الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١١

الغدير في الكتاب والسنة والأدب14%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 402

الجزء ١ المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١
المقدمة
  • البداية
  • السابق
  • 402 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 153320 / تحميل: 3611
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ١١

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الجزء الحادي عشر

فيه بعد البحث عن جملة من مواقف معاوية المخزية

ومناقبه المختلقة، ومخاريق امّة اخرى، تراجم جمع من

أعلام الطائفة، ورجالات العلم، وصاغة القريض، وصيارفة الأدب،

تضمن فوائد تاريخيّة، وطرائف ادبيّة، وتحوي من الآثار

والمآثر نوادر هي الأوضاح والغرر في جبهة الدهر

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

حمداً لك يا إلهَ الخلق! و بكَ أستفتحُ وَ بِكَ أستنجحُ،

أنطقني بِالهُدى، و ألهِمني التَّقوَى، وَ وفِّقني لِلّتي هي

أزْكىَ، و استَعملني بِما هُوَ أرْضىَ، وَ اسلك بي الطَّريقة

المثلى، وَ سَيِّرني في أقربِ الطُّرق للوُفود إلَيك، و اجعلني

على وِلاَيتك وَ وِلايَةِ نَبيِّك نَبِيِّ الرَّحمَةِ و عترتِهِ

الطاهِرَةِ المـُطَهَّرةِ صَلواتُك عَليهِم أجمَعين أموتُ و أحيى،

و ما توفيقي إلّا بِكَ عَليك تَوكّلتُ.

الأمينى

٢

يتبع الجزء العاشر

مواقف معاوية

مع أبي محمّد الحسن السبطعليه‌السلام

إنَّ لابن آكلة الأكباد مع السبط المجتبى مواقف تقشعرُّ منها الجلود، وتقفّ منها الشعور، وتندى منها جبهة الإنسانيّة، ويلفظها الدين والحفاظ، وينبذها العدل و الإحسان، وينكرها كرم الاُرومة وطيب المحتد، ارتكبها معاوية مستسهلاً كلّ ذلك، مستهيناً بامر الدين والمروءة.

مَن هو الحسنعليه‌السلام ؟

لا أقلّ من أن يكون هو سلام الله عليه أوحديّاً من المسلمين، وأحد حملة القرآن، وممّن أسلم وجهه لله وهو محسن، يحمل بين أضالعه علوم الشريعة، ومغازي الكتاب والسنَّة، والملكات الفاضلة جمعاء، وهو القدوة والاُسوة في مكارم الأخلاق، ومعالم الإسلام المقدّس، فمن المحظور في الدين الحنيف النيل منه، والوقيعة فيه، وايذائه، ومحاربته، على ما جاء لهذا النوع من المسلمين من الحدود في شريعة الله، فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم.

أضف إلى ذلك: انّه صحابيّ مبجّلٌ ليس في أعيان الصحابة بعد أبيه الطاهر من يماثله ويساجله، ودون مقامه الرفيع ما للصحابة عند القوم من العدالة والشأن الكبير، وأعظم فضائله: أنّه ليس بين لابتي العالم من يستحقّ الإمامة والاقتداء به واحتذاء مثاله يومئذ غيره، لفضله وقرابته. فهو أولى صحابيّ ثبت له ما أثبتوه لهم من الأحكام، فلا يجوز

٣

منافرته والصدّ عنه، والإعراض عن آرائه وأقواله، وارتكاب مخالفته، وما يجلب الأذى اليه من السبِّ له، والهتك لمقامه، واستصغار أمره.

زد عليه: أنّه سبط رسول الله وبضعته من كريمته سيّدة نساء العالمين، لحمه من لحمه، ودمه من دمه. فيجب على معتنقي تلك النبوَّة الخاتمة حفظ صاحب الرسالة فيه، والحصول على مرضاته، وهو لا يرضى إلّا بالحقِّ الصراح والدين الخالص.

وهوعليه‌السلام قبل هذه كلّها أحد أصحاب الكساء الّذين اذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

وهو أحد من أثنى عليهم الله بسورة هل أتى، الّذين يطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً.

وهو من ذوي قربى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين أوجب الله مودّتهم وجعلها أجر الرِّسالة.

وهو أحد مَن باهل بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصارى نجران كما جاء في الذكر الحكيم.

وهو أحد الثقلين اللّذين خلّفهما النبيّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين امَّته ليقتدى بهم و قال: ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا.

وهو من أهل بيت مثلهم في الامَّة مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق.

وهو من الّذين أوجب الله الصَّلاة عليهم في الفرائض، ومن لم يُصلِّ عليهم لا صلاة له.

وهو أحد من خاطبهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله: أنا حربٌ لمن حاربتم، وسلمٌ لمن سالمتم.

وهو أحد أهل خيمة خيّمها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: معشر المسلمين! أنا سلمٌ لمن سالم أهل الخيمة، حربٌ لمن حاربهم، وليّ لمن والاهم، لا يحبّهم إلّا سعيد الجدّ طيّب المولد، ولا يبغضهم إلّا شقيّ الجدّ رديء الولادة.

٤

وهو أحد ريحانتي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يشمّهما ويضمّهما إليه.

وهو وأخوه الطاهر سيّدا شباب اهل الجنَّة.

وهو حبيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأمر بحبّه قائلاً: اللّهم انّي اُحبّه فاحبّه، واحبّ من يحبّه.

وهو أحد السبطين كان جدّهماصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأخذهما على عاتقه ويقول: من أحبّهما فقد أحبَّني، ومن أبغضهما فقد أبغضني.

وهو أحد اللّذين أخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيدهما فقال: من أحبّني واحبَّ هذين وأباهما وامَّهما كان معي في درجتي يوم القيامة.

وهو أحد ابني رسول الله كان يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحسن والحسين ابناي من أحبَّهما أحبّني، ومن أحبّني أحبّه الله، ومن أحبّه الله أدخله الجنَّة، ومن أبغضهما أبغضني ومن أبغضني أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله النار(١)

هذا هو الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام وامّا معاوية ابن آكلة الأكباد فهو صاحب تلك الصحيفة السوداء التي مرّت عليك في الجزء العاشر ص ١٧٨ وأمّا جنايات معاوية على ذلك الإمام المطهَّر فقد سارت بها الركبان، وحفظ التاريخ له منها صحائف مشوّهة المجلى، مسودَّة الهندام. فهو الذي باينه وحاربه وانتزع حقّه الثابت له بالنصّ والجدارة، وخان عهوده التي اعترف بها عندما تنازل الإمامعليه‌السلام له بالصلح حقناً لدماء شيعته، وحرساً على كرامة اهل بيته، وصوناً لشرفه الّذي هو شرف الدين، وما كان يرمق اليه معاوية ويعلمه الامامعليه‌السلام بعلمه الواسع من انَّ الطاغية ليس بالذي يقتله إن استحوذ عليه، لكنّه يستبقيه ليمنَّ بذلك عليه، ثمّ يطلق سراحه، و هو بين أنيابه ومخالبه، حق يقابل به ما سبق له ولأسلافه طواغيت قريش يوم الفتح، فملكهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرقّاء له، ثمَّ منَّ عليهم وأطلقهم، فسمّوا الطلقاء وبقي ذلك سبّة عليهم إلى آخر الدهر، فراق داهية الأمويّين أن تكون تلك الشية ملصقة ببني هاشم سبّة عليهم، لكنّه أكدت آماله، وأخفقت ظنونه، وفشل ما ارتآه بهذا الصلح

____________________

١ - هذه الاحاديث تأتي باسانيدها ومصادرها في مسند المناقب ومرسلها انشاء الله.

٥

الذي كان من ولائده الإبقاء على شرف البيت الهاشمي، ودرأ العار عنهم، إلى نتايج مهمّة، كلّ منها كان يلزم الإمامعليه‌السلام بالصلح على كلّ حال، وإن كان معاوية هو الخائن المائن في عهوده ومواثيقه، والكائد الغادر بإلّه وذمّته، فعهد اليه ان لا يسبَّ أباه على منابر المسلمين، وقد سبّه وجعله سنّة متّبعة في الحواضر الإسلاميّة كلّها.

وعهد إليه أن لا يتعرّض بشيعة أبيه الطاهر بسوء، وقد قتّلهم تقتيلا، واستقرأهم في البلاد تحت كلِّ حجر ومدر، فطنّب عليهم الخوف في كلّ النواحي بحيث لو كان يقذف الشيعيّ باليهوديَّة لكان أسلم له من انتسابه إلى أبي تراب سلام الله عليه.

وعهد إليه أن لا يعهد إلى أحد بعده وكتب اليه سلام الله عليه: إن أنت أعرضت عمّا أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت، وأجريت لك ما شرطت، وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس:

وإن أحدٌ أسدى اليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا متَّ وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثمَّ الخلافة لك من بعدي، فأنت أولى الناس بها(١) ومع هذا عهد إلى جروه ذلك المستهتر الماجن بعد ما قتل الإمام السبط ليصفو له الجوّ.

ولّما تصالحا كتب به الحسن كتاباً لمعاوية صورته:

بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

هذا ما صالح عليه الحسن بن علي رضي الله عنهما معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلّم اليه ولاية المسلمين، على أن يعمل فيها بكتاب الله تعالى وسنَّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين المهديّين، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين، وعلى انّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله تعالى في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وعلى انَّ اصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا، وعلى معاوية بن

____________________

١ - شرح ابن ابى الحديد ٤: ١٣.

٦

أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه، وأن لا يبتغي للحسن بن عليّ ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غائلة سرّاً وجهرا، ولا يخيف أحداً منهم في افق من الآفاق، اشهد عليه فلان ابن فلان وكفى بالله شهيدا(١) فلمّا استقرَّ له الأمر ودخل الكوفة وخطب أهلها فقال: يا أهل الكوفة! أتراني قاتلتكم على الصَّلاة والزَّكاة و الحجِّ؟ وقد علمت انَّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون، ولكنّني قاتلتكم لأتأمَّر عليكم وعلى رقابكم ( إلى أن قال ): وكلُّ شرط شرطته فتحت قدميَّ هاتين(٢)

وقال أبو اسحاق السبيعي: انَّ معاوية قال في خطبته بالنخيلة: ألا انَّ كلّ شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدميّ هاتين لا أفي به(٣) قال ابو اسحاق: وكان والله غدّارا(٤) .

وكان الرجل ألدَّ خصماء ذلك السبط المفدّى، وقد خفر ذمّته، واستهان بأمره واستصغره، وهو الإمام العظيم، وقطع رحمه، وما راعى فيه جدَّه النّبي العظيم، ولا أباه الوصيَّ المقدَّم، ولا امّه الصدّيقة الطاهرة، ولا نفسه الكريمة التي اكتنفتها الفضائل والفواضل من شتّى نواحيها، ولم ينظر فيه ذمَّة الإسلام، ولا حرمة الصحابة، ولا مقتضى القرابة، ولا نصوص رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه، ولعمر الحقِّ لو كان مأموراً بقطعه وبغضه ومباينته لما وسعه أن يأتي بأكثر ممّا جاء به، وناء بعبأه، وباء بإثمه، فقد قنت بلعنه في صلواته التي تلعن صاحبها قال ابو الفرج: حدَّثني أبو عبيد محمّد ابن أحمد قال: حدَّثني الفضل بن الحسن المصري قال: حدَّثني يحيى بن معين قال: حدَّثني أبو حفص اللبّان عن عبد الرّحمن بن شريك عن اسماعيل بن أبي خالد عن حبيب بن أبي ثابت قال: خطب معاوية بالكوفة حين دخلها والحسن والحسين جالسان تحت المنبر فذكر عليّاً فنال منه، ثمَّ نال من الحسن، فقام الحسين ليردّ عليه فأخذه الحسن بيده فأجلسه ثمَّ قام فقال: أيّها الذاكر عليّاً! أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية و

____________________

١ - الصواعق لابن حجر ص ٨١.

