الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١٠

الغدير في الكتاب والسنة والأدب10%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 389

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 389 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70502 / تحميل: 4471
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١٠

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

ألا ابلغ معاوية بن صخر

مغلغلة من الرَّجل اليمانِ

وذكر الأبيات كما ذكرناها سواء. وروى عمر بن شبة وغيره: أنّ ابن مفرغ لمـَّا وصل إلى معاوية أو إلى ابنه يزيد بعد أن شفعت فيه اليمانية وغضبت لما صنع به عباد وأخوه عبيد الله، وبعد أن لقي من عباد بن زياد وأخيه عبيد الله ما لقي ممّا يطول ذكره وقد نقله أهل الأخبار ورواة الأشعار بكر وقال: يا أمير المؤمنين! ركب منّي ما لم يركب من مسلم قطّ على غير حدث في الإسلام ولا خلع يد من طاعة. فقال له معاوية: ألست القائل:

ألا أبلغ معاوية بن حرب

مغلغة من الرّجل اليمانِ

أتغضب أن يقال: أبوك عفّ؟

وترضى أن يقال: أبوك زانِ؟!

فقال ابن المفرغ: لا والذي عظم حقّك ورفع قدرك، يا أمير المؤمنين! ما قلتها قطُّ ولقد بلغني أنَّ عبد الرّحمن بن الحكم قالها ونسب إليَّ. فقال أفلست القائل:

شهدت بأنّ امّك لم تباشر

أبا سفيان واضعة القناعِ

ولكن كان أمراً فيه لبسٌ

على وجه شديد وارتياعِ؟(١)

أوَ لست القائل:

إنَّ زياداً ونافعاً وأبا بكـ

ـ رة عندي من أعجب العجبِ

هم رجالٌ ثلاثةٌ خلقوا

في رحم اُنثى وكلّهم لأبِ(٢)

ذا قرشيٌّ كما يقول وذا

مولى وهذا بزعمه عربي

في أشعار قلتها في زياد وبنيه تهجوهم، أغرب فلا عفا الله عنك، قد عفوت عن جرمك، ولو صحبت زياداً لم يكن شيىءٌ ممّا كان، اذهب فاسكن أيّ أرض أحببت. فاختار الموصل.

قال أبو عمر: ليزيد بن مفرغ في هجو زياد وبنيه من أجل ما لقي من عبّاد بن زياد بخراسان أشعار كثيرة، وقصّته مع عبّاد بن زياد وأخيه عبيد الله بن زياد مشهورةٌ ومن قوله يهجوهم:

____________________

١ - هذه القصيدة كما قال أبو الفرج: طويلة. ذكر منها في الاغاني ١٧: ٦٦ تسعة عشر بيتاً.

٢ - ويروى: انثى مخالف النسب.

٢٢١

أعبّاد ما للّوم عنك محولُ

ولا لك امٌّ في قريش ولا أبُ

وقل لعبيد الله: ما لك والدٌ

بحقّ ولا يدري امرؤ كيف تنسبُ(١)

قال عبيد الله بن زياد: ما هُجيت بشيىء أشدّ عليَّ من قول ابن مفرغ:

فكّر ففي ذاك إن فكّرت معتبرُ

هل نلت مكرمة إلّا بتأمير؟!

عاشت سميّة ما عاشت وما علمت

إنَّ ابنها من قريش في الجماهيرِ

وقال غيره:

زياد لست أدري من أبوه

ولكنّ الحمار أبو زيادِ

ورُوينا: انّ معاوية بن أبي سفيان قال حين أنشده مروان شعر أخيه عبد الرّحمن: والله لا أرضى عنه حتّى يأتي زياداً فيترضّاه ويعتذر إليه. وأتاه عبد الرّحمن يستأذن عليه معتذراً فلم يأذن له، فأقبلت قريش على عبد الرَّحمن بن الحكم فلم يدعوه حتّى أتى زياد فلمّا دخل فسلّم عليه فتشاوس(٢) له زياد بعينه وكان يكسر عينه فقال له زياد: أنت القائل ما قلت؟ فقال عبد الرَّحمن: وما الذي قلت؟ فقال: قلت ما لا يُقال. فقال: عبد الرَّحمن: أصلح الله الأمير انّه لا ذنب لمن اعتب، وإنّما الصفح عمّن أذنب، فاسمع منّي ما أقول قال: هات فأنشأ يقول:

إليك أبا المغيرة تبت ممّا

جرى بالشام من جور اللسانِ

وأغضبت الخليفة فيك حتّى

دعاه فرط غيظٍ أن لحاني

وقلت لمن لحاني في اعتذاري

إليك الحقّ شأنك غير شأنِ

عرفت الحقّ بعد خطأ رأيي

وما ألبسته غير البيانِ

زياد من أبي سفيان غصنٌ

تهادى ناضرٌ بين الجنانِ

أراك أخاً وعمّاً وابن عمّ

فما أدري بعينٍ ما تراني

وأنت زيادةٌ في آل حرب

أحبّ إليَّ من وسطي بناني

ألا أبلغ معاوية بن حرب

فقد ظفرت بما تأتي اليدانِ

فقال له زياد: أراك أحمق مترفاً شاعراً صنع اللسان، يسوغ لك ريقك ساخطاً و

____________________

١ - ذكر أبو الفرج فى الامانى ١٧: ٥٩ من بائية ابن المفرغ هذه اثنى عشر بيتاً.

٢ - من شاس: نظر بمؤخر عينه تكبراً أو تغيظا.

٢٢٢

مسخوطاً، ولكنّا قد سمعنا شعرك وقبلنا عذرك، فهات حاجتك. قال: كتاب إلى أمير المؤمنين بالرضى عنِّي. قال: نعم. فكتب كتاباً أخذه ومضى حتى دخل على معاوية، ففضّ الكتاب ورضَي عنه وردّه إلى حاله وقال: قبّح الله زياداً ألم ينتبه له إذ قال:

وأنت زيادة في آل حرب

.......................

قال أبو عبيدة: كان زياد يزعم انَّ امّه سميّة بنت الأعور من بني عبد شمس ابن زيد مناة بن تميم فقال ابن مفرّغ يردّ ذلك عليه:

فاُقسم ما زياد من قريش

ولا كانت سميّة من تميم

ولكن نسل عبد من بغيّ

عريق الأصل في النسب اللئيم(١)

وأخرج الطبري في تاريخه ٦: ١٢٣ بإسناده عن أبي إسحاق: إنَّ زياداً لمـّا قدم الكوفة قال: قد جئتكم في أمر ما طلبته إلّا لكم. قالوا: اُدعنا إلى ما شئت. قال: تلحقون نسبي بمعاوية. قالوا: أمّا بشهادة الزور فلا، فأتى البصرة فشهد له رجلٌ.

قال ابن عساكر وابن الأثير: كان أبو سفيان صار إلى الطائف فنزل على خمّار يقال له أبو مريم السلولي وكانت لأبي مريم بعد صحبة فقال أبو سفيان لأبي مريم بعد أن شرب عنده: قد اشتدّت به العزوبة، فالتمس لي بغيّاً. فقال: هل لك في جارية الحارث ابن كلدة سُميّة امرأة عُبيد؟ فقال: هاتها على طول ثديها وريح إبطيها. فجاء بها إليه فوقع بها، فولدت زياداً فادّعاه معاوية.

وروى ابن عساكر عن ابن سيرين عن أبي بكرة قال: قال: زياد لأبي بكرة: ألم ترَ انَّ أمير المؤمنين أرادني على كذا وكذا، وولدت على فراش عُبيد واشبهته، وقد علمت أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: من ادّعى لغير أبيه فليتبوّأ مقعده من النار. ثمّ جاء العام المقبل وقد ادّعاه.

وقال محمّد بن اسحاق: كنّا جلوساً عند أبي سفيان فخرج زياد فقال: ويل امّه لو كان له صلب قوم ينتمي إليهم(٢)

ولمـّا بويع معاوية قدم زياد على معاوية فصالحه على ألفي ألف، ثمّ أقبل فلقيه

____________________

١ - الاغانى ١٧: ٥١ - ٦٧، الاستيعاب ١: ١٩٥ - ١٩٨، تاريخ ابن عساكر ٥: ٤٠٦ - ٤٢٣، مروج الذهب ٢: ٥٦، ٥٧. تاريخ ابن كثير ٨: ٩٥، ٩٦، الاتحاف ص ٢٢.

٢ - العقد الفريد ٣: ٢، تاريخ ابن عساكر ٥: ٤٠٩، كامل ابن الاثير ٣: ١٩١.

٢٢٣

مصقلة بن هبيرة الشيباني وضمن له عشرين ألف درهم ليقول لمعاوية: إنّ زياداً قد أكل فارس برًّا وبحراً، وصالحك على ألفي ألف درهم، والله ما أرى الذي يقال إلّا حقّاً.

فإذا قال لك: وما يقال؟ فقل: يُقال: انّه ابن أبي سفيان. ففعل مصقلة ذلك، ورأى معاوية أن يستميل زياداً واستصفى مودّته باستلحاقه، فاتّفقا على ذلك واحضر الناس و حضر من يشهد لزياد، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي فقال له معاوية: بِمَ تشهد يا أبا مريم؟ فقال: أنا أشهد أنَّ أبا سفيان حضر عندي وطلب منِّي بغيّاً فقلت له: ليس عندي إلّا سُميّة. فقال: ائتني بها على قذرها ووضرها. فأتيته بها فخلا معها ثمّ خرجت من عنده وانَّ اسكتيها ليقطران منيّاً. فقال له زياد: مهلاً أبا مريم إنّما بعثت شاهداً ولم تبعث شاتماً. فاستلحقه معاوية(١)

وفي العقد الفريد ٣: ٣: يقال: إنَّ أبا سفيان خرج يوماً وهو ثملٌ إلى تلك الرّايات فقال لصاحبة الراية: هل عندك من بغيّ؟ فقالت ما عندي إلّا سُمَّية قال: هاتها على نتن إبطيها. فوقع بها فولدت له زياداً على فراش عُبيد.

فوجد زياد نفسه بعد حسبه الواطئ ونسبه الوضيع، بعد أن كان لا يُعزى إلى أب معلوم عمراً طويلاً يقرب من خمسين عاماً(٢) فيقال له: زياد بن أبيه. أخا ملك الوقت وابن من يُزعم انّه من شرفاء بيئته، وقد تسنّى له الحصول على مكانة رابية فأعرق نُزعاً في جلب مرضاة معاوية المحابي له بتلك المرتبة الّتي بمثلها حابت هند ابنها المردَّد بين خمسة رجال أو ستّة من بغايا الجاهليّة، لكن آكلة الأكباد ألحقت معاوية بأبي سفيان لدلالة السحنة والشبَه، فطفق زياد يلغ في دماء الشيعة ولمعاوية من ورائه تصديةٌ ومكاء، وإنَّ غلواء الرَّجل المحابي أعمته عن استقباح نسبة الزنا لأبيه يوم استحسن أن يكون له أخ مثل زياد شديد في بأسه، يأتمر أوامره، وينتهي إلى ما يودّه من بوائق وموبقات، و لم يكترث لحكم الشريعة بحرمة مثل ذلك الإلحاق واستعظامها إيّاه، ولا يصيخُ إلى قول النبيِّ الصادقصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال يونس بن أبي عبيد الثقفي لمعاوية: يا معاوية! قضى

____________________

١ - تاريخ اليعقوبي ٢: ١٩٤، مروج الذهب ٢: ٥٦، تاريخ ابن عساكر ٥: ٤٠٩، كامل ابن الاثير ٣: ١٩٢، شرح ابن أبي الحديد ٤: ٧٠، الاتحاف للشبراوى ص ٢٢.

٢ - قيل: ولد عام الفتح سنة ثمان. وقيل: عام الهجرة. وقيل: قبل الهجرة. وقيل: يوم بدر.

_١٤_

٢٢٤

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الولد للفراش وللعاهر الحجَر. فعكست ذلك وخالفت سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أعد. فأعاد يونس مقاله هذا، فقال معاوية: يا يونس! والله لتنتهينَّ أو لأطيرنّ بك طيراً بطيأ وقوعها(١) .

انظر إلى ايمان الرجل بنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإخباته إلى حديثه بعد استعادته، وعنايته بقبوله ورعايته حرمته، والحكَم في هذه الشنيعة كلّ ذي مسكة من علماء الاُمَّة وذوي حنكتها ومؤلّفيها وكتّابها.

قال سعيد بن المسيب: أوَّل(٢) قضيّة ردَّت من قضاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علانية قضاء فلان، يعني: معاوية في زياد.

وقال ابن يحيي: أوَّل حكم ردّ من أحكام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكم في زياد.

وقال ابن بعجة: أوَّل داء دخل على العرب قتل الحسن « سبط النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » و ادّعاء زياد(٣) .

وقال الحسن: اربع خصال كنّ في معاوية لو لم يكن فيه منهنَّ إلّا واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الاُمّة بالسفهاء حتّى ابتزّها أمرها بغير مشورة منهم، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة. واستخلافه ابنه بعده سكّيراً خمّيراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير. وادّعائه زياداً وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجَر. وقتله حُجراً، ويلاً له من حُجر وأصحاب حُجر قالها. مرّتين(٤) .

وقال الإمام السبط الحسن الزكيّعليه‌السلام لزياد في حضور من معاوية، وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم: وما أنت يا زياد! وقريشاً؟ لا أعرف لك فيها أديماً صحيحاً ولا فرعاً نابتاً، ولا قديماً ثابتاً، ولا منبتاً كريماً، بل كانت امّك بغيّاً تداولها رجال

____________________

١ - الاتحاف للشبراوى ص ٢٢.

٢ - ليست بأول قارورة كسرت فى الاسلام وانّما ردّ من يوم السقيفة وهلمّ جرا إلى يوم الاستلحاق من قضايا رسول الله ما يربو على العدّ.

٣ - تاريخ ابن عساكر ٥: ٤١٢، تاريخ الخلفاء، للسيوطى ص ١٣١، أوائل السيوطى ص ٥١.

