الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١٠

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 389

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 389
المشاهدات: 65952
تحميل: 3602


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 389 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65952 / تحميل: 3602
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 10

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وعرف انطباقها عليه بتمام معنى الكلمة، ثمّ ينحاز عنه ويتّخذ سبيلاً غير سبيله فيبغي به الغوائل، ويتربَّص به الدوائر، ويقع فيه بملء فمه وحشو فؤاده، ويرميه بقذائف الحقد والشنئان؟! لعلّك لا تجد مسلماً هو هكذا غير من ألهته العصبيّة عن الهدى، و تدهورت به إلى هوَّة الشهوات السحيقة، ولعلّك لا تجد ذلك الرَّجل البائس إلّا ابن أبي سفيان المجابه للكتاب والسنّة بعد الإنكار بقلبه بالهزء والسخريّة بلسانه، فِعل مردة الوقت وطواغيت الاُمّة، فتراه عند ما روى له سعد بن أبي وقّاص أحد العشرة المبشّرة أحاديث ممّا سمعه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّعليه‌السلام ونهض ليقوم ضرط له معاوية استهزاءً كما مرَّ حديثه في هذا الجزء ص ٢٥٨.

وحينما ذكر له أبو ذر الغفاري ذلك الصادق المصدّق قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إست معاوية في النار. جابهه بالضحك وأمر بحبسه.

ولمـّا بقر عبد الرَّحمن بن سهل الأنصاري روايا خمر لمعاوية وبلغه شأنه قال: دعوه فانّه شيخٌ قد ذهب عقله(١) . يستهزأ إنكاره على تلك الكبيرة الموبقة، وليت شعري بِمَ هذا الهزأ والسخريّة؟ أبالصحابيِّ العادل؟ أم بمن استند إليه في حكمه بتحريم الخمر؟ أم بالشريعة التي جاءت به؟ إنَّ ابن آكلة الأكباد بمقربة من كلِّ ذلك، أو انّه لا يدين الله بذلك الحكم البات؟

ولمـّا سمع من عمرو بن العاص ما حدّثه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله لعمّار تقتلك الفئة الباغية. قال لعمرو: إنّك شيخٌ أخرق، ولا تزال تحدِّث بالحديث، وأنت ترحض في بولك، أنحن قتلناه؟ إنَّما قتله عليٌّ وأصحابه، جاؤا به حتّى ألقوه بين رماحنا. وقال: أفسدت عَليَّ أهل الشام، أكلّ ما سمعت من رسول الله تقوله؟(٢)

أهذا هزءٌ؟ أم أنَّ معاوية بلغ من السفاهة مبلغاً يحسب معه أنَّ أمير المؤمنين هو قاتل عمّار، إذن فما قوله في سيِّد الشهداء حمزة وجعفر الطيّار؟(٣) أكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاتِلهما يوم ألقاهما بين رماح المشركين وسيوفهم؟ لا تستبعد مكابرة الطاغية

____________________

١ - راجع ما مر فى هذا الجزء ص ١٨١.

٢ - اسلفنا تفصيله فى الجزء الاول ص ٣٢٩ ط ٢.

٣ - بهذا اجاب الامام امير المؤمنين عليه ‌السلام عن كلام الرجل كما في تاريخ الخميس ٢: ٢٧٧.

٢٨١

بقوله: إنَّ رسول الله قتلهما. أو انَّ الرَّجل وجد حمراً مستنفرة فألجمها وألجم مراشدها بتلكم التمويهات؟ وكلّ هذه معقولةُ غير مستعصية على استقراء أعمال معاوية وأفعاله.

ثمَّ ماذا يعني بقوله: أفسدت عليّ... أيريد كبحاً أمام جري السنّة الشريفة؟ أو يروم إسدال غطاء على مجاليها؟ أو الإعراض عن مدلولها لأنَّه لا يلائم خطّته؟ ولا يستبعد شيىءٌ من ذلك ممّن طبع الله على قلبه وهو ألدّ الخصام.

ولمـّا حدَّثه عبادة بن الصامت حديث حرمة الرّبا(١) وقد نطق بها القرآن الكريم فقال: اسكت عن هذا الحديث ولا تذكره. فقال عبادة: بلى وإن رغم أنف معاوية. ولمـّا سمع من عبادة حديثه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنَّ هذا لا يقول شيئاً. فلم يك يرى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً يعبأ به ويُصاخ إليه، ويُعدَّل عليه.

ولمـّا قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري(٢) فقال له معاوية: يا أبا قتادة! تلقاني الناس كلّهم غيركم يا معشر الأنصار! ما منعكم؟ قال: لم يكن معنا دواب. فقال معاوية: فأين النواضح؟ قال أبو قتادة: عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر. قال: نعم يا أبا قتادة! قال أبو قتادة: إنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لنا: إنّا سنرى بعده اثرة. قال معاوية: فما أمركم به عند ذلك؟ قال: أمرنا بالصبر. قال: فاصبروا حتّى تلقوه. قال عبد الرَّحمن بن حسّان حين بلغه قول معاوية:

ألا أبلغ معاوية بن صخر

أمير المؤمنين عنّي كلامي

فإنّا صابرون ومنظروكم

إلى يوم التغابن والخصام(٣)

وحقُّ القول: إنّ المخذول لا يخضع لهتاف النبوَّة، ولا انّهم سوف يلقون صاحبها، ويرفعون إليه ظلامتهم، فيحكم لهم على من استأثر عليهم، وحسبه ذلك إلحاداً وبغياً.

____________________

١ - مرّ حديثه فى هذا الجزء ص ١٨٥.

٢ - فى رواية ابن عساكر: عبادة بن صامت الانصارى.

٣ - الاستيعاب ١: ٢٥٥، تاريخ ابن عساكر ٧: ٢١٣، تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ١٣٤.

٢٨٢

وفي رواية انَّ أبا أيّوب أتى معاوية فشكا إليه انَّ عليه ديناً فلم ير منه ما يحبُّ فرأى أمراً كرهه فقال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: انّكم سترون بعدي أثرة. قال: فأيّ شيء قال لكم؟ قال: أمرنا بالصبر. قال: فاصبروا. قال: فوالله لا أسألك شيئاً أبداً(١) .

وفي لفظ: دخل أبو أيّوب على معاوية فقال: صدق رسول الله انّكم سترون بعدي اثرة فعليكم بالصبر. فبلغت معاوية فقال: صدق رسول الله أنا أوَّل من صدَّقه. فقال أبو أيّوب: أجرأة على الله وعلى رسوله؟ لا اكلّمه أبداً ولا يأويني وإيّاه سقف بيت. تاريخ ابن عساكر ٥: ٤٢.

وفي لفظ الحاكم: انَّ أبا أيّوب أتى معاوية فذكر حاجة له فجفاه ولم يرفع به ورأساً فقال أبو أيّوب: أما انَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخبرنا انّه سيصيبنا بعده أثرة قال: فبمَ أمركم؟ قال: أمرنا أن نصبر حتّى نرد عليه الحوض. قال: فاصبروا إذاً. فغضب أبو أيّوب وحلف أن لا يكلّمه أبداً. الخصايص الكبرى ٢: ١٥.

