• البداية
  • السابق
  • 465 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42079 / تحميل: 5109
الحجم الحجم الحجم
أضواء على دعاء كميل

أضواء على دعاء كميل

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الشرح

١٠١
١٠٢

بسم الله الرحمن الرحيم

١ ـ اَللّـهُمَّ اِنّي أَسْأَلُكَ بِرَحْمَتِكَ الَّتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء ، وَبِقُوَّتِكَ الَّتي قَهَرْتَ بِها كُلَّ شَيْء ، وَخَضَعَ لَها كُلُّ شَيء ، وَذَلَّ لَها كُلُّ شَيء ، وَبِجَبَرُوتِكَ الَّتي غَلَبْتَ بِها كُلَّ شَيء ، وَبِعِزَّتِكَ الَّتي لا يَقُومُ لَها شَيءٌ ، وَبِعَظَمَتِكَ الَّتي ملأت كُلَّ شَيء ، وَبِسُلْطانِكَ الَّذي عَلا كُلَّ شَيء ، وَبِوَجْهِكَ الْباقي بَعْدَ فَناءِ كُلِّ شَيء ، وَبِأَسْمائِكَ الَّتي ملأت اَرْكانَ كُلِّ شَيء ، وَبِعِلْمِكَ الَّذي اَحاطَ بِكُلِّ شَيء ، وَبِنُورِ وَجْهِكَ الَّذي اَضاءَ لَهُ كُلُّ شيء يا نُورُ ، يا قُدُّوسُ ، يا اَوَّلَ الأولين ، وَيا آخِرَ الاْخِرينَ.

أدب الدعاء يقضي أن يبدأ الداعي عندما يتوجه الى ربه ليطلب منه المغفرة ، والعفو عما صدر منه من الذنوب أن يقسم عليه بصفاته الكريمة ، وأسمائه المقدسة جلباً للعطف ومدعاة للحنو عليه.

١٠٣

وفي هذا الفصل يبدأ الداعي بالقسم على ربه ليكون ذلك مفتاحاً لتوجيه الطلب اليه ، وتمهيداً لفتح باب المناجاة معه.

«اللهم»

يتفق علماء العربية في أن الأصل في هذه الكلمة هو (يا الله) ولكنهم اختلفوا في كيفية تركيبها الخارجي ، وأنه كيف صارت (اللهم) بدلاً من (يا الله).

يقول البعض منهم : أن العرب تركت الهمزة من لفظ الجلالة فاتصلت الميم بالهاء ، وصار حرف النداء ، والمنادى كالحرف الواحد ، واكتفي به من ذكر (يا) فاسقطت فكانت الكلمة (اللهم).

ويقول هؤلاء : بأن العرب ربما أدخلوا على هذه الكلمة حرف النداء (يا) فقالوا : (يا اللهم اغفر لنا).

أما البعض الآخر : فيقول : بإن هذه الكلمة أصلها (يا الله) فهي منادى ولكن لكثرة دورانها على الالسن حذف حرف النداء (يا) ، وعوض عنه (بميم) مشددة وضعت في آخر الكلمة فكانت بحسب التركيب الخارجي «اللهم»(١) .

وعلى كلا النقلين الملاحظ أن الأصل في كلمة (اللهم) يا الله.

أما كيف تحول حرف النداء ، والمنادى الى هذه الكلمة فهذا

__________________

(١) لسان العرب : مادة (إله) والزاهر : ١ / ١٤٦.

١٠٤

مالا يغير المقصود من أدب الدعاء من الإِفتتاح بالمناجاة مع الله سبحانه بعبارة (يا الله).

وهكذا يحسن بالداعي أن يبدأ ، فيفتتح دعاءه بإسم الله ، ويستعين به من المبدأ الى الأخير.

«اني أسئلك»

والسؤال طلب ، ولكن الطلب اذا كان من العالي الى الداني فهو أمر ، وإذا كان من المساوي فهو المتماس ، أما إذا كان من الداني الى العالي فهو سؤال.

والسائل هو المستعطي كما أن الفقير يطلق عليه السائل.

ولأجل هذا يتجه الداعي ، وهو الفقير الى ربه ليسأله من رحمته ولم يقل : ربي اريد ، او اطلب ، بل هو سائل بما تشتمل عليه هذه الكلمة من خشوع ، وخضوع.

«برحمتك التي وسعت كل شيء»

والباء للقسم ، والداعي يسأل ربه مقسماً عليه برحمته ، والتي هي في اللغة : رقة القلب ، وإنعطاف يقتضي الفضل ، والإِحسان والمغفرة.

هذا الإِنعطاف الذي يشمل كل شيء في هذا الوجود بما في الكون من موجودات ، وكائنات فهي مغمورة بلطفه ، ومشمولة

١٠٥

لعنايته ولم لا يقسم الداعي على الله برحمته الواسعة؟ ، وقد أخبر هو جل إسمه عن هذا العطف بقوله :

( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) (١) .

( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ ) (٢) .

ففي كل لحظة من لحظات الحياة تفيض الرحمة على ابن آدم تتابعه من حين إنعقاد نطفته الى ما بعد ولادته ، وحتى بعد موته وكذلك يوم القيامة ، وعند الحساب فعن الإِمام الصادق عليه السلام اذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته ، حتى يطمع إبليس في رحمته»(٣) .

وبماذا يقابل العبد ربه ، وهو يمنحه هذه الهبات ، والعطايا وكلها عطف ولطف؟ ولماذا يستكثر العبد على نفسه ذنوبه مهما كانت اذا عاد الى رحاب الله تائباً يناجي ربه؟ ويقسم عليه برحمته وهو الذي لوح له ببارق الأمل بقوله :

( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ) (٤) .

والسرف : هو التجاوز والقنوط هو اليأس.

وبهذا الوعد يتجلى لطف الخالق في أروع صورة فلماذا اليأس

__________________

(١) سورة الأعراف : آية (١٥٦).

(٢) سورة الأنعام : آية (١٤٧).

(٣) سفينة البحار : مادة (رحم).

(٤) سورة الزمر : آية (٥٣).

١٠٦

حتى ولو أسرف العبد في المخالفة ما دام قد أخبر سبحانه بانه( كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (١) .

وكتب : بمعنى سجل ، والزم نفسه بالرحمة لعباده.

ولمن : فهل خص برحمته فئة معينة؟

أم لماذا : فهل أجبره أحد على ذلك؟

الآية الكريمة هي تجيب على هذه الإِستفهامات بعد ان كانت مطلقة ، وغير مقيدة بشيء ، بل رحمته تعم الجميع من دون سبب أو تأثير خارجي لأن عطفه نابع من فيض ذاته المقدسة ، وبإقتضاء من حنوه ، ولطفه على مخلوقاته.

( كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) .

حتى ولو قابله العبد بالإِسائة ، والتقصير.

فخيره الينا نازل.

وشرنا اليه صاعد.

اذا كنت تجري الذنب مني بمثله فما الفرق ما بيني وبينك يا رب؟

«وبقوتك»

والباء : للقسم أيضاً. والقوة ضد الضعف ، وبه قوة أي به طاقة وقوة الله ليست كقوة العبد ، والتي هي من سنخ القوى العشرة والتي منحها الله لعباده من السامعة ، والباصرة ، والشامة ،

__________________

(١) سورة الأنعام : آية (١٢).

١٠٧

واللامسة ، والعاقلة ، وغيرها سواءً كانت هذه القوى مدركة للجزئيات أو الكليات. بل هي قدرته غير المتناهية ، والذاتية له حيث لا يقف في قبالها شيء لأنه على كل شيء قدير.