٤ - تاريخ ابن عساكر ٢: ٣٨١، تاريخ الطبرى ٦: ١٥٧، الكامل لابن الاثير ٤: ٢٠٩، تاريخ ابن كثير ٨: ١٣٠، محاضرات الراغب ٢: ٢١٤، النجوم الزاهرة ١ ص ١٤١.

٢٢٥

قريش، وفجّار العرب، فلمّا ولدت لم تعرف لك العرب والداً فادّعاك هذا - يعني معاوية - بعد ممات أبيه، ما لك افتخار، تكفيك سُميّة ويكفينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي عليُّ بن أبي طالب سيّد المؤمنين الذي لم يرد على عقبيه، وعمِّي حمزة سيّد الشهداء، وجعفر الطيّار، وأنا وأخي سيّدا شباب أهل الجنّة(١) .

وفد زياد على معاوية فأتاه بهدايا وأموال عظام وسفط مملؤ جوهراً لم ير مثله فسرّ معاوية بذلك سروراً شديدا، فلمّا رأى زياد ذلك صعد المنبر فقال: أنا والله يا أمير المؤمنين! أقمت لك معر العراق، وجبيت لك مالها، وألفظت إليك بحرها، فقام يزيد ابن معاوية فقال: إن تفعل ذلك يا زياد! فنحن نقلناك من ولاء ثقيف إلى قريش، ومن القلم إلى المنابر، ومن زياد بن عُبيد إلى حرب بن اُميّة. فقال معاوية: اجلس فداك أبي وامّي(٢) .

وقال السكتواري في محاضرة الأوائل ص ١٣٦ اوّل قضيّة ردَّت من قضايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علانية دعوة معاوية زياداً، وكان أبو سفيان تبرَّأ منه وادَّعى انَّه ليس مِن أولاده وقضى بقطع نسبه، فلمّا تأمّر معاوية قرّبه واستأمر ففعل ما فعل زياد بن أبيه يعني ابن زنيّة من الطغيان والاساءة في حقّ أهل بيت النبوّة. وقال في ص ١٦٤: كان عمر رضي الله عنه إذا نظر إلى معاوية يقول: هذا ابن أبي سفيان كسرى العرب(٣) لأنّه كان أوّل من ردّ قضية من قضايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين هجر، وزياد بن أبيه أوّل من أساء إساءةً تفرَّد بشينها بين الاُمم في حقً أهل البيت رضي الله عنهم.

وقال في ص ٢٤٦: كان قد تبرّأ من زياد أبو سفيان ومنع حقّه من ميراث الاسلام بحضرة الصّحابة رضي الله عنهم، فلا زال طريداً حتّى دعاه معاوية وقرّبه وأمَّره وردّ القضيّة، وهي أول قضيّة من قضايا الإسلام ردّت، ولذا صارت بليّة شنيعة، ومحنة فاحشة بين الاُمَّة، وأبغض الوسائل تعدِّيه على أفضل الملّة وأحبّ العترة اهـ.

____________________

١ - المحاسن والمساوى للبيهقى ١: ٥٨.

٢ - المجتنى لابن دريد ص ٣٧.

٣ - قول عمر هذا فى معاوية ذكره جمعٌ، راجع الاستيعاب ١: ٢٥٣، أسد الغابة ٤: ٣٨٦، الاصابة ٣: ٤٣٤.

٢٢٦

ولا أحسب أنَّ أحداً من رجالات الدين يشذّ عمَّا قاله الجاحظ في رسالته النابتة في بني اميّة ص ٢٩٣: فعندها استوى معاوية على الملك واستبدَّ على بقيّة الشورى وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سمّوه « عام الجماعة » وما كان عام جماعة بل كان عام فرقة وقهر وجبريّة وغلبة، والعام الذي تحوّلت فيه الإمامة ملكاً كسرويّاً، والخلافة منصباً قيصريّاً، ولم يعدّ ذلك أجمع الضلال والفسق، ثمَّ ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا، وعلى منازل ما رتّبنا، حتى ردَّ قضيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردًّا مكشوفاً، وجحد حكمه جحداً ظاهراً في ولد الفراش وما يجب للعاهر، مع اجماع الاُمّة على أنّ سميّة لم تكن لأبي سفيان فراشاً، وانّه إنّما كان بها عاهراً فخرج بذلك من حكم الفجّار إلى حكم الكفّار.اهـ.

ولو تحرَّينا موبقات معاوية المكفّرة له وجدنا هذه في أصاغرها، فجلّ أعماله - إن لم يكن كلّه - على الضدّ من الكتاب والسنّة الثابتة، فهي غير محصورة في مخالفته لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجَر.

_ ١٤ _

بيعة يزيد

أحد موبقات معاوية الاربع(١)

إنَّ من موبقات معاوية وبوائقه - وهو بكلّه بوائق - أخذه البيعة لابنه « يزيد » على كُرهٍ من أهل الحلّ والعقد، ومراغمة لبقايا المهاجرين والأنصار، و إنكار من أعيان الصحابة الباقين، تحت بوارق الإرهاب، ومعها طلاة المطامع لأهل الشرَه والشهوات.

كان في خَلد معاوية يوم استقرّت له الملوكيّة وتمَّ له الملك العضوض أن يتّخذ ابنه وليّ عهده ويأخذ له البيعة، ويؤسّس حكومة أمويَّة مستقرّة في أبناء بيته، فلم يزل يروض الناس لبيعة سبع سنين يُعطي الأقارب ويُداني الأباعد(٢) وكان يبتلعه

____________________

١ - راجع كلمة الحسن البصرى المذكورة قبيل هذا صفحة ٢٢٥.

٢ - العقد الفريد ٢: ٣٠٢.

٢٢٧

طوراً، ويجترُّ به حيناً بعد حين، يمُهِّد بذلك السبيل، ويسهِّل حزونته، ولمـَّا مات زياد سنة ٥٣ وكان يكره تلك البيعة أظهر معاوية عهداً مفتعلاً - على زياد - فقرأه على الناس فيه عقد الولاية ليزيد بعده، وأراد بذلك أن يسهِّل بيعة يزيد كما قاله المدائني(١) وقال أبو عمر في الاستيعاب ١: ١٤٢: كان معاوية قد أشار بالبيعة ليزيد في حياة الحسن وعرض بها ولكنّه لم يكشفها ولا عزم عليها إلّا بعد موت الحسن.

قال ابن كثير في تاريخه ٨: ٧٩: وفي سنة ستّ خمسين دعا معاوية النّاس إلى البيعة ليزيد ولده أن يكون وليَّ عهده من بعده، وكان قد عزم قبل ذلك على هذا في حياة المغيرة(٢) بن شعبة، فروى ابن جرير من طريق الشعبي: أنّ المغيرة كان قد قدم على معاوية وأعفاه من إمرة الكوفة فأعفاه لكبره وضعفه، وعزم على توليتها سعيد بن العاص، فلمّا بلغ ذلك المغيرة كأنّه ندم، فجاء إلى يزيد بن معاوية فأشار عليه بأن يسأل من أبيه أن يكون وليَّ العهد فسأل ذلك من أبيه فقال: مَن أمرك بهذا؟ قال: المغيرة. فأعجب ذلك معاوية من المغيرة، وردّه إلى عمل الكوفة، وأمره أن يسعى في ذلك، فعند ذلك سعى المغيرة في توطيد ذلك، وكتب معاوية إلى زياد يستشيره في ذلك فكره زياد ذلك لما يعلم من لعب يزيد وإقباله على اللعب والصيد، فبعث إليه من يثني رأيه عن ذلك وهو عُبيد بن كعب النميري - وكان صاحباً أكيداً لزياد - فسار إلى دمشق فاجتمع بيزيد أوَّلا فكلّمه عن زياد وأشار عليه بأن لا يطلب ذلك، فإنّ تركه خيرٌ له من السعي فيه، فانزجر يزيد عمّا يريد من ذلك، واجتمع بأبيه واتّفقا على ترك ذلك في هذا الوقت، فلمّا مات زياد شرع معاوية في نظم ذلك والدعاء إليه، وعقد البيعة لولده يزيد، وكتب إلى الآفاق بذلك.

صورة أخرى

في بدء بدئها

كان ابتداء بيعة يزيد وأوَله من المغيرة بن شعبة فإنَّ معاوية أراد أن يعزله عن الكوفة

____________________

١ - العقد الفريد ٢: ٣٠٢، تاريخ الطبرى ٦: ١٧٠.

٢ - توفى المغيرة سنة خمسين وقدم على معاوية فى سنة خمس وأربعين واستعفاه من الامرة وهى سنة بدوّ فكر بيعة يزيد فى خلد معاوية بايعاز من المغيرة.

٢٢٨

ويستعمل عوضه سعيد بن العاص فبلغه ذلك فقال: الرأي أن أشخص إلى معاوية فاستعفيه ليظهر للناس كراهتي للولاية، فسار إلى معاوية وقال لأصحابه حين وصل إليه: إن لم أكسبكم الآن ولاية وإمارة لا أفعل ذلك أبداً، ومضى حتّى دخل على يزيد وقال له: إنّه قد ذهب أعيان أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكبراء قريش وذوو أسنانهم وإنّما بقي أبناؤهم وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأياً وأعلمهم بالسنّة والسياسة، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة؟ قال: أوَ ترى ذلك يتمّ؟ قال: نعم. فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة فأحضر المغيرة وقال له: ما يقول يزيد؟ فقال: يا أمير المؤمنين! قد رأيت ما كان من سفك الدماء والإختلاف بعد عثمان(١) وفي يزيد منك خلفٌ فاعقد له، فإن حدث بك حادثٌ كان كهفاً للناس وخلفاً منك ولا تسفك دماء ولا تكون فتنة. قال: ومَن لي بهذا؟ قال: أكفيك أهل الكوفة، ويكفيك زياد أهل البصرة، وليس بعد هذين المصرين أحدٌ يخالفك. قال: فارجع إلى عملك وتحدَّث مع مَن تثق إليه في ذلك، وترى ونرى. فودَّعه ورجع إلى أصحابه فقالوا: مَه. قال: لقد وضعت رِجل معاوية في غرز بعيد الغاية على اُمّة محمّد، وفتقت عليهم فتقاً لا يرتق أبدا. وتمثّل:

بمثلي شاهدي نجوى وغالى

بي الأعداء والخصم الغضابا

وسار المغيرة حتى قدم الكوفة وذاكر من يثق إليه ومن يعلم انّه شيعة لبني اميّة أمر يزيد فأجابوا إلى بيعته فأوفد منهم عشرة ويقال: أكثر من عشرة. وأعطاهم ثلاثين ألف درهم، وجعل عليهم ابنه موسى بن المغيرة وقدموا على معاوية فزيَّنوا له بيعة يزيد ودعوه إلى عقدها. فقال معاوية: لا تعجلوا باظهار هذا وكونوا على رأيكم، ثمَّ قال لموسى: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بثلاثين ألفاً. قال: لقد هان عليهم دينهم، وقيل: أرسل أربعين رجلاً وجعل عليهم ابنه عروة، فلمّا دخلوا على معاوية قاموا خطباء فقالوا: إنَّما أشخصهم إليه النظر لاُمّة محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا: يا أمير المؤمنين! كبرت سنّك وخفنا انتشار الحبل فانصب لنا علماً، وحدّ لنا حدّاً ننتهي إليه.

____________________

١ - ألا مسائل المغيرة عن أن هذا الشقاق والخلاف وسفك الدماء المحرّمة في عدم الاستخلاف هل كان يعلمها رسول الله صلى ‌الله‌ عليه ‌و آله‌ ؟ فلماذا ترك امّته سدى ولم يستخلف كما زعمه هو والسياسيون من رجال الانتخاب الدستورى؟.

٢٢٩

فقال: أشيروا عليَّ. فقالوا: نشير بيزيد بن أمير المؤمنين. فقال: أوَقد رضيتموه؟ قالوا: نعم. قال: وذلك رأيكم؟ قالوا: نعم، ورأي مَن وراءنا. فقال معاوية لعروة سرّاً عنهم: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال: بأربعمأة دينار. قال: لقد وجد دينهم عندهم رخيصاً، وقال لهم: ما ننظر ما قدمتهم له ويقضي الله ما أراد، والأناة خيرٌ من العجلة فرجعوا، وقوي عزم معاوية على البيعة ليزيد فأرسل إلى زياد يستشيره فأحضر زياد عبيد بن كعب النميري وقال له: إنّ لكلّ مستشير ثقة، ولكلّ سرّ مستودع، وإنَّ الناس قد أبدع بهم خصلتان: إذاعة السرّ، وإخراج النصيحة إلى غير أهلها، وليس موضوع السرّ إلّا أحد رجلين: رجلُ آخرة يرجو ثوابها، ورجل دنيا له شرف في نفسه، وعقل يصون حسبه، و قد خبرتهما منك، وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف: إنَّ أمير المؤمنين كتب يستشيرني في كذا وكذا، وانّه يتخوّف نفرة الناس، ويرجو طاعتهم، وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون مع ما قد أولع به من الصيد، فألق أمير المؤمنين وأدِّ إليه فعلات يزيد وقل له: رويدك بالأمر فأحرى لك أن يتمَّ لك، لا تعجل فإنَّ دركاً في تأخير خيرٌ من فوت في عجلة. فقال له عُبيد: أفلا غير هذا؟ قال. وما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تبغض إليه ابنه، واُلقي أنا يزيد فأخبره انَّ أمير المؤمنين كتب إليك، يستشيرك في البيعة له، وانّك تتخوَّف خلاف الناس عليه لهنات ينقمونها عليه، و إنَّك ترى له ترك ما ينقم عليه لتستحكم له الحجَّة على الناس، ويتمّ ما تريد فتكون قد نصحت أمير المؤمنين وسلمت ممّا تخاف من أمر الاُمَّة. فقال زياد: لقد رميت الأمر بحجره، أشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغشّ، وتقول بما ترى، ويقتضي الله بغيب ما يعلم، فقدم على يزيد فذكر ذلك له فكفَّ عن كثير ممّا كان يصنع، وكتب زياد معه إلى معاوية يشير بالتوءدة وأن لا يعجل، فقبل منه، فلمّا مات زياد عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد فأرسل إلى عبد الله بن عمر مائة ألف درهم فقبلها فلمّا ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر: هذا أراد، إنَّ ديني إذن لرخيصٌ وامتنع(١) .