وحضر أبو بكرة مجلس معاوية فقال له: حدِّثنا يا أبا بكرة: فقال: إنِّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: الخلافة ثلاثون ثمَّ يكون الملك. قال عبد الرَّحمن بن أبي بكرة: وكنت مع أبي فأمر معاوية فوجئ في أقفائنا حتّى اُخرجنا(٢) .

ولعلّك تعرف خبيئة ضمير معاوية بما حدَّثه ابن بكار في ( الموفقيات ) عن مطرف بن المغيرة بن شعبة الثقفي قال: سمعت المدائني يقول: قال مطرف بن المغيرة: وفدت مع أبي المغيرة إلى معاوية فكان أبي يأتيه يتحدَّث عنده ثمّ ينصرف إليّ فيذكر معاوية. ويذكر عقله ويعجب ممّا يرى منه إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء فرأيته مغتمّاً فانتطرته ساعة وظننت انّه لشيىء حدث فينا أو في عملنا فقلت له: مالي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟ قال: يا نبيّ إنّي جئت من عند أخبث الناس. قلت له: وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوت به: انّك قد بلغت منّا يا أمير المؤمنين! فلو أظهرت عدلاً، وبسطت خيراً، فانّك قد كبرت ولو نظرت إلى اخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فوالله ما عندهم

____________________

١ - تاريخ ابن عساكر ٥: ٤١.

٢ - أخرجه ابن سعد كما فى النصايح الكافية ١٥٩ ط ١.

٢٨٣

اليوم شيىءٌ تخافه. فقال لي: هيهات هيهات ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل، فوالله ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلّا أن يقول قائل: أبو بكر، ثمّ ملك أخو عدي فاجتهد و شمر عشر سنين، فوالله ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلّا أن يقول قائل: عمر، ثمّ ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه فعمل ما عمل وعمل به فوالله ما غدا أن هلك فهلك ذكره وذكر ما فعل به، وانَّ أخا هاشم يصرخ به في كلِّ يوم خمس مرّات: أشهد أنَّ محمّداً رسول الله. فأيّ عمل يبقى مع هذا لا امّ لك، والله إلّا دفنا دفناً؟(١) .

فهل تجد إذن عند معاوية إذعاناً بما جاء من الكتاب في عليّعليه‌السلام ؟ أو تراه مخبتاً إلى شيىء من الكثير الطيّب الوارد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الثناء على الإمام الطاهر؟ حينما عاداه وأبغضه ونقّصه وسبّه وهتك حرماته وآذاه وقذفه بالطامّات وحاربه وقاتله و تخلّف عن بيعته وخرج عليه.

أوَ ترى أن يسوغ لمسلم صدَّق نبيّه ولو في بعض تلكم الآثار والمآثر أن يبوح بما كتبه ابن هند إلى الإمامعليه‌السلام من الكلم القارصة بمثل قوله في كتاب له إليهعليه‌السلام :

ثمَّ تركك دار الهجرة التي قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها: إنّ المدينة لتنفي خبثها، كما ينفي الكير خَبث الحديد. فلعمري لقد صحَّ وعده، وصدق قوله، ولقد نفت خبثها وطردت عنها من ليس بأهل أن يستوطنها فأقمتَ بين المصرين، وبعدت عن بركة الحرمين، ورضيت بالكوفة بدلاً من المدينة، وبمجاورة الخورنق والحيرة عوضاً عن مجاورة خاتم النبوّة.

ومن قبل ذلك ما عيّبت خليفتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام حياتهما فقعدت عنهما، و ألّبتَ عليهما، وامتنعتَ من بيعتهما، ورُمتَ أمراً لم يرك الله تعالى له أهلاً، ورقيتَ سلّماً وعرا، وحاولت مقاماً دحضاً(٢) وادّعيت ما لم تجد عليه ناصراً، ولعمري لو وليتها حينئذ لما ازدادت إلّا فساداً واضطراباً، ولا أعقبت ولايتكها إلّا انتشاراً وارتداداً، لأنّك الشامخ بأنفه، الذاهب بنفسه، المستطيل على الناس بلسانه ويده.

____________________

١ - مروج الذهب ٢: ٣٤١.

٢ - مكان دحض بالفتح ويحرك: زلق.

٢٨٤

وها أنا سائرٌ اليك في جمع من المهاجرين والأنصار، تحفُّهم سيوفٌ شاميَّة، و رماحٌ قحطانيّة، حتّى يحاكموك إلى الله، فانظر لنفسك وللمسلمين وادفع إليّ قتلة عثمان فانّهم خاصّتك وخلصاؤك المحدقون بك، فإن أبيت إلّا سلوك سبيل اللجاج والإصرار على الغيِّ والضلال، فاعلم أنَّ هذه الآية إنّما نزلت فيك وفي أهل العراق معك:( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) .

وقوله في كتاب له: وإن كنت موائلاً فازدد غيّاً إلى غيِّك، فطالما خفَّ عقلك، ومنَّيت نفسك ما ليس لك، والتويت على مَن هو خيرٌ منك، ثمّ كانت العاقبة لغيرك، و احتملت الوزر بما أحاط بك من خطيئتك.

وقوله في كتاب له أيضاً: فدعني من أساطيرك، واكفف عنّي من أحاديثك، و أقصر عن تقوّلك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وافترائك من الكذب ما لم يُقل، وغرور مَن معك والخداع لهم، فقد استغويتهم ويوشك أمرك أن ينكشف لهم فيعتزلوك، ويعلموا أنّ ما جئت به باطلٌ مضمحلُّ.

وقوله من كتاب آخر له: فما أعظم الرين على قلبك، والغطاء على بصرك، ألشَره من شيمتك، والحسد من خليقتك.

وقوله في كتاب له إليهعليه‌السلام : فدع الحسد، فإنّك طالما لم تنتفع به، ولا تفسد سابقة جهادك بشرّة نخوتك، فإنَّ الأعمال بخواتيمها، ولا تُمحّص سابقتك بقتال من لا حقَّ لك في حقّه، فإنّك إن تفعل لا تضرّ بذلك إلّا نفسك، ولا تمحق إلّا عملك، ولا تبطل إلّا حجّتك، ولعمري انَّ ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقاً لما اجترأت عليه من سفك الدماء، وخلاف اهل الحقّ، فاقرأ السورة التي يذكر فيها الفلق، وتعوَّذ من نفسك، فإنّك الحاسد إذا حسد.

وقوله من كتاب له إليهعليه‌السلام : فلمّا استوثق الإسلام وضرب بجرانه، عدوت عليه، فبغيته الغوائل، ونصبت له المكايد، وضربت له بطن الأمر وظهره، ودسستَ عليه وأغريت به، وقعدت - حين استنصرك - عن نصره، وسألك أن تدركه قبل أن يمزّق فما أدركته، وما يوم المسلمين منك بواحد، لقد حسدتَ أبا بكر والتويتَ عليه، و

٢٨٥

رُمتَ افساد أمره، وقعدت في بيتك، واستغويت عصابة من الناس حتّى تأخَّروا عن بيعته، ثمّ كرهت خلافة عمر وحسدته، واستطالت مدّته وسُررت بقتله، وأظهرت الشماتة بمصابه، حتى انَّك حاولت قتل ولده لأنّه قتل قاتل أبيه، ثمّ لم تكن أشدّ منك حسداً لابن عمّك عثمان. إلخ.

