الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١٠

الغدير في الكتاب والسنة والأدب15%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 389

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 389 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70521 / تحميل: 4471
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١٠

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

١٨١

وأنّ أيام الخلاف والاقتتال قد انتهت، فها هو المأمون يستعدّ لإرجاع الحقّ إلى أصحابه، وها هو صاحب الحقّ قد أقبل، وستغدو الأيام رخيّةً سهلةً، لكنّهم كانوا واهمين، فالإمامعليه‌السلام يعرف حقّ المعرفة أنّ المأمون غير جادٍّ في عرضه، وأنّه يتظاهر بالرّغبة في التّنازل عن الحكم لأمر في نفسه، وإذا تجاوزنا المأمون إلى بطانته وأجهزته حوله، لرأينا أنّهم أحرص على الملك والجاه والدنيا، لذا فقد رفض الإمام عرض المأمون، فما كان من المأمون إلاّ أن عرض عليه ولاية العهد بعده، والعرض الجديد لم يكن حبّاً بالإمام، وميلاً إلى الحقّ، بل هو تغطية لمآرب أخرى، فالمأمون يرمي من ورائه للحصول على شرعيّةٍ لحكمه، كما يرمي إلى إسكات الثّائرين عليه، ومرّةً ثانيةً يرفض الإمام عرضه، فيلحّ المأمون ويهدّد، ويمعن في تهديداته حتى التلويح بالقتل، بل التصريح به، ويروى أنّ المأمون قال للإمام حين رأى امتناعه عن القبول بما يعرضه عليه: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبا لله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقك.

١٨٢

١٨٣

كان الإمامعليه‌السلام يتوقّع كلّ هذا، كان يعرفه حين دخل مسجد جدّه الرسول في المدينة يودّعه، ويقول وهو يبكي: إنّي أخرج من جوار جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأموت في غربةٍ. كان يدرك ذلك وهو في طريقه من المدينة إلى خراسان مغلوباً على أمره.

وأخيراً فلم يجد أمام إلحاح المأمون وتشدّده بدّاً من القبول، إنّما بشروط لا مناص منها، فقال للمأمون: أنا أقبل ذلك على أن لا أولّي أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنّةً، وأكون في الأمر من بعيدٍ مشيراً.

رضي المأمون، وتمّت البيعة للإمام بولاية العهد، بحضور الوزراء والقادة والأعيان، وحشدٍ كبير من الناس. ووزّع المأمون الأموال والهدايا عليهم، وتزاحم الشعراء على تقديم مدائحهم.

وبهذه المناسبة ضرب المأمون الدراهم وطبع عليها اسم الرضاعليه‌السلام . وصار الخطباء يفتتحون خطبهم بالدعاء للمأمون والرضاعليه‌السلام .

١٨٤

وفي خراسان عقد الإمام مجالس المناظرة مع العلماء والأطبّاء وغيرهم، فكان علمه وسعة اطّلاعه مبعثاً لعجبهم، وكان المأمون يحضر بعض هذه المجالس، ولا يستطيع أن يخفي غيظه وحسده لمكانة الإمام، رغم ادّعائه تشجيع العلوم والأبحاث، وكان الإمام حين يرى منه ذلك، يختصر أحاديثه ويوجزها ما أمكنه، خاصّةً وأنّه أدرك أنّ الموكلين بأموره وقضاء حوائجه كانوا في الحقيقة عيوناً للمأمون عليه، فكانعليه‌السلام يتلوّى من الألم، ويتمنّى لنفسه الموت ليتخلّص من حياةٍ تحيط بها المكاره، وكان يقول: اللهم إن كان فرجي ممّا أنا فيه بالموت فعجّله لي الساعة.

صلاة لم تتمّ

لمّا حضر عيد الفطر في السنة التي عقد فيها المأمون ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ، أرسل إليه بالركوب إلى العيد والصلاة بالناس والخطبة بهم، فبعث إليه الإمام الرضا: لقد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول هذا الأمر (يعني قبوله لولاية العهد(، فأعفني من الصلاة بالناس. فألحّ عليه المأمون وقال له: أريد بذلك أن تطمئنّ إليك قلوب الناس، ويعرفوا فضلك. فأجابه الإمام إلى طلبه على شرط أن يخرج إلى الصلاة كما كان يخرج إليها

١٨٥

رسول الله وأميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب من بعده، فقال له المأمون: اخرج كيف شئت. ثمّ أمر القوّاد والحجّاب والناس أن يبكّروا إلى باب الرضاعليه‌السلام ، ليرافقوه إلى الصلاة.

وصباح العيد وقف الناس في الطّرقات وعلى السطوح ينتظرون خروجه، ووقف الجند والقادة على بابه وقد تزيّنوا وركبوا خيولهم. قام الإمام فاغتسل ولبس ثيابه، وتعمّم بعمامةٍ بيضاء من قطن، فألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين كتفيه، ومسّ شيئاً من الطيب، وقال لمن معه: افعلوا مثل ما فعلت، فخرجوا بين يديه وهو حاف قد شمّر سراويله، فرفع رأسه إلى السماء وقال: الله اكبر، فكبّر معه الناس، ولما رآه القادة والجند على تلك الصّورة، ترجّلوا عن خيولهم، ونزعوا أحذيتهم من أرجلهم، ومشوا خلفه حفاةً، ثم كبّر الرضاعليه‌السلام ، وكبّر معه الناس، وارتفعت أصواتهم بالتكبير حتى سمعت من كلّ الجهات، وضجت المدينة بالمكبّرين، وخرج الناس من منازلهم، وازدحمت بهم الشوارع والطرقات بشكلٍ لم تشهده (مرو) من قبل، وصدق فيه قول الشاعر:

ذكروا بطلعتك النبيّ فهلّلوا *** لمّا طلعت من الصّفوف وكبّروا

١٨٦

حتى انتهيت إلى المصلّى لابساً

نور الهدى يبدو عليك ويظهر

ومشيت مشية خاشعٍ متواضعٍ

لله لا يزهو ولا يتكبّر

ولو أنّ مشتاقاً تكلّف فوق ما

في وسعه لسعى إليك المنبر

كان المأمون يريده أن يخرج للصلاة كما يخرج الملوك، تحفّ بهم الزّينات ومعالم العظمة، ويستغلّون المناسبة لعرض قوّتهم وهيبتهم في النفوس، بينما يرى الإمام أنّ للمناسبة قداستها الروحيّة، ترفع فيها آيات الخضوع والعبوديّة لله تعالى، وترتفع الأصوات بحمده والتكبير له، وشتّان بين ما أراد المأمون وما فعله الإمام ، فما كان من المأمون إلاّ أن بعث إليه يقول:

لقد كلّفناك شططاً (أي زيادةً عن الحدّ( وأتعبناك يابن رسول الله، ولسنا نحبّ لك إلاّ الراحة، فارجع، وليصلّ بالناس من كان يصلي بهم.

فرجع الإمامعليه‌السلام ، لأنّ هذا هو ما يتمنّاه.

أموت في غربةٍ

منذ ذلك اليوم، وقد رأى المأمون تجاوب الناس مع الإمام، وكيف كان توجّههم إليه عميقاً، أحسّ بالمرارة تغلي في أحشائه، وتذكّر أيام أبيه هارون الرّشيد مع الإمام

١٨٧

الكاظمعليه‌السلام ، وكان يرى حفاوة الرشيد البالغة بالإمام، وإكرامه له، وهو (أي المأمون( لا يعرفه، فسأل أباه قائلاً: من هذا الرجل الذي عظّمته وقمت من مجلسك لأجله، وجلست بين يديه؟ قال الرشيد: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده. فقال المأمون: أليست هذه الصفات كلّها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حقّ، والله يا بنيّ إنّه لأحقّ بمقام رسول الله منّي ومن الخلق أجمعين، فقال له المأمون: إذا كنت تعرف ذلك فتنحّ عن الملك وسلّمه لأصحابه، فقال: يا بنيّ إنّ الملك عقيم، والله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك.

تذكّر المأمون هذه الواقعة مع أبيه، ولا يزال صدى العبارة الأخيرة يرنّ في مسامعه: والله لو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك.

وما له يسلّط على هذا الملك رجلاً يلتفّ الناس حوله إذا حضر، وتهفو إليه قلوبهم إن غاب، يجلّونه ويقدّرونه؟ أليس أبوه الذي قال: إنّ الملك عقيم؟ أليس بالأمس القريب قتل أخاه وعشرات الألوف من الناس في سبيل هذا الملك؟

١٨٨

تذكّر كلّ هذا وصمّم أمراً، صمّم أن يريح نفسه من هذا الهمّ الذي جلبه على نفسه بيديه، وقرّر أن يتخلّص من الإمام.

ولم يطل الأمر كثيراً، وكان قد مضى على الإمام في ولاية العهد ما يقرب من سنتين، حين استشهد مسموماً، واتّهم المأمون بقتله، لكنّه أنكر التّهمة، وأظهر عليه الأسى والحزن. وكان استشهاده سنة ٢٠٣ للهجرة بطوس، ودفن في مشهد. ويختلف الناس لزيارة قبره من جميع أنحاء العالم. ويروى عنه أنّه قال: من زارني في غربتي كان معي في درجتي يوم القيامة.

عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى السلام.

