الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١٠

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 389

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 389
المشاهدات: 65993
تحميل: 3602


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 389 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65993 / تحميل: 3602
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 10

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كلّه، وإن نقص لم يلحقك ثلمه، وما أنت والفاضل والمفضول؟ والسائس والمسوس؟ وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأوّلين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم؟ هيهات لقد حنَّ قِدحٌ ليس منها، وطفق يحكم فيها مَن عليه الحكم لها، ألا تربَعْ أيّها الإنسان! على ظلعك؟ وتعرف قصور ذرعك، وتتأخّر حيث أخَّرك القدَر؟ فما عليك غلبة المغلوب، ولا لك ظفر الظافر.

ومنه قولهعليه‌السلام :

وذكرتَ انّه ليس لي ولأ صحابي عندك إلّا السيف، فلقد أضحكتَ بعد استعبار، متى ألفيت بني عبد المطلب عن الأعداء ناكلين، وبالسيوف مخوَّفين؟!؟! فلبِّث قليلاً يلحق الهيجا حَمَل(١) فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد، وأنا مُرقلٌ نحوك في جحفلٍ من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، شديدٍ زحامهم، ساطعٍ قتامهم متسربلين سرابيل الموت، أحبُّ اللّقاء إليهم لقاء ربِّهم، وقد صحبتهم ذرِّيَّة بدريّة، وسيوف هاشميَّة، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك وأهلك، وما هي من الظالمين ببعيد.

ولمـّا نزل عليّعليه‌السلام الرقَّة قالت له طائفة من أصحابه: يا امير المؤمنين! اكتب إلى معاوية ومَن قِبله من قومك، فإنّ الحجَّة لا تزداد عليهم بذلك إلّا عِظَما. فَكتب إليهم:

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية ومَن قِبله من قريش:

سلامٌ عليكم، فإنِّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلّا هو، أمّا بعدُ: فإنّ لِلّه عباداً آمنوا بالتنزيل، وعرفوا التأويل، وفقهوا في الدين، وبيَّن الله فضلهم في القرآن الحكيم، وأنتم في ذلك الزمان أعداء للرَّسول تكذِّبون بالكتاب، مجمعون على حرب المسلمين، مَن ثقفتم منهم حبستموه أو عذَّبتموه أو قتلتموه، حتّى أراد الله تعالى إعزاز دينه، وإظهار أمره، فدخلت العرب في الدِّين أفواجاً، وأسلمت له هذه الاُمّة طوعاً وكرها، فكنتم فيمن دخل في هذا الدِّين إمّا رغبةً أو رهبةً، على حين فاز أهل السبق بسبقهم، وفاز المهاجرون الأوّلون بفضلهم، ولا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في

____________________

١ - حمل، هو حمل بن سعدانه الصحابى شهد صفين مع معاوية.

٣٢١

الدّين، ولا فضائلهم في الإسلام، أن ينازعهم الأمر الذي هم أهله وأولى به فيحوب ويظلم، ولا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره، ويعدو طوره، ويُشقي نفسه بالتماس ما ليس بأهله، فإنّ أولى الناس بأمر هذه الاُمَّة قديماً وحديثاً أقربها من الرَّسول، وأعلمها بالكتاب، وأفقهها في الدِّين، أوّ لهم إسلاما، وأفضلهم جهاداً، وأشدّهم بما تحمله الأئمَّة من أمر الاُمّة اضطلاعاً، فاتّقوا الله الّذي إليه ترجعون، ولا تلبسوا الحقَّ بالباطل وتكتموا الحقَّ وأنتم تعلمون، وأعلموا أنَّ خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون، وإنَّ شرارهم الجهّال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم، فإنَّ للعالم بعلمه فضلاً، وانّ الجاهل لا يزداد بمنازعته العالم إلّا جهلاً، ألا وإنِّي أدعوكم إلى كتاب الله وسنَّة نبيّه، وحقن دماء هذه الاُمّة، فإن قبلتم أصبتم رشدكم، واهتديتم لحظّكم، وإن أبيتم إلّا الفرقة وشقَّ عصا هذه الاُمَّة، لم يزدادوا من الله إلّا بُعدا، ولا يزداد الربّ عليكم إلّا سُخطا، والسّلام.

راجع الامامة والسياسة ١: ٢٠، ٧١، ٧٢، ٧٧، ٧٨، كتاب صفين ٣٤، ٣٨، ٥٨، ٥٩، ٦٢ - ٦٥ ط مصر، كامل المبرد ١: ١٥٥، ١٥٧، العقد الفريد ٢: ٢٣٣. وفي ط ٢٨٤، نهج البلاغة ٢: ٧، ٨، ٣٠، ٣٥، ٩٨، شرح ابن ابى الحديد ١: ٧٧، ١٣٦، ٢٤٨، ٢٥٢ و ج ٣: ٣٠٠، ٣٠٢، صبح الاعشى ١: ٢٢٩، نهاية الارب ٧: ٢٣٣. ومرّ بعض هذه الكتب بتمامه في هذا الجزء.

قال الأميني: ألم تعلم أيّها القارئ الكريم عقيب ما استشففت هذه الكتب المتردّدة بين إمام الحقّ ورجل السوء « معاوية » أنّه حين يسرُّ حسواً في ارتغاء محتجّاً بقتل عثمان تارة، وبايواء قاتليه تارةً اُخرى، وبطلبه حقن الدماء كمن لا يبتغيه هو، انّه كان لا يبتغي إلّا الخلافة؟ وانّه يعدو إليها ضابحاً، ويُضحّي دونها كلّ غالٍ ورخيص، ويهب دونها الولايات، ويمنح تجاهها المنائح، ويهب الرضائخ، ويستهوي بها النفوس الخائرة، ومهملجي نهمة الحاكميّة، ويستهين بيعة المهاجرين والأنصار، وهم إلبٌ واحد لبيعة إمام الهدى صلوات الله عليه، ويحسبهم قد فارقوا الحق وخبطوا في العمى، ويرجح كفة الشام على كفة عاصمة الاسلام، وأهلوه هم الصّحابة العدول مِن المهاجرين والأنصار، على أنّه ليس للطليق ابن الطليق أن يتدخّل في شأن هم أثبتوا دعائمه،

٣٢٢

وشيّدوا معالمه، ومَن الذي منحه النظر في أمر هذا شأنه؟ ومتى كان له ولطغام الشام أن يجابهوا إمرة الحقّ التي نهض بها أهل الحلّ والعقد؟ ولم يباشر الحرب هنالك إلّا بعد أن أتمَّ الإمامعليه‌السلام عليه الحجّة، وألحب له الطريق، وأوقفه على حكم الله الباتِّ وأمره النهائيِّ، غير أنّ معاوية في اُذنه وقرٌ عن سماع كلم الحقِّ والبخوع لها، والملك عقيمٌ.