وقوله في كتاب له إليهعليه‌السلام : أمّا بعد: فإنّا كنّا نحن وإيّاكم يداً جامعة، والفة أليفة، حتّى طمعت يا بن أبي طالب! فتغيّرت وأصبحت تعدّ نفسك قويّاً على من عاداك بطغام أهل الحجاز، وأوباش أهل العراق، وحمقى الفسطاط، وغوغاء السواد، وأيم الله لينجلينّ عنك حمقاها، ولينقشعنّ عنك غوغاؤها انقشاع السِّحاب عن السَّماء.

قتلت عثمان بن عفّان، ورقيت سلّماً أطلعك الله عليه مطلع سوء، عليك لا لك وقتلت الزبير وطلحة، وشرّدت امّك عائشة، ونزلت بين المصرين فمنّيت وتمنّيت، وخيّل لك انّ الدنيا فد سخّرت لك بخيلها ورجلها، وإنّما تعرف اُمنيّتك، لو قد زرتك في المهاجرين من الشام بقيَّة الاسلام، فيحيطون بك من ورائك، ثمَّ يقضي الله علمه فيك، والسَّلام على أولياء الله(١) .

فأيُّ أحد من غوغاء الناس ومن جهلة الاُمّة يحسب في صاحب هذه الكلمات المخزية نزعة دينيّة؟ أو حياءاً وانقباضاً في النفس ولو قيد شعرة؟ أو بخوعاً إلى كتاب الله وهو يطهّر أهل البيت وعليُّ سيد العترة، ويراه نفس النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرن ولايته بولاية الله وولاية رسوله وطاعته بطاعتهما؟!

نعم: هكذا فليكن رضيع ثدي هند، وربيب حجر حمامة، والناشىء تحت راية البغاء، ووليد بيت اميّة، وثمرة تلك الشجرة الملعونة في القرآن، هكذا يسرف معاوية في القول، ويجازف مفرطاً فيه، وما يلفظ من قول إلّا ولديه رقيبٌ عتيد، وهو سرف الفؤاد لا يعبأ بما تلقتّه الاُمّة بالقبول من قول نبيِّها في عليّعليه‌السلام : أنت الصدِّيق الأكبر، انت الفاروق الذي تفرق بين الحقِّ والباطل، وأنت يعسوب الدين.

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليٌّ مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض.

____________________

١ - توجد هذه الكتب على تفصيلها فى شرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد ٣: ٤١، ٤١٢، ٤٤٨، و ج ٤: ٥٠، ٥١، ٢٠١، وهى مبثوثة فى جمهرة الرسائل ١ ص ٣٩٨ - ٤٨٣.

٢٨٦

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليِّ ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة.

إلى مئات أو اُلوف ممّا جاء في عليّعليه‌السلام بلسان سيّد العالمين نبيّ الاُمَّةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بلغ الطاغية من عداء سيِّد العترة حدّاً لا يستطيع أن يسمع اسمهعليه‌السلام وكان ينهى عن التسمية به، يُروى انّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام افتقد عبد الله بن العباس فقال: ما بال أبي العباس لم يحضر؟ فقالوا: ولد له مولود فلمّا صلّى عليٌّ قال: امضوا بنا إليه فأتاه فهنّاه فقال: شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب، ما سمّيته؟ قال: أوَ يجوز لي أن اسمّيه حتى تسمّيه. فأمر به فأخرج إليه فأخذه وحنّكه ودعا له ثمّ ردّه اليه وقال: خذه اليك أبا الأملاك قد سمّيته عليّا وكنّيته أبا الحسن. فلمّا قام معاوية قال لابن عبّاس: ليس لكم اسمه وكنيته قد كنّيته أبا محمّد. فجرت عليه(١) فكان بنو اميّة إذا سمعوا بمولود اسمه عليّ قتلوه(٢) فكان الناس يبدّلون اسماء أولادهم، قاله زين الدين العراقي.

_ ١٧ _

هنات وهنابث

في ميزان ابن هند

١ – لمـّا قُتل نعيم بن صهيب بن العلية فأتى ابن عمّه وسمّيه نعيم بن الحارث بن العليّة معاوية، وكان معه، فقال: إنَّ هذا القتيل ابن عمِّي فهبه لي أدفنه. فقال: لا ندفنهم فليسوا أهلاً لذلك، فوالله ما قدرنا على دفن عثمان معهم إلَّا سرًّا قال: والله لتأذننَّ لي في دفنه أولألحقنَّ بهم ولأدعنّك. فقال له معاوية: ويحك ترى أشياخ العرب لا تواريهم وأنت تسألني دفن ابن عمّك. ثمَّ قال له: ادفنه إن شئت أو دع. فأتاه فدفنه(٣) .

٢ – لمـّا قُتل عبد الله بن بديل أقبل إليه معاوية وعبد الله بن عامر حتى وقفا عليه، فأمّا عبد الله فألقى عمامته على وجهه وترحَّم عليه وكان صديقه، فقال معاوية:

____________________

١ - كامل المبرد ٢: ١٥٧.

٢ - تهذيب التهذيب ٧: ٣١٩.

٣ - كتاب صفين لابن مزاحم ص ٢٩٣ ط مصر، تاريخ الطبرى ٦: ١٤، شرح ابن ابى الحديد ١: ٤٨٩.

٢٨٧

اكشف عن وجهه فقال: لا والله لا يمثّل به وفيَّ روح. فقال معاوية: اكشف عن وجهه فانّا لا نمثّل به فقد وهبته لك(١) . وذكر النسَّابة أبو جعفر البغدادي في [المحبَّر] ص ٤٧٩ ممّا كتبه معاوية إلى زياد بن سلمة: من كان على دين عليّ ورأيه فاقتله وامثل به يأتي الحديث بتمامه.

٣ - قد كان معاوية ( يوم صفّين ) نذر في سبي نساء ربيعة وقتل المقاتلة فقال في ذلك خالد بن المعمَّر:

تمنّى ابن حرب نذرةً في نسائنا

ودون الذي ينوي سيوفٌ قواضبُ

ونمنح ملكاً أنت حاولت خلعه

بني هاشم قول امرئ غير كاذبِ(٢)

٤ - ذكر الباوردي انَّ عمير بن قرَّة الليثي الصحابي ممّن شهد صفّين من الصحابة، وكان شديداً على معاوية وأهل الشّام حتى حلف معاوية لئن ظفر به ليذيبنّ الرصاص في اُذنيه(٣) .

هذه هنات موبقة ومحظورات مسلّمة من بوائق ابن هند الكثيرة قد ارتكبها أو صمّم أن يقترفها في صفّين، فهل من الدِّين الحنيف منعه عن دفن من قتل تحت راية الحقّ مع أمير المؤمنينعليه‌السلام مع وجوب الاسراع في دفن كلّ مؤمن؟ فهل كان اولئك الصلحاء من الصحابة الأوَّلين والتابعين لهم باحسان عند معاوية خارجين عن الدين؟ أو أنّه كان يتّبع فيهم هواه المردي، ويشفي بذلك غيظه منهم على نصرتهم الحقّ؟ وكم عند معاوية من مخازي أمثال هذه تقع عن الدين المبين بمعزل؟!.

أفهل تسوغ مثلة المسلم المخالف هواه هوى ابن آكلة الأكباد؟ والمثلة محرَّمةُ حتّى بالحيوان حتّى بالكلب العقور(٤) فكيف بصلحاء المؤمنين؟ وقد لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مثل بالحيوان(٥) .