١٨٩

الإمام محمد الجوادعليه‌السلام

الاسم: الإمام محمد الجوادعليه‌السلام

اسم الأب: الإمام علي الرضاعليه‌السلام

اسم الأم: خيزران

تاريخ الولادة: ١٠ رجب سنة ١٩٥ للهجرة

محل الولادة: المدينة

تاريخ الاستشهاد: ٦ ذي الحجة سنة ٢٢٠ للهجرة

محل الاستشهاد: الكاظمية

محل الدفن: الكاظمية

المواجهة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم

في يوم دافئ، وأشعّة الشمس تتسلّل برفق عبر أزقّة مدينة بغداد، وتبدأ انتشارها فوق السّهول المترامية الأطراف حولها، خرج المأمون العباسي مع نفر من حاشيته للصيد، وقد امتطوا جيادهم يسابقون بها الريح، مصطحبين صقورهم وكلابهم، قاصدين السّهول الممتدّة حول المدينة.

بغداد في تلك الأيام كانت مدينةً كبيرةً جداً، تحيط بها مزارع البرتقال وكروم العنب وأشجار النّخيل، يزيّنها العشب الأخضر والورود.

كان الموكب يجتاز شوارع العاصمة، مثيراً الرعب والذّعر في قلوب الناس. وفي أحد الشوارع صادف مجموعةً من الصبية يلعبون ويتراكضون، وما إن شعر الصبيّة باقتراب خيل الحاكم حتى هربوا في كلّ

١٩٠

اتّجاهٍ؛ وتلك كانت صورة الحكّام المرعبة، فقد ترك أسلاف المأمون كالرّشيد والمنصور وهشامٍ والحجاج بصمات البطش والإرهاب في النفوس.

خلت الساحة من الأطفال، عدا طفل منهم، انتصب شامخاً أمام الموكب غير آبهٍ به، ممّا أثار دهشة المأمون، فأمر بإحضار الصبيّ إليه، وخاطبه قائلاً: لماذا لم تهرب مع الصبية الآخرين؟ قال الصبيّ: مالي ذنب فأفرّ منه، ولا الطريق ضيّق فأوسّعه عليك، فسر حيث شئت.

قال المأمون متعجّباً من جرأة الغلام: من تكون أنت؟ قال: أنا محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام .

قال المأمون: ما تعرف من العلوم؟

قال: سلني عن أخبار السّماوات.

(لقد سأل المأمون الغلام الصغير عمّا يعرفه من العلوم، والعلوم لا يعرفها إلاّ من درسها، وقضى السنين في تعلّمها، فكيف يسأل عنها غلاماً صغيراً؟

والجواب أنّ المأمون يعلم ذلك، لكنّه بعد أن

١٩١

عرف أنّ الغلام هو ابن الإمام الرضاعليه‌السلام ، وأنّه فرع من الشجرة المباركة، شجرة أهل البيتعليهم‌السلام ، الذين يتوارثون العلوم والمعارف، كلاّ عمّن سبقه، سأله هذا السؤال الطبيعيّ).

ترك المأمون الإمام مبتعداً نحو السّهول، وهو غارق في التفكير بأمر هذا الغلام، ومضى النهار إلا أقلّه، والمأمون لا يجد صيداً، فأطلق أحد صقوره يبحث عن طريدة؛ حلّق الصّقر عالياً وغاب عن الأنظار ساعةً، عاد بعدها وهو يحمل حيّةً بين مخالبه، وألقاها أمام المأمون، أمر المأمون بوضع الحيّة في صندوق وقال لأصحابه: قد دنا حتف ذلك الغلام في هذا اليوم، وعلى يديّ. ثمّ عاد أدراجه نحو بغداد.

وفي طريق عودته، التقى بالصبيّة أنفسهم وابن الرضا بينهم، فاقترب منه قائلاً (وكأنّما يتابع معه حديث الصباح):

وما عندك من أخبار السماوات؟

أجاب الإمام قائلاً: حدثني أبي عن آبائه، عن النبيّ، عن جبرائيل، عن ربّ العالمين أنّه قال: بين السماء والهواء عجاج (والعجاج هو الغبار أو الدخان)

١٩٢

يتلاطم به الأمواج. فيه حيات خضر البطون، رقط الظهور (لونها مبقّع بالبياض والسواد(، يصيدها الملوك بالبزاة الشهب، ليمتحنوا به العلماء.

فقال المأمون: صدقت، وصدق أبوك، وصدق جدّك، وصدق ربّك.

كان هذا هو اللّقاء الأول بين الإمام والمأمون، وتوالت اللّقاءات، وتعرّف المأمون أكثر وأكثر على مناقب الإمام العالية، وضلوعه بالعلم والمعرفة، وصمّم أن يزوّجه ابنته.

اعتراض العباسيين

كان المأمون يرمي من تزويج ابنته من الإمام الجوادعليه‌السلام ، إلى اكتساب رضى السادة العلويين، وإزالة ذكرى الموت المفاجئ للإمام الرضاعليه‌السلام من الخواطر، مدّعياً الصفاء معهم، كما يرمي من جهة ثانية إلى أن يكون الإمام الجواد على مقربةٍ منه، ليتمكّن من مراقبته بواسطة عيونه وجواسيسه، ومعرفة تحرّكاته واتّصالاته، وقد سبق للمأمون أن اتّبع الأسلوب نفسه مع الإمام الرضاعليه‌السلام .

ولمّا علم العباسيون بالأمر، ثقل عليهم

١٩٣

واستكبروه، وخافوا أن ينتهي الأمر مع الجواد إلى ما انتهى إليه مع أبيه الرضا، فيفوز بولاية عهد المأمون.

اجتمع نفر منهم إلى المأمون قائلين: ننشدك الله يا أميرالمؤمنين أن تصرف النظر عن هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا؛ فإنّا نخاف أن تخرج عنّا أمراً قد ملكناه، وتنزع عنّا عزّاً قد ألبسناه، فقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم آل عليّ قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك معهم، وقد كنّا في وهلةٍ (فزع( من عملك مع الرضا ما عملت، حتّى كفانا الله ألمهمّ من ذلك، فالله الله أن تردّنا إلى غم انحسر عنّا (زال عنا(، فاصرف رأيك عن ابن الرضا، واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لها دون غيرهم.

فأجابهم المأمون: أمّا ما كان بينكم وبين آل أبي طالب، فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم. وأمّا ما كان يفعله من قبلي بهم، فقد كان قاطعاً للرّحم، وأعوذ بالله من ذلك وأمّا أبوجعفرٍ محمد (الجواد( بن عليّ فقد اخترته لتبريزه (تفوّقه( على كافّة أهل الفضل في العلم، مع صغر سنّه.. وأنا

١٩٤

١٩٥

أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، ليعلموا أنّ الرأي ما رأيت فيه.

فقالوا: أتزوّج ابنتك وقرّة عينك صبياً لم يتفقّه في دين الله، ولم يعرف حلاله من حرامه، ولا فرضه من سننه؟ فأمهله ليتأدّب ويقرأ القرآن ويتفقّه في الدين، ثمّ اصنع ما تراه بعد ذلك.

فقال لهم: ويحكم، إنّي أعرف بهذا الفتى منكم، وإنّه لأفقه منكم وإن شئتم فامتحنوه، فإن كان كما وصفتم قبلت منكم

فقالوا: لقد رضينا لك ولأنفسنا بامتحانه؛ فخلّ بيننا وبينه، لنعيّن من يسأله بحضرتك عن شيءٍ من فقه الشريعة، فإن أصاب الجواب لم يكن لنا اعتراض، وإن عجز عن ذلك فقد كفينا أمره.

قبل المأمون، وعيّن لهم يوماً لذلك.

ثم اجتمع رأيهم على يحيى بن أكثم ، قاضي القضاة يومذاك، على أن يسأل الإمام مسألة لا يعرف الجواب عنها، ووعدوه بأموالٍ وفيرةٍ إن هو استطاع ذلك.

مجلس الامتحان

وفي اليوم الذي عيّنه المأمون، حضر الإمام وقاضي القضاة والمأمون، كما حضر كبار العباسييّن، وأعيان الدولة، وجلس الناس على مراتبهم، بينما أجلس المأمون الإمام الجواد إلى جانبه.

من الجدير بالذكر أنّ تلك المجالس الفخمة التي كان العباسيون يقيمونها من وقت إلى آخر، لم تكن بالنسبة إليهم إلاّ مجالس ترفٍ ولهوٍ، ولم تكن تعقد بناءً على التعاليم الإسلامية التي تراعي أصول التساوي بين الناس، ولم يسيروا فيها على خطى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخطى الإمام عليّعليه‌السلام ، في جعلها مجالس للمذاكرة في تعاليم الإسلام وأحكامه، ممّا يعود بالفائدة على الجميع، بل كانت مجالس للمناظرة والمبارزة الكلاميّة وإلقاء الأشعار والخطب. فحضور الإمام في هذا المجلس لم يكن حضور مشارك أو حتى ضيفٍ، بل كان - في الواقع - حضوراً قهريّاً إجبارياً لا يستطيع منه فكاكاً على أيّ حالٍ، فقد جلس الإمام في مكانٍ فخمٍ مزيّن إلى جانب المأمون، كما جلس النبيّ يوسف

١٩٦

- من قبل - إلى جانب فرعون مصر. وفي قصص الأنبياء دروس للناس، تبيّن لهم الحقائق الكامنة وراء الأحداث التاريخية المختلفة باختلاف الأزمان، فها هو يوسف النبي، يجلس إلى جوار فرعون مصر ويدير له شؤون دولته، وفي يوم آخر، يقوم نبيّ آخر هو موسىعليه‌السلام ، ضدّ فرعون آخر، فيهزمه ويقضي عليه. ولكنّ الكثرين لا يفكّرون في أحداث التاريخ، ويعجزون عن فهمها وإدراك مغزاها. تقول الآية الشريفة:

( لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسّائلين ) .

