الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١٠

الغدير في الكتاب والسنة والأدب10%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 389

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 389 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 70453 / تحميل: 4464
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١٠

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

المأساة الخالدة

ولم تبقَ كارثة من كوارث الدنيا ولا رزية من رزايا الدنيا إلاّ جرت على حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعقيلة بني هاشم في كربلاء؛ فقد أحاطت بها المصائب يتبع بعضها بعضاً؛ فقد شاهدت أعداء الله وجيوش آل أبي سفيان قد اجتمعت على إبادة أهلها، وقد احتلّوا ماء الفرات ومنعوا ذرّية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من الانتهال منه، وقد عجّت أطفال أهل البيت (عليهم السّلام) ونساؤهم بالصراخ والعويل من شدّة الظمأ، وقد أحاطوا بالعقيلة يطلبون منها الماء وهي حائرة مذهولة تأمرهم بالصبر، كيف الصبر والعطش قد مزّق قلوبهم؟!

وقد زحفت جيوش الاُمويِّين نحو الإمام الحسين (عليه السّلام) في ليلة التاسع من المحرّم، كان سيّد الشهداء جالساً أمام بيته محتبياً بسيفه، إذ خفق برأسه، فسمعت اُخته العقيلة أصوات الجيش قد تدانت نحو أخيها، فانبرت إليه وهي مذهولة مرعوبة فأيقظته، وقالت له: إنّ العدو قد دنا منّا.

فقال لها:«إنّي رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المنام فقال: إنّك تروح إلينا» .

وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأس العقيلة، فقد خرقت قلبها الرقيق المعذّب، فلطمت وجهها وقالت: يا وليتاه(١) !

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٣٨٤.

٢٤١

وكان أبو الفضل العباس (عليه السّلام) إلى جانب أخيه لا يفارقه، فقال له: يا أخي، أتاك القوم.

وطلب منه الإمام (عليه السّلام) أن يتعرّف على خبرهم، فقال له:«اركب بنفسي أنت يا أخي حتّى تلقاهم، فتقول لهم: ما بدا لكم؟ وما تريدون؟» .

وبادر قمر بني هاشم ومعه عشرون فارساً نحو القوم، وفيهم حبيب بن مظاهر، وزهير بن القين، فسألهم العباس عن زحفهم، فقالوا له: جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه أو نناجزكم(١) .

وقفل أبو الفضل (عليه السّلام) إلى أخيه فعرّفه ما عرضوه عليهم، فقال (عليه السّلام) له:«ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة وندعوه ونستغفره؛ فهو يعلم أنّي اُحبّ الصلاة، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار» . وكان ذكر الله والدعاء والصلاة من أهمّ ما يصبوا إليه الإمام (عليه السّلام) في هذه الحياة(٢) .

وقفل قمر بني هاشم راجعاً إلى تلك الوحوش الكاسرة، فعرض عليهم مقالة أخيه، وتردّد القوم في إجابته، فأنكر عليهم عمرو بن الحجّاج الزبيدي إحجامهم، وقال: سبحان الله! والله لو كان من الديلم ثمّ سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه.

ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك، ولم يقل: إنّه ابن رسول الله؛ خوفاً أن يُنقل كلامه إلى ابن مرجانة فينال العقاب والحرمان. وأيّد ابن الأشعث مقالة ابن الحجّاج، فقال له ابن سعد:

____________________

(١) أنساب الأشراف / ١٨٤.

(٢) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٥.

٢٤٢

أجبهم إلى ما سألوا، فلعمري ليصبحنك بالقتال غداً.

واستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب بعد أن رضيت به الأكثرية من قادة جيشه، وأوعز ابن سعد إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك أمام معسكر الحسين (عليه السّلام)، فدنا منه وقال رافعاً صوته: يا أصحاب الحسين بن عليّ، قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد، فإن استسلمتم ونزلتم على حكم الأمير وجّهنا بكم إليه، وإن أبيتم ناجزناكم.

واُرجئ القتال إلى اليوم الثاني المصادف يوم العاشر من المحرّم.

الإمام (عليه السّلام) يأذن لأصحابه بالتفرّق

وجمع سيّد الشهداء أصحابه وأهل بيته في غلس الليل، وطلب منهم أن يتفرّقوا في سواده ليلقى مصيره المحتوم وحده، فقال لهم:«اُثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء. اللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفهّمتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين.

أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً، ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنت لكم جميعاً، فانطلقوا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، ثمّ تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتّى يفرّج الله؛ فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو أصابوني للهوا عن طلب غيري» (١) .

لقد جعل الإمام أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع، وهي الشهادة التي لا بدّ

____________________

(١) تاريخ ابن الأثير ٣ / ٢٨٥.

٢٤٣

منها في مصاحبته، وليس شيء آخر غيرها، قد سمح لهم بالتفرّق عنه في سواد الليل فيتخذونه ستاراً لهم دون كلّ عين، كما عرّفهم أنّه هو المطلوب للحكم الاُموي دون غيره، فإذا قتلوه فلا إرب لهم في غيره.

وعلى أيّ حال، فإنّ الإمام (عليه السّلام) لم يكد ينتهي من خطابه حتّى هبّت الصفوة الطاهرة من أهل بيته وأصحابه وهي تعلن ولاءها الكامل له، وأنّهم جميعاً يلاقون المصير الذي يلقاه، وقد بدأهم بالكلام قمر بني هاشم وفخر عدنان أبو الفضل العباس (عليه السّلام) قائلاً: لِمَ تفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً(١) .

وتتابعت أصوات أصحابه والفتية من بني هاشم وهم يرحّبون بالموت والشهادة في سبيله، حقّاً لقد كانوا من خيرة بني آدم صدقاً ووفاءً وشهامةً ونبلاً.

لوعة السيدة زينب (عليها السّلام)

وفزعت عقيلة بني هاشم كأشدّ ما يكون الفزع وأقساه حينما سمعت أخاها وبقية أهلها يُعالج سيفه ويصلحه، وهو ينشد هذه الأبيات التي ينعى فيها نفسه:

يا دهرُ أُفّ لكَ من خليلِ = كم لكَ بالإشراقِ والأصيلِ

من طالبٍ وصاحبٍ قتيلِ = والدهرُ لا يقنعُ بالبديلِ

وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلِ = ما أقربُ الوعد إلى الرحيلِ

وإنّما الأمرُ إلى الجليلِ

وكان مع الإمام (عليه السّلام) في خيمته الإمام زين العابدين (عليه السّلام) والعقيلة؛ أمّا الإمام زين العابدين (عليه السّلام) فإنّه لمّا سمع هذه الأبيات خنقته العبرة ولزم السكوت، وعلم أنّ البلاء قد نزل، وأمّا العقيلة (عليها السّلام) فقد أيقنت أنّ أخاها عازم على الموت، فأمسكت قلبها الرقيق

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ١٦٧.

٢٤٤

المعذّب ووثبت وهي تجرّ ذيلها وقد غامت عيناها بالدموع، فقالت لأخيها: وا ثكلاه! وا حزناه! ليت الموت أعدمني الحياة. يا حسيناه! يا سيّداه! يا بقيّة أهل بيتاه! استسلمتَ للموت ويئستَ من الحياة؟! اليوم مات جدّي رسول الله، اليوم ماتت أُمّي فاطمة الزهراء، وأبي عليّ المرتضى، وأخي الحسن الزكيّ، يا بقيّة الماضين وثمال الباقين(١) !

وذاب قلب الإمام (عليه السّلام) أسىً وحزناً، والتفت إلى شقيقته فقال لها الإمام بحنان:«يا اُخيّة، لا يذهبنّ بحلمك الشيطان» .

وسرت الرعدة والفزع بقلب الصدّيقة وطافت بها آلام مبرحة فخاطبت أخاها بأسى والتياع قائلة: أتغتصب نفسك اغتصاباً؟! فذاك أطول لحزني وأشجى لقلبي.

ولم تملك صبرها بعدما أيقنت أن أخاها وبقيّة أهلها سيستشهدون لا محالة، فعمدت إلى جيبها فشقّته، ولطمت وجهها، وخرّت إلى الأرض فاقدة لوعيها(٢) .

وأثّر منظرها الرهيب في نفس الإمام (عليه السّلام) فالتاع كأشدّ ما تكون اللوعة، ورفع يديه بالدعاء أن يلهم شقيقته الصبر والسلوان، وأن يعينها على تحمّل المحن الشاقّة التي أحاطت بها.

إحياء الليل بالعبادة

وأقبل الإمام (عليه السّلام) مع أهل بيته وأصحابه على العبادة؛ فقد علموا أنّ تلك الليلة هي آخر ليالي حياتهم، ولم يذق أيّ واحد منهم طعم الرقاد؛ فقد اتّجهوا بقلوبهم وعواطفهم نحو الله وهم يمجّدونه، ويتلون كتابه، ويقيمون الصلاة، ويسألونه العفو والغفران.

____________________

(١) مقاتل الطالبيّين / ١١٣.

(٢) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ١٧٣.

٢٤٥

وكانوا يترقّبون بشوق لا حدّ له طلوع الفجر؛ ليكونوا قرابينَ للإسلام، وفداءً لابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وكان حبيب بن مظاهر، وهو من ألمع أصحاب الحسين (عليه السّلام)، وقد خرج إلى أصحابه وهو يضحك، فأنكر عليه بعض أصحابه وقال له: يا حبيب، ما هذه ساعة ضحك! فأجابه حبيب عن إيمانه العميق قائلاً: أيّ موضع أحقّ من هذا بالسرور؟ والله ما هو إلاّ أن تميل علينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين(١) .

وداعب برير عبد الرحمن الأنصاري، فاستغرب من مداعبته قائلاً: ما هذه ساعة باطل!

انظروا إلى جواب برير فقد قال: لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، وددت أنّهم مالوا علينا الساعة(٢) .

أيّ إيمان هذا الذي تسلّح به أصحاب الحسين (عليه السّلام)؛ فقد فاقوا جميع شهداء الحقّ والفضيلة في جميع الأعصار والآباد.

رؤيا الإمام الحسين (عليه السّلام)

وخفق الإمام الحسين (عليه السّلام) خفقة ثمّ انتبه، والتفت إلى أصحابه وأهل بيته فقال لهم:«أتعلمون ما رأيت في منامي؟» .

- ما رأيت يابن رسول الله؟

«رأيت كأنّ كلاباً قد شدّت عليَّ تنهشني، وفيها كلب أبقع أشدّها عليَّ، وأظنّ

____________________

(١) رجال الكشي / ٥٣.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١.

٢٤٦

الذي يتولّى قتلي رجل أبرص من هؤلاء القوم. ثمّ إنّي رأيت جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول لي: أنت شهيد آل محمّد، وقد استبشرت بك أهل السماوات وأهل الصفيح الأعلى، فليكن إفطارك عندي الليلة، عجّل ولا تؤخّر. هذا ما رأيت، وقد أزف الأمر واقترب الرحيل من هذه الدنيا» (١) .

وخيّم على أهل البيت (عليهم السّلام) حزن عميق، وأيقنوا بنزول الرزء القاصم والاقتراب من دار الآخرة.

