دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٤

دلائل الصدق لنهج الحق8%

دلائل الصدق لنهج الحق مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: مفاهيم عقائدية
ISBN: 964-319-357-8
الصفحات: 442

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 98883 / تحميل: 5023
الحجم الحجم الحجم
دلائل الصدق لنهج الحق

دلائل الصدق لنهج الحق الجزء ٤

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٣٥٧-٨
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الظهر أو العصر فسلّم في ركعتين ، فقال له ذو الشمالين ابن عبد عمرو ـ وكان حليفا لبني زهرة ـ : أخفّفت الصلاة أم نسيت؟!

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ما يقول ذو اليدين؟!

قالوا : صدق يا نبيّ الله ؛ فأتمّ بهم الركعتين اللتين نقص ».

فهذه الرواية الصحيحة عندهم قد جمعت بين اللقبين ، وصرّحت بأنّه ابن عبد عمرو ، وأنّه حليف بني زهرة ، وما هو إلّا قتيل بدر.

وفي « كنز العمّال »(١) عن عبد الرزّاق مثلها ، سوى إنّه لم يذكر حلفه لبني زهرة(٢) .

وقد جمعت رواية أخرى لأحمد(٣) بين اللقبين أيضا(٤) .

وكذا رواية أخرى لعبد الرزّاق وابن أبي شيبة(٥) ، نقلها في « كنز العمّال »(٦) .

وروى مالك في موطّئه(٧) رواية اشتملت على وصفه بذي الشمالين فقط ، ذكرها تحت عنوان ما يفعل من سلّم من ركعتين ساهيا.

__________________

(١) ج ٤ ص ٢١٥ [ ٨ / ١٤١ ح ٢٢٢٩١ ]. منهقدس‌سره .

(٢) وانظر : المصنّف ـ لعبد الرزّاق ـ ٢ / ٢٩٦ ح ٣٤٤١.

(٣) ج ٢ ص ٢٨٤. منهقدس‌سره .

(٤) وانظر : السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ١ / ٢٠٠ ـ ٢٠١ ح ٥٦٤ ، سنن الدارمي ١ / ٢٥١ ح ١٥٠٠.

(٥) المصنّف ـ لعبد الرزّاق ـ ٢ / ٢٩٧ ح ٣٤٤٢ وص ٢٩٩ ح ٣٤٤٧ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ١ / ٤٨٨ ب‍ ٢٥٢ ح ٢.

(٦) ج ٤ ص ٢١٤ [ ٨ / ١٣٦ ح ٢٢٢٦٨ ]. منهقدس‌سره .

(٧) ص ٤٩ في حاشية الجزء الأوّل لمصابيح البغوي ، المطبوع بمصر ١٣١٨ ه‍ [ الموطّأ : ٨٠ ـ ٨١ ح ٦٥ ]. منهقدس‌سره .

٦١

وهي كغيرها في الدلالة على وحدة ذي اليدين وذي الشمالين.

وأمّا رواية عمران بن حصين ، الدالّة على أنّ ذا اليدين هو ( الخرباق )(١) ، فلا تدلّ على التعدّد لجواز كون ( الخرباق ) لقبا لعمير بن عبد عمرو ، ويقرّبه أنّهم لم يعرفوا للخرباق أبا ، وإنّما يقول علماء رجالهم ( الخرباق السلمي )(٢) .

وقد عرفت أنّ عميرا أيضا منسوب إلى سليم ؛ لأنّه أحد أجداده ، كما سبق في كلام « الاستيعاب »(٣) .

وبالجملة : لا تصلح هذه الرواية لإثبات التعدّد في مقابلة تلك الروايات ، فظهر أنّ الصحيح وحدتهما وفاقا للزهري

قال في « الاستيعاب » بترجمة ذي اليدين : « وقد كان الزهري مع علمه بالمغازي يقول : إنّه ذو الشمالين المقتول ببدر ، وإنّ قصّة ذي اليدين في الصلاة كانت قبل بدر ثمّ أحكمت الأمور بعد »(٤) .

ثمّ قال في « الاستيعاب » : « وذلك وهم عند أكثر العلماء »(٥) .

ووجه الوهم ـ كما يظهر من أوّل كلامه ـ أنّه صحّ عن أبي هريرة أنّ ذا اليدين راجع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمر الصلاة ، فلا بدّ أن يكون ذو اليدين

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ / ٨٧ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ١ / ٤٨٩ ب‍ ٢٥٢ ح ٥ ، مسند أبي عوانة ١ / ٥١٤ ح ١٩٢٢ ، المعجم الكبير ١٨ / ١٩٤ ـ ١٩٥ ح ٤٦٤ و ٤٦٥ و ٤٦٧ و ٤٧٠.

(٢) الإصابة ٢ / ٢٧١ رقم ٢٢٤٠.

(٣) تقدّم قبل صفحتين في الهامش رقم ٤ عن الاستيعاب ٢ / ٤٦٩ رقم ٧١٦.

(٤) الاستيعاب ٢ / ٤٧٦ ضمن رقم ٧٢٤.

(٥) الاستيعاب ٢ / ٤٧٦ ضمن رقم ٧٢٤.

٦٢

غير ذي الشمالين ؛ لأنّ أبا هريرة أسلم عام خيبر ، وذا الشمالين قتل ببدر.

وفيه : إنّه بعد ما عرفت من صراحة الروايات بالاتّحاد لم يبق وجه للحكم بالتعدّد ، غاية الأمر أنّه يلزم من الاتّحاد كذب رواية أبي هريرة ، وهو غير مستغرب!

فإن قلت : لم يدّع أبو هريرة حضور الواقعة حتّى يكون كاذبا في الحكاية ، فلعلّه روى عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو عمّن حضر من الصحابة؟!

قلت : قد صرّح أبو هريرة بحضوره بنفسه في بعض هذه الأخبار التي حكى فيها الواقعة

فقد روى البخاري عنه في الباب الثالث من أبواب ما جاء في السهو أنّه قال : « صلّى بنا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الظهر أو العصر »(١) الحديث.

ونحوه في « صحيح مسلم » في باب السهو في الصلاة والسجود له(٢) .

وروى مسلم في هذا الباب ما هو أصرح في ذلك ، قال : « بينا أنا أصلّي مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله صلاة الظهر سلّم في الركعتين »(٣) وساق الحديث.

* * *

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ١٥٠ ح ٢٥٠.

(٢) صحيح مسلم ٢ / ٨٦ و ٨٧.

(٣) صحيح مسلم ٢ / ٨٧.

٦٣

قال المصنّف ـ رفع الله في الجنّة مقامه ـ(١) :

ونسبوا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كثيرا من النقص

روى الحميدي في « الجمع بين الصحيحين » عن عائشة ، قالت :

كنت ألعب بالبنات عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانت لي صواحب يلعبن معي ، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا دخل تقمّعن(٢) منه ، فيشير إليهنّ فيلعبن معي(٣) .

وفي حديث الحميدي أيضا : كنت ألعب بالبنات في بيته ـ وهي اللعب ـ(٤) .

مع أنّهم رووا عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله في صحاح الأحاديث أنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه صور مجسّمة أو تماثيل ، وتواتر النقل عنه بإنكار عمل الصور والتماثيل(٥)

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٤٧.

(٢) أي : تغيّبن ودخلن في بيت أو من وراء ستر ؛ انظر : لسان العرب ١١ / ٣٠٤ مادّة « قمع ».

(٣) الجمع بين الصحيحين ٤ / ١١٣ ح ٣٢٢٥ ، وانظر : صحيح البخاري ٨ / ٥٦ ح ١٥٤ ، صحيح مسلم ٧ / ١٣٥ ، سنن أبي داود ٤ / ٢٨٤ ح ٤٩٣١ ، سنن ابن ماجة ١ / ٦٣٧ ح ١٩٨٢ ، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٥ / ٣٠٥ ح ٨٩٤٦.

(٤) الجمع بين الصحيحين ٤ / ١١٣ ح ٣٢٢٥ ، وانظر : صحيح مسلم ٧ / ١٣٥ ، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٥ / ٣٠٦ ح ٨٩٤٨.

(٥) انظر : صحيح البخاري ٤ / ٢٣٥ ح ٣٤ ـ ٣٧ وص ٢٦٣ ح ١٢٦ وج ٧ / ٣٠٧ ح ١٦٠ وص ٣٠٩ ح ١٦٧ و ١٦٨ وص ٣١٠ ح ١٧١ ، صحيح مسلم ٦ / ١٥٦ ـ ١٦٢ ، سنن أبي داود ٤ / ٧١ ـ ٧٣ ح ٤١٥٢ ـ ٤١٥٨ ، سنن الترمذي ٤ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣ ح _

٦٤

فكيف يجوز لهم نسبة هذا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى زوجته ، من عمل الصور في بيته الذي أسّس للعبادة ، وهو محلّ هبوط الملائكة والروح الأمين في كلّ وقت؟!

ولمّا رأى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الصور في الكعبة لم يدخلها حتّى محيت(١) ، مع أنّ الكعبة بيت الله تعالى ، فإذا امتنع من دخوله مع شرفه وعلوّ مرتبته ، فكيف يتّخذ في بيته ـ وهو أدون من الكعبة ـ صورا ، ويجعله محلّا له؟!