____________________

١ - كتاب صفين ص ٢٧٧ ط مصر، شرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد ١: ٤٨٦.

٢ - كتاب صفين ص ٢٣١ ط مصر.

٣ - الاصابة لابن حجر ٣: ٣٥.

٤ - أخرجه الطبرانى من طريق على امير المؤمنين وذكره الزيلعى فى نصب الراية ٣: ١٢٠، والسرخسى فى شرح السير الكبير ١: ٧٨.

٥ - أخرجه البخارى فى صحيحه باب ما يكره من المثلة من طريق ابن عمر.

_١٨_

٢٨٨

وقد جاء حديث النهي عن المثلة من طريق عليّ أمير المؤمنين، وأنس وابن عمر، وعبد الله بن يزيد الأنصاري، وسمرة بن جندب، وزيد بن خالد، وعمران بن حصين، ومغيرة بن شعبة، والحكم بن عمير، وعائذ بن قرط، وأبي أيّوب الأنصاري، ويحيى ابن أبي كثير، وأسماء بنت أبي بكر.

وأحاديثهم مبثوثة في صحيحي البخاري ومسلم، وسنن أبي داود، والسنن الكبرى للبيهقي، ومسند أحمد، ومعجم الطبراني. راجع نصب الراية للزيلعي ٣: ١١٨ - ١٢١.

فما المسوِّغ عندئذ لابن هند مثلة من كان على دين عليّ ورأيه، ودينه هو دين محمّد الذي جاء بالإسلام المقدّس؟

وهل ينعقد نذر المعصية بسبي نساء ربيعة المسلمات إن تغلّب عليهم لولاء بعولتهنَّ عليّاً أمير المؤمنين؟ وهو محرَّمٌ في شرع الإسلام، ولا ينعقد النذر إلّا في طاعة ولا أقلّ من الرجحان في متعلّق النذر كما مرّ بيانه في الجزء الثامن ص ٧٩ ط ١، فبأيّ كتاب أم بايّة سنّة يسوغ هذا النذر لصاحبه إن كان من أهلهما، ويسع له أن يقول: لِلّه عليَّ كذا؟.

وهل يجوز في شرع الإسلام اليمين باذابة الرصاص في اُذن مسلم صحابيّ عادل لا يتّبع أهواء معاوية، ولا يخبت إلى ضلالاته؟ وهل كان يحلف الرجل بإله محمّد وعليّ صلوات الله عليهما وآلهما وهما وربّهما برآء عن مثل هذا الحلف وصاحبه؟ أو كان يقصد إله آبائه دعائم الشرك وعبدة ( هبل ) حملة الأوزار المستوجبين النّار؟ وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

_ ١٨ _

قذائف موبقة

في صحائف ابن آكلة الأكباد

هاهنا في أيِّ كفَّة تجد معاوية وأعماله الشاذَّة عن الإسلام؟ فهل تراه أثقل ميزانه بالصّالحات؟ أو أنَّه خفّفها بكلّ موبقة مهلكة؟ وأنّه كان يطفّفها ويخفّف المكيال كيفما وزن وكال، وليت ابن هند أدلى بما عنده من الشبَه في هذه القضيَّة - قتاله عليّاًعليه‌السلام - لنمعن النظر فيها إمعان استشفاف لما ورائها لكنَّه فات المخذول أن يدلي بشيء من ذلك

٢٨٩

لا تعارضه البرهنة، ولا يفنّده المنطق غير أمرين أراد بهما تلويثاً لساحة قدس الإمام وإن كان هو كشف عن عورته ساعد عرف الناس كذبه في الأمرين جميعاً.

الأوّل: نسبة الإلحاد إليه سلام الله عليه وانّه لا يصلّي، هذا وقد وضح الإسلام بسيفه، وقامت الصَّلاة بأيده، يموِّه بذلك على الرعرعة الدهماء من الشاميِّين.

قال الجاحظ: إنَّ معاوية كان يقول في آخر خطبته: أللهمَّ إنَّ أبا تراب ألحد في دينك، وصدَّ عن سبيلك، فالعنه لعناً وبيلا، وعذِّبه عذاباً أليما. وكتب بذلك إلى الآفاق فكانت هذه الكلمات يُشاد بها على المنابر إلى أيّام عمر بن عبد العزيز(١) .

وأخرج ابن مزاحم انّ يوم صفّين برز شابٌ من عسكر معاوية يقول:

أنا ابن أرباب الملوك غسّانْ

والدائن اليوم بدين عثمانْ

أنبأنا أقوامنا بما كانْ

إنَّ عليّاً قتل ابن عفّانْ

ثمَّ شدّ فلا ينثني يضرب بسيفه، ثمّ جعل يلعن عليّاً ويشتمه ويسهب في ذمَه، فقال له هاشم المرقال: إنَّ هذا الكلام بعده الخصام، وإنَّ هذا القتال بعده الحساب، فاتَق الله فانَّك راجع إلى ربِّك فسائلك عن هذا الموقف وما أردت به، قال: فإنّي اُقاتلكم لأنّ صاحبكم لا يصلّي كما ذُكر لي، وإنّكم لا تصلّون، واُقاتلكم انّ صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم وازرتموه على قتله. فقال له هاشم: وما أنت وابن عفان؟ إنّما قتله أصحاب محمّد وقرّاء الناس، حين أحدث أحداثاً وخالف حكم الكتاب، وأصحاب محمّد هم أصحاب الدين، وأولى بالنظر في أمور المسلمين. وما أظنُّ انَّ أمر هذه الاُمَّة ولا أمر هذا الدين عناك طرفة عين قطّ. قال الفتى: أجَلْ أجَلْ، والله لا أكذب فانَّ الكذب يضرّ ولا ينفع، ويشين ولا يزين. فقال له هاشم: إنَّ هذا الأمر لا علم لك به، فخلّه وأهل العلم به. قال: أظنّك والله قد نصحتني. وقال له هاشم: وأمّا قولك: إنَّ صاحبنا لا يصلّي فهو أوَّل من صلّى مع رسول الله، وأفقهه في دين الله، وأولاه برسول الله، وأمّا مَن ترى معه فكلّهم قارئ الكتاب، لا ينامون الليل تهجّدا، فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون. قال الفتى: يا عبد الله إنّي لأظنّك امرءاً صالحاً، وأظنّني مخطئاً آثماً، أخبرني هل تجد لي من توبة؟ قال: نعم، تب إلى الله يتب عليك، فإنّه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيّئات

____________________

١ - راجع ما أسلفنا فى الجزء الثانى ص ١٠٢ ط ٢.

٢٩٠

ويحبُّ التوّابين ويحبُّ المتطهّرين. قال: فذهب الفتى بين الناس راجعاً. فقال له رجلٌ من أهل الشام: خدعك العراقيّ. قال: لا، ولكن نصحني العراقيّ(١) .