فزع عقائل الوحي

وفزعت عقائل الوحي، وخيّم عليهنَّ الذعر والخوف، ولم يهدأن في تلك الليلة؛ فقد طافت بهنَّ موجات من الهواجس وتمثّل أمامهنَّ المستقبل المليء بالخطوب والكوارث، وقد خلدنَ إلى الدعاء والبكاء، وكان من أشدّهنَّ عقيلة النبوّة السيّدة زينب؛ فقد كانت تراقب الأحداث وهي على علم لا يخامره شكّ أنّ المسؤولية الكبرى سوف تنتقل عن كاهل الحسين (عليه السّلام) إليها لو قُتل، كما علمت أنّه لا يبقى من أهلها أحد، لقد فزعت وذهلت من الأحداث الجسام التي أحاطت بها.

العقيلة (عليها السّلام) مع الهاشميّين والأصحاب

ولم تهدأ عقيلة الرسالة؛ فقد هامت في تيارات مذهلة من الأسى والشجون، فكانت على علم أنّ ليلة العاشر من المحرّم هي آخر ليلة لأهلها وهم على قيد الحياة، وقد وجلت على أخيها، فمضت تراقب خيم الهاشميّين والأصحاب لتسمع ما يدور عندهم من حديث.

فانبرت إلى خيمة أخيها قمر بني هاشم وقد اجتمع بها فتيان بني هاشم، وقد أحاطوا بسيّدهم أبي الفضل، فسمعته يخاطب

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ١٧٧.

٢٤٧

الهاشميّين قائلاً: إخوتي وبني إخوتي وأبناء عمومتي، إذا كان الصباح فما تصنعون؟

فهبّوا جميعاً قائلين: الأمر إليك.

- إنّ أصحابنا وأنصارنا قوم غرباء، والحمل ثقيل لا يقوم إلاّ بأهله، فإذا كان الصباح كنتم أوّل مَنْ يبرز للقتال، فنسبق أنصارنا إلى الموت؛ لئلاّ يقول الناس: قدّموا أصحابهم.

ولم ينتهِ من مقالته حتّى هبّوا قائلين: نحن على ما أنت عليه.

ثمّ مضت العقيلة إلى خيمة حبيب بن مظاهر عميد أصحاب الإمام وقد أحاط به الأصحاب، فسمعت يحدّثهم قائلاً: يا أصحابي، إذا كان الصباح ماذا تفعلون؟

- الأمر إليك.

إذا صار الصباح كنّا أوّل مَنْ يبرز إلى القتال، نسبق بني هاشم إلى الموت، فلا نرى هاشمياً مضرّجاً بدمه؛ لئلاّ يقول الناس: قد بدؤوهم إلى القتال، وبخلنا عليهم بأنفسنا.

واستجابت الصفوة الطاهرة لمقالة زعيمهم حبيب، وراحوا يقولون: نحن على ما أنت عليه.

وسُرّت زينب بوفاء الأنصار وتصميمهم على نصرة أخيها والذبّ عنه حتّى النفس الأخير من حياته، وانطلقت العقيلة إلى أخيها فأخبرته بما سمعت من الهاشميّين والأنصار من الذود عنه، وحمايته من كلّ سوء ومكروه.

وأخبرها الإمام (عليه السّلام) أنّهم من أنبل الناس، ومن أكثرهم شهامة وإيماناً، وأنّ الله تعالى قد اختارهم من بين عباده لنصرته، والوقوف معه لمناجزة القوى المنحرفة والمعادية للإسلام.

٢٤٨

يوم عاشوراء

ويوم عاشوراء من أفجع الأيام وأقساها وأشدّها محنة على العقيلة زينب (عليها السّلام) وعلى أهل البيت (عليهم السّلام)، فلم تبقَ رزيّة من رزايا الدهر إلاّ جرت عليهم، ونتحدّث - بإيجاز - عن فصول هذه المأساة الخالدة في دنيا الأحزان.

خطاب الإمام الحسين (عليه السّلام)

ولمّا تهيّأت عساكر ابن سعد لحرب الإمام، فرأى (عليه السّلام) من الواجب أن يعظهم ويرشدهم حتّى يكونوا على بصيرة من أمرهم، فخطب فيهم خطاباً مؤثّراً، وقد نشر كتاب الله العظيم، واعتمّ بعمامة جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولبس لامته، فقال لهم:«تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً! حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين (١) ، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم (٢) علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً (٣) لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم.

مهلاً - لكم الويلات! - تركتمونا والسيف مشيم(٤) ، والجأش طامن، والرأي لمّا يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدّبا(٥) ، وتداعيتم إليها كتهافت الفراش.

____________________

(١) موجفين: أي مسرعين في السير إليكم.

(٢) حششتم النار التي توقد.

(٣) إلباً: أي مجتمعين.

(٤) مشيم السيف: غمده.

(٥) الدّبا: الجراد قبل أن يطير.

٢٤٩

فسحقاً لكم يا عبيد الاُمّة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرّفي الكلم، وعصبة الأثام، ونفثة الشيطان، ومطفئ السنن!

أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون؟! أجل والله غدر فيكم قديم، وشجت إليه اُصولكم، وتأزّرت(١) عليه فروعكم، فكنتم أخبث شجر شجى للناظر، وأكلة للغاصب.

ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين؛ بين السلّة(٢) والذلّة، وهيهات منّا الذلّة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، واُنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.

ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة مع قلّة العدد وخذلان الناصر» . ثمّ أنشد أبيات فروة بن مسيك المرادي:

فإن نُهزم فهزّامون قدماً = وإن نُُغلَب فغيرُ مغَلّبينا

وما إن طِبُّنا جبنٌ ولكن = منايانا ودولةُ آخرينا

إذا ما الموتُ رفّع عن أُناس = كلاكله أناخَ بآخرينا

فأفنى ذلكم سروات قومي = كما أفنى القرونَ الأوّلينا

فلو خلدَ الملوكُ إذاً خلدنا = ولو بقي الكرامُ إذاًً بقينا

فقل للشامتينَ بنا أفيقوا = سيلقى الشامتونَ كما لقينا

«أما والله لا تلبثون بعدها إلاّ كريث ما يُركب الفرس حتّى يدور

____________________

(١) تأزّرت: أي نبتت عليه فروعكم.

(٢) السلّة: استلال السيوف.

٢٥٠

بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور؛ عهد عهده إليّ أبي عن جدّي، ( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ ) ، ( إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ».

ورفع يديه بالدعاء على اُولئك السفكة المجرمين قائلاً:«اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسِنيِّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسومهم كاساً مصبرةً؛ فإنّهم كذّبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك أنبنا وإليك المصير» (١) .

لقد انفجر أبو الأحرار في خطابه كالبركان، وأبدى من صلابة العزم وعزّة النفس ما لم يشاهد مثله؛ فقد استهان بالموت، ولا يخضع لاُولئك الأقزام الذين سوّدوا وجه التأريخ، وكانوا سوءة عار لمجتمعهم.

استجابة الحرّ

واستيقظ ضمير الحرّ حينما سمع خطاب الإمام (عليه السّلام)، وجعل يتأمّل ويفكّر في مصيره، وأنّه لا محالة يصير إلى النار خالداً فيها، واختار الدار الآخرة والالتحاق بآل النبي (صلّى الله عليه وآله).

وقبل أن يتوجّه إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) أسرع نحو ابن سعد فقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟

فأجابه بلا تردد ليظهر أمام قادة الفرق إخلاصه لسيّده ابن مرجانة قائلاً: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي.

فقال له الحرّ برنّة المستريب:

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر ١٣ / ٧٤ - ٧٥.

٢٥١

أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضاً؟

فأجابه ابن سعد: لو كان الأمر لي لفعلت، ولكن أميرك أبى ذلك.

وأيقن الحرّ أنّ القوم مصمّمون على حرب ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فمضى يشقّ الصفوف وقد سرت الرعدة بأوصاله، فأنكر عليه ذلك المهاجر بن أوس، وهو من شرطة ابن زياد، فقال له: والله إنّ أمرك لمريب! والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن، ولو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك.

وكشف له الحرّ عن عزمه فقال له: إنّي والله اُخيّر نفسي بين الجنّة والنار، ولا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعت واُحرقت. ولوى بعنان فرسه صوب الإمام (عليه السّلام)(١) ، وهو مُطرق برأسه إلى الأرض حياءً وندماً على ما فرّط في حقّ الإمام، ولمّا دنا منه رفع صوته قائلاً: اللّهمّ إليك اُنيب؛ فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك. يا أبا عبد الله، إنّي تائب فهل لي من توبة؟

ونزل عن فرسه ووقف قبال الإمام (عليه السّلام) ودموعه تتبلور على سحنات وجهه قائلاً: جعلني الله فداك يابن رسول الله!أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وجعجعت بك في هذا المكان، ووالله الذي لا إله إلاّ هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً، فقلت في نفسي: لا اُبالي أن اُطيع القوم في بعض أمرهم، ولا يرون أنّي خرجت من طاعتهم،

____________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٤.

٢٥٢

وأمّا هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك. وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي، مواسياً لك بنفسي حتّى أموت بين يديك، أفترى لي توبة؟

واستبشر به الإمام (عليه السّلام)، ومنحه الرضا والعفو، وقال له:«نعم، يتوب الله عليك ويغفر» (١) .

وانطلق الحرّ بعد أن منحه الإمام (عليه السّلام) العفو وقبل توبته، فخطب في أهل الكوفة ودعاهم إلى التوبة، ونُغَب عليهم حصارهم للإمام، ومنعه مع أهل بيته وأصحابه عن ماء الفرات الذي هو حقّ مشاع للجميع، ولم يستجيبوا له، ورموه بالنبال.

الحرب

وارتبك ابن سعد من التحاق الحرّ بالإمام (عليه السّلام)، وخاف أن يحصل التمرّد في جيشه، فزحف الباغي الأثيم نحو معسكر الحسين (عليه السّلام)، وأخذ سهماً فأطلقه صوب الإمام، وقد رفع صوته قائلاً: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَنْ رمى الحسين.

وفتح ابن سعد من السهم الذي أطلقه باب الحرب، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة بأنّه أوّل مَنْ رمى معسكر ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وتتابعت السهام كأنّها المطر على معسكر الإمام الحسين (عليه السّلام)، فلم يبقَ أحد منهم إلاّ أصابه سهم، فالتفت الإمام إلى أصحابه قائلاً:«قوموا يا كرام، فهذه رسل القوم إليكم» .

وتقدّمت طلائع الحقّ من أصحاب أبي الأحرار إلى ساحة الشرف والمجد وهي تعلن ولاءها للإسلام، وتفانيها في الذبّ عن إمام المسلمين وسيّد شباب أهل

____________________

(١) الكامل في التاريخ ٣ / ٢٨٩.

٢٥٣

الجنّة، وبذلك بدأت المعركة واحتدم القتال كأشدّه وأعنفه.

ومن المقطوع به أنّه لم تكن مثل المعركة في جميع الحروب التي جرت في الأرض؛ فقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً مع عشرات الاُلوف، وقد أبدى أصحاب الإمام من الشجاعة والبسالة ما يبهر العقول ويحيّر الألباب.

مصارع أصحاب الإمام (عليه السّلام)

وشنّت قوات ابن سعد هجوماً عاماً وعنيفاً على أصحاب الإمام (عليه السّلام)، وخاضوا معهم معركة رهيبة، وقد ثبت لهم أصحاب الإمام (عليه السّلام)، فهزموا جموعهم بقلوب أقوى من الحديد، وأنزلوا بهم أفدح الخسائر، وقد استشهد في هذه الحملة نصف أصحاب الإمام (عليه السّلام).