تصريحٌ لا تلويح

يُعرب عن مرمى ابن هند

مرّ في سالف القول ص ٣١٧ انّ معاوية قال لجرير: يجعل عليُّ له الشام ومصر جباية، ويكون الأمر له بعده، حتى يكتب إليه بالخلافة، وكتب بذلك إليهعليه‌السلام ، وكتب إليهعليه‌السلام يسأله إقراره على الشام فكتب إليه عليُّعليه‌السلام :

أمّا بعد: فإنّ الدنيا حُلوةٌ خضرة، ذات زينة وبهجة، لم يَصْبُ إليها أحدٌ إلّا شغلته بزينتها عمّا هو أنفع له منها، وبالآخرة اُمرنا، وعليها حُثثنا، فدع يا معاوية! ما يفنى، واعمل لما يبقى، واحذر الموت الذي إليه مصيرك، والحساب الذي إليه عاقبتك، واعلم أنَّ الله تعالى إذا أراد بعبد خيراً حال بينه وبين ما يكره، ووفّقه لطاعته، وإذا أراد بعبدٍ سوءاً أغراه بالدنيا وأنساه الآخرة، وبسط له أمله، وعاقه عمّا فيه صلاحه، وقد وصلني كتابك فوجدت ترمي غير غرضك، وتنشد غير ضالّتك، وتخبط في عماية، وتتيه في ضلالة، وتعتصم بغير حجّة، وتلوذ بأضعف شُبهة.

فأمّا سؤالك المتاركة والإقرار لك على الشام، فلو كنتُ فاعلاً ذلك اليوم لفعلته أمس، وأمّا قولك: إنّ عمر ولّاكه فقد عزل من كان ولّاه صاحبه(١) وعزل عثمان مَن كان عمر ولّاه(٢) ولم يُنصب للنّاس إمامٌ إلَّا ليرى من صلاح الاُمّة ما قد كان ظهر لمن قبله أو اُخفي عنه عيبُه، والأمر يحدث بعده الأمر، ولكلّ والٍ رأيٌ واجتهاد.(٣)

وكتب الرجل إليهعليه‌السلام ثانية - قبل ليلة الهرير بيومين أو ثلاثة - يسأله إقراره على

____________________

١ - يريد خالد بن الوليد كان ولّاه أبو بكر فعزله عمر.

٢ - عزل عثمان عمال عمر كلهم غير معاوية.

٣ - نهج البلاغة ٢: ٤٤، شرح ابن ابى الحديد ٤: ٥٧.

٣٢٣

الشام وذلك أنَّ عليّاًعليه‌السلام قال: لاُناجزنّهم مصبحاً. وتناقل الناس كلمته، ففزع أهل الشام لذلك، فقال معاوية: قد رأيت أن اُعاود عليّاً وأسأله إقراري على الشام، فقد كنت كتبت إليه ذلك فلم يجب إليه(١) ولأكتبنّ ثانية، فألقى في نفسه الشكّ والرقَّة، فكتب اليه.

أمّا بعد: فإنّك لو علمتَ وعلمنا أنّ الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغتْ، لم يَجْنها بعضنا على بعض، ولئن كنّا قد غُلبنا على عقولنا، لقد بقي لنا منها ما نندم به على ما مضى، ونُصلح به ما بقي، وقد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك بيعةٌ وطاعةٌ فأبيت ذلك عليّ، فأعطاني الله ما منعتَ، وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس، فانِّي لا أرجو من البقاء إلّا ما ترجو، ولا أخاف من الفناء إلّا ما تخاف، وقد والله رقَّت الأجناد وذهبت الرجال، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضلٌ إلّا فضلٌ لا يُستذلُّ به عزيز، ولا يسترقُّ به حرٌّ، والسّلام.

فأجابه عليُّعليه‌السلام :

أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر أنَّك لو علمتَ وعلمنا أنَّ الحرب تبلغ بنا وبك لم يجنها بعضنا على بعض، فإنّي لو قُتلت في ذات الله وحَييت، ثمّ قُتلت ثمَّ حييت سبعين مرَّة لم أرجع عن الشدَّة في ذات الله، والجهاد لأعداء الله، وأمّا قولك: إنّه قد بقي من عقولنا ما نندم على ما مضى فإنّي ما تنقّصت عقلي، ولا ندمت على فعلي، وامّا طلبك إليَّ الشام فإنّي لم أكن لاُعطيك اليوم ما منعتك أمس، وأمّا قولك: إنَّ الحرب قد أكلت إلّا حُشاشات أنفس بقيت، ألا ومن أكله الحقُّ فإلى الجنَّة، ومن أكله الباطل فالى النار. الكتاب(٢) .

وكتب معاوية إلى ابن عبّاس:

أمّا بعد: فإنَّكم معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع منكم بالمساءة إلى أنصار ابن عفّان حتّى أنّكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما بدمه، واستعظامهما ما نيل منه،

____________________

١ - كذب الرجل وقد اجابه الامام ( ع ) بما سمعت غير انه كتمه على اصحابه خوفاً من أن يهتدى به بعض الى الحق ويفارق الباطل.

٢ - الامامة والسياسة ١: ٨٨ وفى ط ٩٥، كتاب صفين ص ٥٣٨، مروج الذهب ٢. ٦٠، ٦١، نهج البلاغة ٢: ١٢، شرح ابن ابى الحديد ٣: ٤٢٤.

٣٢٤

فإن كان ذلك منافسةً لبني اميّة في السُّلطان، فقد وليها عديُّ وتيم(١) فلَم تنافسوهم وأظهرتم لهم الطاعة.

وقد وقع من الأمر ما قد ترى، وأدالت هذه الحرب بعضنا على بعض حتى استوينا فيها، فما يُطعمكم فينا يُطعمنا فيكم، وما يؤيسنا منكم يؤيسكم منّا، ولقد رجونا غير الذي كان، وخشينا دون ما وقع، ولستم ملاقينا اليوم بأحدَّ من حدِّكم أمس، ولا غداً بأحدَّ من حدِّكم اليوم، وقد قنعنا بما في أيدينا من ملك الشام، فاقنعوا بما في أيديكم من ملك العراق، وأبقوا على قريش، فانّما بقي من رجالها ستَّة: رجلان بالشام، ورجلان بالعراق. ورجلان بالحجاز، فأمّا اللذان بالشام فأنا وعمرو. وأمّا اللذان بالعراق فأنت وعليُّ. وأمّا اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر(٢) فإثنان من الستّة ناصبان لك، واثنان واقفان فيك، وأنت رأس هذا الجمع، ولو بايع لك الناس بعد عثمان كنّا إليك أسرع منّا إلى عليٍّ.

فكتب إبن عبّاس إليه:

أمّا بعد: فقد جاءني كتابك وقرأته، فأمّا ما ذكرت من سرعتنا بالمساءة إلى أنصار عثمان وكراهتنا لسلطان بني اُميّة، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره حتى صرتَ إلى ما صرتَ إليه، وبيني وبينك في ذلك ابن عمّك وأخو عثمان الوليد بن عقبة، وأمّا طلحة والزبير فإنَّهما أجلبا عليه، وضيّقا خِناقه، ثمَّ خرجا ينقضان البيعة ويطلبان الملك، فقاتلناهما على النكث وقاتلناك على البغي، وأمّا قولك: إنّه لم يبق من قريش إلّا ستَّة فما أكثر رجالها، وأحسن بقيّتها، وقد قاتلك من خيارها من قاتلك، ولم يخذلنا إلّا من خذلك، وأمّا إغراؤك إيّانا بعديّ وتيم، فإنَّ أبا بكر وعمر خيرٌ من عثمان كما أنَّ عثمان خيرٌ منك، وقد بقي لك منّا ما ينسيك ما قبله وتخاف ما بعده، وأمّا قولك: إنَّه لو بايعني الناس استقمت، فقد بايع الناس عليّاً وهو خيرٌ منّي فلم تستقم له: وما أنت وذكر الخلافة يا معاوية؟ وإنَّما أنت طليق وابن طليق، والخلافة للمهاجرين الأوَّلين، وليس الطلقاء منها في شيىء، والسَّلام(٣) وفي لفظ ابن قتيبة: فما

____________________

١ - يعنى أبا بكر وعمر.

