موسوعة الأسئلة العقائديّة الجزء ١

موسوعة الأسئلة العقائديّة13%

موسوعة الأسئلة العقائديّة مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
تصنيف: مكتبة العقائد
ISBN: 978-600-5213-01-0
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 229874 / تحميل: 6863
الحجم الحجم الحجم
موسوعة الأسئلة العقائديّة

موسوعة الأسئلة العقائديّة الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مركز الأبحاث العقائدية
ISBN: ٩٧٨-٦٠٠-٥٢١٣-٠١-٠
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

( بيان)

تتكلّم السورة حول إعراضهم عن الكتاب المنزل عليهم و هو القرآن الكريم فهو الغرض الأصليّ و لذلك ترى طائف الكلام يطوف حوله و يبتدئ به ثمّ يعود إليه فصلاً بعد فصل فقد افتتح بقوله:( تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) إلخ ثمّ قيل:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ) إلخ، و قيل:( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا ) إلخ، و قيل:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ ) إلخ، و قيل - و هو في خاتمة الكلام -:( قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ) إلخ.

و لازم إعراضهم عن كتاب الله إنكار الاُصول الثلاثة الّتي هي أساس دعوته الحقّة و هي الوحدانيّة و النبوّة و المعاد فبسطت الكلام فيها و ضمّنته التبشير و الإنذار.

و السورة مكّيّة لشهادة مضامين آياتها على ذلك و هي من السور النازلة في أوائل البعثة على ما يستفاد من الروايات.

قوله تعالى: ( حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) خبر مبتدإ محذوف، و المصدر بمعنى المفعول، و التقدير هذا منزّل من الرحمن الرحيم، و التعرّض للصفتين الكريمتين: الرحمن الدالّ على الرحمة العامّة للمؤمن و الكافر، و الرحيم الدالّة على الرحمة الخاصّة بالمؤمنين للإشارة إلى أنّ هذا التنزيل يصلح للناس دنياهم كما يصلح لهم آخرتهم.

قوله تعالى: ( كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) خبر بعد خبر، و التفصيل يقابل الإحكام و الإجمال، و المراد بتفصيل آيات القرآن تمييز أبعاضه بعضها من بعض بإنزاله إلى مرتبة البيان بحيث يتمكّن السامع العارف بأساليب البيان من فهم معانيه و تعقّل مقاصده و إلى هذا يشير قوله تعالى:( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود: 1، و قوله:( وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: 4.

و قوله:( قُرْآناً عَرَبِيًّا ) حال من الكتاب أو من آياته، و قوله:( لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ )

٣٦١

اللّام للتعليل أو للاختصاص، و مفعول( يَعْلَمُونَ ) إمّا محذوف و التقدير لقوم يعلمون معانيه لكونهم عارفين باللسان الّذي نزّل به و هم العرب و إمّا متروك و المعنى لقوم لهم علم.

و لازم المعنى الأوّل أن يكون هناك عناية خاصّة بالعرب في نزول القرآن عربيّاً و هو الّذي يشعر به أيضاً قوله الآتي:( وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ ) الآية و قريب منه قوله:( وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى‏ بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ) الشعراء: 199.

و لا ينافي ذلك عموم دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعامّة البشر لأنّ دعوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت مرتّبة على مراحل فأوّل ما دعي دعي الناس بالموسم فقوبل بإنكار شديد منهم ثمّ كان يدعو بعد ذلك سرّاً مدّة ثمّ أمر بدعوة عشيرته الأقربين كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) الشعراء: 214 ثمّ اُمر بدعوة قومه كما يشير إليه قوله:( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) الحجر: 94 ثمّ اُمر بدعوة الناس عامّة كما يشير إليه قوله:( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) الأعراف: 158، و قوله:( وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) الأنعام: 19.

على أنّ من المسلّم تاريخاً أنّه كان من المؤمنين به سلمان و كان فارسيّاً، و بلال و كان حبشيّاً، و صهيب و كان روميّاً، و دعوته لليهود و وقائعهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم، و كذا كتابه إلى ملك إيران و مصر و الحبشة و الروم في دعوتهم إلى الإسلام كلّ ذلك دليل على عموم الدعوة.

قوله تعالى: ( بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ) ( بَشِيراً وَ نَذِيراً ) حالان من الكتاب في الآية السابقة، و المراد بالسمع المنفيّ سمع القبول كما يدلّ عليه قرينة الإعراض.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ) إلى آخر الآية. قال الراغب: الكنّ ما يحفظ فيه الشي‏ء قال: الكنان الغطاء الّذي يكنّ فيه الشي‏ء و الجمع أكنّة نحو غطاء و أغطية قال تعالى:( وَ جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ) . انتهى.

٣٦٢

فقوله:( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ) كناية عن كون قلوبهم بحيث لا تفقه ما يدعوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه من التوحيد كأنّها مغطّاة بأغطية لا يتطرّق إليها شي‏ء من خارج.

و قوله:( وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ ) أي ثقل من الصمم فلا تسمع شيئاً من هذه الدعوة، و قوله:( وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ ) أي حاجز يحجزنا منك فلا نجتمع معك على شي‏ء ممّا تريد فقد أيأسوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبول دعوته بما أخبروه أوّلاً بكون قلوبهم في أكنّة فلا تقع فيها دعوته حتّى يفقهوها، و ثانياً بكون طرق ورودها إلى القلوب و هي الآذان مسدودة فلا تلجها دعوة و لا ينفذ منها إنذار و تبشير، و ثالثاً بأنّ بينهم و بينهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجاباً مضروباً لا يجمعهم معه جامع و فيه تمام الإياس.

و قوله:( فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ ) تفريع على ما سبق، و لا يخلو من شوب تهديد، و عليه فالمعنى إذا كان لا سبيل إلى التفاهم بيننا فاعمل بما يمكنك العمل به في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك.

و قيل: المعنى فاعمل على دينك فإنّنا عاملون على ديننا، و قيل: المعنى فاعمل في هلاكنا فإنّنا عاملون في هلاكك، و لا يخلوان من بعد.

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ ) في مقام الجواب عن قولهم:( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ ) على ما يعطيه السياق فمحصّله قل لهم: إنّما أنا بشر مثلكم اُعاشركم كما يعاشر بعضكم بعضاً و اُكلّمكم كما يكلّم أحدكم صاحبه فلست من جنس يباينكم كالملك حتّى يكون بيني و بينكم حجاب مضروب أو لا ينفذ كلامي في آذانكم أو لا يرد قولي في قلوبكم غير أنّ الّذي أقول لكم و أدعوكم إليه وحي يوحى إليّ و هو إنّما إلهكم الّذي يستحقّ أن تعبدوه إله واحد لا آلهة متفرّقون.

و قوله:( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ ) أي فإذا لم يكن إلّا إلهاً واحداً لا شريك له فاستووا إليه بتوحيده و نفي الشركاء عنه و استغفروه فيما صدر عنكم من الشرك و الذنوب.

قوله تعالى: ( وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ )

٣٦٣

تهديد للمشركين الّذين يثبتون لله شركاء و لا يوحّدونه، و قد وصفهم من أخصّ صفاتهم بصفتين هما عدم إيتائهم الزكاة و كفرهم بالآخرة.

و المراد بإيتاء الزكاة مطلق إنفاق المال للفقراء و المساكين لوجه الله فإنّ الزكاة بمعنى الصدقة الواجبة في الإسلام لم تكن شرعت بعد عند نزول السورة و هي من أقدم السور المكّيّة.

و قيل: المراد بإيتاء الزكاة تزكية النفس و تطهيرها من أوساخ الذنوب و قذارتها و إنماؤها نماء طيّباً بعبادة الله سبحانه، و هو حسن لو حسن إطلاق إيتاء الزكاة على ذلك.

و قوله:( وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) وصف آخر للمشركين هو من لوازم مذهبهم و هو إنكار المعاد، و لذلك أتى بضمير الفصل ليفيد أنّهم معروفون بالكفر بالآخرة.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) أي غير مقطوع بل متّصل دائم كما فسّره بعضهم، و فسّره آخرون بغير معدود كما قال تعالى:( يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ ) المؤمن: 40.

و جوّز أن يكون المراد أنّه لا أذى فيه من المنّ الّذي يكدر الصنيعة، و يمكن أن يوجّه هذا الوجه بأنّ في تسمية ما يؤتونه بالأجر دلالة على ذلك لإشعاره بالاستحقاق و إن كان هذا الاستحقاق بجعل من الله تعالى لا لهم من عند أنفسهم قال تعالى:( إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) الدهر: 22.

قوله تعالى: ( قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ) الآية. أمره ثانياً أن يستفهم عن كفرهم بالله بمعنى شركهم مع ظهور آيات وحدانيّة في خلق السماوات و الأرض و تدبير أمرهما بعد ما أمره أوّلاً بدفع قولهم:( قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ ) إلخ.

و الاستفهام للتعجيب و لذا اُكّد المستفهم عنه بإنّ و اللّام كأنّ المستفهم لا يكاد يذعن بكفرهم بالله و قولهم بالأنداد مع ظهور المَحَجّة و استقامة الحجّة.

٣٦٤

و قوله:( وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ) تفسير لقوله:( لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ ) إلخ، و الأنداد جمع ندّ و هو المثل، و المراد بجعل الأنداد له اتّخاذ شركاء له يماثلونه في الربوبيّة و الاُلوهيّة.

و قوله:( ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ) في الإشارة بلفظ البعيد رفع لساحته تعالى و تنزيهه عن أمثال هذه الأوهام فهو ربّ العالمين المدبّر لأمر الخلق أجمعين فلا مسوّغ لأن يتوهّم ربّاً آخر سواه و إلهاً آخر غيره.

و المراد باليوم في قوله:( خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) برهة من الزمان دون مصداق اليوم الّذي نعهده و نحن على بسيط أرضنا هذه و هو مقدار حركة الكرة الأرضيّة حول نفسها مرّة واحدة فإنّه ظاهر الفساد، و إطلاق اليوم على قطعة من الزمان تحوي حادثة من الحوادث كثير الورود شائع الاستعمال، و من ذلك قوله تعالى:( وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ ) آل عمران: 140، و قوله:( فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ ) يونس: 102، و غير ذلك.

فاليومان اللّذان خلق الله فيهما الأرض قطعتان من الزمان تمّ فيهما تكوّن الأرض أرضاً تامّة، و في عدّهما يومين لا يوماً واحداً دليل على أنّ الأرض لاقت زمان تكوّنها الأوّليّ مرحلتين متغايرتين كمرحلة الني‏ء و النضج أو الذوبان و الانعقاد أو نحو ذلك.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها ) إلى آخر الآية. معطوف على قوله:( خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ) و لا ضير في تخلّل الجملتين:( وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ ) بين المعطوف و المعطوف عليه لأنّ الاُولى تفسير لقوله:( لَتَكْفُرُونَ ) و الثانية تقرير للتعجيب الّذي يفيده الاستفهام.