ساد المجلس صمت مطبق، والكلّ يتطلّع إلى رؤية الإمام الجواد، هذا القادم الجديد إلى بغداد، والذي لم تقع عليه أعين الناس من قبل، ورؤية مقدرته، وهو ابن تسع سنين، في مواجهة قاضي قضاة بغداد، ويتساءلون: هل في مقدور حفيد رسول الله أن يصمد أمام أسئلة هذا العالم الكبير؟

قطع القاضي يحيى بن أكثم حبل الصمت، والتفت إلى المأمون قائلاً:

أيأذن لي أميرالمؤمنين بأن أوجّه سؤالاً إلى أبي

١٩٧

جعفر بن الرّضا؟

أجاب المأمون: عليك أن تأخذ الإذن منه.

التفت يحيى بن أكثم إلى الإمام الجواد قائلاً:

(أتأذن لي - جعلت فذاك - في مسألة؟ فقال له أبو جعفر: سل إن شئت. قال يحيى: ماذا تقول في محرم قتل صيداً؟ أجاب الإمام:

قتله في حلّ أوحرم؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حرّاً كان أم عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كباره؟ مصرّاً على ما فعل أم نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد في أوكاره أم نهاراً؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله، أو بالحجّ كان محرماً؟

فتحيّر يحيى بن أكثم، وبان في وجهه العجز والانقطاع، وتلجلج حتى عرف أهل المجلس أمره).

لم يكن يحيى بن أكثم قد سمع - حتى يومه ذاك - بأكثر من وجه واحدٍ للمحرم الذي يقتل صيداً، ولم يعرف لذلك سوى حكم واحدٍ، ويفاجأ الآن بأنّ سؤالاً قصيراً واحداً يحتاج - في الإجابة عليه - إلى كلّ

١٩٨

ذلك التفصيل الكبير.

تحيّر يحيى بن أكثم، وتحيّر معه كلّ من حضر المجلس، وأدركوا بأنّ الإمام الجوادعليه‌السلام بحر من العلم والمعرفة؛ فقد أعطاهم - على صغر سنه - درساً في الأحكام، وهو أنّ الحكم في كلّ مسألةٍ يختلف باختلاف ظروفها وملابساتها.

ويروى أنّ المأمون طلب من الإمام أن يسأل يحيى بن أكثم كما سأله، فأجابه الإمام إلى طلبه، وسأل القاضي سؤالاً لم يعرف الإجابة عليه، وقال: والله لا أهتدي لجوابك، ولا أعرف الوجه في ذلك، فإن رأيت أن تفيدنا. فاستجاب الإمام إلى رغبته، وأعطاه جواب المسألة.

عند ذاك، أقبل المأمون على من حضره من أهل بيته قائلاً: ويحكم، إنّ أهل هذا البيت خصّوا من بين الخلق بما ترون من الفضل، وإنّ صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال، أما علمتم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله افتتح دعوته بدعاء أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وهو ابن عشر سنين. وقبل الإسلام منه، ولم يدع أحداً في سنه غيره؟ أفلا تعلمون الآن ما خصّ

١٩٩

الله به هؤلاء القوم، وأنّهم ذريّة بعضها من بعض، يجري لآخرهم ما يجري لأوّلهم؟ فقالوا: صدقت يا أميرالمؤمنين، إنّ ما تراه هو الصّواب.

زواج سياسيّ

سرّ المأمون لخروجه من المراهنة منتصراً، ورأى أن يستغلّ الفرصة المتاحة، فالتفت نحو الإمام قائلاً:

يا بقيّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقد علمت فضلك ومنزلتك، واخترتك زوجاً لابنتي (أمّ الفضل)، وإنّي - رغم معارضة الكثيرين لهذا الزّواج - أطلب منك القبول.

تردّد الإمام؛ فهو يعرف تماماً ما يرمي إليه المأمون من هذه المصاهرة، ويدرك الأهداف التي تكمن وراءها، فهي ليست في الواقع إلاّ زواجاً سياسيّاً، يحقّق للمأمون أغراضه في تهدئة وإرضاء العلويّين وفي جعل الإمام الجواد قريباً منه وتحت مراقبته.

شعر الإمام بالضيق، لكنّه كان يدرك حرج الموقف، فهو لا يستطيع أن يرفض طلب المأمون أمام هذا الجمع الكبير من أعيان بغداد، ورجالات الدولة وقوّادها، ففي الرّفض إهانة عظيمة للمأمون، والله

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وصلّى على نبيِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّها الناس إنَّ معاوية بن أبي سفيان قد أمرني أن ألعن عليَّ بن أبي طالب فالعنوه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ثمّ نزل فقال له معاوية: إنَّك لم تبيِّن مَن لعنت منهما بيِّنه. فقال: والله لا زدت حرفاً ولا نقصت حرفاً، والكلام إلى نيّة المتكلّم. العقد الفريد ٢: ١٤٤. المستطرف ١: ٥٤.

٤ - بعث معاوية إلى عبيد الله بن عمر لمـّا قدم عليه بالشام فأتي فقال له معاوية: يا بن أخي! إنَّ لك إسم أبيك، فانظر بملء عينيك، وتكلّم بكلِّ فيك، فأنت المأمون المصدّق، فاصعد المنبر واشتم عليّاً، واشهد عليه انّه قتل عثمان. فقال: يا أمير المؤمنين! أمّا شتمه فإنّه عليّ بن أبي طالب، وامّه فاطمة بنت أسد بن هاشم، فما عسى أن أقول في حسبه، وأمّا بأسه فهو الشجاع المطرق. وأمّا أيّامه فما قد عرفت، ولكنّي ملزمه دم عثمان. فقال عمرو بن العاص: إذاً والله قد نكأت القرحة(١) .

٥ - روى ابن الأثير في اُسد الغابة ١: ١٣٤ عن شهر بن حوشب انّه قال: أقام فلان(٢) خطباء يشتمون عليّاً رضي الله عنه وأرضاه ويقعون فيه حتّى كان آخرهم رجلٌ من الأنصار أو غيرهم يقال له: أنيس. فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: إنّكم قد أكثرتم اليوم في سبِّ هذا الرجل وشتمه وإنّي اُقسم بالله انّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: انّي لأشفع يوم القيامة لأكثر ممّا على الأرض من مدرٍ وشجر. واُقسم بالله ما أحد أوصل لرحمه منه، أفترون شفاعته تصل إليكم وتعجز عن أهل بيته؟! وذكره ابن حجر في - الإصابة ١: ٧٧.

٦ - بينما معاوية جالسٌ في بعص مجالسه وعنده وجوه الناس فيهم: الأحنف بن قيس إذ دخل رجلٌ من أهل الشام فقام خطيباً وكان آخر كلامه أن لعن عليّاً، فقال الأحنف يا أمير المؤمنين! إنَّ هذا القائل لو يعلم أنَّ رضاك في لعن المرسلين للعنهم فاتَّق الله يا أمير المؤمنين! ودع عنك عليّاً فلقد لقي ربّه، وأفرد في قبره، وخلا بعمله، وكان والله المبرور سيفه، الطاهر ثوبه، ألعظيمة مصيبته. فقال له معاوية: يا أحنف! لقد أغضيت العين على القذى، وقلت ما ترى، وأيم الله لتصعدنَّ المنبر فتلعننّه طوعاً أو كرهاً. فقال له الأحنف:

____________________

١ - كتاب صفين لابن مزاحم ١: ٩٢، شرح ابن ابى الحديد ١: ٢٥٦.

٢ - يعنى معاوية.

٢٦١

يا أمير المؤمنين! إن تعفني فهو خيرٌ لك، وإن تجبرني على ذلك فوالله لا يجري شفتاي به أبداً. فقال: قم فاصعد المنبر. قال الأحنف: أما والله لأنصفنّك في القول والفعل. قال: وما أنت قائلٌ إن أنصفتني؟! قال: أصعد المنبر فأحمد الله وأثني عليه واُصلّي على نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمَّ أقول: أيّها الناس انّ أمير المؤمنين معاوية أمر أن ألعن عليّاً، وإنَّ عليّاً ومعاوية اختلفا واقتتلا فادَّعى كلُّ واحد منهما انّه بُغي عليه وعلى فئته، فإذا دعوت فأمِّنوا رحمكم الله. ثمَّ أقول: أللّهم العن أنت وملائكتك وأنبياؤك وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه، والعن الفئة الباغية، أللهمَّ العنهم لعناً كثيراً، أمِّنوا رحمكم الله. يا معاوية! لا أزيد على هذا ولا أنقص حرفاً ولو كان فيه ذهاب روحي. فقال معاوية: إذاً نعفيك يا أبا بحر. العقد الفريد ٢: ١٤٤، المستطرف ١: ٥٤.

٧ - في كتاب « المختصر في أخبار البشر » للعلّامة اسماعيل بن عليِّ بن محمود: كتب الحسن إلى معاوية واشترط عليه شروطاً وقال: إن أجبت إليها فأنا سامعٌ مطيعٌ فأجاب معاوية إليها، وكان الذي طلبه الحسن أن يُعطيه ما في بيت مال الكوفة، وخراج دار ابجرد من فارس، وأن لا يشتم عليّاً، فلم يجب إلى الكفِّ عن شتم عليّ، فطلب الحسن أن لا يُشتم عليٌّ وهو يسمع، فأجابه إلى ذلك ثمَّ لم يفِ به.