٢ - يعنى سعد بن ابى وقاص، وعبد الله بن عمر.

٣ - الامامة والسياسة ١: ٨٥، وفى ط ٩٦، شرح ابن ابى الحديد ٢: ٢٨٩.

٣٢٥

أنت والخلافة؟ وأنت طليق الإسلام، وابن رأس الأحزاب، وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر.

وخطب معاوية بَعد دخوله الكوفة وصلح الإمام السبط سلام الله عليه فقال: يا أهل الكوفة! أتراني قاتلتكم على الصّلاة والزَّكاة والحجّ؟ وقد علمت أنّكم تصلّون وتزُكّون وتحجّون. ولكنَّني قاتلتكم لأتأمَّر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون، ألا إنّ كلّ مال أو دم اُصيب في هذه الفتنة فمطلولٌ، وكلّ شرط شرطته فتحت قدميَّ هاتين. شرح ابن أبي الحديد ٤: ٦، تاريخ ابن كثير ٨: ١٣١ واللّفظ للأوّل.

قال معروف بن خربوذ المكّي: بينا عبد الله بن عبّاس جالسٌ في المسجد ونحن بين يديه إذ أقبل معاوية فجلس اليه فأعرض عنه ابن عبّاس فقال له معاوية: مالي أراك معرضاً؟ ألستَ تعلم أنِّي أحقُّ بهذا الأمر من ابن عمّك؟ قال: لِمَ؟ لأنه كان مسلما وكنت كافراً؟ قال: لا، ولكنّي ابن عمِّ عثمان. قال: فابن عمّي خيرٌ من ابن عمّك.

قال: إنّ عثمان قُتل مظلوماً. قال: وعندهما ابن عمر فقال ابن عبّاس: فانّ هذا والله أحقّ بالأمر منك. فقال معاوية: إنّ عمر قتله كافرٌ وعثمان قتله مسلمٌ. فقال ابن عبّاس: ذاك والله أدحض لحجّتك. مستدرك الحاكم ٣: ٤٦٧.

قال الأميني: إنّ هذه الكلم لتعطي القارئ دروساً ضافية من تحرّي معاوية للخلافة لا غيرها من أوّل يومه، ولم يكن في وسع ابن آكلة الاكباد دفع شيىء ممّا كتب اليه من ذلك، وانّه كان يريد على فرض قصوره النيل لكلّ الامنيّة القناعة ببعضها، فيصفو له ملك الشام ومصر، وللامامعليه‌السلام ما تحت يده من الحواضر الإسلاميّة وزرافات الأجناد، عسى أن يتّخذ ذلك وسيلة للتوصّل إلى بقيّة الأمل في مستقبل أيّامه، وكانت هذه القسمة ابتداعاً في أمر الخلافة الإسلاميَّة، وتفريقاً بين صفوفها، لم تأل إلى سابقة في الدين، ولا أمضاها أهله في دور من الأدوار، وانّما هي فصمةٌ في الجماعة، وتفريقٌ للطاعة، وتفكيكٌ لعرى الاسلام، وتضعيفٌ لقواه، وبيعةٌ عامَّة تلزم القاصي والداني لا يسُتثنى منها جيلٌ دون جيل، ولا يجوز إنحياز اُمّة عنها دون امّة، وإنّما هو الخليفة الأخير الذي أوجبت الشريعة قتله كما مرَّ حديثه الصحيح الثابت،

٣٢٦

وانّه هو معاوية نفسه، فما كان يسع الإمامعليه‌السلام والحالة هذه إلّا قتال هذا الطاغية أو يفيء إلى أمر الله.

فكرة معاوية لها قِدم

إنَّ رأي معاوية في خلافة الإمامعليه‌السلام لم يكن وليد يومه ولا بنت ليلته، وإنَّما كان مناوئاً منذ فرَّق بينهما الإسلام، وقُتل في يوم واحد أخوه وجدُّه وخاله بسيف عليّعليه‌السلام ، فلم يزل يلهج ويهملج في تفخيذ الناس عنه صلوات الله عليه من يوم قتل عثمان، بعث رجلاً من بني عمُيس وكتب معه كتاباً إلى الزبير بن العوام، وفيه:

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان.

سلامٌ عليك. أمّا بعد: فإنّي قد بايعت لك أهل الشام، فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الحَلب(١) فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب، فإنّه لا شيىء بعد هذين المصرين، و قد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك، فأظهر الطلب بدم عثمان، واُدعوا الناس إلى ذلك، وليكن منكما الجدّ والتشمير، أظفركما الله، وخذل مُناوئكما.

فسُرَّ الزبير بهذا الكتاب، وأعلم به طلحة، ولم يشكّا في النصح لهما من قِبل معاوية، وأجمعا عند ذلك على خلاف عليّعليه‌السلام . شرح ابن ابي الحديد ١: ٧٧.

قال الأميني: انظر إلى دين الرجل وورعه يستسيغ أن يخاطب الزبير بامرة المؤمنين لمحض حسبانه انّه بايع له أجلاف أهل الشام، ولا يقول بها لأمير المؤمنين حقّاً عليعليه‌السلام وقد تمّت له بيعة المسلمين جمعاء وفي مقدّمهم الزبير نفسه وطلحة بن عبيد الله الذي حاباه معاوية ولاية العهد بعد صاحبه، فغرّهما على نكث البيعة فذاقا وبال أمرهما، وكان عاقبتهما خسراً.

وأنت ترى أنّ الطلب بدم عثمان قنطرة النزاع في الملك، ووسيلة النيل إلى الأمانيِّ من الخلافة الباطلة، أوحاه معاوية إلى الرَّجلين، وإنّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم.

____________________

١ - استوسق: اجتمع. الحلب: اللبن المحلوب.

٣٢٧

ويدعوا الرجل لمناوئي عليٍّعليه‌السلام بالظفر وعليهعليه‌السلام بالخذلان، والصَّادع الكريم يقول في الصحيح المتّفق عليه: أللّهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.

وكتب إلى الزبير ايضاً:

أمّا بعد: فانّك الزبير بن العوام، إبن أبي خديجة(١) ، وابن عمَّة(٢) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحواريّه، وسِلفه(٣) وصهر أبي بكر، وفارس المسلمين، وأنت الباذل في الله مهجته بمكّة عند صيحة الشيطان، بعثك المنبعث: فخرجت كالثعبان المنسلخ بالسيف المنصلت، تخبط خبط الجمل الرَّديع، كلّ ذلك قوَّة ايمان وصِدق يقين، وسبقت لك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البشارة بالجنّة، وجعلك عمر أحد المستخلَفين على الاُمّة.

واعلم يا أبا عبد الله: أنّ الرعيَّة أصبحت كالغنم المتفرِّقة لغيبة الراعي، فسارع - رحمك الله - إلى حقن الدماء: ولمِّ الشَّعث، وجمع الكلمة، وصلاح ذات البين، قبل تفاقم الأمر، وانتشار الاُمّة، فقد أصبح الناس على شفا جُرُفٍ هارٍ، عمّا قليل ينهار إن لم يُر أب، فشمّر لتأليف الاُمَّة، وابتغ إلى ربّك سبيلا، فقد أحكمت الأمر من قِبلي لك ولصاحبك على أنَّ الأمر للمقدَّم، ثمَّ لصاحبه من بعده، جعلك الله من أئمة الهدى، وبُغاة الخير والتقوى، والسَّلام.