و الرواسي صفة لموصوف محذوف و التقدير جبالاً رواسي أي ثابتات على الأرض و ضمائر التأنيث الخمس في الآية للأرض.

و قوله:( وَ بارَكَ فِيها ) أي جعل فيها الخير الكثير الّذي ينتفع به ما على الأرض من نبات و حيوان و إنسان في حياته أنواع الانتفاعات.

٣٦٥

و قوله:( وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) قيل: الظرف أعني قوله:( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) بتقدير مضاف و هو متعلّق بقدّر، و التقدير قدّر الأقوات في تتمّة أربعة أيّام من حين بدء الخلق - فيومان لخلق الأرض و يومان - و هما تتمّة أربعة أيّام - لتقدير الأقوات.

و قيل: متعلّق بحصول الأقوات و تقدير المضاف على حاله، و التقدير قدّر حصول أقواتها في تتمّة أربعة أيّام - فيها خلق الأرض و أقواتها جميعاً -.

و قيل: متعلّق بحصول جميع الاُمور المذكورة من جعل الرواسي من فوقها و المباركة فيها و تقدير أقواتها و التقدير و حصول ذلك كلّه في تتمّة أربعة أيّام و فيه حذف و تقدير كثير.

و جعل الزمخشريّ في الكشّاف، الظرف متعلّقاً بخبر مبتدإ محذوفين من غير تقدير مضاف و التقدير كلّ ذلك كائن في أربعة أيّام فيكون قوله:( فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ) من قبيل الفذلكة كأنّه قيل: خلق الأرض في يومين و أقواتها و غير ذلك في يومين فكلّ ذلك في أربعة أيّام.

قالوا: و إنّما لم يجز حمل الآية على أنّ جعل الرواسي و ما ذكر عقيبه أو تقدير الأقوات في أربعة أيّام لأنّ لازمه كون خلق الأرض و ما فيها في ستّة أيّام و قد ذكر بعده أنّ السماوات خلقت في يومين فيكون المجموع ثمانية أيّام و قد تكرّر في كلامه تعالى أنّه خلق السماوات و الأرض في ستّة أيّام فهذا هو الوجه في حمل الآية على أحد الوجوه السابقة على ما فيها من ارتكاب الحذف و التقدير.

و الإنصاف أنّ الآية أعني قوله:( وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) ظاهرة في غير ما ذكروه و القرائن الحافّة بها تؤيّد كون المراد بها تقدير أقواتها في الفصول الأربعة الّتي يكونها ميل الشمس الشماليّ و الجنوبيّ بحسب ظاهر الحسّ فالأيّام الأربعة هي الفصول الأربعة.

و الّذي ذكر في هذه الآيات من أيّام خلق السماوات و الأرض أربعة أيّام يومان لخلق الأرض و يومان لتسوية السماوات سبعاً بعد كونها دخاناً و أمّا أيّام الأقوات فقد

٣٦٦

ذكرت أيّاماً لتقديرها لا لخلقها، و ما تكرّر في كلامه تعالى هو خلق السماوات و الأرض في ستّة أيّام لا مجموع خلقها و تقدير أمرها فالحقّ أنّ الظرف قيد للجملة الأخيرة فقط و لا حذف و لا تقدير في الآية و المراد بيان تقدير أقوات الأرض و أرزاقها في الفصول الأربعة من السنة.

و قوله:( سَواءً لِلسَّائِلِينَ ) مفعول مطلق لفعل مقدّر أي استوت الأقوات المقدّرة استواء للسائلين أو حال من الأقوات أي قدّرها حال كونها مستوية للسائلين يقتاتون بها جميعا و تكفيهم من دون زيادة أو نقيصة.

و السائلون هم أنواع النبات و الحيوان و الإنسان فإنّهم محتاجون في بقائهم إلى الأرزاق و الأقوات فهم سائلون ربّهم(1) قال تعالى:( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الرحمن: 29، و قال:( وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ) إبراهيم: 34.

قوله تعالى: ( ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) تعم النبات و الإتيان بضمير أولي العقل للتغليب.

الاستواء - على ما ذكره الراغب - إذا عدّي بعلى أفاد معنى الاستيلاء نحو( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) ‏، و إذا عدّي بإلى أفاد معنى الانتهاء إليه.

و أيضاً في المفردات، أنّ الكره بفتح الكاف المشقّة الّتي تنال الإنسان من خارج فيما يحمل عليه بإكراه، و الكُره بضمّ الكاف ما تناله من ذاته و هو يعافه.

فقوله:( ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ ) أي توجّه إليها و قصدها بالخلق دون القصد المكانيّ الّذي لا يتمّ إلّا بانتقال القاصد من مكان إلى مكان و من جهة إلى جهة لتنزّهه تعالى على ذلك.

و ظاهر العطف بثمّ تأخّر خلق السماوات عن الأرض لكن قيل: إنّ( ثُمَّ ) لإفادة التراخي بحسب الخبر لا بحسب الوجود و التحقّق و يؤيّده قوله تعالى:( أَمِ السَّماءُ بَناها - إلى أن قال -وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها

____________________

(1) ظاهر الآيتين و إن كان اختصاصهما بذوي العقول لكنّهما و خاصّة الثانية تفيدان أنّ المراد بالسؤال هو الحاجة و الاستعداد و عليه فالآية

٣٦٧

وَ الْجِبالَ أَرْساها ) النازعات: 32 فإنّه يفيد تأخّر الأرض عن السماء خلقاً.

و الاعتراض عليه بأنّ مفاده تأخّر دحو الأرض عن بناء السماء و دحوها غير خلقها مدفوع بأنّ الأرض كريّة فليس دحوها و بسطها غير تسويتها كرة و هو خلقها على أنّه تعالى أشار بعد ذكر دحو الأرض إلى إخراج مائها و مرعاها و إرساء جبالها و هذه بعينها جعل الرواسي من فوقها و المباركة فيها و تقدير أقواتها الّتي ذكرها في الآيات الّتي نحن فيها مع خلق الأرض و عطف عليها خلق السماء بثمّ فلا مناص عن حمل ثمّ على غير التراخي الزماني فإنّ قوله في آية النازعات:( بَعْدَ ذلِكَ ) أظهر في التراخي الزمانيّ من لفظة( ثُمَّ ) فيه في آية حم السجدة و الله أعلم.

و قوله:( وَ هِيَ دُخانٌ ) حال من السماء أي استوى إلى السماء بالخلق حال كونها شيئاً سمّاه الله دخاناً و هو مادّتها الّتي ألبسها الصورة و قضاها سبع سماوات بعد ما لم تكن معدودة متميّزاً بعضها من بعض، و لذا أفرد السماء فقال:( اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ ) .

و قوله:( فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) تفريع على استوائه إلى السماء و المورد مورد التكوين بلا شكّ فقوله لها و للأرض:( ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) كلمة إيجاد و أمر تكوينيّ كقوله لشي‏ء أراد وجوده: كن، قال تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ ) يس: 83.

و مجموع قوله لهما:( ائْتِيا ) إلخ و قولهما له:( أَتَيْنا ) إلخ تمثيل لصفة الإيجاد و التكوين على الفهم الساذج العرفيّ و حقيقة تحليليّة بناء على ما يستفاد من كلامه تعالى من سراية العلم في الموجودات و كون تكليم كلّ شي‏ء بحسب ما يناسب حاله، و قد أوردنا بعض الكلام فيه فيما تقدّم من المباحث، و سيجي‏ء شطر من الكلام فيه في تفسير قوله:( قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ ) الآية 21 من السورة إن شاء الله.

و قول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( ائْتِيا ) إلخ أمرهما بإظهار ما فيهما من الآثار و المنافع دون الأمر بأن توجداً و تكوّناً مدفوع بأنّ تكوّن السماء مذكور فيما

٣٦٨

بعد و لا معنى لتقديم الأمر بإظهار الآثار و المنافع قبل ذكر التكوّن.

و في قوله:( ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) إيجاب الإتيان عليهما و تخييرهما بين أن تفعلا ذلك بطوع أو كره، و لعلّ المراد بالطوع و الكره - و هما بوجه قبول الفعل و نوع ملاءمة و عدمه - هو الاستعداد السابق للكون و عدمه فيكون قوله:( ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) كناية عن وجوب إتيانهما بلا مناص و أنّه أمر لا يتخلّف البتّة أرادتا أو كرهتا سألتاه أو لم تسألا فأجابتا أنهما يمتثلان الأمر عن استعداد سابق و قبول ذاتيّ و سؤال فطريّ إذ قالتا:( أَتَيْنا طائِعِينَ ) .

و قول بعضهم: إنّ قوله:( طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ) تمثيل لتحتّم تأثير قدرته تعالى فيهما و استحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع و الكره لهما. مدفوع بقوله بعد:( قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) إذ لو كان الترديد المذكور تمثيلاً فقط من غير إثبات كما ذكره لم يكن لإثبات الطوع في الجواب وجه.

و قوله:( قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) جواب السماء و الأرض لخطابه تعالى باختيار الطوع، و التعبير باللفظ الخاصّ باُولي العقل - طائعين - لمكان المخاطبة و الجواب و هما من خواصّ اُولي العقل، و التعبير بلفظ الجمع دون أن تقولا: أتينا طائعتين لعلّه تواضع منهما بعدّ أنفسهما غير متميّزة من سائر مخلوقاته تعالى المطيعة لأمره فأجابتا عن لسان الجميع، نظير ما قيل في قوله تعالى:( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) الحمد: 5.

ثمّ إنّ تشريك الأرض مع السماء في خطاب( ائْتِيا ) إلخ مع ذكر خلقها و تدبير أمرها قبلاً لا يخلو من إشعار بأنّ بينهما نوع ارتباط في الوجود و اتّصال في النظام الجاري فيهما و هو كذلك فإنّ الفعل و الانفعال و التأثير و التأثّر دائر بين أجزاء العالم المشهود.

و في قوله:( فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ) تلويح على أيّ حال إلى كون( ثُمَّ ) في قوله:( ثُمَّ اسْتَوى) للتراخي بحسب رتبة الكلام.

قوله تعالى: ( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى‏ فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها )

٣٦٩

الأصل في معنى القضاء فصل الأمر، و ضمير( هُنَّ ) للسماء على المعنى، و( سَبْعَ سَماواتٍ ) حال من الضمير و( فِي يَوْمَيْنِ ) متعلّق بقضاهنّ فتفيد الجملة أنّ السماء لمّا استوى سبحانه إليها و هي دخان كان أمرها مبهما غير مشخّص من حيث فعليّة الوجود ففصل تعالى أمرها بجعلها سبع سماوات في يومين.