كان المخذول يشوِّه سمعة الإمام الطيِّبة بتلكم القذائف الشائنة طيلة حياته، ولمـّا استشهد سلام الله عليه لم يرفع اليد عن غيّه وبغيه، فجاء يُري الاُمّة الغوغاء انَّ ما كان من عدائه المحتدم للإمامعليه‌السلام إنَّما كان عن أساس دينيّ لِلّه فيه، فكتب إلى عمّاله: سلامٌ عليكم، فإنِّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو، أما بعد: فالحمد لِلّه الذي كفاكم مؤنة عدوِّكم، وقتلة خليفتكم، إنّ الله بلطفه وحُسن صنعه أتاح لعليِّ بن أبي طالب رجلاً من عباده فاغتاله فقتله، فترك أصحابه متفرِّقين مختلفين، وقد جائنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم، فأقبلوا إليَّ حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم، وحسن عدَّتكم، فقد أصبتم بحمد الله الثأر، وبلغتم الأمل، و أهلك الله أهل البغي والعدوان(٢) ولمـّا دخل إبن عبّاس على معاوية بعد مقتل أمير المؤمنينعليه‌السلام قال: ألحمد لِلّه الذي أمات عليّاً(٣) .

ما أغلف قلب هذا الرجل الذي يحسب انَّ عبد الرَّحمن بن الملجم من عباد الله وقد قيّضه المولى سبحانه للنيل من إمام الهدى، ويعدُّ ذلك من لطفه وحسن صنعه، وابن ملجم هو ذلك الشقيُّ المهتوك الخارجيُّ الجاني على الاُمَّة جمعاء بقتل سيِّدها نفس - الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وآتيها بخسارة الأبد، وهو أشقى الآخرين في لسان النبيِّ الكريم، أو أشقى الاُمَّة في حديثه الآخر، وأشدّ الناس عذاباً يوم القيامة، وعاد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه « أشقى » كلقب يُعرف به أشقى مراد حيث انَّه اطّرد ذكره به في موارد كثيرة من الحديث والتاريخ(٤) .

وليت شعري أيّ إله يحمده معاوية في موت عليّ أمير المؤمنين؟ الإله جعل مودَّة علىّ أجر الرسالة في محكم الذِّكر الحكيم؟

____________________

١ - كتاب صفين لابن مزاحم ص ٤٠٢، تاريخ الطبرى ٦: ٢٤، كامل ابن الاثير ٣: ١٣٥، شرح ابن ابى الحديد ٢: ٢٧٨.

٢ - مقاتل الطالبيين ص ٢٤، شرح ابن ابى الحديد ٤: ١٣، جمهرة رسائل العرب ٢: ١٣.

٣ - تاريخ البداية والنهاية لابن كثير ٨.

٤ - راجع الجزء الاول من كتابنا ص ٣٢٤، ٣٢٥ ط ٢.

٢٩١

ألإله اتّخذ عليّاً نفساً لنبيِّه في قصَّة المباهلة؟

ألإله أمر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغ ولاية عليعليه‌السلام وإنّه إن لم يفعل فما بلّغ رسالته؟

ألإله يرى بولاية عليعليه‌السلام إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضاه سبحانه؟

ألإله اُوحى لنبيِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ ثلاث: انّه سيّد المسلمين، وإمام المتَّقين، و قائد الغرّ المحجلّين؟

ألإله عهد إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ انّه راية الهدى، ومنار الايمان، وإمام اوليائي، ونور من أطاعني؟

ألإله كان عليّ أحبّ خلقه إليه بعد نبيّه كما جاء في حديث الطير؟

ألإله كان يحبُّ عليّاً وعليُّ يحبّه في حديث خيبر؟

ألإله اختار عليّاً وصيّاً لنبيّه بعد ما اختاره نبيّاً فهو أحد الخيرتين من البشر كما جاء في النصّ النبويّ؟

ألإله دعاه صاحب الرِّسالة الخاتمة حينما قال في مائة ألف أو يزيدون: من كنت مولاه فعليُّ مولاه، أللّهمَّ والِ مَن والاه، وعاد مَن عاداه، وانصر مَن نصره، واخذل مَن خَذلَه؟.

أيسوغ مثل هذا الحمد والثناء لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، وصدَّق نبيَّ الإسلام وما جاء به؟ أم هل يتصوّر توجيهه إلى ربِّ محمّد وعليّ؟ وقد تمّت بهما كلمة الله صدقاً وعدلاً، وقامت بهما دعائم الدِّين الحَنيف، وبسعيهما أدركت الاُمَّة المرحومة سعادة الأبد.

نعم: له مَسرحٌ إن وجّه إلى « هبل » إله آباء معاوية وإلهه إلى اُخريات أيّام النبوّة إن لم نقل إلى آخر نفَس لفظه معاوية، وقد كان مرتكزاً في أعماق قلبه، ومزيج نفسه طيلة ما لهج بأمثال هذه الأقاويل المخزية.

ثمَّ أيّ مسلم يبلغ أمله عند قتل إمام الحقّ، ووئد خطّة الهدى؟ إلَّا من ارتطم في الضَّلالة، وسبح في الإلحاد سبحاً طويلاً.

وأمّا قوله: وأهلك الله أهل البغي والعدوان. فانظر واقرأ قول العزيز الحكيم: كبرت كلمة تخرج من أفواههم. يلهج بهذه الكلمة كأنّه بمجلب عن البغي والعدوان - وهو

٢٩٢

ولفيفه هم الفئة الباغية بنصّ النبيّ الأعظم - وهو يندّد بمن يحسب انّه تردّى بهما. نعم: حنّ قِدحٌ ليس منها. هل الباغي هو مَن خرج على إمام زمانه يناضله وينازله؟ أو انَّ إمام الوقت - المعصوم بنصّ الكتاب - هو الباغي؟ « والعياذ بالله » وإن كان القوم أعداؤه وهو عدوّ لهم فهم أعداء الله وأعداء رسوله بغير واحد من النّصوص النبويّة، وقد شملتهم دعوة صاحب الرسالة المتواترة « وعاد مَن عاداه، واخذل مَن خذله »

نظرة

فيما تشبث به معاوية في قتال عليعليه‌السلام

الثاني من الأمرين اللذين تشبّث بهما ابن آكلة الأكباد في تثبيط الملأ عن نصرة الإمامعليه‌السلام وتأليبهم إلى قتاله: إنّ عنده ثار عثمان وعليه ترته، وللحاكم في هذه القضية أن ينظر أوَّلاً إلى أنَّ معاوية نفسه لم يشهد وقعة عثمان حتى يبصر المباشر لقتله، وإنّما تثبّط عن نصرته بل كان يحبِّذ قتله طمعاً في أن ينال الملك(١) بعده بحججه التافهة.

وثانياً إلى أنَّ أمير المؤمنين سلام الله عليه كان غائباً عن المدينة المنوّرة عند وقوع الواقعة(٢) فكيف تصحّ مباشرته لقتل أو قتال؟! أو كان ساكناً في عقر داره بالمدينة لا له ولا عليه.

وثالثاً إلى شهادات الزور المتولّدة من دسائس ابن حرب ترمي أبرأ الناس من ذلك الدم المراق، بإيعاز من ابن النابغة ذلك العامل الوحيد في قتل عثمان، وقد سمعت عقيرته أذن الدنيا: أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع(٣) .