٢ - راجع ما مر في الجزء العاشر ص ٣٢٩.

٣ - شرح ابن ابى الحديد ٤: ١٦.

٤ - راجع ما أسلفناه في الجزء العاشر ص ٢٦٢.

٧

أبوك صخر، وامّي فاطمة وامّك هند، وجدّي رسول الله وجدّك عتبة بن ربيعة، و جدّتي خديجة قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكراً، وألأمنا حسباً، وشرّنا قديماً وحديثاً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً. فقال طوائف من أهل المسجد: آمين. قال الفضل: قال يحيى بن معين: وأنا أقول: آمين. قال أبو الفرج: قال أبو عبيد قال الفضل: وأنا أقول: آمين، ويقول علي بن الحسين الاصفهاني: آمين. قلت: ويقول عبد الحميد بن ابي الحديد مصنف هذا الكتاب: آمين(١) قال الأميني: وأنا أقول: آمين.

وآخر ما نفض به كنانة غدر الرجل أن دسّ إليهعليه‌السلام السمَّ النقيع، فلقي ربَّه شهيداً مكموداً، وقد قطع السّم أحشاؤه.

قال ابن سعد في الطبقات: سمّه معاوية مراراً، لأنّه كان يقدم عليه الشام هو وأخوه الحسين.

وقال الواقدي: انّه سَقي سمّاً ثمَّ أفلت، ثمَّ سُقي فأفلت، ثمَّ كانت الآخرة توفي فيها، فلمّا حضرته الوفاة قال الطبيب وهو يختلف اليه: هذا رجلٌ قطع السمّ أمعائه، فقال الحسين: يا أبا محمّد! أخبرني من سقاك؟! قال: ولِمَ يا أخي؟ قال: أقتله والله قبل أن أدفنك، وإن لا أقدر عليه أو يكون بأرض أتكلّف الشخوص إليه. فقال: يا أخي! إنّما هذه الدنيا ليال فانية، دعه حتى ألتقي أنا وهو عند الله، وأبى أن يسميّه. وقد سمعت بعض من يقول: كان معاوية قد تلطّف لبعض خدمه أن يسقيه سمّاً(٢) .

وقال المسعودي: لمـّا سُقي السمّ فقام لحاجة الإنسان ثمَّ رجع فقال: لقد سقيت السمَّ عدَّة مرار فما سُقيت مثل هذه، لقد لفظت طائفة من كبدي فرأيتني اُقلّبه بعود في يدي، فقال له الحسين: يا أخي! من سقاك؟ قال: وما تريد بذلك؟ فإن كان الّذي أظنّه فالله حسيبه، وإن كان غيره فما اُحبُّ أن يؤخذ بي بريءٌ. فلم يلبث بعد ذلك إلا ثلاثاً حتى توفي رضي الله عنه. وذكر: أنَّ امرأته جعدة بنت أشعث بن قيس الكندي سقته السمَّ، وقد كان معاوية دسّ اليها انّك إن احتلت في قتل الحسن وجّهت اليكِ

____________________

١ - شرح ابن ابى الحديد ٤: ١٦.

٢ - تاريخ ابن كثير ٨: ٤٣.

٨

بمائة ألف درهم، وزوَّجتكِ يزيد فكان ذلك الّذي بعثها على سمّه، فلمّا مات الحسن وفى لها معاوية بالمال وأرسل اليها: إنّا نحبُّ حياة يزيد ولولا ذلك لوفينا لكِ بتزويجه.

وذكر: انَّ الحسن قال عند موته: لقد حاقت شربته، وبلغ اُمنيّته، والله ما وفى بما وعد، ولا صدق فيما قال. وفي فعل جعدة يقول النجاشي الشاعر وكان من شيعة عليّ في شعر طويل:

جعدة بكيّه ولا تسأمي

بعد بكاء المعول الثاكلِ(١)

لم يسبل الستر على مثله

في الأرض من حافٍ ومن ناعلِ

كان إذا شبَّت له ناره

يرفعها بالسند الغاتلِ(٢)

كيما يراها بائسٌ مرملٌ

وفرد قوم ليس بالآهلِ

يغلي بنئ اللحم حتى إذا

أنضج لم يغل على آكلِ

أعني الذي أسلمنا هلكه

للزمن المستخرج الماحلِ(٣)

قال أبو الفرج الأصبهاني: كان الحسن شرط على معاوية في شروط الصلح: أن لا يعهد إلى أحد بالخلافة بعده، وأن تكون الخلافة له من بعده، وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد، فلم يكن شيىء أثقل عليه من أمر الحسن بن علي وسعد بن أبي وقّاص فدسَّ اليهما سمّاً فماتا منه، أرسل إلى ابنة الأشعث انِّي مزوِّجك بيزيد ابني على أن تسمّ الحسن. وبعث إليها بمائة ألف درهم، فسوَّغها المال ولم يزوِّجها منه. مقاتل الطالبيّين ص ٢٩. وحكاه عنه ابن ابي الحديد في شرح النهج ٤: ١١، ١٧ من طرق مغيرة و أبي بكر بن حفص.

وقال ابو الحسن المدائني: كانت وفاته في سنة ٤٩ وكان مريضاً أربعين يوماً وكان سنّه سبعاً وأربعين سنة، دسّ إليه معاوية سمّا على يد جعدة بنت الأشعث زوجة

____________________

١ - فى تاريخ ابن كثير: بكاء حق ليس بالباطل.

٢ - فى تاريخ ابن كثير: يرفعها بالنسب الماثل.

٣ - مروج الذهب ٢: ٥٠.

٩

الحسن، وقال لها: إن قتلتيه بالسمّ فلك مائة الف، و ازوّجك يزيد إبني. فلمّا مات وفى لها بالمال ولم يزوّجها من يزيد، وقال: أخشى أن تصنعي بابني ما صنعت بابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [ شرح ابن ابي الحديد ٤: ٤ ].

وقال: كان الحصين بن المنذر الرقاشي يقول: والله ما وفى معاوية للحسن بشىء ممّا أعطاه، قتل حُجراً وأصحاب حُجر، وبايع لابنه يزيد، وسمَّ الحسن. شرح ابن ابي الحديد ٤: ٧.

وقال أبو عمر في الاستيعاب ١: ١٤١: قال قتادة وأبو بكر بن حفص: سُمّ الحسن بن عليّ، سمّته امرئته بنت الأشعث بن قيس الكندي. وقالت طائفة: كان ذلك منها بتدسيس معاوية إليها وما بذل لها في ذلك وكان لها ضرائر فالله أعلم. ثمَّ ذكر صدر ما رواه المسعودي.

وقال سبط ابن الجوزي في التذكرة ص ١٢١: قال علماء السير منهم: ابن عبد البرّ سمّته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي. وقال السُدي: دسّ اليها يزيد بن معاوية أن سمِّي الحسن وأتزوَّجك. فسمَّته فلمّا مات ارسلت إلى يزيد تسئله الوفاء بالوعد فقال: أنا والله ما أرضاك للحسن، أفنرضاك لأنفسنا؟ وقال الشعبي: إنّما دسّ اليها معاوية فقال: سمِّي الحسن وازوِّجكِ يزيد واعطيكِ مائة الف درهم، فلمّا مات الحسن بعثت إلى معاوية تطلب انجاز الوعد، فبعث إليها بالمال وقال: إنّي احبُّ يزيد، وأرجو حياته، ولولا ذلك لزوَّجتك إيّاه.

وقال الشعبي: ومصداق هذا القول: انَّ الحسن كان يقول عند موته وقد بلغه ما صنع معاوية: لقد عملت شربته وبلغت اُمنيَّته، والله لا يفي بما وعد، ولا يصدق فيما يقول. ثمَّ حكى عن طبقات ابن سعد: انَّ معاوية سمَّه مراراً كما مرّ.

وقال ابن عساكر في تاريخه ٤: ٢٢٩ يقال:: إنَّه سقي السمَّ مراراً كثيراً فافلت منه ثمَّ سقي المرَّة الأخيرة فلم يفلت منها. ويقال: إنَّ معاوية قد تلطّف لبعض خدمه أن يسقيه سمّاً فسقاه فأثّر فيه حتى كان يوضع تحته طست ويرفع نحواً من أربعين مرَّة.

وروى محمّد بن المرزبان: انَّ جعدة بنت الأشعث بن القيس كانت متزوّجة بالحسن فدسَّ

١٠

اليها يزيد أن سمّي الحسن وأنا أتزوَّجك ففعلت، فلمّا مات الحسن بعثت إلى يزيد تسأله الوفاء بالوعد فقال لها: إنّا والله لم نرضك للحسن فكيف نرضاك لأنفسنا؟ فقال كثير، ويروى انّه للنجاشي:

يا جعدة! ابكي ولا تسأمي

بكاء حقّ ليس بالباطلِ

لن تستري البيت على مثله

في الناس من حافٍ ولا ناعلِ

أعني الذي أسلمه أهله

للزمن المستخرج الماحلِ

كان إذا شبَّت له ناره

يرفعها بالنسب الماثلِ

كيما يراها بائسٌ مرملٌ

او وفد قوم ليس بالآهلِ

يغلي بنيء اللحم حتى إذا

أنضج لم يغل على آكلِ

وروى المزّي في تهذيب الكمال في أسماء الرجال عن امّ بكر بنت المسور قالت: سُقي الحسن مراراً وفي الآخرة مات فانّه كان يختلف كبده، فلمّا مات أقام نساء بني هاشم عليه النوح شهراً. وفيه عن عبد الله بن الحسن: قد سمعت من يقول: كان معاوية قد تلطّف لبعض خدمه أن يسقيه سمّا. وقال أبو عوانة عن مغيرة عن أمّ موسى: إنَّ جعدة بنت الأشعث سقت الحسن السمَّ فاشتكى منه أربعين يوماً.

وفي ( مرئاة العجائب وأحاسن الأخبار الغرائب )(١) قيل: كان سبب موت الحسن ابن عليّ من سمٍّ سمَّ به يقال: إنَّ زوجته جعدة بنت الأسود بن قيس الكندي سقته إيّاه، ويذكر والله أعلم بحقيقة امورهم: انّ معاوية دسّ اليها بذلك على أن يوجّه لها مائة الف درهم ويزوِّجها من ابنه يزيد، فلمّا مات الحسن وفى لها معاوية بالمال وقال: إنِّي اُحبّ حياة يزيد. وذكروا: انّ الحسن قال عند موته: لقد حاقت شربته والله لا وفاء لها بما وعد ولا صدق فيما قال. وفي سمّه يقول رجل من الشيعة:

تعرِّفكم لك من سلوة

تفرِّج عنك قليل الحزَنْ

بموت النبيِّ وقتل الوصيِّ

وقتل الحسين وسمّ الحسنْ

وقال الزمخشري في ( ربيع الأبرار ) في الباب الحادي والثمانين: جعل معاوية

____________________

١ - تأليف الشيخ أبى عبد الله محمد بن عمر زين الدين.