و قيل: إنّ القضاء في الآية مضمّن معنى التصيير و( سَبْعَ سَماواتٍ ) مفعوله الثاني، و قيل فيها وجوه أخر لا يهمّنا إيرادها.

و الآية و ما قبلها ناظرة إلى تفصيل ما اُجمل في قوله:( أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ) الأنبياء: 30.

و قوله:( وَ أَوْحى‏ فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ) قيل: المراد بأمر السماء ما تستعدّ له أو تقتضيه الحكمة فيها من وجود ملك أو كوكب و ما أشبه ذلك، و الوحي هو الخلق و الإيجاد، و الجملة معطوفة على قوله:( فَقَضاهُنَّ ) مقيّدة بالوقت المذكور للمعطوف عليه، و المعنى و خلق في كلّ سماء ما فيها من الملائكة و الكواكب و غيرها.

و أنت خبير بأنّ إرادة الخلق من الوحي و أمثال الملك و الكوكب من الأمر تحتاج إلى عناية زائدة لا تثبت إلّا بدليل بيّن، و كذا تقيّد الجملة المعطوفة بالوقت المذكور في المعطوف عليها.

و قيل: المراد بالأمر التكليف الإلهيّ المتوجّه إلى أهل كلّ سماء من الملائكة و الوحي بمعناه المعروف و المعنى و أوحى إلى أهل كلّ سماء من الملائكة ما أمرهم به من العبادة.

و فيه أنّ ظاهر الآية و قد قال تعالى:( فِي كُلِّ سَماءٍ ) و لم يقل: إلى كلّ سماء لا يوافقه تلك الموافقة.

و قيل: المراد بأمرها ما أراده الله منها، و هذا الوجه في الحقيقة راجع إلى أحد الوجهين السابقين فإن اُريد بالوحي الخلق و الإيجاد رجع إلى أوّل الوجهين و إن اُريد به معناه المعروف رجع إلى ثانيهما.

و الّذي وقع في كلامه تعالى من الأمر المتعلّق بوجه بالسماء يلوّح إلى معنى

٣٧٠

أدقّ ممّا ذكروه فقد قال تعالى:( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ) الم السجدة: 5، و قال:( اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ) الطلاق: 12، و قال:( وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ ) المؤمنون: 17.

دلت الآية الاُولى على أنّ السماء مبدأ لأمره تعالى النازل إلى الأرض بوجه و الثانية على أنّ الأمر يتنزّل بين السماوات من سماء إلى سماء حتّى ينتهي إلى الأرض، و الثالثة على أنّ السماوات طرائق لسلوك الأمر من عند ذي العرش أو لسلوك الملائكة الحاملين للأمر إلى الأرض كما يشير إليه قوله:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) القدر: 4، و قوله:( فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) الدخان: 4.

و لو كان المراد بالأمر أمره تعالى التكوينيّ و هو كلمة الإيجاد كما يستفاد من قوله:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ ) يس: 82، أفادت الآيات بانضمام بعضها إلى بعض أنّ الأمر الإلهيّ الّذي مضيه في العالم الأرضيّ هو خلق الأشياء و حدوث الحوادث تحمله الملائكة من عند ذي العرش تعالى و تسلك في تنزيله طرق السماوات فتنزّله من سماء إلى سماء حتّى تنتهي به إلى الأرض.

و إنّما تحمله ملائكة كلّ سماء إلى من دونهم كما يستفاد من قوله:( حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) سبأ: 23 و قد تقدّم الكلام فيه و السماوات مساكن الملائكة كما يستفاد من قوله:( وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ ) النجم: 26، و قوله:( لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى‏ وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ ) الصافّات: 8.

فللأمر نسبة إلى كلّ سماء باعتبار الملائكة الساكنين فيها، و نسبة إلى كلّ قبيل من الملائكة الحاملين له باعتبار تحميله لهم و هو وحيه إليهم فإنّ الله سبحانه سمّاه قولاً كما قال:( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ ) النحل: 40.

فتحصّل بما مرّ أنّ معنى قوله:( وَ أَوْحى‏ فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها ) أوحى في كلّ

٣٧١

سماء إلى أهلها من الملائكة الأمر الإلهيّ. المنسوب إلى تلك السماء المتعلّق بها، و أمّا كون اليومين المذكورين في الآية ظرفاً لهذا الوحي كما هما ظرف لخلق السماوات سبعاً فلا دليل عليه من لفظ الآية.

قوله تعالى: ( وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ حِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) توصيف هذه السماء بالدنيا للدلالة على أنّها أقرب السماوات من الأرض و هي طباق بعضها فوق بعض كما قال:( خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ) الملك: 3.

و الظاهر من معنى تزيينها بمصابيح و هي الكواكب كما قال:( إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ ) الصافّات: 6 أنّ الكواكب في السماء الدنيا أو دونها كالقناديل المعلّقة و لو كانت متفرّقة في جميع السماوات من غير حجب بعضها بعضا لكون السماوات شفّافة كما قيل كانت زينة لجميعها و لم تختصّ الزينة ببعضها كما يفيده السياق فلا وجه لقول القائل: إنّها في الجميع لكن لكونها ترى متلألئة على السماء الدنيا عدّت زينة لها.

و أمّا قوله:( أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ) نوح: 16 فهو بالنسبة إلينا معاشر المستضيئين بالليل و النهار كقوله:( وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً ) النبأ: 13.

و قوله:( وَ حِفْظاً ) أي و حفظناها من الشياطين حفظا كما قال:( وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ ) الحجر: 18.

و قوله:( ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) إشارة إلى ما تقدّم من النظم و الترتيب.

( كلام فيه تتميم)

( في معنى السماء)

قد تحصّل ممّا تقدّم:

أوّلاً: أنّ المستفاد من ظاهر الآيات الكريمة - و ليست بنصّ - أنّ السماء الدنيا من هذه السبع هي عالم النجوم و الكواكب فوقنا.

٣٧٢

و ثانياً: أنّ هذه السماوات السبع المذكورة جميعاً من الخلق الجسمانيّ فكأنّها طبقات سبع متطابقة من عالم الأجسام أقربها منّا عالم النجوم و الكواكب، و لم يصف القرآن شيئاً من السماوات الستّ الباقية دون أن ذكر أنّها طباق.

و ثالثاً: أن ليس المراد بالسماوات السبع الأجرام العلويّة أو خصوص بعضها كالشمس و القمر أو غيرهما.

و رابعاً: أنّ ما ورد من كون السماوات مساكن للملائكة و أنّهم ينزلون منها بأمر الله حاملين له و يعرجون إليها بكتب الأعمال، و أنّ للسماء أبواباً لا تفتّح للكفّار و أنّ الأشياء و الأرزاق تنزل منها و غير ذلك ممّا تشير إليه متفرّقات الآيات و الروايات يكشف عن أنّ لهذه الاُمور نوع تعلّق بهذه السماوات لا كتعلّق ما نراه من الأجسام بمحالها و أماكنها الجسمانيّة الموجبة لحكومة النظام المادّيّ فيها و تسرّب التغيّر و التبدّل و الدثور و الفتور إليها.

و ذلك أنّ من الضروريّ اليوم أنّ لهذه الأجرام العلويّة كائنة ما كانت كينونة عنصريّة جسمانيّة تجري فيها نظائر الأحكام و الآثار الجارية في عالمنا الأرضيّ العنصريّ و النظام الّذي يثبت للسماء و أهلها و الاُمور الجارية فيها ممّا أشرنا إليه يباين هذا النظام العنصريّ المشهود. أضف إلى ذلك ما ورد أنّ الملائكة خلقوا من نور، و أنّ غذاءهم التسبيح، و ما ورد من توصيف خلقهم، و ما ورد في توصيف خلق السماوات و ما خلق فيها إلى غير ذلك.

فللملائكة عوالم ملكوتيّة سبعة مترتّبة سمّيت سماوات سبعاً و نسبت ما لها من الخواصّ و الآثار إلى ظاهر هذه السماوات بلحاظ ما لها من العلوّ و الإحاطة بالنسبة إلى الأرض تسهيلاً للفهم الساذج.

٣٧٣

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أبو يعلى و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و أبونعيم و البيهقيّ كلاهما في الدلائل و ابن عساكر عن جابر بن عبدالله قال: اجتمع قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر و الكهانة و الشعر فليأت هذا الرجل الّذي قد فرّق جماعتنا، و شتّت أمرنا و عاب ديننا فليكلّمه و لينظر ما ذا يردّ عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة قالوا: أنت يا أباالوليد.

فأتاه فقال: يا محمّد أنت خير أم عبدالله؟ أنت خير أم عبد المطّلب؟ فسكت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: فإن كنت تزعم أنّ هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة الّتي عبدت و إن كنت تزعم أنّك خير منهم فتكلّم حتّى نسمع منك.

أما و الله ما رأينا سلحة قطّ أشأم على قومك منك فرّقت جماعتنا، و شتّت أمرنا و عبت ديننا، و فضحتنا في العرب حتّى لقد طار فيهم أنّ في قريش ساحراً، و أنّ في قريش كاهناً و الله ما ننتظر إلّا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف. يا أيّها الرجل إن كان نما بك الحاجة جمعنا لك حتّى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً و إن كان نما بك الباءة فاختر أيّ نساء قريش شئت فلنزوّجك عشراً.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فرغت؟ قال: نعم. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) حتّى بلغ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) .

فقال عتبة: حسبك. ما عندك غير هذا؟ قال: لا فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنّكم تكلّمون به إلّا كلّمته قالوا: فهل أجابك؟ قال: و الّذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً ممّا قال غير أنّه قال:( أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) قالوا: ويلك يكلّمك الرجل بالعربيّة و ما تدري ما قال؟ قال: لا و الله ما فهمت شيئاً ممّا قال غير ذكر الصاعقة.

٣٧٤

أقول: و رواه عن عدّة من الكتب قريباً منه‏، و في بعض الطرق: قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: و الله إنّي قد سمعت قولاً ما سمعت بمثله قطّ، و الله ما هو بالشعر و لا بالسحر و لا بالكهانة، و الله ليكونّن لقوله الّذي سمعت نبأ، و في بعضها غير ذلك.

و في تلاوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آيات أوّل السورة على الوليد بن المغيرة رواية اُخرى ستوافيك إن شاء الله في تفسير سورة المدّثّر في ذيل قوله تعالى:( ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) الآيات.