«التي قهرت بها كل شيء»

وهكذا يتدرج الداعي ليقسم على ربه بقوته فهو القادر على ما يشاء لا يمتنع عليه شيء ، ولا يقف في طريق ارادته أحد من الخلق( وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (١) .

وتبدو روعة الإِنتقال في الدعاء من التوسل اليه برحمته الواسعة الى التضرع بالقسم عليه بقوته القاهرة.

رحمته التي تمثل الدعة في الانعطاف ، والفضل في الإِحسان واللطف في المغفرة.

وقوته التي تتجسم فيها كل آيات القدرة على ما في هذا الوجود ليعلم أن هذه الرحمة ، وهذا العطف ليس من قصور في ذاته المقدسة لكونه لا يقدر على شيء ، بل هي رحمة تنبعث من قدرة قادر قاهر. فهو في الوقت الذي يملك القدرة المطلقة في عالم الأسباب ، وله الغلبة في كل شيء نراه رحيماً يطمع حتى إبليس في رحمته.

فإذا غفر فعن قدرة.

وإذا عف فعن رفعة.

__________________

(١) سورة غافر : آية (٦٨).

١٠٨

«وخضع لها كل شيء»

الخضوع : هو الانقياد ، والتطامن ، والتواضع(١) .

والضمير في قوله (لها) يعود الى القدرة. والمعنى : يا رب أقسم عليك بقدرتك التي قهرت بها كل شيء في هذا الوجود فكان من نتيجة ذلك ان خضع لقدرتك كل ما في هذا الوجود.

وقد يقال : أن توصيف القدرة بقوله :( قهرت بها ) والقهر هو الغلبة يغني عن عطف (وخضع لها) لأن تلك الأشياء كلها خاضعة لقدرته لأنها مغلوبة لها.

والجواب عن ذلك : أن العطف بالاخبار بالخضوع يحمل بين طياته معنىً دقيقاً ذلك هو : أن الله ، وان كانت قدرته غالبة على كل شيء فإن التغلب على الشيء ليس معناه تطامن ذلك المغلوب ، والإِنقياد للغالب نفسياً ، بل أقصى ما يدل عليه أنه تحت سيطرته ، وسطوته. ولكن الأخبار بخضوع الأشياء لقدرته معناه أن كل شيء في هذا الوجود قد تطامن ، وانقاد ، وتواضع لقدرته.

«وذل لها كل شيء»

ذل : جاءت في اللغة لمعنيين :

١ ـ انها مأخوذة من الذل بالكسر ، وهو ضد الصعوبة أي (إنقاد) ويكون معنى الجملة على هذا التقدير : وبقدرتك التي انقاد لها كل شيء.

__________________

(١) أقرب الموارد : مادة (خضع).

١٠٩

٢ ـ انها مأخوذة من الذل بالضم ، وهو ضد العز ، ومعناه : ان الشيء هان ، ويكون المعنى : واسئلك بقدرتك التي هان لها كل شيء.

أما أن أياً من هذين المعنيين أنسب بسياق الدعاء.

فالجواب : ان يكون المعنى الثاني وهو : الذل بالضم ، وذلك لأن أخذ الذل على هذا المعنى يجعل المعنى من جملة «وخضع لها كل شيء».

ويختلف عن المعنى في جملة «وذل لها كل شيء» لأن الخضوع ـ كما قلنا ـ هو الإِنقياد ، والذل بالضم ضد العز ، واحدهما مغاير للآخر. فتكون كل جملة قد أفادت معنى غير الذي جاءت به الجملة الأخرى ، المعطوف والمعطوف عليه.

أما لو أخذ الذل بالكسر ، فإن المراد من الجملتين يكون واحداً وهو الإِنقياد فلا يكون بين الجملتين من حيث أدائهما للمعنى فرق عدا التوضيح. ومن الواضح عند دوران الأمر بين حمل الكلام على تأسيس معنى ، او حمله على التوضيح لما سبق يقولون أن حمله على التأسيس اولى من حمله على التوضيح ، طبقاً لما يقرره علماء الأصول في بحوثهم الأصولية.

«وبجبروتك التي غلبت بها كل شيء»

الجبروت : من صيغ المبالغة بمعنى العظمة ، والكبر ، والقدرة ، والسلطة. وهي صفة توحي بالقهر ، والغلبة ، والإِستعلاء.

١١٠

ولأجل ذلك كان الاتصاف بهذه الصفة من مختصات الله تعالى.

فإن وصف بها سبحانه كانت مدحاً وإن وصف بها إنسان كانت ذماً إذ لا إستعلاء إلا له ، ولا كبر إلا له ، ولا غالب إلا هو صفات لا يشاركه فيها أحد ولهذا يقسم الداعي بها عليه لمكان الإِختصاص.

«وبعزتك»

العزة : بالكسر ضد الذلة ، وهي مصدر بمعنى الغلبة ، والقهر ومثل ذلك : ما جاء في قوله تعالى :( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) أي : غلبني في الإِحتجاج(١) .

«التي لا يقوم لها شيء»

وفي اللغة : قام على الأمر : دام ، وثبت. فلا يقوم : أي لا يثبت ، والمعنى : أقسم عليك بغلبتك ، وقهرك المتمثلان بعزتك التي لا يثبت أمامها شيء ، بل كل شيء متضائل أمام عزته ، وسطوته.

«وبعظمتك»

العظمة : محركة الكبر ، والنخوة ، والزهو.

والعظمة لله هي الإِستقلال ، والإِستغناء عن الغير.

أما عظمة العبد فهي : تكبره ، وتجبره ، ولذلك فإذا وصف العبد بالعظمة ، فهو ذم له لأن العظمة لله وحده لا شريك له(٢) .

__________________

(١ ـ ٢) لسان العرب : مادة (عزز ، وعظم).

١١١

وقد جاء في الحديث القدسي : (والعظمة ردائي).

واذا كانت العظمة رداء الله ، وجلاله فكيف يشاركه فيها غيره؟

ولذلك كان وصف العبد بها ذماً كما يقوله اللغويون لأنه إستعلاء ، وتطاول على ما ليس له ، وهو مخلوق ضعيف.

( وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) (١) .

«التي ملأت كل شيء»

والضمير في قوله : (ملأت) يعود الى العظمة. وملأت الإِناء أي وضعت فيه بقدر ما يأخذه فهو مملوء ، ومنه القول : «نظرت اليه فملأت منه عيني»(٢) .

والمعنى الذي يقصده الدعاء بهذه الجملة هو أن يقسم على الله بعظمته التي إذا قيست الى كل شيء كان ذلك الشيء مملوءاً ومأخوذاً بتلك الهيبة الإِلهية ، والجلالة القدسية ، كما يملأ الماء الإِناء حيث يصل الى حافته.

«وبسلطانك»

السلطان : من السلطنة ، وهي القدرة ، والملك. فالسلطان هو القادر ، والمالك ، والمتسلط على غيره.

__________________

(١) سورة الحج : آية (٧٣).

(٢) أقرب الموارد مادة ملاء.

١١٢

«الذي علا كل شيء»

وتسلطه جلت عظمته على ما في الوجود هو قدرته عليه ، وكون الأشياء مسخرة لإِرادته( وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ ) (١) .

ولم يقتصر الأمر على الأرض فقط حيث كانت كلها تحت قبضته يدبرها كيف يشاء ، بل( وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (٢) .

فعلوه اللامتناهي على كل شيء ينشأ من هذه السلطة الجبارة.

«وبوجهك»

الوجه : أول ما يبدو للناظر من البدن ، وفيه العينان ، والأنف والفم ، وكذلك مستقبل كل شيء وجهه.