راجع ايضاً تاريخ الطبري ٦: ٩٢، كامل إبن الأثير ٣: ١٧٥، تاريخ ابن كثير ٨: ١٤، تذكرة السبط ص ١١٣، إتحاف الشبراوي ص ١٠.

٨ - جاء قيس بن عبّاد الشيبانيّ إلى زياد فقال له: إنّ امرأ منّا من بني همام يُقال له: صيفي بن فسيل من رؤوس أصحاب حُجر، وهو أشدّ الناس عليك، فبعث إليه زياد فاُتي فقال له زياد: يا عدوّ الله ما تقول في أبي تراب؟ قال: ما أعرف أبا تراب. قال، ما أعرَفَك به؟ قال: ما أعرفه. قال: أما تعرف عليّ بن أبي طالب؟ قال: بلى. قال: فذاك أبو تراب. قال: كلّا ذاك أبو الحسن والحسينعليه‌السلام .

وفيه: قال زياد: لتلعننّه او لأضربنّ عنقك. قال: إذاً تضربها والله قبل ذلك، فإن أبيتَ إلّا أن تضربها رضيتُ بالله وشقيتَ أنت. قال: ادفعوا في رقبته. ثمَّ قال. أوقروه حديداً وألقوه في السجن. ثمَّ قتل(١) مع حُجر وأصحابه سنة ٥١. وسيوافيك الحديث بتمامه

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٦: ١٤٩، الاغانى ١٦: ٧، كامل ابن الاثير ٣: ٢٠٤، تاريخ ابن عساكر ٦: ٤٥٩.

٢٦٢

انشاء الله تعالى.

٩ - خطب بُسر بن أرطاة على منبر البصرة فشتم عليّاًعليه‌السلام ثمَّ قال: نشدت الله رجلاً علم أنّي صادقُ إلّا صدَّقني أو كاذبٌ إلّا كذَّبني. فقال أبو بكرة: أللهمّ إنّا لا نعلمك إلّا كاذباً. قال: فأمر به فخنق. تاريخ الطبري ٦: ٩٦.

١٠ - استعمل معاوية كثير بن شهاب على الري وكان يكثر سبَّ عليّ على منبر الري وبقي عليها إلى أن ولي زياد الكوفة فأقرَّ عليها. كامل ابن الأثير ٣: ١٧٩.

١١ - كان المغيرة بن شعبة لمـّا ولي الكوفة كان يقوم على المنبر ويخطب وينال من عليّعليه‌السلام ويلعنه ويلعن شيعته، وقد صحَّ انَّ المغيرة لعنه على منبر الكوفة مرّات لا تحصى، وكان يقول: انَّ عليّاً لم ينكحه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته حبّاً ولكنّه أراد أن يكافئ بذلك إحسان أبي طالب إليه.

وصحّ عند الحاكم والذهبي انّ المغيرة سبَّ عليّاً فقام إليه زيد بن أرقم فقال: يا مغيرة! ألم تعلم أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن سبّ الأموات؟ فلِمَ تسبّ عليّاً وقد مات؟(١)

راجع مسند أحمد ١: ١٨٨، الأغاني ١٦: ٢، المستدرك ١: ٣٨٥، شرح ابن ابي الحديد ١: ٣٦٠.

قدمت الخطباء إلى المغيرة بن شعبة بالكوفة فقام صعصعة بن صوحان فتكلّم فقال المغيرة: أخرجوه فاُقيموه على المصطبة فليلعن عليّاً. فقال: لعن الله من لعن الله ولعن عليَّ بن أبي طالب. فاخبروه بذلك فقال: اُقسم بالله لتقيِّدنَّه. فخرج فقال: إنَّ هذا يأبى إلّا عليّ بن أبي طالب فالعنوه لعنه الله. فقال المغيرة: أخرجوه أخرج الله نفسه. ألأذكياء لابن الجوزي ص ٩٨.

١٢ - أخرج ابن سعد عن عمير بن اسحاق قال: كان مروان أميراً علينا - يعني بالمدينة - فكان يسبُّ عليّاً كلّ جمعة على المنبر وحسن بن علي - يسمع فلا يردُّ شيئاً ثمَّ أرسل إليه رجلاً يقول له: بعليّ وبعليّ وبعليّ وبك وبك وبك، وما وجدت مثلك إلّا مثل البغلة يقال لها: مَن أبوك؟ فتقول: اُمِّي الفرس. فقال له الحسن: إرجع إليه فقل له: إنِّي والله لا أمحو عنك شيئاً ممّا قلت بأنّ أسبّك، ولكن موعدي وموعدك الله

____________________

١ - حديث السبّ عن نهى الاموات أخرجه البخارى فى صحيحه ٢: ٢٦٤.

٢٦٣

فإن كنتَ صادقاً جزاك الله بصدقك، وإن كنتَ كاذباً فالله أشدُّ نقمة. تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٢٧، راجع الجزء الثامن ترجمة مروان.

وكان الوزغ إبن الوزغ يقول لمـّا قيل له: ما لكم تسبُّون عليّاً على المنابر؟: إنّه لا يستقيم لنا الأمر إلّا بذلك. الصواعق المحرقة ص ٣٣.

١٣ - إستناب معاوية على المدينة عمرو بن سعيد بن العاص بن اُميّة الأمويّ المعروف بالأشدق الذي جاء فيه في مسند أحمد ٢: ٥٢٢ من طريق أبي هريرة مرفوعاً ليرعفنَّ على منبري جبّارٌ من جبابرة بني اُميّة يسيل رعافه. قال: فحدّثني مَن رأى عمرو بن سعيد رعف على منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى سال رعافه(١) .

كان هذا الجبّار ممّن يسبّ عليّاًعليه‌السلام على صهوة المنابر، قال القسطلاني في ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري ٤: ٣٦٨، والأنصاري في تحفة الباري شرح البخاري المطبوع في ذيل إرشاد الساري في الصفحة المذكورة: سمّي عمرو بالأشدق لأنّه صعد المنبر فبالغ في شتم عليّ رضي الله عنه فأصابته لقوةُ - أي داء في وجهه -.

وعمرو بن سعيد هو الذي كان بالمدينة يوم قتل الإمام السبطعليه‌السلام قال عوانة بن الحكم: لما قُتل الحسين بن علي دعا عبيد الله بن زياد عبد الملك بن أبي الحرث السلمي وبعثه إلى المدينة ليبشّر عمرو بن سعيد فدخل السلمي على عمرو فقال: ما وراءك؟ فقال: ما سرَّ الأمير قتل الحسين بن عليّ. فقال: ناد بقتله. فناديت بقتله فلم أسمع والله واعية قطُّ مثل واعية نساء بني هاشم في دورهنَّ على الحسين فقال عمرو وضحك:

عجّت نساء بني زياد عجّة

كعجيج نسوتنا غداة الإرنب(٢)

ثمّ قال عمرو: هذه واعيةٌ بواعية عثمان بن عفّان. ثمّ صعد المنبر فأعلم الناس قتله(٣) وفي مثالب أبي عبيدة: ثمَّ أومأ إلى القبر الشريف وقال: يا محمّد! يوم بيوم بدر. فأنكر عليه قومٌ من الأنصار.

____________________

١ - وذكره ابن كثير فى تاريخه ٨: ٣١١.

٢ - وقعة الارنب كانت لبنى زبيد على بنى زياد من بنى الحارث بن كعب من رهط عبد المدان والبيت المذكور لعمرو بن معد يكرب.

٣ - تاريخ الطبرى ٦: ٢٦٨، كامل ابن الاثير ٤: ٣٩.

٢٦٤

كان أبو رافع عبداً لأبي احيحة سعيد بن العاص بن اُمية فأعتق كلٌّ من بنيه نصيبه منه إلا خالد بن سعيد، فانّه وهب نصيبه للنبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاعتقه فكان يقول: أنا مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا ولي عمرو بن سعيد بن العاص المدينة ايّام معاوية أرسل إلى البهيِّ(١) بن أبي رافع فقال له: مولى مَن أنت؟ فقال: مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فضربه مائة سوط، ثمّ تركه ثمّ دعاه فقال: مولى مَن أنت؟ فقال: مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضربه مائة سوط، حتّى ضربه خمسمائة سوط. فلمّا خاف أن يموت قال له: أنا مولاكم. كامل المبرَّد ٢: ٧٥، الإصابة ٤: ٦٨.

١٤ - أخرج الحاكم من طريق طاووس قال: كان حُجر بن قيس المدري من المختصِّين بخدمة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له عليٌّ يوماً يا حُجر! إنّك تقام بعدي فتؤمر بلعني فالعنّي ولا تبرأ منِّي(٢) . قال طاوس: فرأيت حُجر المدري وقد أقامه أحمد بن ابراهيم خليفة بني اميّة في الجامع ووكّل به ليلعن عليّاً أو يُقتل فقال حُجر: أما انّ الأمير أحمد بن ابراهيم أمرني أن ألعن عليّاً فالعنوه لعنه الله. فقال طاوس: فلقد أعمى الله قلوبهم حتّى لم يقف أحدٌ منهم على ما قال المستدرك ٢: ٣٥٨.