و فيه، أخرج ابن جرير عن أبي بكر قال: جاء اليهود إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا محمّد أخبرنا ما خلق الله من الخلق في هذه الأيّام الستّة؟ فقال: خلق الله الأرض يوم الأحد و الإثنين، و خلق الجبال يوم الثلاثاء، و خلق المدائن و الأقوات و الأنهار و عمرانها و خرابها يوم الأربعاء، و خلق السماوات و الملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة، و خلق في أوّل ساعة الآجال و في الثانية الآفة و في الثالثة آدم. قالوا: صدقت إن تمّمت فعرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله( وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ ) .

أقول: و روي ما يقرب منه عن ابن عبّاس و عبدالله بن سلام و عن عكرمة و غيره و قد ورد في بعض أخبار الشيعة، و قوله: قالوا: صدقت إن تمّمت أي تمّمت كلامك في الخلق بأن تقول: إنّه تعالى فرغ من الخلق يوم السبت و استراح فيه.

و الروايات لا تخلو من شي‏ء:

أمّا أوّلاً: فمن جهة اشتمالها على تصديق اليهود ما ذكر فيها من ترتيب الخلق و هو مخالف لما ورد في أوّل سفر التكوين من التوراة مخالفة صريحة ففيها أنّه خلق النور و الظلمة - النهار و الليل - يوم الأحد، و خلق السماء يوم الإثنين، و خلق الأرض و البحار و النبات يوم الثلاثاء و خلق الشمس و القمر و النجوم يوم الأربعاء و خلق دوابّ البحر و الطير يوم الخميس، و خلق حيوان البرّ و الإنسان يوم الجمعة و فرغ من الخلق يوم السبت فاستراح فيه، و القول بأنّ التوراة الحاضرة غير ما كان

٣٧٥

في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ترى.

و أمّا ثانياً: فلأنّ اليوم من الأسبوع و هو نهار مع ليلته يتوقّف في كينونته على حركة الأرض الوضعيّة دورة واحدة قبال الشمس فما معنى خلق الأرض في يومين و لم يخلق السماء و السماويّات بعد و لا تمّت الأرض كرة متحرّكة؟ و نظير الإشكال جارّ في خلق السماء و السماويّات و منها الشمس و لا يوم حيث لا شمس بعد.

و أمّا ثالثاً: فلأنّه عدّ فيها يوم لخلق الجبال و قد جزم الفحص العلميّ بأنّها تخلق تدريجاً، و نظير الإشكال جار في خلق المدائن و الأنهار و الأقوات.

و في روضة الكافي، بإسناده عن محمّد بن عطيّة عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال: و خلق الشي‏ء الّذي جميع الأشياء منه و هو الماء الّذي خلق الأشياء منه فجعل نسب كلّ شي‏ء إلى الماء و لم يجعل للماء نسبا يضاف إليه، و خلق الريح من الماء.

ثمّ سلّط الريح على الماء فشقّقت الريح متن الماء حتّى ثار من الماء زبد على قدر ما شاء أن يثور فخلق من ذلك الزبد أرضاً بيضاء نقيّة ليس فيها صدع و لا ثقب و لا صعود و لا هبوط و لا شجرة ثمّ طواها فوضعها فوق الماء.

ثمّ خلق الله النار من الماء فشققت النار متن الماء حتّى ثار من الماء دخان على قدر ما شاء الله أن يثور فخلق من ذلك الدخان سماء صافية نقيّة ليس فيها صدع و لا ثقب و ذلك قوله:( السَّماءُ بَناها ) .

أقول: و في هذه المعنى بعض روايات اُخر، و يمكن تطبيق ما في الرواية و كذا مضامين الآيات على ما تسلّمته الأبحاث العلميّة اليوم في خلق العالم و هيئته غير أنّا تركنا ذلك احترازاً من تحديد الحقائق القرآنيّة بالأحداس و الفرضيّات العلميّة ما دامت فرضيّة غير مقطوع بها من طريق البرهان العلميّ.

و في نهج البلاغة: فمن شواهد خلقه خلق السماوات موطّدات بلا عمد قائمات بلا سند، دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات غير متلكّئات و لا مبطئات، و لو لا إقرارهنّ له بالربوبيّة، و إذعانهنّ له بالطواعية لما جعلهنّ موضعاً لعرشه، و لا مسكناً لملائكته و لا مصعداً للكلم الطيّب و العمل الصالح من خلقه.

٣٧٦

و في كمال الدين، بإسناده إلى فضيل الرسّان قال: كتب محمّد بن إبراهيم إلى أبي عبداللهعليه‌السلام : أخبرنا ما فضلكم أهل البيت؟ فكتب إليه أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ الكواكب جعلت أماناً لأهل السماء فإذا ذهبت نجوم السماء جاء أهل السماء ما كانوا يوعدون، و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : جعل أهل بيتي أماناً لاُمّتي فإذا ذهب أهل بيتي جاء اُمّتي ما كانوا يوعدون.

أقول: و ورد هذا المعنى في غير واحد من الروايات.

و في البحار، عن كتاب الغارات بإسناده عن ابن نباتة قال: سئل أميرالمؤمنينعليه‌السلام كم بين السماء و الأرض؟ قال: مدّ البصر و دعوة المظلوم.

أقول: و هو من لطائف كلامهعليه‌السلام يشير به إلى ظاهر السماء و باطنها كما تقدّم.

٣٧٧

( سورة فصّلت الآيات 13 - 25)

فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ( 13 ) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ  قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ( 14 ) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً  أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً  وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ( 15 ) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَىٰ  وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ ( 16 ) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( 17 ) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ( 18 ) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ( 19 ) حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( 20 ) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا  قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 21 ) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ ( 22 ) وَذَٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ

٣٧٨

أأَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ ( 23 ) فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ  وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ ( 24 ) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ  إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ( 25 )

( بيان)

الآيات تتضمّن الإنذار بالعذاب الدنيويّ الّذي ابتليت به عاد و ثمود بكفرهم بالرسل و جحدهم لآيات الله، و بالعذاب الاُخروي الّذي سيبتلى به أعداء الله من أهل الجحود الّذين حقّت عليهم كلمة العذاب، و فيها إشارة إلى كيفيّة إضلالهم في الدنيا و إلى استنطاق أعضائهم في الآخرة.

قوله تعالى: ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) قال في المجمع: الصاعقة المهلكة من كلّ شي‏ء انتهى، و قال الراغب: قال بعض أهل اللغة: الصاعقة على ثلاثة أوجه: الموت كقوله:( فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ ) و قوله:( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ) و العذاب كقوله:( أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ ) و النار كقوله:( وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) و ما ذكره فهو أشياء حاصلة من الصاعقة فإنّ الصاعقة هي الصوت الشديد من الجوّ ثمّ يكون نار فقط أو عذاب أو موت و هي في ذاتها شي‏ء واحد، و هذه الأشياء تأثيرات منها. انتهى.

و على ما مرّ تنطبق الصاعقة على عذابي عاد و ثمود و هما الريح و الصيحة، و التعبير بالماضي في قوله:( أَنْذَرْتُكُمْ ) للدلالة على التحقّق و الوقوع.

قوله تعالى: ( إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) إلخ ظرف للصاعقة الثانية فإنّ الإنذار بالصاعقة بالحقيقة إنذار بوقوعها و حلولها

٣٧٩

فالمعنى مثل حلول صاعقة عاد و ثمود إذ جاءتهم إلخ.

و نسبة المجي‏ء إلى الرسل و هو جمع - مع أنّ الّذي ذكر في قصّتهم رسولان هما هود و صالح - باعتبار أنّ الرسل دعوتهم واحدة و المبعوث منهم إلى قوم مبعوث لآخرين و كذا القوم المكذّبون لأحدهم مكذّبون لآخرين قال تعالى:( كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ ) الشعراء: 123 و قال:( كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ) الشعراء: 141، و قال:( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ ) الشعراء: 160 إلى غير ذلك.

و قول بعضهم: إنّ إطلاق الرسل و هو جمع على هود و صالحعليهما‌السلام و هما اثنان من إطلاق الجمع على ما دون الثلاثة و هو شائع، و من هذا القبيل إرجاع ضمير الجمع في قوله:( إِذْ جاءَتْهُمُ ) إلى عاد و ثمود.

ممنوع بما تقدّم، و أمّا إرجاع ضمير الجمع إلى عاد و ثمود فإنّما هو لكون مجموع الجمعين جمعاً مثلهما.

و قوله:( مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ ) أي من جميع الجهات فاستعمال هاتين الجهتين في جميع الجهات شائع، و جوّز أن يكون المراد به الماضي و المستقبل فقوله:( جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ ) كناية عن دعوتهم لهم من جميع الطرق الممكنة خلوة و جلوة و فرادى و مجتمعين بالتبشير و الإنذار و لذلك فسّر مجيئهم كذلك بعد بقوله:( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ ) و هو التوحيد.

و قوله:( قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ) ردّ منهم لرسالتهم بأنّ الله لو شاء إرسال رسول إلينا لأرسل من الملائكة، و قد تقدّم كراراً معنى قولهم هذا و أنّه مبنيّ على إنكارهم نبوّة البشر.

و قوله:( فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) تفريع على النفي المفهوم من الجملة السابقة أي فإذا لم يشأ و لم يرسل فإنّا بما اُرسلتم به و هو التوحيد كافرون.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) إلخ رجوع إلى تفصيل حال من كلّ الفريقين على حدته، من كفرهم و وبال ذلك، و قوله:( بِغَيْرِ الْحَقِّ ) قيد توضيحيّ للاستكبار في الأرض فإنّه بغير الحقّ دائماً، و الباقي ظاهر.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

عام ؟ واقتنع غير واحد بمبدأ الحسينعليه‌السلام ، حتّى قال بعضهم : لقد شيّعني الحسين ، وقال غاندي : تعلّمت من الحسين أن أكون مظلوماً فانتصر

ولأحد المستشرقين كلمة في المقام ، يحسن إيرادها ، وذلك هو ماربين الألماني في كتابه « السياسة الإسلامية » قال : « من جملة الأُمور السياسية التي ألبستها رؤساء فرقة الشيعة لباس المذهب من عدّة قرون ، وصارت مورثة جدّاً لجلب قلوبهم وقلوب غيرهم ، هي أُصول التمثيل ، باسم التشبيه والتعزية في مأتم الحسين .