١١

لجعدة بنت الأشعث امرأة الحسن مائة الف درهم حتّى سمّته، ومكث شهرين وانَّه يرفع من تحته طستاً من دم وكان يقول: سُقيت السمَّ مراراً ما أصابني فيها ما أصابني في هذه المرَّة، لقد لفظت كبدي.

وفي ( حسن السريرة )(١) : لمـّا كان سنة سبع وأربعين من الهجرة دسَّ معاوية إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي زوجة الحسن بن عليّ أن تسقي الحسن السمَّ ويوجّه لها مائة الف ويزوّجها من ابنه يزيد. ففعلت ذلك.

كان معاوية يرى أمر الإمام السبطعليه‌السلام حجر عثرة في سبيل امنيَّته الخبيثة بيعة يزيد، ويجد نفسه في خطر من ناحيتين: عهده إليهعليه‌السلام في الصلح معه بأن لا يعهد إلى أحد من جانب، وجدارة أبي محمّد الزكيّ ونداء الناس به من ناحية اُخرى، فنجّى نفسه عن هذه الورطة بسمِّ الإمامعليه‌السلام ، ولمـّا بلغه نعيه غدا مستبشراً، وأظهر الفرح والسرور وسجد وسجد من كان معه.

قال ابن قتيبة: لمـّا مرض الحسن بن عليّ مرضه الذي مات فيه، كتب عامل المدينة إلى معاوية يخبره بشكاية الحسن، فكتب إليه معاوية: إن استطعت أن لا يمضي يومٌ بي يمرُّ إلّا يأتيني فيه خبره فأفعل. فلم يزل يكتب اليه بحاله حتّى توفي فكتب اليه بذلك، فلمّا أتاه الخبر أظهر فرحاً وسروراً حتّى سجد وسجد من كان معه، فبلغ ذلك عبد الله ابن عبّاس وكان بالشام يومئذ فدخل على معاوية فلمّا جلس قال معاوية: يا ابن عبّاس هلك الحسن بن علي؟ فقال ابن عبّاس: نعم هلك، إنّا لله وإنّا إليه راجعون. ترجيعاً مكرّراً، وقد بلغني الّذي أظهرت من الفرح والسرور لوفاته، أما والله ما سدّ جسده حفرتك، ولا زاد نقصان أجله في عمرك، ولقد مات وهو خيرٌ منك، ولئن اُصبنا به لقد اُصبنا بمن كان خيراً منه جدُّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجبر الله مصيبته، وخلف علينا من بعده أحسن الخلافة. ثمَّ شهق ابن عبّاس وبكى. الحديث(٢) .

____________________

١ - ألفه الشيخ عبد القادر بن محمد بن الطبرى ابن بنت محب الدين الطبرى مؤلف الرياض النضرة.

٢ - الامامة والسياسة ١: ١٤٤.

١٢

وفي العقد الفريد ٢: ٢٩٨: لمـّا بلغ معاوية موت الحسن بن عليّ خرَّ ساجداً لِلَّه، ثمَّ أرسل إلى ابن عبّاس وكان معه في الشام فعزّاه، وهو مستبشرٌ. وقال له: ابن كم سنة مات أبو محمّد؟ فقال له: سنّه كان يُسمع في قريش فالعجب من أن يجهله مثلك قال: بلغني انّه ترك أطفالاً صغاراً، قال: كلُّ ما كان صغيراً يكبر، وإنَّ طفلنا لكهل وإنَّ صغيرنا لكبير، ثمَّ قال: مالي أراك يا معاوية! مستبشراً بموت الحسن بن عليّ؟ فوالله لا ينسأ في أجلك، ولا يسدّ حفرتك، وما أقلَّ بقائك وبقائنا بعده؟ وذكره الراغب في المحاضرات ٢: ٢٢٤.

وفي حياة الحيوان ١: ٥٨، وتاريخ الخميس ٢: ٢٩٤، وفي ط: ٣٢٨: قال ابن خلكان: لمـّا مرض الحسن كتب مروان بن الحكم إلى معاوية بذلك وكتب إليه معاوية: أن أقبل المطيَّ إليَّ بخبر الحسن، فلمّا بلغ معاوية موته سمع تكبيرة من الخضراء فكبّر أهل الشام لذلك التكبير فقالت فاختة بنت قريظة لمعاوية: أقرّ الله عينك، ما الذّي كبّرت لأجله؟ فقال: مات الحسن. فقالت: أعلى موت ابن فاطمة تكبّر؟ فقال: ما كبّرت شماتة بموته، ولكن استراح قلبي(١) . ودخل عليه ابن عبّاس فقال: يا ابن عبّاس! هل تدري ما حدث في أهل بيتك؟ قال: لا أدري ما حدث إلّا انّي أراك مستبشراً وقد بلغني تكبيرك، فقال: مات الحسن. فقال ابن عبّاس: رحم الله أبا محمّد. ثلاثاً، والله يا معاوية! لا تسدّ حفرته حفرتك، ولا يزيد عمره في عمرك، ولئن كنّا اُصبنا بالحسن فلقد اُصبنا بامام المتقين وخاتم النبيّين، فجبر الله تلك الصدعة وسكّن تلك العبرة، وكان الخلف علينا من بعده. اهـ

وكان ابن هند جذلاناً مستبشراً بموت الامام أمير المؤمنينعليه‌السلام قبل ولده الطاهر السبط، فبلغ الحسنعليه‌السلام وكتب اليه فيما كتب: قد بلغني انك شمتَّ بما لا يشمت به ذوو الحجى، وإنّما مثلك في ذلك كما قال الأوّل:

وقل للّذي يبقى خلاف الذي مضى

: تجهّز لاُخرى مثلها فكأن قدِ

____________________

١ - الى هاهنا ذكره الزمخشري ايضاً فى ( ربيع الابرار ) فى الباب الحادى والثمانين، و البدخشى فى ( نزل الابرار ).

١٣

وإنّا ومن قد مات منّا لكالّذي

يروح فيمسي في المبيت ليقتدي

ولإرضاء معاوية منع ذلك الإمام الزكيّ عن أن يقوم أخوه الحسين السبط بانجاز وصيّته ويدفنه في حجرة أبيه الشريفة التي هي له، وهو أولى إنسان بالدفن فيها، قال ابن كثير في تاريخه ٨: ٤٤: فأبى مروان أن يدعه، ومروان يومئذ معزول يريد أن يرضي معاوية. وقال ابن عساكر ٤: ٢٢٦ قال ( مروان ): ما كنت لأدع ابن أبي تراب يدفن مع رسول الله، قد دفن عثمان بالبقيع، ومروان يومئذ معزولٌ يريد أن يرضي معاوية بذلك، فلم يزل عدوًّا لبني هاشم حتى مات.اهـ

هذه نماذج من جنايات معاوية على ريحانة الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولعلَّ فيما أنساه التاريخ أضعافها، وهل هناك مسائلٌ ابن حرب عمّا اقترفه السبط المجتبى سلام الله عليه من ذنب استحقَّ من جرّائه هذه النكبات والعظائم؟ وهل يسع ابن آكلة الأكباد أن يعدَّ منه شيئاً في الجواب؟ غير انّهعليه‌السلام كان سبط محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد عطّل دين آباء الرجل الذي فارقه كرهاً ولم يعتنق الإسلام إلّا فرقا، وانّه شبل عليّ خليفة الله في أرضه بعد نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الّذي مسح أسلافه الوثنيين بالسيف، وأثكلت امّهات البيت الأمويّ بأجريتهم، ولمـّا ينقضي حزن معاوية على اولئك الطغمة حتى تشفّى بأنواع الأذى التي صبّها على الإمام المجتبى إلى أن اغتاله بالسمِّ النقيع، ولم يملك نفسه حتّى استبشر بموته، وسجد شكراً، وأنا لا أدري أللاته سجد أم لله سبحانه؟ وانّ لسان حاله كان ينشد ما تظاهر به مقول نغله يزيد:

قد قتلت القرم من ساداتهم

وعدلنا ميل بدر فاعتدلْ

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسلْ

لعبت هاشم بالملك فلا

خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزلْ

وانّه بضعة الزهراء فاطمة الصدِّيقة حبيبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنها نسله الّذين ملأوا الدنيا أوضاحاً وغرراً من الحسب الوضّاء، والشرف الباذخ، والدين الحنيف، كلُّ ذلك ورغبات معاوية على الضدِّ منها، وما تغنيه الآيات والنذر.

وفي الذكر الحكيم:( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَکَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ

١٤

، وَ إِنْ يَرَوْا کُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذٰلِکَ بِأَنَّهُمْ کَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَ کَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ‌ )

الأعراف: ١٤٦

١٥

معاوية

وشيعة أمير المؤمنين

عليّ بن ابيطالبعليه‌السلام

لم يبرح معاوية مستصغراً كلَّ كبيرة في توطيد سلطانه، مستسهلّا دونه كلّ صعب، فكان من الهيِّن عنده في ذلك كلّ بائقة، ومن ذلك دؤبه على سفك دماء الشيعة - شيعة الإمام الطاهر - في أقطار حكومته، وفي جميع مناطق نفوذه، واستباحة أموالهم وأعراضهم، وقطع اصولهم بقتل ذراريهم وأطفالهم، ولم يستثن النساء، وهم المعنيّون بثناء صاحب الرِّسالةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم السابقة أحاديثه في الجزء الثالث ص ٧٨ ط ٢.

وهب أنَّ هذا الثناء لم يصدر من مصدر النبوَّة، أو أنَّ روايته لم تبلغ ابن آكلة الأكباد، فهل هم خارجون عن ربقة الإسلام المحرِّم للنفوس والأموال والحرمات بكتابه وسنة نبيّه؟ وهل اقترفوا إثما لا يغفر أو عثروا عثرة لاُ تقال غير ولا يتهم لإمام أجمع المسلمون على خلافته وحثَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُمَّته على اتِّباعه وولاءه إثر ما نزل في كتاب الله من ولايته؟ أو أنَّ ابن صخر حصل على حكم لم يعرفه المسلمون يعارض كلَّ تلكم الأحكام الواردة في الكتاب والسنَّة؟ أو انَّه لا يتحوّب بارتكاب الموبقات فيلغ في الدِّماء ولوغا؟!.