ولأهل اللغة والمفسرين آراء كثيرة في تفسير وجه الله وقد تضمن القرآن الكريم آيات عديدة أضيف فيها الوجه اليه تعالى ، ولكن الذي يأتي في مقدمة تلك المعاني هو تفسيره بانه : ذاته المقدسة ، ونفسه الشريفة(٣) .

«الباقي بعد فناء كل شيء»

والفناء خلاف البقاء والجملة صفة لذاته المقدسة وهي مستوحاة من قوله تعالى :( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (٤) .

__________________

(١) سورة الزمر : آية (٦٧).

(٢) سورة الزمر : آية (٦٧).

(٣) لاحظ لسان العرب : مادة (وجه).

(٤) سورة القصص : آية (٨٨).

١١٣

والمعنى : أقسم عليك بذاتك التي تبقى ، ويفنى كل شيء. والآية الكريمة تؤيد أن يكون المراد من وجه الله هو ذاته ونفسه حيث يهلك كل شيء إلا هو ، وقد عبر فيها عن نفسه بوجهه.( اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) (١) .

«وبأسمائك»

الأسماء : جمع اسم ، والإِسم مأخوذ من السمة وهي العلامة وأسماؤه سبحانه هي : صفاته ، وصفاته عين ذاته ، وليست زائدة على عين الذات وهي :

عليم ، وقدير ، وغني ، وحي ، ومحي ، ومميت ، وكبير ، وقاهر الى غيرها مما تضمنته الكتب بيان اسمائه ، وهي كلها ثابتة له إذ عدم ثبوتها ، ونفيها عنه معناه : إثبات النقص إليه ، ولا سبيل الى ذلك لإِستلزام النقص محدوديته ، ولا يحد سبحانه بحد.

أما عدد أسمائه تعالى فكثيرة ، ولكن الأسماء الحسنى ، والتي نوه عنها القرآن الكريم في اكثر من آية فهي : مائة وسبعة وعشرين أسماً(٢) .

«التي ملأت أركان كل شيء»

وقد تقدم تفسير مثل هذه الجملة في ما تقدم من قوله «وبعظمتك التي ملأت كل شيء» والمعنى في الموردين واحد.

ويأتي القسم من الداعي على الله بأسمائه في هذه الفقرة طبقاً لما

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٢٥٥).

(٢) لاحظ بتفصيل لهذا البحث تفسير الميزان : للسيد الطباطبائي ٨ / ٣٦٦.

١١٤

أمر الله به عباده في آيات كريمة منها :

( وَلِلَّـهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) (١) .

( وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (٢) .

( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ) (٣) .

( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (٤) .

وهكذا تتوالى الآيات الكريمة تحث العبد على الدعاء ، والذي هو إنشداد المخلوق الى ربه ، وتوجهه الى مصدر العطاء.

إن الإِنسان ليقف أمام هذا الحشد من الآيات الكريمة ، والحيرة تأخذ عليه مسالك التفكير ، فلماذا كل هذا الأمر بالتوجيه بالدعاء أليس هو لطف منه نحو عبيده المذنبين؟

أليس هو فيض من رحمته نحو هؤلاء المقصرين؟

وهل يخشى الداعي عدم الإِجابة بعد تعهده بها في قوله :

«إدعوني أستجب لكم».

فمن أقوى من الله ضماناً ، وبوركت صفقة كان الضامن فيها هو الله.

إن اليأس من رحمة الله هي الضلال بعينه فقد قال تعالى :

__________________

(١) سورة الأعراف : آية (١٨٠).

(٢) سورة الأعراف : آية (٢٩).

(٣) سورة الأعراف : آية (٥٦).

(٤) سورة المؤمن : آية (٦٠).

١١٥

( وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) (١) .

ولكنه ابن آدم يدب اليأس اليه ، وقد قال تعالى عنه :

( وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ) (٢) .

ولكنه سبحانه وتعالى يطمئن عباده قائلاً :

( لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) (٣) .

«وبعلمك»

العلم : بالكسر إدراك الشيء بحقيقته ، وقيل : هو اليقين وقيل : أنه بمعنى المعرفة.

وقيل : ان بين المعرفة ، والعلم فرقاً فان العلم يقال : لإِدراك الكلي ، أو المركب. والمعرفة تقال لإِدراك الجزئي ، أو البسيط.

ومن هنا يقال : عرفت الله ، دون علمت الله.

وقيل : العلم في الإِنسان ، والمعرفة في البهائم.

وقيل : العلم هو : الإِعتقاد الجازم المطابق للواقع.

وفي الحقيقة : أن العلم بالشيء معنىً أصبح ينتقل اليه بحيث لا يحتاج الى تعريف لوضوحه.

__________________ ـ

(١) سورة الحجر : آية (٥٦).

(٢) سورة الروم : آية (٣٦).

(٣) سورة الزمر : آية (٥٣).

١١٦

«الذي أحاط بكل شيء»

أحاط بالأمر : أحدق به من جوانبه ، وجاء في القرآن قوله :( وَاللَّـهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ) (١) .

أي أن قدرته شاملة ، ومشتملة عليهم ، ولا يعجزه أحد. أما أنه عالم بكل شيء ، وعلمه محيط بذلك ، فلأنه علة الأشياء كلياتها وجزئياتها ، ومن الواضح أن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول فينتج من ذلك أنه تعالى عالم بجميع الأشياء اذ لا مؤثر في الوجود غيره.

وقد أخبر الكتاب الكريم عن هذه الحقيقة في اكثر من آية فقال تعالى :( يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ) (٢) .

وقال :( إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٣) .

وقال :( وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٤) .

ومن هذا المنطلق يأتي القسم على الله بعلمه الذي أحاط ، وأحدق بكل شيء في هذا الكون ، وما تكتنفه من اكوان اخرى.

وقد يتساءل عن السبب في هذا التكرار بالقسم عليه بعلمه مع

__________________

(١) سورة البروج : آية (٢٠).

(٢) سورة التغابن : آية (٤).

(٣) سورة التوبة : آية (١١٥).

(٤) سورة الحجرات : آية (١٦).

١١٧

أن علمه من جملة ما اشتملت عليه الفقرة المتقدمة بقوله «وبأسمائك التي ملأت أركان كل شيء» ومن جملة اسمائه العليم ، العالم. وإذاً فقد أقسم الداعي على الله بعلمه فما هو وجه التصريح بهذه الصفة مع تقدمها اجمالاً ، وفي اسمائه جلّت عظمته؟

ويجاب عن ذلك : بعدم المنافاة بين البيانين إجمالاً في الأول ، وتفصيلاً في الثاني لخصوصية في التنصيص على صفة العلم المحيط بكل شيء ، وربما كانت الخصوصية هي : بيان حال الداعي عند تدرجه في التضرع اليه سبحانه ، وبالقسم عليه بصفاته وانه صادق في هذا الالتجاء حيث أقسم عليه مجدداً بعلمه الذي أحاط بكل شيء ، ومن جملة ما أحاط به علمه هو حالته التي هو عليها من التوبة ، والندم ، وأنه صادق في توسله الذي يخرج عن قلب فإن الله :( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) (١) .

«وبنور وجهك»

النور : بالضم الضوء ، وهو خلاف الظلمة ، وقيل : النور كيفية تدركها الباصرة ، جمع انوار ، ونيران.

والنور قسمان : حسي ، ومعنوي.

أما الحسي : فهو ما كان قائماً بغيره كنور الشمس ، ونور الكهرباء وغيرهما.

واما المعنوي : فهو ما كان قائماً بذاته.