قال الأميني: لم يزل معاوية وعمّاله دائبين على ذلك حتّى تمرَّن عليه الصغير و هرم الشيخ الكبير، ولعلّ في اوليات الأمر كان يوجد هناك من يمتنع عن القيام بتلك - السبَّة المخزية، وكان يسع لبعض النفوس الشريفة أن يتخلّف عنها غير أنَّ شدّة معاوية الحليم في إجراء اُحدوثته، وسطوة عمّاله الخصماء الألدّاء على أهل بيت الوحي، وتهالكهم دون تدعيم تلك الإمرة الغاشمة، وتنفيذ تلك البدعة الملعونة، حكمت في البلاء حتّى عمّت البلوى، وخضعت إليها الرقاب، وغلّلتها أيدي الجور تحت نير الذلِّ والهوان، فكانت العادة مستمرّة منذ شهادة أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى نهي عمر بن عبد العزيز طيلة أربعين سنة على صهوات المنابر وفي الحواضر الإسلاميّة كلّها من الشام إلى الري إلى الكوفة إلى - البصرة إلى عاصمة الاسلام المدينة المشرَّفة إلى حرم أمن الله مكّة المعظّمة إلى شرق العالم

____________________

١ - فى الكامل: عبيد الله بن أبى رافع.

٢ - صح عن امير المؤمنين قوله: انكم ستعرضون على سبى فسبونى، فان عرضت عليكم البراءة منى فلا تبرؤا منى، فانّي على الاسلام. مستدرك الحاكم ٢: ٣٥٨.

٢٦٥

الإسلامي وغربه، وعند مجتمعات المسلمين جمعاء، وقد مرّ في الجزء الثاني قول ياقوت في معجم البلدان: لُعن عليُّ بن ابي طالب رضي الله عنه على منابر الشرق والغرب ولم يُلعن على منبر سبحستان إلّا مرّة، وامتنعوا على بني اُميّة حتى زادوا في عهدهم: وأن لا يُلعن على منبرهم أحدُ، وأيّ شرف أعظم من إمتناعهم من لعن أخي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منبرهم وهو يُلعن على منابر الحرمين: مكّة والمدينة.اهـ.

وقد صارت سنّة جارية ودُعمت في أيّام الاُمويِّين سبعون ألف منبر يُلعن فيها أمير المؤمنينعليه‌السلام (١) واتّخذوا ذلك كعقيدة راسخة، أو فريضة ثابتة، أو سنّة متّبعة يُرغب فيها بكلّ شوق وتوق حتّى انّ عمر بن عبد العزيز لمـّا منع عنها لحكمة عمليّة أو لسياسة وقتيّة حسبوه كأنّه جاء بطامّة كبرى أو اقترف إثماً عظيما.

والذي يظهر من كلام المسعودي في مروجه ٢: ١٦٧، واليعقوبي في تاريخه ٣: ٤٨، وابن الأثير في كامله ٧: ١٧، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص ١٦١ وغيرهم انّ عمر بن عبد العزيز إنّما نهى عن لعنهعليه‌السلام في الخطبة على المنبر فحسب وكتب بذلك إلى عمّاله وجعل مكانه( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ) . الآية. وقيل: بل جعل مكان ذلك:( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ) . الآية. وقيل: بل جعلهما جميعاً فاستعمل الناس في الخطبة.

وأمّا نهيه عن مطلق الوقيعة في أمير المؤمنين والنيل منهعليه‌السلام ، وأخذه كلّ متحامل عليه بالسبِّ والشتم، وإجراء العقوبة على مرتكبي تلكم الجريرة فلسنا عالمين بشيىء من ذلك، غير أنّا نجد في صفحات التاريخ انّ عمر بن عبد العزيز كان يجلد مَن سبّ عثمان ومعاوية كما ذكره ابن تيميّة في كتابه « الصارم المسلول » ص ٢٧٢ ولم نقف على جلده أحداً لسبّه أمير المؤمنينعليه‌السلام .

دع عنك موقف أمير المؤمنينعليه‌السلام من خلافة الله الكبرى، وسوابقه في تثبيت الإسلام والذبّ عنه، وبثّه العدل والإنصاف، وتدعيمه فرايض الدين وسننه، ودعوته إلى الله وحده وإلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى دينه الحنيف، وتهالكه في ذلك كلّه حتّى لقي ربّه مكدوداً في ذات الله.

____________________

١ - راجع ما أسلفناه فى الجزء الثانى ص ١٠٢، ١٠٣ ط ٢.

٢٦٦

دع عنك فضائله وفواضله والآي النازلة فيه والنصوص النبويّة المأثورة في مناقبه لكنّه هل هو بدعٌ من آحاد المسلمين الذين يحرم لعنهم وسبابهم وعليه تعاضدت الأحاديث واطّردت الفتاوى.

وحسبك قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سباب المسلم فسوق.

أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد، والبيهقي، والطبري، والدارقطني، والخطيب، وغيرهم من طريق ابن مسعود، وأبي هريرة، وسعد بن أبي وقاص، وجابر، وعبد الله بن مغفل، وعمرو بن النعمان. راجع الترغيب والترهيب ٣: ١٩٤، وفيض القدير ٤: ٨٤، ٥٠٥، ٥٠٦.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سباب المسلم كالمشرف على الهلكة.

أخرجه البزّار من طريق عبد الله بن عمرو بإسناد جيِّد كما قاله الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب ٣: ١٩٤.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يكون المؤمن لعّاناً.

أخرجه الترمذي وقال: حديثٌ حسن. وسمعت نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سبِّ الأموات ص ٢٦٣.

على أنَّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام مع غضِّ الطرف عن طهارة مولده وقداسة محتده وشرف اُرومته وفضائله النفسيّة والكسبيّة وملكاته الكريمة هو من العشرة الذين بُشّروا بالجنّة - عند القوم - ولا أقلَّ من أنّه أحد الصحابة الذين يعتقد القوم فيهم العدالة جميعاً(١) ، ويحتجّون بأقوالهم وأفعالهم، ولا يستسيغون الوقيعة فيهم، ويشدّدون النكير على الشيعة لحسبانهم أنّهم يقعون في بعض الصحابة ورتَّبوا على ذلك أحكاماً، قال يحيى بن معين: كلُّ من شتم عثمان أو طلحة أو أحداً من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دجّالٌ لا يُكتب عنه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين(٢)

____________________

١ - قال النووى فى شرح مسلم هامش الارشاد ٨: ٢٢: انّ الصحابة رضى الله عنهم كلهم هم صفوة الناس، وسادات الامّة، وأفضل ممن بعدهم، وكلهم عدول قدوة لا نخالة فيهم، وانما جاء التخليط ممن بعدهم، وفيمن بعدهم كانت النخالة.

٢ - تهذيب التهذيب ١: ٥٠٩.

٢٦٧

وعن أحمد إمام الحنابلة: خير الاُمّة بعد النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر، وعليّ بعد عثمان، ووقف قومٌ، وهم خلفاء راشدون مهديُّون ثمّ أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس، لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص، فمن فعل ذلك فقد وجب تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلّده في الحبس حتى يموت أو يراجع.

وعنه أيضاً: ما لهم ولمعاوية نسأل الله العافية. وقال: إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسوء فاتّهمه على الإسلام.

وعن عاصم الأحول قال: اُتيت برجل قد سبّ عثمان قال: فضربته عشرة أسواط قال: ثمّ عاد لما قال، فضربته عشرة اُخرى. قال: فلم يزل يسبّه حتى ضربته سبعين سوطاً.

وقال القاضي أبو يعلى: الذي عليه الفقهاء في سبِّ الصحابة إن كان مستحلاًّ لذلك كفر، وإن لم يكن مستحلاًّ فسق ولم يكفر، سواءٌ كفَّرهم أو طعن في دينهم مع اسلامهم وقد قطع طائفةٌ من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سبّ الصحابة وكفر الرافضة.

وقال أبو بكر بن عبد العزيز في المقنع: فأمّا الرافضي فإن كان يسبّ فقد كفر فلا يُزوَّج(١) .

وقال الشيخ علاء الدين أبو الحسن الطرابلسي الحنفي في [معين الحكام فيما يتردّد بين الخصمين من الأحكام] ص ١٨٧: من شتم أحداً من أصحاب النبيّعليه‌السلام أبا بكر أو عمر أو عثمان أو عليّاً أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال: كانوا على ضلال وكفر. قُتل وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً.

وعدّ الذهبي في كتاب « الكبائر » ص ٢٣٣ منها: سبّ أحد من الصحابة وقال في ص ٢٣٥: فمن طعن فيهم أو سبّهم فقد خرج من الدين، ومرق من ملّة المسلمين لأنّ الطعن لا يكون إلّا عن إعتقاد مساويهم، وإضمار الحقد فيهم، وإنكار ما ذكره الله في كتابه من ثنائه عليهم وما لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ثنائه عليهم وفضائلهم ومناقبهم وحبّهم

____________________

١ - الصارم المسلول ص ٢٧٢، ٥٧٤، ٥٧٥.

٢٦٨

ولأنَّهم أرضى الوسائل من المأثور والوسائط من المنقول والطعن في الوسائط طعنٌ في الأصل والإزدراء بالناقل إزدراءٌ بالمنقول: هذا ظاهرٌ لمن تدبّره وسلم من النفاق ومن الزندقة والإلحاد في عقيدته، وحسبك ما جاء في الأخبار والآثار من ذلك كقول النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ الله اختارني واختار لي أصحاباً فجعل لي منهم وزراء وأنصاراً وأصهاراً فمن سبّهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً.