____________________

١ - تاريخ الطبري ٦: ١٦٩، ١٧٠، كامل ابن الأثير ٣: ٢١٤، ٢١٥.

٢٣٠

بيعة يزيد فى الشام

وقتل الحسن السبط دونها

لمـّا اجتمعت عند معاوية وفود الأمصار بدمشق باحضار منه وكان فيهم الأحنف بن قيس دعا معاوية الضحاك بن قيس الفهري فقال له: إذا جلستُ على المنبر وفرغتُ من بعض موعظتي وكلامي فاستأذني للقيام فإذا أذنت لك فاحمد الله تعالى واذكر « يزيد » وقل فيه الذي يحقُّ له عليك من حسن الثناء عليه، ثمّ ادعني إلى توليته من بعدي فإنِّي قد رأيت وأجمعت على توليته، فأسأل الله في ذلك وفي غيره الخيرة وحسن القضاء، ثمَّ دعا عبد الرَّحمن بن عثمان الثقفي، وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وثور بن معن السّلمي، وعبد الله بن عصام الأشعري، فأمرهم أن يقوموا إذا فرغ الضحاك وأن يصدّقوا قوله ويدعوه إلى يزيد.

ثمَّ خطب معاوية فتكلّم القوم بعده على ما يروقه من الدعوة إلى يزيد فقال معاوية: أين الأحنف؟ فأجابه، قال: ألا تتكلّم؟ فقام الأحنف فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: أصلح الله أمير المؤمنين، انَّ الناس قد أمسوا في منكر زمان قد سلف، ومعروف زمان مؤتنف، و يزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف، وقد حلبت الدهر أشطره يا أمير المؤمنين! فاعرف من تسند إليه الأمر من يدك، ثمّ اعص أمر من يأمرك، لا يغررك مَن يشير عليك ولا ينظر لك وأنت انظر للجماعة واعلم باستقامة الطاعة، إنَّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّاً.

فغضب الضحّاك فقام الثانية فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: أصلح الله امير المؤمنين انَّ أهل النفاق من أهل العراق، مروءتهم في أنفسهم الشقاق، وألفتهم في دينهم الفراق، يرون الحقَّ على أهوائهم كأنَّما ينظرون بأقفائهم، اختالوا جهلاً وبطراً، لا يرقبون من الله راقبة، ولا يخافون وبال عاقبة، اتَّخذوا إبليس لهم ربّا، واتَّخذهم إبليس حزبا، فمن يقاربوه لا يسرّوه، ومَن يفارقوه لا يضرّوه، فادفع رأيهم يا أمير المؤمنين! في نحورهم، وكلامهم في صدورهم، ما للحسن وذوي الحسن في سلطان الله الذي استخلف به معاوية في أرضه؟ هيهات ولا تورث الخلافة عن كلالة، ولا يحجب غير الذكر العصبة، فوطِّنوا أنفسكم يا أهل العراق! على المناصحة لإمامكم وكاتب نبيّكم وصهره، يسلم لكم العاجل، ويربحوا من الآجل.

٢٣١

ثمَّ قام الأحنف بن قيس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: يا أمير المؤمنين! إنّا قد فررنا(١) عنك قريشاً فوجدناك أكرمها زنداً، وأشدَّها عقداً، وأوفاها عهداً، قد علمت انّك لم تفتح العراق عنوة، ولم تظهر عليها قعصا، ولكنّك أعطيت الحسن بن عليّ من عهود الله ما قد علمت ليكون له الأمر من بعدك، فإن تف فأنت أهل الوفاء، وإن تعذر تعلم والله انَّ وراء الحسن خيولاً جياداً، وأذرعاً شداداً، وسيوفاً حداداً، إن تدنُ له شِبراً من غدر، تجد وراءه باعاً من نصر، وإنَّك تعلم أنَّ أهل العراق ما أحبّوك منذُ أبغضوك، ولا أبغضوا عليّاً وحسناً منذُ أحبّوهما، وما نزل عليهم في ذلك خَبَرٌ من - السّماء، وإنَّ السيوف التي شهروها عليك مع عليّ يوم صفّين لعلى عواتقهم، والقلوب التي أبغضوك بها لَبين جوانحهم، وأيم الله إنّ الحسن لأحبّ إلى أهل العراق من عليّ.

ثمَّ قام عبد الرَّحمن بن عثمان الثقفي فأثنى على يزيد وحثَّ معاوية إلى بيعته فقام معاوية فقال:

أيُّها الناس: إنَّ لإبليس من الناس إخواناً وخُلاّناً، بهم يَستعدّ وإيّاهم يستعين، وعلى ألسنتهم ينطق، إن رجوا طمعاً أوجفوا، وإن استُغني عنهم أرجفوا، ثمّ يُلقحون الفتن بالفجور، ويشققون لها حطب النفاق، عيّابون مرتابون، أن لَووَا عروة أمر حنفوا، وإن دُعوا إلى غيّ أسرفوا، وليسوا اولئك بمنتهين، ولا بمقلعين، ولا متَّعظين حتّى تصيبهم صواعق خزي وبيل، وتحلُّ بهم قوارع أمر جليل، تجتثّ اصولهم كاجتثاث اصول الفقع(٢) فأولى لاولئك ثمَّ أولى، فإنّا قد قدَّمنا وأنذرنا إن أغنى التقدّم شيئاً أو نفع النُذُر.(٣)

فدعا معاوية الضحّاك فولّاه الكوفة، ودعا عبد الرَّحمن فولّاه الجزيرة.

ثمَّ قام الأحنف بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين! أنت أعلمنا بيزيدُ في ليله ونهاره وسرّه وعلانيته، ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لِلَّه رضاً ولهذه الاُمّة فلا تشاور الناس فيه، وإن كنت تعلم منه غير ذلك، فلا تزوِّده الدنيا وأنت صائرٌ إلى الآخرة،

____________________

١ - فر عن الامر: بحث عنه.

٢ - الفقع بالفتح والكسر: البيضاء الرخوة من الكمأة.

٣ - النذر: الانذار. قال تعالى: فكيف كان عذابى ونذر.

٢٣٢

فإنّه ليس لك من الآخرة إلّا ما طاب، واعلم أنَّه لا حجَّة لك عند الله إن قدّمت يزيد على الحسن والحسين، وأنت تعلم مَن هما، وإلى ما هما، وإنّما علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربَّنا وإليك المصير(١) .

قال الأميني: لمـّا حسَّ معاوية بدء إعرابه عمّا رامه من البيعة ليزيد انّ الفئة الصالحة من الاُمَّة قطّ لا تخبت إلى تلك البيعة الوبيلة ما دامت للحسن السبط الزكيِّ سلام الله عليه باقيةٌ من الحياة، على انَّه أعطى الإمام مواثيق مؤكّدة ليكون له الأمر من بعده، وليس له أن يعهد إلى أيّ أحد، فرأى توطيد السبل لجروه في قتل ذلك الإمام الطاهر، وجعل ما عهد له تحت قدميه، قال أبو الفرج: أراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيىٌء أثقل عليه من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص فدسَّ إليهما سمّاً فماتا منه(٢) .

وسيوافيك تفصيل القول في أنّ معاوية هو الذي قتل الحسن السبط سلام الله عليه.

عبد الرحمن بن خالد(٣)

في بيعة « يزيد »

خطب معاوية أهل الشام وقال لهم: يا أهل الشام انّه كبرت سنّي وقرب أجلي وقد أردت أن أعقد لرجل يكون نظاماً لكم، وإنّما أنا رجلٌ منكم فرؤا رأيكم.

فاصفقوا واجتمعوا وقالوا: رضينا عبد الرّحمن بن خالد بن الوليد، فشقّ ذلك على معاوية وأسرّها في نفسه، ثمّ انّ عبد الرَّحمن مرض فأمر معاوية طبيباً عنده يهوديّاً يقال له: إبن أثال. وكان عنده مكيناً، أن يأتيه فيسقيه سقية يقتله بها، فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات، ثمَّ دخل أخوه المهاجر بن خالد دمشق مستخفياً هو وغلام له فرصدا ذلك اليهوديّ فخرج ليلاّ من عند معاوية فهجم عليه ومعه قومٌ هربوا عنه فقتله المهاجر. وفي الأغاني: انَّه قتله خالد بن المهاجر فاُخذ واُتي به معاوية فقال له: لا جزاك الله من زائر

____________________

١ - الامامة والسياسة ١، ١٣٨ - ١٤٢.

٢ - مقاتل الطالبين ص ٢٩.

٣ - أدرك النبى صلى‌ الله‌ عليه ‌وآله‌ قال أبو عمر فى الاستيعاب: كان من فرسان قريش وشجعانهم كان له فضل وهدى حسن وكرم إلّا انّه كان منحرفا عن على عليه‌السلام وقال ابن حجر فى الاصابة: كان عظيم القدر عند أهل الشام.

٢٣٣

خيراً قتلت طبيبي. قال: قتلت المأمور وبقي الآمر(١) .

قال أبو عمر بعد ذكر القصّة: وقصّته هذه مشهورةٌ عند أهل السير والعلم بالآثار والأخبار اختصرناها، ذكرها عمر بن شبه في أخبار المدينة وذكرها غيره.

قال الأميني: وقعت هذه القصّة سنة ٤٦ وهي السنة الثانية من هاجسة بيعة يزيد....

سعيد بن عثمان

سنة خمس وخمسين

سأل سعيد بن عثمان معاوية أن يستعمله على خراسان فقال: إنَّ بها عبيد الله بن زياد(٢) فقال: أما لقد اصطنعك أبي ورفاك حتّى بلغت باصطناعه المدى الذي لا يُجارى إليه ولا يُسامى، فما شكرت بلاءه ولا جازيته بآلائه، وقدّمت عليّ هذا - يعني يزيد بن معاوية - وبايعت له ووالله لأنا خيرٌ منه أباً واُمّاً ونفساً. فقال معاوية: أمّا بلاء أبيك فقد يحقّ عليَّ الجزاء به، وقد كان من شكري لذلك انّي طلبت بدمه حتى تكشّفت الاُمور: ولست بلائم لنفسي في التشمير، وأمّا فضل أبيك على أبيه فأبوك والله خيرٌ منِّي وأقرب برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا فضل اُمّك على اُمّه فما ينكر امرأة من قريش خيرٌ من امرأة من كلب، وأمّا فضلك عليه فوالله ما اُحبّ أنّ الغوطة دَحَست ليزيد رجالاً مثلك فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين! إبن عمّك وأنت أحقُّ مَن نظر في أمره وقد عتب عليك لي فأعتبه(٣) .

وفي لفظ ابن قتيبة: فلمّا قدم معاوية الشام أتاه سعيد بن عثمان بن عفان، وكان شيطان قريش ولسانها قال: يا أمير المؤمنين! على مَ تبايع ليزيد وتتركني؟ فوالله لتعلم أنّ أبي خير من أبيه، واُمّي خيرٌ من اُمّه، وأنا خيرٌ منه، وإنَّك إنّما نلت ما أنت فيه بأبي. فضحك معاوية وقال: يا ابن أخي أمّا قولك: إنّ أباك خيرٌ من أبيه. فيوم من

____________________

١ - الاستيعاب ترجمة عبد الرحمن:، الاغانى ١٥: ١٣: تاريخ الطبرى ٦: ١٢٨ واللفظ لابي عمر.

٢ - سار الى خراسان فى اخريات سنة ٥٣ وأقام بها سنتين كما رواه الطبري فى تاريخه ٦: ١٦٦، ١٦٧.

٣ - تاريخ الطبرى ٦: ١٧١، تاريخ ابن كثير ٨: ٧٩، ٨٠.

٢٣٤

عثمان خيرٌ من معاوية. وأمّا قولك: إنَّ اُمّك خيرٌ من اُمِّه ففضل قرشيّة على كلبيّة فضلٌ بيّن. وأمّا أن أكون نلت ما أنا فيه بأبيك فإنّما هو الملك يؤتيه الله من يشاء، قتل أبوك رحمه الله فتواكلته بنو العاصي وقامت فيه بنو حرب، فنحن أعظم بذلك منّةً عليك، و أمّا تكون خيراً من يزيد فوالله ما اُحبّ انّ داري مملوءة رجالاً مثلك بيزيد، ولكن دعني من هذا القول وسلني اُعطك. فقال سعيد بن عثمان بن عفان: يا أمير المؤمنين! لا يعدم يزيد مزكّيا ما دمت له، وما كنت لأرضى ببعض حقّي دون بعض، فإذا أبيت فاعطني ممّا أعطاك الله. فقال معاوية: لك خراسان؟ قال سعيد: وما خراسان؟ قال: إنّها لك طعمة وصلة رحم. فخرج راضياً وهو يقول:

ذكرت أمير المؤمنين وفضله

فقلت: جزاه الله خيراً بما وصلْ

وقد سبقت منّي إليه بوادرٌ

من القول فيه آية العقل والزللْ

فعاد أمير المؤمنين بفضله

وقد كان فيه قبل عودته ميلْ

وقال: خراسان لك اليوم طعمة

فجوزي أمير المؤمنين بما فعلْ

فلو كان عثمان الغداة مكانه

لما نالني من ملكه فوق ما بذلْ

فلمّا انتهى قوله إلى معاوية أمر يزيد أن يزوّده وأمر إليه بخلعة وشيّعه فرسخاً(١) .