ثمّ بدأت بعد ذلك المبارزة بين العسكرين، فكان الرجل من أصحاب الإمام يبرز ويُقاتل ثمّ يُقتل، وهكذا حتّى فنوا عن آخرهم، وقد أبلوا في المعركة بلاءً يقصر عنه كلّ وصف وإطراء؛ فقد خاضوا تلك المعركة الرهيبة ولم تضعف لأيّ رجل منهم عزيمة ولم تلن لهم قناة، وقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله تعالى وطاعته.

وإنّ أعطر ما نقدّمه لهم من تحية كلمات الإمام الصادق (عليه السّلام) عملاق الفكر الإسلامي في حقّهم، قال مخاطباً لهم:«بأبي أنتم واُمّي! طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم، وفزتم فوزاً عظيماً» .

مصارع أهل البيت (عليهم السّلام)

وبعدما نالت الشهادة الصفوة الطاهرة من أصحاب الإمام (عليه السّلام) هبّ أبناء الاُسرة النبويّة شباباً وأطفالاً إلى التضحية والفداء، فكانوا كالليوث وكالصاعقة على جيوش الكفر والضلال، وأخذ بعضهم يودّع البعض الآخر وهم يذرفون الدموع على وحدة سيّدهم أبي الأحرار؛ حيث يرونه وحيداً قد أحاطت به من كلّ جانب جيوش الاُمويِّين

٢٥٤

ليتقرّبوا بقتله إلى ابن مرجانة، وفي طليعة الذين استشهدوا من آل البيت (عليهم السّلام):

عليّ الأكبر (عليه السّلام)

وكان عليّ الأكبر شبيه جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في ملامحه وفي أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيّين، وكانت الاُسرة النبويّة والصحابة إذا اشتاقوا إلى رؤية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نظروا إلى وجه عليّ الأكبر، وكان دنيا من الفضائل والمواهب والعبقريات؛ فقد تسلّح بكلّ فضيلة وأدب، وكان أعزّ أبناء الإمام الحسين (عليه السّلام) لعمّته العقيلة وسائر بني عمومته وأعمامه.

وهو أوّل هاشمي اندفع بحماس بالغ إلى الحرب، وكان عمره الشريف ثماني عشر سنة(١) ، وقد وقف أمام أبيه طالباً منه الرخصة لمناجزة أعداء الله، فلمّا رآه الإمام (عليه السّلام) ذابت نفسه أسى وحسرات، وأشرف على الاحتضار؛ فقد رأى فلذة كبده قد ساق نفسه إلى الموت، فرفع الإمام شيبته الكريمة نحو السماء، وهو يقول بنبرات قد لفظ فيها شظايا قلبه:«اللّهمّ اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس برسولك محمّد (صلّى الله عليه وآله) خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً، وكنّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيّك نظرنا إليه. اللّهمّ امنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقاً، ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً؛ فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا» .

والتفت الإمام (عليه السّلام) إلى المجرم الأثيم عمر بن سعد عبد ابن مرجانة، فصاح به:«ما لك؟! قطع الله رحمك، ولا بارك لك في أمرك، وسلّط عليك مَنْ يذبحك بعدي على فراشك كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)». وتلا قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٤٤.

٢٥٥

وشيّع الإمام (عليه السّلام) ولده بدموع مشفوعة بالأسى والحزن، وخلفه عمّته العقيلة وسائر عقائل الوحي، وقد علا منهم الصراخ والعويل على شبيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وانطلق فخر هاشم إلى ساحة الحرب وقد امتلأ قلبه حزماً وعزماً، ووجهه الشريف يتألق نوراً؛ فقد حكى بهيبته هيبة جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وبشجاعته شجاعة جدّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، وتوسّط حراب الأعداء وسيوفهم وهو يرتجز قائلاً:

أنا عليُّ بنُ الحسين بنِ علي = نحن وربُّ البيت أولى بالنبي

تالله لا يحكم فينا ابنُ الدعي

أنت يا شرف هذه الاُمّة أولى بالنبي وأحق بمقامه من هؤلاء الأدعياء الذين سلّطتهم عليكم الطغمة الحاكمة من قريش التي أبت أن تجتمع الخلافة والنبوّة فيكم.

والتحم عليّ الأكبر (عليه السّلام) مع أعداء الله، وقد ملأ قلوبهم خوفاً ورعباً، وأبدى من البسالة والشجاعة ما يقصر عنه كلّ وصف؛ فقد ذكّرهم ببطولات جدّه الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ومحطّم أوثان القرشيّين، وقد قتل مئة وعشرين فارساً(١) سوى المجروحين، وألحّ عليه العطش وأضرّ به، فقفل راجعاً إلى أبيه يشكو ظمأه القاتل قائلاً: يا أبتِ، العطش قد قتلني، وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إليّ شربة ماء من سبيل أتقوى بها على الأعداء؟

والتاع الإمام (عليه السّلام)، فقال له بصوت خافت، وعيناه تفيضان دموعاً:«واغوثاه! ما أسرع الملتقى بجدّك فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبداً» .

وأخذ لسانه فمصّه ليريه شدّة عطشه، فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٤٦.

٢٥٦

يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق في رائعته:

يشكو لخيرِ أبٍ ظمأه وما اشتكى = ظمأ الحشا إلاّ إلى الظامي الصدي

كلٌّ حشاشته كصاليةِ الغضا = ولسانُه ظمأ كشقةِ مبردِ

فانصاعَ يؤثرهُ عليهِ بريقهِ = لو كانَ ثمةَ ريقه لم يجمدِ

لقد كان هذا المنظر الرهيب لعليّ الأكبر من أفجع وأقسى ما رُزئ به أبو الأحرار؛ فقد رأى ولده الذي هو من أنبل وأشرف ما خلق الله، وهو في غضارة العمر وريعان الشباب قد أشرف على الهلاك من شدّة العطش، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء ليروي عطشه.

وقفل فخر الإسلام عليّ الأكبر (عليه السّلام) راجعاً إلى حومة الحرب، قد فتكت الجراح بجسمه، وفتّت العطش فؤاده، وجعل يُقاتل كأشدّ ما يكون القتال وأعنفه حتّى ضجّ العسكر من كثرة مَنْ قتل منهم.

ولمّا رأى ذلك الوضر الخبيث مرّة بن منقذ العبدي قال: عليَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه. وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فطعنه بالرمح في ظهره، وضربه ضربة منكرة على رأسه ففلق هامته، واعتنق فرسه يظنّ أنّه يرجعه إلى أبيه، إلاّ أنّ الفرس حمله إلى معسكر الأعداء فأحاطوا به من كلّ جانب، ومزّقوا جسده الشريف بالسيوف، ونادى فخر هاشم ومجد عدنان رافعاً صوته: عليك منّي السّلام أبا عبد الله، هذا جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها أبداً، وهو يقول:«إنّ لك كأساً مذخورة» .

وحمل الأثير هذه الكلمات إلى أبيه الثاكل الحزين فقطّعت قلبه، ومزّقت أحشاءه، ففزع إليه وهو خائر القوى، منهدّ الركن، فانكب عليه فوضع خدّه على خدّه وهو جثة هامدة، قد قطّعت شلوه السيف إرباً إرباً، وأخذ الإمام (عليه السّلام) يذرف أحرّ الدموع على ولده الذي لا يشابهه أحد في كمال فضله، وجعل يلفظ شظايا قلبه

٢٥٧

بهذه الكلمات:«قتل الله قوماً قتلوك يا بُني، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك العفا» (١) .

وما كاد الخبر يبلغ الخيام حتّى هرعت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) زينب من خدرها، وكان ذلك أوّل ما خرجت إلى المعركة فأكبت بنفسها على ابن أخيها الذي كان أعزّ ما عندها من أبنائها، وجعلت تضمّخه بدموعها وقد انهارت قواها، وانبرى إليها الإمام (عليه السّلام) وجعل يعزّيها بمصابها الأليم، وهو يردّد هذه الكلمات:«على الدنيا بعدك العفا» .

وأخذ الإمام (عليه السّلام) بيد اُخته وردّها إلى الفسطاط، وأمر فتيانه بحمل ولده إلى الفسطاط.

لقد كان علي بن الحسين (عليه السّلام) الرائد والزعيم لكلّ حرّ شريف مات أبيّاً على الضيم في دنيا الإباء، فسلام الله عليه غادية ورائحة، ونودعه بالأسى والحزن، ونردّد كلمات أبيه:«على الدنيا بعدك العفا» .

مصارع آل البيت (عليهم السّلام)

وبرزت الفتية من آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهي تذرف الدموع على وحدة سيّدهم أبي الأحرار، وكان من بينهم القاسم بن الحسن، وكان كالقمر في بهائه وجماله، وقد ربّاه عمّه وغذّاه بمواهبه وآدابه، وأفرغ عليه أشعة من روحه حتّى صار صورة عنه، وكان أحبّ إليه من أبناء إخوته وأعمامه.

وكان القاسم يتطلّع إلى محنة عمّه، وينظر إلى جيوش الكفر قد أحاطت به وقد ذابت نفسه أسىً وحسرات، وجعل يردد:

____________________

(١) العفا: التراب.

٢٥٨

لا يُقتل عمّي وأنا أنظر إليه(١) .

واندفع بلهفة نحو عمّه يطلب منه الإذن ليكون فداءً له، فاعتنقه عمّه وعيناه تفيضان دموعاً، وجعل القاسم يُقبّل يديه طالباً منه الإذن، فسمح له بعد إلحاحه وترجّيه، وبرز القاسم إلى حومة الحرب وهو بشوق عارم إلى الشهادة، ولم يضف على جسده لامة الحرب، وإنّما صحب معه سيفه.

والتحم مع اُولئك القرود، فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه، وبينما هو يُقاتل إذ انقطع شسع نعله، فأنف سليل النبوّة أن تكون أحد رجليه بلا نعل، فوقف يشدّه متحدّياً الوحوش الكاسرة التي لا تساوي نعله، واغتنم هذه الفرصة الوغد الخبيث عمرو بن سعد الأزدي، فقال: والله لأشدنَّ عليه.

فأنكر عليه حميد بن مسلم وقال له: سبحان الله! وما تريد بذلك؟! يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم. فلم يعن به، وشدّ الخبيث عليه فعلاه بالسيف على رأسه الشريف، فهوى الفتى إلى الأرض صريعاً كما تهوي النجوم، ونادى رافعاً صوته: يا عمّاه!

وذاب قلب الإمام (عليه السّلام) وأسرع إليه، فعمد إلى القاتل الأثيم فضربه بالسيف فاتّقاها بساعده فقطعها من المرفق وطرحه أرضاً، فحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه، إلاّ أنّه هلك تحت حوافرها.

وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يقبّله والفتى يفحص بيديه ورجليه، وهو يعاني آلام الاحتضار، فخاطبه الإمام (عليه السّلام):«بُعداً لقوم قتلوك، ومَنْ خصمهم يوم القيامة فيك جدّك! عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك صوته. والله هذا يوم كثر واتره، وقلّ ناصره» .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٥٥.

٢٥٩

وحمله الإمام والفتى يفحص برجليه كالطير المذبوح(١) ، وجاء به فألقاه بجوار ولده عليّ الأكبر وسائر الشهداء من أهل البيت (عليهم السّلام)، وأخذ يطيل النظر إليهم، وجعل يدعو على السفكة المجرمين قائلاً:«اللّهمّ أحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً. صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً» .