ولهم في سبِّ الشيخين وعثمان تصويبٌ وتصعيدٌ، قال محمّد بن يوسف الفريابي: سُئل « القاضي أبو يعلى » عمن شتم أبا بكر؟ قال: كافرٌ. قيل: فيصلّى عليه؟ قال: لا.

وسأله كيف يُصنع به وهو يقول: لا إله إلّا الله؟ قال: لا تمسّوه بأيديكم إدفعوه بالخشب حتّى تواروه في حفرته. الصّارم المسلول ص ٥٧٥.

وقال الجرداني في « مصباح الظلام » ٢: ٢٣: قال أكثر العلماء: من سبَّ أبا بكر وعمر كان كافراً.

وقال ابن تيميّة في « الصارم المسلول » ص ٥٨١: قال إبراهيم النخعي: كان يُقال شتم أبي بكر وعمر من الكبائر. وكذلك قال أبو إسحاق السبيعي: شتم أبي بكر و عمر من الكبائر التي قال الله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه.

وقُتل عيسى بن جعفر بن محمّد لشتمه أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة بأمر المتوكّل على الله. قاله ابن كثير في تاريخه ١٠: ٣٢٤.

وفي « الصارم المسلول » ص ٥٧٦: قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتم عثمان: هذا زندقة.

هب انّ هذه الفتاوى المجرّدة من مسلّمات الفقه، وليس للباحث أن يُناقش أصحابها الحساب، ويطالبهم مدارك تلكم الأحكام من الكتاب والسنّة أو الاُصول و القواعد أو القياس والإستحسان، ولا سيّما مدارك جملة من خصوصيّاتها العجيبة الشاذَّة عن شرعة الإسلام، لكنّها هل هي مخصوصةٌ بغير رجالات أهل البيت فهي منحسرةٌ عنهم؟! ولعلّ فيهم من يجاثيك على ذلك فيقول: نعم هي منحسرةٌ عن عليّعليه‌السلام وابنيه السبطين سيّدا شباب أهل الجنّة، لأنَّ ابن هند كان يقع فيهم ويلعنهم ويُلجئ الناس إلى ذلك بأنواع من الترغيب والترهيب، فليس من الممكن تسريبها إليه لأنّه كاتب

٢٦٩

الوحي، وإن كان لم يكتب غير عدّة كتب إلى رؤساء القبائل في أيّام إسلامه القليلة من اُخريّات العهد النبويّ، وهو خال المؤمنين لمكان امّ حبيبة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّه لم يسمّوا بذلك غيره من اخوة أزواج النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمحمَّد بن أبي بكر، وليس له مبرّرٌ إلّا انَّ محمّداً كان في الجيش العلوي ومعاوية حاربه صلوات الله عليه، فهي ضغائن قديمة انفجر بركانها أخيراً عند منتشر الأحقاد ومحتدم الإحن، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون.

وهل سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المزعومة في قوله: لا تسبُّوا أصحابي. وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سبَّ أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. كانت مختصّة بغير المخاطبين بها في صدر الإسلام من الصحابة؟! أو انّها عامّةٌ مطَّردةٌ؟! كما يقتضيه كونها من الشريعة الإسلاميّة المستمرّة إلى أن تقوم الساعة، وقد حسبوها كذلك لأنّها متّخذةٌ من السنّة المخاطب بها، وقد جاء في بعض طرق الرواية الاولى عند مسلم: انّه كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرَّحمن بن عوف شيىءٌ فسبّه خالد فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تسبّوا أصحابي، وفي رواية أنس: قال اُناسٌ من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّا نسبُّ. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَن سبَّ أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين(١)

فليس من المعقول أن يكونوا مستثنين من حكم خوطبوا به لولا أنَّ الميول و الشهوات قد استثنتهم.

أو كان أمير المؤمنينعليه‌السلام مستثنى من بين الصّحابة عن شمول تلكم الأحكام؟ فلا تجري على من نال منهعليه‌السلام أو وقع فيه.

أضف إلى هذه كلّها: انَّ مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام كان أحد الخلفاء الرّاشدين عندهم، وبالإجماع المتسالم عليه بين فرق الإسلام كلّها، وللقوم فيمن يقع فيهم أحكامٌ شديدةٌ، ومنهم مَن قال كما سمعته قُبيل هذا بكفر من سبَّ الشيخين وزندقة من سبَّ عثمان، وقد جاء في الصحيح الثابت قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي(٢)

____________________

١ - كتاب ألكبائر للذهبى ص ٢٣٥.

٢ - مرّ معناه الصحيح فى الجزء السادس ص ٣٣٠ ط ٢.

٢٧٠

فهلمَّ معي نسائلهم عن المبرِّر لعمل معاوية والأمويّين منتسباً ونزعةً وتابعيهم المجترحين لهذه السيّئة المخزية وعن المغضين عنهم الذين أخرجوا إمام العدل صنو محمّد صلّى الله عليهما وآلهما عن حكم الخلفاء وعن حكم الصحابة بل وعن حكم آحاد المسلمين فاستباحوا النيل منه على رؤوس الأشهاد وفي كلِّ منتدى ومجمع من دون أيِّ وازعٍ يزعهم، فإلى أيِّ هوّة أسفّوا بالإمام الطاهرعليه‌السلام ؟ حتّى استلبوه الأحكام المرتّبة على المواضيع الثلاثة: الخلافة. الصحبة. الإسلام. ولم يقيموا له أيّ وزن، وما راعوا فيه أيّ حقّ، وما تحفّظوا له بأيّة كرامة، وهو نفس الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزوج إبنته، وأبو سبطيه، وأوّل مَن أسلم له، وقام الإسلام بسيفه، وتمّت برهنة الحقِّ ببيانه، واكتسحت المعرّات عن الدّين بلسانه وسنانه، وهو مع الحقّ والحقّ معه، وهو مع القرآن والقران معه ولن يفترقا حتّى يردا على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحوض، وما غيَّر وما بدّل حتى لفظ نفسه الأخير، وهم يمنعون عن لعن الأدعياء، وحملة الأوزار المستوجبين النار، ويذبّون عن الوقيعة في أهل العرّة والخمور والفجور من طريد إلى لعين إلى متهاون بالشريعة إلى عائث بالأحكام إلى مبدِّل للسنّة إلى مخالف للكتاب ومحالف للهوى إلى إلى إلى. إنّا لِلّه وإنّا إليه راجعون.

نعم: لعمر الحقِّ كان الأمر كما قال عامر بن عبد الله بن الزبير لمـّا سمع ابنه ينال من عليّعليه‌السلام : يا بنيَّ إيّاك وذكر عليّ رضي الله عنه فإنّ بني اميّة تنقّصته ستّين عاماً فما زاده الله بذلك إلّا رفعة. المحاسن والمساوي للبيهقي ١: ٤٠.

يُريدون أن يُطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله

إلَّا أن يُتمّ نوره

٢٧١

_ ١٦ _

قتال ابن هند علياً امير المومنينعليه‌السلام

نحن مهما غضضنا الطرف عن شيىء في الباب فلا يسعنا أن نتغاضا عن أنّ مولانا أمير المؤمنين هو ذلك المسلم الأوحديّ الذي يحرم ايذاؤه وقتاله، والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً، ومن المتسالم عليه عند امّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله: سباب المسلم - المؤمن - فسوق، وقتاله كفر. وقد اقترف معاوية الاثمين معاً فسبّ وقاتل سيّد المسلمين جميعاً، وآذى أوَّل من أسلم من الاُمّة المرحومة، و آذى فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذين يؤذون رسول الله لهم عذابٌ أليم، ومن آذى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد آذى الله، إنّ الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة.

على أنّه سلام الله عليه كان خليفة الوقت يومئذ كيفما قلنا أو تمحَّلنا في أمر الخلافة وكان تصدّيه لها بالنصّ، وإجماع أهل الحلّ والعقد، وبيعة المهاجرين والأنصار، ورضى الصحابة جمعاء، خلا نفر يسير شذّوا عن الطريقة المثلى لا يفتّون في عضد جماعة، ولا يؤثّرون على إنعقاد طاعة، بعثت بعضهم الضغائن، وحدت آخر المطامع، واندفع ثالث إلى نوايا خاصّة رغب فيها لشخصيّاته، وكيفما كانت الحالة فأمير المؤمنينعليه‌السلام وقتئذ الخليفة حقّاً، وإنّ مَن ناواه وخرج عليه يجب قتله، وإنّما خلع ربقة الإسلام من عنقه وأهل سلطان الله، ويلقى الله ولا حجّة له، وقد جاء في النصِّ الجليِّ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرِّق أمر هذه الاُمّة وهم جميعٌ فاضربوا رأسه بالسيف كائناً من كان.

وفي لفظ: فمن رأيتموه يمشي إلى اُمَّة محمّد فيفرّق جماعتهم فاقتلوه.

