.

انظر : تاريخ بغداد ١٢ / ١٦٦ رقم ٦٦٥٢ ، وفيات الأعيان ٣ / ٤٦٠ رقم ٥٠٣ ، تهذيب الكمال ١٤ / ٢٧٦ رقم ٤٩٩٠ ، سير أعلام النبلاء ٦ / ١٠٤ رقم ٢٧ ، البداية والنهاية ١٠ / ٦٤ حوادث سنة ١٤٢ ، شذرات الذهب ١ / ٢١٠ و ٢١١ حوادث سنة ١٤٢ ه‍ ، هديّة العارفين ٥ / ٨٠٢.

وأمّا هشام فهو : أبو محمّد هشام بن الحكم الشيباني ، من أهل الكوفة ، سكن بغداد ، من كبار متكلّمي الإمامية ، له تصانيف كثيرة في علم الكلام ، وكان من أصحاب الإمام جعفر الصادقعليه‌السلام ، وبعده الإمام موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام ، توفّي سنة ١٧٩ ه‍ بالكوفة في أيّام الرشيد ، وقيل سنة ١٩٩ ه‍.

انظر : رجال الكشّي ٢ / ٥٢٦ رقم ٤٧٥ ، الفهرست ـ للنديم ـ : ٣٠٧ ، سير أعلام النبلاء ١٠ / ٥٤٣ رقم ١٧٤ ، لسان الميزان ٦ / ١٩٤ رقم ٦٩١.

(١) وهما : إنّ الناس في كلّ وقت محتاجون إلى عالم ، وإنّ نصب الإمام لطف.

٢٥٥

ببيعة أهل الحلّ والعقد ، وبطلان القول بوجوب النصب شرعا على الأمّة.

ومن طريف ما قيل في بطلان دعوى أنّ الإمامة بالاختيار ، قول الشاعر العبدي(١) [ من الطويل ] :

وقالوا : رسول الله ما اختار بعده

إماما ، ولكنّا لأنفسنا اخترنا

أقمنا إماما إن أقام على الهدى

أطعنا وإن ضلّ الهداية قوّمنا

فقلنا : إذن أنتم إمام إمامكم

بحمد من الرحمن تهتم وما تهنا

ولكنّنا اخترنا الذي اختار ربّنا

لنا يوم خمّ ما اعتدينا ولا حلنا

سيجمعنا يوم القيامة ربّنا

فتجزون ما قلتم ونجزى الذي قلنا

ونحن على نور من الله واضح

فيا ربّ زدنا منك نورا وثبّتنا(٢)

واستدلّ الأشاعرة على وجوب النصب على الأمر شرعا بثلاثة وجوه ، ذكر صاحب « المواقف » وشارحها منها اثنين ، قالا :

«الأوّل : إنّه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأوّل بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله على امتناع خلوّ الوقت من خليفة وإمام ، حتّى قال أبو بكر في خطبته المشهورة حين وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ألا إنّ محمّدا قد مات ، ولا بدّ لهذا الدين ممّن يقوم به.

__________________

(١) هو : أبو محمّد سفيان بن مصعب العبدي الكوفي ، من شعراء أهل البيتعليهم‌السلام والمنقطعين إليهم ،

وكان الإمام الصادق عليه السلام يسمع شعره ويقول : « يا معشر الشيعة! علّموا أولادكم شعر العبدي ، فإنّه على دين الله » ، وكان معاصرا للسيّد الحميري ، المتوفّى سنة ١٧٣ ه‍ ، وله معه موقف ينمّ عن تضلّعه ومعرفته بمواضع الكلام ، فقال السيّد : « أنا أشعر الناس إلّا العبدي ».

انظر : الكافي ٨ / ٢١٦ ح ٢٦٣ ، رجال الكشّي ٢ / ٧٠٤ رقم ٧٤٨ ، الأغاني ٧ / ٢٩٣.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ / ٣١٨.

٢٥٦

فبادر الكلّ إلى قبول قوله ، ولم يقل أحد : لا حاجة إلى ذلك ؛ بل اتّفقوا عليه ، وقالوا : ننظر في هذا الأمر ؛ وبكّروا إلى سقيفة بني ساعدة ، وتركوا أهمّ الأشياء ، وهو دفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ واختلافهم في التعيين لا يقدح في ذلك [ الاتّفاق ] ـ ولم يزل الناس [ بعدهم ] على ذلك في كلّ عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متّبع »(١) انتهى.