* * *

__________________

١٧٤٩ ـ ١٧٥١ وج ٥ / ١٠٦ ح ٢٨٠٤ ـ ٢٨٠٦ ، سنن ابن ماجة ٢ / ١٢٠٣ ـ ١٢٠٤ ح ٣٦٤٩ ـ ٣٦٥٣ ، سنن النسائي ١ / ١٤١ وج ٧ / ١٨٥ وج ٨ / ٢١٢ ، مسند أحمد ٤ / ٢٨ و ٢٩.

(١) انظر : صحيح البخاري ٤ / ٢٧٨ ح ١٥٤ ، سنن أبي داود ٤ / ٧٢ ح ٤١٥٦ ، مسند أحمد ١ / ٣٦٥.

٦٥

وقال الفضل(١) :

قد صحّ أنّ عائشة كانت تلعب باللعب ، وكان هذا لكونها صغيرة غير مكلّفة فقد صحّ أنّه دخل عليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي بنت تسع سنين ، وهذه اللعب ما كانت مصوّرة بصورة الإنسان ، بل كانت على صورة الفرس ، لما روي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله رأى عند عائشة أفراسا لها أجنحة فقال : الفرس يكون له جناحان؟! قالت عائشة : أما سمعت أنّ خيل سليمان كانت لها أجنحة؟! فتبسّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢)

وهيئة الفرس لا تسمّى صورة ؛ لأنّ الأطفال لا يقدرون على تصوير الصورة ، وإنّما يكون مشابها للصورة ، ولا حرمة في عمل اللعبة على هيئة الخيل ، بل هذا في الإنسان ، وقيل : في ما عبد من الحيوانات والملائكة والإنسان.

وأيضا : يحتمل أن يكون هذا قبل تحريم الصور ، فإنّ تحريم الصور كان عام الفتح على ما ثبت(٣) ، ولعب عائشة كان في أوائل الهجرة(٤) .

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٣٥.

(٢) انظر : سنن أبي داود ٤ / ٢٨٤ ـ ٢٨٥ ح ٤٩٣٢ ، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٥ / ٣٠٦ ح ٨٩٥٠.

(٣) لم نجد لادّعائه هذا ما يثبته ، بل الثابت خلاف ذلك ، فإنّ تحريم التماثيل جاء في الآية ٥٢ من سورة الأنبياء ، وهي سورة مكّيّة بلا خلاف ؛ انظر مثلا : الإتقان في علوم القرآن ١ / ٤٥.

(٤) بل صريح الرواية السابقة المخرّجة عن سنن أبي داود والسنن الكبرى للنسائي ورواية البغوي في « مصابيح السنّة » الآتية بعد صفحتين أنّ لعب عائشة باللّعب كان

٦٦

وللصور شرائط إنّما تحرم عند وجودها ، وربّما لم يكن شرط من الشرائط موجودا ، ولمّا صحّ الأخبار وجب التأويل والجمع.

وليس أخبار الصحاح الستّة مثل أخبار الروافض ، فقد وقع إجماع الأئمّة على صحّتها.

* * *

__________________

بعد إحدى غزوات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في تبوك أو خيبر أو حنين ؛ وسيأتي ما يخصّ هذا المطلب في ردّ الشيخ المظفّرقدس‌سره ، فراجع!

٦٧

وأقول :

من الغريب استدلاله على صغرها وعدم تكليفها حين اللعب بدخول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عليها وهي بنت تسع ، فإنّ بناءه بها وهي بهذا السنّ ـ كما يزعمون(١) ـ لا يقتضي أن يكون لعبها في أوّل زمن الدخول ، بل أخبارهم تدلّ على لعبها في أواخر أيّام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ففي مصابيح البغوي من الحسان ، في باب عشرة النساء ، من كتاب النكاح ، عن عائشة قالت : « قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من غزوة تبوك أو حنين ، وفي بهوتها(٢) ستر ، فهبّت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة تلعب بها.

فقال : ما هذه يا عائشة؟!

قالت : بناتي.

__________________

(١) ربّ مشهور لا أصل له ، ومن ذلك القول بأنّ سنّ عائشة عند زواجها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان تسع سنين ؛ إذ إنّها تصغر أختها أسماء بعشر سنين ـ كما في : البداية والنهاية ٨ / ٢٧٦ ـ ، وقد كانت ولادة أختها أسماء قبل الهجرة بسبع وعشرين سنة ـ كما في : معرفة الصحابة لأبي نعيم ٦ / ٣٢٥٣ رقم ٣٧٦٩ ، وأسد الغابة ٦ / ٩ رقم ٦٦٩٨ ، والإصابة ٧ / ٤٨٨ رقم ١٠٧٩٨ ، فتكون ولادة عائشة قبل الهجرة بسبعة عشرة سنة ، وهذا عمرها عند زواجها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فلاحظ!

(٢) البهو : البيت المقدّم أمام البيوت ؛ انظر : لسان العرب ١ / ٥٢٨ مادّة « بها ».

وفي المصدر : « سهوتها » وفي نسخة منه كما في المتن ، والسهوة : حائط صغير يبنى بين حائطي البيت ويجعل السقف على الجميع ، فما كان وسط البيت فهو سهوة ، وما كان داخله فهو المخدع ، وقيل : هي صفّة بين بيتين ، وقيل غير ذلك ؛ انظر : لسان العرب ٦ / ٤١٥ مادّة « سها ».

٦٨

ورأى بينهنّ فرسا له جناحان من رقاع ، فقال : وما هذا الذي أرى وسطهنّ؟!

قالت : فرس.

قال : وما هذا الذي عليه؟!

قالت : جناحان.

قال : الفرس يكون له جناحان؟!

قالت : أما سمعت أنّ لسليمان خيلا لها أجنحة؟!

قالت : فضحك حتّى رأيت نواجذه »(١)

فإنّها صريحة في لعبها بعد إحدى الغزاتين ، وهما كانتا بعد فتح مكّة ، ومنه يعلم ما في قوله أخيرا : « ولعب عائشة كان في أوائل الهجرة ».

ولو سلّم أنّ لعبها كان في أوّل بناء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بها ، وأنّها بنت تسع ، فبنت التسع التي تصلح للتزويج ولأحكامه مكلّفة على الأحقّ.

ولو سلّم أنّها غير مكلّفة ، فإشكال المصنّفرحمه‌الله ليس في لعبها حتّى يجاب بأنّها غير مكلّفة ، بل في إبقاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الصور في بيته وهو محلّ هبوط الملائكة التي لا تدخل بيتا فيه صور ، وفي عدم إنكاره على عمل الصور ، وقد تواتر عنه النهي عنه.

وأمّا قوله : « وهذه اللعب ما كانت مصوّرة بصورة الإنسان »

فمناف لما تضافرت به أخبارهم من لعبها بالبنات ، التي هي عبارة

__________________

(١) مصابيح السنّة ٢ / ٤٥٢ ح ٢٤٤٢ ، وقد تقدّم تخريجه في الصفحة ٦٦ ه‍ ٢ عن أبي داود والنسائي.

٦٩

عمّا كان بصورة البنات من الناس ، وقد جمعت رواية البغوي السابقة بين ذكر البنات والفرس ، وهي التي ذكرها الخصم على الظاهر ، لكنّه تصرّف فيها بإسقاط لفظ البنات ليروّج مطلبه في الجملة!

وأمّا قوله : « وهيئة الفرس لا تسمّى صورة ؛ لأنّ الأطفال » إلى آخره

ففيه : إنّ الصورة هي : الشكل ، كما في القاموس(١) ، فتكون الهيئة منها ، وتعليله لا وجه له ؛ لأنّ عائشة لم تكن صغيرة حين اللعب بالأفراس ، بل كانت بنت سبع عشرة تقريبا على رأيهم ، لما سبق من تصريح رواية البغوي بلعبها بها بعد إحدى الغزاتين.

ولو سلّم أنّها كانت ـ حينئذ ـ صغيرة ، فمن الإزراء بحقّها أن ينسب إليها العجز عن تصوير الصورة ؛ لما زعموا أنّها في غاية الذكاء ، ومن تقدر في كبرها على قيادة الحرب العظيمة لا تعجز في صغرها عن تصوير الصورة!!

ولو سلّم عجزها ، فهو لا يقتضي عدم كمال هيئة الفرس ، بحيث لا تسمّى صورة ؛ لجواز أن يكون غيرها قد صنعها لها.

ولا تخفى ظرافة تسميته لها طفلا وقد تزوّجت وبلغت سنّ النساء!

وأمّا قوله : « ولا حرمة في عمل اللعبة على هيئة الخيل »

فباطل ؛ لإطلاق أخبارهم المستفيضة(٢) في حرمة تصوير ذوات

__________________

(١) القاموس المحيط ٢ / ٧٥ مادّة « صور ».

(٢) وعدم وجود ما يصلح أن يكون مخصّصا أو مقيّدا لتلك الأخبار ، سوى ما ورد في رواية أبي طلحة ـ المروية في صحاحهم ، وقد تقدّم تخريجها في الصفحة ٦٤ _

٧٠

الأرواح(١)

وقد رواها البخاري في مقامات لا تحصى ، منها في آخر صحيحه ، ومنها في أواخر كتاب البيع

وقد قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في بعضها : « من صوّر صورة فإنّ الله معذّبه بها حتّى ينفخ فيها الروح ، وليس بنافخ فيها أبدا »(٢)

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله في بعضها : « إنّ أصحاب هذه الصور يعذّبون يوم القيامة ، ويقال لهم : أحيوا ما خلقتم »(٣) .