قال ابن عساكر في تاريخه ٦: ١٥٥: كان أهل المدينة يحبّون سعيداً ويكرهون يزيد، فقدم على معاوية فقال له: يا ابن أخي ما شيىءٌ يقوله أهل المدينة؟ قال: ما يقولون؟ قال: قولهم:

والله لا ينالها يزيدُ

حتّى يعضّ هامه الحديدُ

إنّ الأمير بعده سعيدُ

قال: ما تنكر من ذلك يا معاوية؟! والله إنَّ أبي لخيرٌ من أبي يزيد، ولاُمّي خيرٌ من اُمّه، ولأنا خيرٌ منه، ولقد استعملناك فما عزلناك بعدُ، ووصلناك فما قطعناك، ثمَّ صار في يديك ما قد ترى فحلاتنا عنه أجمع. فقال له: أمّا قولك. الحديث.

____________________

١ - الامامة والسياسة ١: ١٥٧.

٢٣٥

وقال: حكى الحسن بن رشيق قصّة سعيد مع معاوية بأطول ممّا مرّ - ثمَّ ذكر حكاية ابن رشيق - وفيها: فوّلاه معاوية خراسان وأجازه بمائة ألف درهم.

كتب معاوية فى بيعة يزيد

كتب معاوية إلى مروان بن الحكم: إنيِّ قد كبرت سنّي، ودقَّ عظمي، وخشيت الإختلاف على الاُمّة بعدي، وقد رأيت أن أتخيّر لهم من يقوم بعدي، وكرهت أن أقطع أمراً دون مشورة من عندك، فأعرض ذلك عليهم وأعلمني بالذي يردّون عليك.

فقام مروان في الناس فأخبرهم به فقال الناس: أصاب ووفّق، وقد أجبنا أن يتخيّر لنا فلا يألو. فكتب مروان إلى معاوية بذلك فأعاد إليه الجواب يذكر « يزيد » فقام مروان فيهم وقال: إنَّ أمير المؤمنين قد اختار لكم فلم يأل وقد استخلف ابنه يزيد بعده فقام عبد الرّحمن بن أبي بكر فقال: كذبت والله يا مروان! وكذب معاوية، ما الخيار أردتما لامّة محمّد ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقليّة كلّما مات هرقل قام هرقل. فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه:( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا ) . الآية، فسمعت عائشة مقالته من وراء الحجاب وقالت: يا مروان! يا مروان! فأنصت الناس وأقبل مروان بوجهه فقالت: أنت القائل لعبد الرّحمن انّه نزل فيه القرآن كذبت والله ما هو به و لكنّه فلان بن فلان، ولكنّك أنت فضضٌ من لعنة نبيّ الله(١)

وقام الحسين بن علي فأنكر ذلك، وفعل مثله ابن عمر، وابن الزبير، فكتب مروان بذلك إلى معاوية، وكان معاوية قد كتب إلى عمّاله بتقريظ يزيد ووصفه وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار فكان فيمن أتاه محمّد بن عمرو بن حزم من المدينة، و الاحنف بن قيس في وفد أهل البصرة، فقال محمّد بن عمرو لمعاوية: إنَّ كلّ راع مسؤل عن رعيَّته فانظر من تولي أمر امّة محمّد فأخذ معاوية بهر(٢) حتى جعل يتنفّس في يوم شاتٍ ثمّ وصله وصرّفه. وأمر الأحنف أن يدخل على يزيد فدخل عليه فلمّا خرج من عنده قال له: كيف رأيت ابن أخيك؟ قال: رأيت شباباً ونشاطاً وجلداً ومزاحاً، ثمّ إنّ

____________________

١ - راجع ما أسلفناه فى الجزء الثامن ص ٢٥٢، ٢٥٣ ط ١.

٢ - البهر: انقطاع النفس من الاعياء.

٢٣٦

معاوية قال للضحّاك بن قيس الفهري: لمـّا اجتمع الوفود عنده انّي متكلمٌ فإذا سكتُّ فكن أنت الذي تدعو إلى بيعة يزيد وتحثّني عليها. فلمّا جلس معاوية للناس تكلّم فعظّم أمر الإسلام وحرمة الخلافة وحقّها وما أمر الله به من طاعة ولاة الأمر ثمّ ذكر يزيد وفضله وعلمه بالسياسة وعرض ببيعته فعارضه الضحاك، فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: يا أمير المؤمنين! انّه لا بدّ للناس من والٍ بعدك وقد بلونا الجماعة والاُلفة فوجدناهما أحقن للدماء، وأصلح للدهماء، وآمن للسبل، وخيرًا في العاقبة، والأيّام عوج رواجع والله كلّ يوم هو في شأن، ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن هديه وقصد سيرته على ما علمت، وهو من أفضلنا علماً وحلماً وأبعدنا رأياً، فولّه عهدك، واجعله لنا علماً بعدك، ومفزعاً نلجأ إليه، ونسكن في ظلّه، وتكلّم عمرو بن سعيد الأشدق بنحو من ذلك، ثمّ قام يزيد بن المقنع العذري فقال: هذا أمير المؤمنين وأشار إلى معاوية، فإن هلك فهذا وأشار إلى يزيد، ومَن أبى فهذا وأشار إلى سيفه، فقال معاوية: اجلس فأنت سيّد الخطباء. وتكلّم من حضر من الوفود

فقال معاوية للأحنف: ما تقول يا أبا بحر؟ فقال: نخافكم إن صدقنا، ونخاف الله إن كذبنا، وأنت أمير المؤمنين أعلم بيزيد في ليله ونهاره وسرِّه وعلانيته ومدخله و مخرجه، فإن كنت تعلمه لِلَّه تعالى وللامّة رضا فلا تشاور فيه، وإن كنت تعلم فيه غير ذلك فلا تزوّده الدنيا وأنت صائرٌ إلى الآخرة، وإنّما علينا أن نقول: سمعنا وأطعنا. وقام رجلٌ من أهل الشام فقال: ما ندري ما تقول هذه المعديَّة العراقيّة، وإنّما عندنا سمعٌ وطاعةٌ وضربٌ وازدلاف. فتفرّق الناس يحكون قول الأحنف، وكان معاوية يعطي المقارب، ويُداري المباعد ويلطف به، حتّى استوثق له أكثر الناس وبايعه(١) .

صورة اخرى

قالوا: ثمَّ لم يلبث معاوية بعد وفاة الحسن رحمه الله إلّا يسيراً أن بايع ليزيد بالشام، وكتب بيعته إلى الآفاق، وكان عامله على المدينة مروان بن الحكم فكتب إليه يذكر الذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد، ويأمره بجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة يبايعوا ليزيد.

____________________

١ - العقد الفريد ٢: ٣٠٢ - ٣٠٤، الكامل لابن الاثير ٣: ٢١٤ - ٢١٦.

٢٣٧

فلمّا قرأ مروان كتاب معاوية أبى من ذلك وأبته قريشٌ فكتب لمعاوية: انَّ قومك قد أبوا إجابتك إلى بيعتك ابنك فأرني رأيك. فلمّا بلغ معاوية كتاب مروان عرف ذلك من قبله فكتب إليه يأمره أن يعتزل عمله، ويخبره أنّه قد ولّى المدينة سعيد بن العاص، فلمّا بلغ مروان كتاب معاوية أقبل مغاضباً في أهل بيته وناس كثير من قومه حتّى نزل بأخواله بني كنانة فشكا إليهم وأخبرهم بالذي كان من رأيه في أمر معاوية وفي عزله و استخلافه يزيد ابنه عن غير مشاورة مبادرة له، فقالوا: نحن نبلك في يدك، وسيفك في قرابك، فمن رميته بنا أصبناه، ومن ضربته قطعناه، الرأي رأيك، ونحن طوع يمينك. ثمَّ أقبل مروان في وفد منهم كثير ممّن كان معه من قومه وأهل بيته حتى نزل دمشق فخرج حتى أتى سدَّة معاوية وقد أذن للناس، فلمّا نظر الحاجب إلى كثرة مَن معه من قومه وأهل بيته منعه من الدخول، فوثبوا إليه فضربوا وجهه حتَّى خلى عن الباب، ثمَّ دخل مروان ودخلوا معه حتى إذا كان معاوية بحيث تناله يده، قال بعد التسليم عليه بالخلافة: إنّ الله عظيمٌ خطره، لا يقدر قادرٌ قدره، خلق من خلقه عباداً جعلهم لدعائم دينه أوتاداً، هم رقباؤه على البلاد، وخلفاؤه على العباد، أسفر بهم الظلم وألّف بهم الدين، وشدَّد بهم اليقين، ومنح بهم الظفر، ووضع بهم من استكبر، فكان من قبلك من خلفائنا يعرفون ذلك في سالف زماننا، وكنّا نكون لهم على الطاعة اخواناً، وعلى من خالف عنّا أعواناً، يُشدّ بنا العضد، ويُقام منّا الأوَد، ونُستشار في القضيّة، ونستأمر في أمر الرعيّة، وقد أصبحنا اليوم في امور مستخيرة، ذات وجوه مستديرة، تفتح بأزمَّة الضَّلال، وتجلس بأسوأ الرجال، يؤكل جزورها ونمق أحلابها، فما لنا لا نستأمر في رضاعها ونحن فطامها وأولاد فطامها؟ وأيم الله لولا عهودٌ مؤكّدة ومواثيق معقّدة لأقمت أوَد وليّها، فأقم الأمر يا بن أبي سفيان واهدأ من تأميرك الصبيان، واعلم أنَّ لك في قومك نظراً وإنَّ لهم على مناوأتك وزرا.

فغضب معاوية من كلامه غضباً شديداً ثمّ كظم غيظه بحلمه وأخذ بيد مروان ثمّ قال: إنّ الله قد جعل لكلِّ شيىء أصلاً، وجعل لكلِّ خير أهلاً، ثمّ جعلك في الكرم منِّي محتدا والعزيز مني والداً، اخترت من قروم قادة، ثمّ استللت سيّد سادة، فأنت

٢٣٨

ابن ينابيع الكرام(١) ، فمرحباً بك وأهلاً من ابن عمّ، ذكرت خلفاء مفقودين شهداء صدّيقين، كانوا كما نعتَّ، وكنت لهم كما ذكرت، وقد أصبحنا في امور مستخيرة ذات وجوه مستديرة، وبك والله يا بن العمّ نرجو استقامة أوَدها، وذلولة صعوبتها، وسفور ظلمتها، حتّى يتطأطأ جسيمها، ويركب بك عظيمها، فأنت نظير أمير المؤمنين بعده وفي كلِّ شيىء عضده، وإليك بعد عهده، فقد ولّيتك قومك، وأعظمنا في الخراج سهمك، وأنا مجيزٌ وفدك، ومحسنٌ رفدك، وعلى أمير المؤمنين غناك، والنزول عند رضاك.

فكان أوّل ما رزق ألف دينار في كلِّ هلال، وفرض له في أهل بيته مائة مائة.

كتاب معاوية الى سعيد

إنّ معاوية كتب إلى سعيد بن العاص وهو على المدينة يأمره أن يدعو أهل المدينة إلى البيعة ويكتب إليه بمن سارع ممّن لم يسارع، فلمَّا أتى سعيد بن العاص الكتاب دعا الناس إلى البيعة ليزيد وأظهر الغلظة، وأخذهم بالعزم والشدَّة، وسطا بكلِّ مَن أبطأ عن ذلك، فأبطأ الناس عنها إلّا اليسير لا سيّما بني هاشم فإنّه لم يجبه منهم أحدٌ، وكان ابن الزبير من أشدِّ الناس انكاراً لذلك، وردّاً له، فكتب سعيد بن العاص إلى معاوية:

أمّا بعد: فإنّك أمرتني أن أدعو الناس لبيعة يزيد ابن أمير المؤمنين وأن أكتب إليك بمن سارع ممّن أبطأ، وإنِّي اخبرك انّ الناس عن ذلك بطاء لا سيّما أهل البيت من بني هاشم، فإنّه لم يجبني منهم أحدٌ، وبلغني عنهم ما أكره، وأمّا الذي جاهر بعداوته وإبائه لهذا الأمر فعبد الله بن الزبير، ولست أقوى عليهم إلَّا بالخيل والرجال، أو تقدم بنفسك فترى رأيك في ذلك، والسّلام،

فكتب معاوية إلى عبد الله بن العباس، وإلى عبد الله بن الزبير، وإلى عبد الله بن جعفر، والحسين بن عليّ رضي الله عنهم كتباً وأمر سعيد بن العاص أن يوصلها إليهم ويبعث بجواباتها وكتب إلى سعيد بن العاص:

____________________

١ - قايس بين هذه الاطرائات الفارغة المكذوبة وبين قوله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ لذلك الطريد بن الطريد الوزغ بن الوزغ، اللعين بن اللعين. ونحن لو اعطينا لمعاوية حق المقام لقلنا: مكره أخوك لا بطل.

٢٣٩

أمّا بعد: فقد أتاني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه من إبطاء الناس عن البيعة ولا سيّما بني هاشم وما ذكر ابن الزبير، وقد كتبت إلى رؤسائهم كتباً فسلّمها إليهم وتنجز جواباتها وابعث بها حتّى أرى في ذلك رأيي، ولتشدّ عزيمتك، ولتصلب شكيمتك، و تحسن نيّتك، وعليك بالرِّفق، وإيّاك والخرق، فإنَّ الرّفق رشدٌ، والخرق نكدٌ، وانظر حسيناً خاصّة فلا يناله منك مكروهٌ، فإنَّ له قرابة وحقّاً عظيماً لا ينكره مسلمٌ ولا مسلمة، وهو ليث عرين، ولست آمنك أن تشاوره أن لا تقوى عليه. فأمّا من يرد مع السباع إذا وردت، ويكنس إذا كنست فذلك عبد الله بن الزبير، فاحذره أشدّ الحذر، ولا قوَّة إلّا بالله، وأنا قادمٌ عليك إن شاء الله. والسَّلام(١) .

قال الأميني: يقولون بأفواهم ما ليس في قلوبهم. نعم: والحقُّ انَّ للحسين و لأبيه وأخيه قرابة وحقّاً عظيماً لا ينكره مسلمٌ ولا مسلمةٌ إلّا معاوية وأذنابه الذين قلّبوا عليهم ظهر المجنّ بعد هذا الاعتراف الذي جحدوا به واستيقنته أنفسهم، بعد أن حليت الأيّام لهم درّتها، فضيّعوا تلك القرابة، وأنكروا ذلك الحقَّ العظيم، وقطعوا رحماً ماسّة إن كان بين الطلقاء وسادات الامّة رحمٌ.