وفيه ـ مع ما عرفت من وجوب النصب على الله تعالى ، فلا محلّ لوجوبه على الأمّة شرعا ـ : إنّ دعوى امتناع خلوّ الوقت عن إمام ، أعمّ من وجوبه على الله سبحانه ، وعلى الأمّة ، شرعا أو عقلا.

نعم ، لو صحّ ما نقلاه عن أبي بكر وقبول الصحابة له ، وقولهم :

« ننظر في هذا الأمر » ، كان ظاهرا في وجوبه على الأمّة ، لكنّه ـ مع كونه أعمّ من الوجوب شرعا وعقلا ـ كذب صريح ؛ إذ لم يقل أبو بكر : « لا بدّ لهذا الدين ممّن يقوم به » في خطبته التي رأيناها في كتبهم ، كتاريخي الطبري وابن الأثير وصحيح البخاري ، عند ذكر مناقب أبي بكر(٢) ، ومستدرك الحاكم ، حيث ذكر خطبة أبي بكر(٣) ، وغيرها من كتبهم(٤) .

وما قال أحد بعد خطبة أبي بكر : « ننظر في هذا الأمر » ، ولا راحوا إلى السقيفة وفاء بالوعد وقياما بواجب النصب شرعا

__________________

(١) المواقف : ٣٩٥ ، شرح المواقف ٨ / ٣٤٥ ـ ٣٤٦ ، وانظر : شرح تجريد الاعتقاد ـ للقوشجي ـ : ٤٧٢.

(٢) تاريخ الطبري ٢ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٨٧ حوادث سنة ١١ ه‍ ، صحيح البخاري ٥ / ٧٠ ح ١٦٧.

(٣) المستدرك على الصحيحين ٢ / ٣٢٣ ح ٣١٦٢.

(٤) راجع : السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ٦ / ٧٥ ـ ٧٦ ، السيرة النبوية ـ لابن حبّان _ : ٤٠١ ، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ ٤ / ٤٨٠ ـ ٤٨٣.

٢٥٧

فإنّ رواياتهم متضافرة في أنّ الأنصار اجتمعوا في السقيفة لبيعة سعد ساعة موت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فعلم أبو بكر وأصحابه ، فذهبوا ينافسونهم في الإمرة ، كما يدلّ عليه خطبة عمر التي بيّن فيها أنّ بيعة أبي بكر فلتة ، ورواها القوم ، منهم البخاري في « باب رجم الحبلى إذا أحصنت » من كتاب المحاربين(١) .

وكيف يمكن أن تكون مبادرتهم إلى السقيفة أداء للوظيفة الشرعية؟! والحال أنّ تجهيز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ومراعاة حرمته أهمّ الواجبات ، وتأخير دفنه تلك المدّة أكبر الوهن به وبالإسلام! ولا يضرّ تقديم تجهيزه بأمر الإمامة ، ولا سيّما بناء على حسن ظنّ القوم بالصحابة وحكمهم بعدالتهم أجمع ، وصلابتهم في الدين كما تسمع!

فلا ريب أنّهم لم يؤخّروا دفن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله مبادرة لواجب البيعة ، وإنّما أخّروه منافسة في الدنيا ، وانتهازا لفرصة مشغولية أمير المؤمنينعليه‌السلام بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلمهم بأنّه لا يترك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بلا دفن ويأتي لمزاحمتهم!

ولو كانوا بذلك الاهتمام في أداء واجب البيعة فما بال عمر أباح تأخير البيعة في الشورى ثلاثة أيّام ، والنفر الّذين اختارهم للشورى ستّة ، ويمكنهم بتّ الأمر في يوم واحد أو ساعة واحدة ، ولا سيّما مع علمهم بالحال قبل موته؟!

ولو كانوا بذلك الاهتمام في أمر الإمامة الإلهيّة فلم لم يسألوا

__________________

(١) صحيح البخاري ٨ / ٣٠٠ ـ ٣٠٤ ح ٢٥ ، وانظر : مسند أحمد ١ / ٥٥ ، مصنّف عبد الرزّاق ٥ / ٤٣٩ ـ ٤٤٥ ح ٩٧٥٨ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٨ / ٥٧٠ ح ٢ ، المعيار والموازنة : ٣٨ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ١ / ٣٢٠ ـ ٣٢١ ح ٤١٥ ، الثقات ـ لابن حبّان ـ ٢ / ١٥٢ ـ ١٥٤ ، تاريخ دمشق ٣٠ / ٢٨١ ـ ٢٨٣.