وروى مسلم طرفا منها في كتاب « اللباس والزينة » من صحيحه ، في باب : « لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة »(٤) ، وبعضها صريح في صور الخيل ذوات الأجنحة

فقد أخرج عن عائشة ، قالت : « قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من سفر وقد سترت على بابي درنوكا(٥) فيه الخيل ذوات الأجنحة فأمرني

__________________

هـ ٥ ـ من استثناء الرّقم ، وهي لا تصلح لتخصيص أو تقييد محلّ البحث والنزاع!

والرّقم هو الصورة والرسم على الثوب والستر ، ورقم الثوب رقما : وشّاه وخطّطه وعلّمه ؛ انظر : تاج العروس ١٦ / ٢٩٧ مادّة « رقم ».

(١) راجع ه‍ ٥ من الصفحة ٦٤.

(٢) صحيح البخاري ٣ / ١٦٩ ح ١٦٨.

(٣) صحيح البخاري ٧ / ٣١٠ ح ١٧١.

(٤) انظر : صحيح مسلم ٦ / ١٥٥ ـ ١٦٢.

(٥) الدرنوك : ضرب من الثياب أو البسط ، له خمل قصير كخمل المناديل ، وبه تشبّه فروة البعير والأسد ، وجمعه : درانك.

انظر مادّة « درنك » في : الصحاح ٤ / ١٥٨٣ ، لسان العرب ٤ / ٣٤٠ ، تاج العروس ١٣ / ٥٥٧.

٧١

فنزعته »(١)

ويا هل ترى أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يرضى بصورة الخيل على الدرنوك ويرضى بصورها المجسّمة ويبقيها في بيته؟!

وأمّا قوله : « وأيضا يحتمل أن يكون هذا قبل تحريم الصور ، فإنّ تحريم الصور كان عام الفتح ـ على ما ثبت ـ ولعب عائشة كان في أوائل الهجرة »

ففيه : إنّ رواية البغوي السابقة(٢) صريحة في لعبها بعد الفتح ، فلا يصحّ هذا الاحتمال ، ولا أعلم من أين ثبت عنده أنّ التحريم عام الفتح؟! والظاهر أنّه مستند إلى الهوى ونصرة المذهب!

وأمّا قوله : « وللصور شرائط إنّما تحرّم عند وجودها »

ففيه : إنّه إن أراد أنّ لتحريم الصور شرائط ، فباطل ؛ إذ لا يعتبر فيه أكثر من صدق تصوير الحيوان كما تدلّ عليه الأخبار السابقة وغيرها.

وإن أراد أنّ لتحريم اللعب بالصور شرائط ، فممنوع حتّى بمذهبه

فقد نقل هو في آخر الكتاب ـ في القضاء وتوابعه ـ عن الشافعي أنّ عدم حرمة اللعب بالشطرنج مشروط بأربعة شروط ، رابعها : أن لا تكون أسبابه مصوّرة بصورة الحيوانات(٣) ؛ ولم يقيّد هناك الصور بقيد ، ولم يعتبر فيها شروطا.

__________________

(١) صحيح مسلم ٦ / ١٥٨.

(٢) تقدّمت في الصفحة ٦٨ ـ ٦٩.

(٣) راجع : إحقاق الحقّ : ١١٧٦ الطبعة الحجرية.

٧٢

وذكر الخصم ثمّة أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام مرّ بقوم يلعبون بالشطرنج فقال :( ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ ) (١) (٢) ، ورواه المصنّف هناك عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (٣)

وهو دالّ على أنّ اللعب بصور الخيل كالعكوف على الأصنام فيحرم ، فكيف تلعب بها عائشة ولم يمنعها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو لم تظهر منه الكراهة حتّى يرتدع الغير؟!

ولا يخفى أنّ أجوبة الخصم كلّها لا تصلح جوابا عمّا ذكره المصنّف من إشكال إبقاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله للصور في بيته ، والحال أنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصور ، إلّا ما زعمه من عجز الأطفال عن تصوير الصور ، فإنّه يمكن جعله جوابا ولكن قد عرفت ما فيه.

وأمّا قوله : « وليس أخبار الصحاح الستّة مثل أخبار الروافض »

فقد صدق فيه ؛ لأنّ من يرفض الباطل لا يروي مثل تلك الخرافات ، ولا يعتمد على روايات من عرفت بعض أحوالهم في المقدّمة وأشباههم!(٤) .

* * *

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ : ٥٢.

(٢) انظر : السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ١٠ / ٢١٢ ، الحاوي الكبير ٢١ / ١٩٢.

(٣) نهج الحقّ : ٥٦٨.

(٤) راجع الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

٧٣

قال المصنّف ـ أسبغ الله عليه رحمته ـ(١) :

وروى الحميدي في « الجمع بين الصحيحين » : قالت عائشة : « رأيت النبيّ يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد ، فزجرهم عمر »(٢) .

وروى الحميدي ، عن عائشة ، قالت : « دخل عليّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعندي جاريتان تغنّيان بغناء بعاث(٣) ، فاضطجع على الفراش وحوّل وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال : مزمارة الشيطان عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأقبل عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : دعها ؛ فلمّا غفل غمزتهما ، فخرجتا »(٤) .

وكيف يجوز للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الصبر على هذا مع أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله نصّ على تحريم اللعب واللهو(٥) ، والقرآن مملوء منه(٦) وبالخصوص مع زوجته؟!

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٤٩.

(٢) الجمع بين الصحيحين ٤ / ٥٢ ح ٣١٦٨.

(٣) بعاث : هو اسم حصن للأوس ، وبه سمّي يوم كانت فيه حرب بين الأوس والخزرج في الجاهلية ؛ انظر : لسان العرب ١ / ٤٣٩ مادّة « بعث ».

(٤) الجمع بين الصحيحين ٤ / ٥٣ ح ٣١٦٨ وفيه : « دعهما » بدل « دعها ».

(٥) انظر : سنن ابن ماجة ٢ / ٧٣٣ ح ٢١٦٨ ، سنن الترمذي ٣ / ٥٧٩ ح ١٢٨٢ ، الأدب المفرد : ٢١٦ ح ٨٠٥ ـ ٨٠٩ باب الغناء واللهو ، المعجم الكبير ١٩ / ٣٤٣ ـ ٣٤٤ ح ٧٩٤ ، مسند أبي يعلى ١ / ٤٠٢ ح ٥٢٧ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ١٠ / ٢٢١ ، مجمع الزوائد ٣ / ١٣ عن مسند البزّار.

(٦) كقوله تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) سورة لقمان ٣١ : ٦.

٧٤

وهلّا دخلته الحميّة والغيرة مع أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله أغير الناس؟!

وكيف أنكر أبو بكر وعمر ومنعهما؟! فهل كانا أفضل منه؟!

وقد رووا عنهعليه‌السلام ، أنّه لمّا قدم المدينة من سفر خرجن إليه نساء المدينة يلعبن بالدفّ فرحا بقدومه ، وهو يرقّص بأكمامه!(١) .

هل يصدر [ مثل ] هذا عن رئيس أو من له أدنى وقار؟!

نعوذ بالله من هذه السقطات

مع أنّه لو نسب أحدهم إلى مثل هذا قابله بالسبّ والشتم وتبرّأ منه ، فكيف يجوز نسبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مثل هذه الأشياء التي يتبرّأ منها؟!

* * *

__________________

(١) انظر مؤدّاه في : سنن الترمذي ٥ / ٥٧٩ ح ٣٦٩٠ ، مسند أحمد ٥ / ٣٥٣ ، مسند أبي يعلى ٦ / ١٣٤ ح ٣٤٠٩ ، المعجم الصغير ١ / ٣٢ ـ ٣٣.

٧٥

وقال الفضل(١) :

ضرب الدفّ ليس بحرام مطلقا ، وكذا اللهو كما ذكر في موضعه

وما ذكر من ضرب الجاريتين بالدفّ عند عائشة كان يوم عيد ، واتّفق العلماء على جواز اللهو وضرب الدفّ في أوقات السرور ، كالأعياد والختان والإملاك.

وأمّا منع أبي بكر عنه ، فإنّه كان لا يعلم جوازه في أيّام العيد.

وتتمّة الحديث أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأبي بكر : « دعهما ، فإنّها أيّام عيد » ، فلذلك منعه أبو بكر ، فعلّمه رسول الله أنّ ضرب الدفّ والغناء ليس بحرام في أيّام العيد.

وما ذكر أنّ نساء المدينة خرجن إليه من عوده من السفر ، فذلك كان من خصال نساء المدينة ، ولم يمنعهنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّها كانت قبل نزول الحجاب ، ولأنّهنّ كنّ يظهرنّ السرور بمقدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو عبادة

وإنّ ترك المروءة في أمثال هذه الأمور ـ التي توجب الألفة ، والموافقة ، وتطييب الخاطر ، وتشريع المسائل ـ جائز

ولكنّه نعم ما قيل شعرا :

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٤٠.