هيهات لا قرَّبت قربى ولا رحم

يوماً إذا أقصت الأخلاق والشيمُ

كانت مودَّة سلمان له رحماً

ولم يكن بين نوح وابنه رحمُ(٢)

كتاب معاوية الى الحسينعليه‌السلام :

أمّا بعد: فقد انتهت إليّ منك امورٌ لم أكن أظنّك بها رغبة عنها، وانّ أحقّ الناس بالوفاء لمن أعطي بيعته من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، فلا تنازع إلى قطيعتك، واتّق الله، ولا تردنَّ هذه الاُمّة في فتنة، وانظر لنفسك ودينك وامّة محمّد، ولا يستخفنّك الذين لا يوقنون.

فكتب إليه الحسين رضي الله عنه:

أمّا بعد: فقد جاءني كتابك تذكر فيه انّه انتهت إليك عنّي امورٌ لم تكن

____________________

١ - الامامة والسياسة لابن قتيبة ١: ١٤٤ - ١٤٦.

٢ - من قصيدة للامير أبى فراس الشهيرة.

_١٥_

٢٤٠

تظنّني بها رغبة بي عنها. وإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يسدِّد إليها إلّا الله تعالى، وأمّا ما ذكرت انّه رقى إليك عنّي فإنّما رقاه الملّاقون المشّاؤون بالنميمة المفرِّقون بين الجمع، وكذب الغاوون المارقون، ما أردت حرباً ولا خلافاً، وإنِّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ومن حزبك القاسطين المحلّين، حزب الظالم، وأعوان الشيطان الرجيم. إلى آخر الكتاب(١) .

كتاب معاوية إلى عبد الله بن جعفر:

كتب إلى عبد الله: أما بعد: فقد عرفت أثرتي إيّاك على مَن سواك، وحُسن رأيي فيك وفي أهل بيتك، وقد أتاني عنك ما أكره، فإن بايعت تُشكر، وإن تأب تُجبر، والسَّلام.

فكتب إليه عبد الله بن جعفر:

أمّا بعد: فقد جاءني كتابك، وفهمت ما ذكرتَ فيه من أثرتك إيّاي على مَن سواي، فإن تفعل فبحظّك أصبتَ، وإن تأبَ فبنفسك قصَّرتَ، وأمّا ما ذكرت من جبرك إيّاي على البيعة ليزيد فلعمري لئن أجبرتني عليها لقد أجبرناك وأباك على الإسلام حتى أدخلناكما كارهَين غير طائعين؟ والسَّلام. الإمامة والسياسة ١: ١٤٧، ١٤٨.

وكتب معاوية إلى عبد الله بن الزبير:

رأيت كرام الناس إن كفّ عنهمُ

بحلم رأوا فضلاً لمن قد تحلّما

ولا سيّما إن كان عفواً بقدرة

فذلك أحرى أن يجلّ ويعظما

ولست بذي لؤم فتعذر بالذي

أتيته من أخلاق مَن كان ألوما

ولكنَّ غشّاً لست تعرف غيره

وقد غشَّ قبل اليوم إبليس آدما

فما غشَّ إلّا نفسه في فعا له

فأصبح ملعوناً وقد كان مكرما

وانِّي لأخشى أن أنا لك بالذي

أردت فيجزي الله مَن كان أظلما

فكتب عبد الله بن الزبير إلى معاوية:

ألا سمع الله الذي أنا عبده

فأخزى إله الناس من كان أظلما

وأجرى على الله العظيم بحلمه

وأسرعهم في الموبقات تقحّما

____________________

١ - مرّ بتمامه فى هذا الجزء صفحة ١٦٠.

٢٤١

أغرَّك أن قالوا: حليم بعزَّة

وليس بذي حلم ولكن تحلّما

ولو رمت ما أن قد عزمت وجدتني

هزبر عرين يترك القرنِ أكتما

وأقسم لولا بيعة لك لم أكن

لأنقضها لم تنج منِّي مسلما

الامامة والسياسة ١: ١٤٧، ١٤٨.

بيعة يزيد

في المدينة المشرّفة

حجّ معاوية في سنة ٥٠، واعتمر في رجب سنة ٥٦ وكان في كلا السّفرين يسعى وراء بيعة يزيد، وله في ذلك خطوات واسعة ومواقف ومفاوضات مع بقيّة الصّحابة ووجوه الاُمّة، غير أنّ المؤرِّخين خلطوا أخبار الرِّحلتين بعضها ببعض وما فصّلوها تفصيلاً.

الرحلة الاولى

قال ابن قتيبة: قالوا: إستخار الله معاوية وأعرض عن ذكر البيعة حتّى قدم المدينة سنة خمسين فتلقّاه الناس فلمّا استقرّ في منزله أرسل إلى عبد الله بن عبّاس، وعبد الله ابن جعفر بن أبي طالب، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس حتّى يخرج هؤلاء النفر فلمّا جلسوا تكلّم معاوية فقال: ألحمد لِلّه الذي أمرنا بحمده، ووعدنا عليه ثوابه، نحمده كثيراً كما أنعم علينا كثيراً، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وانّ محمّداً عبده ورسوله. أمّا بعد: فإنِّي قد كبر سنيّ ووهن عظمي، وقرب أجلي، وأوشكت أن اُدعى فاُجيب، وقد رأيت أن استخلف عليكم بعدي يزيد ورأيته لكم رضا وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها، ولم يمنعني أن اُحضر حسناً وحسيناً إلّا أنّهما أولاد أبيهما، على حسن رأيي فيهما وشديد محبّتي لهما، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً يرحمكم الله.

فتكلّم عبد الله بن العبّاس فقال:

ألحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن بلائه، و أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وانّ محمّداً عبده ورسوله، وصلّى الله على محمّد وآل محمّد.

أمّا بعد: فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا، وقلت فسمعنا، وإنَّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست

٢٤٢

أسماؤه اختار محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرسالته، واختاره لوحيه، وشرّفه على خلقه، فأشرف الناس من تشرّف به، وأولاهم بالأمر أخصّهم به، وإنَّما على الاُمّة التسليم لنبيِّها إذ إختاره الله لها فإنّه إنّما اختار محمّداً بعلمه، وهو العليم الخبير، واستغفر الله لي ولكم.

فقام عبد الله بن جعفر فقال:

ألحمد لِلَّه أهل الحمد ومُنتهاه، نحمده على إلها منا حمده، ونرغب إليه في تأدية حقِّه، وأشهد أن لا إله إلّا الله واحداً صمداً لم يتّخذ صاحبةً ولا ولدا، وانَّ محمّداً عبده ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أمّا بعدُ: فإنَّ هذه الخلافة إن اُخذ فيها بالقرآن؟ فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله. وإن اُخذ فيها بسنَّة رسول الله؟ فأولوا رسول الله، وإن اُخذ بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر فأيُّ الناس أفضل وأكمل وأحقُّ بهذا الأمر من آل الرَّسول؟ و أيم الله لو ولوه بعد نبيّهم لوضعوا الامر موضعه، لحقِّه وصدقه، ولاُطيع الله، وعُصي الشيطان، وما اختلف في الأمّة سيفان، فاتَّق الله يا معاوية! فانَّك قد صرت راعياً ونحن الرعيَّة، فانظر لرعيّتك، فانَّك مسئولٌ عنها غداً، وأمّا ما ذكرت من ابني عمّي. وتركك أن تحضرهما، فوالله ما أصبت الحقَّ، ولا يجوز لك ذلك إلّا بهما، وإنَّك لتعلم أنَّهما معدن العلم والكرم، فقُلْ أو دع، وأستغفر الله لي ولكم.

فتكلّم عبد الله بن الزبير فقال:

ألحمد لله الذي عرّفنا دينه، وأكرمنا برسوله، أحمده على ما أبلى وأولى، وأشهد أن لا إله إلّا الله. وأنَّ محمّداً عبده ورسوله. أمّا بعد: فإنَّ هذه الخلافة لقريش خاصَّة، تتناولها بمآثرها السنيَّة، وأفعالها المرضيَّة، مع شرف الآباء، وكرم الأبناء، فاتّقِ الله يا معاوية! وأنصف من نفسك، فانَّ هذا عبد الله بن عبّاس ابن عمِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، ابن عمِّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليٌّ خلّف حسناً وحسيناً، وأنت تعلم مَن هما، وما هما، فاتَّق الله يا معاوية! وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

فتكلّم عبد الله بن عمر فقال:

ألحمد لِلَّه الذي أكرمنا بدينه وشرّفنا بنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا بعد: فإنَّ هذه الخلافة ليست بهرقليَّة، ولا قيصريَّة، ولا كسرويَّة، يتوارثها الأبناء عن الآباء، ولو كان كذلك

٢٤٣

كنتُ القائم بها بعد أبي، فوالله ما أدخلني مع الستَّة من أصحاب الشورى، إلّا أنَّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً، وإنَّما هي في قريش خاصَّة، لمن كان لها أهلاً، ممَّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم، مَن كان أتقى وأرضى، فإن كنتَ تريد الفتيان من قريش، فلعمري إنَّ يزيد من فتيانها، واعلم أنَّه لا يُغني عنك من الله شيئاً.

فتكلم معاوية فقال:

قد قلتُ وقلتم، وإنَّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء، فإبني أحبُّ إليَّ من أبنائهم، مع أنَّ ابني إن قاولتموه وجد مقالاً، وإنَّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف، لأنَّهم أهل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولَّى الناسُ أبا بكر وعمر، من غير معدن الملك والخلافة، غير أنّهما سارا بسيرة جميلة، ثمَّ رجع الملك إلى بني عبد مناف، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة، وقد أخرجك الله يا ابن الزبير وأنت يا ابن عمر منها، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله.

ثمَّ أمر بالرحلة وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد، ولم يقطع عنهم شيئاً من صلاتهم وأعطياتهم، ثمَّ انصرف راجعاً إلى الشام، وسكت عن البيعة، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين.

الإمامة والسياسة ١: ١٤٢ - ١٤٤، جمهرة الخطب ٢: ٢٣٣ - ٢٣٦.

قال الأميني: لم يذكر في هذا اللفظ ما تكلّم به عبد الرَّحمن، ذكره ابن حجر في الإصابة ٢: ٤٠٨ قال: خطب معاوية فدعا الناس إلى بيعة يزيد، فكلّمه الحسين ابن علي، وابن الزبير، وعبد الرَّحمن بن أبي بكر، فقال له عبد الرَّحمن: أهرقليّة؟ كلّما مات قيصر كان قيصر مكانه، لا نفعل والله أبداً.

صورة اخرى

من محاورة الرحلة الاُولى

قدم معاوية المدينة حاجّاً(١) فلمّا أن دنى من المدينة خرج إليه الناس يتلقّونه ما بين راكبٍ وماشٍ، وخرج النساء والصبيان، فلقيه الناس على حال طاقتهم وما تسارعوا به في القوت والقرب، فلان لمن كافحه، وفاوض العامَّة بمحادثته، وتألَّفهم جهده مقاربة

____________________

١ - من المتسالم عليه انّ معاوية حجّ فى سنة خمسين.

٢٤٤

ومصانعة ليستميلهم إلى ما دخل فيه الناس، حتى قال في بعض ما يجتلبهم به أهل المدينة: ما زلت أطوي الحزن من وعثاء السفر بالحبِّ لمطالعتكم حتى انطوى البعيد، ولان الخشن، وحقّ لجار رسول الله أن يُتاق إليه. فردَّ عليه القوم: بنفسك ودارك ومهاجرك أما انَّ لك منهم كأشفاق الحميم البرّ والحفيِّ. حتى إذا كان بالجرف لقيه الحسين بن علي وعبد الله بن عبّاس فقال معاوية: مرحباً بابن بنت رسول الله، وابن صنو أبيه. ثمّ انحرف إلى الناس فقال: هذان شيخا بني عبد مناف. وأقبل عليهما بوجهه وحديثه فرحَّب وقرَّب وجعل يواجه هذا مرَّة، ويضاحك هذا اُخرى. حتى ورد المدينة، فلمّا خالطها لقيته المشاة والنساء والصبيان يسلّمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل، فانصرفا عنه، فمال الحسين إلى منزله، ومضى عبد الله بن عبّاس إلى المسجد، فدخله، وأقبل معاوية ومعه خلقٌ كثيرٌ من أهل الشام حتى أتى عائشة امّ المؤمنين فاستأذن عليها فأذنت له وحده لم يدخل عليها معه أحدٌ وعندها مولاها ذكوان فقالت عائشة: يا معاوية! أكنت تأمن أن اقعد لك رجلاً فأقتلك كما قتلت أخي محمّد بن أبي بكر؟ فقال معاوية: ما كنت لتفعلين ذلك. قالت: لِمَ؟ قال: لأنِّي في بيت أمن، بيت رسول الله. ثمَّ أنَّ عائشة حمدت الله وأثنت عليه وذكرت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكرت أبا بكر وعمر، وحضّته على الإقتداء بهما والاتّباع لأثرهما، ثمَّ صمتت، قال: فلم يخطب معاوية وخاف أن يبلغ ما بلغت فارتجل الحديث ارتجالاً ثمَّ قال:

أنت والله يا امّ المؤمنين! العالمة بالله وبرسوله دللتنا على الحقِّ، وحضضتنا على حظِّ أنفسنا، وأنت أهلٌ لأن يُطاع أمرك، ويُسمع قولك، وإنَّ أمر يزيد قضاءٌ من القضاء، وليس للعباد الخيرة من أمرهم؟ وقد أكّد النّاس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم، أفترى أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم؟!

فلمّا سمعت ذلك عائشة علمت أنّه سيمضي على أمره فقالت: أمّا ما ذكرت من عهود ومواثيق فاتّق الله في هؤلاء الرهط، ولا تعجل فيهم، فعلّهم لا يصنعون إلّا ما أحببت.