وفي لفظ الحاكم: فاقتلوه كائناً من كان من النّاس. راجع صفحة ٢٧، ٢٨ من هذا الجزء.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَن أتاكم وأمركم جمعٌ على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه. راجع ص ٢٨ من هذا الجزء.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَن خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات مات ميتة جاهليَّة، ومَن

_١٧_

٢٧٢

قاتل تحت راية عميَّة يغضب للعصبيّة، أو يدعو إلى عصبيّة، او ينصر عصبيّة، فقتل فقتلة جاهليّة، ومن خرج على امّتي يضرب برّها وفاحرها لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس منِّي ولست منه(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ مَن خلع يداً من طاعة لقى الله يوم القيامة ولا حجّة له، ومَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليَّة(٢) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَن خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه إلّا أن يراجع، ومَن دعا دعوة جاهليّة فإنّه من جثا جهنّم، قال رجلٌ: يا رسول الله! وإن صام وصلّى؟ قال: نعم وإن صام وصلّى، فادعوا بدعوة الله الذي سمّاكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله(٣) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه(٤) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس أحدٌ يفارق الجماعة قيد شبر فيموت إلّا مات ميتة جاهليّة(٥)

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَن خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهليّة(٦) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله(٧) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق معاوية نفسه: مَن فارق الجماعة شبراً دخل النار(٨)

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَن فارق الجماعة، واستذلّ الإمارة لقى الله ولا حجّة له عند الله(٩) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمل عليكم عبدٌ حبشيٌّ كأنَّ رأسه زبيبة(١٠) .

____________________

١ - صحيح مسلم ٦: ٢١، سنن البيهقى ٨: ١٥٦، مسند أحمد ٢: ٢٩٦، تيسير الوصول ٢: ٣٩.

٢ - صحيح مسلم ٦: ٢٢، سنن البيهقي ٨: ١٥٦.

٣ - سنن البيهقى ٨: ١٤٧، مستدرك الحاكم ١: ١١٧ صدر الحديث.

٤ - سنن البيهقى ٨: ١٥٧، مستدرك الحاكم ١: ١١٧.

٥ - صحيح البخارى باب السمع والطاعة للامام، سنن البيهقى ٨: ١٥٧.

٦ - تيسير الوصول ٢: ٣٩ نقلا عن الشيخين.

٧ - صحيح الترمذى ٩: ٦٩، تيسير الوصول ٢: ٣٩.

٨ - مستدرك الحاكم ١: ١١٨.

٩ - مستدرك الحاكم ١: ١١٩.

١٠ - صحيح البخارى باب السمع والطاعة، صحيح مسلم ٦: ١٥ واللفظ للبخارى.

٢٧٣

أوَ هَل ترى معاوية في خروجه على أمير المؤمنينعليه‌السلام ألف الجماعة ولازم الطاعة أو أنّه باغٍ أهان سلطان الله واستذلَّ الامارة الحقّة، وخرج عن الطاعة، وفارق الجماعة وخلع ربقة الإسلام من رأسه؟ النصوص النبويّة، تأبى إلّا أن يكون الرّجل على رأس البغاة كما كان على رأس الأحزاب يوم كان وثنيّاً، وما أشبه آخره بأوّله، ولذلك أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين بقتاله، وانّ من يقتل عمّاراً هي الفئة الباغية، ولم يختلف اثنان في أنّ أصحاب معاوية هم الذين قتلوه، غير أنّ معاوية نفسه لم يتأثَّر بتلك الشية ولم تثنه عن بغيه تلكم القتلة وأمثالها من الصلحاء الأبرار الذين ولغ في دمائهم.

أضف إلى ذلك انَّ معاوية هو الخليفة الأخير ببيعة طغام الشام وطغاتهم إن كانت لبيعتهم الشاذَّة قيمة في الشريعة، وقد حتّم الاسلام قتل خليفة مثله بقول نبيّه الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ستكون خلفاء فتكثر قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأوّل فالاوّل، واعطوهم حقّهم.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء أحدٌ ينازعه فاضربوا عنق الآخر.

وهذه الأحاديث الصحيحة الثابتة(١) هي التي تصحّح الحديث الوارد في معاوية نفسه وإن ضعف اسناده عند القوم من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه(٢) وهو المعاضد بما ذكره المناوي في كنوز الدقائق ص ١٤٥ من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من قاتل عليّاً على الخلافة فاقتلوه كائناً من كان.

وبعد أن ترائت الفئتان أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام وطغمة معاوية حكم فيهم كتاب الله تعالى بقوله:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ) (٣) وبها استدلَّ أئمَّة الفقه كالشافعيّ على قتال أهل البَغي(٤) وأصحاب معاوية هم الفئة الباغية بنصٍّ من

____________________

١ - راجع صفحة ٢٧، ٢٨، ٢٧٢ من هذا الجزء.

٢ - راجع صفحة ١٤٢ من هذا الجزء.

٣ - سورة الحجرات: ٩.

٤ - سنن البيهقي ٨: ١٧١.

٢٧٤

الرَّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) .

وقال محمّد بن الحسن الشيباني الحنفي المتوفّى ١٨٧: لو لم يقاتل معاوية عليّاً ظالماً له متعديّاً باغياً كنّا لا نهتدي لقتال أهل البغي ( الجواهر المضيئة ٢: ٢٦ ).

قال القرطبي في تفسيره ١٦ ص ١٣٧: في هذه الآية دليلٌ على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين.

وقال: قال القاضي أبو بكر بن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأوّلين، وعليها عوّل الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملّة، وإيّاها عني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله: تقتل عمّاراً الفئة الباغية. وقولهعليه‌السلام في الخوارج: يخرجون على خير فرقة أو على حين فرقة. والرواية الاُولى أصحّ لقولهعليه‌السلام : تقتلهم أولى الطائفتين إلى الحقّ، وكان الّذي قتلهم عليّ بن أبي طالب ومَن كان مَعه. فتقرّر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدِّين أنَّ عليّاً رضي الله عنه كان إماماً، وأنَّ كلّ من خرج عليه باغٍ وانَّ قتاله واجبٌ حتَّى يفيء إلى الحقِّ وينقاد إلى الصلح.اهـ

وقال الزيلعي في نصب الراية ٤ ص ٦٩: وأمّا إنَّ الحق كان بيد عليّ في نوبته فالدليل عليه قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار: تقتلك الفئة الباغية. ولا خلاف انّه كان مع عليّ وقتله أصحاب معاوية، قال إمام الحرمين في كتاب الارشاد: وعليّ رضي الله عنه كان إماماً حقّاً في ولايته، ومقاتلوه بغاةٌ، وحسن الظن بهم يقتضي أن يظنَّ بهم قصد الخير وإن أخطأوه، وأجمعوا على أنّ عليّاً كان مصيباً في قتال أهل الجمل، وهم طلحة، والزبير، وعائشة، ومَن معهم، وأهل صفّين وهم معاوية وعسكره وقد أظهرت عائشة الندم. اهـ(٢) .

وحقّاً قالت عائشة: ما رأيت مثل ما رغبت عنه هذه الاُمّة من هذه الآية:( وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) (٣) وامّ المؤمنين هي أوّل من رغبت عن هذه الآية وضيّعت حكمها، وخالفها وخرجت من عقر دارها، وتركت خدرها وتبرّجت تبرّج الجاهليَّة الاُولى، وحاربت إمام زمانها، ولعلّها ندمت وبكت حتّى بلّت خمارها، ولمـّا...

____________________

١ - راجع ما أسلفناه فى الجزء الثالث.

٢ - هكذا حكاه الزيلعي عن الارشاد وأنت تجده محرّفاً عند الطبع، راجع الارشاد ص ٤٣٣.

٣ - السنن الكبرى للبيهقى ٧: ١٧٢، مستدرك الحاكم ٢: ١٥٦.

٢٧٥

ومن هنا وهناك كان مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام يوجب قتال أهل الشام ويقول: لم أجد بدّاً من قتالهم أو الكفر بما اُنزل على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وفي لفظ: ما هو إلّا الكفر بما نزل على محمّد، أو قتال القوم(١) .

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمر وجوه أصحابه كأمير المؤمنين، وأبي أيّوب الأنصاري وعمّار بن ياسر، بقتال النّاكثين والقاسطين والمارقين، وقد مرّت أحاديثه في الجزء الثالث ص ١٦٧ - ١٧٠ وكان من المتَّفق عليه عند السّلف: انَّ القاسطين هُم أصحاب معاوية.

فبأيِّ حجّة ولو كانت داحضة كان معاوية الذي يجب قتله وقتاله يستسيغ محاربة عليّ أمير المؤمنين؟ وبين يديه كتاب الله وسنّة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن كان ممّن يقتصّ أثرهما وفي الذكر الحكيم قوله سبحانه:( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ) (٢) ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) (٣) ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (٤) ( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (٥) .

فلم يكن القتال أوّل فاصل لنزاع الاُمّة قبل الرّجوع إلى محكمات الكتاب، وما فيه فصل الخطاب من السنَّة المباركة، ولذلك كان مولانا أمير المؤمنين يُتمُّ عليهم الحجّة بكتابه وخطابه منذ بدء الأمر برفع الخصومة إلى الكتاب الكريم وهو عِدله، وكان يخاطب وفد معاوية ويقول: ألا إنّي ادعوكم إلى كتاب الله عزَّ وجلَّ وسنَّة نبيّه (تاريخ الطبري ٦: ٤) ومن كتاب لهعليه‌السلام إلى معاوية ومَن قِبله من قريش قوله: ألا وإنّي أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيِّه، وحقن دماء هذه الاُمّة.

شرح نهج البلاغة ١: ١٩.

____________________

١ - نهج البلاغة ١: ٩٤، كتاب صفين ص ٥٤٢، مستدرك الحاكم ٣: ١١٥، الشفا للقاضى عياض، شرح ابن ابى الحديد ١: ١٨٣، البحر الزخّار ٥: ٤١٥.