ألا مسائلٌ ابن هند عن قوله: إنَّ الرعيَّة أصبحت كالغنم المتفرِّقة.. إلخ. لماذا أصبحت؟ ومتى أصبحت؟ وكيف أصبحت؟ وراعيها الذي يرقبها ويرقب كلّ صالح لها ويشمّر على درأ كلِّ معرَّة عنها هو صنو رسول الله ونفسه الإمام المنصوص عليه، وقد اجمعت الاُمّة على بيعته لولا انَّ معاوية يكدِّر الصفو، ويقلق السّلام، ويفرِّق الكلمة بدسائسه وتسويلاته، فمَثله كما قال مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام كمثل الشيطان يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، لم يجعل الله له سابقة في الدين، ولا سلف صدق في الإسلام،

____________________

١ - خويلد أبو خديجة زوج الرسول ( ص ) جد الزبير بن العوام بن خويلد.

٢ - ام الزبير هى صفية بنت عبد المطلب عمّة رسول الله.

٣ - السلف: زوج أخت امرأته. تزوّج الزبير أسماء بنت ابى بكر، وتزوج رسول الله اختها عايشة.

٣٢٨

وكتب إلى طلحة:

أمّا بعد: فإنّك أقلُّ قريش في قريش وَتراً، مع صباحة وجهك، وسماحة كفّك، وفصاحة لسانك، فأنت بإزاء مَن تقدَّمك في السابقة، وخامس المبشّرين بالجنّة، و لك يوم اُحد وشرفه وفضله، فسارع - رحمك الله - إلى ما تُقلّدك الرعيَّة من أمرها، ممّا لا يسعك التخلّف عنه، ولا يرضى الله منك إلّا بالقيام به، فقد أحكمتُ لك الأمر قِبَلي، والزبير فغير متقدِّم عليك بفضل، وأيُّكما قدَّم صاحبه فالمقدَّم الإمام، والأمر من بعده للمقدَّم له، سلك الله بك قصد المهتدين، ووهب لك رُشد الموفَّقين، والسّلام.

قال الأميني: لمسائل هاهنا أن يحفي لمعاوية السؤال عن أنَّ ما تبجّح به للزبير و طلحة من الفضائل التي استحقّا بها الخلافة هل كان عليُّعليه‌السلام خلواً منها؟ يذكر لهما البشارة بالجنّة، وانَّ زبيراً أحد اولئك المبشّرين، وأنَّ طلحة خامسهم، فهلاً كان عليٌّعليه‌السلام عاشرهم؟ فلماذا سلخها عنه، وحثّهما بالمبادرة إليها حتى لا يسبقهما إليها إبن أبي طالب؟!؟! وإن كان تلكم البشارة - المزعومة - بمجرِّدها كافية في إثبات الجدارة للخلافة؟ فلماذا أخرج عنها سعد بن أبي وقّاص؟ وهو أحد القوم المبشّرين وكان يومئذ حيّاً يُرزق، و لعلَّ طمعه فيهما كان آكد، فحلب حلباً له شطره.

والأعجب قوله لطلحة: فأنت بإزاء من تقدَّمك في السابقة. فهلاّ كان أمير المؤمنين أوّل السابقين وأولاهم بالمئاثر كلّها؟ وهلاّ ثبت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله: السبّاق ثلاثة: السابق إلى موسى يوشع. وصاحب ياسين إلى عيسى. والسابق إلى محمّد عليّ بن أبي طالب؟(١) .

وهلاّ صحّ عند اُمَّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّ عليّاً أوّل من آمن بالله، وصدَّق نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلّى معه، وجاهد في سبيله؟

وإن كان لطلحة يوم اُحد وشرفه وفضله فلعليّعليه‌السلام مغازي الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّها من بدر و اُحد وخيبر والأحزاب وحُنين ويوم حمراء الأسد(٢) هب أنَّ معاوية كان في اذنه وقرٌ من شركه لم يسمع نداء جبريل ورضوان يوم ناديا:

____________________

١ - راجع الجزء الثانى: ٣٠٦ ط ثانى.

٢ - راجع ما مر فى الجزء السابع ص ٢٠٢ - ٢٠٦.

٣٢٩

لا فتى إلّا عليّ

لا سيف إلّا ذو الفقار(١)

فهل كان في بصره عمىّ كبصيرته لا يبصر نضال عليّ ونزاله في تلكم المعارك الدامية؟ نعم: معاوية لا يرى مواقف عليّعليه‌السلام فضلاً وشرفاً لأنَّه هو الذي أثكل امَّهات بيته، و ضرب أقذلة أخيه وجدِّه وخاله وأبناء بيته الساقط بسيفه البتّار، وإلى هذا يومي قوله لطلحة: فإنَّك أقلّ قريش في قريش وترا.

ومن كتاب له إلى مروان:

فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد، لا يُصطاد إلّا غيلةً، ولا يتشازر إلّا عن حلية، وكالثعلب لا يفلت إلا روغاناً، واخف نفسك منهم إخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأكفّ، وامتهن(٢) نفسك امتهان مَن ييأس القوم من نصره وانتصاره، وابحث عن امورهم بحث الدجاجة عن حَبِّ الدخن عند فقاسها(٣) وأنغل(٤) الحجاز، فإنّي مُنغل الشام، والسّلام.

قال الأميني: هذه شنشنة معاوية منذ بلغه أمر الامامعليه‌السلام وانعقاد البيعة له، فوجد نفسه عند الاُمّة في معزل عن المشورة أو اعتضاد في رأي، وأنَّ البيعة لاحقَته لا محالة، فلم يجد منتدحاً عن إقلاق الأمر على صاحب البيعة الحقَّة، وأن يستدني منه أمانيَّه الخلاّبة بتعكير الصفو لهعليه‌السلام فطفق يفسد ما اطمأنّ إليه من الأمصار، ويوعز في كتبه إلى إفساد الرأي، وتفريق الكلمة، وهو ضالّته المنشودة.

وإن تعجب فعجبٌ أخذه البيعة لطلحة والزبير واحداً بعد آخر وقد ثبت في أعناقهما بيعة الإمامعليه‌السلام ، وكانت هذه البيعة ابّان ثبوت بيعتهما كما ينمُّ عنه نصُّ كتبه إليهما، ثمَّ ومَن هو معاوية حتى يرشّح أحداً للخلافة بعد انعقاد الإجماع لخليفة الحقِّ؟ ولم يكن هو من أهل الترشيح حتّى لو لم تنعقد البيعة المذكورة.

على أنَّ الغبيَّ لم يهتد إلى أنّ أخذ البيعة لهما مستلزمٌ لنكثهما عن البيعة الاولى وما غناء إمام ناكث عن مناجح الاُمّة ومصالحها، مع انَّهما على تقدير صحَّة البيعة يكون

____________________

١ - انظر الجزء الثانى ص ٥٥.

٢ - امتهنه: احتقره وابتذله.

٣ - فقس الطائر بيضه. كسرها وأخرج ما فيها.

٤ - نغل الاديم كفرح: فسد فى الدباغ. أنغله: أفسده.