__________________

(١) سورة غافر : آية (١٩).

١١٨

ونور الله ليس من القسم الأول ، بل هو نفحاته القدسية التي يستنير بها كل شيء ، ويهتدي من في السماوات والأرض ، بعد ان كانت عدماً فخلقها ، ومنحها الوجود.

وقد اقتبست هذه الفقرة من الآية الكريمة :

في قوله تعالى :( اللَّـهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (١) .

النور الذي فيه قوامها ، ومنه نظامها فهو الذي يهبها جوهر وجودها ويودعها ناموسها.

ولقد استطاع البشر أخيراً أن يدركوا بعلمهم طرفاً من هذه الحقيقة الكبرى عندما استحال في أيديهم ما كان يسمى بالمادة بعد تحطيم الذرة الى اشعاعات منطلقة لا قوام لها الا النور ولا مادة لها الا النور فذرة المادة مؤلفة من كهارب واليكترونات تنطلق عند تحطيمها في هيئة إشعاع قوامه هو النور.

فأما القلب البشري فكان يدرك الحقيقة الكبرى قبل العلم بقرون كان يدركها كلما شف ، وقرب ، ولقد أدركها كاملة شاملة قلب محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففاض بها وهو عائد من الطائف نافض كفيه من الناس عائذ بوجه ربه يقول :

«اعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، وفاض بها في رحلة الاسراء ، والمعراج فلما سألته عائشة هل رأيت ربك؟ قال : نور إني أراه»(٢) .

__________________

(١) سورة النور : آية (٣٥).

(٢) في ظلال القرآن في تفسيره لآية (٣٥) من سورة النور.

١١٩

«يا نور»

وبهذا ينهي الإِمام عليه السلام هذا العرض المتوالي من القسم عليه بصفاته الكريمة ، ويبدأ بمرحلة جديدة من إظهار الحالة النفسية للداعي ، وهي مرحلة النداء ، والإِستغاثة ، والتوسل بأحلى صفاته وهي : النور ، القدوس ، أول الأولين ، وآخر الآخرين.

النور : الذي هو مصدر الحياة لكل ما هو مسبوق بالعدم.

«يا قدوس»

وهو بالضم ، وقد يفتح : الطاهر المنزه عن العيوب ، والنقائص وعن كل شريك ، فالشريك نقص لشريكه ، ولذلك فهو تعالى منزه عن هذا النقص ايضاً.

«يا أول الأولين ويا آخر الآخرين»

وهي نداءات تتوالى يضرع بها الإِمام «صلوات الله عليه» الى ربه ويصفه بأنه الأول قبل كل شيء ، والآخر بعد الأشياء ، فلا شيء قبله ، ولا شيء بعده.

وليست الأولية والآخرية بالنسبة اليه تعالى زمانيتين لأن حده بالزمان يستلزم محدوديته ، وإستلزام محدوديته معناه :

إحاطة الزمان به. وهذا يعني احتياجه تعالى الى المحدد. وكل ذلك نقص فيه وهو المنزه عن كل نقص.

سئل الإِمام الصادق عليه السلام عن الأول ، والآخر فقال :

«الأول لا عن أول قبله ، ولا عن بدء سبقه ، والآخر لا عن

١٢٠

نهاية كما يعقل من صفة المخلوقين ، ولكن قديم أول ، وآخر لم يزل ، ولا يزال بلا بدء ، ولا نهاية لا يقع عليه الحدوث ، ولا يحول من حال الى حال خالق كل شيء»(١) .

ومن الغريب أن يكون النداء بهذه الفقرات بحرف (يا) مع أنها موضوعة في المصطلح النحوي لنداء البعيد فكيف يلتئم هذا مع إخباره سبحانه عن قربه من العبد بقوله :

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (٢) .

والجواب عن ذلك : بأن الداعي وجد نفسه بعيداً عن ربه نظراً لجرائمه العديدة لذلك استعمل في النداء ما يدل على البعد من حروف النداء إعترافاً منه بتقصيره

٢ ـ اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تَهْتِكُ الْعِصَمَ. اَللّـهُمَّ اغْفِـرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ النِّقَمَ. اَللّهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُغَيِّـرُ النِّعَمَ. اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لي الذُّنُوبَ الَّتي تَحْبِسُ الدُّعاء. اَللّـهُمَّ اغْفِرْ لِي الذُّنُوبَ الَّتي تُنْزِلُ الْبَلاءَ. اَللّهُمَّ اغْفِرْ لي كُلَّ ذَنْب اَذْنَبْتُهُ ، وَكُلَّ خَطيئَة اَخْطَأتُها. اَللّهُمَّ اِنّي اَتَقَرَّبُ اِلَيْكَ بِذِكْرِكَ ، وَاَسْتَشْفِعُ بِكَ اِلى نَفْسِكَ ، وَأَسْأَلُكَ بِجُودِكَ اَنْ تُدْنِيَني مِنْ قُرْبِكَ وَاَنْ تُوزِعَني شُكْرَكَ ، وَاَنْ تُلْهِمَني ذِكْرَكَ.

__________________

(١) أصول الكافي : كتاب التوحيد / باب معاني الأسماء واشتقاقاتها / حديث (٦).

(٢) سورة ق : آية (١٦).

١٢١

في هذا الفصل من الدعاء نلمح من بين فقراته المواضيع التالية :

١ ـ يوجه الدعاء الداعي بعد القسم على الله بصفاته ، وأسمائه أن ينسق طلبه ، ويحدده على نحو الأهم ، فالأهم ، ولذلك وقبل كل شيء يرى ضرورة تقدمه بطلب غفران الذنوب ، والتجاوز عن معاصيه.

٢ ـ أن الذنوب كما لها مخلفات أخروية من إستحقاق كذلك لها آثار وضعية تتحقق في هذه الدنيا من تعجيل بلاء ، أو تغير نعمة ، أو حبس دعاء ، وهكذا.

٣ ـ التدرج الدعائي في الطلب من الأقل الى الأكثر ، فبينما نرى الداعي يبدأ بطلب المغفرة للذنوب التي تغير النعم مثلاً ، أو غيرها من الذنوب التي تسبب بعض الأمور الخارجية نرى الداعي يترقى ليطلب من ربه أن يغفر له كل ذنب أذنبه ، وكل خطيئة صدرت منه.

وهذا ما نستوضحه عند شرحنا لفقرات الدعاء بالخصوص ، وأن هذا الأسلوب له أثره الخاص في جلب رضا الخالق ، والوصول من وراء ذلك الى الغاية المنشودة له من العفو عما صدر منه مطلقاً.

٤ ـ موضوع الشفاعة : حيث يتقدم الداعي بجعل وبسيط بينه ، وبين خالقه ليتشفع له في تحصيل ما يريده منه ، وتحقيق ما يطلبه منه.

ومن الإِجمال في عرض هذه المطالب المذكورة الى التفصيل :

١٢٢

«اللهم إغفر لي الذنوب التي تهتك العصم»

غفر الشيء : ستره ، والذنوب : جمع ذنب وهو الجرم ، والإِثم.

والعصم : من العصمة ، وهي المنعة. وإعتصمت بالله اذا إمتنعت بلطفه عن المعصية وعصمة الله عبده إذا منعه مما يوبقه(١) .

وفي الحديث : «ما إعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي إلا قطعت أسباب السماوات من بين يديه وأسخت الأرض من تحته»(٢) .