٢ - سورة النساء: ٥٩.

٣ - سورة المائدة: ٤٤.

٤ - سورة المائدة: ٤٧.

٥ - سورة المائدة: ٤٥.

٢٧٦

فلم يعبئوا به إلّا بعد ما اضطرّوا إلى التترّس به، وقد أخبر بذلك الإمام قبل وقوع الواقعة فيما كتب إلى معاوية: وكأنّي بك غداً وأنت تضجّ من الحرب ضجيج الجِمال من الأثقال، وستدعوني أنت وأصحابي إلى كتاب تعظَّمونه بألسنتكم، وتجحدونه بقلوبكم. شرح ابن أبي الحديد ٣: ٤١١، ج ٤: ٥٠.

وفي كتاب آخر لهعليه‌السلام إليه وكأنِّي بجماعتك تدعوني - جزعاً من الضرب المتتابع والقضاء الواقع، ومصارع بعد مصارع - إلى كتاب الله، وهي كافرةٌ جاحدة، أو مبايعة حائدة (نهج البلاغة ٢: ١٢) فقد صدَّق الخُبر الخبر واتَّخذوه جُنّة مكراً وخداعاً يوم رفعت المصاحف وكانوا كما قال مولانا أمير المؤمنين يومئذ: عباد الله انّي أحقّ من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية، وعمرو بن العاص، وابن أبي معيط، وحبيب بن مسلمة، وابن أبي سرح، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، إنّي أعرف بهم منكم، صحبتهم أطفالا، وصحبتهم رجالاً، فكانوا شرَّ أطفال وشرّ رجال، إنّها كلمة حقّ يُراد بها الباطل، إنَّهم والله ما رفعوها إنّهم يعرفونها ويعملون بها، ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة(١) ولم يأل الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهداً في تحذير المسلمين عن التورّط في هذه الفتنة العمياء بخصوصها، ويعرِّفهم مكانة أمير المؤمنين، ويكرِّههم مسّه بشيء مِنَ الأذى من قتال أو سبّ أو لعن أو بغض أو تقاعد عن نصرته، ويحثّهم على ولائه و اتّباعه واقتصاص أثره والكون معه بعد ما قرن الله ولايته بولايته وولاية الرّسول وطاعته بطاعتهما فقال:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٢) وقوله تعالى:(٣) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) (٤) .

لكن معاوية لم يقنعه الكتاب والسنّة فباء بتلكم الآثام كلّها، وجانب هاتيك الأحكام الواجبة جمعاء، فكان من القاسطين وهو يَرأسهم،( وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ) (٥)

____________________

١ - راجع ما أسلفناه من كلمات الامام عليه‌ السلام ففيها المقنع لطالب الحق.

٢ - راجع ما فصلناه فى الجزء الثانى ص ٥٢ ط ٢، وص ٥٨، و ج ٣ ص ١٤١ - ١٤٧.

٣ - سورة النساء: ٥٩.

٤ - صحيح البخارى باب التفسير، كتاب الاحكام، صحيح مسلم ٦: ١٣.

٥ - سورة الجنّ: ١٥.

٢٧٧

نعم: لم يقنع معاوية قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليُّ منِّي بمنزلة هارون من موسى إلَّا أنّه لا نبيَّ بعدي.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، أللهمَّ وال مَن والاه، وعاد مَن عاداه، وانصر من نصره، واخذل مَن خذله.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع عليّاً فقد أطاعني، ومن عصى عليّاً فقد عصاني.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، انّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، فانظروني. بم تَخلّفوني فيهما.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَن يريد أن يحيى حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنَّة الخلد الّتي وعدني ربّي فليتولّ علي بن أبي طالب، فإنّه لن يخرجكم من هدى، ولن يدخلكم في ضلالة.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ ربَّ العالمين عهد إليَّ عهداً في عليِّ بن أبي طالب فقال: إنَّه راية الهدى، ومنار الايمان، وإمام أوليائي، ونور جميع من أطاعني.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عنوان صحيفة المؤمن حبُّ عليِّ بن أبي طالب.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمـّا نظر إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين: أنا حربٌ لمن حاربكم، وسلمُ لمن سالمكم.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليٌّ منّي وأنا منه، وهو وليُّ كلِّ مؤمن بعدي.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له: أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث: عليُّ أمير المؤمنين، إمام المتقين، وقائد الغرّ المحجَّلين إلى جنّات ربِّ العالمين، أفلح من صدَّقه، وخاب من كذَّبه، ولو أنَّ عبداً عبد الله بين - الركن والمقام ألف عام وألف عام، حتّى يكون كالشنِّ البالي ولقى الله مبغضاً لآل محمّد أكبّه الله على منخره في نار جهنّم.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له: لا يحبّك إلّا مؤمنٌ، ولا يبغضك إلّا منافقٌ.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخذاً بيد الحسن والحسين: من أحبَّني وأحبَّ هذين وأباهما و امّهما كان معي في درجتي يوم القيامة.

٢٧٨

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليٌّ منِّي بمنزلة رأسي من بدني.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحدٌ إلّا أدخله الله النار.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له: يا علي طوبى لمن أحبَّك وصدق فيك، وويلٌ لمن أبغضك و كذب فيك.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أحبَّني فليحبَّ عليّاً، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله عزَّوجلَّ، ومن أبغض الله أدخله النار.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تسبّوا عليّاً فأنّه ممسوسٌ بذاك الله.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا أمير البررة، قاتل الفجرة، منصورٌ من نصره، مخذولٌ من خذله.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَن آذى عليّاً فقد آذاني.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أحبَّ عليّاً فقد أحبّني، ومن أبغض عليّاً فقد أبغضني.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اوحي إليَّ في عليّ ثلاث: انّه سيّد المسلمين، وإمام المتَّقين، و قائد الغرّ المحجَّلين.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من سبَّ عليّاً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبَّ الله عزَّ وجل، ومن سبَّ الله كبّه الله على منخريه في النار.

وقوله:صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو أنَّ عبداً عبد الله سبعة آلاف سنة ثمَّ أتى الله عزَّوجلَّ ببغض عليِّ بن ابي طالب جاهداً لحقّه، ناكثاً لولايته، لأتعس الله خيره، وجدع أنفه.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّعليه‌السلام : سجيّته سجيّتي، ودمه دمي، وهو عيبة علمي، لو ان عبداً من عباد الله عزّوجل عبد الله ألف عام بين الركن والمقام ثمَّ لقي الله عزَّوجلَّ مبغضاً لعليِّ بن أبي طالب وعترتي أكبّه الله على منخره يوم القيامة في نار جهنَّم.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ: يا عليّ لو أنّ امّتي صاموا حتّى يكونوا كالحنايا، وصلّوا حتى يكونوا كالأوتار، ثمّ أبغضوك لأكبّهم الله في النار.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يجوز أحدٌ الصِّراط إلّا من كتب عليٌّ الجواز.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يجوز احدٌ الصِّراط إلّا ومعه براةٌ بولايته وولاية أهل بيته، يشرف على الجنّة، فيدخل محبِّيه الجنّة، ومبغضيه النار.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : معرفة آل محمّد براءةٌ من النار، وحبُّ آل محمّد جوازٌ على الصِّراط،

٢٧٩

والولاية لآل محمّد أمانٌ من العذاب.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ايُّها الناس، اُوصيكم بحبِّ ذي قرنيها أخي وابن عمّي عليّ بن أبي طالب، فانّه لا يحبُّه إلّا مؤمن، ولا يبغضه إلّا منافق.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سيكون بعدي قومٌ يقاتلون عليّاً، على الله جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه، ليس وراء ذلك شيىءٌ.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ: أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة أنت وهم راضين مرضيّين، و يأتي أعداؤك غضاباً مقمحين. قال: ومَن عدوّي؟ وقال: من تبرّأ منك ولعنك.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألزموا مودَّتنا أهل البيت، فانّه من لقي الله عزَّ وجلَّ وهو يودّنا دخل الجنَّة بشفاعتنا، والذي بيده لا ينفع عبداً عمله إلّا بمعرفة حقّنا.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو أنَّ رجلاً صفن بين الرُّكن والمقام فصلّى وصام ثمّ لقي الله وهو مبغضٌ لأهل بيت محمّد دخل النار.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ الله جعل أجري عليكم المودَّة في أهل بيتي وإنّي سائلكم غداً عنهم.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وقفوهم إنّهم مسئولون عن ولاية عليّ

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا وأهل بيتي شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا، فمن تمسّك بنا اتّخذ إلى ربّه سبيلا.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وقد خيّم خيمة وفيها عليُّ وفاطمة والحسن والحسين: معشر المسلمين أنا سلمٌ من سالم أهل الخيمة، حربٌ لمن حاربهم، وليٌّ لمن والاهم، لا يحبّهم إلّا سعيد الجدّ، طيب المولد، ولا يبغضهم إلّا شقيّ الجدّ رديء المولد.

٤٠ - وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا جمع الله الأوَّلين والآخرين يوم القيامة ونصب الصراط على جسر جهنّم ما جازها أحدٌ حتّى كانت معه براءة بولاية عليّ بن أبي طالب.

هذا مولانا أمير المؤمنين وهذا غيضٌ من فيض ممّا جاء في ولائه وعدائه، فأيّ صحابيّ عادل عاصر نبيَّ الرحمة ووعى منه هاتيك الكلمات الدريّة وشاهد مولاناعليه‌السلام

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389