بعث بُسر بن أرطاة بعد تحكيم الحكمين، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ حيُّ، وبعث معه جيشاً آخر، وتوجّه برجل من عامر ضمّ اليه جيشاً آخر، ووجّه الضحّاك بن قيس الفهري في جيش آخر، وأمرهم أن يسيروا في البلاد فيقتلوا كلّ من وجدوه من شيعة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وأصحابه، وأن يغيروا على سائر أعماله، ويقتلوا أصحابه، ولا يكفّوا أيدهم عن النساء والصبيان. فمّر بُسر لذلك على وجهه حتّى انتهى إلى المدينة فقتل بها ناساً من أصحاب عليّعليه‌السلام وأهل هواه، وهدم بها دوراً، ومضى إلى مكّة فقتل نفراً من آل أبي لهب، ثمّ أتى السّراة فقتل مَن بها من أصحابه، وأتى نجران فقتل عبد الله بن عبد المدان الحارثي وابنه، وكانا من

١٦

أصهار بني العبّاس عامل عليّعليه‌السلام ، ثمَّ أتى اليمن وعليها عبيد الله بن العبّاس عامل عليّ بن أبي طالب وكان غائباً، وقيل: بل هرب لمـّا بلغه خبر بُسر فلم يصادفه بُسر ووجد ابنين له صبيَّين فأخذهما بُسر لعنه الله(١) وذبحهما بيده بمدية كانت معه، ثمَّ انكفأ راجعاً إلى معاوية.

وفعل مثل ذلك سائر من بعث به، فقصد العامريّ إلى الأنبار فقتل ابن حسّان البكري وقتل رجالاً ونساء من الشيعة قال أبو صادقة(٢) أغارت خيلٌ لمعاوية على الأنبار فقتلوا عاملاً لعليّعليه‌السلام يقال له: حسّان بن حسّان، وقتلوا رجالاً كثيراً ونساءً، فبلغ ذلك عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه فخرج حتّى أتى المنبر فرقيه فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قال:

إنَّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذلّة، وشمله البلاء، وريب بالصغار، وسيم الخسف، وقد قلت لكم: أغزوهم قبل أن يغزوكم فانَّه لم يغز قومُ قطُّ في عُقر دارهم إلّا ذلّوا.فتواكلتم وتخاذلتم وتركتم قولي ورائكم ظهريّا، حتّى شنَّت عليكم الغارات، هذا أخو عامر قد جاء الأنبار فقتل عاملها حسّان بن حسّان وقتل رجالاً كثيراً ونساءً، والله بلغني انّه كان يأتي المرأة المسلمة والاُخرى المعاهدة فينزع حجلها ورعاثها ثمّ ينصرفون موفورين لم يكلم أحدٌ منهم كلماً، فلو أنَّ امرءاً مسلماً مات دون هذا أسفاً لم يكن عليه ملوماً بل كان به جديرا. الحديث.

أصاب امّ حكيم بنت قارظ - زوجة عبيد الله - ولهٌ على ابنيها فكانت لا تعقل ولا تصغي إلّا إلى قول من أعلمها انَّهما قد قُتلا، ولا تزال تطوف في المواسم تنشد الناس ابنيها بهذه الأبيات:

يا من أحسّ بابنيَّ اللّذين هما

كالدرَّتين تشظّى عنهما الصدفُ

يا من أحسّ بابنيَّ اللّذين هما

سمعي وقلبي فقلبي اليوم مردهفُ

يا من أحسّ بابنيَّ اللّذين هما

مخّ العظام فمخّي اليوم مختطفُ

____________________

١ - كذا جاء فى غير موضع من لفظ الحديث.

٢ - أخرجه أبو الفرج مسنداً حذفنا إسناده روما للاختصار.

١٧

نُبّئت بُسراً وما صدَّقت ما زعموا

من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا

انحى على ودجي ابنيّ مرهفة

مشحوذة وكذاك الإفك يقترفُ

حتّى لقيت رجالاً من اُرومته

شمّ الاُنوف لهم في قومهم شرفُ

فالآن ألعن بُسراً حقّ لعنته

هذا لعمر أبي بُسر هو السَّرفُ

من دلَّ والهة حرّى مولّهة

على صبيّين ضلّا إذ غدا السّلفُ

قالوا: ولمـّا بلغ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام قتل بُسر الصبيّين جزع لذلك جزعاً شديدا، ودعا على بُسر لعنه الله فقال: اللّهم اسلبه دينه، ولا تخرجه من الدنيا حتّى تسلبه عقله. فأصابه ذلك وفقد عقله، وكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب ويجعل بين يديه زقّ منفوخ فلا يزال يضربه حتّى يسأم(١) .

صورة مفصَّلة

لقد أشنَّ الغارة معاوية على شيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام سنة ٣٩ وفرّق جيوشه في أصقاع حكومتهعليه‌السلام واختار اُناسا ممَّن لا خَلاق لهم لقتل أولئك الأبرياء أينما كانوا وحيثما وُجدوا، فوجَّه النعمان بن بشير في ألف رجل إلى عين التمر.

ووجّه سفيان بن عوف في ستَّة آلاف وأمره أن يأتي ( هيت ) فيقطعها ثمَّ يأتي الأنبار والمدائن فيوقع بأهلها فأتى ( هيت ) ثمَّ أتى الأنبار وطمع في أصحاب عليّعليه‌السلام لقتلهم فقاتلهم فصبر أصحاب عليّ ثمَّ قُتل صاحبهم أشرس بن حسّان البكري وثلاثون رجلاً، واحتملوا ما في الأنبار من أموال أهلها ورجعوا إلى معاوية.

ووجّه عبد الله بن مسعدة بن حكمة الفزاري ( وكان أشدّ الناس على عليّ ) في ألف وسبعمائة إلى ثيماء، وأمره أن يصدق من مرَّ به من أهل البوادي ويقتل من امتنع، ففعل ذلك وبلغ مكّة والمدينة وفعل ذلك.

ووجّه الضحّاك بن قيس وأمره أن يمرّ بأسفل واقصة ويغير على كلّ من مرَّ به ممَّن هو في طاعة عليّعليه‌السلام من الأعراب، وأرسل ثلاثة آلاف رجل معه فسار الناس

____________________

١ - الاغاني ١٥: ٤٤ - ٤٧، تاريخ ابن عساكر ٣: ٢٢٣، الاستيعاب ١: ٦٥، النزاع والتخاصم ص ١٣، تهذيب التهذيب ١: ٤٣٥، ٤٣٦.

١٨

وأخذ الأموال، ومضى إلى الثعلبيَّة وقتل وأغار على مسلحة عليّ، وانتهى إلى القطقطانة، فلمّا بلغ عليّاً أرسل إليه حُجر بن عدي في أربعة آلاف فلحق الضّحاك بتدمر فقتل منهم تسعة عشر رجلاً، وقُتل من أصحابه رجلان، وحجز بينهما الليل فهرب الضحّاك وأصحابه ورجع حُجر ومَن معه.

ووجّه عبد الرَّحمن بن قباث بن أشيم إلى بلاد الجزيرة وفيها شيب بن عامر جد الكرماني الذي كان بخراسان، فكتب إلى كميل بن زياد وهو بهيت يعلمه خبرهم، فقاتله كميل وهزمه وغلب على عسكره، وأكثر القتل في أهل الشام وأمر أن لا يُتبع مدبرٌ ولا يُجهز على جريح.

ووجّه الحرث بن نمر التنوخي إلى الجزيرة ليأتيه بمن كان في طاعة عليّ، فأخذ من اهل دارا سبعة نفر من بني تغلب فوقع هناك من المقتلة ما وقع.

ووجّه زهير بن مكحول العامري إلى السَّماوة، وأمره أن يأخذ صدقات الناس فبلغ ذلك عليّاً فبعث ثلاثة منهم جعفر بن عبد الله الأشجعي ليصدقوا مَن في طاعته من كلب وبكر، فوافوا زهيراً فاقتتلوا فانهزم أصحاب عليّ وقتل جعفر بن عبد الله.

وبعث سنة ٤٠ بُسر بن أرطاة في جيش فسار حتّى قدم المدينة وبها أبو أيّوب الأنصاري عامل عليّ عليها، فهرب أبو أيّوب فأتى عليّاً بالكوفة، ودخل بُسر المدينة ولم يُقاتله أحدٌ فصعد منبرها فنادى عليه: يا دينار! ويا نجار! ويا زريق!(١) شيخي شيخي عهدي به بالأمس فأين هو؟ يعني عثمان - ثمَّ قال: يا أهل المدينة! والله لولا ما عهد إليَّ معاوية ما تركت بها محتلماً إلّا قتلته. فأرسل إلى بني سلمة فقال: والله ما لكم عندي أمانُ حتى تأتوني بجابر بن عبد الله. فانطلق جابر إلى امّ سلمة زوج النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لها: ماذا ترين؟ انّ هذه بيعة ضلالة وقد خشيت أن اُقتل. قالت: أرى أن تبايع فانِّي قد أمرت ابني عمر بن أبي سلمة وختني عبد الله بن زمعة أن يبايعا، فأتاه جابر فبايعه، وهدم بُسر دوراً بالمدينة، ثمَّ سار إلى مكّة فخاف أبو موسى أن يقتله فهرب، وكتب أبو موسى إلى اليمن: إنَّ خيلاً مبعوثةٌ من عند معاوية تقتل الناس، تقتل

____________________

١ - هذه بطون من الانصار.

١٩

من أبى أن يقرّ بالحكومة. ثمّ مضى بُسر إلى اليمن وكان عليها عبيد الله بن عبّاس عاملّا لعليّ فهرب منه إلى عليّ بالكوفة، واستخلف عبد الله بن عبد المدان الحارثي فأتاه بُسر فقلته وقتل ابنه، ولقي بُسر ثقل عبيد الله بن عبّاس وفيه ابنان له صغيران فذبحهما وهما: عبد الرّحمن وقثم، وقال بعضٌ: إنّه وجدهما عند رجل من بني كنانه بالبادية فلمّا أراد قتلهما قال له الكناني: لِمَ تقتل هذين ولا ذنب لهما؟ فإن كنت قاتلهما فأقتلني معهما، قال: أفعل. فبدأ بالكناني فقتله ثمَّ قتلهما. فخرجت نسوةٌ من بني كنانة فقالت أمرأة منهنّ: يا هذا! قتلتَ الرِّجال، فعلامَ تقتل هذين؟ والله ما كانوا يقتلون في الجاهليّة والإسلام، والله يا بن أرطاة إنَّ سلطاناً لا يقوم إلّا بقتل الصبيّ الصغير، والشيخ الكبير، ونزع الرَّحمة، وعقوق الأرحام، لسلطان سوء، وقتل بُسر في مسيره ذلك جماعة من شيعة علىّ باليمن وبلغ عليّاً الخبر.

تاريخ الطبري ٦: ٧٧ - ٨١، كامل ابن الأثير ٣: ١٦٢ - ١٦٧، تاريخ ابن عساكر ٣: ٢٢٢، ٤٥٩، الإستيعاب ١: ٦٥، ٦٦، تاريخ ابن كثير ٧: ٣١٩ - ٣٢٢، وفاء الوفاء ١: ٣١.