قال الجرجاني: لمـّا بات عمرو عند معاوية وأصبح أعطاه مصر طعمة له، وكتب له بها كتاباً وقال: ما ترى؟ قال: امض الرأي الاُوَّل. فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب محمّد بن أبي حذيفة فأدركه فقتله، وبعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه. ثمَّ قال: ما ترى في عليّ؟ قال: أرى فيه خيراً، أتاك في هذه البيعة خير أهل العراق، ومن عند خير الناس في أنفس الناس، ودعواك أهل الشام إلى ردِّ هذه البيعة خطرٌ شديد، ورأس

____________________

١ - راجع ما أسلفناه فى الجزء التاسع ص ١٥٠ - ١٥٣ ط ١.

٢ - مرّ حديثه فى الجزء التاسع ص ٢٤٣.

٣ - انظر ما فصلناه فى الجزء التاسع ص ١٣٦ - ١٣٨ ط ٢.

٢٩٣

أهل الشام شُرحبيل بن السمط الكندي، وهو عدوُّ لجرير المرسل إليك، فأرسل إليه ووطِّن له ثقاتك فليُفشوا في الناس: انَّ عليّاً قتل عثمان، وليكونوا أهل الرضا عند شُرحبيل، فإنّها كلمةٌ جامعة لك أهل الشام على ما تحبُّ، وإن تعلّقت بقلب شُرحبيل لم تخرج منه بشيىء أبدا.

فكتب إلى شرحبيل: إنَّ جرير بن عبد الله قدم علينا من عند عليِّ بن أبي طالب بأمر فظيع، فأقدم. ودعا معاوية يزيد بن أسد، وبُسر بن أرطاة، وعمرو بن سفيان، و مخارق بن الحارث، وحمزة بن مالك، وحابس بن سعد الطائي، وهؤلاء رؤوس قحطان واليمن، وكانوا ثقات معاوية وخاصَّته، وبني عمّ شرحبيل بن السمط، فأمرهم أن يلقوه ويُخبروه: انَّ عليّاً قتل عثمان، فلمّا قدم كتاب معاوية على شرحبيل وهو بحمص استشار أهل اليمن فاختلفوا عليه فقال إليه عبد الرّحمن بن غنم الأزدي وهو صاحب معاذ بن جبل و ختنه، وكان أفقه أهل الشام فقال: يا شرحبيل! إنَّ الله لم يزل يزيدك خيراً مذ هاجرت إلى اليوم وانَّه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من الناس، ولا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، إنّه قد اُلقي إلينا قتل عثمان، وإنّ عليّاً قتل عثمان(١) فإن يك قتله فقد بايعه المهاجرون والأنصار، وهم الحكّام على الناس، وإن لم يكن قتله فعلام تصدِّق معاوية عليه؟ لا تهتك نفسك وقومك، فإن كرهت أن يذهب بحظّها جرير فسر إلى عليّ فبايعه على شامك وقومك، فأبي شُرحبيل إلّا أن يسير إلى معاوية، فبعث إليه عياض الثمالي وكان ناسكاً.

يا شُرحُ يا ابن السَّمط إنّك بالغٌ

بودِّ عليّ ما تريد من الأمر

ويا شُرحُ إنَّ الشام شأمك ما بها

سواك فدع قول المضلّل من فهرِ

فإنَّ ابن حرب ناصبٌ لك خدعةً

تكون علينا مثل راغية البكرِ(٢)

فإن نال ما يرجو بنا كان ملكنا

هنيئاً له، والحرب قاصمة الظهرِ

فلا تبغين حرب العراق فإنّها

تحرّم أطهار النساء من الذُّعرِ

وإنَّ عليّاً خير من وطئ الحصى

من الهاشميّين المداريك للوترِ

____________________

١ - فى شرح ابن ابى الحديد: انه قد القى إلى معاوية ان عليّاً قتل عثمان، ولهذا يريدك.

٢ - الراغية: الرغاء، البكر: ولد الناقة. مثل يضرب فى التشاؤم. انظر ثمار القلوب ٢٨٢.

٢٩٤

له في رقاب الناس عهدٌ وذمَّةٌ

كعهد أبي حفص وعهد أبي بكرِ

فبايع ولا ترجع على العقب كافراً

اُعيذك بالله العزيز من الكفرِ

ولا تسمعن قول الطغام فإنّما

يريدوك أن يُلقوك في لجّة البحرِ

وماذا عليهم أن تطاعن دونهم

عليّاً بأطراف المثقّفة السُّمرِ؟

فإن غَلبوا كانوا علينا ائمّة

وكنّا بحمد الله من ولد الظهرِ(١)

وإن غُلبوا لم يصلَ بالحرب غيرنا

وكان عليُّ حربنا آخر الدَّهرِ

يهون على عُليا لويِّ بن غالب

دماء بني قحطان في ملكهم تجري

فدع عنك عثمان بن عفّان إنّنا

لك الخير، لا ندري وإنّك لا تدري

على أيِّ حال كان مصرع جنبه

فلا تسمعن قول الاُعيور أو عمرو

قال: لمـّا قدم شُرحبيل على معاوية تلقّاه الناس فأعظموه، ودخل على معاوية فتكلّم معاوية فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: يا شُرحبيل! إنَّ جرير بن عبد الله يدعونا إلى بيعة عليّ، وعليٌّ خير الناس(٢) لولا انّه قتل عثمان بن عفّان، وقد حبست نفسي عليك، وإنّما أنا رجل من أهل الشام، أرضى ما رضوا، وأكره ما كرهوا. فقال شُرحبيل: أخرج فانظر. فخرج فلقيه هؤلاء النفر الموطَّؤون له، فكلّهم يخبره بأنّ عليّاً قتل عثمان بن عفّان. فخرج مغضباً إلى معاوية فقال: يا معاوية أبَى الناس إلّا أنَّ عليّاً قتل عثمان، ووالله لئن بايعت له لنخرجنّك من الشام أو لنقتلنّك. قال معاوية: ما كنت لاُخالف عليكم وما أنا إلّا رجلُ من أهل الشام. قال: فُردّ هذا الرجل إلى صاحبه إذاً. قال: فعرف معاوية انّ شُرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق، وأنَّ الشام كلّه مع شرحبيل! فخرج شُرحبيل فأتى حصين بن نمير فقال: ابعث إلى جرير فليأتنا فبعث إليه حصين: أن زرنا، فإنَّ عندنا شرحبيل بن السمط، فاجتمعا عنده، فتكلّم شرحبيل فقال: يا جرير! أتيتنا بأمر ملفّف(٣) لتُلقينا في لهوات الأسد، وأردت أن تخلط الشام بالعراق، وأطرأت

____________________

١ - يقال: فلان من ولد الظهر، بالفتح. أى ليس منا. وقيل معناه: انه لا يلتفت إليه.

٢ - هل تجتمع كلمة الرجل هذه مع سبابه المقذع عليا وقوارصه التى أوعزنا اليها؟ هذا هو النفاق وهكذا يكون المنافق ذا لسانين ووجهين.

٣ - فى شرح ابن ابى الحديد: ملفق.

٢٩٥

عليّاً وهو قاتل عثمان، والله سائلك عمّا قلتَ يوم القيامة. فأقبل عليه جرير فقال: يا شرحبيل أمّا قولك: إنّي جئت بأمر ملفّف. فكيف يكون أمراً ملفّفاً وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار، وقوتل على ردّه طلحة والزبير؟! وأمّا قولك: إنّي ألقيتك في لَهوات الأسد. ففي لهواتها ألقيت نفسك، وأمّا خلط العراق بالشام فخلطهما على حقٍّ خيرُ من فرقتهما على باطل. وأمّا قولك: إنَّ عليّاً قتل عثمان. فوالله ما في يديك من ذلك إلّا القذف بالغيب من مكانٍ بعيد، ولكنّك ملت إلى الدنيا، وشيءُ كان في نفسك على زمن سعد بن أبي وقّاص.