وكلّ هذه المناظر المفجعة التي تميد بالصبر وتعصف كانت بمرأى من عقيلة بني هاشم (عليها السّلام)، فكانت تستقبل في كلّ لحظة فتى من الاُسرة النبويّة وهو مضرّج بدمائه، لها الله ولأخيها على هذه الرزايا التي تميد من هولها الجبال.

مصرع عون (عليه السّلام)

وبرز إلى حومة الحرب عون بن عبد الله بن جعفر، واُمه الصدّيقة الطاهرة زينب بنت أمير المؤمنين (عليها السّلام)، فجعل يُقاتل على صغر سنه قتال الأبطال وهو يرتجز:

إن تنكروني فأنا ابنُ جعفرْ = شهيدِ صدقٍ في الجنانِ أزهرْ

يطيرُ فيها بجناحٍ أخضرْ = كفى بهذا شرفاً من معشرْ

أنت أيّها الشهم حفيد الشهيد الخالد جعفر الطيار الذي قُطعت يداه في سبيل الدعوة الإسلاميّة، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الفردوس الأعلى.

وجعل الفتى يُقاتل قتال الأبطال، فحمل عليه الوغد الأثيم عبد الله بن قطبة الطائي فقتله، وحُمل إلى المخيّم فاستقبلته اُمّه الصدّيقة الطاهرة، ونظرت إليه وهو جثة هامدة فاحتسبته عند الله.

وحلّ بعده أبناء الاُسرة الهاشمية فاستشهدوا جميعاً قرابين للإسلام، وفداءً لريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

____________________

(١) حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) ٣ / ٢٥٦.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

نجاح وفلاح، فإنَّ ميتة الجاهليّة إنّما هي شرّ ميتة، ميتة كفر وإلحاد، لكنّ هنا دقيقة لا بدّ من البحث عنها وهي أنَّ الصديقة الطاهرة المطهّرة بنصِّ الكتاب الكريم التي يغضب الله ورسوله لغضبها ويرضيان لرضاها، ويؤذيهما ما يؤذيها قضت نحبها و ليس في عنقها بيعة لمن زعموا انّه خليفة الوقت، ومثلها بعلها طيلة ستّة أشهر أيّام حياة حليلتها كما جاء في الصحيحين وفيهما: كان لعليّ من الناس وجه حياة فاطمة، فلمّا توفّيت استنكر عليٌّ وجوه الناس(١) قال القرطبي في المفهم. كان الناس يحترمون عليّاً في حياتها كرامة لها لأنّها بضعة من رسول الله وهو مباشرٌ لها، فلمّا ماتت وهو لم يبايع أبا بكر انصرف الناس عن ذلك الإحترام ليدخل فيما دخل فيه الناس ولا يفرّق جماعتهم.اهـ.

فالحقيقة هاهنا مردَّدة بين أنَّ الصديقة سلام الله عليها عزبت عنها ضروريَّةٌ من ضروريّات دين أبيها وهي أولاها وأعظمها وقد حفظته الاُمّة جمعاء حضريّها وبدويّها وماتت - العياذ بالله - على غير سنّة أبيها، وبين أن لا يكون للحديث مقيلٌ من الصحّة وقد رواه الحفظة الاثبات من الفريقين وتلقّته الاُمّة بالقبول، وبين انّها سلام الله عليها لم تك تعترف للمتقمّص بالخلافة، ولا توافقه على ما يدّعيه، ولم تكن تراه أهلاً لذلك، وكذلك الحال في مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام .

فهل يسع لمسلم أن يختار الشقَّ الأوَّل ويرتأي لبضعة النبوَّة ولزوجها نفس النبيِّ الأمين ووصيّه على التعيين ما يأباه العقل والمنطق ويبرأ منه الله ورسوله؟ لا، ليس لأحد أن يقول ذلك.

وأمّا الشقّ الثاني، فلا أظنّ جاهلاً يسفّ إلى مثله بعد استكمال شرايط الصحَّة والقبول وإصفاق أئمّة الحديث ومهرة الكلام على الخضوع لمفاده، وإطباق الاُمم الإسلاميَّة على مؤدّاه.

فلم يبق إلّا الشقُّ الثالث، فخلافةٌ لم تعترف لها الصدِّيقة الطاهرة وماتت وهي واجدةٌ عليها وعلى صاحبها، ويجوِّز مولانا أمير المؤمنين التأخّر عنها ولو آناًماً، ولم

____________________

١ - صحيح البخارى كتاب المغازى ج ٦: ١٩٧، صحيح مسلم كتاب الجهاد ج ٥: ١٥٤.

٣٦١

يأمر حليلتها بالمبادرة إلى البيعة، ولا بايع هو، وهو يعلم أنَّ من مات ولم يعرف إمام زمانه وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة، فخلافةٌ هذا شأنها حقيقةٌ بالإعراض عنها والنكوص عن البخوع لصاحبها.

٨ - من طريق أبي اُميّة عمرو بن يحيى بن سعيد عن جدِّه: إنَّ معاوية أخَذ الأداوة بعد أبي هريرة يتبع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها واشتكى أبو هريرة فبينا هو يوضّئ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع رأسه مرَّة أو مرَّتين فقال: يا معاوية! إن وليت أمراً فاتّق الله عزَّ وجلَّ وأعدل. قال: فما زلت أظنُّ إنّي مبتلى بعمل لقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ابتليت. المسند ٤: ١٠١.

قال الأميني: إنَّ من المأسوف عليه انَّ الرجل نسي هذه الوصيّة النبويّة في عهديه جميعاً من الإمارة والملك العضوض، أو أنّه كان يذكرها غير أنّه لم يكترث لها فلم يدع شيئاً من مظاهر العدل والتقوى إلّا وتركه، ولا أمراً من موجبات الإثم والعدوان إلّا وارتكبه، وإنَّ البحث لفي غنىً عن سرد تلك المآثم والجرائم، وقد كرَّرنا بعضها في أجزاء هذا الكتاب، وفي حيطة سعة الباحث الوقوف عليها كلّها.

فليته كان يذكر تلك الوصيّة الخالدة يوم تثبّط عن نصرة عثمان حتّى اودي به، ويوم كاشف إمام الوقت أمير المؤمنينعليه‌السلام بالحروب الطاحنة، وجابه ولاية الله الكبرى بكلّ ما كان يسعه عناده ومكائده، وناوء الصّحابة العدول بالقتل والتشريد، وأضطهد صلحاء الاُمّة بكلِّ ما في حوله وطوله من إخافة وإرجاف وقتل ذريع وأخذٍ بالظنون والتّهم، أوَ كان من العدل والتقوى شيىءٌ من هذه؟ أو كان منهما بيع الخمر وشرابها وأكل الرّبا، واستلحاق زياد بأبي سفيان، واستخلاف يزيد؟ ولعلّك أعرف بيزيد من غيرك كما أنَّ مستخلفه كان أعرف به من كلِّ أحد.

ولعلَّ من أظهر مصاديق عدله وتقواه دؤبه على سبِّ الإمام الطاهر، ولعنه على صهوات المنابر، وقنوته بذلك في صلواته - الّتي كانت تلعنه - وحمله النّاس على ذلك بالحواضر الاسلاميَّة وأوساطها طول حياته حتّى كانت بدعة مخزية مستمرَّة في العهد الأمويِّ كلّها بعد أن اخترمته المنيَّة.

٣٦٢

وليتني كنت أدري انّه ماذا كان يفعله ممّا يخالف العَدل والتّقوى لولا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه؟ أوانّه « والعياذ بالله » لو كانت الوصيّة بخلاف ما سمعه منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فهل كان يُتاح له أكثر وأشنع ممّا فعل؟.

٩ - من غير طريق عن معاوية قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إذا أراد الله بعبد خيراً فقّهه في الدِّين، وفي لفظ: من يرد الله به خيراً يفقّهه في الدين. وفي بعض الألفاظ: وكان معاوية قلّما خطب إلّا ذكر هذا الحديث في خطبته(١)

قال الأميني: كان من قضيّة هذا السِّماع ووعيه، والإكثار من روايته حتى انّه جاء مكرَّراً في مسند أحمد ستّ عشر مرَّة، وما كان يخطب معاوية إلّا وذكره، التأثّر بمفاده، والتهالك في التفقّه في الدِّين، والحرص على ما كان يسمعه أو يبلغه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مبادئ الفقه وغاياته، فما هذا الذي قهقره عن ضبط ما هنالك منِ حكَم وأحكام؟ وأبعده عن مستقى السنّة ذلك البون الشّاسع الذي تركه أجهل خلق الله بأحكامه، عدا ما خالفه وباينه، من أحاديث كانت حجّة عليه، بعيداً عن مغازيه وأعماله، وعدا طفائف لا يعود العالم بها فقيهاً في دينه، متبصِّراً في أمره، كلُّ ذلك ينمّ عن أنَّ الرَّجل لم يُرد الله به خيراً ولا فقّهه في دينه، وليس ذلك من ابن هند ببعيد.

١٠ - من طريق محمّد بن جبير بن مطعم يُحدِّث: انَّه بلغ معاوية وهو عنده في وفد من قريش، أنَّ عبد الله بن عمرو بن العاص يحدِّث انّه سيكون ملك من قحطان، فغضب معاوية فقام فأثنى على الله عزَّ وجلَّ بما هو أهله، ثمَّ قال: أمّا بعد: فإنّه بلغني انَّ رجالاً منكم يحدِّثون أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اولئك جهّالكم، فإيّاكم والأمانيّ التي تضلّ أهلها، فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنَّ هذا الأمر في قريش لا ينازعهم أحدٌ إلّا أكبّه الله على وجهه ما أقاموا الدين.

قال الأميني: لقد غلط معاوية في فهم الحديث على تقدير صحّته، فإنَّ الّذي ذكر عبد الله بن عمرو انَّ ذلك الكائن ملك، ولم ينصّ على أنّه خليفة، وكم في الدهر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملوكٌ من غير قريش؟ ومن الجائز أن يكون ذلك الملك الموعود به من أصحاب الملك العضوض، فما ردّه به معاوية من انَّ الذين يجب أن يكونوا من قريش

____________________

١ - المحلى لابن حزم ٩: ٣٥٩.

٣٦٣

هُم الأئمّة الذين لا ينازعون في أمرهم ما أقاموا الدين، فمعاوية ومن اهتدى مثاله ممّن لم يقيموا الدين بل ناوئوه وباينوه خارجون عنهم، وهاهنا تسقط مطامع معاوية وأمانيّه التي أضلّته من انطباق الرواية عليه وعلى نظرائه وإن لم يكونوا قحطانيّين، فأولى به من تحذّره عن تخلّف نسبة قحطان عنه أخذه الحذر عن موانع الخلافة التي لا تبارحه أوَ كانت الخلافة في الطلقاء؟ أو كانت في غير البدريّين؟ أو كان يشترط فيها فقدان العدل والتقوى في الخليفة؟ أو كان لآكلة الأكباد ورايتها نصيبٌ من خلافة الله؟

وإن تعجب فعجبٌ انَّ الرجل يعدُّ عبد الله بن عمرو من الجهّال، وهو الّذي جاء فيه عن أبي هريرة: انّه أكثر النَّاس حَديثاً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان يكتب الحديث، وفي لفظ أبي عمر: أحفظ حديثاً. وقال: كان فاضلاً حافظاً عالماً، قرأ الكتاب واستأذن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يكتب حديثه فأذن له، وهو الذي أثنى عليه ابن حجر بغزارة العلم والاجتهاد في العبادة(١) .