٣٣٠

كلٌّ منهما ثاني الخليفتين الذي يجب قتله بالنصوص الصحيحة الثابتة(١) فهل هناك خليفةٌ على المسلمين يجب إعدامه؟.

مناظراتٌ وكلمٌ

١ - قال أبو عمر في الاستيعاب(٢) كان عبد الرَّحمن بن غنم - الصحابي - من أفقه أهل الشام وهو الذي فقَّه عامَّة التابعين بالشام، وكانت له جلالة وقدر، وهو الذي عاتب أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذا انصرفا من عند عليّ رضي الله عنه رسولين لمعاوية، وكان ممّا قال لهما: عجباً منكما، كيف جاز عليكما ما جئتما به، تدعوان عليّاً إلى أن يجعلها شورى، وقد علمتما انّه قد بايعه المهاجرون والأنصار وأهل الحجاز والعراق، وإنَّ من رضيه خيرٌ ممَّن كرهه، ومن بايعه خيرٌ ممّن لم يبايعه؟ وأيّ مدخل لمعاوية في الشورى وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة؟ وهو أبوه من رؤوس الأحزاب. فندما على مسيرهما وتابا منه بين يديه رحمة الله عليهم.

٢ - خرج رجلٌ من أهل الشام - يوم صفين - ينادي بين الصفَّين: يا أبا الحسن! يا علي إ أبرز إليَّ. فخرج إليه عليٌّ حتى إذا اختلف أعناق دابَّتهما بين الصفَّين فقال: يا عليُّ إنَّ لك قِدماً في الإسلام وهجرة، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء، وتأخير هذه الحروب حتّى ترى من رأيك؟ فقال له عليُّ: وما ذاك؟ قال: ترجع إلى عراقك، فنخلّي بينك وبين العراق، ونرجع إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين شامنا. فقال له عليٌّ: لقد عرفت إنّما عرضت هذا نصيحة وشفقَّة، ولقد أهمَّني هذا الأمر وأسهرني، وضربت أنفه وعينه فلم أجد إلّا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنَّ الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه أن يُعصى في الأرض وهم سكوتٌ مذعنون، لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة الأغلال في جهنَّم(٣) .

٣ - قال عتبة بن أبي سفيان لجعدة بن هبيرة: يا جعدة! إنّا والله ما نزعم انَّ معاوية أحقّ بالخلافة من عليّ لولا أمره في عثمان، ولكنَّ معاوية أحقّ بالشام، لرضا أهلها به.

____________________

١ - ترجمة عبد الرحمن بن غنم الاشعرى ج ٢: ٤٠٢، اسد الغابة ٣: ٣١٨.

٢ - كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص ٥٤٢، شرح ابن ابى الحديد ١: ١٨٣.

٣ - راجع ما مرّ فى هذا الجزء.

٣٣١

فاعفوا لنا عنها، فوالله ما بالشام رجلٌ به طرقٌ إلّا وهو أجدّ من معاوية في القتال، ولا بالعراق مَن له مثل جدِّ عليّ في الحرب، ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم، وما أقبح بعليّ أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس بالناس حتّى إذا أصاب سلطاناً أفنى العرب.

فقال جُعدة: أمّا فضل عليّ على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه إثنان، وأمّا رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل، وأمّا قولك: انّه ليس بالشّام من رجل إلّا وهو أجدّ من معاوية، وليس بالعراق لرجل مثل جدِّ عليّ، فهكذا ينبغي أن يكون، مضى بعليّ يقينه، وقصّر بمعاوية شكّه، وقصدُ أهل الحقِّ خيرٌ من جهد أهل الباطل. ألحديث. كتاب صفّين ص ٥٢٩ ط مصر، شرح ابن أبي الحديد ٢: ٣٠١.

٤ - من خطبة لعبد الله بن بديل الخزاعي يوم صفين: إنَّ معاوية ادَّعى ما ليس له، ونازع الأمر أهله، ومن ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحقَّ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب، وزيَّن لهم الضَّلالة، وزرع في قلوبهم حبّ الفتنة، ولبّس عليهم الأمر، وزادهم رجساً إلى رجسهم.

تاريخ الطبري ٦: ٩، كتاب صفين لابن مزاحم ص ٢٦٣، كامل ابن الأثير ٣: ١٢٨، شرح ابن أبي الحديد ١: ٤٨٣.

٥ - من كلمة لعبد الله أيضاً يخاطب بها أمير المؤمنينعليه‌السلام :

يا أمير المؤمنين! إنَّ القوم لو كانوا الله يريدون، أو لِلّه يعملون، ما خالفونا، ولكنَّ القوم إنّما يُقاتلون فراراً من الاسوة، وحبّاً للأثرة، وضنّاً بسلطانهم، وكرهاً لفراق دنياهم التي في أيديهم، وعلى إحنِ في أنفسهم، وعداوةٍ يجدونها في صدورهم، لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين! بهم قديمة، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم.

ثمّ التفت إلى الناس فقال: كيف يبايع معاوية عليّاً وقد قتل أخاه حنظلة، وخاله الوليد، وجدّه عتبة في موقف واحد؟ والله ما أظنَ أن يفعلوا.

٦ - من خطبة ليزيد بن قيس الأرحبي بصفين: إنَّ هؤلاء القوم ما إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيّعناه، ولا على إحياء حقّ رأونا أمتناه، ولا يقاتلوننا إلّا لهذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرة وملوكا. إلى آخر ما مرّ في ص ٥٩.

٧ - من كتاب لسعد بن أبي وقاص إلى معاوية:

٣٣٢

أما بعد: فإنَّ أهل الشورى ليس منهم أحدٌ أحقَّ بها من صاحبه، غير أنّ عليّاً كان من السابقة، ولم يكن فينا ما فيه، فشاركنا في محاسننا، ولم نشاركه في محاسنه، وكان أحقّنا كلّنا بالخلافة، ولكن مقادير الله تعالى التي صرفتها عنه حيث شاء لعلمه وقدرَه، وقد علمنا انّه أحقّ بها منّا، ولكن لم يكن بدٌّ من الكلام في ذلك والتشاجر، فدع ذا وأمّا أمرك يا معاوية! فإنّه أمر كرهنا أوّله وآخره، وأمّا طلحة، والزبير فلو لزما بيعتهما لكان خيراً لهما، والله تعالى يغفر لعائشة امّ المؤمنين « الامامة والسياسة ١: ٨٦ »

٨ - من كتاب لمحمّد بن مسلمة إلى معاوية:

ولعمري يا معاوية! ما طلبت إلّا الدنيا، ولا اتّبعت إلّا الهوى، ولئن كنت نصرت عثمان ميّتاً، لقد خذلته حيّاً، ونحن ومن قِبلنا من المهاجرين والأنصار أولى بالصَّواب. إلإمامة والسياسة ١: ٨٧.

إلى كتابات وخطابات لجمع من صلحاء السّلف يجدها الباحث مبثوثة في فصول هذا الجزء من كتابنا.