التمثيل أدخلته حكماء الهند في عباداتها لعدّة أغراض خارجة عن موضوع بحثنا ، الأوربائيون بمقتضى السياسة ألبسوا التمثيل لباس التفرّج ، وأظهروا في محلّات التفرّج العمومية لأنظار العامّ والخاصّ أُموراً سياسية مهمّة لاستجلاب القلوب قليلاً قليلاً ، أصابوا هدفين بسهم واحد ، تفريح الطبائع ، وجلب قلوب العامّة في الأُمور السياسية

فرقة الشيعة حصلت من هذه النكتة على فائدة تامّة ، فألبست ذلك لباس المذهب وعلى كلّ حال فالتأثير الذي يلزم أن يحصل على قلوب العامّة والخاصّة في إقامة العزاء والشبيه قد حصل ، من جهة يذكرون في مجالس قراءة التعزية المتواصلة المصائب ، التي وردت على رؤساء دينهم ، والمظالم التي وردت على الحسين

ومع تلك الأحاديث المشوّقة إلى البكاء على مصائب آل الرسول ، فتمثيل تلك المصائب للأنظار أيضاً له تأثير عظيم ، ويجعل العامّ والخاصّ من هذه الفرقة راسخ العقيدة فوق التصوّر هذه الفرقة تعمل الشبيه بأقسام مختلفة ، فتارة في مجالس مخصوصة ، ومقامات معيّنة ، وحيث إنّه في أمثال هذه المجالس المخصوصة ، والمقامات المعيّنة يكون اشتراك الفرق الأُخرى معهم أقلّ ، أوجدوا تمثيلاً بوضع خاصّ ، فعملوا الشبيه في الأزقة والأسواق ، وداروا به بين جميع الفرق ، وبهذا السبب تتأثّر قلوب جميع الفرق منهم ومن غيرهم ، بذلك الأثر

٤٨١

الذي يجب أن يحصل من التمثيل ، ولم يزل هذا العمل شيئاً فشيئاً يورث توجّه العامّ والخاصّ إليه ، حتّى إنّ بعض الفرق الإسلامية الأُخرى ، وبعض الهنود قلّدوا الشيعة فيه ، واشتركوا معهم في ذلك

إنّ هذه الطائفة بواسطة مجالس المآتم ، وعمل الشبيه واللطم والدوران وحمل الأعلام في مأتم الحسين جلبت إليها قلوب باقي الفرق نحن ـ الأوربائيين ـ بمجرّد أن نرى لقوم حركات ظاهرية في مراسمهم الملّية أو المذهبية منافية لعاداتنا ننسبها إلى الجنون والتوحّش ، ونحن غافلون عن أنّنا لو سبرنا غور هذه الأعمال ، لرأيناها عقلية سياسية ، كما نشاهد ذلك في هذه الفرقة ، وهؤلاء بأحسن وجه ، والذي يجب علينا أن ننظر إلى حقائق عوائد كلّ قوم ، وإلّا فإنّ أهل آسيا أيضاً لا يستحسنون كثيراً من عوائدنا ، ويعدّون بعض حركاتنا منافية للآداب ، ويسمّونها بعدم التهذيب بل بالوحشية ، وعلاوة على تلك المنافع السياسية التي ذكرناها ، التي طبعاً إثر التهيّج الطبيعي ، فإنّهم يعتقدون أنّ لهم في إقامة مأتم الحسين درجات عالية في الآخرة ، انتهى »

وأخيراً : حسبنا ما قاله الأئمّةعليهم‌السلام في إحياء أمرهم ، والتذكير بمصابهم ، ولا يضيرنا قول عائب خائب ، فإنّ لكلّ امرئ ما نوى ، وإنّما الأعمال بالنيّات ، بشرط تنزيه تلك الأعمال عمّا يشينها من أقوال وأفعال ، ولا نترك فرصة لمن استزلهم الشيطان ، فيرمونها بالفرية والبهتان( رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ) (١)

« عالية ـ البحرين ـ ٢٠ سنة »

سبب البكاء على الحسين :

س : لديّ سؤال : لماذا نبكي على أئمّة أهل البيت ؟ ونقوم بالتعزية عليهم ،
______________________

(١) آل عمران : ٨

٤٨٢

مع العلم أنّ تلك الحادثة ـ مثل مصيبة الإمام الحسين ـ كانت من الماضي ؟ ونسألكم الدعاء ، والشكر الجزيل

ج : يمكن الإجابة على سؤالك من عدّة وجوه :

الوجه الأوّل : لقد بكى على الحسينعليه‌السلام الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل استشهاده ، وقد ثبت ذلك من طرقنا ومن طرق العامّة ، ويمكن تأسّياً بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أن نبكي على الحسينعليه‌السلام ، ولا علاقة للزمان وبعده عن واقعة استشهاده ، لأنّه لو كان للزمان علاقة لكان الأولى بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يبكي على الحسينعليه‌السلام قبل حصول الواقعة ، بل الذي يدعونا ـ كما يدعو الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ للبكاء هو مظلومية الإمام الحسينعليه‌السلام

الوجه الثاني : قد ورد أيضاً أنّ بعض الأنبياءعليهم‌السلام قد بكوا على الإمام الحسين ، وبعد الأنبياء عن واقعة استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام أكثر من بعدنا عن تلك الواقعة ، ومع الاختلاف في السبق واللحوق

الوجه الثالث : قد ورد أيضاً أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بكى على حمزة وجعفر ، وأمر النساء بالبكاء عليهما ، حتّى صار البكاء على حمزة من عادة نساء أهل المدينة

الوجه الرابع : بعد أن ثبت عندنا بالدليل القاطع عصمة أئمّتناعليهم‌السلام يمكننا الأخذ برواياتهم وسيرتهم ، وقد كان دأب المعصومينعليهم‌السلام بعد واقعة الطفّ البكاء على الحسينعليه‌السلام ، وكان بعضهم يقيم مآتم العزاء ، وكانوا يأمرون شيعتهم بالبكاء ، وإقامة العزاء ، وحضور مجالس العزاء ، حتّى ورد عندنا فضل للتباكي على الحسينعليه‌السلام ، ونحن تبعاً لهمعليهم‌السلام نسير على خطاهم ، ونهتدي بهديهم ، ونأتمر بأوامرهم

فقضية البكاء على الحسينعليه‌السلام من القضايا الفرعية ، التي يمكن إثباتها بعد إثبات الأُصول التي تعتمد عليها ، ولا تتوقّف تلك الأُصول على جواز أو عدم جواز البكاء ، حتّى يستلزم الدور المحذور

٤٨٣

« حسين ـ البحرين ـ ٢٤ سنة ـ مدرّس »

كيفية بكاء الأفلاك على الحسين :

س : الرجاء التوضيح الشافي والوافي فيما ورد في مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام : بكت لموته الأرض والسماوات ، وأمطرت دماً ، وأظلمت الأفلاك من الكسوف ، واشتدّ سواد السماء ، ودام ذلك ثلاث أيّام ، والكواكب في أفلاكها تتهافت ، وعظمت الأهوال حتّى ظنّ أنّ القيامة قد قامت

مع توضيح كيفية بكاء السماء دماً ، ولكم منّا جزيل الشكر والتقدير

ج : سؤالك يتكوّن من سبع فقرات تريد إيضاحها :

١ ـ بكت لموته الأرض والسماء ، قد ورد عنهمعليهم‌السلام : إنّ بكاء الأرض كان بتفجّرها دماً ، وما رفع حجر عن الأرض إلّا كان تحته دماً عبيطاً ، وقد فسّر في خبر آخر بالسواد

أمّا بكاء السماء ، فعن الإمام الصادقعليه‌السلام بعد أن سئل عن بكاء السماء ، قال :« كانت الشمس تطلع حمراء وتغيب حمراء » (١) ، وقد فسّر بكاء السماء في أخبار أُخر بوقوع الدم ، فعن الإمام علي بن الحسينعليهما‌السلام بعد سؤاله عن أيّ شيء بكاؤها ؟ قال :« كانت إذا استقبلت بثوب وقع على الثوب شبه أثر البراغيث من الدم » (٢)

وفي خبر آخر نسب البكاء بالحمرة إلى الشمس ، فقال : « بكت السماء على الحسين أربعين صباحاً بالدم ، والأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد ، والشمس بكت أربعين صباحاً بالحمرة »(٣) ، والذي يجمع بين الأخبار أنّ كلا الأمرين قد حصل

٢ ـ وأمطرت دماً ، قال أحدهم : أمطرت السماء دماً احمرت منه البيوت
______________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢١٢

(٢) كامل الزيارات : ١٨٤

(٣) بحار الأنوار ١٤ / ١٨٣

٤٨٤

والحيطان ، وقال آخر : ذهبت الإبل إلى الوادي لتشرب فإذا هو دم ، وقال آخر : وحبابنا وجرارنا صارت مملوءة دماً ، وأصبحنا وحياضنا وجرارنا مملوءة دماً

٣ ـ أظلمت الأفلاك من الكسوف

٤ ـ اشتدّ سواد السماء ودام ذلك ثلاثة أيّام

لعلّ العبارتين بمعنى واحد وهو ذهاب نور الشمس وانكسافه ، وصيرورة النهار ليلاً كما في بعض الأخبار

٥ ـ والكواكب في أفلاكها تتهافت ، لم نعثر على مكان وجود هذه العبارة في المقتل ، ومع وجودها فيمكن أن يفهم منها : ظهور الشهب بكثرة في السماء ، الذي كان يفهم منه في ذلك الزمان سقوط الكواكب

٦ ـ عظمت الأهوال حتّى ظنّ أنّ القيامة قد قامت ، بعد كلّ هذه الحوادث الغريبة عليهم والمروّعة ، علموا بفداحة الأمر الذي حصل ، وتوقّعوا الهلاك العاجل ، حتّى جاء عن بعضهم قوله : حتّى ظنّنا أنّها هي ، يعني القيامة

« علي ـ فرنسا ـ سنّي ـ ٢٨ سنة ـ طالب »

النبيّ بكى على الحسين قبل مقتله :

س : هل الحسين خير من الرسل والأنبياء ؟ أم أنّه الوحيد الذي مات حتّى تفعلوا كل هذا من أجله ؟ يهديكم الله ، ويصلح بالكم

ج : ألم يثبت أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله بكى على الحسينعليه‌السلام قبل مقتله ؟ ونصب المأتم عليه في مسجده ، فكيف بنا بعد أن قتل !