وقد يدرج الداعي من أول الدعاء يتوسل الى ربه ، ويقسم عليه برحمته ، وبقوته ، وهكذا بصفاته ، وأسمائه ، ولكن من هذه الفقرة من دعائه بدء ببيان المقسم ، وهو الشيء الذي كان التوسل ، والقسم لأجله. لذلك يبدو لنا واضحاً التناسق والإِرتباط بين فقرات الدعاء السابقة ، وما بدأ به من الفقرات الآتية «اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم».

وقد تضمنت هذه الجملة التماس العبد من ربه غفران الذنوب التي تهتك العصم أي الذنوب التي تكون سبباً في زوال مناعة العبد من الوقوع في الموبقات ، والرذائل.

إن التعبير الدعائي بالذنوب اليت تهتك العصم يعطينا فكرة واضحة عن لطف الله في منح الإِنسان المناعتين المعنوية ، والجسمية

__________________

(١) أقرب الموارد : مادة (عصم).

(٢) مجمع البحرين مادة (عصم).

١٢٣

فالبدن الصحيح له المناعة الكافية عن تلقي الأمراض التي تخز به وتكون سبباً في علته ، أو هلاكه ، ومتى حافظ الإِنسان على الارشادات الصحية كانت مناعته البدنية كافية لصد الأمراض. أما لو خالف ، وأهمل صحته ، فان ذلك معناه عدم مقاومة الجسم لصد أي مرض ، وهجومها عليه ونتيجة ضعف المناعة ، وانعدامها.

وهذا الإِنسان نفسه كما أودعه الله في أصل تكوينه المناعة الجسمية كذلك أودعه المناعة من الوقوع في الموبقات ، والرذائل ، والتي تكون سبباً في هلاكه أخروياً من لطف الله ، وجنته ومن ثم دخوله النار.

هذه المناعة أودعها الله عباده بمنحهم جوهرة العقل ، وهداهم النجدين(١) حيث أبان لهم طريق الخير كما أوضح لهم طريق الشر فإن أعمل الإِنسان عقله ، وامتثل أوامر ربه ، واجتنب نواهيه كان ذلك الإِنسان معصوماً ، وممنوعاً من الوقوع في كل ما يوصله الى العقاب الأخروي.

أما لو خالف ما يمليه العقل عليه من التزام طريق الهداية ، وركب هواه ، وارتكب الذنوب فإن هذا الإِنسان تنعدم عنده المناعة من الوقوع في الرذائل وطبيعي أن تكون نتيجة هذا الإِنسان اليأس ، وانه :( خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ) (٢) .

أما الذنوب التي تهتك ال عصم ، وتكون سبباً في زوال المناعة المعنوية ، فهي كما عن الإِمام الصادق «عليه السلام» :

__________________

(١) كما جاء في الآية الكريمة( وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ) البلد آية (١٠).

(٢) سورة الحج : آية (١١).

١٢٤

«شرب الخمر واللعب ، والقمار ، وفعل ما يضحك الناس من المزاح ، واللهو ، وذكر عيوب الناس ، ومجالسة أهل الريب»(١) .

ولا بد لنا من التنبيه ونحن أمام هذه الفقرات التي بدأ الداعي فيها طلب غفران الذنوب التي تهتك العصم ، أو تنزل النقم ، أو تغير النعم وغيرها مما سيأتي ذكرها ، فإن الأخبار الكريمة ذكرت تلك الذنوب وعددتها ولكنها ليست أسباباً حقيقية في إيجاد مسبباتها من هتك العصم ، أو إنزال النقم ، بل في الحقيقة إنها مقتضيات لحصول تلك الأمور ـ وعلى سبيل المثال ـ فإن اللعب بالقمار يكون مقتضٍ لزوال مناعة الإِنسان من وقوعه في المحرمات ، والموبقات ، ولكن ـ في نفس الوقت ـ قد لا تترتب على هذا المقتضي النتائج التي ذكرت لها اذا حصل المانع من التأثير ، والمغفرة تأتي في مقدمة ما يمنع من تأثير هذه المقتضيات ، وهكذا الصدقة ، وما شاكل مما يقف في طريق تأثير المقتضي ، وترتيب آثاره.

«اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم»

والنقم : جمع نقمة ، وهي العقوبة. وكما التمس الداعي في الفقرة السابقة أن يغفر الله له الذنوب التي تهتك العصم كذلك تضرع اليه أن يغفر له الذنوب التي تنزل العقوبة بحسب طبعها الأولي الاقتضائي.

أما تلك الذنوب فهي : كما جاء عن الإِمام الصادق «عليه السلام».

__________________ ـ

(١) مجمع البحرين : مادة (عصم).

١٢٥

«نقض العهد ، وظهور الفاحشة ، وشيوع الكذب ، والحكم بغير ما أنزل الله ، ومنع الزكاة ، وتطفيف الكيل قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس بخمس قالوا : يا رسول الله ما خمس بخمس؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم : ما نقض قوم العهد إلا وسلط الله عليهم عدوهم ، وما ظهرت عنهم الفاحشة إلا وقد فشا فيهم الموت ، وما شاع فيهم الكذب ، والحكم بغير ما انزل الله إلا وقد فشا فيهم الفقر ، وما منعوا الزكاة الا حبس عنهم القطر ، وما طففوا الكيل الا منعوا النبات ، واخذوا بالسنين»(١) .

وقد يقال : لماذا كانت هذه الذنوب بالخصوص تنزل العقوبة والذنوب كلها من هذه الجهة على حد سواء من ناحية الجرأة على المولى وانتهاك حرمته المقدسة بمخالفته أوامره وعدم إجتناب نواهيه؟

والجواب عن ذلك : بأن هذه الذنوب التي مر ذكرها لو تأملناها رأينا مفاسدها تضر بالمجتمع ، وتنخر بكيانه ، أو لا أقل أن يقال : أنها من حيث المجموع تتفشى تضعضع كيان المجتمع المتطامن ، وتجر أبناءه الى الويلات ، والهبوط في مهاوي الرذيلة.

ان بعض هذه الذنوب يكفي لإِفساد مجتمع بكامله فكيف بمجموعها؟

واي مجتمع يرجى منه الخير ، وأبناؤه ينقضون العهد ليسببوا بذلك عدم التزام بأمورهم التجارية ، والإِجتماعية فتشيع الفوضى بينهم ، ولذلك يسلط الله عليهم عدوهم كما أخبر عن ذلك النبي

__________________

(١) شرح دعاء كميل للسبزواري ٦٣ طبع إيران حجر.

١٢٦

صلى الله عليه وآله وسلم فيما تقدم من الحديث. وهكذا لو ظهرت الفاحشة فيما بينهم. ومن الفاحشة الزنى. ولا نحتاج الى بيان ما للزنى من العواقب الوخيمة فلقد كتب في ذلك الكثير ، وبينوا المضار المترتبة على هذه العملية ، وغيرها من الجرائم المذكورة في الحديث. فليس من المستبعد أن يكون حصول هذه الخصال الرديئة ، وإنتشارها موجباً لنزول البلاء ، وتعجيل العقوبة من باب الوقوف أمام تيار هذه الرذائل ، ومدى ما تخلفه من آثار تستوجب مثل هذا القمع الفوري لما في التأخير من عواقب وخيمة إجتماعية.

وقد أخبر القرآن الكريم عن مثل هذا الاجراء الفوري في بعض القضايا المماثلة بقوله تعالى :

( فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) (١)

ولسنا في صدد بيان ما جريات وقائع الآية الكريمة من بيان ما بدله أولئك الذين ظلموا (وهم بنو اسرائيل) من مخالفة ما قيل لهم.