قال الأميني: هذه كلمات تامَّات ممّن كانوا يرون معاوية ويشهدون أعماله، وقد عرفوا نفسيّاته ومغازيه منذ عرفوه وثنيّاً ومستسلماً حتى وقفوا عليه من كثَب، وقد تعالى به الوقت بل تسافل حتى طفق يطمع مثله في الخلافة الاسلاميّة، وبينهما ذاك البون الشاسع، وخلال الفضل التي تخلّى عنها، والملكات الرذيلة الذي حاز شية عارها والبرهنة الناصعة التي أكفأته عنها بخفّي حُنين، وهؤلاء وإن اختلفت كلماتهم لكنّها ترمي إلى مغزى واحد من عدم كفائة الطاغية لما يرومه من إمرة المسلمين، أو ما يتحرّاه من حكومة الشام خلافة مختذلة عن الخلافة الإسلاميّة الكبرى المنعقدة لأهلها يومئذ أو انّه لا يتحرّى إلّا إمرة مغتصبة وما لها من مفعول أثرةً وثراءً، أو انّه منبعث عن ضغائن وإحن ممَّا أصاب أهله وذويه من الإمامعليه‌السلام فقتِّلو تقتيلا تحت راية الأوثان وظهر أمر الله وهم كارهون.

ولم يكن لمعاوية وأصحابه مرمى غير الإسفاف إلى هذه الهوّات السحيقة ممّا خفي على هؤلاء الحضور، واستكشفه من بعدهم المهملجون وراء الحزب السفياني، الحاملون ولاء ذلك البيت الساقط، وأنت ترى انّه لا يُقام في سوق الدين لشيىء منها أيّ قيمة، ولا

٣٣٣

تكون لها أيّ عبرة، فدحضاً لدعوة الباطل، وسحقاً لشرَه الاستعباد.

وكان ابن هند الجاهل بنفسه - والانسان على نفسه بصيرة - برى نفسه أحقّ بالخلافة من عمر كما جاء في ما أخرجه البخاري في صحيحه(١) عن عبد الله بن عمر قال: دخلت على حفصة ونسوانها تنطف قلت: قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيىءٌ. فقالت: إلحق فإنّهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب. فلمّا تفرّق الناس خطب معاوية(٢) قال: مَن يُريد أن يتكلّم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحقّ به منه ومن أبيه. قال خبيب بن مسلمة فهلّا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي وهممت أن أقول: أحقّ بهذا الأمر منك مَن قاتلك وأباك على الإسلام. فخشيت أن أقول كلمة تفرِّق بين الجمع وتسفك الدم ويحمل عنّي غير ذلك فذكرت ما أعد الله في الجنان. قال خبيب: حُفظتَ وعُصمتَ؟

أين كان ابن عمر عن هذه العَقليّة التي حُفظ بها وعُصم يوم تقاعس عن بَيعة أمير المؤمنين الامام الحقّ بعد اجماع الاُمّة المسلمة عليها، ولم يخش أن يقول كلمة تفرِّق بين الجمع وتسفك الدم؟ ففرّق الجمع، وشقَّ عصا المسلمين، وسُفكت دماءٌ زكية، والله من ورائهم حسيب.

ولم تكن الخلافة فحسب هي قصوى الغاية المتوخّاة لمعاوية بل ينبأنا التاريخ عن انّه لم يكُ يتحاشا عن أن يعرفه الناس بالرِّسالة ويقبلونه نبيّاً بعد نبيِّ العظمة، روى ابن جرير الطبري بالاسناد: انّ عمرو بن العاص اُوفد إلى معاوية ومعه أهل مصر فقال لهم عمرو: انظروا إذا دخلتم على ابن هند فلا سلّموا عليه بالخلافة فانّه أعظم لكم في عينه، وصغّروه ما استطعتم، فلمّا قدموا عليه قال معاوية لحجّابه: انّي كأنِّي أعرف ابن النابغة وقد صغّر امري عند القوم فانظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم اشدّ تعتعة تقدرون عليها، فلا يبلغني رجلٌ منهم الّا وقد همته نفسه بالتلف، فكان أوّل من دخل عليه رجلٌ من أهل مصر يقال له: ابن الخياط. فدخل وقد تعتع فقال: السَّلام عليك يا رسول الله!

____________________

١ - فى كتاب المغازى، باب غزوة الخندق ج ٦: ١٤١.

٢ - قال ابن الجوزى: كان هذا فى زمن معاوية لما أراد أن يجعل ابنه يزيد ولىّ عهده. راجع فتح البارى ٧: ٣٢٣.

٣٣٤

فتتابع القوم على ذلك، فلمّا خرجوا قال لهم عمرو: لعنكم الله نهيتكم أن تسلّموا عليه بالإمارة فسلّمتم عليه بالنبوّة(١) .

ولعلّ هذه الواقعة هي بذرة تلك النزعة الفاسدة التي كانت عند جمع ممّن تولّى معاوية بعد وفاته. قال شمس الدين النياء المقدسي(٢) في كتاب « احسن التقاسيم في معرفة الأقالم » ص ٣٩٩: وفي أهل اصفهان بلهٌ وغلوُّ في معاوية ووُصف لي رجلٌ بالزهد والتعبّد فقصدته وتركت القافلة خلفي وبتّ عنده تلك الليلة وجعلت اُسائله إلى أن قلت: ما قولك في ( الصّاحب )(٣) فجعل يلعنه ثمّ قال: إنّه أتانا بمذهب لا نعرفه. قلت وما هو؟ قال: يقول: معاوية لم يكن مرسلاً: قلت: وما تقول انت؟ قال: أقول كما قال الله عزّ وجلّ: لا نفرّق بين أحد من رسله، أبو بكر كان مرسلاً، وعمر كان مرسلاً، حتى ذكر الأربعة ثمَّ قال: ومعاوية كان مرسلاً. قلت: لا تفعل، أمّا الأربعة فكانوا خلفاء ومعاوية كان ملكاً، وقال النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الخلافة بعدي إلى ثلاثين سنة ثمَّ تكون ملكاً. فجعل يشنّع عليَّ وأصبح يقول للناس: هذا رجلٌ رافضيٌّ فلو لم تدرك القافلة لبطشوا بي، ولهم في هذا الباب حكايات كثيرة.

هب انَّ القوم أخذت منهم الرهبة مأخذه فلم يلتفتوا إلى ما يقولون لكن هذا الذي يدّعي الخلافة عن رسول الله بملكه العضوض هلاّ كان عليه أن يردعهم عن ذلك التسليم المحظور؟ أو يسكِّن روعتهم فيرجعوا إلى حقِّ المقام لولا انّ معاوية لم يكن له في مبوَّأه ذلك ضالة إلّا الحصول أعلى الملوكيّة الغاشمة باسم الخلافة المغتصبة؟ لأنّه لا يبلغ امنيَّته إلّا بها فلا يبالي أسُلّم عليه بالربوبيّة أو الرّسالة أو إمرة المؤمنين وقد حاول ارغام ابن النابغة فيما توسّمه منه في مُقتبله ذلك، فبلغ ما أراد فحالت نشوة الغلبة بينه وبين أن يجعل لأمره الإمر أو إمرته الخرقاء صورة محفوظة.

يأنس ابن هند بذلك الخطاب الباطل، ولم يشنّع على من يسلّم عليه بالرّسالة، غير انّه لم يرقه أن يذكر نبيّ الاسلام بالرّسالة، ويزريه بذكر اسمه وهو يعلم أنّ

____________________

١ - راجع تاريخ الطبرى ٦: ١٨٤، تاريخ ابن كثير ٨: ١٤٠.

٢ - أبو عبد الله محمد بن أحمد الشامى المولود سنة ٣٣٦، والمتوفى نحو ٣٨٠.

٣ - هو الوزير الشيعي الوحيد الصاحب بن عباد المترجم له فى الجزء الرابع ص ٤٢ ط ٢.