نعم: يقع معاوية في الرَّجل كمن ملأ إهابه علماً، وشحن الطروس والسطور فقهاً وحديثاً، ذهولاً منه عن أنَّ الاُمّة المنقّبة حفظت عليه حديث عبادة بن الصَّامت من قوله له: إنَّ اُمّك هند أعلم منك(٢) .

هذا معاوية ومبلغه من العلم بالسنَّة.

الاجماع

قد عرفت آنفاً انَّ من مدارك الإجتهاد في الأحكام الشرعيَّة ومبادئها: الإجماع ولعلَّ أقسط تعاريفه ما قاله الآمدي في الإحكام ١: ٢٨٠: انّه اتّفاق جملة من أهل الحلِّ والعقد من اُمّة محمّد في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقايع.

فهلمّ ولننظر إلى معاوية وأقواله وتقوّلاته وأعماله وجرائمه وفقهه، واجتهاده هل يقع شيىءٌ منها في معقد من معاقد الإجماع؟ وأين اُولئك الفقهاء، وأهل الحلّ والعقد في الفقه والدِّين الذين اصفقوا مع معاوية على ما عنده من بدع وتافهات؟ ومَن كان منهم يومئذ ليطلوا سقطات معاوية الشاذَّة بالإجماع؟ وهل كان مبائة الفقهاء يومئذ في

____________________

١ - الاستيعاب ١، ٣٠٧، اسد الغابة ٣: ٢٣٣، الاصابة ٢: ٣٥٢، تهذيب التهذيب ٥: ٣٣٧.

٢ - تاريخ ابن عساكر ٧: ٢١٠.

٣٦٤

غير المدينة المنوّرة من الصحابة الأوَّلين والتابعين لهم بإحسان؟ وفي بلاد غيرها إنتشروا منها إليها، وكلّهم كانوا في منتأىّ عن إبن هند وآراءه، ولم يزل هو يناوئهم ويضادُّهم في القول والعمل ويتحرّى الوقيعة فيهم.

نعم: كان يصافقه على مخاريقه حثالةٌ من طغام الشّام الذين حدتهم النهمة والشرَه وهملج بهم المطامع والشّهوات، فما قيمة اجتهاد يكون هذا أحد مبادئه؟!

ألقياس

ألمعتبر من القياس عند أئمّة السنّة والجماعة أن يكون المناط منصوصاً عليه في الكتاب والسنَّة، أو مخرَّجاً عنهما بالبحث والاستنباط إمّا بنوعه أو بشخصه(١) ولم نجد في إختيارات معاوية شيئاً من تلكم المناطات في المقيس عليه منصوصة أو مستنبطة يصحّ القياس في المقيس ويجوز التعويل عليها، نعم: كانت عنده أقيسةٌ جاهليّةٌ أراد تطبيق أحكام الإسلام بها.

أيّ اجتهاد هذا؟!

لعلّك إلى هنا عرفت معنى الإجتهاد الصحيح وحقيقته ومبانيه عند أئمّة الإسلام من رجالات الفقه واُصوله، وألمسك باليد بُعد معاوية عن كلِّ ذلك بعد المشرقين، فهلمَّ معي نقرأ صحيفة مكرَّرة من أفعال هذا المجتهد الطاغية وتروكه التي اجتهد فيها ويرى أبناء حزم وتيميّة وكثير وحجر ومن لفَّ لفّهم أنَّ الرَّجل لم يلحقه ذمٌّ وتبعةٌ من تلكم الهفوات، بل يحسبونه مأجوراً فيها لكونه مجتهداً مخطأً.

ألا تقول أيّ اجتهاد جوّز على هذا المجتهد أو أوجب عليه وعلى كلِّ مسلم بأمره - رضي بذلك أم أبى - سبَّ مثل مولانا أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه والقنوت بلعنه في الصّلوات، والدعاء عليه وعلى الإمامين السبطين(٢) والصلحاء الأخيار معه؟!

هل اجتهد هذه الاُحدوثة من آية التطهير والمباهلة أو من المئات النازلة في عليعليه‌السلام ؟ أو من الآلاف من السنّة الشريفة المأثورة عن صاحب الرّسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فضائله ومناقبه؟ أو من الإجماع المعقود على بيعته واتّخاذه خليفةً مفترضةً طاعته؟ ولئن تنازلنا عن

____________________

١ - راجع الكلمات التى اسلفناها فى هذا الجزء تحت عنوان: الاجتهاد ماذا هو.

٢ - راجع الجزء الثانى ص ١٠١. ١٠٢، ١٣٢، ١٣٣ ط ٢.

٣٦٥

الخلافة له، فهل هناك إجماعٌ على نفي اسلامه ونفي كونه من أعيان الصحابة العدول، حتّى يستسيغ هذا المجتهد - رضيع ثَدْي هند المتفيِّئ تحت رايتها - الوقيعة فيه والنيل منه؟.

وهل هناك قياسٌ يخرَّج ملاكه من مبادئ الإجتهاد الثلاثة التي قامت بسيف عليّعليه‌السلام واعتنقتها الاُمّة ببأسه، وعرفتها ببيانه، يسوِّغ للرَّجل ما تقحّم فيه؟ نعم: كانت تراثٌ وإحنٌ بين القبيلتين - أبناء هاشم وبني اُميّة - منذ العهد الجاهليِّ، وكان من عادات ذلك العهد وتقاليده نيل كلّ من الفئتين المتخاصمتين من الاُخرى كيفما وقع، وأينما أصاب، وريثما انتهز الفرصة مَن تمكّن من الإنتقام، سواءٌ حمل المنكوب شيئاً من الظلامة أو لا، فيقتل غير القاتل، ويعذَّب غير المجرم، ويُؤاخذ غير الجاني، شنشنةٌ جاهليّةٌ ثبت عليها الجاهلون، واستمرّوا دائبين عليها حتى بعد انتحالهم الإسلام، وإلى مثل هذا القياس كان يطمح معاوية « المجتهد في أعماله واجتهاده »

أيّ اجتهاد يسوِّغ له دؤبه على لعن الإمام المفدَّى على صهوات المنابر، وفي ادبار الصَّلوات، حتّى غيَّر سنَّة الله بتقديم خطبة صلاة العيدين عليها لإسماع الناس سبابه، وكان يوبّخ الساكتين عن لعنه بملأ فمه وصراحة لهجته؟ فبأيِّ كتاب أم بايّة سنّة أو اجماع أو قياس كان يستنبط هذا المجتهد الآثم إصراره على تلكم البدع المخزية؟

أيّ اجتهاد يُحتِّم عليه إستقراء كلِّ من والى عليّاً أمير المؤمنين في الحواضر والأمصار وتقتيلهم، وتشريدهم، والتنكيل بهم، وتعذيبهم بأشدِّ العذاب، ولم يرقب فيهم ذمَّة الاسلام ولا إلَّيه، ولم يُراع فيهم حرمة الصحبة وصونها؟ أو يَساعده على ذلك شيىءٌ من الآي الكريمة؟ أو أثارةٌ من السنَّة الشريفة؟ أو إجماعٌ من أهل الدين؟ وأين هم؟! [وهم كلُّهم مناوئوا معاوية ومنفصلون عن آرائه] أو أنَّ هناك قياسٌ خُرِّج ملاكه من تلكم الحجج الثلاث؟

أيُّ اجتهاد يُبيح له قذف عليّعليه‌السلام بالإلحاد والغيِّ والبغي والضّلال والعدوان و الخبث والحسد إلى طامّات اُخرى؟ أوَ تحسب انّك تجد حجّة على شيىء من ذلك من مطاوي الكتاب الكريم؟ أو من تضاعيف السنّة النبويّة؟ أو من معاقد إجماع الاُمّة؟ والاُمّة على بكرة أبيها تعلم أنَّ شيئاً من هاتيك المفتريات والنسب المائنة لم تُكتسح

٣٦٦

عنها إلّا ببيان الإمام وبنانه، وسيفه ولسانه، ولو قام للدين مثالٌ شاخصٌ لما عداه أن يقوم بصورة عليّعليه‌السلام ومثاله.

أيّ إجتهاد يحبِّذ له المسرَّة والاستبشار بقتل أمير المؤمنين وولده الحسن الزكيِّ إمامي الهدى صلوات الله عليهما، والتظاهر بالجذل والحبور على مصيبة الدين الفادحة بهما ويُري لصاحبه قتل عليّعليه‌السلام من لطف الله وحسن صنعه، وزعم قاتله أشقى مراد من عباد الله؟ وأنت جِدّ عليم بانّ فقه الكتاب الكريم في منتىءً عن هذه الشقوة، كما انَّ السنّة الكريمة في مبتعد عن مثلها من قساوة، ودع عنك معقد إجماع الامّة النائي عن هذه الفظاظة، و ملاكات الشريعة منصوصةً ومستنبطةً البائنة لتلك الصَّلافة. نعم: قياس الجاهليّة الاولى يضرب على وتره ويغنّى في وتيرته.

أيُّ إجتهاد يُرخِّص هتك حرمات مكّة والمدينة، وشنَّ الغارة على أهلها لمحض ولائهم عليّاًعليه‌السلام ويُشرِّع نذر قتل نساء ربيعة لحبِّ رجالهم أمير المؤمنين وتشيّعهم لهعليه‌السلام ؟!.

أيُّ إجتهاد يُحلّل مُثلة مَن قُتل تحت راية عليّعليه‌السلام يوم صفّين، وقد كان قتال الفئة الباغية بعهد من رسول الله وأمره؟! كما فصَّلنا القول فيه في الجزء الثالث.

أيُّ اجتهاد يمنع إمام الحقّ وآلافاً من المسلمين عن الماء المباح، ويُعطي لمعاوية حقَّ القول: بانَّ هذا والله أوَّل الظفر، لا سقاني الله ولا سقى أبا سفيان إن شربوا منه، أبدا حتى يُقتلوا بأجمعهم عليه؟!(١)

أيُّ اجتهاد يجوِّز بيع الخمر وشربها، وأكل الربا، وإشاعة الفحشاء، وقد حرَّمها كتاب الله وسنّة نبيّه، ويتلوهما الإجماع والقياس.؟!

أيّ اجتهاد يحثُّ الناس بإعطاء الإمارة والولايات وبذل القناطير المقنطرة لمن لا خلاق لهم على عداء أهل بيت النبيِّ الأقدس وبغضهم والنيل منهم ومن شيعتهم؟!

أيّ اجتهاد يُراق به دم مَن سكت عن لعن عليّ ولم يتبرّأ منه ولو كان من جلّة الصحابة ومن صلحاء امّة محمّد كحجر بن عدي وأصحابه وعمرو بن الحمق؟

أيّ اجتهاد يؤدِّي إلى خلاف ما ثبت من السنّة الشريفة، ويصحّح إدخال ما

____________________

١ - كتاب صفين ص ١٨٢، شرح نهج البلاغة ١: ٣٢٨.

٣٦٧

ليس منها في الأذان والصَّلاة والزّكاة والنكاح والحجِّ والديات على التفصيل الذي مرّ في هذا الجزء.

أيّ اجتهاد يُغيّر دين الله وسنّته لمحض مخالفته عليّاًعليه‌السلام كما مرّ ص ٢٠٥.

أيّ اجتهاد يُنقض به حدُّ من حدود الله لاستمالة مثل زياد بن امّه وجلب مرضاته باستلحاقه بأبي سفيان، والولد للفراش وللعاهر الحجَر؟!