بل غرضنا من الإِستشهاد هو أن أولئك القوم حيث لم يلتزموا بما أمروا به ، وبدلوا ما أريد منهم ، لذلك كان جزاؤهم الفوري هو نزول العذاب عليهم كإجراء معاكس إستدعته المشيئة الإِلهية طبقاً للصالح العام ، والمصلحة الإِجتماعية.

__________________

(١) سورة البقرة : آية (٥٩).

١٢٧

«اللهم إغفر لي الذنوب التي تغير النعم»

النعم : جمع نعمة ، وهي ما تفضل الله على عبده من الرزق ، والعافية والسلامة ، وما الى ذلك من ألطافه التي منحها للمخلوقين.

ويقول اللغويون : أن نعمة الله ما أعطاه الله العبد مما لا يتمنى غيره أن يعطيه إياه»(١) .

أما الذنوب التي تغير النعم فهي كما جاء عن الإِمام الصادق «عليه السلام» :

«ترك شكر النعم ، الإِفتراء على الله ، والرسول ، قطع صلة الرحم ، تأخير الصلاة عن أوقاتها ، الدياثة ، وترك إغاثة الملهوفين المستغيثين ، وترك إعانة المظلومين»(٢) .

ولماذا لا تغير هذه الذنوب النعم التي من الله بها على عباده فشكر المنعم واجب عقلاً ، ولأن عدم شكره متوعد عليه بنص الآية الكريمة في قوله تعالى :( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (٣) .

«والكفر بنعمة الله يكون بعدم شكرها أو بإنكار أن الله وهبها ونسبتها الى العلم ، والخبرة ، والكد الشخصي ، والسعي. كأن هذه الطاقات ليست نعمة من نعم الله ، والعذاب الشديد قد يتضمن محق النعمة عيناً بذهابها ، أو سحق آثارها في الشعور فكم من نعمة تكون بذاتها نقمة يشقى بها صاحبها ، وقد يكون عذاباً مؤجلاً الى اجله في

__________________

(١) أقرب الموارد : مادة (نعم).

(٢) شرح دعاء كميل للسبزواري (٦٤).

(٣) سورة إبراهيم : آية (٧).

١٢٨

الدنيا ، أو في الآخرة كما يشاء الله ، ولكنه واقع لأن الكفر بنعمة الله لا يمضي بلا جزاء»(١) .

«وقطع صلة الرحم قال فيها الإِماام أبو جعفر الباقر «عليه السلام» وان اليمين الكاذبة ، وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها»(٢) .

والبلقع في اللغة : هي الأرض القفر.

وليتصور الإِنسان بيته ، وهو يرفل بالنعم التي انعم الله بها عليه من كل جوانبه ، وإذا به بعد قطع رحمه قفر من كل شيء كما يقول الإِمام «عليه السلام» لذلك نرى الإِمام «عليه السلام» في هذه الجملة يلتمس من ربه أن يغفر له الذنوب التي تمحق النعم لتبقى نعمه تعالى عليه متواصلة ، ولئلا يكون محروماً من فيض لطفه الكريم.

«اللهم إغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء»

ولماذا ، وكيف تحبس هذه الذنوب الدعاء ، وتمنعه من التأثير في الإِجابة مع صدوره من قلب ، ولربما في زمانٍ له حرمته ، أو في مكان له قدسيته ، وبعد كل هذا وذاك فإنه سبحانه قريب ، وقريب ، وفوق كل ذلك يجيب دعوة من دعاه؟

وللإِجابة على هذه التساؤلات نقول :

ان معنى الدعاء هو : المناجاة مع الله ، وهو تعبير عن حالة العبد

__________________

(١) في ظلال القرآن في تفسيره لآية (٧) من سورة إبراهيم.

(٢) جامع السعادات : ٢ / ٢٥٨ / مطبعة النجف.

١٢٩

النفسية ، وما هو عليه من الالتجاء ، والتضرع الى خالقه ليتجاوز عن آثامه وخطاياه ، أو هو في حالة التماس يطلب من ربه ما يريد من توفير نعمة ، أو دفع بلاء ، أو ما شاكل من تمنيات مشروعة. وهو في كل هذه الحالات يتجه الى ربٍ مطلعٍ على خفايا الأمور ، ويعلم ما تنطوي عليه السرائر ـ فإذا فرضنا والحالة هذه ـ أن العبد الداعي يقف بين يدي ربه ، وهو يتسم بخبث السريرة ، وسوء النية ، فأي صفاء يجده في قلبه وهو يدعو بلسانه؟ اليس ذلك مجرد لقلقة لسان ، وصدور الفاظ لا تنبعث عن قلب ملهوف؟

إن الإِمام أبو جعفر الباقر «عليه السلام» يحدثنا ليلفت أنظارنا الى مثل هذه القلوب العفنة فيقول :

«ما من عبد مؤمن الا وفي قلبه نكتة بيضاء ، فإذا أذنب ذنباً خرج في تلك النكتة سوداء ، فإذا تاب ذهب ذلك السواد واذا تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض ، ولم يرجع صاحبه الى خير أبداً ، وهو قول الله تعالى :( بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (١) .

والرين : هو الحجاب الكثيف ، والمراد به هنا : حجاب الذنوب ، والآثام وهذه النكت السوداء في القلب ـ كما يقول عنها الحديث ـ ما هي إلا خلفيات هذه الذنوب ، وما تستوجبه من قساوة القلب ، واذا بها حجب متراكمة تظلم القلب ، وتمنع من وصول النور الإِلهي اليه.

__________________

(١) مجمع البحرين : مادة (رون) وفيه ذكر الحديث ، وقد تعرضت له مصادر الحديث من الصحاح الستة باختلاف لفظي بسيط.

١٣٠

«وخير الدعاء ما صدر عن قلب نقي ، وقلبٍ تقي»(١) .

كما جاء في حديث آخر.

ومع سوء النية ، وخبث السريرة كيف يحافظ الداعي على صدر نقي من كل شائبة ، وقلب تقي سليم من الحواجب المظلمة؟

لذلك نرى أمثال هؤلاء الدعاة هم المعنيون بقول الإِماام أمير المؤمنين «عليه السلام» «ثم تدعون فلا يستجاب»(٢) .

وقبل أن ننتقل من هذه الفقرة لا بد لنا من الإِجابة على ما يرد عليها من الإِشكال التالي :

ان الداعي بهذه الفقرة يطلب من ربه أن يغفر له الذنوب التي تحبس الدعاء ، ومع وجود تلك الذنوب ، وفرض محبوسية الدعاء عن الإِجابة ، فإن الدعاء في هذه الصورة أيضاً يكون محبوساً فلا يؤثر أثره فلماذا اذاً يدعو بها ، ويردد «اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء».

والجواب عن ذلك : أنا سبق وأن بينا بأن هذه الذنوب ليست أسباباً حقيقية لايجاد مسبباتها ، بل هي من باب المقتضي لترتب الأثر عليها فلم يثبت أن وجود سوء النية ، والذي ذكر أنه يحبس الدعاء هو الذي اذا وجد عند الإِنسان حبس دعاءه وأعرض الله عن سماع كل دعوة له ـ بل كما قلنا ـ أن ذلك مقتضي لهذا الأثر ، واذا ثبت ذلك

__________________

(١) أصول الكافي : باب (ان الدعاء سلاح المؤمن) حديث ـ

(٢) نهج البلاغة من وصية له «عليه السلام» للحسن والحسين «عليهما السلام» لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله).

١٣١

فاحتمال ان دعوة الداعي بهذه الفقرة ليست محبوسة قوي لإِحتمال وجود ما يمنع من تأثير ذلك المقتضي لو كان قد صدر منه ذنب من تلك الذنوب كسوء النية ، وخبث السريرة ، والنفاق مع الإِخوان ، وغير ذلك مما جاء في الخبر المتقدم.

«اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء»

والبلاء : هو الغم. أما الذنوب التي تكون سبباً في نزول البلاء وتورث الغم ، والتي يتوسل الداعي ان يغفرها الله له ، فهي كما جاء عن الإِمام زين العابدين «عليه السلام».

«ترك إغاثة الملهوفين ، وترك معاونة المظلوم ، وتضييع الامر بالمعروف والنهي عن المنكر»(١) .

وفي بعض الأخبار انها سبع : «الشرك باالله ، وقتل النفس التي حرم الله تعالى ، وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ظلماً ، والزنا ، والفرار من الزحف ، والسرقة» (٢).

ولا ينافي أن تكون بعض الذنوب تشترك في التأثير فهي ـ مثلاً ـ كما تكون سبباً في نزول النقم ، كذلك تكون سبباً في نزول البلاء. وذلك يعود الى عظم الجرائم حيث تكون مؤثرة بتأثيرين ، أو اكثر تبعاً لما تخلفه من آثار اجتماعية سيئة.

__________________

(١) أسرار العارفين : ٤٢.

(٢) السبزواري في شرح دعاء كميل : ٦٩.

١٣٢

«اللهم اغفر لي الذنوب التي تقطع الرجاء» (١)

والرجاء : هو الأمل. ورجاه يرجوه رجواً أمل به(٢) .

والذنوب التي تقطع الرجاء هي التي عددها الإِمام «عليه السلام» بقوله : «اليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والثقة بغير الله والتكذيب بوعيد الله».

ان هذه الذنوب بطبيعتها تجل العبد بعيداً عن ربه ، وتقطع ذلك الاتصال النفسي بين العبد ، وخالقه ، وعندها يكون مثل هذا الشخص مصداقاً للآية الكريمة :( وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) (٣) .

والضلال : ضد الهدى ؛ والمعنى الذي يقصده الداعي بطلب غفران مثل هذه الذنوب هو أن يجنبه الله عنها لئلا يكون ضالاً ، وبعيداً عن ساحة لطفه بإنقطاع رجائه من عفوه ، وكرمه ، فإن القلب المفعم بالإِيمان لا ييأس ، ولا يقنط من رحمته سبحانه معما عظم ذنبه وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم :

__________________

(١) هذه الفقرة من الدعاء لم توجد في كثير من كتب الدعاء وقد تعرض لها بعض الشراح فأثبتوها في الدعاء ولعلهم اخذوا ذلك من كتاب (المصباح) لتقي الدين ابراهيم بن علي العاملي الكفعمي ، وهو من مصادر كتب الدعاء عند الإِمامية ، وقد تعرضنا لها تبعاً لمن تقدم ليؤتى بها على سبيل الرجاء.

(٢) أقرب الموارد : مادة (رجو).

(٣) سورة الحجر : آية (٥٦).

١٣٣

«والذي لا إله الا هو ما أعطي مؤمن قط خير الدنيا ، والآخرة إلا بحسن ظنه بالله ، ورجائه له ، وحسن خلقه ، والكف عن إغتياب المؤمنين ، والذي لا إله الا هو لا يعذب الله مؤمناً بعد التوبة ، والاستغفار إلا بسوء ظنه بالله ، وتقصيره من رجائه ، وسوء خلقه ، واغتيابه للمؤمنين. والذي لا إله الا هو لا يحسن ظن عبد مؤمن بالله إلا كان الله عند ظن عبده المؤمن لأن الله كريم بيده الخيرات يستحي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن الظن به ، ثم يخلف ظنه ، ورجاؤه فاحسنوا بالله الظن ، وارغبوا اليه»(١) .

ومن هذا الحديث يتضح لنا ما للرجاء بالله من الأهمية في حياة العبد ، وبعد انتقاله الى الآخرة ، وعدم القنوط ، واليأس من رحمته الواسعة.

فلا غرو اذا رأينا الإِمام عليه السلام يعلمنا كيف يجب ان يلتمس الداعي من ربه ان يغفر له تلك الذنوب التي تكون السبب في انقطاع العلقة بين المولى وعبده؟ «إن الله يغفر الذنوب جميعاً».

«اللهم اغفر لي كل ذنب أذنبته»

وهكذا يذهب الداعي برجائه الى أقصى حد ويلتفت الى أنه يمثل بين يدي ربٍ كريمٍ جاء في كرمه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوماً : يا كريم العفو فقال له جبرئيل : أتدري ما تفسير يا كريم العفو؟ هو أنه يعفو عن السيئات برحمته ثم يبدلها حسنات

__________________

(١) أصول الكافي : باب حسن الظن بالله / حديث / ٢.

١٣٤

بكرمه»(١) .

فلماذا إضاً يقتصر الداعي في دعائه على طلب المغفرة لبعض الذنوب كالتي تهتك العصم ، أو كالتي تنزل النقم ، أو التي تحبس الدعاء؟ فهل هو بدعائه ، وطلبه يتوجه الى بشر مثله محدود العواطف ليضيق ذرعاً بما يريد منه؟

لا : ولك أن تكرر النفي الى ما لا نهاية ، فإن الداعي يتوجه بطلبه الى ربٍ عطوف يريد منه أن يتفضل عليه ، فيغفر عليه ، فيغفر له كل ذنب أذنبه ، وكل إثم صدر منه ، وهو ـ في الوقت نفسه ـ لم يذهب بعيداً بهذه الأمنيات ، فعوامل الرجاء تدفعه الى الاستزادة من هذا الفيض ما دامت الآيات الكريمة تبشر المذنبين قائلة :( إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) (٢) .

( إِنَّ اللَّـهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ) (٣) .

وتترقى آية أخرى فتتحدى جميع البشر فتقول :

( وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّـهُ ) (٤) .

واذا كان هو مصدر الغفران فقط وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «والذي نفسي بيده الله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها»(٥) .

__________________

(١) جامع السعادات : ١ / ٢٥١ الطبعة الثالثة / مطبعة النجف وهكذا جاء في إحياء العلوم للغزالي : ٤ / ١٢٩ باختلاف بسيط.

(٢) سورة الزمر : آية (٥٣).

(٣) سورة النساء : آية (٤٨).

(٤) سورة آل عمران : آية (١٣٥).

(٥) جامع السعادات : ١ (٢٥١).

١٣٥

إذاً فليذهب بالعبد رجاؤه الى مدارج السمو وليلتمس من ربه ان يغفر له كل ذنب أذنبه ففي رحاب الله يجد ذلك المسكين أمانيه تتحقق فقد ورد في الحديث :

«ان العبد اذا أذنب فاستغفر يقول الله لملائكته أنظروا الى عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنوب ، ويأخذ بالذنب إشهدوا اني قد غفرت له»(١) .

«وكل خطيئة أخطأتها»

والخطيئة : هي الذنب المتعمد ، وقيل إنها الذنب أعم من الإِثم لأن الإِثم لا يكون إلا من عمدٍ ، وهي قد تكون لا عن عمد(٢) .