٣٣٥

العظمة لا تُفارقه، والرّسالة تلازمه، ذكر الحفّاظ من محاورة جرت بين معاوية وبين أمد بن أبد الحضرمي(١) انّ معاوية قال: أرأيت هاشماَ؟ قال: نعم والله طوالاً حسن الوجه يقال: انَّ بين عينيه بركة. قال: فهل رأيت اميّة؟ قال نعم رأيته رجلاً قصيراً أعمى يقال: إنّ في وجهه شرّاً أو شؤما. قال: أفرأيت محمّداً؟ قال: ومَن محمّدٌ؟ قال: رسول الله. قال: أفلا فخمت كما فخمه الله فقلت رسول الله؟(٢)

التحكيم لماذا؟

إنَّ آخر بذرة بذرها ابن النابغة لخلافة معاوية المرومة منذ بدء الأمر، وإن تستّر بها آونة على الأغبياء، وتترَّس بطلب دم عثمان دون نيل الاُمنيَّة بين القوم آونة اُخرى حين سوَّلت له نفسه أن يستحوذ على إمرة المسلمين بالدسائس، فأوَّل تلكم البذرة أو القنطرة الاولى الطلب بدم عثمان، وفي آخر الحيل الدعوة إلى تحكيم كتاب الله واستقضائه في الواقعة بعد ما نبذوه وراء ظهورهم، وكان مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام يدعوهم - منذ أوّل ظهور الخلاف بينه وبين ابن هند، ومنذ نشوب الحرب الطاحنة -(٣) إلى التحكيم الصحيح الذي لا يعد ومحكمات القرآن ونصوصه، لولا أنَّ ابن النابغة وصاحبه يُسّيران على الاُمّة غدراً ومكرا، وعلى إمام الحقِّ خيانة وظلما، غير ما يتظاهران به من تحكيم الكتاب فوقع هنالك ما وقع من لوائح الفتنة، ومظاهر العدوان، بين دهاء ابن العاصي وحماريّة الأشعري، بين قول أبي موسى لابن العاصي: لا وفّقك الله غدرت وفجرت،(٤) انّما مثَلك كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، وبين قول ابن العاصي لأبي موسى: وإنّك مثلك مثل الحمار يحمل أسفاراً(٥) فوئد الحقّ، واودي بالحقيقة، بين شيطان

____________________

١ - احد المعمرين قد اتى عليه من السن يوم استقدمه معاوية ستون وثلثمائة سنة ترجمه ابن عساكر فى تاريخ الشام، ومترجمو الصحابة، فى معاجمهم.

٢ - تاريخ ابن عساكر ٣: ١٠٣، اسد الغابة ١: ١١٥.

٣ - راجع ما أسلفناه فى هذا الجزء صفحة ٢٧٦.

٤ - وفى لفظ ابن قتيبة: مالك؟ عليك لعنة الله، ما انت الا كمثل الكلب. وفى لفظ ابن عبد ربه: لعنك الله، فان مثلك كمثل الكلب.

٥ - الامامة والسياسة ١: ١١٥، كتاب صفين ص ٦٢٨ ط مصر، العقد الفريد ٢: ٢٩١، تاريخ الطبرى ٦: ٤٠، مروج الذهب ٢: ٢٢، كامل الاثير ٣: ١٤٤، شرح ابن ابي الحديد ١: ١٩٨.

_٢١_

٣٣٦

وغبيّ، فكان من المتسالم عليه بين الفريقين! إنَّ الخلافة هي المتوخّاة لكلّ منهما، ولذلك انعقد التحكيم، وبه كان يلهج خطباء العراق وامرائهم عند النصح للأشعري، وزبانية الشَّام المنحازة عن ضوء الحقِّ، وبلج الإصلاح. فمن قول ابن عبّاس للأشعري:

انّه قد ضُمَّ إليك داهية العرب: وليس في معاوية خَلّة يستحقُّ بها الخلافة، فإن تقذف بحقِّك على باطله تُدرك حاجتك منه، وإن يطمع باطلُه في حقّك يُدرك حاجته منك، واعلم يا أبا موسى! أنَّ معاوية طليق الإسلام، وأنّ أباه رأس الأحزاب، وأنّه يدَّعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة، فإن زعم لك أنّ عمر وعثمان إستعملاه فلقد صدق، استعمله عمر وهو الوالي عليه بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي، ويوجره(١) ما يكره ثمّ استعمله عثمان برأي عمر، وما أكثر من استعملا ممّن لم يدَّع الخلافة، واعلم: أنَّ لعمرو مع كلّ شيىء يسرّك خبأً يسوءك، ومهما نسيت فلا تنس أنَّ عليّاً بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وأنّها بيعة هدى، وانّه لم يقاتل إلّا العاصين والناكثين. [شرح ابن ابي الحديد ١: ١٩٥]

ومن قول الأحنف بن قيس له: ادع القوم إلى طاعة عليّ. فإن أبوا فادعهم أن يختار أهل الشّام من قريش العراق من أحبّوا، ويختار من قريش الشّام من أحبّوا(٢) .

ومن قول شريح بن هانئ للأشعري: إنّه لا بقاء لأهل العراق إن ملكهم معاوية، ولا بأس على أهل الشام إن ملكهم عليُّ، فانظر في ذلك نظر من يعرف هذا الأمر حقّاً، وقد كانت منك تثبيطة أيّام الكوفة والجمل، فإن تشفعها بمثلها يكن الظنُّ بك يقيناً، والرجاء منك يأساً، ثمّ قال:

أبا موسى رُميتَ بشرِّ خصم

فلا تُضع العراق فدتك نفسي

واعط الحقَّ شامهم وخذه

فإنّ اليوم في مَهَل كأمسِ

وإنَّ غداً يجيء بما عليه

كذاك الدهر من سعدٍ ونحسِ

____________________

١ - وجره الدواء أو جره ايّاه: جعله فى فيه. أوجره الرمح، طعنه. ووجره: أسمعه ما يكره.

٢ - الامامة والسياسة ١: ٩٩، وفى ط ١١٢، نهاية الارب ٧: ٢٣٩، شرح ابن ابى الحديد ١: ١٩٦.

٣٣٧

ولا يخدعك عمروٌ إنَّ عمراً

عدوُّ الله مطلع كلِّ شمسِ

له خُدعٌ يحار العقل منها

مموِّهة مزخرفة بلبسِ

فلا تجعل معاوية بن حرب

كشيخٍ في الحوادث غير نكسِ

هداه الله للإسلام فردا

سوى عِرس النبيِّ، وأيّ عرسِ؟(١)

ومن قول معاوية لعمرو بن العاص: إن خوَّفك العراق فخوِّفه بالشام، وإن خوَّفك مصر فخوِّفه باليمن، وإن خوّفك عليّاً فخوّفه بمعاوية.

ومن جواب عمرو بن العاص لمعاوية: أرأيت إن ذكر عليّاً وجاءنا بالاسلام والهجرة واجتماع الناس عليه، ما أقول؟ فقال معاوية: قال ما تريد وترى. [الإمامة والسياسة ١: ٩٩، وفي ط ١١٣].