ثمَّ قام معاوية فلمّا قام قالت عائشة: يا معاوية! قتلت حُجراً وأصحابه العابدين المجتهدين. فقال معاوية: دعي هذا، كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟ قالت: صالح. قال: فدعينا وإيّاهم حتى نلقى ربّنا.

٢٤٥

ثمَّ خرج ومعه ذكوان فاتَّكأ على يد ذكوان وهو يمشي ويقول: تالله إن رأيت كاليوم قطّ خطيباً أبلغ من عائشة بعد رسول الله، ثمَّ مضى حتى أتى منزله، فأرسل إلى الحسين بن علي فخلا به فقال له: يا بن أخي قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، يا بن أخي! فما أربك إلى الخلاف، قال الحسين: أرسل إليهم فإن بايعوك كنتُ رجلاً منهم، وألا تكن عجلت عليَّ بأمر. قال: نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحداً، فخرج وقد أقعد له ابن الزبير رجلاً بالطريق فقال: يقول لك أخوك ابن الزبير: ما كان؟ فلم يزل به حتى استخرج منه شيئاً.

ثمَّ أرسل معاوية إلى ابن الزبير فخلا به فقال له: قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم يا بن أخي فما أربك إلى الخلاف، قال: فارسل إليهم فإن بايعوك كنت رجلاً منهم، وأن لا تكن عجلت عليَّ بأمر. قال: وتفعل؟ قال: نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحداً.

فأرسل بعده إلى ابن عمر فأتاه وخلا به فكلّمه بكلام هو ألين من صاحبيه، وقال: إنّي كرهت أن أدع امّة محمّد بعدي كالضان لا راعى لها(١) وقد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر أنت تقودهم فما أربك إلى الخلاف، قال ابن عمر: هل لك في أمر تحقن به الدماء، وتدرك به حاجتك؟! فقال معاوية: وددت ذلك. فقال ابن عمر: تبرز سريرك ثمّ أجيء فابايعك على أنّي أدخل فيما اجتمعت عليه الاُمة، فوالله لو أنّ الاُمّة اجتمعت على عبد حبشيّ لدخلت فيما تدخل فيه الاُمَّة. قال: وتفعل؟ قال: نعم ثمَّ خرج.

وأرسل إلى عبد الرَّحمن بن أبي بكر فخلا به قال: بأيِّ يد أو رجل تقدم على معصيتي؟ فقال عبد الرّحمن: أرجو أن يكون ذلك خيراً لي. فقال معاوية: والله لقد هممت أن أقتلك. فقال: لو فعلت لأتبعك الله في الدنيا، ولأدخلك في الآخرة النار. ثمّ خرج.

بقي معاوية يومه ذلك يُعطي الخواصَّ. ويُدني بذمّة الناس، فلمّا كان صبيحة اليوم

____________________

١ - أتصدّق انّ محمداً صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ ترك امّته كالضان لا راعى لها ولم يرض بذلك معاوية؟! حاشا نبىّ الرحمة عن أن يدع الامّة كما يحسبون، غير أنهم نبذوا وصيته وراء ظهورهم، وجروا الويلات على الامة حتى اليوم.

٢٤٦

الثاني أمر بفراش فوضع له وسوّيت مقاعد الخاصّة حوله وتلقاءه من أهله، ثمّ خرج وعليه حلّةٌ يمانيَّةٌ وعمامةٌ دكناء وقد أسبل طرفها بين كتفيه وقد تغلّف وتعطّر فقعد على سريره وأجلس كتّابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من النّاس وإن قرب، ثمّ أرسل إلى الحسين بن علي وعبد الله بن عبّاس فسبق ابن عبّاس فلمّا دخل وسلّم عليه أقعده في الفراش على يساره فحادثه مليّاً ثمَّ قال: يا بن عبّاس لقد وفَّر الله حظّكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرَّسولعليه‌السلام . فقال ابن عبّاس: نعم أصلح الله أمير المؤمنين، وحظّنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكلِّ أوفر. فجعل معاوية يحدِّثه ويحيد به عن طريق المجاوبة، ويعدل إلى ذكر الأعمار على اختلاف الغرائز والطبائع، حتَّى أقبل الحسين بن علي فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة كانت عن يمينه فدخل الحسين وسلّم فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم فأخبره ثمَّ سكت، ثمَّ ابتدأ معاوية فقال:

أمّا بعد: فالحمد لِلَّه وليِّ النعم، ومنزل النقم، وأشهد أن لا إله إلّا الله المتعالي عمّا يقول الملحدون علوّاً كبيرا، وانَّ محمّداً عبده المختصّ المبعوث إلى الجنِّ والإنس كافَّة لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فأدّى عن الله وصدع بأمره، وصبر عن الأذى في جنبه، حتى أوضح دين الله، وأعزَّ أولياءه، و قمع المشركين، وظهر أمر الله وهم كارهون، فمضى صلوات الله عليه وقد ترك من الدنيا ما بذل له، واختار منها الترك لما سخر له زهادةً واختياراً لِلَّه، وأنفة واقتداراً على الصبر، بغياً لما يدوم ويبقى، فهذه صفة الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكّوك، وبين ذلك خوض طول ما عالجناه مشاهدةً ومكافحةً ومعاينةً وسماعاً، وما أعلم منه فوق ما تعلمان، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه، وقد علم الله ما اُحاول به من أمر الرعيَّة من سدّ الخلل، ولمِّ الصَّدع بولاية يزيد، بما أيقظ العين، وأحمد الفعل، هذا معناي في يزيد وفيكما فضل القرابة، وحظوة العلم، وكمال المروءة، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما، مع علمه بالسنَّة وقراءة القرآن، والحلم الذي يرجح بالصمّ الصلاب، وقد علمتما انّ الرَّسول المحفوظ بعصمة الرِّسالة قدَّم على الصدّيق والفاروق ودونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين

٢٤٧

يوم غزوة السلاسل من لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنَّة مذكورة، فقادهم الرجل بإمرة، وجمع بهم صلاتهم، وحفظ عليهم فيئهم، وقال ولم يقل معه، وفي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوةٌ حسنة، فمهلاً بني عبد المطلب فأنا وأنتم شعبا نفع وجدّ، وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما، فما يقول القائل إلّا بفضل قولكما، فردّا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما، واستغفر الله لي ولكما.

كلمة الامام السبط:

فتيسَّر ابن عبّاس للكلام ونصب يده للمخاطبة فأشار إليه الحسين وقال: على رسلك، فأنا المراد: ونصيبي في التُّهمة أوفر. فأمسك ابن عبّاس فقام الحسين فحمد الله و صلّى على الرَّسول ثمّ قال:

أمّا بعد: يا معاوية! فلن يؤدّي القائل وإن أطنب في صفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جميع جزءاً، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله من ايجاز الصفة والتنكّب عن استبلاغ البيعة، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدجى، وظهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضَّلت حتّى أفرطت، وأستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتّى بخلت، وجرت حتّى جاوزت، ما بذلت لذي حقّ من أتمِّ حقِّه بنصيب حتّى أخذ الشيطان حظَّه الأوفر، ونصيبه الأكمل، وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لامّة محمّد، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ، وقد دلَّ يزيد من نفسه على مواقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبَّق لأترابهنّ، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدّر باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم، حتّى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلّا غمضة، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر، ومنعتنا عن آبائنا، و لقد لعمر الله أورثنا الرسولعليه‌السلام ولادة، وجئت لنا بها ما حججتم به القائم عند موت الرَّسول فأذعن للحجّة بذلك، وردَّه الايمان إلى النصف، فركبتم الأعاليل، وفعلتم الأفاعيل، وقلتم: كان ويكون، حتّى أتاك الأمر يا معاوية! من طريق كان قصدها

٢٤٨

لغيرك، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار، وذكرت قيادة الرَّجل القوم بعهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأميره له، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرَّسول، وبيعته له، وما صار لعمرو يومئذ حتى أنف القوم إمرته، وكرهوا تقديمه، وعدوَا عليه أفعاله فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا جرم معشر المهاجرين لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري، فكيف يحتجّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصّواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابع وحولك من لا يؤمن في صحبته، ولا يعتمد في دينه وقرابته، و تتخطّاهم إلى مسرف مفتون، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه، و تشقى بها في آخرتك، إنَّ هذا لهو الخسران المبين، وأستغفر الله لي ولكم.

فنظر معاوية إلى ابن عبّاس فقال: ما هذا يا بن عبّاس؟ ولما عندك أدهى وأمّر. فقال ابن عبّاس: لعمر الله إنّها لذريّة الرَّسول، وأحد أصحاب الكساء، ومن البيت المطهّر، فاله عمّا تريد، فانَّ لك في الناس مقنعاً حتّى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين.

فقال معاوية: أعود الحلم التحلّم، وخيره التحلّم عن الأهل، انصرفا في حفظ الله. ثمَّ أرسل معاوية إلى عبد الرَّحمن بن أبي بكر، وإلى عبد الله بن عمر، وإلى عبد الله بن الزبير فجلسوا، فحمد الله وأثني عليه معاوية ثمَّ قال:

يا عبد الله بن عمر! قد كنت تحدِّثنا انّك لا تحبّ أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة، وإنَّ لك الدنيا وما فيها، وإنّي أحذِّرك أن تشقّ عصا المسلمين، وتسعى في تفريق ملأهم، وأن تسفك دماءهم، وإنَّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء، وليس للعباد خيرة من أمرهم، وقد وكّد الناس بيعتهم في أعناقهم، وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم. ثمَّ سكت.

فتكلّم عبد الله بن عمر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:

أمّا بعد: يا معاوية! قد كان قبلك خلفاء، وكان لهم بنون، ليس ابنك بخير من أبنائهم فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك، فلم يحابوا في هذا الأمر أحدا ً ، ولكن اختاروا لهذه الاُمّة حيث علموهم، وإن تحذّرني أن أشقّ عصا المسلمين، واُفزِّق ملأهم، واسفك دماءهم، ولم أكن لأفعل ذلك إن شاء الله، ولكن إن استقام الناس فسأدخل في صالح ما تدخل فيه اُمّة محمّد.

٢٤٩

فقال معاوية: يرحمك الله، ليس عندك خلافٌ، ثمَّ قال معاوية لعبد الرَّحمن بن أبي بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر فقال له عبد الرَّحمن:

إنّك والله لوددنا أن نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد، والذي نفسي بيده لتجعلنّها شورى أو لاُعيدها جذعة، ثمَّ قام ليخرج فتعلّق معاوية بطرف ردائه ثمَّ قال: على رسلك، أللهمّ اكفنيه بما شئت، لا تظهرنَّ لأهل الشام. فإنّي أخشى عليك منهم. ثمَّ قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر، ثمَّ قال له. أنت ثعلب روّاغ كلّما خرجت من جُحر انجحرت في آخر، أنت ألّبت هذين الرجلين، وأخرجتهما إلى ما خرجا إليه. فقال ابن الزبير: أتريد أن تبايع ليزيد؟ أرأيت إن بايعناه أيّكما نطيع؟ أنطيعك؟! أم نطعيه؟! إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها، وبايع ليزيد، فنحن نبايعه. فكثر كلامه وكلام ابن الزبير حتّى قال له معاوية في بعض كلامه: والله ما أراك إلّا قاتلاً نفسك، ولكأنّي بك قد تخبّطت في الحبالة. ثمّ أمرهم بالإنصراف واحتجب عن النّاس ثلاثة أيّام لا يخرج ثمَّ خرج فأمر المنادي أن ينادي في النّاس: أن يجتمعوا لأمر جامع فاجتمع الناس في المسجد وقعّد هؤلاء(١) حول المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ ذكر يزيد فضله وقراءته القرآن ثمَّ قال: يا أهل المدينة! لقد هممت بيعة يزيد وما تركت قرية ولا مدرة إلّا بعثت إليها بيعته فبايع الناس جميعاً وسلّموا وأخَّرت المدينة بيعته وقلت بيضته وأصله ومن لا أخافهم عليه، وكان الذين أبوا البيعة منهم من كان أجدر أن يصله، والله لو علمت مكان أحد هو خيرٌ للمسلمين من يزيد لبايعت له.

فقام الحسين فقال: والله لقد تركت من هو خير منه أباً واُمّاً ونفساً فقال معاوية كأنّك تريد نفسك؟ فقال الحسين: نعم أصلحك الله. فقال معاوية: إذا اخبرك، أمّا قولك خيرٌ منه امّاً فلعمري امّك خيرٌ من امّه، ولو لم يكن إلّا انّها امرأة من قريش لكان لنساء قريش أفضلهنَّ، فكيف وهي ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ فاطمة في دينها و سابقتها، فاُمّك لعمر الله خيرٌ من امّه. وأمّا أبوك فقد حاكم أباه إلي الله فقضى لأبيه على أبيك. فقال الحسين: حسبك جهلك آثرت العاجل على الآجل. فقال معاوية: و أمّا ما ذكرت من انّك خيرٌ من يزيد نفساً فيزيد والله خيرٌ لاُمّة محمّد منك. فقال الحسين:

____________________

١ - يعنى المتخلفين عن بيعة يزيد.

٢٥٠

هذا هو الافك والزور، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو خيرٌ منّي؟ فقال معاوية: مهلاً عن شتم ابن عمّك فانّك لو ذُكرت عنده بسوء لم يشتمك.

ثمَّ التفت معاوية إلى النّاس وقال: أيّها الناس قد علمتم أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قُبض ولم يستخلف أحداً، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر، وكانت بيعته بيعة هدى فعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه، فلمّا حضرته الوفاة رأى أن يجعلها شورى بين ستَّة نفر اختارهم من المسلمين، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله، وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر، كلُّ ذلك يصنعون نظراً للمسلمين، فلذلك رأيت أن اُبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الإختلاف ونظراً لهم بعين الإنصاف(١) .