٧٦

وعين الرضا عن كلّ عيب كليلة

ولكنّ عين السخط تبدي المساويا(١)

* * *

__________________

(١) البيت من شعر عبد الله بن معاوية بن عبد الله الجعفري ، قاله في صديق له يقال له : قصيّ بن ذكوان ، وكان قد عتب عليه ، وهو من أبيات مطلعها :

رأيت قصيّا كان شيئا ملفّفا

فكشّفه التمحيص حتّى بدا ليا

انظر : الأغاني ١٢ / ٢٥٠.

٧٧

وأقول :

ما استدلّوا به لإباحة اللهو غير صالح له ؛ لأمور :

الأوّل : إنّ كثيرا منها أدلّ على الحرمة ، كرواية الغزّالي التي سينقلها المصنّف(١) ، ورواية أحمد التي سنذكرها بعدها إن شاء الله تعالى(٢) ، فإنّهما أطلقتا الباطل على اللعب والغناء.

وكرواية الترمذي في مناقب عمر ، عن عائشة ، قالت : « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جالسا في المسجد ، فسمعنا لغطا وصوت صبيان ، فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإذا حبشيّة تزفن(٣) والصبيان حولها.

فقال : يا عائشة! تعالي وانظري.

فجئت فوضعت لحييّ على منكب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه

فقال : أما شبعت؟! [ أما شبعت؟! ].

فجعلت أقول : لا ؛ لأنظر منزلتي عنده ، إذ طلع عمر ، فارفضّ(٤) الناس عنها

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي لأنظر إلى شياطين الجنّ والإنس قد فرّوا

__________________

(١) ستأتي في الصفحة ١١١ ه‍ ٣ من هذا الجزء.

(٢) ستأتي في الصفحة ١١٥ ه‍ ١ من هذا الجزء.

(٣) الزّفن : الرّقص ؛ انظر : لسان العرب ٦ / ٥٨ مادّة « زفن ».

(٤) ارفضّ : تفرّق ؛ انظر مادّة « رفض » في : لسان العرب ٥ / ٢٦٦ ، تاج العروس ١٠ / ٦٢.

٧٨

من عمر بن الخطّاب »(١) .

فإنّ تعبير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بالشياطين دليل على حرمة عملها وعملهم ، وإنّ ذلك اللهو مجمع للشياطين فيحرم.

وكرواية الترمذي أيضا عن بريدة ، وصحّحها ـ كالرواية الأولى ـ هو والبغوي في ( مصابيحه )

قال بريدة : « خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض مغازيه ، فلمّا انصرف جاءت جارية سوداء ، فقالت : يا رسول الله! إنّي كنت نذرت إن ردّك الله صالحا أن أضرب بين يديك بالدفّ وأتغنّى.

فقال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إن كنت نذرت فاضربي ، وإلّا فلا.

فجعلت تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثمّ دخل عليّ وهي تضرب ، ثمّ دخل عثمان وهي تضرب ، ثمّ دخل عمر فألقت الدفّ تحت إستها ، ثمّ قعدت عليه.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ الشيطان ليخاف منك يا عمر ، إنّي كنت جالسا وهي تضرب ، فدخل أبو بكر وهي تضرب ، ثمّ دخل عليّ وهي تضرب ، ثمّ دخل عثمان وهي تضرب ، فلمّا دخلت أنت [ يا عمر ] ألقت الدفّ »(٢) .

فإنّ تعبير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عنها بالشيطان دليل على حرمة فعلها ، إذ لو

__________________

(١) سنن الترمذي ٥ / ٥٨٠ ح ٣٦٩١ ، وانظر : السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٥ / ٣٠٩ ح ٨٩٥٧ ، الكامل في الضعفاء ٣ / ٥١ رقم ٦٠٨ ، مصابيح السنّة ٤ / ١٥٩ ح ٤٧٣٧ ، تاريخ دمشق ٤٤ / ٨٢ و ٨٤.

(٢) سنن الترمذي ٥ / ٥٧٩ ـ ٥٨٠ ح ٣٦٩٠ ، مصابيح السنّة ٤ / ١٥٨ ـ ١٥٩ ح ٤٧٣٦ ، وانظر : مسند أحمد ٥ / ٣٥٣ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ١٠ / ٧٧.

٧٩

كان طاعة أو مباحا لم يصحّ ذمّها وتهجين عملها ، لا سيّما وقد كان وفاء للنذر.

كما إنّه لو كان مباحا لم يصحّ نهيها عنه بلا قرينة على إرادة الإباحة من النهي ، لو فرض أنّها لم تكن قد نذرت ؛ لظهور النهي في الحرمة وهي في وقت الحاجة والعمل.

الثاني : إنّ أخبار حلّيّة اللهو قد اشتملت جملة منها على إرادة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من عائشة أن تنظر إلى اللعب وأهله ، وعلى أنّه يسترها وهي تنظر إلى الحبشة ، وهذا كذب صريح ؛ لأنّه مناف لسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

روى البغوي في ( مصابيحه ) ، من الحسان ، في باب النظر إلى المخطوبة وبيان العورات ، من كتاب النكاح ، عن أمّ سلمة رضي الله عنها : « أنّها كانت عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وميمونة ، إذ أقبل ابن أمّ مكتوم فدخل عليه ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :احتجبا عنه !

فقلت : يا رسول الله! أليس هو أعمى لا يبصرنا؟!

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه؟ ! »(١)

ونحوه في الجزء السادس من مسند أحمد ، ص ٢٩٦(٢) .

فإذا كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يأبى من نظر أزواجه إلى الأعمى ، فكيف يرضى لعائشة أن تنظر إلى أهل اللهو حال اللعب والخلاعة؟!

الثالث : إنّها منافية للغيرة والحياء ، بل بعضها مشتمل على التهتّك

__________________

(١) مصابيح السنّة ٢ / ٤٠٨ ح ٢٣١٦ ، وانظر : السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٥ / ٣٩٣ ـ ٣٩٤ ح ٩٢٤٢.

(٢) وانظر : سنن أبي داود ٤ / ٦٢ ح ٤١١٢ ، سنن الترمذي ٥ / ٩٤ ح ٢٧٧٨ ، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٥ / ٣٩٣ ح ٩٢٤١.

٨٠

الذي لا يصدر إلّا من الأنذال وأسافل الناس وأدناهم حياء وغيرة!

كرواية البخاري في الباب الثاني من كتاب العيدين(١)

وفي باب الدرق ، من كتاب الجهاد والسير ، عن عائشة ، قالت : « كان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب ، فإمّا سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإمّا قال : تشتهين تنظرين؟

فقلت : نعم!

فأقامني وراءه ، خدّي على خدّه ، وهو يقول : دونكم يا بني أرفدة(٢) .

حتّى إذا مللت قال : حسبك؟

قلت : نعم.

قال : فاذهبي »(٣) .

فليت شعري كيف حال من يجعل نفسه وزوجته منظرا لأهل الفساد واللهو ، وهو يحثّهم على اللعب ، ويحرّكهم إلى النظر إليهما ملتصقي الخدّين ، وخدّها على خدّه؟!

فهل ترى فوق هذا خلاعة؟!

لعمر الله ما من أحد يؤمن بالله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرضى بهذه النسبة إلى سيّد المرسلين ، الذي كان أشدّ حياء من العذراء في خدرها(٤) ، وقال :

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ٥٤ ح ٢ وص ٦٨ ح ٣٤.

(٢) جنس من الحبشة ، أو لقب لهم ، أو اسم أبيهم الأكبر ؛ انظر : تاج العروس ٤ / ٤٦٠ مادّة « رفد ».

(٣) صحيح البخاري ٤ / ١٠٨ ح ١١٨ ، وانظر : صحيح مسلم ٣ / ٢٢.

(٤) انظر : صحيح البخاري ٥ / ٣١ ح ٦٩ و ٧٠ وج ٨ / ٤٨ ح ١٢٦ ، صحيح مسلم _

٨١

«الحياء من الإيمان »(١)

وكان أشدّ الخلق غيرة ومروءة ، وقال : «من لا مروءة له لا إيمان له »(٢)

وكان أعظم الناس وقارا ، حتّى إنّ ضحكه التبسّم(٣)

فكيف ينقاد إلى هوى عائشة هذا الانقياد ولا يلتفت إلى ما فيه من النقص والهوان؟!

ويا عجبا! كيف يجتمع هذا التهتّك من عائشة مع ما رواه أحمد(٤) عنها؟!

__________________

٧ / ٧٨ ، سنن ابن ماجة ٢ / ١٣٩٩ ح ٤١٨٠ ، مسند أحمد ٣ / ٧١ و ٧٩ و ٨٨ و ٩١ و ٩٢ ، المعجم الكبير ١٨ / ٢٠٦ ح ٥٠٨ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٦ / ٩٢ ح ٨.