أيّ اجتهاد يُحابي خلافة الله ليزيد السكّير المستهتر، ويستحلُّ به دماء مَن تخلّف عن تلك البيعة الغاشمة؟!

أيّ اجتهاد يشترط البراءة من أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام في عقد البيعة للطليق ابن الطليق؟!

أيّ اجتهاد تُدعم به الشهادات المزوّرة والفرية والإفك والكذب وقول الزور و النسب المختلقة والمكر والخديعة لنيل الأمانيِّ الوبيلة المخزية؟!

أيّ اجتهاد يجوّز ايذاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أهل بيته وعترته، وايذاء أولياء الله وعباده الصالحين من الصحابة الأوَّلين والتابعين لهم بإحسان وفي مقدّمهم سيّدهم وفي الذكر الحكيم قوله تعالى: الذين يؤذون رسول الله لهم عذابٌ أليم.( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ) . وجاء عن الصادع الكريم: من آذى مسلماً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عزّ وجلَّ(١) وقوله عن جبريل عن الله تعالى: من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة. ومن عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب.

وقوله: من آذى لي وليّاً فقد استحلَّ محاربتي. وقوله: من أهان لي وليّاً فقد استحلَّ محاربتي.

وقوله: من أهان لي وليّاً فقد بارزني بالعداوة. وقوله: من عادى لي وليّاً فقد ناصبني بالمحاربة(٢) .

أيّ اجتهاد يُري صاحبه نقض الإلّ وحنث العهد، من السهل الهيّن في جميع موارده ومصادره؟!

أيّ اجتهاد يُجابه به سنَّة رسول الله وما يؤثر عنه بالهزء والإزدراء والضرطة؟

____________________

١ - راجع الحاوى للفتاوى ٢: ٤٧.

٢ - راجع الحاوى للفتاوى ١: ٣٦١ - ٣٢٤.

٣٦٨

كما فصّل في ص ٢٨١ - ٢٨٣.

أيّ اجتهاد يُفسد البلاد، ويُضلّ العباد، ويشقُّ عصا المسلمين، بالشذوذ عن الجماعة، وخلع ربقة الإسلام عن البيعة الحقّة، ومحاربة إمام الوقت بعد إجماع الامَّة من أهل الحلّ والعقد من المهاجرين والأنصار على بيعته؟!.

إلى غير هذه من اجتهادات باطلة، وآراء سخيفة تافهة، ليس لها في مستوى الصَّواب مقيلٌ، ولا لها في سوق الدين اعتبارٌ يعذّر صاحبه، وكلّها مبائنة للكتاب، مضادَّةٌ مع السنَّة الثابتة الصحيحة، ونقضٌ للاجماع الصحيح المتسالم عليه، والقياس الذي نُصَّ في المقيس عليه على ملاك الحكم في أيٍّ من الكتاب والسنَّة، أو انَّه مستنبط بالاجتهاد والتظنّي فيهما.

وهل وقف الباحث في جملة ما سبره من الأحكام والعلل على اجتهاد يكون هذا نصيبه من تحرِّي الحقِّ؟! أللّهمَّ انَّها ميولٌ وأهواء ومطامع وشهوات تُزجي بصاحبها إلى هوّات المهالك، وهل هذا يُضاهي شيئاً من اجتهاد المجتهدين؟!

على أنَّ جملةً من المذكورات ممّا لا مساغ للإجتهاد فيه، ولا يتطرَّق اليه الرأي والإستنباط، لأنَّ الحكم فيها ملحقٌ بالضروريّات من الدين، وممّا لا يسع فيه الخلاف، فمن حاول شيئاً من ذلك فقد حاول دفاعاً للضروريِّ من الدين، واستباح محظوراً ثابتاً من الشريعة، كمن يستبيح قتل النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باجتهاده، أو يروم تحليل حرام من الشريعة دون تحليله شقّ المرائر، واستمراء جُرع الحتف المبير.

من هو هذا المجتهد؟

أهو إبن آكلة الأكباد - نكّس الله رايتها - الهاتك لحرمات الله، المعتدي على حدوده، المجرم الجاني؟.

يحسب أبناء حزم وتيميَّة وكثير ومن لفَّ لفّهم انَّه مجتهدٌ مأجورٌ، ويقول إبن حجر: إنّه خليفة حقّ، وإمام صدق.

هكذا يقول هؤلاء ونحن لا نقول باجتهادهم بل نقول بما قاله المقبلي(١) في كتابه « العَلم الشَّامخ في ايثار الحقِّ على الآباء المشايخ » ص ٣٦٥: ما كان عليٌّ رضي الله عنه

____________________

١ - الشيخ صالح بن مهدي المتوفى ١١٠٨.

٣٦٩

وأرضاه إلّا إمام هدى، ولكنّه ابتلى وابتلي به، ومضي لسبيله حميداً، وهلك به من هلك، هذا يغلو في حبّه أو دعوى حبّه لغرض له، أعظمهم ضلالاً من رفعه على الأنبياء أو زاد على ذلك، وأدناهم مَن لم يرض له بما رضى لنفسه لتقديم إخوانه وأخدانه عليه في الإمارة، رضي الله عنهم أجمعين.

وآخر يحطّ من قدره الرَّفيع، أبعدهم ضلالاً الخوارج الذين يلعنونه على المنابر، ويرضّون على ابن ملجم شقيّ هذه الاُمَّة، وكذلك المروانيّة، وقد قطع الله دابرهم، وأقربهم ضَلالاً الّذين خطّأوه في حرب النّاكثين، والله سبحانه يقول: فقاتلوا التي تبغي حتّى تفئ إلى أمر الله. فإن لم تصدق هذه في أمير المؤمنين ففي مَن تصدق؟

مع أنَّهم بغوا بغياً محقّقاً بعد إستقرار الأمر له، ولا عذر لهم، ولا شبهة إلّا الطلب بدم عثمان، وقد أجاب رضي الله عنه بما هو جواب الشريعة فقال: يحضر وارث عثمان ويدّعي ما شاء، واحكم بينهم بكتاب الله تعالى وسنّة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . أو كما قال فإن تصحُّ هذه الرِّواية، وإلّا فهي معلومةٌ من حاله بل من حال من هو أدنى النّاس مِن المتمسِّكين بالشريعة، وأمّا أنّه يقطع قطيعاً من غوغاء المسلمين الذين اجتمعوا على عثمان خمسمائة واكثر، بل قيل: إنّهم يبلغون نحو عشرة آلاف كما حكاه ابن حجر في الصواعق، فيقتلهم عن بكرة أبيهم، والقاتل واحد، أربعة، عشرة، قيل: هما إثنان فقط. وذكره في الصّواعق أيضاً، فهذا ما يعتذر به عاقلٌ، ولكن كانت الدعوى باطلة والعلّة باطلة، خلا أنّ طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم ومن يلحق بهم مِن تلك الدرجة التي يقدر قدرها من الصحابة، لا يشكّ عاقلٌ في شبهة غلطوا فيها، ولو بالتأويل لصلاح مقاصدهم.

وأمّا معاوية والخوارج فمقاصدهم بيّنةٌ، فإن لم يقاتلهم عليٌّ فمن يُقاتل؟ أمّا الخوارج فلا يرتاب في ضلالهم إلّا ضالُّ، وأمّا معاوية فطالب ملك، اقتحم فيه كلَّ داهية، وختمها بالبيعة ليزيد، فالذي يزعم أنّه اجتهد فأخطأ، لا نقول: اجتهد وأخطأ.

لكنّه إمّا جاهلٌ لحقيقة الحال مقلّد، وإمّا ضالٌّ اتَّبع هواه، أللّهمّ إنّا نشهد بذلك.

ورأيت لبعض متأخِّري الطبريّين في مكّة رسالة ذكر فيها كلاماً عزاه لابن عساكر وهو: أنَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر أنَّ معاوية سيلي أمر الاُمّة، وانّه لن يغلب، وانّ عليّاً

٣٧٠

كرّم الله وجهه قال يوم صفّين: لو ذكرت هذا الحديث أو بلغني لَما حاربته.

ولا يبعد نحو هذا ممّن سل سيفه على عليّ والحسن والحسين وذرّيتهما، والراضي كالفاعل كما صرّحت به السنَّة النبويّة، إنّما استغربنا وقوع هذا الظهور حكاية الاجماع من جماعة المتسمِّين بالسنَّة بأنّ معاوية هو الباغي، وانَّ الحقَّ مع عليّ، وما أدري ما رأي هذا الزاعم في خاتمة أمر عليّ بعد ما ذكر، وكذلك الحسن السبط رضي الله عنهما، وترى هؤلاء الذين ينقمون على عليّ قتاله البغاة يحسنون لمن سنَّ لعنه على المنابر في جميع جوامع المسلمين منذ وقته إلى وقت عمر بن عبد العزيز اللّاحق بالأربعة الرّاشدين رضي الله عنه وعنهم، مع أنَّ سبّ عليٍّ فوق المنابر وجعله سنّة تصغر عنده العظائم. وفي جامع المسانيد في مسند اُمِّ سلمة رضي الله عنها: أيُسَبُّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكم؟ قلت: معاذ الله. قالت: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: مَن سَبَّ عليّاً فقد سبَّني. ألكلام.

ولعلّك إن نظرت إلى ما سردناه من سيرة هذا المجتهد الجاهل الضالِّ تأخذ لك مقياساً لمبلغ علمه، وقسطه المتضاءل من الإجتهاد في أحكام الله، وانّه منكفىءٌ عنه، فارغ الوطاب، صفر الأكفِّ عن أيِّ علم ناجع، أو عمل نافع، بعيداً عن فهم الكتاب، والتفقّه في السنّة، والإلمام بأدلَّة الإجتهاد.

نعم: لم يكن معاوية هو نسيج وحده في الجهل بمبادئ الاجتهاد وغاياته، وإنّما له أضرابٌ ونظراء سبقوه أم لحقوه في الرأي الشائن، والاجتهاد المائن، ممّن صحّح القوم بدعهم المحدثة، وآرائهم الشاذَّة عن الكتاب والسنّة بالاجتهاد، تترّسوا في طامّاتهم بأنّهم مجتهدون(١)

ولعلّك تعرف مكانة هذا المجتهد « خليفة الحقِّ وإمام الصدق » من لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه وأباه وأخاه. ومن قنوت أمير المؤمنين في صلاته بلعنه، ومن دعاء اُمّ المؤمنين عائشة عليه دبر صلاتها.

ومن إيعاز الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وولده السبط الزكيّ أبي محمّد سلام الله عليه، والعبد الصّالح محمّد بن أبي بكر، إلى لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المخزي، ومن لعن

____________________

١ - يوجد جمع من اولئك المجتهدين فى غضون اجزاء كتابنا هذا.

٣٧١

ابن عبّاس وعمّار إيّاه.

ومن قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سمع غناءً واُخبر بأنّه لمعاوية وعمرو بن العاصي: أللّهمّ اركسهم في الفتنة ركسا، أللهم دعّهم إلى النار دعّا.

ومن قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد رآه مع ابن العاصي جالسين: إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين ففرِّقوا بينهما فانهما لا يجتمعان على خير.

ومن قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه. المعاضد بالصحيح الثابت من قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما. وفي صحيح: فإن جاء أحدٌ ينازعه فاضربوا الآخر.

ومن قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يطلع عليكم من هذا الفجِّ رجلٌ يموت وهو على غير سنّتي فطلع معاوية(١)

ومن قول أمير المؤمنين له: طالما دعوت أنت وأولياءك أولياء الشيطان الرجيم الحقّ أساطير الأوّلين ونبذتموه وراء ظهوركم. وحاولتم إطفاء نور الله بأيديكم و أفواهكم والله متمُّ نوره ولو كره الكافرون.