رحلة معاوية الثانية

وبيعة يزيد فيها

قال ابن الأثير: فلمّا بايعه أهل العراق والشام سار معاوية إلى الحجاز في ألف فارس فلمّا دناه من المدينة لقيه الحسين بن عليّ أوَّل الناس فلمّا نظر إليه قال: لا مرحباً ولا أهلاً، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه، قال: مهلاً فإنَّي والله لست بأهل لهذه المقالة. قال: بلى ولشرّ منها، ولقيه ابن الزبير فقال: لا مرحباً ولا أهلاً، خبّ ضب تلعة، يدخل رأسه، ويضرب بذنبه، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه، ويدّق ظهره، نحيّاه عنّي. فضرب وجه راحلته. ثمَّ لقيه عبد الرّحمن بن أبي بكر فقال له معاوية: لا أهلاً ولا مرحباً شيخٌ قد خرف وذهب عقله، ثمّ أمر فضرب وجه راحلته، ثمَّ فعل بابن عمر نحو ذلك فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتّى دخل المدينة فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم ولم يروا منه ما يحبّون فخرجوا إلى مكّة فأقاموا بها، وخطب معاوية بالمدينة فذكر يزيد فمدحه وقال: مَن أحقُّ منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه؟! وما أظنّ قوماً بمنتهين حتى تصيبهم بوائق تجتثُّ اصولهم، وقد أنذرت إن أغنت النذر. ثم أنشد متمثّلاً:

قد كنت حذَّرتك آل المصطلقْ

وقلت: يا عمرو أطعني وانطلقْ

إنَّك إن كلَّفتني ما لم أطقْ

ساءك ما سرّك منّي من خلقْ

دونك ما استسقيته فاحس وذقْ

____________________

١ - الامامة والسياسة ١: ١٤٩ - ١٥٥، تاريخ الطبرى ٦: ١٧٠ واللفظ لابن قتيبة.

٢٥١

ثمّ دخل على عائشة وقد بلغها انَّه ذكر الحسين وأصحابه فقال: لأقتلنَّهم إن لم يبايعوا. فشكاهم إليها فوعظته وقالت له: بلغني إنّك تتهدّدهم بالقتل؟ فقال: يا امَّ المؤمنين! هم أعزّ من ذلك، ولكنّي بايعت ليزيد وبايعه غيرهم، أفترين أن أنقض بيعة قد تمّت؟ قالت: فارفق بهم فإنَّهم يصيرون إلى ما تحبّ إن شاء الله. قال: أفعل. وكان في قولها له: ما يؤمنك أن أقعد لك رجلاً يقتلك وقد فعلت بأخي ما فعلت - تعني أخاها محمّداً - فقال لها: كلّا يا امَّ المؤمنين! إنَّي في بيت أمن. قالت: أجل. ومكث بالمدينة ما شاء الله.

ثمّ خرج إلى مكّة فلقيه الناس فقال أولئك النفر: نتلقّاه فلعلّه قد ندم على ما كان منه. فلقوه ببطن مرّ فكان أوَّل من لقيه الحسين فقال له معاوية: مرحباً وأهلاً يا ابن رسول الله! وسيِّد شباب المسلمين. فأمر له بدابّة فركب وسايره، ثمَّ فعل بالباقين مثل ذلك وأقبل يسايرهم لا يسير معه غيرهم حتّى دخل مكّة فكانوا أوَّل داخل وآخر خارج، ولا يمضي يوم إلّا ولهم صلة ولا يذكر لهم شيئاً حتى قضى نسكه وحمل أثقاله وقرب مسيره فقال بعض أولئك النفر لبعض: لا تخدعوا فما صنع بكم هذا لحبّكم وما صنعه إلّا لما يُريد فأعدّوا له جواباً. فاتّفقوا على أن يكون المخاطب له ابن الزبير فأحضرهم معاوية وقال: قد علمتم سيرتي فيكم، وصلتي لأرحامكم، وحملي ما كان منكم، ويزيد أخوكم وابن عمّكم و أردت أن تقدّموه باسم الخلافة، وتكونوا أنتم تعزلون وتؤمرون وتجبون المال وتقسّمونه لا يعارضكم في شيء من ذلك. فسكتوا، فقال: ألا تجيبون؟ مرَّتين، ثمَّ أقبل على ابن الزبير فقال: هات لعمري انَّك خطيبهم، فقال: نعم نخيّرك بين ثلاث خصال قال: أعرضهنّ. قال: تصنع كما صنع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو كما صنع أبو بكر، أو كما صنع عمر، قال معاوية: ما صنعوا؟ قال: قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يستخلف أحداً فارتضى الناس أبا بكر قال: ليس فيكم مثل أبي بكر وأخاف الإختلاف. قالوا: صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر فانَّه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه، وإن شئت فاصنع كما صنع عمر جعل الأمر شورى في ستَّة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه. قال معاوية: هل عندك غير هذا؟ قال: لا. ثمَّ قال: فأنتم؟ قالوا: قولنا قوله. قال: فإنِّي قد أحببت أن أتقدّم إليكم انَّه قد أعذر من أنذر، انّي كنت أخطب منكم فيقوم إليَّ القائم منكم فيكذِّبني على رؤوس الناس فأحمل ذلك وأصفح، وإنّي قائمٌ بمقالة فاُقسم بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي

٢٥٢

هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه، فلا يبقين رجلٌ إلّا على نفسه. ثمّ دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم على رأس كلِّ رجل من هؤلاء رجلين ومع كلِّ واحد سيفٌ، فإن ذهب رجلٌ منهم يردُّ عليَّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما. ثمَّ خرج وخرجوا معه حتّى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال: إنَّ هؤلاء الرَّهط سادة المسلمين وخيارهم لا يبتزُّ أمر دونهم ولا يفضى إلّا عن مشورتهم وانّهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على اسم الله. فبايع الناس وكانوا يتربّصون بيعة هؤلاء النفر، ثمَّ ركب رواحله وانصرف إلى المدينة، فلقي الناس أولئك النفر فقالوا لهم: زعمتم انَّكم لا تبايعون فلِمَ رضيتم وأعطيتم وبايعتم؟ قالوا: والله ما فعلنا. فقالوا: ما منعكم أن تردّوا على الرَّجل؟ قالوا: كادنا وخفنا القتل. وبايعه أهل المدينة ثمَّ انصرف إلى الشام وجفا بني هاشم فأتاه ابن عبّاس فقال له: ما بالك جفوتنا؟ قال: إنّ صاحبكم - يعني الحسينعليه‌السلام - لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه. فقال: يا معاوية! انّي لخليقٌ أن أنحاز إلى بعض السواحل فأقيم به ثمَّ أنطق بما تعلم حتى أدع الناس كلّهم خوارج عليك. قال: يا أبا العبّاس تعطون وترضون وترادون(١) .

وجاء في لفظ ابن قتيبة: إنَّ معاوية نزل عن المنبر وانصرف ذاهباً إلى منزله وأمر من حرسه وشرطته قوماً أن يحضروا هؤلاء النفر الذين أبوا البيعة وهم: الحسين بن علي! وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عبّاس، وعبد الرَّحمن بن أبي بكر وأوصاهم معاوية قال: إنّي خارجٌ العشيّة إلى أهل الشام فاُخبرهم: أنّ هؤلاء النّفر قد بايعوا وسلّموا، فإن تكلّم أحدٌ منهم بكلام يصدِّقني أو يكذّبني فيه فلا ينقضي كلامه حتّى يطير رأسه. فحذَّر القوم ذلك، فلّما كان العشيُّ خرج معاوية وخرج معه هؤلاء النفر وهو يضاحكهم ويحدِّثهم وقد ألبسهم الحلل، فألبس ابن عمر حلّة حمراء، وألبس الحسين حلّة صفراء، وألبس عبد الله بن عبّاس حلّة خضراء، وألبس ابن الزبير حلّة يمانيّة، ثمّ خرج بينهم وأظهر لأهل الشام الرضا عنهم - أي القوم - وانَّهم بايعوا، فقال: يا أهل الشام! إنَّ هؤلاء النفر دعاهم أمير المؤمنين فوجدهم واصلين مطيعين، وقد

____________________

١ - العقد الفريد ٢: ٣٠٢ - ٣٠٤، الكامل لابن الاثير ٣: ٢١ - ٢١٨، ذيل الامالى ص ١٧٧، جمهرة الرسائل ٢: ٦٩ واللفظ لابن الاثير.

٢٥٣

بايعوا وسلّموا ذلك، والقوم سكوتٌ لم يتكلّموا شيئاً حذر القتل، فوثب اُناسٌ من أهل الشام فقالوا: يا أمير المؤمنين! إن كان رابك منهم ريبٌ فحل بيننا وبينهم حتى نضرب أعناقهم. فقال معاوية: سبحان الله ما أحلّ دماء قريش عندكم يا أهل الشام؟ لا أسمع لهم ذكراً بسوء فانّهم بايعوا وسلّموا، وارتضوني فرضيت عنهم رضي الله عنهم، ثمَّ ارتحل معاوية راجعاً إلى مكّة وقد أعطى الناس أعطياتهم، وأجزل العطاء، وأخرج إلى كلِّ قبيلة جوائزها وأعطياتها، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء، فخرج عبد الله ابن عبّاس في أثره حتّى لحقه بالروحاء فجلس ببابه فجعل معاوية يقول: مَن بالباب؟

فيقال: عبد الله بن عبّاس فلم يأذن لأحد، فلمّا استيقظ قال: مَن بالباب؟ فقيل: عبد الله بن عبّاس فدعا بدابَّته فأدخلت إليه ثمّ خرج راكباً فوثب إليه عبد الله بن عبّاس فأخذ بلجام البغلة ثمَّ قال: أين تذهب؟ قال: إلى مكّة. قال: فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا؟ فأوما إليه معاوية فقال: والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتّى يبايع صاحبكم. قال ابن عبّاس: فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد، وأبى عبد الله بن عمر فأخرجت جائزة بني عدي، فما لنا إن أبى صاحبنا وقد أبى صاحب غيرنا. فقال معاوية: لستم كغيركم، لا والله لا اُعطيكم درهماً حتّى يبايع صاحبكم، فقال ابن عبّاس: أما والله لئن لم تفعل لألحقنّ بساحل من سواحل الشام ثمّ لأقولنّ ما تعلم، والله لأتركنّهم عليك خوارج. فقال معاوية: لا بل اعطيكم جوائزكم، فبعث بها من الروحاء ومضى راجعاً إلى الشام. الإمامة والسياسة ١: ١٥٦.

قال الأميني: إنَّ المستشف لحقيقة الحال من أمر هذه البيعة الغاشمة جِدّ عليم أنّها تمّت برواعد الإرهاب، وبوارق التطميع، وعوامل البهت والإفتراء، فيرى معاوية يتوعّد هذا، ويقتل ذاك، ويولّي آخر على المدن والأمصار ويجعلها طعمة له، ويدرُّ من رضائخه على النفوس الواطئة ذوات الملكات الرذيلة، وفي القوم مَن لا يؤثّر فيه شيىءٌ من ذلك كلّه، غير انّه لا رأي لمن لا يُطاع، لكنّ إمام الهدى، وسبط النبوَّة، ورمز الشهادة والإباء لم يفتأ بعد ذلك كلّه مُصحراً بالحقيقة، ومصارحاً بالحقِّ، وداحضاً للباطل مع كلِّ تلكم الحنادس المدلهمّة، أصغت إليه اُذنٌ أم لا، وصغى إلى قيله أحدٌ أو أعرض، فقام بواجب الموقف رافعاً عقيرته بما تستدعيه الحالة، ويوجبه النظر في صالح المسلمين

٢٥٤

ولم يثنه اختلاق معاوية عليه وعلى مَن وافقه في شيىء من الأمر، ولا ما أعدَّه لهم من - التوعيد والإرجاف بهم، ولم تك تأخذه في الله لومة لائم، حتّى لفظ معاوية نفسه الأخير رمزاً للخزاية وشية العار، ولقي الحسينعليه‌السلام ربّه وقد أدّى ما عليه، رمزاً للخلود ومزيد الحبور في رضوان الله الأكبر، نعم: لقي الحسينعليه‌السلام ربّه وهو ضحيّة تلك البيعة، - بيعة يزيد - كما لقي أخوه الحسن ربّه مسموماً من جرّاء تلكم البيعة الملعونة التي جرَّت الويلات على امّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستتبعت هدم الكعبة، والإغارة على دار الهجرة يوم الحرّة وأبرزت بنات المهاجرين والأنصار للنكال والسوءة، وأعظمها رزايا مشهد الطفّ التي استأصلت شأفة أهل بيت الرَّحمة صلوات الله عليهم، وتركت بيوت الرسالة تنعق فيها النواعب، وتندب النوادب، وقرَّحت الجفون، وأسكبت المدامع، إنّا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

نعم: تمّت تلك البيعة المشومة مع فقدان أيِّ جدارة وحنكة في يزيد، تأهّله لتسنّم عرش الخلافة على ما تردّى به من ملابس الخزي وشية العار من معاقرة الخمور، ومباشرة الفجور، ومنادمة القيان ذوات المعازف، ومحارشة الكلاب، إلى ما لا يتناهى من مظاهر الخزاية، وقد عرفته الناس بذلك كلّه منذ أولياته وعرَّفه به اُناسٌ آخرون، وحسبك شهادة وفدٌ بعثه أهل المدينة إلى يزيد وفيهم: عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، وعبد الله بن أبي عمرو المخزومي، والمنذر بن الزبير، وآخرون كثيرون من أشراف أهل المدينة، فقدموا على يزيد فأكرمهم، وأحسن إليهم، وأعظمهم جوائزهم، وشاهدوا أفعاله، ثمّ انصرفوا من عنده وقدموا المدينة كلهم إلّا المنذر، فلمّا قدم الوفد المدينة قاموا فيهم، فأظهروا شتم يزيد وعتبه وقالوا: إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب - الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويُسامر الحُرّاب، وهم اللصوص والفتيان، وإنّا نشهدكم انّا قد خلعناه فتابعهم الناس.(١)

وقال عبد الله بن حنظلة ذلك الصحابيّ العظيم المنعوت بالراهب قتيل يوم الحرّة يومئذ: يا قوم! اتَّقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نرمى

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٧: ٤، الكامل لابن الاثير ٤: ٤٥، تاريخ ابن كثير ٨: ٢١٦، فتح البارى ١٣: ٥٩.