وقال ابن عبد البرّ في الاستيعاب ١: ٦٥: كان يحيى بن معين يقول: كان بُسر بن أرطاة رجل سوء. قال أبو عمر: ذلك لاُمور عظام ركبها في الإسلام فيما نقل أهل الأخبار وأهل الحديث أيضاً منها: ذبحه ابني عبد الله بن العبّاس وهما صغيران بين يدي امّهما. وقال الدارقطني: لم تكن له استقامة بعد النبيّ عليه الصَّلاة والسَّلام وهو الذي قتل طفلين لعبيد الله بن العبّاس. وقال أبو عمرو الشيباني: لمـّا وجّه معاوية بن أبي سفيان بُسر بن أرطاة الفهري لقتل شيعة عليّ رضي الله عنه قام اليه معن أو عمرو بن يزيد السلمي وزياد بن الأشهب الجعدي فقال: يا أمير المؤمنين! نسألك بالله والرَّحم أن تجعل لبُسر على قيس سلطاناً فيقتل قيساً بما قتلت به بنو سليم من بني فهر وكنانة يوم دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة. فقال معاوية: يا بُسر لا إمرة لك على قيس فسار حتّى أتى المدينة فقتل ابني عبيد الله وفرَّ أهل المدينة ودخلوا الحرّة حرّة بني سليم. ( قال أبو عمرو ): وفي هذه الخرجة التي ذكر أبو عمرو الشيباني أغار بُسر بن أرطاة على همدان

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

منقصة في الطبيعة المأمور بها لاجل تشخصها في هذا القسم بمشخص غير ملائم لها كما في الصلاة في الحمام فان تشخصها بتشخص وقوعها فيه لا يناسب كونها معراجا وان لم يكن نفس الكون في الحمام في الصلاة بمكروه ولا حزازة فيه اصلا بل كان راجحا كما لا يخفى وربما يحصل لها لاجل تخصصها بخصوصية شديدة الملائمة معها مزية فيها كما في الصلاة في المسجد والامكنة الشريفة، وذلك لان الطبيعة المأمور بها في حد نفسها إذا كانت مع تشخص لا يكون له شدة الملائمة ولا عدم الملائمة لها مقدار من المصلحة والمزية كالصلاة في الدار مثلا وتزداد تلك المزية فيما كان تشخصها بما له شدة الملائمة وتنقص فيما إذا لم تكن له ملائمة ولذلك ينقص ثوابها تارة ويزيد أخرى ويكون النهي فيه لحدوث نقصان في مزيتها فيه

______________________________

(قوله: منقصة في الطبيعة) يعني نقصا في وفاء الطبيعة المأمور بها بالمرتبة الخاصة من المصلحة التي تفي بها لو لم تكن متشخصة بذلك المشخص ولا بد من أن يكون المقدار الفائت مما لا يجب تداركه وإلا كان النهي تحريميا لو لم يمكن تداركه. أولا يصح النهي أصلا لو أمكن تداركه بل يكون المكلف مخيرا بين فعل الفرد المذكور مع التدارك وبين فعل غيره من الافراد، ومن أن يكون المقدار الباقي الذي يحصله الفرد ملزما وإلا كان مستحبا لا فردا للواجب (قوله: وربما يحصل) شروع في دفع اشكال اجتماع الوجوب والاستحباب في العبادات المستحبة (قوله: ولذلك ينقص) قد تقدم ان الثواب والعقاب بمراتبهما ليسا تابعين لمراتب المصلحة والمفسدة بل هما تابعان لمراتب الانقياد والتجري نعم مراتب التجري تختلف باختلاف مراتب الاهتمام المختلفة باختلاف مراتب المصلحة والمفسدة وأما مراتب الانقياد فتختلف باختلاف مراتب المشقة فزيادة العقاب تدل على تأكد المصلحة الفائتة والمفسدة المرتكبة وأما زيادة الثواب فلا تدل عليه نعم الوعد بزيادة الثواب يدل على مزيد الاهتمام الناشئ عن زيادة المصلحة (ومنه) يظهر أنه لا يصح نقص الثواب عن مقدار الاستحقاق الا ان يكون المراد النقص عن المرتبة

٣٨١

إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الافراد ويكون أكثر ثوابا منه وليكن هذا مراد من قال: إن الكراهة في العبادة بمعنى أنها تكون أقل ثوابا، ولا يرد عليه بلزوم اتصاف العبادة التي تكون أقل ثوابا من الاخرى بالكراهة ولزوم اتصاف ما لا مزية فيه ولا منقصة بالاستحباب لانه أكثر ثوابا مما فيه المنقصة، لما عرفت من أن المراد من كونه أقل ثوابا إنما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة المتشخصة بما لا يحدث معه مزية لها ولا منقصة من المشخصات، وكذا كونه أكثر ثوابا. ولا يخفى أن النهي في هذا القسم لا يصح الا للارشاد بخلاف القسم الاول فانه يكون فيه مولويا وان كان حمله على الارشاد بمكان من الامكان

______________________________

الموعود بها لا المستحقة (قوله: ارشادا إلى مالا) بل ارشادا إلى المنقصة في متعلقه فيوجب ذلك بعثا إلى مالا نقصان فيه وكانه المراد كما تقدم نظيره (قوله: بلزوم اتصاف) هذا يرد لو كان المراد أقل ثوابا من بعض الافراد مطلقا وكذا لزوم اتصاف... الخ، فانه يرد لو كان المراد من الاستحباب أكثرية الثواب بالنسبة إلى بعض الافراد مطلقا (قوله: في هذا القسم) يعني بالنسبة إلى التوجيه المختص به لا بالنظر إلى توجيهه بما مر في القسم الاول فانه لا يتعين فيه ذلك (قوله: إلا للارشاد) لان كونه مولويا ولو تنزيهيا كراهتيا يتوقف على ثبوت مفسدة في متعلقه أو مصلحة في نقيضه مزاحمة لمصلحته والمفروض انه ليس كذلك إذ كان متعلقه ذا مصلحة وليس في نقيضه مصلحة كما في القسم الاول إلا ان يقال: إن ترك العبادة وإن لم يكن ملازما لعنوان ذي مصلحة أو متحدا معه إلا أن فعلها ملازم لفوات مقدار من المصلحة وحيث أن فوات ذلك المقدار مبغوض حقيقة كان ملازمه مبغوضا عرضا فيصح النهي عنه بالعرض والمجاز. نعم لو لم يكن فعل الفرد ملازما لفوات ذلك المقدار لامكان تداركه ولو بالاعادة في فرد آخرتم ما ذكر ثم إنك عرفت في القسم الاول إمكان أن يكون النهي لمفسدة في ملازمه ويمكن ذلك أيضا في هذا القسم لكن لازمه خروج الفرد عن كونه

٣٨٢

(وأما القسم الثالث) فيمكن ان يكون النهى فيه عن العبادة المتحدة مع ذاك العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز وكان المنهي عنه به حقيقة ذاك العنوان ويمكن أن يكون على الحقيقة ارشادا إلى غيرها من سائر الافراد مما لا يكون متحدا معه أو ملازما له إذ المفروض التمكن من استيفاء مزية العبادة بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان اصلا. هذا على القول بجواز الاجتماع، وأما على الامتناع فكذلك في صورة الملازمة، وأما في صورة الاتحاد وترجيح جانب الامر - كما هو المفروض -

______________________________

واجبا لما عرفت من أنه لا مزاحمة بين المقتضي التعييني والمقتضي التخييري فان الاول يؤثر ولو كان استحبابيا والثاني يسقط ولو كان وجوبيا إذ لا تزاحم حقيقة بينهما لامكان الجمع بينهما بفعل غير المكروه من الافراد فيثبت النهي عن الملازم وتخرج العبادة عن كونها فردا للمأمور به بما هو كذلك نعم يكون التقرب بملاك الامر كما تقدم والله سبحانه اعلم (قوله: فيمكن أن يكون) يعني بعد ما كان المبغوض حقيقة هو العنوان المتحد مع العبادة فتعلق النهي بنفس العبادة يمكن أن يكون عرضيا بالمعنى المتقدم ويكون مولويا ويمكن ان يكون حقيقا ويكون إرشاديا إلى ثبوت مفسدة في العنوان المتحد مع العبادة أو الملازم لها لكن عرفت أن الحقيقي - ولو كان إرشاديا - ما يدل على ثبوت مفسدة في متعلقه لا في غيره ولو كان متحدا معه، فلو حمل النهي على الارشاد كان عرضيا أيضا، ومنه يظهر تعين جعله مولويا عرضيا لا ارشاديا كذلك لان الاول أوفق بظاهر النهي نعم لو كان حمله على الارشاد يقتضي كونه حقيقيا دار الامر بين كل من التصرفين ولا معين لاحدهما (قوله: ارشادا إلى) قد تقدم مثل هذا التعبير المبني على المسامحة وسيأتي أيضا (قوله: مما لا يكون) بيان للافراد يعني الافراد التي لا تتحد مع العنوان المنهي عنه حقيقة ولا تلازمه (قوله: هذا على القول) يعني هذا الذي ذكرناه من أن العبادة بنفسها مأمور بها وأن العنوان المتحد معها أو الملازم لها هو المنهي عنه حقيقة يتم على الاجتماع إذ مبنى الاجتماع عدم التنافي

٣٨٣

حيث أنه صحة العبادة فيكون حال النهي فيه حاله في القسم الثاني فيحمل على ما حمل عليه فيه طابق النعل بالنعل حيث أنه بالدقة يرجع إليه، إذ على الامتناع ليس الاتحاد مع العنوان الآخر إلا من مخصصاته ومشخصاته التي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزية زيادة ونقيصة بحسب اختلافها في الملائمة كما عرفت وقد انقدح بما ذكرناه أنه لا مجال أصلا لتفسير الكراهة في العبادة باقلية الثواب في القسم الاول مطلقا وفي هذا القسم على القول بالجواز،

______________________________

بين الامر والنهي بعنوانين ويتم ايضا على الامتناع إذا كان العنوان ملازما للعبادة لا متحدا معها لان القول بالامتناع يختص بصورة اتحاد العنوانين ولا يجري في صورة تلازمهما غاية الامر أن امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم يؤدي إلى امتناع فعليتهما معا لكن يصح الاتيان بالعبادة حينئذ ولو لملاك الامر كما تقدم في الضد وكذا يتم أيضا على الامتناع وترجيح جانب الامر في صورة الاتحاد فتصح العبادة للامر بها فعلا (قوله: حيث انه صحة) ضمير (أن) راجع إلى المفروض يعني حيث أن المفروض صحة العبادة فهو ملازم لتقديم جانب الامر إذ مع تقديم النهي لا مجال للصحة كما تقدم (قوله: فيكون حال النهي) يعني حيث كان المفروض صحة العبادة الملازم لتعلق الامر الفعلي بها على الامتناع فالنهي المتعلق بها يمتنع أن يكون مولويا لمنافاته لصحتها فيحمل على الارشاد إلى نقص في مصلحتها من جهة اقترانها بالخصوصية الخاصة كما تقدم في القسم الثاني (قوله: إذ على الامتناع) هذا التخصيص غير ظاهر (قوله: في القسم الاول) إذ لا قصور في مصلحة العبادة ليقل ثوابها ومنه يظهر عدم صحة التفسير المذكور في القسم الثاني أيضا بناء على توجيهه بما في القسم الاول (قوله: على القول بالجواز) فانه أيضا لا قصور في المصلحة وكذا على القول بالامتناع في صورة الملازمة. نعم على الامتناع والاتحاد لابد من الالتزام بنقص المصلحة كما ذكر فتكون أقل ثوابا بناء على ما تقدم منه من تبعية كمية الثواب لكمية المصلحة

٣٨٤

كما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فيها وان الامر الاستحبابي يكون على نحو الارشاد إلى أفضل الافراد مطلقا على نحو الحقيقة، ومولويا اقتضائيا كذلك، وفعليا بالعرض والمجاز فيما كان ملاكه ملازمتها لما هو مستحب أو متحد معه على القول بالجواز (ولا يخفى) أنه لا يكاد يأتي القسم الاول ههنا فان انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الذي لا بدل له إنما يؤكد ايجابه لا أنه يوجب استحبابه أصلا ولو بالعرض والمجاز