(١) صحيح البخاري ١ / ٢١ ح ٢٣ ، صحيح مسلم ١ / ٤٦ ، سنن ابن ماجة ٢ / ١٤٠٠ ح ٤١٨٤ ، سنن أبي داود ٤ / ٢٥٣ ح ٤٧٩٥ ، سنن الترمذي ٤ / ٣٢١ ح ٢٠٠٩ ، سنن النسائي ٨ / ١٢١ ، الموطّأ : ٧٩٠ ح ١٠ ، مسند أحمد ٢ / ٥٦ و ١٤٧ ، مسند أبي يعلى ٩ / ٣٠٢ ح ٥٤٢٤ وج ١٣ / ٤٨٨ ح ٧٥٠١ ، المعجم الكبير ١٠ / ١٩٦ ح ١٠٤٤٢ وج ١٨ / ١٧٨ ح ٤٠٩ وج ٢٢ / ٤١٣ ح ١٠٢٤ ، المصنّف ـ لعبد الرزّاق ـ ١١ / ١٤٢ ح ٢٠١٤٦ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٦ / ٩٢ ح ١٣.

(٢) لم نعثر عليه بهذا اللفظ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله بلفظ : « كرم المرء تقواه ، ومروءته خلقه ، وحسبه دينه » و « كرم المرء دينه ، ومروءته عقله ، وحسبه خلقه » وما يؤدّي هذا المعنى.

انظر : كتاب المروءة ـ لابن المرزبان ـ : ٢٣ ـ ٣٤ ح ١ ـ ١١.

هذا ، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام حديث بلفظين قريبين ممّا في المتن ، هما : « من لا دين له لا مروءة له » و « من لا مروءة له لا همّة له » ؛ انظر : غرر الحكم ودرر الكلم ـ للآمدي ـ ٢ / ١٦٣ رقم ٢٨٥ و ٢٨٦.

(٣) انظر : سنن الترمذي ٥ / ٥٦١ ـ ٥٦٢ ح ٣٦٤٢ و ٣٦٤٥ ، مسند أحمد ٥ / ٩٧ و ١٠٥ ، مسند أبي يعلى ١٣ / ٤٥٠ ح ٧٤٥٥ وص ٤٥٣ ح ٧٤٥٨ ، المعجم الكبير ٢ / ٢٤٤ ح ٢٠٢٤ ، شرح السنّة ٧ / ٤٢٥ ح ٣٦٤٢.

(٤) مسند أحمد ٦ / ٢٠٢. منهقدس‌سره .

٨٢

قالت : « كنت أدخل بيتي الذي دفن فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي ، فأضع ثوبي فأقول : إنّما هو زوجي وأبي ، فلمّا دفن عمر معهم فو الله ما دخلت إلّا وأنا مشدودة عليّ ثيابي حياء من عمر ».

ولا أدري أين ذهب هذا الحياء من الأموات عنها يوم الجمل ، وهي تلفّ الألوف بالألوف من الأحياء؟!

الرابع : إنّ اللهو والصياح منافيان لحرمة المساجد ووضعها ، فكيف يرضى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بهما ، ويمكّن منهما فيها أهل اللهو والطرب؟! قال الله تعالى :( إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (١) .

فهل كان من عمرانها اللعب والغناء؟!

وروى القوم في صحاحهم أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من سمع رجلا ينشد ضالّة في المسجد فليقل : لا ردّها الله عليك ؛ فإنّ المساجد لم تبن لهذا »(٢)

وإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن تناشد الأشعار في المسجد(٣) ، وأن تقام فيه الحدود(٤) ، وأن ترفع فيه الأصوات ، فكيف يرضى بإعلان اللهو والغناء في

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ١٨.

(٢) صحيح مسلم ٢ / ٨٢ ، سنن ابن ماجة ١ / ٢٥٢ ح ٧٦٧ ، سنن أبي داود ١ / ١٢٥ ح ٤٧٣ ، مسند أحمد ٢ / ٣٤٩ ، صحيح ابن خزيمة ٢ / ٢٧٣ ح ١٣٠٢ ، مسند أبي عوانة ١ / ٣٣٩ ح ١٢١٢ و ١٢١٣ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٢ / ٤٤٧ وج ٦ / ١٩٦ وج ١٠ / ١٠٢.

(٣) انظر : سنن الترمذي ٢ / ١٣٩ ح ٣٢٢ ، سنن ابن ماجة ١ / ٢٤٧ ح ٧٤٩ ، سنن النسائي ٢ / ٤٨ ، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ١ / ٢٦٢ ح ٧٩٤ ، صحيح ابن خزيمة ٢ / ٢٧٤ ح ١٣٠٤.

(٤) انظر : سنن الترمذي ٤ / ١٢ ح ١٤٠١ ، سنن ابن ماجة ٢ / ٨٦٧ ح ٢٥٩٩

٨٣

المسجد الأعظم؟!

والعجب أنّهم يروون أنّه يحثّ على اللهو في مسجده!!

ويروي البخاري في باب رفع الصوت في المساجد ، من كتاب الصلاة ، عن السائب ، قال : « كنت قائما في المسجد فحصبني رجل ، فإذا عمر بن الخطّاب ، فقال : اذهب فأتني بهذين ؛ فجئته بهما.

قال : من أنتما؟ ـ أو : من أين أنتما؟ ـ.

قالا : من أهل الطائف.

قال : لو كنتما من أهل هذا البلد لأوجعتكما ، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! »(١) .

ولكن لا عجب ، فإنّهم ينسبون تلك الخلاعة القبيحة إلى صفوة الله من خلقه ، ويزعمون أنّ عمر في منتهى الغيرة ، حتّى إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يدخل في المنام قصر عمر في الجنّة رعاية منه لغيرة عمر(٢) !

وذلك كلّه ممّا يكشف عن حال رجالهم وأخبارهم فانظر وتبصّر!

الخامس : إنّ راوي تلك الأخبار ـ التي زعموا دلالتها على إباحة اللهو ـ هو : عائشة ، إلّا ما قلّ عن غيرها ، ومن الواضح أنّها متّهمة بإرادة

__________________

و ٢٦٠٠ ، مسند أحمد ٣ / ٤٣٤ ، المعجم الكبير ٢ / ١٣٩ ـ ١٤٠ ح ١٥٩٠ وج ٣ / ٢٠٤ ح ٣١٣١.

(١) صحيح البخاري ١ / ٢٠٣ ح ١٢٩ ، وانظر : السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٢ / ٤٤٧ ـ ٤٤٨.

(٢) صحيح البخاري ٥ / ٧٥ ذ ح ١٧٦ وج ٧ / ٦٤ ح ١٥٥ و ١٥٦ وج ٩ / ٧٠ ـ ٧١ ح ٤٠ و ٤١ ، صحيح مسلم ٧ / ١١٤ ، مسند أحمد ٣ / ٣٧٢ وص ٣٨٩ ـ ٣٩٠ ، مسند أبي يعلى ٣ / ٤٦٧ ح ١٩٧٦ وج ٤ / ١٣ ح ٢٠١٤ وص ٥١ ح ٢٠٦٣ ، مسند الطيالسي : ٢٣٨ ح ١٧١٥ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٧ / ٤٨١ ح ٢٥ و ٢٦.

٨٤

الافتخار وإظهار حبّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لها ، وبيان فضل أبيها وخليله ، كما هو ظاهر على صفحات تلك الروايات!

وما اكتفت بذلك حتّى جعلت تحرّض الناس على إعطاء بناتهم زمام اللهو واللعب ، وما خصّته بوقت ، فقالت ـ كما في كثير من روايات البخاري وغيره ـ : « فاقدروا قدر الجارية الحديثة السنّ ، الحريصة على اللهو »(١) .

ولعلّ هذه التتمّة تشهد بأنّ تلك الأخبار من وضع الكذّابين الّذين يريدون التقرّب إلى ملوك الجهل والفساد ، من الأمويّين والعبّاسيّين وأمرائهم!

فإذا عرفت هذه الأمور ، ظهر لك أنّه لا يستبيح ذو عقل وذو دين الاستدلال بتلك الأخبار على إباحة اللهو في شيء من الأوقات ، لا سيّما والكتاب العزيز ناطق بحرمته(٢) .

وأيّ عاقل يشكّ بكذب تلك الأخبار التي تحطّ من قدر النبيّ والنبوّة؟!

وبذلك يظهر لك حال من نسب إليهم الخصم الاتّفاق على جواز اللهو استنادا إليها!

وأمّا ما ذكره من تتمّة الحديث ، فمن إضافاته ، على أنّها لا تنفعه بالنظر إلى تلك الأمور السابقة

ومن أحبّ الاطّلاع على كذبه في هذه الإضافة ـ أعني قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

__________________

(١) صحيح البخاري ٧ / ٥٠ ح ١٢٠ ، صحيح مسلم ٣ / ٢٢ ، سنن النسائي ٣ / ١٩٥ ـ ١٩٦ ، مسند أحمد ٦ / ٨٤ و ٨٥ و ١٦٦ و ٢٧٠.

(٢) في قوله تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) سورة لقمان ٣١ : ٦.

٨٥

« فإنّها أيّام عيد » تعليلا لقوله لأبي بكر : « دعها » ـ فليراجع الباب الثاني من كتاب العيدين من صحيح البخاري(١) ، وآخر كتاب العيدين من صحيح مسلم(٢) (٣) .

وأمّا ما ذكره من أنّ ذلك من خصال نساء المدينة ، فمحلّ تأمّل ؛ لأنّه مستفاد من روايات عائشة ، وفيها ما سبق.