٢٥٥

بالحجارة من السَّماء، إنَّ رجلاً ينكح الامّهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصّلاة، والله لو لم يكن معي أحدٌ من الناس لأبليت لِلّه فيه بلاء حسناً(١) .

ولمـّا قدم المدينة أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟ قال: أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلّا بنيَّ هؤلاء لجاهدته بهم(٢) .

وقال المنذر بن الزبير لمـّا قدم المدينة: إنَّ يزيد قد أجازني بمائة ألف، ولا يمنعني ما صنع بي أن اُخبركم خبره، والله انّه ليشرب الخمر، والله انّه ليسكر حتّى يدع الصّلاة(٣) .

وقال عتبة بن مسعود لابن عبّاس: أتبايع يزيد وهو يشرب الخمر، ويلهو بالقيان، ويستهتر بالفواحش؟ قال: مَه فأين ما قلت لكم؟ وكم بعده من آت ممّن يشرب الخمر أو هو شرٌّ من شاربها أنتم إلى بيعته سراع، أما والله! إنِّي لأنهاكم وأنا أعلم أنّكم فاعلون حتى يصلب مصلوب قريش بمكّة - يعني عبد الله بن الزبير -(٤) .

نعم: لم يك على مخازي يزيد من أوَّل يومه حجابٌ مسدول يُخفيها على الأباعد والأقارب، غير انَّ أقرب الناس إليه وهو أبوه معاوية غضَّ الطرف عنها جمعاء، وحسب انّها تخفى على الملأ الدينيِّ بالتمويه، وطفق يذكر له فضلاً وعلماً بالسياسة، فجابهه لسان الحقِّ وإنسان الفضيلة حسين العظمة بكلماته المذكورة في صفحة ٢٤٨ و ٢٥٠ ومعاوية هو نفسه يندّد بابنه في كتاب كتبه إليه ومنه قوله: اعلم يا يزيد! أنَّ اوَّل ما سلبكه السُكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة، وآلائه المتواترة، وهي الجَرحة العظمى، والفجعة الكبرى: ترك الصَّلوات المفروضات في أوقاتها، وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها، ثمَّ استحسان العيوب، وركوب الذنوب، وإظهار العورة، وإباحة السرِّ، فلا تأمن نفسك على سرِّك، ولا تعتقد على فعلك، الكتاب(٥) .

فنظراً إلى ما عرفته الاُمَّة من يزيد من مخازيه وملكاته الرذيلة عدَّ الحسن البصري استخلاف معاوية إيّاه من موبقاته الأربع كما مرّ حديثه في صفحة ٢٢٥.

____________________

١ - تاريخ ابن عساكر ٧: ٣٧٢.

٢ - تاريخ ابن عساكر ٧: ٣٧٢، الكامل لابن الاثير ٤: ٤٥، الاصابة ٢: ٢٩٩.

٣ - كامل ابن الاثير ٤: ٤٥، تاريخ ابن كثير ٨: ٢١٦.

٤ - الامامة والسياسة ١: ١٦٧.

٥ - صبح الاعشى ٦: ٣٨٧.

٢٥٦

_ ١٥ _

جنايات معاوية

في صفحات تاريخه السوداء

إنَّما نجتزئ منها على شيىء يسير يكون كانموذج ممّا له من السيِّئات التي ينبو عنها العدد ويتقاعس عنها الحساب، ويستدعي التبسّط فيها مجلدات ضخمة فمنها: دؤبه على لعن مولانا عليّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وكان يقنت به صلواته كما مرّ حديثه في الجزء الثاني ص ١٣٢ ط ٢ واتّخذه سنَّةً جاريةً في خطب الجمعة والأعياد، وبدَّل سنّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبة العيدين المتأخِّرة عن صلاتهما وقدَّمها عليها لإسماع الناس لعن الامام الطاهر كما مرّ تفصيله في الجزء الثامن ص ١٦٤ - ١٧١ وأوعزنا إليه في هذا الجزء ص ٢١٢ وكان يأمر عمّاله بتلك الاُحدوثة الموبقة، ويحثُّ الناس عليها، ويوبِّخ المتوقّفين عنها، ولا يصيخ إلى قول أيِّ ناصح وازع.

١ - أخرج مسلم والترمذي عن طريق عامر بن سعد بن أبي وقّاص قال: أمر معاوية سعداً فقال: ما منعك أن تسبَّ أبا تراب؟ فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنَّ له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلن أسبَّه، لَأن تكون لي واحدةُ منهنَّ أحبُّ إليَّ من حمر النعم - فذكر حديث المنزلة: والراية. والمباهلة - وأخرجه الحاكم وزاد: فلا والله ما ذكره معاوية بحرف حتّى خرج من المدينة.(١)

وفي لفظ الطبري من طريق ابن أبي نجيح قال: لمـّا حجَّ معاوية طاف بالبيت ومعه سعد فلمّا فرغ إنصرف معاوية إلى دار الندوة فأجلسه معه على سريره ووقع معاوية في عليّ وشرع في سبِّه فزحف سعد ثمَّ قال: أجلستني معك على سريرك ثمَّ شرعت في سبّ عليّ والله لَأن يكون لي خصلة واحدة من خصال كانت لعليّ أحبّ إليَّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس - إلى آخر الحديث وفيه من قول سعد: وأيم الله لا دخلت لك داراً ما بقيت. ونهض.

قال المسعودي بعد رواية حديث الطبري: ووجدت في وجه آخر من الروايات و ذلك في كتاب عليِّ بن محمّد بن سليمان النوفلي في الأخبار عن ابن عائشة وغيره: انَّ سعداً

____________________

١ - راجع صحيح مسلم ٧: ١٢٠، صحيح الترمذى ١٣: ١٧١، مستدرك الحاكم ٣: ١٠٩.

٢٥٧

لمـّا قال هذه المقالة لمعاوية ونهض ليقوم ضرط له معاوية وقال له: اقعد حتّى تسمع جواب ما قلت، ما كنت عندي قطّ ألأم منك الآن، فهلّا نصرته؟ ولِمَ قعدت عن بيعته؟ فانِّي لو سمعت من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل الذي سمعت فيه لكنت خادماً لعليّ ما عشت، فقال سعد: والله انّي لأحقّ بموضعك منك. فقال معاوية: يأبى عليك بنو عذرة. وكان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة(١) .

وفي رواية ذكرها ابن كثير في تاريخه ٨: ٧٧: دخل سعد بن أبي وقاص على معاوية فقال له: مالك لم تقاتل عليّاً؟ فقال: إنِّي مرَّت بي ريحٌ مظلمةٌ فقلت: اخ اخ، فأنختُ راحلتي حتّى انجلت عنّي، ثمّ عرفت الطريق فسرت. فقال معاوية: ليس في كتاب الله اخ اخ، ولكن قال الله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاُخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله. فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية، فقال سعد: ما كنت لاُقاتل رجلاً قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنَّه لا نبيّ بعدي. فقال معاوية: من سمع هذا معك؟ فقال: فلان وفلان وامّ سلمة.

فقال معاوية: أما انّي لو سمعته منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قاتلت عليّاً.

قال: وفي رواية من وجه آخر: انّ هذا الكلام كان بينهما وهما بالمدينة في حجَّة حجَّها معاوية وانّهما قاما إلى امّ سلمة فسألاه فحدَّثتهما بما حدَّث به سعد فقال معاوية: لو سمعت هذا قبل هذا اليوم لكنت خادماً لعليّ حتّى يموت أو أموت.

قال الأميني: لقد أفك معاوية في ادّعائه عدم إحاطة علمه بتلكم الأحاديث المطّردة الشايعة فانّها لم تكن من الأسرار التي لا يطّلع عليها إلّا البطانة والخاصَّة، وإنّما هتف بهنَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على رؤس الأشهاد، أمّا حديث الراية فكان في واقعة خيبر وله موقعيّته الكبرى لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله. الحديث.

فاستطالت أعناق كلّ فريق

ليروا أيّ ماجد يعطاها؟

فلم تزل النفوس مشرئبَّة متتلّعة إلى من عناهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى جيىء بأمير المؤمنينعليه‌السلام ومُنح الفتح من ساحة النبوَّة العظمى، فانطبق القول، وصدقت الاُكرومة، وعلم الغزاة

____________________

١ - مروج الذهب ١: ٦١، وحكى شطراً منه سبط ابن الجوزى فى تذكرته ص ١٢.

٢٥٨

كلّهم انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان يريد غيره.

هب أنَّ معاوية يوم واقعة خيبر كان عداده في المشركين، وموقفه مع مَن يُحادّ الله ورسوله، لكن هلّا بلغه ذلك بعد ما حداه الفَرَق إلى الاستسلام؟ والحديث مطّردٌ بين الغزاة وسائر المسلمين، وهم بين مشاهد له وعالم به.

وأمّا حديث المنزلة فقد نطق به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موارد عديدة منها غزاة تبوك على ما مرَّ تفصيله في الجزء الثالث ص ١٩٨ ط ٢ وقد حضرها وجوه الصحابة وأعيانهم، وكلّهم علموا بهاتيك الفضيلة الرابية، فالإعتذار عن معاوية بأنّه لم يحضرها لإشراكه يومئذ مدفوعٌ بما قلناه في واقعة خيبر.

ومن جملة موارده يوم غدير خمّ الذي حضره معاوية وسمعه هو ومائة ألف أو يزيدون، لكنّه لم يعه بدليل أنّه ما آمن به فحارب عليّاًعليه‌السلام بعده وعاداه وأمر بلعنه محادَّة منه لِلّه ولرسوله، وعقيرة رسول الله المرفوعة بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ: أللهمَّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. بعدُ ترنُّ في اُذن الدنيا.

ومن موارده يوم المؤاخاة كما أخرجه أحمد باسناده عن محدوج بن زيد الباهلي قال: آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المهاجرين والأنصار فبكى عليّعليه‌السلام فقال رسول الله: ما يبكيك فقال: لم تواخ بيني وبين أحد. فقال: إنَّما ادَّخرتك لنفسي ثمَّ قال: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى(١) .

ومنها يوم كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دار امّ سلمة إذ أقبل عليٌّعليه‌السلام يريد الدخول على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا امّ سلمة هل تعرفين هذا؟ قالت: نعم هذا عليّ سيط لحمه بلحمي ودمه بدمي، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا انّه لا نبيَّ بعدي - راجع الجزء - الثالث ص ١١٦.

على أنّ حديث المنزلة قد جاء من طريق معاوية نفسه رواه في حياة عليّعليه‌السلام فيما أخرجه أحمد في مناقبه من طريق أبي حازم كما في الرياض النضرة ٢: ١٩٥.

وأمّا نبأ المباهلة فصحيحٌ أنّ معاوية لم يُدركه لأنّ الكفر كان يمنعه عند ذلك عن سماعه، غير أن القرآن الكريم قد أعرب عن ذلك النبأ العظيم إن لم يكن إبن حرب في

____________________

١ - راجع ما اسلفناه فى الجزء الثالث ص ١١٥.

٢٥٩

معزل عن الكتاب والسنّة، على أن قصّتها من القضايا العالميّة وليس من المستطاع لأيِّ أحد أن يدَّعي الجهل بها.

وهنا نماشي ابن صخر على عدم اطّلاعه على تلكم الفضائل إلى حدِّ إخبار سعد إيّاه، لكنّه بماذا يعتذر وهو يقرأ قوله تعالى:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) ؟ الآية؟!. وبماذا يعتذر بعد ما رواه قبل يوم صفّين من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار: تقتلك الفئة الباغية؟ وبماذا يعتذر بعد علمه بتلكم الأحاديث بأخبار صحابيّ معدود عند القوم في العشرة المبشّرة وبعد إقامة الشهود عليه؟! ومن هنا تعلم أنَّه أفك مرّة اُخرى بقوله أما انّي لو سمعتُ من رسول الله ما سمعتَ في عليّ لكنتُ له خادماً ما عشتُ. لأنّه عاش ولم يرتدع عن غيِّه وحارب أمير المؤمنينعليه‌السلام حيّاً وميّتاً، ودؤب على لعنه والأمر به حتّى أجهز عليه عمله وكبت وبه بطنته.

نعم: انّه استمرّ على بغيه وقابل سعداً في حديثه بالضرطة، وهل هي هزؤ منه بمصدر تلكم الأبناء القدسيّة؟ أو بخضوع سعد لها؟ أو لمحض أنّ سعداً لم يوافقه على ظلمه؟ أنا لا أدري غير أنَّ كفر معاوية الدفين لا يأبى شيئاً من ذلك، وهلّا منعه الخجل عن مثل هذا المجون وهو ملك؟ وبطبع الحال انّ مجلسه يحوي الأعاظم والأعيان.

من أين تخجل أوجهُ أمويَّةٌ

سكبت بلذّات الفجور حيائها؟

٢ – لمـّا مات الحسن بن عليّ « عليهما السلام » حجّ معاوية فدخل المدينة و أراد أن يلعن عليّاً على منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل له: إنّ هيهنا سعد بن أبي وقّاص ولا نراه يرضى بهذا فابعث إليه وخذ رأيه، فأرسل إليه وذكر له ذلك فقال: إن فعلت لأخرجنّ من المسجد ثمّ لا أعود إليه، فأمسك معاوية عن لعنه حتّى مات سعد، فلمّا مات لعنه على المنبر وكتب إلى عمّاله أن يلعنوه على المنابر، ففعلوا فكتبت امّ سلمة زوج النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى معاوية: انّكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنّكم تلعنون عليَّ بن أبي طالب ومن أحبّه، وأنا أشهد أنّ الله أحبّه ورسوله. فلم يلتفت إلى كلامها. العقد الفريد ٢: ٣٠١.

٣ - قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: إنّ عليّاً قد قطعك وأنا وصلتك ولا يرضيني منك إلّا أن تلعنه على المنبر قال: أفعل. فصعد المنبر ثمّ قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389