______________________________

(قوله: كما انقدح حال) العبادة المستحبة (تارة) تكون أكثر مصلحة لتشخصها بما له دخل في ذلك (وأخرى) ينطبق عليها عنوان ذو مصلحة ويتحد معها (وثالثة) يلازمها عنوان كذلك ولا ريب في امكان كون الامر في الجميع إرشاديا حقيقيا كما في الاولى وعرضيا كما في الاخيرتين وأما كونه مولويا فهو ممتنع في الاولى للزوم اجتماع الاستحباب والوجوب في شئ واحد بعنوان واحد وكذا في الثانية - بناء على الامتناع - أما على الجواز فلا ضير فيه لانه بعنوانين ويكون تعلقه بالعبادة عرضيا، وفى الثالثة يجوز لو جاز اختلاف المتلازمين في الحكم ويكون تعلقه بالعبادة عرضيا أيضا ويمتنع لو امتنع. نعم لا بأس بتعلق الارادة الاستحبابية به فتتأكد مع الوجوبية في الاولى وفى الثانية على القول بالامتناع لاتحاد المتعلق حينئذ ولا كذلك على الجواز لتعدده فلا مجال للتأكد كالثالثة (قوله: مطلقا على) الاطلاق في قبال التقييد الآتي ذكره في المولوي الفعلي فيعم جميع الصور التي أشرنا إليها (قوله: على نحو الحقيقة) قد عرفت الاشكال فيه في الاخيرتين (قوله: كذلك) يعني مطلقا على نحو الحقيقة وعرفت أيضا التأمل فيه (قوله: فيما كان ملاكه) يعني في مورد كان ملاك الامر الاستحبابي ملازمة العبادة لعنوان مستحب (قوله: على القول بالجواز) قيد للمتحد إذ على الامتناع تمتنع فعلية الاستحباب مع فعلية الوجوب لتضادهما وعرفت الامتناع في الملازم أيضا (قوله: يؤكد إيجابه)

٣٨٥

إلا على القول بالجواز، وكذا فيما إذا لازم مثل هذا العنوان فانه لو لم يؤكد الايجاب لما يصحح الاستحباب الا اقتضائيا بالعرض والمجاز فتفطن (ومنها) أن أهل العرف يعدون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم مطيعا وعاصيا من وجهين فإذا امر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص كما مثل به الحاجبي والعضدي فلو خاطه في ذاك المكان عد مطيعا لامر الخياطة وعاصيا للنهي عن الكون في ذلك المكان (وفيه) - مضافا إلى المناقشة في المثال بأنه ليس من باب الاجتماع ضرورة أن الكون المنهي عنه غير متحد مع الخياطة

______________________________

يعني يكون حينئذ واجبا وجوبا أكيدا ناشئا عن مصلحة اكيدة ولا يكون مستحبا لا فعليا ولا اقتضائيا كما هو الحال في سائر موارد الوجوب الاكيد بخلاف القسمين الاخيرين فان العبادة المستحبة لما كان لها بدل غير مستحب صح ان يقال: انها واجبة ومستحبة، ولو كان الاستحباب اقتضائيا لا فعليا (أقول): لا فرق بين ما له بدل وما لا بدل له لان المصلحة القائمة بالعنوان إذا كان يجوز الترخيص في تركها حيث لم تكن لزومية فضمها إلى المصلحة اللزومية لا يوجب تأكد الوجوب فيكون في الموضوع وجوب فعلى واستحباب اقتضائي نعم يوجب تأكد الارادة وليست هي الوجوب ولا منتزع منها - مع أنه لو أوجبت تأكد الوجوب اقتضت ذلك حتى فيما له بدل لعدم الفرق فتكون العبادة المتحدة مع العنوان واجبة وجوبا أكيدا والبدل واجبا وجوبا غير أكيد (فالتحقيق) مجئ الاقسام الثلاثة بلا فرق بين العبادة المكروهة والمستحبة (قوله: إلا على القول) إذ على هذا القول يكون موضوع المصلحة الوجوبية غير موضوع المصلحة الاستحبابية فيمتنع تأكد الوجوب لتعدد الموضوع وكذا في صورة تلازم العنوان المستحب فانه أيضا يمتنع التأكد وحينئذ يثبت وجوب لموضوع المصلحة الزومية واستحباب لموضوع المصلحة الاستحبابية لكن الاستحباب لا يكون فعليا لامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم بل يكون اقتضائيا لا غير (قوله: إلا اقتضائيا) وكذا في المتحد على القول بالجواز (قوله: غير متحد مع الخياطة) إذ الخياطة صفة

٣٨٦

وجودا اصلا كما لا يخفى (المنع) إلا عن صدق احدهما إما الاطاعة بمعنى الامتثال فيما غلب جانب الامر أو العصيان فيما غلب جانب النهي لما عرفت من البرهان على الامتناع (نعم) لا بأس بصدق الاطاعة بمعنى حصول الغرض والعصيان في التوصليات وأما في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها إلا فيما صدر من المكلف فعلا غير محرم وغير مبغوض عليه كما تقدم (بقي) الكلام في حال التفصيل من بعض الاعلام والقول بالجواز عقلا والامتناع عرفا (وفيه) أنه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع إلا طريق العقل فلا معنى لهذا التفصيل إلا ما اشرنا إليه من النظر المسامحي غير المبتنى على التدقيق والتحقيق وأنت خبير بعدم العبرة به بعد الاطلاع على خلافه بالنظر الدقيق وقد عرفت فيما تقدم أن النزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الامر والنهي بل في الاعم فلا مجال لان يتوهم أن العرف هو المحكم في تعيين المداليل ولعله كان بين مدلوليهما حسب تعيينه تناف لا يجتمعان في واحد ولو

______________________________

قائمة بالثوب فكيف تكون متحدة مع الكون القائم بالمكلف إلا أن يراد من الخياطة حركة اليد المؤدية إليها ومن الكون في المكان ما يعم الحركة فيه (قوله: المنع إلا عن) يعني نمنع صدق الاطاعة والمعصية معا بل تصدق إحداهما لا غير (قوله: من بعض الاعلام) هو السيد الطباطبائي (ره) وربما استظهر من السلطان والمحقق القمي (ره) في بعض كلماته ونسب إلى الاردبيلي (قوله: إلا طريق) إذ الجواز والامتناع من أحكام العقل (قوله: بل في الاعم) يعني الاعم مما كان مدلولا عليه بالصيغة اللفظية أو بغيرها من أنواع الدال (اقول): عموم الدال لا ينفع بعد اتحاد المدلول فإذا بني على الامتناع في مدلول الصيغة لابد أن يبنى على الامتناع في غيره لان الامتناع من ذاتيات المدلول لا لخصوصية الدال فتأمل جيدا (قوله: المداليل) يعني اللفظية (قوله: ولعله كان) هذا من تتمة التوهم (قوله: حسب تعيينه) يعني تعيين العرف والله سبحانه ولي التوفيق وله الحمد فانه به حقيق

٣٨٧

بعنوانين وان كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين فتدبر

وينبغى التنبيه على أمور

(الاول) أن الاضطرار إلى ارتكاب الحرام وان كان يوجب ارتفاع حرمته والعقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه - لو كان - مؤثرا له كما إذا لم يكن بحرام

______________________________

تنبيهات الاجتماع

(قوله: وان كان يوجب ارتفاع) لقبح التكليف حال الاضطرار بل امتناعه لما عرفت من أن قوام التكليف إحداث الداعي العقلي ليترتب عليه صرف العبد قدرته في موافقته من فعل أو ترك وهذا مما لا يتأتى مع الاضطرار - مضافا إلى أدلة رفع الاضطرار من الآيات والروايات فإذا ارتفع التكليف تبعه العقاب نعم يبقى الاشكال في صحة العبادة حينئذ مع كون الفعل مبغوضا في نفسه ومحرما لولا الاضطرار وسيأتي (قوله: مع بقاء ملاك وجوبه) إذ من المعلوم ان الاضطرار ليس من العناوين الموجبة ذاتا لارتفاع ملاك التكليف اعني المصلحة والمفسدة بل يجوز أن يكون الملاك مشروطا بالاختيار فبطروء الاضطرار يرتفع لارتفاع شرطه وان لا يكون مشروطا بالاختيار فبطروء الاضطرار لا يرتفع بل يبقى الفعل على ما هو عليه من المصلحة أو المفسدة (قوله: لو كان موثرا) كان تامة فاعلها ضمير الملاك (وموثرا) حال من ملاكه يعني بعد سقوط التحريم يبقى ملاك الوجوب موثرا في الوجوب ومقتضيا له لسقوط ملاك التحريم عن صلاحية المزاحمة له فيترتب عليه أثره فعلا (فان قلت): الاضطرار كما يرفع التحريم يمنع من ثبوت الوجوب فان الاختيار شرط في التكليف مطلقا بلا فرق بين الوجوب والتحريم

٣٨٨

بلا كلام الا انه إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار بأن يختار ما يؤدى إليه لا محالة فان الخطاب بالزجر عنه حينئذ وان كان ساقطا الا أنه حيث يصدر عنه مبغوضا عليه وعصيانا لذاك الخطاب ومستحقا عليه العقاب لا يصلح لان يتعلق به الايجاب، وهذا في الجملة مما لا شبهة فيه ولا ارتياب وإنما الاشكال فيما إذا كان ما اضطر إليه بسوء اختياره مما ينحصر به التخلص عن محذور الحرام كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسطها بالاختيار

______________________________

وغيرهما فكيف يثبت الوجوب لثبوت ملاكه بعد ارتفاع التحريم (قلت): محل الكلام ما إذا كان ملاك الوجوب ثابتا في فرد من الطبيعة المحرمة لا في نفس الطبيعة مطلقا والاضطرار إلى الطبيعة لا يكون اضطرارا إلى خصوص الفرد الواجد لملاك الوجوب فيجوز تعلق الوجوب به ويكون باعثا إليه. نعم يشكل ذلك لو كانت المفسدة أقوى لان الفعل يكون مرجوحا حينئذ ولا يجوز الامر بما هو مرجوح والاضطرار لا يوجب رجحان الوجود على العدم كي يكون الفعل راجحا ولو بالعرض نعم يكون واجبا عقلا لا شرعا نظير ارتكاب أقل القبيحين (قوله: بلا كلام) متعلق بقوله: يوجب، (قوله: الا انه إذا لم يكن) يعني ان ثبوت الوجوب يختص بغير هذه الصورة (قوله: بأن يختار) بيان للاضطرار بسوء الاختيار وضمير (إليه) راجع إلى الاضطرار (قوله: وان كان ساقطا) لان الزجر مساوق للانزجار كما عرفت فيمتنع بامتناعه (قوله: ومستحقا عليه) لانه مخالفة مستندة إلى الاختيار (قوله: لا يصلح لان يتعلق) لان الملاك المصحح لتعلق التحريم به قبل الاضطرار إليه مناف لملاك الوجوب فثبوت الوجوب له يكون بلا ملاك فيمتنع، ومنه يظهر اندفاع توهم أن ثبوت الوجوب له بعد الاضطرار لا يستدعي اجتماع الحكمين المتضادين لان المفروض سقوط التحريم بمجرد الاضطرار فالوجوب - على تقدير ثبوته - لا يكون مجتمعا مع التحريم ووجه الاندفاع ما عرفت الاشارة إليه من ان تضاد الاحكام إنما هو لتنافي ملاكاتها