فبلغ معاوية قول الرّجلين، فبعث إلى جرير فزجره ولم يدر ما أجابه أهل الشام وكتب جرير إلى شرحبيل:

شُرحبيل يا ابن السمط لا تتبع الهوى

فمالك في الدنيا من الدين من بَدلْ

وقل لابن حرب: مالك اليوم حرمة

تروم بها ما رمتَ فاقطع له الأملْ

شُرحبيل إنَّ الحقّ قد جدَّ جِدّه

وانّك مأمونُ الأديم من النّغَلْ

فأرودْ ولا تفرط بشيىء نخافه

عليك ولا تعجل فلا خير في العجَلْ

ولا تك كالمجري إلى شرِّ غاية

فقد خُرق السِّربال واستنوَق الجملْ

وقال ابن هند في عليٍّ عضيهة

وَلله في صدر ابن أبي طالب أجلْ

وما لعليٍّ في ابن عفّان سقطةٌ

بأمر ولا جلبٍ عليه ولا قتلْ(١)

وما كان إلّا لازماً قعر بيته

إلى أن أتى عثمان في بيته الأجلْ

فمن قال قولاً غير هذا فحسبه

من الزور والبهتان قول الذي احتملْ

وصيُّ رسول الله من دون أهله

وفارسه الأولى به يُضرب المثلْ(٢)

فلمّا قرأ شُرحبيل الكتاب ذعر وفكّر، وقال: هذه نصيحةٌ لي في ديني ودنياي. ولا والله لا اُعجّل في هذا الأمر بشيىء وفي نفسي منه حاجة، فاستتر له القوم ولفّف له معاوية الرِّجال يدخلون إليه ويخرجون، ويُعظّمون عنده عثمان ويرمون به عليّاً، ويقيمون الشهادة الباطلة والكتب المختلقة، حتى أعادوا رأيه وشحذوا عزمه، وبلغ

____________________

١ - فى شرح ابن ابى الحديد: بقول ولا ما لا عليه ولا قتل. الممالاة: المساعدة.

٢ - فى شرح ابن ابى الحديد: ومن باسمه فى فضله يضرب المثل.

٢٩٦

ذلك قومه فبعث إبن اُخت له من بارق - وكان يرى رأي عليِّ بن أبي طالب فبايعه بعدُ، وكان ممّن لحق من أهل الشام وكان ناسكاً - فقال:

لعمر أبي الأشقى ابن هند لقد رمى

شُرحبيل بالسَّهم الذي هو قاتله

ولفّف قوماً يسحبون ذيولهم

جميعاً وأولى الناس بالذنب فاعله

فألفى يمانيّاً ضعيفاً نخاعه

إلى كلِّ ما يهوون تُحدى رواحله

فطأطأ لها لمـّا رموه بثقلها

ولا يُرزق التَّقوى من الله خاذله

ليأكل دنيا لابن هند بدينه

ألا وابن هند قبل ذلك آكله

وقالوا عليُّ في ابن عفّان خدعةً

ودبَّت إليه بالشنان غوائله

ولا والذي أرسى ثبيراً مكانه

لقد كُفَّ عنه كفّه ووسائله

وما كان إلّا من صحاب محمّدٍ

وكلّهمُ تغلي عليه مراجله

فلمّا بلغ شرحبيل هذا القول قال: هذا بعيث الشيطان، الآن امتحن الله قلبي، والله لأسيرنَّ صاحب هذا الشعر أو ليفوتنّني. فهرب الفتى إلى الكوفة. وكاد أهل الشام أن يرتابوا.

وبعث معاوية إلى شُرحبيل بن السَّمط فقال: إنّه كان من إجابتك الحقَّ، وما وقع فيه أجرك على الله، وقبله عنك صلحاء الناس ما علمت، وإنَّ هذا الأمر الذي قد عرفته لا يتمُّ إلّا برضا العامَّة، فسر في مدائن الشام، وناد فيهم: بأنَّ عليّاً قتل عثمان، وأنّه يجب المسلمين أن يطلبوا بدمه، فسار فبدأ بأهل حمص فقام خطيباً، فقال: يا أيُّها الناس! إنَّ عليّاً قتل عثمان بن عفّان، وقد غضب له قومٌ فقتلهم، وهزم الجميع وغلب على الأرض، فلم يبق إلّا الشام، وهو واضعٌ سيفه على عاتقه، ثمَّ خائضٌ به غمار الموت حتّى يأتيكم أو يحدث الله أمراً، ولا نجد أحداً أقوى على قتاله من معاوية، فجدّوا وانهضوا، فأجابه الناس إلّا نسّاك أهل حمص، فانّهم قاموا إليه فقالوا: بيوتنا قبورنا ومساجدنا، وأنت أعلم بما ترى، وجعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها، لا يأتي على قوم إلّا قبلوا ما أتاهم به، فبعث إليه النجاشي بن الحارث وكان صديقاً له:

شُرحبيل ما للدِّين فارقت أمرنا

ولكن لبغض المالكيّ جريرِ

وشحناء دبّت بين سعد وبينه

فأصبحتَ كالحادي بغير بعيرِ

٢٩٧

وما أنت إذ كانت بجيلة عاتبت

قريشاً فيا للهَ بُعد نصيرِ

أتفصل أمراً غبتَ عنه بشبهةٍ

وقد حار فيها عقل كلّ بصيرِ

بقول رجالٍ لم يكونوا أئمّة

ولا للّتي لقَّوكها بحضورِ

وما قول قوم غائبين تقاذفوا

من الغيب ما دلّاهمُ بغرورِ

وتترك انَّ الناس أعطوا عهودهم

عليّاً على اُنسٍ به وسرورِ

إذا قيل: هاتوا واحداً يُقتدى به

نظيراً له لم يفصحوا بنظيرِ

لعلّك أن تشقى الغداة بحربه

شُرحبيل ما ما جئته بصغيرِ(١)

راجع كتاب صفّين لنصر بن مزاحم ٤٩ - ٥٧، الإستيعاب ترجمة شُرحبيل ١: ٥٨٩ اُسد الغابة ٢: ٣٩٢، الكامل لابن الأثير ٣: ١١٩، شرح ابن أبي الحديد ١: ١٣٩، ٢٤٩، ٢٥٠.

فبهذه الصّورة البشيعة من الشَّهادات المزوَّرة والكتب المختلقة تمّت بيعة معاوية لقتال عليّ أمير المؤمنين.

ورابعاً: إلى أنّ عثمان قتله رجالٌ مجتهدون من المهاجرين والأنصار، ووجوه أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العدول، بعد إقامة الحجّة عليه، وإثبات شذوذه عن الكتاب والسنَّة وإهدار دمه بحكم الكتاب(٢) فليس على القوم قودٌ ولا قصاصٌ، ولم يك مولانا أمير المؤمنين إلّا رجلاً من المهاجرين أورد كما أوردوا، وأصدر كما أصدروا، وما كان الله ليجمعهم على ضلال، ولا ليضربهم بالعمى.