وأمّا ما ذكره من إظهار هنّ السرور ، وأنّه عبادة ؛ ففيه : إنّ إظهار السرور وإن كان عبادة ، لكن إذا لم يكن باللهو ، فإنّه يحرّم حينئذ كما لو أظهر بشرب الخمر ونحوه.

وأمّا ما أجاب به عن رقص النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بأكمامه ـ وحاشاه ـ ، فمن قول الهجر ؛ لأنّ الرقص سفه ظاهر وخلاعة بيّنة ، ومن أكبر النقص بالرئيس ، وأعظم منافيات الحياء والمروءة في تلك الأوقات ، وأشدّ المباينات للرسالة لإرشاد الخلق بتهذيبهم عن السفه والنقائص وتذكيرهم بمقرّبات الآخرة ، لا سيّما بالملأ العامّ مع حضور النقّاد والأضداد ، فلا يمكن أن يلتزم بتسويغه لطلب الألفة وتطييب الخواطر ؛ لأنّ حفظ شرف الرسالة وفخامتها ودفع نقد النقّاد والمشكّكين أهمّ ، بل لا يحسن

__________________

(١) صحيح البخاري ٢ / ٥٤ ح ٢.

(٢) صحيح مسلم ٣ / ٢٢.

(٣) إنّ جملة « فإنّها أيّام عيد » التي زعم ابن روزبهان أنّها تتمّة للحديث الذي استدلّ به العلّامة الحلّيقدس‌سره غير موجودة فيه! ولذلك تمسّك الشيخ المظفّرقدس‌سره بتكذيبه إلّا أنّ هذه الجملة مذكورة بعينها في حديث آخر من صحيح البخاري ، وإنّما ألحقها الفضل منه ، وهو غير محلّ النزاع ، فلم يك أمينا في ما نقله! فانظر : صحيح البخاري ٢ / ٦٨ ح ٣٤!

وانظر : صحيح البخاري ٢ / ٥٤ ح ٢ ، صحيح مسلم ٣ / ٢٢ ، الجمع بين الصحيحين ـ للحميدي ـ ٤ / ٥٣ ح ٣١٦٨.

٨٦

لذلك أقلّ منافيات المروءة فضلا عن مثل الرقص مع النساء!

وأمّا التشريع ، فلا يصلح أن يكون داعيا لفعل المنافي مع إمكان البيان اللفظي ، كما لا يصلح أن يكون داعيا له إرادة إيمان الناس ؛ لأنّ فعل المنافي مبعّد عنه لا مقرّب له ، حتّى لو أوجب الألفة ، فإنّ الألفة لا توجب الاعتقاد ، ولو سلّم إيجابها له في الجملة فخطر المنافي للمروءة أعظم.

وأمّا استشهاده بالبيت ، ففي محلّه ؛ لأنّا سخطنا على أخبارهم لكذب رواتها واشتمالها على المناكير والأضاليل فأبدينا بعض مساويها ، وأمّا هم فرضوا بها على علّاتها ، فعميت عيون قلوبهم عن معايبها وإن أوهنت مقام النبوّة ، بل ومقام الربوبية! كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

* * *

٨٧

قال المصنّف ـ أعلى الله مقامه ـ(١) :

وفي الصحيحين : إنّ ملك الموت لمّا جاء لقبض روح موسى لطمه موسى ففقأ عينه(٢) .

فكيف يجوز لعاقل أن ينسب موسى ـ مع عظمته ، وشرف منزلته ، وطلب قربه من الله تعالى والفوز بمجاورة عالم القدس ـ إلى هذه الكراهة؟!

وكيف يجوز منه أن يوقع بملك الموت ذلك ، وهو مأمور من قبل الله تعالى؟!

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٥٢.

(٢) صحيح البخاري ٢ / ١٩١ ح ٩٥ وج ٤ / ٣٠٦ ح ٢٠٧ ، صحيح مسلم ٧ / ١٠٠ ؛ وانظر : سنن النسائي ٤ / ١١٨ ـ ١١٩ ، مسند أحمد ٢ / ٢٦٩ و ٣١٥ و ٣٥١ ، المصنّف ـ لعبد الرزّاق ـ ١١ / ٢٧٤ ح ٢٠٥٣٠ ، السنّة ـ لابن أبي عاصم ـ ١ / ٢٦٦ ذ ح ٥٩٩ ، مسند أبي عوانة ١ / ١٦٠ ح ٤٦٤ ، مصابيح السنّة ٤ / ٢٣ ـ ٢٤ ح ٤٤٤٠.

٨٨

وقال الفضل(١) :

الموت بالطبع مكروه للإنسان ، وكان موسى رجلا حادّا كما جاء في الأخبار والآثار ، فلمّا صحّ الحديث وجب أن يحمل على كراهته للموت ، وبعثته الحدّة على أن لطم ملك الموت ، كما أنّه ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه ، وهذا الاعتراض وارد على ضرب هارون وكسر ألواح التوراة التي أعطاه الله إيّاها هدى ورحمة ، ويمكن أن يقال : كيف يجوز أن ينسب إلى موسى إلقاء الألواح ، وطرح كتاب الله ، وكسر لوحه ، إهانة لكتاب الله؟! وكيف يجوز له أن يضرب هارون وهو نبيّ مرسل؟!

وكلّ هذه عند أهل الحقّ محمول على ما يعرض البشر من صفات البشرية ، وليس فيه قدح في ملكة عصمة الأنبياء.

وأمّا عند ابن المطهّر فهي محمولة على ذنوب الأنبياء

ولو لم يكن القرآن متواترا ، ونقل لابن المطهّر الحلّي أنّ موسى ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه ، لكان ينكر هذا ويعترض بمثل هذه الاعتراضات ، فلو أنّه أنصف من نفسه يعلم ما نقوله في تعصّبه حقّ.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٤٣.

٨٩

وأقول :

كان موسىعليه‌السلام شديد الغضب لله تعالى ، ولم يكن حادّا تخرجه الحدّة إلى غضب الله عليه.

وقوله : « فلمّا صحّ الحديث » إلى آخره ، باطل

إذ كيف يصحّ حديث يرويه الكذبة عن أبي هريرة الخرافي الكذوب ، وهو يشتمل على ما يحيله العقل؟! فإنّ الأنبياءعليهم‌السلام معصومون عن الذنوب ، لا سيّما الكبائر بإقرار الخصم ، ولا سيّما مثل هذه الجناية الكبرى على أحد عظماء الملائكة ، ورسول الله العامل بأمره ، إن صحّ عقلا أن يقع مثلها على الملائكة الروحانيّين.

ولو سلّم جواز وقوع مثل هذه الكبيرة منهم ، فأيّ عاقل يجوّز على موسى ـ مع عظم شأنه ـ أن يكره الانتقال إلى عالم الكرامة والرحمة ، وهو الهادي والداعي إليه ، والعالم بما أعدّ الله فيه لأوليائه؟!

ولو سلّم خوفه من الموت وكراهته له ، فأيّ عاقل يجوّز قلع عين ملك الموت مع روحانيّته وشفافيّته بلطمة بشر؟!

ولو سلّم أنّه تصوّر له بصورة شخص تؤثّر فيه اللطمة ، فكيف يقدر موسى عليه وهو على شفا جرف الموت ، وملك الموت بقوّته العظمى مؤيّدا بالقدرة الربّانية التي يتسلّط بها على نفوس العالمين بلا كلفة ومقاومة؟!

ويا للعجب! كيف ضيّع الله حقّ الملك المرسل بأمره ولم يقاصّه من

٩٠

موسى ، والقصاص حقّ ثابت في القرآن والتوراة ، بل لم يعاقبه أصلا ، وأكرمه حيث خيّره بين الموت والحياة؟! فهل عند الله هوادة ، أو يختلف حكمه في بريّته؟!

هذا ، وقد حمل بعضهم الحديث على المدافعة عن نفسه ، بدعوى أنّ الملك تصوّر له بصورة إنسان معتد عليه يريد إهلاكه ، فلا معصية منه!(١)

وفيه : إنّه لا يلائم ما في تمام الحديث : فقال : « أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت وقد فقأ عيني »(٢) ، فإنّه يدلّ على شكايته منه والتعريض بذمّه بعدم إرادته للموت ، وهو لا يصحّ إذا كان مدافعا عن نفسه ؛ لوجوب المدافعة وإن أحبّ الموت.

على أنّه لا وجه لتصوّر ملك الموت بصورة معتد ، فإنّه من الحمق والجهل.

ودعوى الامتحان لا وجه لها(٣) ؛ لأنّه إن أريد الامتحان في حبّه للموت فهو لا يناسب تصوّره بصورة من تجب مدافعته ، وإن أريد الامتحان في مخالفة الواجب من المدافعة فهو لا يجامع القول بعصمته ، بل لا معنى لهذا الامتحان ؛ لأنّ كلّ إنسان يدافع بمقتضى طبعه عن نفسه حيث يمكن ، وإن لم تجب عليه المدافعة ، على أنّه لا يلائم التعبير بكراهة الموت إلى تمام الحديث

ويدلّ على معرفة موسى بملك الموت ، فلا يصحّ الحمل المذكور ،

__________________

(١) انظر : فتح الباري ٦ / ٥٤٦ ، إرشاد الساري ٧ / ٣٩٦.