ومن قولهعليه‌السلام : إنَّك دعوتني إلى حكم القرآن، ولقد علمتُ أنَّك لست من أهل القرآن، ولا حكمه تريد.

ومن قولهعليه‌السلام : إنَّه الجلف المنافق، ألأغلف القلب، ألمقارب العقل.

ومن قولهعليه‌السلام : انَّه فاسقٌ مهتوكٌ ستره.

ومن قولهعليه‌السلام : انَّه الكذّاب إمام الرَّدى، وعدوّ النبيِّ، وانَّه الفاجر ابن الفاجر، وانّه منافق ابن منافق يدعو الناس إلى النّار. إلى كلمات اُخرى مفصّلة في هذا الجزء.

ومن قول أبي أيّوب الأنصاري: إنَّ معاوية كهف المنافقين.

ومن قول قيس بن سعد الأنصاري: إنّه وثن إبن وثن، دخل في الإسلام كرهاً وخرج منه طوعاً، لم يقدم إيمانه، ولم يحدث نفاقه.

ومن قول معن السّلمي الصحابيّ البدريّ له: ما ولدت قرشيّةُ من قرشيّ شرّاً منك.

____________________

١ - كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص ٢٤٧.

٣٧٢

ومن أقوال الإمام الحسن السبط وأخيه الحسين صلوات الله عليهما، وعمّار بن ياسر، وعبد الله بن بديل، وسعيد بن قيس، وعبد الله بن العبّاس، وهاشم بن عتبة المرقال، وجارية بن قدامة، ومحمّد بن أبي بكر، ومالك بن الحارث الأشتر(١) .

هذا مجتهدنا الطليق عند اُولئك الأطايب، وعند الوجوه والأعيان من الصحابة الأوَّلين العارفين به على سرِّه وعلانيته، المطّلعين على أدوار حياته طفلاً ويافعاً وكهلاً وهمّاً، وأنت بالخيار في الأخذ بأيٍّ من النظريَّتين: ما سبق لِلّه ولرسوله وخلفائه و أصحابه المجتهدين العدول، أو ما يقول هؤلاء الأبناء ومن شاكلهم من المتعسّفين الناحتين للرَّجل أعذاراً هي أفظع من جرائمه.

الأمر الثانى

ثاني الأمرين اللذين ينتهي إليهما دفاع إبن حجر عن معاوية قوله في الصواعق ص ١٣٠: فالحقُّ ثبوت الخلافة لمعاوية من حينئذ وانّه بعد ذلك خليفة حقّ وإمام صدق، كيف؟ وقد أخرج الترمذي وحسَّنه عن عبد الرَّحمن بن أبي عميرة الصحابي عن النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه قال: لمعاوية أللهمَّ اجعله هادياً مهديّاً.

وأخرج أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: أللهمَّ علّم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب.

وأخرج ابن أبي شيبة في المصنّف والطبراني في الكبير عن عبد الملك بن عمر قال قال معاوية: ما زلت أطمع في الخلافة مذ قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معاوية! إذا ملكت فأحسن.

فتأمّل دعاء النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث الأوَّل بأنّ الله يجعله هادياً مهديّاً، و الحديث حسنٌ كما علمت فهو ممّا يحتجّ به على فضل معاوية، وانّه لا ذمَّ يلحقه بتلك الحروب لما علمت انّها مبنيّةٌ على اجتهاد، وإنّه لم يكن له إلّا أجرٌ واحد، لأنَّ المجتهد إذا أخطأ لا ملام عليه، ولا ذمّ يلحقه بسبب ذلك لأنّه معذورٌ، ولذا كتب له أجرٌ.

وممّا يدلّ لفضله الدعاء له في الحديث الثاني بأن يعلّم ذلك، ويوقى العذاب، ولا شكّ انَّ دعاءهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجابٌ، فعلمنا منه أنّه لا عقاب على معاوية فيما فعل من

____________________

١ - مر تفصيل هذه كلها فى هذا الجزء

٣٧٣

تلك الحروب بل له الأجر كما تقرِّر، وقد سمّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فئته المسلمين وساواهم بفئة الحسن في وصف الإسلام فدلَّ على بقاء حرمة الإسلام للفريقين، وانّهم لم يخرجوا بتلك الحروب عن الإسلام، وانّهم فيه على حدّ سواء، فلا فسق ولا نقص يلحق أحدهما لما قرَّرناه من أنَّ كلّا منهما متأوِّل تأويلاً غير قطعيِّ البطلان، وفئة معاوية وإن كانت هي الباغية لكنّه بغيٌ لا فسق به، لأنّه إنّما صدر عن تأويل يعذر به أصحابه.

وتأمّل انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر معاوية بأنّه يملك وأمره بالإحسان، تجد في الحديث إشارة إلى صحّة خلافته، وانَّها حقّ بعد تمامها له بنزول الحسن له عنها، فإنَّ أمره بالإحسان المترتّب على الملك يدلّ على حقيّة ملكه وخلافته وصحّة تصرّفه ونفوذ أفعاله من حيث صحّة الخلافة لا من حيث التغلّب، لأنَّ المتغلّب فاسقٌ معاتبٌ لا يستحقّ أن يبشّر، ولا أن يؤمر بالإحسان فيما تغلّب عليه، بل انّما يستحقّ الزجر والمقت و الاعلام بقبيح أفعاله وفساد أحواله، فلو كان معاوية متغلّباً لأشار لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك، أو صرّح له به، فلمّا لم يُشر فضلاً على أن يصرّح إلّا بما يدلّ على حقيقة ما هو عليه علمنا أنّه بعد نزول الحسن له خليفة حقِّ وإمام صدق. ه

( هذا نهاية جهد ابن حجر في الدفاع عن معاوية )

قال الأميني: إنَّ الكلام يقع على هذه الرّوايات من شتّى النواحي ألا وهي:

١ - ألنظر إلى شخصيّة معاوية، وتصفّح كتاب نفسه المشحون بالمخازي، ثمَّ نعطف النظر في أنّه هل تلكم الصحائف السوداء تلائم أن يكون صاحبها مصبّاً لأقلّ منقبة له يُعزى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضلاً عن هذه النسب المزعومة؟ أو: لا؟ ولقد أوقفناك على حياته المشفوعة بالمخاريق ممّا لا يكاد أن يجامع شيئاً من المديح والإطراء أو أن تُعزى إليه حسنة، ولا أحسب انّك تجد من أيّام حياته يوماً خالياً عن الموبقات من سفك دماء زاكية، وإخافة مؤمنين أبرياء، وتشريد صلحاء لم يدنّسهم إثم، ولا ألمـّت بساحتهم جريرة، ومعاداة للحقِّ الواضح، ورفض لطاعة إمام الوقت والبغي عليه وقتاله إلى جرائم جمّة يستكبرها الدين والشريعة، ويستنكرها الكتاب والسنّة، ولا يتسرّب إلى شيىء منها الإجتهاد كما مرَّ بيانه.

٢ - من ناحية عدم ملائمة هذه الفضائل المنحوتة لما رُوي وصحَّ عن رسول الله

٣٧٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما يُؤثر عن مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام وعن جمع من الصحابة العدول، فإنّه ممّا لا يتّفق معها في شيىء، وقد أسلفنا من ذلك ما يناهز الثمانين حديثاً في هذا الجزء ص ١٣٩ - ١٧٧

فإنّك متى نظرت إليها، واستشففت حقايقها دلّتك على أنَّ رجل السّوء - معاوية - جماع المآثم والجرائم، وانّه هو ذلك الممقوت عند صاحب الشريعةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومَن احتذى مثاله من خلفائه الرّاشدين، وأصحابه السابقين الأوَّلين المجتهدين حقّاً المصيبين في اجتهادهم.

٣ - أنّا وجدنا نبيَّ الرَّحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونظرنا في المأثور الثابت الصحيح عنه في طاغية الشام والأمر بقتاله، والحثّ على مناوئته، وتعريف من لاث به بأنّهم الفئة الباغية، وانّهم هم القاسطون، وعهده إلى خليفته أمير المؤمنينعليه‌السلام على أن يناضله، ويكتسح معرّته، ويكبح جماحه، وقد علمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّه سيكون الخليفة المبايع له، الواجب قتله، وانّه سيكون في عنقه دماء الصلحاء الأبرار التي لا يبيحها أيُّ اجتهاد نظراء حُجر بن عدي، وعمرو بن الحمق، وأصحابهما، وكثير من البدريّين، وجمع كثير من أهل بيعة الرضوان، رضوان الله عليهم.

فهل من المعقول انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرى لمعاوية والحالة هذه قسطاً من الفضيلة؟ أو حسنة تضاهي حسنات المحسنين؟ ويوقع الاُمّة في التهافت بين كلماته المعزوَّة إليه هذه، وبين ما صارح به وصحَّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا أو عزنا إليه. وزبدة المخض انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينبس عن هاتيك المفتعلات ببنت شفة، ولكن القوم نحتوها ليطلوا على الضعفاء ما عندهم مِن طلاءٍ مُبهرج.

٤ - ما قاله الحفّاظ من أئمّة الحديث وحملة السنّة من انَّه لم يصحّ لمعاوية منقبة، وسيوافيك بُعيد هذا نصّ عباراتهم عند البحث عن فضائل معاوية المختلقة.

٥ - النظر في اسناد ومتن ما جاء به إبن حجر، وعلّا عليه اُسس تمويهه على الحقايق، وبه طفق يرتأي معاوية خليفة حقّ، وإمام صدق.

الرواية الاولى

أمّا ما أخرجه الترمذي وحسّنه عن عبد الرَّحمن بن أبي عميرة مرفوعاً، أللّهمَّ

٣٧٥

اجعله هادياً مهديّاً واهد به(١) . فإنَّ كون إبن أبي عميرة صحابيّاً في محلِّ التشكيك فإنّه لا يصحّ كما أنَّ حديثه هذا لا يثبت، قال أبو عمر في الاستيعاب ٢: ٣٩٥ بعد ذكره بلفظ: أللّهمَّ اجعله هادياً مهديّا واهده واهد به: عبد الرَّحمن حديثه مضطربٌ لا يثبت في الصحابة وهو شاميٌّ، ومنهم مَن يوقف حديثه هذا ولا يرفعه، ولا يصحّ مرفوعاً عندهم. وقال: لا يثبت أحاديثه، ولا يصحّ صحبته.

ورجال الإسناد كلّهم شاميّون وهم: أبو سهر الدمشقي. ٢ - سعيد بن عبد العزيز الدمشقي. ٣ - ربيعة بن يزيد الدمشقي ٤ - إبن أبي عميرة الدمشقي. وتفرَّد به ابن أبي عميرة ولم يروه غيره ولذلك حكم فيه الترمذي بالغرابة بعد ما حسّنه، وإبن حجر حرّف كلمة الترمذي حرصاً على إثبات الباطل، فما ثقتك برواية تفرَّد بها شاميّ عن شاميّ إلى شاميّ ثالث إلى رابع مثلهم ايضاً، ولا يوجد عند غيرهم من حملة السنَّة علمٌ بها، ولم يك يومئذ يتحرّج الشاميّون من الإفتعال لما ينتهي فضله إلى معاوية ولو كانت مزعمة باطلة، على حين انّ أمامهم القناطير المقنطرة لذلك العمل الشائن، ومن ورائهم النزعات الأمويّة السائقة لهم إلى الاختلاق، لتحصيل مرضاة صاحبهم. فهناك مُرتكم الأباطيل والرِّوايات المائنة.