٢٥٨

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نصب إمام لمّا أخبرهم بموته مرارا عديدة تصريحا وتلويحا فيريحهم عن تكلّف ذلك المهمّ؟!

ولم نسبوه إلى الهجر ومنعوه من كتابة ما لا يضلّون بعده؟!(١) ألم يحتملوا أنّه يريد نصب إمام فيريحهم عن ذلك الاهتمام؟!

ولم لم يعطها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بعض اهتمامهم وينصب لهم خليفة أو يشرّع جواز ترك الاستخلاف بالقول ويحفظ حرمته وحرمة الإسلام؟!

ولم لم يكن عند أمير المؤمنين ذلك الاهتمام فيشاركهم في أداء الواجب فيحصل لدفن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله تعجيل؟!

وأمّا قولهما : « ولم يزل الناس على ذلك في كلّ عصر إلى زماننا »

إلى آخره(٢)

فغريب ؛ لأنّا لم نر ولم نسمع أنّهم اهتمّوا لنصب إمام قياما بالواجب ، ولذا لم يطلبوا إماما جامعا للشرائط التي ذكراها ، من العدالة والاجتهاد والقرشية ونحوها ، وإنّما رأينا وسمعنا قيامهم برئاسة من انتفت عنه الشرائط ، طلبا لأن ينالوا به شيئا من الدنيا الدنيّة!

الدليل الثاني الذي ذكراه لمختار الأشاعرة : إنّ في نصب الإمام دفع ضرر مظنون ، ودفعه واجب إجماعا(٣) .

وفيه : إنّ الدفع به إنّما يجب على الناس إذا لم يجب على الله تعالى ، أو أهمل أمر الأمّة ، وكلاهما باطل

ولو سلّمنا ، فلا مخرج للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن وجوب دفع الضرر

__________________

(١) راجع الصفحة ٩٣ ه‍ ٢ من هذا الجزء.

(٢) راجع الصفحة ٢٥٧ من هذا الجزء.

(٣) المواقف : ٣٩٦ ، شرح المواقف ٨ / ٣٤٦.

٢٥٩

بالنصب ، فلا بدّ أن يكون قد نصب وإلّا أخلّ بالواجب.

على أنّ نصبهم للإمام وإن دفع ضررا ، إلّا أنّ نصب غير المعصوم يوجب ضررا آخر ناشئا من عمده أو خطئه ، فيضرّ بالدين والأمّة ، فيحرم ، فلا مناص من نصب الله سبحانه لمن يعلم عصمته.

وقد ذكر القوشجيدليلا ثالثا ، وهو : إنّ الشارع أمر بإقامة الحدود وتجهيز الجيوش وسدّ الثغور ونحوها ممّا لا يتمّ إلّا بإمام ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به واجب »(١) .

وفيه ـ مع توقّفه على عدم الوجوب على الله سبحانه ، وتركه لنصب الإمام ، وكلاهما باطل ـ : إنّ تلك الواجبات إنّما تجب بشرط وجود الإمام ، ومقدّمة الواجب المشروط غير واجبة ، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ ، ولا سيّما أنّ الأوّل ـ وهو إقامة الحدود ـ إنّما يجب على الإمام ، بل وكذا الأخيران ، فكيف تجب مقدّمتها ، وهي نصب الإمام على غيره؟! اللهمّ إلّا إذا خيف على بيضة الإسلام ، فإنّه يجب الأخيران على الناس أيضا ، فيجب عليهم النصب هنا خاصّة.

ولو سلّم وجوب تلك الأمور على الناس ، وأنّ النصب مقدّمة وجود لها ، فكثير من الجمهور لا يقولون بوجوب مقدّمة الواجب كما سيذكره المصنّفرحمه‌الله في مسألة أصول الفقه.

فاتّضح بما بيّنّا بطلان الرجوع إلى اختيار الأمّة ، كلّا أو بعضا ، وبطلان إيجاب النصب عليهم.

لكنّ القوم مع اختيارهم لذلك ، اكتفوا ببيعة الواحد والاثنين في عقد

__________________

(١) شرح تجريد الاعتقاد : ٤٧٢.

٢٦٠