(٢) تقدّم تخريج الحديث عن صحاح القوم ، فراجع الصفحة ٨٨ ه‍ ٢.

(٣) فتح الباري ٦ / ٥٤٦ ـ ٥٤٧.

٩١

ما رواه مسلم بإحدى روايتيه عن أبي هريرة ، قال :

« جاء ملك الموت إلى موسىعليه‌السلام فقال : أجب ربّك.

فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها!

قال : فرجع الملك إلى الله عزّ وجلّ ، فقال : إنّك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت ، وقد فقأ عيني.

قال : فردّ الله إليه عينه وقال : ارجع إلى عبدي فقل له : الحياة تريد؟

فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور ، فما توارت يدك من شعره فإنّك تعيش بها سنة.

قال : ثمّ مه؟

قال : ثمّ الموت.

قال : فالآن يا ربّ من قريب »(١) .

فإنّ قوله : « أجب ربّك » دالّ على معرفة موسى بملك الموت ، وإنّه ليس من المعتدين.

وأصرح من هذه الرواية ما رواه أحمد عن أبي هريرة(٢) ، قال :

« كان ملك الموت يأتي الناس عيانا ، فأتى موسى فلطمه ففقأ عينه ، فأتى ربّه فقال : يا ربّ! عبدك موسى فقأ عيني ، ولو لا كرامته عليك

__________________

(١) ونحوه في مسند أحمد ٢ / ٢٦٩ و ٣١٥ و ٣٥١. منهقدس‌سره .

وانظر : صحيح مسلم ٧ / ١٠٠ ، وقد تقدّم تخريجه مفصّلا في الصفحة ٨٨ ه‍ ٢ ، فراجع.

(٢) مسند أحمد ٢ / ٥٣٣. منهقدس‌سره .

وانظر : مجمع الزوائد ٨ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥ عن أحمد والبزّار.

٩٢

لعنفت به(١) » الحديث.

ثمّ إنّهم ذكروا في توجيه الحديث أمورا أخر تشبه الخرافة

منها : إنّ موسى أراد إظهار وجاهته عند الملائكة ؛ فإنّ فعل الحرام مناف لدعوى الوجاهة عند الله تعالى ، وهذه الإرادة بهذا الفعل الخاسر أولى أن تقع من الحمقاء السافلين ، لا من الأنبياء والمرسلين!

ومنها : إنّه وقع من غير اختياره ؛ لأنّ للموت سكرات ؛ وكأنّ هذا التوجيه مأخوذ من قول عمر : « إنّ النبيّ ليهجر »(٢) !

__________________

(١) عنف به وعليه : إذا لم يكن رفيقا في أمره ؛ انظر : لسان العرب ٩ / ٤٢٩ مادّة « عنف ».

(٢) روى الجمهور هذا القول بألفاظ متعدّدة ، وعمّوا على اسم قائله في بعضها ، والهدف من ذلك غير خاف

* فقد روي بلفظ : « قالوا : هجر رسول الله! » كما في صحيح البخاري ٤ / ١٦٢ ح ٢٥١

* وبلفظ : « وقالوا : ما شأنه؟! أهجر؟! » و « فقالوا : إنّ رسول الله يهجر! » كما في : صحيح مسلم ٥ / ٧٥ ـ ٧٦ ، مسند أحمد ١ / ٢٢٢ و ٣٥٥ ، مصنّف عبد الرزّاق ٦ / ٥٧ ح ٩٩٩٢ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨ ، تاريخ الطبري ٢ / ٢٢٨

* وبلفظ : « قال عمر كلمة معناها أنّ الوجع قد غلب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله » كما في شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٦ / ٥١

* وبلفظ : « قال عمر : إنّ النبيّ غلبه الوجع » و « فقال عمر : إنّ النبيّ قد غلب عليه الوجع » كما في صحيح البخاري ١ / ٦٥ ـ ٦٦ ح ٥٥ وج ٧ / ٢١٩ ح ٣٠ ، صحيح مسلم ٥ / ٧٦ ، مسند أحمد ١ / ٣٢٤ ـ ٣٢٥ ، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ١٨٨ ، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٨ / ٢٠١ ح ٦٥٦٣ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ١٢

* وبلفظ : « قال عمر : دعوا الرجل فإنّه ليهجر » كما في سرّ العالمين ـ المطبوع ضمن مجموعة رسائل الغزّالي ـ : ٤٥٣.

وسيأتي تفصيل ذلك في محلّه.

٩٣

وكيف يناسب ذلك تمام الحديث وشكاية ملك الموت منه؟!

وهل هذا الموجّه أعرف بحال موسى من ملك الموت؟!

ومنها : إنّ المراد صكّه بالحجّة وفقأ عين حجّته(١) ؛ ولا أعلم أيّ مباحثة وقعت بينهما ضلّ فيها ملك الموت؟!

وكيف يجتمع هذا مع قوله : « فردّ الله عليه عينه »(٢) إلى آخر الفقرات؟!

وأمّا ما ذكره من النقض بقصّة الألواح ؛ فهو وارد عليه أيضا ؛ لأنّ إلقاءها وكسرها إهانة لكتاب الله [ و ] كفر لا يقوله الخصم ، بل لو لم يقصد به الإهانة كان كبيرة كضرب النبيّ ، وهو يقول بعصمتهم عن الكبائر!

وأمّا ما حمله عليه ؛ فإن أراد به ما يعرض البشر من دون شعور ، فهو من أعظم النقص ، وتجويزه على الأنبياء رافع للثقة بهم ، وهل هذا إلّا كما ذمّ الله عليه الكافرين إذ قالوا :( إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) (٣) ؟! فإنّ سلب الشعور إن لم يكن جنونا فهو بمنزلته ، ولو جاز ، لجاز الجنون عليهم ؛ لأنّه ممّا يعرض البشر أيضا!

وإن أراد به ما لا يسلب معه الشعور ، فتلك الأفعال كبيرة ، والأنبياء معصومون عنها ، بل إذا كان الإلقاء بقصد الإهانة يكون كفرا!

ومن الغريب أنّ الخصم بظاهر كلامه خصّ الحمل عند أصحابه بذلك ، مع أنّه في كلّ ما سبق من المباحث عيال على « المواقف » وشرحها ، وهما لم يذكرا هذا! وإنّما ذكرا وجوها أخر :

__________________

(١) فتح الباري ٦ / ٥٤٧.

(٢) انظر : صحيح مسلم ٧ / ١٠٠.

(٣) سورة الحجر ١٥ : ٦.

٩٤

منها : ما اختاره صاحب « المواقف » ، وهو أنّ فعل موسى بأخيه لم يكن على سبيل الإيذاء ، بل أراد أن يدنيه لنفسه ليتفحّص منه عن حقيقة الحال ، فخاف هارون أن يعتقد بنو إسرائيل خلافه(١) ، فقال :( تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي ) (٢) الآية.

وهذا الحمل منقول عن السيّد المرتضى(٣) وأنّ الرازي استحسنه(٤) .

ومنها : إنّ موسى لمّا رأى جزع أخيه واضطرابه من قومه أخذه ليسكّن من قلقه(٥) .

ومنها : إنّ موسى لمّا غلب عليه الهمّ [ واستيلاء الفكر ] أخذ برأس أخيه لا على طريق الإيذاء ، بل كما يفعل الإنسان بنفسه من عضّ يده وشفته وقبض لحيته ، إلّا أنّه نزّل أخاه منزلة نفسه ، لأنّه شريكه في ما يناله من خير أو شرّ(٦) .

ثمّ قال الشارح : « قال الآمدي : لا يخفى بعد هذه التأويلات وخروجها عن مذاق العقل »(٧) .

ولم يذكر الشارح لنفسه شيئا وكأنّه على مذاق الآمدي ، وهو في محلّه لبعد هذه الوجوه جدّا ، مع أنّها لا ترفع إشكال إلقاء الألواح

__________________

(١) المواقف : ٣٦٣ ، وانظر : شرح المواقف ٨ / ٢٧٢.

(٢) سورة طه ٢٠ : ٩٤.

(٣) تنزيه الأنبياء : ١١٧.

(٤) تفسير الفخر الرازي ٢٢ / ١٠٩ ، الأربعين في أصول الدين ٢ / ١٤٦ ، عصمة الأنبياء : ٨٤.

(٥) شرح المواقف ٨ / ٢٧٢ ، وانظر : تنزيه الأنبياء ـ للمرتضى ـ : ١١٧.

(٦) شرح المواقف ٨ / ٢٧٢ ، وانظر : تنزيه الأنبياء ـ للمرتضى ـ : ١١٦.

(٧) شرح المواقف ٨ / ٢٧٢.