فقد روى أحمد عن عبد الله بن نجى عن أبيه : « أنّه سار مع عليرضي‌الله‌عنه ، وكان صاحب مطهرته ، فلمّا حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفّين ، فنادى علي :« اصبر أبا عبد الله بشطّ الفرات » ، قلت : وماذا ؟ قال :« دخلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات يوم وعيناه تفيضان ، قلت : يا نبيّ الله أغضبك أحد ؟ ما شأن عينيك تفيضان ؟

٤٨٥

قال : بلى ، قام من عندي جبرائيل قبل ، فحدّثني أنّ الحسين يقتل بشطّ الفرات ، قال : فقال : هل لك أنّ أشمّك من ترتبه ؟ قال : قلت : نعم ، فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها ، فلم أملك عيني أنْ فاضتا » (١)

وهناك روايات كثيرة في هذا الباب ، مثل رواية أُمّ الفضل قالت : « فدخلت يوماً إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فوضعته ـ أي الحسين ـ في حجره ، ثمّ حانت منّي التفاتة فإذا عينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تهريقان من الدموع ، قالت : فقلت : يا نبيّ الله بأبي أنت وأُمّي مالك ؟ قال :« أتاني جبرائيل عليه‌السلام فأخبرني أنّ أُمّتي ستقتل ابني هذا » ، فقلت : هذا ؟ فقال :« نعم ، وأتاني بتربة من تربته حمراء »

قال الحاكم النيسابوري : « هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه »(٢) ، فلماذا تنقم وتنزعج من البكاء والتأثّر على مقتل الحسين ؟!

يا أخي : إنّ الحسين سيّد شباب أهل الجنّة ، وريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وابنه وحامل نسله ونسبه وسببه وإسلامه ، وضحّى بنفسه وأعزّ ما عنده من أخوة وأولاد ، وأهل بيت وأصحاب مؤمنين ، ونساء أهل البيت ، وعانوا ما عانوا من عطش وتقتيل وتمثيل وسبي وتخويف وعندنا أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وفاطمة وعلي والحسنعليهم‌السلام أفضل من الحسينعليه‌السلام ، وكلّهم أفضل من الأنبياء والرسل والملائكة ، ولكن تختصّ مصيبة الحسينعليه‌السلام ومقتله بأشياء عظيمة توجب الاهتمام والإحياء والاقتداء بهعليه‌السلام

« السيّد علي ـ الكويت ـ ١٧ سنة »

ثواب البكاء على مصيبة الحسين :

س : إنّ بعض العلماء يشكّك في قضية البكاء على الحسين ، وأنّه لا يغفر الذنوب ؟ وفّقكم الله لخدمة الدين ، وشكراً

______________________

(١) مسند أحمد ١ / ٨٥

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٧٧

٤٨٦

الجواب : لاشكّ أنّ أعداء أهل البيتعليهم‌السلام حاولوا على مدى الزمان منع إقامة الشعائر الحسينية ، أو التشكيك والسخرية في كثير منها ، ولكن بسبب وقوف مراجع الدين أمام هذا التيار ، وحثّهم للأُمّة على إقامة الشعائر ، والحبّ والولاء الموجودان لدى الأُمّة ، أفشل الكثير من تلك المحاولات ، فأثبتوا لهم تمسّكهم بأهل البيتعليهم‌السلام مهما كلّفهم الأمر

فقضية ثواب البكاء على مصيبة الإمام الحسينعليه‌السلام ، فهي من القضايا المسلّمة عند علمائنا ، فقد وردت روايات كثيرة في هذا المجال ، نذكر منها :

١ ـ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : «كان علي بن الحسين عليهما‌السلام يقول : أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي عليهما‌السلام دمعة حتّى تسيل على خدّه ، بوّأه الله بها في الجنّة غرفاً يسكنها أحقاباً ، وأيّما مؤمن دمعت عيناه »(١)

٢ ـ عن أبي عمارة المنشد ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال : ( قال لي :« يا أبا عمارة أنشدني في الحسين عليه‌السلام » ، قال : فأنشدته ، فبكى ، ثمّ أنشدته فبكى ، ثمّ أنشدته فبكى ، قال : فو الله ما زلت أنشده ويبكي حتّى سمعت البكاء من الدار ، فقال لي :« يا أبا عمارة من أنشد في الحسين عليه‌السلام شعراً فأبكى خمسين فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى أربعين فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى ثلاثين فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرين فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى عشرة فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين شعراً فأبكى واحداً فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين شعراً فبكى فله الجنّة ، ومن أنشد في الحسين شعراً فتباكى فله الجنّة » )(٢)

٣ ـ عن صالح بن عقبة ، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال :« من أنشد في الحسين عليه‌السلام بيت شعر فبكى وأبكى عشرة فله ولهم الجنّة ، ومن أنشد في الحسين بيتاً
______________________

(١) كامل الزيارات : ٢٠١

(٢) المصدر السابق : ٢٠٩

٤٨٧

فبكى وأبكى تسعة فله ولهم الجنّة » ، فلم يزل حتّى قال : «من أنشد في الحسين بيتاً فبكى ـ وأظنّه قال : أو تباكى ـفله الجنّة » (١)

٤ ـ عن أبي عمارة المنشد قال : ( ما ذكر الحسينعليه‌السلام عند أبي عبد اللهعليه‌السلام في يوم قط ، فرئي أبو عبد اللهعليه‌السلام متبسّماً في ذلك اليوم إلى الليل ، وكانعليه‌السلام يقول :« الحسين عَبرة كُلّ مؤمن » )(٢)

٥ ـ عن أبي بصير قال : ( قال أبو عبد اللهعليه‌السلام :« قال الحسين بن علي عليهما‌السلام : أنا قتيل العَبرة لا يذكرني مؤمن إلّا استعبر » )(٣)

٦ ـ عن الفضل بن شاذان قال : ( سمعت الرضاعليه‌السلام يقول :« لمّا أمر الله تبارك وتعالى إبراهيم عليه‌السلام أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش الذي أنزله عليه ، تمنّى إبراهيم عليه‌السلام أن يكون يذبح ابنه إسماعيل عليه‌السلام بيده ، و قال : يا إبراهيم فإنّ طائفة تزعم أنّها من أُمّة محمّد ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلماً وعدواناً كما يذبح الكبش ، فيستوجبون بذلك سخطي ، فجزع إبراهيم عليه‌السلام لذلك وتوجّع قلبه وأقبل يبكي ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : يا إبراهيم قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين وقتله ، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب ، فذلك قول الله عزّ وجلّ : ( وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العلي العظيم » )(٤)

٧ ـ عن إبراهيم بن أبي محمود قال : « قال الرضاعليه‌السلام :« إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه القتال ، فاستحلّت فيه دماؤنا ، وهتكت فيه حرمتنا ، وسبي فيه ذرارينا ونساؤنا ، وأضرمت النيران في مضاربنا ، وانتهب ما فيها من ثقلنا ، ولم ترع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حرمة في أمرنا

______________________

(١) المصدر السابق : ٢١٠

(٢) المصدر السابق : ٢١٤

(٣) المصدر السابق : ٢١٥

(٤) الصافّات : ١٠٧ ، عيون أخبار الرضا ٢ / ١٨٧

٤٨٨

إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلّ عزيزنا ، بأرض كرب وبلاء ، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء ، فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، فإنّ البكاء يحطّ الذنوب العظام »

ثمّ قالعليه‌السلام :« كان أبي عليه‌السلام إذا دخل شهر المحرّم لا يرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه ، حتّى يمضي منه عشرة أيّام ، فإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه ، ويقول : هو اليوم الذي قتل فيه الحسين » )(١)

٨ ـ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا نزلت :( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ) (٢) في اليهود ، أي الذين نقضوا عهد الله ، وكذّبوا رسل الله ، وقتلوا أولياء الله :« أفلا أُنبّئكم بمن يضاهيهم من يهود هذه الأُمّة » ؟

قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : « قوم من أُمّتي ينتحلون أنّهم من أهل ملّتي ، يقتلون أفاضل ذرّيتي وأطائب أرومتي ، ويبدّلون شريعتي وسنّتي ، ويقتلون ولدي الحسن والحسين ، كما قتل أسلاف اليهود زكريا ويحيى

ألا وإنّ الله يلعنهم كما لعنهم ، ويبعث على بقايا ذراريهم قبل يوم القيامة هادياً مهديّاً من ولد الحسين المظلوم يحرقهم بسيوف أوليائه إلى نار جهنّم ، ألا ولعن الله قتلة الحسين ومحبيهم وناصريهم ، والساكتين عن لعنهم من غير تقية تسكتهم

ألا وصلّى الله على الباكين على الحسين رحمة وشفقة ، واللاعنين لأعدائهم والممتلئين عليهم غيظاً وحنقاً ، ألا وإنّ الراضين بقتل الحسين شركاء قتلته ، ألا وإنّ قتلته وأعوانهم وأشياعهم والمقتدين بهم براء من دين الله »(٣)

٩ ـ عن الإمام عليعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال :« إذا كان يوم القيامة نادى ______________________

(١) الأمالي للشيخ الصدوق : ١٩٠

(٢) البقرة : ٨٤

(٣) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٠٤ ، العوالم ، الإمام الحسين : ٥٩٨

٤٨٩

مناد من بطنان العرش : يا أهل القيامة غضّوا أبصاركم لتجوز فاطمة بنت محمّد ، مع قميص مخضوب بدم الحسين ، فتحتوي على ساق العرش ، فتقول : أنت الجبّار العدل اقض بيني وبين من قتل ولدي ، فيقضي الله لابنتي وربّ الكعبة

ثمّ تقول : اللهم اشفعني فيمن بكى على مصيبته ، فيشفعها الله فيهم »(١)

نكتفي بهذا المقدار من الروايات ، وللمزيد راجعوا المصادر الحديثية

« حفيظ بلخيرية ـ تونس »

ما ورد في زيارة الأربعين :

س : يحتفل الشيعة في كلّ سنة بأربعينية الحسينعليه‌السلام ، وسؤالي لا يتعلّق بإحياء الذكرى ، بل في مسألة الأربعين ، هل تتوافق مع الحديث القائل : « لا حزن بعد الثلاث » ؟

ج : لم نجد الحديث المذكور في الكتب الحديثية المعتبرة عند الفريقين ـ السنّة والشيعة ـ وعلى فرض التسليم بوجوده وصحّته إن وجد ، تكون زيارة الأربعين للإمام الحسينعليه‌السلام ممّا خُصّ فعله تبعاً للروايات المعتبرة الواردة في هذا الشأن ، وزيارة الأربعين لا تشتمل على معنى الحزن فقط ، وإنّما حالها كحال معظم الشعائر الحسينية المندوبة الأُخرى التي يراد منها :

١ ـ تعظيم شعائر الله التي وصفها الحقّ سبحانه وتعالى بأنّها من تقوى القلوب

٢ ـ التعبير عن الولاء لأولياء الله ، والسير على منهجهم وخطاهم

٣ ـ السعي لبيان مظلومية أهل البيتعليهم‌السلام ، وما جرى على أئمّة الحقّ التي تعني مظلومية الإسلام ، والذي يصبّ في دعم العقيدة والدين ، إلى غير ذلك من المعاني والعبر التي حفلت بها هذه الشعائر ، حتّى ورد الحثّ الشديد من أئمّة أهل
______________________