وقد كتب بهذا أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى معاوية(٣) وجاء الحجاج به في كلمات غير واحد من الصحابة مثل قول الصحابيّ العظيم هاشم المر قال المذكور ج ٩: ١٢٣ و في هذا الجزء ص ٢٩٠، وقول عمّار بن ياسر الممدوح بالكتاب والسنَّة الذي أسلفناه في ج ٩: ١١٢، وقول أبي الطفيل الشيخ الصحابيِّ الكبير الآنف في ج ٩: ١٤٠: وقول عبد الرّحمن بن عثمان السابق في ج ٩: ١٥٩، فما ذنب عليّعليه‌السلام إن آواهم ونصرهم

____________________

١ - فى شرح ابن أبى الحديد: فليس الذى قد جئته بصغير.

٢ - راجع ما مر فى الجزء التاسع ١٦٩ - ٢٠٩.

٣ - راجع ما أسلفناه فى ج ٩ ص ١٥٨ - ١٦٤.

٢٩٨

وأيّدهم ودفع عنهم عادية الباغين.

وخامساً: إلى أنَّ الذين كانوا في جيش أمير المؤمنينعليه‌السلام أو الذين تحكّمت بينه وبينهم آصرة المودَّة لم يكونوا كلّهم قتلة عثمان، ولا باشروا شيئاً من أمره، و لم يكن لأكثرهم في الأمرِ وردٌ ولا صدَر، وإنَّما كان فيهم من اولئك الصحابة العدول اناسٌ معلومون آووا إلى إمام الحقِّ، فبأيِّ حجّة شرعيّة كان ابن صخر يستبيح قتل الجميع واستقرأهم في البلاد بعد مقتل مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام وقبله، فقتّلهم تقتيلاً؟!.

وسادساً: إلى أنَّ معاوية لم يكن وليّ دم عثمان وإنَّما أولياؤه ولده، وإن كان لهم حقّ القصاص فعجزوا عن طلبه فعليهم رفع الأمر إلى خليفة الوقت وهو مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام لينظر في أمرهم، ويحكم بحكم الله الباتِّ وهو أقضى الاُمّة بنصِّ الرَّسول الأمين.

نعم: كانت لمعاوية تراةٌ عند أمير المؤمنينعليه‌السلام بأخيه حنظلة بن أبي سفيان، وجدِّه لاُمّه عتبة بن ربيعة، وخاله الوليد بن عتبة بن ربيعة، وأبناء عمّه العاص بن سعيد بن العاص بن اُميّة، وعقبة بن أبي مُعيط بن أبي عمر وبن اميّة. لكنّه لم ينبس عنهم ببنت شفة لأنّها ما كانت تنطلي عند المسلمين فإنّهم وثنيّون مشركون حاربوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذاقوا وبال أمرهم، وإنَّما تترَّس بدم عثمان بضرب من السيرة الجاهليّة من صحَّة قيام أيّ فردٍ من أفراد العشيرة بدم أيّ مقتول منها وإن بعدت بينهم الرَّحم والقرابة، وهذه السيرة الغير المشروعة كان يرنُّ صداها في مسامع أهل الشام البعداء عن مبادئ الدِّين وطقوسه، ومن ثمَّ استهواهم معاوية، واستحوذ عليهم بذلك التدجيل، ولم تكن تلك الحرب الزبون إلّا انّها إحنٌ بدريّة، وأحقادٌ جاهليّة، وضغائن اُحديّة، وثب بها معاوية حين الغفلة، ليدرك ثارات بني عبد شمس، ولم تك تخفى هذه الغاية على أيِّ أحد حتّى المخدَّرات في الحجال(١) .

وسابعاً: إلى أنَّ اوَّل واجب على معاوية أن يتنازل إلى ما لزمه من البيعة الحقَّة فيدخل في جماعة المسلمين، ولا يشقّ عصاهم بالتقاعس عنها، ثمَّ يرفع الخصومة إلى صاحب البيعة، فيرى فيه رأيه كما جاء في كتاب لأمير المؤمنين إلى معاوية من قوله:

____________________

١ - انظر ما مرّ من كلمة امّ الخير فى الجزء التاسع ص ٣٧١ ط ٢.

٢٩٩

وأمّا قولك: ادفع إليَّ قتلة عثمان. فما أنت وذاك؟ وها هنا بنو عثمان وهم أولى بذلك منك(١) فإن زعمتَ أنّك أقوى على طلب دم عثمان منهم فارجع(٢) إلى البيعة التي لزمتك [لأنّها بيعةٌ شاملةٌ لا يستثنى فيها الخيار، ولا يستأنف فيها النظر] وحاكم القوم إليَّ(٣) .

وفي كتاب آخر لهعليه‌السلام كتبه إليه:

وقد أكثرت في قتلة عثمان، فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك، ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، ثمَّ حاكمت القوم إليَّ حملتك وإيّاهم على كتاب الله، وأمّا تلك التي تريدها فهي خدعة الصبيِّ عن اللّبَن.

ولعمري يا معاوية! لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنَّني أبرأ النّاسِ من دم عثمان، ولتعلمنَّ أنّي كنتُ في عزلة عنه، إلّا أن تتجنّى(٤) فتُجنَّ ما بدا لك(٥) .

وثامناً إلى أنّ طلحة والزبير قد نهضا قبل معاوية بتلك الغاية التي هو راميها، وأخرجا حبيسة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خدرها، وحاربهما الإمامعليه‌السلام بعد ما أتمَّ عليهما الحجّة، وكتب إليهما: وقد زعمتما أن قتلتُ عثمان، فبيني وبينكما مَن تخلّف عنّي وعنكما من أهل المدينة(٦) ثمَّ يُلزم كلُّ امرئ بقدر ما احتمل، وزعمتما أنّي آويت قتلة عثمان، فهؤلاء بنو عثمان فليدخلوا في طاعتي، ثمَّ يُخاصموا إليَّ قتلة أبيهم، وما أنتما وعثمان؟ إن كان قُتل ظالماً أو مظلوماً، وقد بايعتماني وأنتما بين خصلتين قبيحتين: نكث بيعتكما. وإخراجكما امّكما(٧) .

____________________

١ - فى رواية المبرد: وبعد: فما أنت وعثمان؟ إنّما أنت رجل من بنى اميّة، وبنو عثمان اولى بمطالبة دمه.

٢ - فى رواية المبرد: فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إلىّ.

٣ - الامامة والسياسة ١: ٨٨، الكامل للمبرد ١: ٢٢٥، العقد الفريد ٢: ٢٨٤، ٢٨٥، شرح ابن أبى الحديد ١: ٢٥٢.

٤ - تجنى عليه: إدّعى عليه ذنباً لم يفعله. فتجنّ: أى تستره وتخفيه.

٥ - الامامة والسياسة ١: ٨١، العقد الفريد ٢: ٢٨٤، نهج البلاغة ٢: ٧، ١٢٤، شرح ابن أبى الحديد ١: ٢٤٨، ج ٣: ٣٠٠.

٦ - نظراء سعد بن أبى وقاص، عبد الله بن عمر، محمد بن مسلمة.

٧ - نهج البلاغة ٢: ١١٢، الامامة والسياسة ١: ٦٢.

٣٠٠