٩٥

والأولى في الجواب أنّ بني إسرائيل لمّا كفروا واتّخذوا العجل ، أراد موسىعليه‌السلام أن يبيّن لهم عظيم جرمهم وشديد سخطه عليهم ، فألقى الألواح الكريمة إظهارا للضجر من فعلهم ، وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه مع علمه ببراءة ساحته ، تفظيعا لعملهم ، وتنبيها لهم على سوء ما أتوا به ، وعلى مساءته منهم من باب : إيّاك أعني واسمعي يا جارة(١) ، كما هو في القرآن كثير ، قال تعالى :( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (٢) ، مع علمه سبحانه بأنّه معصوم عن الشرك وقال تعالى :( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) (٣) الآية

فيكون فعل موسى لمصلحة انزجارهم عن الكفر حتّى أظهر لأخيه أنّه ينبغي مفارقتهم واتّباعه له لعظيم ما جاءوا به ، فيكون فعله راجحا لا حراما ، بخلاف فقء عين ملك الموت ، فإنّه لا مصلحة فيه البتّة!

واعلم أنّه ليس في الآية الكريمة أنّ موسى كسر الألواح وضرب أخاه كما ادّعاه الخصم ، ولكن حمله على ذلك هضم الحقّ والتهويل على الغافلين.

وأمّا قوله : « وأمّا عند ابن المطهّر فهي محمولة على ذنوب الأنبياء »

ففيه : إنّ الطاهر ابن المطهّر لا ينكر إلّا ما هو صريح بالذنب والجهل ، كرواية فقء عين ملك الموت ، لا على ما يقرّب فيه التوجيه ويتّضح فيه الحمل كالآية الشريفة ، فتدبّر واستقم!

__________________

(١) مجمع الأمثال ١ / ٨٠ رقم ١٨٧.

(٢) سورة الزمر ٣٩ : ٦٥.

(٣) سورة الحاقّة ٦٩ : ٤٤.

٩٦

قال المصنّف ـ رفع الله درجته ـ(١) :

وفي « الجمع بين الصحيحين » أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في صفة الخلق يوم القيامة : « وإنّهم يأتون آدم ويسألونه الشفاعة فيعتذر إليهم ، فيأتون نوحا فيعتذر إليهم ، فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم! أنت نبيّ الله وخليله ، اشفع لنا إلى ربّك ، أما ترى ما نحن فيه؟! فيقول لهم : إنّ ربّي قد غضب غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولم يغضب بعده مثله ، وإنّي قد كذبت ثلاث كذبات ، نفسي نفسي ، إذهبوا إلى غيري »(٢) .

وفي « الجمع بين الصحيحين » أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لم يكذب إبراهيم النبيّ إلّا ثلاث كذبات »(٣) .

كيف يحلّ لهؤلاء نسبة الكذب إلى الأنبياء؟!

وكيف الوثوق بشرائعهم مع الاعتراف بتعمّد كذبهم؟!

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٥٢.

(٢) الجمع بين الصحيحين ٣ / ١٦٤ ـ ١٦٦ ح ٢٣٨٨ ؛ وانظر : صحيح البخاري ٤ / ٢٧٠ ح ١٤٣ وص ٢٨١ ح ١٦٤ وج ٦ / ١٥٧ ـ ١٥٩ ح ٢٣٣ ، صحيح مسلم ١ / ١٢٧ ـ ١٢٨ ، سنن الترمذي ٥ / ٢٨٨ ح ٣١٤٨ ، مسند أحمد ٢ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦ وج ٣ / ٢٤٤ ، مصنّف ابن أبي شيبة ٧ / ٤١٥ ح ٣٦ ، السنّة ـ لابن أبي عاصم _ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ ح ٨١١ ، التوحيد ـ لابن خزيمة ـ : ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ، مسند أبي عوانة ١ / ١٤٧ ـ ١٥٠ ح ٤٣٧ ـ ٤٤٠.

(٣) الجمع بين الصحيحين ٣ / ١٨٤ ح ٢٤١٥ ؛ وانظر : صحيح البخاري ٤ / ٢٨٠ ح ١٦١ وج ٧ / ٩ ح ٢٢ ، صحيح مسلم ٧ / ٩٨ ، سنن أبي داود ٢ / ٢٧٢ ح ٢٢١٢ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ ح ٣١٦٦ ، السنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٥ / ٩٨ ح ٨٣٧٤ و ٨٣٧٥ ، مسند أحمد ٢ / ٤٠٣ ، مسند أبي يعلى ١٠ / ٤٢٦ ـ ٤٢٨ ح ٦٠٣٩ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٧ / ٣٦٦.

٩٧

وقال الفضل(١) :

قد عرفت في ما مضى أنّ الإجماع واقع على وجوب عصمة الأنبياء عن الكذب(٢) .

وأمّا الكذبات المنسوبة إلى إبراهيم لما صحّ الحديث ، فالمراد منه صورة الكذب لا حقيقته ، كما قال :( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) (٣)

وكان مراده إلزامهم ونسبة الفعل إلى كبيرهم ؛ لأنّ الفأس الذي كسّر به الأصنام وضعه على رقبة كبير الأصنام ، فالكذب المؤوّل ليس كذبا في الحقيقة ، بل هو صورة الكذب إذا كان التأويل ظاهرا ، وهذا لا بأس به عند وقوع الضرورة.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ٢ / ٢٤٨.

(٢) تقدّم في الصفحة ٢٠ من هذا الجزء.

(٣) سورة الأنبياء ٢١ : ٦٣.

٩٨

وأقول :

سبق أنّ أكثرهم أجازوا صدور الكبائر عن الأنبياء سهوا قبل النبوّة وبعدها ، وعمدا قبلها ، وأنّ بعضهم أجاز صدورها عمدا بعدها ، ومنها الكذب في غير التبليغ ، بل أجاز بعضهم صدور الكفر عنهم لله(١)

وقد نقل الخصم هناك بعض ذلك(٢) ، فكيف يزعم هنا الإجماع على عصمتهم عن الكذب؟!

وأمّا ما زعمه من أنّ المراد صورة الكذب ، فلا يلائم الحديث ، ولنذكره لتتّضح الحال

روى البخاري في كتاب تفسير القرآن ، في سورة بني إسرائيل ، عن أبي هريرة ما ملخّصه :

إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « أنا سيّد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون ممّ ذلك؟! يجمع الله الناس الأوّلين والآخرين في صعيد واحد ، وتدنو الشمس ، فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ، فيقول الناس : ألا ترون ما قد بلغكم؟! ألا تنظرون من يشفع إلى ربّكم؟!

فيقول بعض الناس لبعض : عليكم بآدم ؛ فيأتونه ، فيعتذر بأنّ الله سبحانه نهاه عن الشجرة فعصاه

ويأتون نوحا بأمر آدم ، فيعتذر بأنّ له دعوة على قومه

__________________

(١) ( لله ) راجع الصفحتين ١٧ و ٣٠ من هذا الجزء.

(٢) راجع الصفحتين ٢٠ ـ ٢١.

٩٩

ويأتون إبراهيم بأمر نوح ، فيعتذر بأنّه كذب ثلاث كذبات

ويأتون موسى بأمر إبراهيم ، فيعتذر بأنّه قتل نفسا لم يؤمر بقتلها

ويأتون عيسى بأمر موسى ، فيعتذر

ثمّ قال : ولم يذكر ذنبا »(١) .

وهذا صريح بأنّ تلك الأمور الواقعة من الأنبياء الأوّل ذنوب ، وبعضها من الكبائر ، كالكذب وقتل النفس.

ومن المعلوم أنّ صورة الكذب ليست ذنبا إذا أدّت إليها الضرورة الدينية ، بل هي طاعة عظمى.

وقد صرّح أيضا بأنّ إبراهيم صاحب خطيئة حديث آخر رواه البخاري عن أنس في أواخر « كتاب الرقاق » ، وحديث رواه عنه أيضا في « كتاب التوحيد » في باب قول الله تعالى :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ) (٢) قال فيهما ما حاصله :

« يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون : لو استشفعنا إلى ربّنا؟

فيأتون آدم ، ثمّ نوحا ، ثمّ إبراهيم ، ثمّ موسى ، فيقول كلّ منهم : لست هناك ؛ ويذكر خطيئته »(٣) .

__________________

(١) تقدّم تخريجه في الصفحة ٩٧ ه‍ ٢ و ٣.

(٢) سورة القيامة ٧٥ : ٢٢ و ٢٣.

(٣) صحيح البخاري ٨ / ٢٠٩ ح ١٤٩ وج ٩ / ٢١٧ ح ٣٩ باب قول الله تعالى :( لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ ) ، صحيح مسلم ١ / ١٢٤ ـ ١٢٦ ،مسند أحمد ٣ / ١١٦ و ٢٤٤ و ٢٤٧ ، مسند أبي يعلى ٥ / ٣٩٦ ـ ٣٩٨ ح ٣٠٦٤ ، المصنّف ـ لابن أبي شيبة ـ ٧ / ٤١٦ ـ ٤١٨ ح ٣٧ و ٣٩ ، السنّة ـ لابن أبي عاصم ـ : ٣٦٠ ـ ٣٦٥ ح ٨٠٤ ـ ٨١٠ وص ٣٦٧ ـ ٣٧٤ ح ٨١٢ ـ ٨١٧ ، التوحيد ـ لابن خزيمة ـ : ٢٤٨ ـ ٢٥٠ و ٢٥٣ ـ ٢٥٤ ، مسند أبي عوانة ١ / ١٥١ ـ ١٥٤ ح ٤٤٣ ـ ٤٤٧ ، الجمع بين الصحيحين ـ للحميدي ـ ٢ / ٥٤٥ ح ١٩٠٢.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442