قال الأميني: هذه صفة الحال، ومُصاص الحقيقة، ومن نوايا أهل العراق وأهل الشّام من طلب كلّ منهما الخلافة، وإثباتها لصاحبه، ودونه تحقّق الخلع والتثبيت، وعليه وقع التحكيم حقّاً أو باطلاً، ولم يكن السّامع يجد هنالك قطّ من دم عثمان ركزا، ولا عن ثاراته ذكرا، وإنّما تطامنت النفوس على تحرّي الخلافة فحسب، و لقصر النزاع على الخلافة مُحيت إمرة المؤمنين عند ذكر اسم مولانا الإمامعليه‌السلام عن صحيفة الصلح.

فلقد تمخّضت لك صورة الواقع من اُمنيّة معاوية الباطلة في كلّ من هذه العناوين الستّة المذكورة المدرجة تحت:

١ - حديث الوفود.

٢ - أنباء في طيّات الكتب.

٣ - تصريحٌ لا تلويح.

٤ - فِكرة معاوية لها قِدم.

٥ - مناظرات وكلم.

٦ - ألتحكيم لماذا.

____________________

١ - الامامة والسياسة ١: ٩٩، وفى ط ١١٣، كتاب صفين ٦١٤، ٦١٥ ط مصر، شرح ابن أبى الحديد ١: ١٩٥.

٣٣٨

فأين يقع منها كلمة ابن حجر وحكمه الباتُّ بقصر النزاع بين الامامعليه‌السلام وبين ابن هند على طلب ثارات عثمان لا الخلافة؟ لتبرير عمل الرّجل الوبيل الذي قتل به ما يناهز السبعين ألفاً ضحيّةً لشهواته ومطامعه، وهو يحسب انّه لا يوافيه مناقشٌ في الحساب، أو ناظرٌ إلى صفحات التاريخ نظر تنقيب وإمعان، وكأنّه لا يخجل إن جاثاه منقّبٌ، أو واقفه مجادلٌ، كما أنّه لا يتحاشى عن موقف الحساب يوم القيامة، وانّ الله سبحانه لبالمرصاد.

ونختم البحث بكلمة الباقلاني، قال في « التمهيد » ص ٢٣١: إنّ عقد الإمامة لرجل على أن يقتل الجماعة بالواحد لا محالة خطأ لا يجوز، لأنّه متعبّد في ذلك باجتهاده والعمل على رأيه، وقد يؤدّي الامام اجتهاده إلى أن لا يقتل الجماعة بالواحد، وذلك رأي كثير من الفقهاء، وقد يكون ممّن يرى ذلك، ثمّ يرجع عنه إلى اجتهاد ثان، فعقد الأمر له على ألّا يقيم الحدّ إلّا على مذهب من مذاهب المسلمين مخصوصٍ فاسدٌ باطلٌ ممّن عقده ورضي به.

وعلى أنّه إذا ثبت أنّ عليّاً ممّن يرى قتل الجماعة بالواحد، لم يجز أن يقتل جميع قتلة عثمان إلّا بأن تقوم البيِّنة على القتلة بأعيانهم، وبأن يحضر أولياء الدم مجلسه يطالبوا بدم أبيهم ووليّهم، ولا يكونوا في حكم مَن يعتقد انّهم بغاةٌ عليه، وممّن لا يجب استخراج حقّ لهم، دون أن يدخلوا في الطاعة، ويرجعوا عن البغي وبأن يؤدّي الإمام اجتهاده إلى أنّ قتل قتلة عثمان لا يؤدّي إلى هرجٍ عظيم، وفساد شديد، قد يكون فيه مثل قتل عثمان أو أعظم منه، وإنّ تأخير إقامة الحدّ إلى وقت إمكانه، وتقصِّي الحقِّ فيه، أولى وأصلح للاُمّة، وألمُّ لشعثهم، وأنفى للفساد والتهمة عنهم.

هذه امورٌ كلّها تلزم الإمام في إقامة الحدود، واستخراج الحقوق، وليس لاحد أن يعقد الإمامة لرجل من المسلمين بشريطة تعجيل إقامة حدّ من حدود الله، والعمل فيه برأي الرعيّة، ولا للمعقود له أن يدخل في الإمامة بهذا الشرط، فوجب اطّراح هذه الرواية(١) لو صحّت، ولو كانا قد بايعا على هذه الشريطة فقبل هو ذلك لكان هذا

____________________

١ - يعنى ما روى عن طلحة والزبير من قولهم: بايعناك على أن تقتل قتلة عثمان.

٣٣٩

خطأ منهم، غير انّه لم يكن بقادح في صحّة امامته، لأنّ العقد له قد تقدّم هذا العقد الثاني، وهذه الشريطة لا معتبر بها، لأنّ الغلط في هذا من الإمام الثابتة امامته ليس بفسق يوجب خلعه وسقوط فرض طاعته عند أحد. ألكلام.

حججٌ داحضةٌ

إسترسل ابن حجر في تدعيم ما منّته به هواجسه إقتصاصاً منه أثر سلفه في تبرير أعمال معاوية القاسية، والإعتذار عنه بما ركبه من الموبقات، وتصحيح خلافته باسهاب في القول وتطويل من غير طائل في الصواعق ص ١٢٩ - ١٣١ بما تنتهي خلاصة ما لفّقه إلى أمرين: أحدهما القول باجتهاده في جملة ما ناء به وباء بإثمه من حروب دامية و نزاع مع خليفة الوقت، إلى ما يستتبعانه من مخاريق ومرديات من إزهاق نفوس بريئة تعدُّ بالآلاف المؤلّفة(١) وفيهم ثلاثمائة ونيف من أهل بيعة الشجرة، وجماعة من البدريِّين(٢) ولفيف من المهاجرين والأنصار، وعدد لا يستهان به من الصحابة العدول أو التّابعين لهم باحسان، وهو يحسب انّ شيئاً من هذه التلفيقات يبرّر ما حظرته الشريعة في نصوصها الجليّة من الكتاب والسنّة، وانّ الاجتهاد المزعوم نسق حول معاوية سياجاً دون أن يلحقه أيُّ حوب كبير، وأسدل عليه ستاراً عمّا اقترفه من ذنوب وآثام تجاه النصوص النبويّة، ولم يعلم انّه لا قيمة لاجتهاد هذا شأنه يتجهَّم أمام النصّ، ويتهجَّم على أحكام الدين الباتَّة وطقوسه النهائيّة، بلغ الرّجل أنَّ الاجتهاد جائزٌ على الضدِّ من اجتهاد المجتهدين وما تعقّل انّه غير جائز على خلاف الله ورسوله.

وقصارى القول انّه ليس عند ابن حجر ومن سبقه إلى قوله أو لحقه به(٣) ضابطٌ للاجتهاد يتمُّ طرده وعكسه، وإنّما يُمطّط مع الشهوات والأهواء، فيُعذَر به خالد بن

____________________

١ - قال ابن مزاحم: اصيب بصفين من اهل الشام خمسة وأربعون ألفا، واصيب بها من أهل العراق خمسة وعشرون ألفاً. كتاب صفين ص ٦٤٣، وذكره ابن كثير في تاريخه ٧: ٢٧٤ وقال: قاله غير واحد، وزاد أبو الحسن بن البراء: وكان فى أهل العراق خمسة وعشرون بدريّا. وعلى ما ذكر من عدد القتلى ذكره ابن الشحنة فى روضة المناظر هامش الكامل ٣: ١٩١، وصاحب تاريخ الخميس فى ج ٢: ٢٧٧.

٢ - راجع ما مرّ فى الجزء التاسع ص ٣٥٩ ط ١.

٣ - نظراء الشيخ على القارى، والخفاجى فى شرحى الشفا ٣: ١٦٦.

٣٤٠