على انَّ هذا المزعوم حسنه كان بمرأى ومشهد من البخاريِّ الذي يتحاشى في صحيحه عن أن يقول: باب مناقب معاوية. وإنّما عبّر عنه بباب ذكر معاوية. وكذلك من شيخه إسحاق بن راهويه الذي ينصّ على عدم صحّة شيىء من فضائل معاوية. ومن الحفّاظ: النسائي، والحاكم النيسابوري، والحنظلي، والفيروز آبادي، وابن تيميّة، والعجلوني وغيرهم، وقد أطبقوا جميعاً على أنّه لم يصحّ لمعاوية حديث فضيلة، ومساغ كلماتهم يُعطي نفي ما يصحّ الإعتماد عليه لا الصحيح المصطلح في باب الأحاديث، فلا ينافي شمول قولهم على حسنة الترمذي المزعومة مع غرابتها، فإنَّهم يقذفون الحديث بأقلّ ممّا ذكرناه في هذا المقام، ولو كان لهذه الحسنة وزن يقام « كحسنات معاوية » لأ عزوا إليها عند نفيهم العامّ.

وإنّ مفاد الحديث لممّا يُربك القارئ ويغنيه عن التكلّف في النظر إلى إسناده

____________________

١ - هذا لفظ الحديث فى جامع الترمذى ١٣: ٢٢٩.

٣٧٦

فإنّ دعاء النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجابٌ لا محالة يقوله ابن حجر، ونحن في نتيجة البحث والإستقراء التامِّ لأعمال معاوية لم نجده هادياً ولا مهديّاً في شيىء منها، ولعلّ ابن حجر يُصافقنا على هذه الدعوى، وليس عنده غير انّ الرجل مجتهدٌ مخطىءٌ في كلِّ ما أقدم وأهجم، فله أجرٌ واحدٌ في مزعمته، ولا يلحقه ذمُّ وتبعةٌ لاجتهاده، وقد أعلمناك أنّ عامّة أخطاءه وجرائمه ممّا لا يتطرَّق إليه الإجتهاد، على ما أسلفنا لك انّه ليس من الممكن أن يكون معاوية مجتهداً لفقدانه العلم بمبادئ الاستنباط من كتاب وسنّة، وبُعده عن الإجماع والقياس الصحيح.

أو هَل ترى انَّ الدعاء المستجاب كهذا يُقصد به هذا النوع من الإجتهاد المستوعب للأخطاء في أقوال الرَّجل وأفعاله؟ حتّى انّه لا يُرى مصيباً في واحد منها، وهل يحتاج تأتّي مثل هذا الاجتهاد إلى دعاء صاحب الرِّسالة؟ فمرحباً بمثله من اجتهادٍ معذِّر، وهداية لا تبارح الضَّلال.

ثمّ مَن الذي هداه معاوية طيلة أيّامه، وأنقذه من مخالب الهلكة؟! أيَعدُّ منهم ابن حجر بُسر بن أرطاة الذي أغار بأمره على الحرمين، وارتكب فيهما ما ارتكبه من الجرائم القاسية؟!

أم ضحّاك بن قيس الّذي أمره بالغارة على كلِّ مَن في طاعة عليّعليه‌السلام مِن الأعراب، وجاء بفجايع لم يعهدها التاريخ؟!

أم زياد بن أبيه أو اُمِّه الذي استحوذ على العراق، فأهلك الحرث والنّسل، وذبح الأتقياء، ودمَّر على الأولياء، وركب نهابير لا تُحصى؟!

أم عمرو بن العاص الذي أطعمه مصر فباعه على ذلك دينه بدنياه، وفعل من الجنايات ما فعل؟!

أم مروان بن الحكم الطريد اللّعين وابنهما الذي كان لعنه عليّاً أمير المؤمنين على منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدَّة أعوام إحدى طامّاته؟!

أم عمرو بن سعيد الأشدق الجبّار الطاغي الذي كان يبالغ في شتم عليّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه وبغضه إيّاه؟!

أم مغيرة بن شعبة أزنى ثقيف الذي كان ينال من عليّعليه‌السلام ويلعنه على منبر

٣٧٧

الكوفة؟!

أم كثير بن شهاب الذي استعمله على الري، وكان يكثر سبّ عليّعليه‌السلام أمير المؤمنين والوقيعة فيه؟!

أم سفيان بن عوف الّذي أمره أن يأتي هيت والأنبار والمدائن، فقتل خلقاً، و نهب أموالاً، ثمّ رجع إليه؟!

أم عبد الله الفزازي الذي كان أشدَّ الناس على عليّعليه‌السلام ، ووجَّهه إلى أهل البوادي فجاء بطامّات كبرى؟!

أم سمرة بن جندب الذي كان يحرِّف كتاب الله لإرضائه، وقتل خلقاً دون رغباته لا يُحصى؟!

أم طغام الشّام وطغاتها الذين كانوا يقتصّون أثر كلِّ ناعق، وانحاز بهم هو عن أيّ نعيق فأوردهم المهالك؟!

أهذه كلّها من ولائد ذلك الدعاء المستجاب؟ أللهمّ، لا. ولو كان مكان هذا الدعاء من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - العياذ بالله - قوله: أللهمّ اجعله ضالّاً مضلّا. لما عداه أن يكون كما كان عليه من البدع والضلالات.

ولو كان لهذا الدعاء المزعوم نصيبٌ من الصِّدق لما كان يعزب علمه عن مثل مولانا أمير المؤمنين، وولديه الإمامين وعيون الصحابة الذين كانوا لا يبارحون الحقَّ كأبي أيّوب الأنصاري، وعمّار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، ولما عهد إليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حربه وقتاله، ولما عرّف فئته بالبغي والقسط.

ولو كان السَّلف الصالح يرى شيئاً زهيداً من هداية الرجل واهتدائه أثر ذلك الدعاء المستجاب لما كانوا يعرِّفونه في صريح كتاباتهم وخطاباتهم بالنفاق والضَّلال والإضلال.

وللسيّد العلّامة ابن عقيل كلمةٌ حول هذه المنقبة المزيّفة ونعمّا هي قال في النصايح الكافية ص ١٦٧: وها هنا دلالةٌ على عدم استجابة الله هذه الدعوة لمعاوية لو فرضنا صحّة الحديث من حديث صحيح أخرجه مسلم عن سعد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سألت ربّي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة. سألت ربّي أن لا يهلك اَمّتي بالسنّة فأعطانيها وسألته أن لا يهلك اُمّتي بالغرق فأعطانيها. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها.

٣٧٨

تعرف بهذا الحديث وغيره شدَّة حرصهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يكون السِّلم دائماً بين اُمّته، فدعا الله تارةً أن لا يكون بأس اُمّته بينهم كما في حديث مسلم، وتارةً أن يجعل معاوية هادياً مهديّاً لأنّه بلا ريب يعلم انّ معاوية أكبر من يبغي ويجعل بأس الاُمّة بينهما، فمآل الدعوتين واحدٌ وعدم الإجابة في حديث مسلم تستلزم عدمها في حديث الترمذي، والمناسبة بل التلازم بينهما واضحٌ بيّن، وفي معنى حديث مسلم هذا جاءت أحاديث كثيرة ومرجعها واحد.

الرواية الثانية

أللهم علّمه الكتاب والحساب وقه العذاب.

في إسنادها الحارث بن زياد، وهو ضعيفٌ مجهولٌ كما قاله ابن أبي حاتم، عن أبيه، وابن عبد البرِّ، والذهبي، كما في ميزان الإعتدال ١: ٢٠١، وتهذيب التهذيب ٢: ١٤٢، ولسان الميزان ٢: ١٤٩. وهو شاميُّ غير مكترث لرواية الموضوعات في طاغية الشام.

وانّ متنه لفي غنىً عن أيِّ تفنيد فإنَّ المراد به إمّا علم الكتاب كلّه أو بعضه، و نحن لم نجد عنده شيئاً من علم الكتاب فضلاً عن كلّه، فإنَّ أعماله وتروكه مضادّةٌ كلّها لمحكمات الذكر الحكيم، من إيذاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإيذاء أهل بيته وصلحاء اُمَّته، ولا سيّما صنوه وخليفته المفروض طاعته الذي هو نفسه، ومطهّر عن أيِّ رجاسة في نصوص من الكتاب العزيز.

ومن إيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا إثماً لمحض ولائهم مَن قرن الله ولايته بولايته وولاية رسوله.

ومن القتل الذريع للصَّلحاء الأبرار، لعدم نزولهم على رغباته الباطلة، وميوله وأهواءه.

ومن الكذب الصراح، وكلّ فرية وبهت وإفك وقول زور، طفح الكتاب بتحريمها النهائيِّ.

ودع عنك بيع الخمر وشربها، وأكل الرّبا، وتبديل سنّة الله التي لا تبديل لها متى ما خالفت خطّته السيّئة، وتعدِّيه حدود الله، ومن يتعدّ حدود الله فاُولئك هم

٣٧٩

الظالمون، إلى طامّات صافقت على خطرها الكتاب ضرورة الدين.

فالإعتقاد بجهله بكلِّ هذه الموارد وما شاكلها خيرٌ له من علمه بها ومروقه عنها وخروجه عن حكم الكتاب، ونبذه إيّاه وراء ظهره، كما ذهب إليه مولانا أمير المؤمنين و اُمَّةٌ صالحةٌ من الصحابة، فالدعاء المزعوم له قد عدته الإجابة في كلِّ وردٍ له وصَدَر.

وأما بعض الكتاب فما عسى أن يجديه نفعاً إن كان يؤمن ببعض ويكفر ببعض؟ ولو كان يعرف من الكتاب قوله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاُخرى فقاتلوا التي تبغي.

وقوله تعالى: « ألذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض اُولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار » وقوله تعالى: إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتَّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ. وقوله تعالى: الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً. أو كان يعرف شيئاً من أمثال هذه من كتاب الله لكان يعرف حدَّه ولم يتعدَّ طوره.

وممّا لا نشكّ فيه انَّ ابن حجر الذي يقول: لا شكَّ انَّ دعاءهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجابٌ لا يأوِّل الرِّواية بأنّه اُريد بها علم الكتاب لا العمل به، وإن أبى الزاعم إلّا ذلك؟ فيا هبلته الهبول.

وإنّا لا نعلم معنى « الحساب » وعلمه الذي جاء في هذه الرِّواية معطوفاً على الكتاب، فإمّا أن يُراد به تطبيق أفعاله وتروكه على نواميس الشريعة المقرَّرة، أو علمه بكلّ ما يُحاسب عليه الله عباده، فيخرج من العهدة من غير تبعة، أو أنَّه يُحاسب نفسه قبل أن يُحاسب بكلّ قول وعمل، أو أنّه يقسم بالسَّوية فيعطي كلَّ ذي حقّ حقَّه، ولا يحيف في مال الله، ولا يميل في أعطيات الناس بمحاباة أحد وقطع آخر من غير تخطٍّ عن سنن الحقّ، أو أنّه يعرف فروض المواريث الحسابيّة، أو أنّه يعلم بقواعد الحساب العددَّية من الجمع والضرب والتقسيم والتفريق والجبر والمقابلة والخطأين إلى أمثالها من اصول علم الحساب.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389