(١) ينابيع المودّة ٢ / ٣٢٣

٤٩٠

البيتعليهم‌السلام على إقامتها وتفعيلها

أمّا ما ورد من الأحاديث في زيارة الأربعين ، فقد روي عن الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام أنّه قال : « علامات المؤمن خمس : صلاة إحدى وخمسين ، وزيارة الأربعين ، والتختّم باليمين ، وتعفير الجبين ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم »(١)

وقد وردت صيغة عن الإمام الصادقعليه‌السلام لكيفية هذه الزيارة جاء فيها :« تزور عند ارتفاع النهار فتقول : السلام على وليّ الله وحبيبه ، السلام على خليل الله ونجيبه » (٢)

« حفيظ بلخيرية ـ تونس ـ »

الضرب بالسلاسل نوع من التأسّي :

س : نشاهد على شاشة التلفاز شباب يضربون أنفسهم بسلاسل من حديد ، وذلك لإحياء ذكرى الشهيد الحسينعليه‌السلام ، فما هو معنى هذا الفعل ؟

ج : إنّ شعائر الضرب بالسلاسل على الظهور قد يكون لها منشأ من نفس أحداث واقعة كربلاء ، تقريباً وتعبيراً عمّا كان يتعامل به أعداء أهل البيت من إيذاء وضرب ، وممارسات الأسر في حقّ النساء والأطفال ، ضرباً على ظهورهم بالسياط ، لذا يعمل الموالون على إحياء هذا المشهد المأساوي الذي قدّمه أهل بيت العصمة وعيالاتهم في سبيل نصرة الدين والتضحية من أجل إحياء الإسلام المحمّدي الأصيل

وفلسفة هذه الأعمال والشعائر للمصيبة الحسينية أنّها تهدف على إحياء روح التأسّي والتأثّر والولاء لأهل البيتعليهم‌السلام ، الذي أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أُمّته بالتمسّك بهم من بعده مع الكتاب الكريم ، وجعلهم عدلاً له ، كما هو الوارد في الحديث
______________________

(١) إقبال الأعمال ٣ / ١٠٠

(٢) المصدر السابق ٣ / ١٠١

٤٩١

المعروف :« إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبداً » (١)

وبغضّ النظر عن معنى هذا الفعل فإنّ للشيعي الموالي الحرّية في اختيار السلوك الذي يعبّر به عن حزنه ومواساته للسبط الشهيد وأهل بيته وأصحابه ، ما لم يدخل ذلك في دائرة الحرام

وعليه ، فإنّ مختلف الشعائر الحسينية مفتوحة للتطوّر بمرور الزمان ، كما أنّها تطوّرت إلى ما نشاهده اليوم عمّا كانت عليه سابقاً عبر تراكم العادات ، واختلاف أشكال التعبير

« ـ ـ »

أدلّة تحريم اللطم واهية :

س : يعدّ البعض اللطم على الصدور في المآتم حرام ، ويستدلّ بعدّة أدلّة ، فما هي الأدلّة على مشروعية اللطم على الصدور ؟

ج : الاستدلال على مشروعية اللطم يتمّ على نقاط :

١ ـ إنّ الأصل في الأشياء الإباحة ، أي إنّ كُلّ شيء مباح حتّى يرد فيه حرمة
______________________

(١) فضائل الصحابة : ١٥ ، سنن الترمذي ٥ / ٣٢٨ ، تحفة الأحوذي ١٠ / ١٩٦ ، المصنّف لابن أبي شيبة ٧ / ٤١٨ ، كتاب السنّة : ٣٣٧ و ٦٢٩ ، السنن الكبرى للنسائي ٥ / ٤٥ و ١٣٠ ، خصائص أمير المؤمنين : ٩٣ ، المعجم الصغير ١ / ١٣٥ ، المعجم الأوسط ٤ / ٣٣ و ٥ / ٨٩ ، المعجم الكبير ٣ / ٦٦ و ٥ / ١٥٤ و ١٦٦ و ١٧٠ و ١٨٢ ، شرح نهج البلاغة ٩ / ١٣٣ ، نظم درر السمطين : ٢٣٢ ، كنز العمّال ١ / ١٧٢ و ١٨٦ ، تفسير القرآن العظيم ٤ / ١٢٢ ، المحصول ٤ / ١٧٠ ، الإحكام للآمدي ١ / ٢٤٦ ، الطبقات الكبرى ٢ / ١٩٤ ، علل الدارقطني ٦ / ٢٣٦ ، أنساب الأشراف : ١١١ و ٤٣٩ ، البداية والنهاية ٥ / ٢٢٨ ، السيرة النبوية لابن كثير ٤ / ٤١٦ ، سبل الهدى والرشاد ١١ / ٦ و ١٢ / ٢٣٢ ، ينابيع المودّة ١ / ٧٤ و ٩٥ و ٩٩ و ١٠٥ و ١١٢ و ١١٩ و ١٢٣ و ١٣٢ و ٣٤٥ و ٣٤٩ و ٢ / ٤٣٢ و ٤٣٨ و ٣ / ٦٥ و ١٤١ و ٢٩٤ ، النهاية في غريب الحديث والأثر ١ / ٢١١ و ٣ / ١٧٧ ، لسان العرب ٤ / ٥٣٨ و ١١ / ٨٨ ، تاج العروس ٧ / ٢٤٥

٤٩٢

ونهي ، لا كما يظهر من كلام من يعترض على اللطم : من أنّ الأصل في الأشياء الحرمة

فإنّ أصالة الإباحة أصل في علم أُصول الفقه ، فيه بحوث علمية لا يعرفها أبناء المذهب المخالف يمكنك اطلاعهم عليها ، وعليه فإنّ مدّعي الحرمة والمنع يحتاج إلى دليل وليس العكس

٢ ـ بل إنّ اللطم على الإمام الحسينعليه‌السلام مستحبّ ، لأنّه بعد الأصل يدخل في إحياء شعائر الله ، ومن المعلوم لدينا دخول الشعائر الحسينية في شعائر الله ، لأنّ يوم الحسين يوم من أيّام الله بلا جدال

٣ ـ ولكن مع كُلّ هذا ، فإنّ للشيعة أدلّتهم من الروايات التي فيها إقرار اللطم على الإمام الحسين وبقية المعصومينعليهم‌السلام ، كما ورد في زيارة الناحية المقدّسة من فعل الفواطم :« برزن من الخدور ، ناشرات الشعور على الخدود ، لاطمات الوجوه » (١) ، إذ جاءت هذه الزيارة على لسان معصوم ، فضلاً عن سكوت الإمام زين العابدينعليه‌السلام زمن الحادثة الدالّ على تقريره

وأيضاً ما رواه العلّامة المجلسي : من أن دعبل الخزاعي لمّا انشد الإمام الرضاعليه‌السلام :

إذاً لـلطمـت الخـدّ عنـده

وأجريت دمع العين في الوجنات »(٢)

لطمت النساء ، وعلا الصراخ من وراء الستار ، وبكى الإمام الرضاعليه‌السلام حتّى أُغمي عليه مرّتين ، وفيه من التقرير والرضا ما لا يخفى ، إذ لو كان فيه خلاف الشرع لأنكرهعليه‌السلام

ما رواه الشيخ الطوسي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال :« وقد شققن الجيوب ، ولطمن الخدود ، الفاطميات على الحسين بن علي عليهما‌السلام ، وعلى مثله
______________________

(١) المزار الكبير : ٥٠٤

(٢) بحار الأنوار ٤٥ / ٢٥٦

٤٩٣

تلطم الخدود ، وتشقّ الجيوب » (١)

وقال في الجواهر : « وما يحكى من فعل الفاطميات كما في ذيل خبر بل ربما قيل إنّه متواتر »(٢)

وفي اللهوف : « ولمّا رجع نساء الحسينعليه‌السلام وعياله من الشام وبلغوا إلى العراق ، قالوا للدليل : مرّ بنا على طريق كربلاء

فوصلوا إلى موضع المصرع ، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري ، وجماعة من بني هاشم ، ورجالاً من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قد وردوا لزيارة قبر الحسينعليه‌السلام ، فوافوا في وقت واحد ، وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد ، واجتمعت إليهم نساء ذلك السواد ، وأقاموا على ذلك أيّاماً »(٣)

ومن المعلوم : إنّ الإمام السجّادعليه‌السلام كان معهم

وروي في أحاديث كثيرة استحباب الجزع على الإمام الحسينعليه‌السلام ، وفسّر الإمام الباقرعليه‌السلام الجزع بقوله :« أشدّ الجزع الصراخ بالويل والعويل ، ولطم الوجه والصدر » (٤)

وغيرها من الروايات ، أفبعد هذا يقال بالمنع من اللطم !! نعم إنّ ذلك مختصّ بالحسينعليه‌السلام كما ذكر الفقهاء

ولكن المانعين المدّعين لحرمة اللطم حاولوا إيراد أدلّة تدلّ على حرمة اللطم بالعنوان الثانوي ، منها :

١ ـ إنّه إلقاء في التهلكة :( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (٥) ، مع أنّ الآية ناظرة إلى التهلكة في الآخرة ، ولو سلّمنا فإنّه ليس فيما يفعله اللاطم تهلكة في الدنيا

______________________

(١) تهذيب الأحكام ٨ / ٣٢٥

(٢) جواهر الكلام ٤ / ٣٧١

(٣) اللهوف في قتلى الطفوف : ١١٤

(٤) الكافي ٣ / ٢٢٢

(٥) البقرة : ١٩٥

٤٩٤

وإن حدث في بعض الحالات النادرة ، فإنّ مات أحدهم مثلاً ، فإنّ ذلك لا يوجب التحريم أصلاً ، فهو كما يتّفق في كُلّ شيء مباح ، كركوب السيارة مثلاً

٢ ـ إنّه إضرار بالنفس ، والإضرار حرام ، مع أنّه لم يثبت حرمة كُلّ إضرار بالنفس ، بل الثابت حرمة ما يؤدّي إلى هلاك النفس ، أو ما يؤدّي إلى ضرر بالغ ، والعقلاء يقدمون على الضرر القليل من أجل هدف أسمى وأكبر ، بل قد يقدمون على أُمور فيها هلاك النفس من أجل المبادئ والقيم التي يؤمنون بها

٣ ـ من أنّ هذه الممارسات ـ ومنها اللطم ـ فيها توهين للمذهب ، وجوابه : إنّ ذلك يختلف باختلاف المواقف ، وأنّ تشخيص الموضوع يعود للمكلّف في صدق التوهين هنا أو لا