٣٨٩

في كونه منهيا عنه أو مأمورا به مع جريان حكم المعصية عليه أو بدونه فيه أقوال. هذا على الامتناع، وأما على القول بالجواز فعن أبى هاشم انه مأمور به ومنهي عنه واختاره الفاضل القمي ناسبا له إلى اكثر المتأخرين وظاهر الفقهاء (والحق) أنه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه وعصيان له بسوء الاختيار ولا يكاد يكون مأمورا به كما إذا لم يكن هناك توقف(١) عليه أو بلا انحصار به

______________________________

ففرض ثبوت ملاك التحريم - كما هو لازم القول بكونه معصية - كاف في المنع عن تعلق الوجوب وسيأتي انشاء الله لذلك مزيد توضيح (قوله: في كونه منهيا عنه) ظرف مستقر خبر الاشكال (قوله: حكم المعصية) يعني استحقاق الذم والعقاب (قوله: أو بدونه) يعني أو مأمورا به بلا حكم المعصية (قوله: هذا على الامتناع) هذا التخصيص غير ظاهر فان أدلة الاقوال تقتضي عدم الفرق في كل قول منها بين الجواز والامتناع فلاحظها (قوله: وظاهر الفقهاء) لم يتضح وجه الاستظهار المذكور مع أن المشهور بين اصحابنا القول بالامتناع نعم ظاهر كثير منهم صحة صلاة الغاصب حال الخروج بل عن المنتهى الاجماع عليه لكنه لا يدل على كون الخروج مامورا به ومنهيا عنه فراجع (قوله: لم يكن هناك توقف) لا يخفى أن من توسط أرضا غصبا صار مضطرا إلى ارتكاب الحرام بمقدار أقل زمان يمكنه فيه الخروج ويكون مختارا فيما زاد على ذلك المقدار لامكان الخروج فلا يكون مرتكبا للحرام، وظاهر المتن توقف ترك التصرف الزائد على المقدار المضطر إليه على الخروج فيكون الخروج مقدمة له لكن صرح

______________

(١) لا يخفى انه لا توقف هاهنا حقيقة بداهة ان الخروج انما هو مقدمة للكون في خارج الدار لا مقدمة لترك الكون فيها الواجب لكونه ترك الحرام نعم بينهما ملازمة لاجل التضاد بين الكونين ووضوح الملازمة بين وجود الشئ وعدم ضده فيجب الكون في خارج الدار عرضا لوجوب ملازمه حقيقة فتجب مقدمته كذلك وهذا هو الوجه في المماشاة والجري على ان مثل الخروج يكون مقدمة لما هو الواجب من ترك الحرام فافهم. منه قدس سره (*)

٣٩٠

وذلك ضرورة انه حيث كان قادرا على ترك الحرام رأسا لا يكون عقلا معذورا في مخالفته فيما اضطر إلى ارتكابه بسوء اختياره ويكون معاقبا عليه كما إذا كان ذلك بلا توقف عليه أو مع عدم الانحصار به ولا يكاد يجدي توقف انحصار التخلص عن الحرام به لكونه بسوء الاختيار

______________________________

في حاشيته على المقام بمنع ذلك (وتوضيح) ما ذكر أن من المعلوم امتناع ان يكون الشئ الواحد في زمان واحد في مكانين لتضاد الكونين وحينئذ فكون المكلف في الزمان المعين في مكان ملازم لعدم كونه في مكان آخر - على ما عرفت في مبحث الضد من ملازمة احد الضدين لعدم الآخر من دون مقدمية بينهما أصلا - فكون المكلف في الزمان الزائد على زمان الخروج في المكان المباح ملازم لعدم كونه في المكان المغصوب لا أنه مقدمة له وإذا لم يكن مقدمة له لم يكن الخروج مقدمة له أيضا لان الخروج مقدمة إعدادية للكون في المكان المباح وما يكون مقدمة لاحد الضدين لا يكون مقدمة لعدم الآخر لان ما يكون مقدمة لاحد المتلازمين لا يكون مقدمة للملازم الآخر. نعم تصح نسبة المقدمية إليه بالعرض لا بالحقيقة (قوله: وذلك ضرورة أنه) هذا لا يصلح تعليلا إلا لاحد جزئي الدعوى (أعني كونه منهيا عنه وأنه عصيان للنهي) لا للجزء الآخر (أعني كونه ليس مأمورا به) فهو ينفي القول الثالث لا الثاني الا بملاحظة ما تقدم من أن ما يصدر مبغوضا وعصيانا لا يصلح لان يتعلق به الوجوب (قوله: كان قادرا على) يعني كان قبل الدخول في الارض المغصوبة قادرا على ترك التصرف الحرام لقدرته على ترك الدخول فان من لم يدخل في الارض لم يتصرف فيها أصلا لا بالدخول ولا بالخروج وإذا كان قادرا على ذلك كان التصرف في الارض بنحو الدخول أو بالخروج بعد الدخول حراما مقدورا على تركه فيكون معصية (قوله: فيما اضطر إلى) وهو التصرف بعد الدخول (قوله: بسوء اختياره) يعني اختياره للدخول (قوله: بلا توقف) يعني بلا أن يتوقف عليه التخلص (قوله: أو مع عدم) فان مقدمة الواجب إذا كانت محرمة ولا ينحصر التوصل إلى

٣٩١

(ان قلت): كيف لا يجديه ومقدمة الواجب واجبة ؟ (قلت) إنما تجب المقدمة لو لم تكن محرمة ولذا لا يترشح الوجوب من الواجب إلا على ما هو المباح من المقدمات دون المحرمة مع اشتراكهما في المقدمية، واطلاق الوجوب بحيث ربما يترشح منه الوجوب عليها مع انحصار المقدمة بها إنما هو فيما إذا كان الواجب أهم من ترك المقدمة المحرمة والمفروض ههنا

______________________________

الواجب بفعلها لا تكون واجبة (قوله: إن قلت كيف) يعني ان الحكم بوجوب المقدمة عقلي والحكم العقلي لا يقبل التخصيص فكيف يحكم بعدم وجوب الخروج مع أنه مقدمة للتخلص الواجب ؟ (قوله: إلا على ما هو المباح) مقدمة الواجب (تارة) تكون منحصرة بالمباح (وأخرى) منحصرة بالحرام (وثالثة) غير منحصرة باحدهما بأن تكون ذات فردين مباح وحرام (فان كانت) من الاول فلا ريب في ترشح الوجوب عليها - بناء على وجوب المقدمة - فتكون حينئذ مباحة بالذات واجبة بالعرض لكن وجوبها فعلي إن كانت اباحتها لا اقتضائية لعدم التزاحم بين المقتضي واللا مقتضي وإذا كانت اباحتها اقتضائية تزاحم مقتضيها مع مقتضي الوجوب فيكون الاثر للاقوى منهما، وان كانت من الثاني وقع التزاحم بين مقتضي الحرمة في المقدمة وبين مقتضي الوجوب في ذيها فيؤخذ بالاقوى منهما فان كان مقتضي الحرمة فيها أقوى بقيت على تحريمها وسقط وجوب ذيها، وإن كان مقتضي الوجوب فيها أقوى سقط تحريمها ووجبت مطلقا على المشهور أو في حال فعل الواجب بعدها بناء على المقدمة الموصلة، ومع تساوي المقتضيين تثبت الاباحة لكل منهما لا مطلقا بل بنحو يلازم إعمال احد المقتضيين فيجوز فعل المقدمة في ظرف فعل الواجب أعني ذاها على القول بالمقدمة الموصلة، وعلى المشهور يجوز فعل المقدمة المحرمة وان لم يفعل بعدها الواجب كما تقدم في مبحث المقدمة (وان كانت) من الثالث ثبت الوجوب للفرد المباح تعيينا ولا يثبت للمحرم لان مناط الوجوب تخييري ومناط التحريم تعييني والاول وإن كان

٣٩٢

وإن كان ذلك الا انه كان بسوء الاختيار ومعه لا يتغير عما هو عليه من الحرمة والمبغوضية والا لكانت الحرمة معلقة على ارادة المكلف واختياره لغيره وعدم حرمته مع اختياره له وهو كما ترى - مع أنه خلاف الفرض

______________________________

أقوى لا يزاحم الثاني وإن كان أضعف (قوله: وإن كان ذلك) يعني أهمية الواجب وهو التخلص عن الغصب من ترك الحرام وهو الخروج لكنه لا يخلو من تأمل لان الخروج نوع من الغصب فحرمته تثبت بمناط حرمة الغصب لا بمناط آخر فلا مقتضي للاهمية، وطول الزمان وان كان له دخل في زيادة الاهتمام لكنه لا يطرد إذ قد يكون زمان الخروج أطول من زمان التخلص المتوقف عليه كما لو علم بموت المالك بعد الخروج في زمان أقصر من زمان الخروج مع كونه وارثا له فالوجه في ترجح الخروج كونه أقل المحذورين وأهون القبيحين كما سيأتي (قوله: والا لكانت الحرمة) ظاهر العبارة أن المراد هو أنه لو كان الخروج واجبا بعد الدخول لزم كون حرمته معلقة على الكون في المكان المباح الملازم لترك الدخول، وعدمها معلقا على إرادته أي الخروج لكن لزوم اللازم الثاني غير ظاهر إذ الوجوب إنما يناط - عند القائل به - بمجرد الدخول ولو مع إرادة المكث فانه بالدخول حيث يتردد أمر الداخل بين المكث والخروج يكون الخروج واجبا ليتخلص به عن الغصب فلا يكون عدم حرمته معلقا على ارادته. نعم يتم ما ذكر لو كان أمر المكلف دائرا بين ترك الدخول وبين الدخول مع الخروج فهو إما أن يريد ترك الدخول أو يريد الدخول والخروج فمع الاول يكون الخروج حراما ومع الثاني لا يكون حراما، لكن محل الكلام ما إذا أمكنه المكث بعد الدخول (قوله: وهو كما ترى) يعني به بطلان كلا اللازمين (أما الاول) فلانه مع الكون في المكان المباح وترك الدخول يكون الخروج خارجا عن محل الابتلاء لمضادته للكون المذكور فلا معنى لحرمته حينئذ (وأما الثاني) فلما تقدم من أن وظيفة التكليف إحداث الارادة فيكون كالعلة لها فلا يكون معلولا لها، وإن شئت قلت: إن الشئ في ظرف

٣٩٣

وأن الاضطرار يكون بسوء الاختيار (ان قلت): إن التصرف في أرض الغير بدون اذنه بالدخول والبقاء حرام بلا إشكال ولا كلام وأما التصرف بالخروج الذي يترتب عليه رفع الظلم ويتوقف عليه التخلص عن التصرف الحرام فهو ليس بحرام في حال من الحالات بل حاله حال مثل شرب الخمر المتوقف عليه النجاة من الهلاك في الاتصاف بالوجوب في جميع الاوقات، ومنه ظهر المنع عن كون جميع أنحاء التصرف في أرض الغير مثلا حراما قبل الدخول وأنه يتمكن من ترك الجميع حتى الخروج، وذلك لانه لو لم يدخل لما كان متمكنا من الخروج وتركه وترك الخروج بترك الدخول رأسا ليس في الحقيقة الا ترك الدخول فمن لم يشرب الخمر لعدم وقوعه في المهلكة التي يعالجها به مثلا لم يصدق عليه الا انه لم يقع في المهلكة لا أنه مما ما شرب الخمر فيها إلا على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع كما لا يخفى (وبالجملة) لا يكون الخروج - بملاحظة كونه مصداقا للتخلص عن الحرام أو سببا له - إلا مطلوبا