والتناسق الدعائي يقضي أن يكون المراد بها في هذه الجملة هو : المعنى الثاني لأن الروعة الدعائية تظهر على هذا التفسير فإن الداعي بعد أن تدرج في الالتماس يطلب أن يغفر له الذنب الفلاني ، والذنب الموصوف بكذا. بعد كل هذا أضرب ، وجاء يلتمس أن يغفر له كل ذنب أذنبه ، وطبيعي أن الذنب هو الجرم الذي يصدر عن عمدٍ ، ولكنه حيث وجد من عطف ربه ، وكرمه ما شهد له بانه : يغفر الذنوب جميعاً عدا الشرك به فلماذا لا يذهب الى آخر الشوط ، فيلتمس من ربه أن يتجاوز عن كل ما صدر منه ولو كان ذلك عن غير عمدٍ وهو المسمى (بالخطيئة)؟ فهو يريد أن يفتح صفحة جديدة ليعود كيومٍ ولدته أمه خلواً من كل ذنب جرماً كان ذلك الذنب ، أو

__________________

(١) جامع السعادات : ١ / ٢٥١ الطبعة الثالثة.

(٢) أقرب الموارد ، والقاموس ، وغيرهما : مادة (خطأ).

١٣٦

خطيئة ليرى حلاوة الإِجابة تتمثل له بعد أن ورد في الحديث القدسي «إنما خلقت الخلق ليربحوا علي ، ولم أخلقهم لأربح عليهم»(١) .

كلا : وحاشا له أن يساوم عليهم ، ويربح من وراء عبادتهم ، بل هو منبع الحنو والرقة ، يعاملهم بالحسنى ، وان كانت الذنوب قد سودت وجوههم.

ان كان لا يرجوك الا محسن

فبمن يلوذ ويستجير ـ المجرم

«اللهم اني اتقرب اليك بذكرك»

والمقصود بالتقرب ، هو القرب المعنوي ، لا المكاني لاستحالة ذلك بالنسبة اليه تعالى لإِستلزام التقرب المكاني الى تحديده بالمكان. وتعالى الله عن ذلك سبحانه.

أما الذكر ، فالمراد منه هو الإِتصال بالله ن طريق استحضار اسمائه ، وصفاته المقدسة في قلب الداعي ، على لسانه.

وبهذه الفقرة من الدعاء يكون الداعي قد ختم دور الإِلحاح والالتماس لطلب المغفرة ليبدأ بدور جديد ، وينزل بروحه الى عالم الحياة ، وهي خفيفة نظيفة ليباشر حياته من جديد وعلى أسس جديدة ، وطريقة جديدة مؤكداً بان ما سبق منه من هذا الطلب ، والإِلتماس لم يكن فقط لمجرد التجاوز عن ذنوبه فلرب داعٍ لم يتقرف في حياته من ذلك شيئاً كالأنبياء والأئمة الاطهار ، والصالحين من البشر ، ومع ذلك فهم يلحون في الدعاء ، ويلتمسون المغفرة ، ويقضون الوقت في المناجاة باكين خاشعين ، بل لبيان أن مع الإِلتماس

__________________

(١) جامع السعادات : ١ (٢٥١).

١٣٧

تقرب ، وفي التقرب تأكيد على الإِتصال الحقيقي به سبحانه وتعالى ، على الصعيدين ، الداخلي والخارجي.

الداخلي : حيث يتمثل بما ينطوي عليه القلب من استحضار الله ، وعدم الغفلة عنه.

أما الخارجي : فبأداء كل ما أمر به تعالى ، والاجتناب عما نهى عنه.

وبذلك نرجع الى الدعاء ليعلمنا بأننا يجب ان نعتمد : في الطريقة الجديدة للحياة التي يرضاها لنا الله أن نكون قريبين منه بذكره المتواصل في كل لحظة ، وفي كل عمل نقوم به من أعمالنا ونراقبه في السراء ، والضراء ، وفي كل صغيرة ، وكبيرة ، وبذلك نضمن قربنا منه ، وبعدنا عن الذنوب.

وقد اعطى القرآن الكريم صورة حية لأولئك المقربين منه بقوله تعالى :( رجال لا تلهيهم تجارة أو بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار ) (١) . قلوب حية عطرة منطوية على حب الله ، والقرب منه.

وألنسة رطبة بذكره جلّت قدرته تسبحه ، وتقدسه ، وتذكر نعماءه ، وآلاءه بحيث لا تلهيهم الدنيا بما فيها من تجارة ، وربح وحصول المال ، وما يستتبع ذلك من سعة في الملاذ الدنيوية.

«وأستشفع بك الى نفسك»

والداعي بشر ومهما كان فان من الغرائز البشرية الخوف. أما

١٣٨

الشجاعة واللامبالاة ، فانهما عارضان عليه نتيجة تطبعه ، وإقدامه. واستجابة لنداء الغريزة المذكورة نرى الداعي مهما كررت الآيات الكريمة تنبيء عن غفران الله ، وعفوه ، وأنه يغفر الذنوب جميعاً ، ومع الآيات التي تؤكد على عدم اليأس من روح الله ، ورحمته نقول : مع كل ذلك فهو يستعظم جرمه ، ويستكبر ذنبه ، ويخشى أن لا يستجيب الله لصارخ ندائاته المتعاقبة.

لذلك ، وبدافع من طبيعة الخائف النفسية يبدأ بالبحث عن الشفيع الذي يجعله الواسطة بينه ، وبين ربه. والشفاعة أمر يستسيغه ، ويقويه العرف لتأمين ما يتطلبه الإِنسان من قضاء حوائجه.

ولكن : يا ترى من هو ذلك الشفيع الذي يقبله الله ليتشفع في أمر عبده الخائف؟

ان عظم الذنب يتجسم أمام الداعي ، فيصور له رفض كل شفيع في حقه مهما كانت منزلته ، ومهما كانت رحمة الله واسعة.

وتبدد حيرة الداعي بقية أملٍ تلوح له باللجوء الى مصدر الخوف وهو الله سبحانه ، فهو الخصم ، وهو ـ في الوقت نفسه ـ الحكم ، وهو الأول ، والآخر.

ويأتي التعبير متناسقاً عند ما نرى الداعي يتضرع وهو يقول :

«واستشفع بك الى نفسك»

وكما كان الإِمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام يناجي ربه وهو يقول : «وانا يا سيدي عائذ بفضلك هارب منك اليك»(١) . وحري بالله جلّت عظمته أن لا يرد عن ساحة لطفه عبداً

__________________

(١) من دعاء الامام «عليه السلام» المروي عن أبي حمزة الثمالي.

١٣٩

التجأ اليه تائباً.

إلهي كيف تطرد مسكيناً التجأ اليك من الذنوب هارباً؟

أم كيف تخيب مسترشداً قصد الى جنابك ساعياً؟

ام كيف ترد ضمآناً ورد الى حياضك شارباً؟

كلا وحياضك مترعة في ظنك المحول ، وبابك مفتوح للطلب والوغول ، وأنت غاية المسؤول ، ونهاية المأمول(١) .

«واسئلك بجودك»

الجود : بمعنى السخاء ، وهو بمعنى الكرم ، وقيل : الجواد الذي لا يبخل بعطائه ، وهو من أسماء الله(٢) .

والقسم جاء في هذه الفقرة بصفة محببة للمسؤول وهو الله فإنه يحب الكرم ، ويثيب عليه ، والمورد يستدعي ذلك فإن الداعي يريد من الله ، ويطلب منه. ولا بد ، والحالة هذه من التضرع اليه بما عرف به من الجود ، والسخاء.

«أن تدنيني من قربك»

وترتبط هذه الفقرة من الدعاء بالفقرة السابقة من الدعاء من قوله :

«اللهم اني اتقرب اليك بذكرك»

فالقرب من الله حقيقة تتوقف على جهتين :

__________________

(١) فقرات من دعاء الصباح الذي كان يدعو به الامام علي بن أبي طالب «عليه السلام».

(٢) مجمع البحرين : مادة (جود).

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465