ولو أردنا مجارات كُلّ من خالفنا وشنّع علينا بممارساتنا الدينية بمثل هذه الحجّة لما بقى لدينا شيء حتّى الحجّ والصلاة

٤ ـ قد يعترض المخالف من أهل العامّة بأنّه بدعة ، ولكن تعريف البدعة هو : إدخال ما ليس في الدين فيه ، وهو قد يطلق على ما كان محرّماً ، وقد عرفت ممّا سبق الأدلّة على جوازه ، وأنّه من الدين

« عبد الله ـ السعودية ـ ٣٠ سنة ـ دكتور »

اللطم جائز للإقرار وللأصل :

س : من المتعارف عليه بين أبناء الشيعة الإمامية إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام ، ويصاحب ذلك في كثير من الأحيان اللطم ، أو ما عرف بالعزاء

وهو إنشاد القصائد الرثائية في أهل البيت ، ويصحب ذلك اللطم على الصدور ، وحسب اطلاعي المتواضع ، فإنّ الأئمّةعليهم‌السلام كانوا يحيون هذه الأيّام ، ولكن لم يرد بأنّهم كانوا يلطمون على صدورهم ، أو كانوا يحثّون على ذلك ، ولو كانت هذه العادة هي شعيرة خاصّة ، أو لها أهمّية لجاءت أخبار الأئمّة بالحثّ عليها ، بل ربما هناك ما يتعارض مع مثل ذلك

٤٩٥

فنحن نعرف وصية الإمام الحسينعليه‌السلام لأخته زينبعليها‌السلام ليلة العاشر : بأن تتعزّى بعزاء الله ، ولا تشقّ عليه جيباً ، أو تلطم عليه خدّاً مع أنّ السيّدة زينب ليست بحاجة لذلك ، إلّا أنّ الإمام ربما قال لها ذلك من باب : إيّاك أعني واسمعي يا جارة

كذلك سمعت من البعض : بأنّ أوّل ظهور لهذه العادة كان في عصر الشيخ المفيد ، وكان الشيخ يقف موقفاً سلبياً ممّن يمارسون هذه العادة ، أُودّ أن أسمع تعليقكم حول هذا الموضوع بالتفصيل ؟ شاكراً ومقدّراً لكم

ج : نلخّص الجواب في نقاط :

١ ـ هناك كلّية صحيحة يرجع إليها في الاستدلال ، وهي : كُلّ ما يأمر به ، أو يحثّ عليه ، أو يفعله أو يقرّه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الإمامعليه‌السلام فهو جائز بالمعنى العام ، أي أعمّ من الواجب والمستحبّ والمباح

وهناك قضية يأتي بها المغالطون كثيراً على أنّها كلّية صحيحة يمكن الاستدلال بها ، ليموّهوا على مناقشيهم بنوع من المغالطة ، وهي : إنّ كُلّ جائز وليس الواجب يجب أن يفعله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو الإمامعليه‌السلام ، وهي عكس الأُولى ، وهذه الكلّية غير صحيحة وباطلة ، ولم تثبت لا عقلاً ولا شرعاً

ومن راجع علم المنطق يعرف : إنّ العكس المستوي في الموجبة الكلّية يكون موجبة جزئية ، فعكس القاعدة الأُولى : كُلّ ما يفعله الإمام فهو جائز ، وهي موجبة كلّية ، يكون : بعض ما هو جائز يفعله الإمام ، وهي موجبة جزئية ، ثمّ إنّه لم يثبت في الشرع أنّ كُلّ شيء جائز ـ سواء كان مستحبّاً أو مباحاً ـ يجب أن يفعله الإمام

ملاحظة : نحن اقتصرنا في القضية على فعل الإمامعليه‌السلام لأنّ المخالفين الذين
يتعمّدون المغالطة يحتجّون دائماً علينا بأنّ الإمام لم يفعل كذا ، ولم يفعل كذا ، فهو غير جائز ، ولا يحتجّون علينا بعدم فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا نادراً

أمّا نحن ، فإنّ هذه القاعدة واضحة عندنا ، فلا نحتجّ عليهم بعدم فعل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لشيء لإثبات عدم جوازه إلّا من باب النقض

٤٩٦

ومن هنا عرفت الجواب على كُلّ من يعترض على فعل ما بأنّ الإمامعليه‌السلام لم يفعله ، أو لم يثبت فعله له ، ومنها الاستدلال بعدم فعل الإمامعليه‌السلام للطم

٢ ـ تبيّن أنّ إقرار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمامعليه‌السلام لفعل ما يدلّ على جوازه بالمعنى الأعم ، ولا يثبت به الوجوب ، فهو يحتاج إلى دليل آخر

وفي موردنا جاءت عدّة روايات تثبت إقرار الإمامعليه‌السلام لما فعله الآخرون من اللطم أمامه ، أو لم ينكر على من ذكر اللطم على الإمام الحسينعليه‌السلام ، ويبيّن له المنع من ذلك

منها : ما رواه الشيخ الطوسي عن الإمام الصادقعليه‌السلام :« وقد شققن الجيوب ، ولطمن الخدود ، الفاطميات على الحسين بن علي عليهما‌السلام ، وعلى مثله تلطم الخدود ، وتشقّ الجيوب » (١)

ومنها ما رواه الشيخ الصدوق : إنّ دعبل الخزاعي انشد الإمام الرضاعليه‌السلام قصيدته التي فيها :

أفاطم لو خـلت الحسـين مجـدّلاً

وقـد مـات عطشـانـاً بشط فراتِ

إذاً لـلطمـت الخـدّ عنـده

وأجريت دمع العين في الوجنات »(٢)

فلم يعترض عليه الإمامعليه‌السلام بأنّ فاطمةعليها‌السلام لا تفعل الحرام ، وهو اللطم ، بل بكىعليه‌السلام

ومنها : ورد في زيارة الناحية المقدّسة :« فلمّا رأين النساء جوادك مخزيّا ونظرن سرجك عليه ملويّا ، برزن من الخدور ناشرات الشعور ، على الخدود لاطمات ، الوجوه سافرات ، وبالعويل داعيات » (٣) ، وغيرها

٣ ـ إنّ استنباط الحكم الشرعي لقضية معيّنة يتمّ من خلال قواعد مقرّرة في أُصول الفقه وعلم الفقه ، ويستدلّ بها من القرآن والسنّة والعقل والإجماع ، ولا
______________________

(١) تهذيب الأحكام ٨ / ٣٢٥

(٢) بحار الأنوار ٤٥ / ٢٥٦

(٣) المزار : ٥٠٤

٤٩٧

ينحصر الدليل بقول المعصوم أو فعله ، وإذا فقد الدليل من هذه الأربعة يرجع إلى الأُصول العملية التي تحدّد الوظيفة العملية للمكلّف باتجاه هذه القضية

وقد قرّروا أنّ الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يأتِ فيه تحريم ، فإذا سلّمنا بفقد الدليل على اللطم ، نرجع إلى هذا الأصل الأوّلي فيه وهو الإباحة ، ولم يثبت في هذه القضية أصل ثانوي من أنّه إضرار بالنفس ، وعلى فرض ثبوته فليس كُلّ ضرر ـ وإن كان لا يعتدّ به ـ حراماً

٤ ـ ومثل هذا يثبت بخصوص خروج المواكب في الطرقات وإنشاد المراثي ، على أنّ شعائر خروج المواكب في الطرقات كان من عهد البويهيين في بغداد في القرن الرابع الهجري ، وهو عصر علماء عظام من الإمامية ـ كالمفيد وابن قولويه والمرتضى والرضي ـ ولم يسمع من أحد منهم الاعتراض والنهي عن ذلك ، ولم نعرف المصدر الذي نقلت منه موقف الشيخ المفيد السلبي بخصوص ذلك ، فنرجو أن تذكر المصدر حتّى ننظر فيه

٥ ـ وأمّا ما أوردته من الرواية عن الإمام الحسينعليه‌السلام يخاطب زينبعليها‌السلام : بأن تتعزّى بعزاء الله ، ولا تشقّ عليه جيباً ، أو تلطم عليه خدّاً ، فإنّ متن الرواية هكذا :« انظرن إذا أنا قتلت ، فلا تشقّقن عليّ جيباً ، ولا تخمشن عليّ وجهاً » (١)

وليس فيها : « ولا تلطمن عليّ خدّاً » حتّى تستدلّ بها على النهي عن اللطم

بل عن رواية الأقدم منهما وهو أبو مخنف ـ المتوفّى ١٥٨ هـ ـ عن الحارث بن كعب وأبي الضحّاك عن الإمام علي بن الحسينعليهما‌السلام ، أنّ المخاطبة كانت زينبعليها‌السلام ، إذ قال لها الحسينعليه‌السلام :« يا أُخية ، إنّي أُقسم عليك فابري قسمي : لا تشقّي عليّ جيباً ، ولا تخمشي عليّ وجهاً ، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور ، إذا أنا هلكت » (٢)

______________________

(١) اللهوف في قتلى الطفوف : ٥٠

(٢) مقتل الحسين لابن مخنف : ١١١

٤٩٨

مع ملاحظة أنّ القضية في كُلّ الروايات واحدة ، وهي خبر إنشاد الحسين لعدّة أبيات التي أوّلها : يا دهر أُفٍّ لك من خليل ، ليلة عاشوراء ، فمرّة مخاطباً النساء معاً ، ومرّة مخاطباً زينبعليها‌السلام وحدها ، إضافة إلى أنّ رواية السيّد ابن طاووس مرسلة

نعم ، قد يستدلّ برواية أُخرى في « دعائم الإسلام » عن الإمام الصادقعليه‌السلام : أنّه أوصى عندما احتضر فقال :« لا يلطمن عليّ خدّ ، ولا يشققن عليّ جيب ، فما من امرأة تشقّ جيبها إلّا صدع لها في جهنّم صدع ، كلّما زادت زيدت »

ولكن بغضّ النظر عمّا قيل في توثيق كتاب « دعائم الإسلام » ، فقد قال السيد الخوئي بخصوص هذه الرواية وغيرها : « إلّا أنّ الأخبار لضعف إسنادها لا يمكن الاعتماد عليها في الحكم بالحرمة بوجه »(١)

ولذا أفتى علماؤنا بجواز شقّ الثوب على الأب والأخ فراجع

فيتّضح أنّ ما تقدّم من الروايات لا تنهض حجّة لمقاومة الأدلّة التي ذكرناها

______________________

(١) التنقيح في شرح العروة الوثقى ٩ / ٢٣٢

٤٩٩
٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576