______________________________

إرادته يكون واجبا فالتكليف به من قبيل تحصيل الحاصل (قوله: وان الاضطرار) بيان للفرض لان كونه بسوء الاختيار يقتضي كونه محرما وإلا كان من حسن الاختيار (قوله: من الحالات) يعني لا قبل الاضطرار ولا بعده (قوله: وذلك لانه لو) بيان لظهور المنع يعني أن المنع عن الخروج نوع من التكليف والتكليف بجميع أنواعه مشروط بالقدرة وقبل الدخول لا قدرة على الخروج حتى يصح المنع عنه فالمنع عنه حينئذ تكليف بغير المقدور ممتنع، (قوله: وترك الخروج) دفع لتوهم أن ترك الخروج مقدور قبل الدخول فلا وجه لدعوى عدم القدرة عليه (قوله: ليس في الحقيقة) إذ نسبة القدرة إلى الوجود والعدم نسبة واحدة فإذا لم يقدر على الخروج قبل الدخول لم يقدر على تركه أيضا (قوله: لا أنه ما شرب) يعني لا يصدق عليه أنه ممن لم يشرب الخمر في التهلكة (قوله: مصداقا للتخلص) لم يتوهم أحد كونه مصداقا

٣٩٤

ويستحيل أن يتصف بغير المحبوبية ويحكم عليه بغير المطلوبية (قلت): هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلص مأمورا به وهو موافق لما أفاده شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - على ما في تقريرات بعض الاجلة، لكنه لا يخفى أن ما به التخلص عن فعل الحرام أو ترك الواجب إنما يكون حسنا عقلا ومطلوبا شرعا بالفعل وان كان قبيحا ذاتا إذا لم يتمكن المكلف من التخلص بدونه ولم يقع بسوء اختياره إما في الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام، وإما في الاقدام على ما هو قبيح وحرام لولا أن به التخلص بلا كلام

______________________________

للتخلص بل لا ريب عندهم في كونه مصداقا للغصب (قوله: ويستحيل أن) لان الاتصاف بغير المحبوبية يكون بلا منشأ مصحح (قوله: لكنه لا يخفى أن ما به) حاصل الاشكال أنه إذا توقف فعل الواجب أو ترك الحرام على فعل محرم بحيث دار أمر المكلف بين فعل ذلك المحرم الذي هو المقدمة، وبين تفويت ما يتوقف على ذلك المحرم من فعل الواجب وترك الحرام الذي هو ذو المقدمة فان كان هذا الدوران بغير اختيار المكلف صح دعوى انقلاب ذلك المحرم إلى كونه واجبا من جهة مقدميته لفعل الواجب أو لترك الحرام، أما إذا كان الدوران بسوء اختيار المكلف بحيث كان يمكن المكلف أن يفعل الواجب الذي هو ذو المقدمة بدون فعل الحرام الذي هو المقدمة أو كان يمكنه أن يترك الحرام بدون فعل المحرم الذي هو المقدمة وباختياره أوقع نفسه في الدوران المذكور لا ينقلب المحرم إلى الوجوب بل يبقى على تحريمه (قوله: ولم يقع) يعني ولم يضطر بسوء اختياره إلى الاقتحام في ترك ذي المقدمة أو الاقتحام في فعل الحرام الذي هو المقدمة، (قوله: أو فعل الحرام) معطوف على ترك الواجب وأحدهما على البدل يكون ذا المقدمة (قوله: ما هو قبيح) وهو المقدمة المحرمة (قوله: لو لا أن به التخلص) قيد لقوله: قبيح وحرام، وكذا قوله: بلا كلام، إذ المقدمة محرمة بلا كلام من الخصم لو لا جهة توقف التخلص عليها كالخروج فيما نحن

٣٩٥

كما هو المفروض في المقام ضرورة تمكنه منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره، (وبالجملة) كان قبل ذلك متمكنا من التصرف خروجا كما يتمكن منه دخولا غاية الامر يتمكن منه بلا واسطة ومنه بالواسطة ومجرد عدم التمكن منه إلا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدورا كما هو الحال في البقاء فكما يكون تركه مطلوبا في جميع الاوقات فكذلك الخروج - مع أنه مثله في الفرعية على الدخول فكما لا تكون الفرعية مانعة عن مطلوبيته قبله وبعده كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيته وان كان العقل يحكم بلزومه إرشادا إلى اختيار أقل المحذورين وأخف القبيحين، ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجا وتخلصا عن المهلكة وانه انما يكون مطلوبا على كل حال لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار وإلا فهو على ما هو عليه من الحرمة وان كان العقل يلزمه ارشادا إلى ما هو أهم وأولى بالرعاية من تركه

______________________________

فيه فانه حرام قطعا لو لا شبهة توقف التخلص من الغصب عليه (قوله: كما هو المفروض) قيد لقوله: يتمكن المكلف (قوله: تمكنه منه) أي من التخلص (قوله: اقتحامه فيه) يعني في الحرام (قوله: وبالجملة كان) رد على قول السائل: لانه لو لم يدخل... الخ (قوله: ذلك) اشارة إلى الاقتحام في الحرام بالدخول في الارض (قوله: يتمكن منه) يعني من الدخول (قوله: ومنه) يعني من الخروج (قوله: في جميع الاوقات) حتى قبل الدخول (قوله: مطلوبيته قبله) ضمير مطلوبيته راجع إلى البقاء وضمير (قبله وبعده) راجع إلى الدخول (قوله: وإن كان العقل) يعني بعد ما كان الخروج كالبقاء تصرفا محرما يدور الامر بينه وبين البقاء ويترجح هو عليه في نظر العقل لانه أقل المحذورين. ثم ان الطبعة البغدادية لا تخلو من نقص في المقام وأصل العبارة - كما في بعض النسخ الصحيحة - هكذا: يحكم بلزومه إرشادا إلى اختيار أقل المحذورين وأخف القبيحين، ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجا وتخلصا عن المهلكة وأنه انما يكون مطلوبا على كل حال لو لم يكن

٣٩٦

لكون الغرض فيه أعظم فمن ترك الاقتحام فيما يؤدى إلى هلاك النفس أو شرب الخمر لئلا يقع في أشد المحذورين منهما فيصدق انه تركهما ولو بتركه ما لو فعله لادى لا محالة إلى أحدهما كسائر الافعال التوليدية حيث يكون العمد إليها بالعمد إلى اسبابها واختيار تركها بعدم العمد إلى الاسباب. وهذا يكفي في استحقاق العقاب على الشرب للعلاج وإن كان لازما عقلا للفرار عما هو اكثر عقوبة، ولو سلم عدم الصدق إلا بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع فهو غير ضائر بعد تمكنه من الترك ولو على نحو هذه السالبة ومن الفعل بواسطة تمكنه مما هو من قبيل الموضوع في هذه السالبة فيوقع نفسه بالاختيار في المهلكة أو يدخل الدار فيعالج بشرب الخمر

______________________________

الاضطرار إليه بسوء الاختيار وإلا فهو على ما هو عليه من الحرمة وان كان العقل يلزمه إرشادا إلى ما هو أهم وأولى... الخ (قوله: لكن الغرض) كذا في النسخة البغدادية والصحيح: لكون الغرض: وضمير فيه راجع إلى الاهم (قوله: من ترك الاقتحام) كذا في النسخة البغدادية والصحيح: فمن ترك، وجواب الشرط قوله: فيصدق وهذا رد على قول المستدل: فمن لم يشرب... الخ يعني أن من ترك الاقتحام فيما يؤدي إلى أحد الامرين من هلاك النفس وشرب الخمر بأن لم يعرض نفسه للهلاك الذي لا يندفع إلا بشرب الخمر يصدق عليه أنه تارك للهلاك وتارك لشرب الخمر (قوله: كسائر الافعال التوليدية) كان الاولى أن يقول: نظير الافعال التوليدية، فان شرب الخمر ليس من الافعال التوليدية (قوله: بالعمد إلى أسبابها) وان لم يتعلق العمد بها فان العمد المعتبر في ترتب العقاب غير العمد المعتبر في ترتب الثواب إذ يكفي في ترتب العقاب على المسبب العمد إلى السبب مع العلم بترتب المسبب عليه ولا يكفي ذلك في ترتب الثواب بل لا بد من العمد إلى المسبب نفسه (قوله: وان كان لازما) يعني الشرب لاجل العلاج (قوله: الا بنحو السالبة) كما اعترف به المستدل (قوله: فيوقع نفسه) بيان لكيفية التمكن من الفعل،

٣٩٧

ويتخلص بالخروج أو يختار ترك الدخول والوقوع فيهما لئلا يحتاج إلى التخلص والعلاج (إن قلت): كيف يقع مثل الخروج والشرب ممنوعا عنه شرعا ومعاقبا عليه عقلا مع بقاء ما يتوقف عليه على وجوبه لسقوط الوجوب مع امتناع المقدمة المنحصرة ولو كان بسوء الاختيار والعقل قد استقل بأن الممنوع شرعا كالممتنع عادة أو عقلا (قلت): أولا إنما كان الممنوع كالممتنع إذا لم يحكم العقل بلزومه إرشادا إلى ما هو أقل المحذورين وقد عرفت لزومه بحكمه فانه مع لزوم الاتيان بالمقدمة عقلا لا بأس في بقاء ذي المقدمة على وجوبه فانه حينئذ ليس من التكليف بالممتنع كما إذا كانت المقدمة ممتنعة (وثانيا) لو سلم فالساقط إنما هو الخطاب فعلا بالبعث والايجاب لا لزوم اتيانه عقلا خروجا عن عهدة ما تنجز عليه سابقا ضرورة أنه لو لم يأت به لوقع في المحذور الاشد ونقض الغرض الاهم حيث

______________________________

(قوله: أو يختار ترك) بيان لكيفية التمكن من الترك (قوله: مع بقاء ما يتوقف) يعني فإذا امتنع الجمع بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها فاما أن يسقط الوجوب فلا باعث على الخروج أو يسقط التحريم وهو المطلوب (قوله: قلت أولا) يعني أن الممنوع شرعا انما كان كالممتنع عقلا من جهة أن المنع الشرعي موجب لمنع العقل وفى ظرف المنع العقلي عن المقدمة لا يترتب البعث العقلي على التكليف بذيها لتضادهما كما لو كانت ممتنعة أما إذا كان العقل لا يمنع من فعل المقدمة بل كان يبعث إلى فعلها لانها أقل المحذورين فلا مانع من التكليف بذي المقدمة ففي الحقيقة لا جمع بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها بل ليس إلا وجوب ذيها لا غير وحرمة المقدمة ساقطة بالاضطرار إلى مخالفتها أو مخالفة الوجوب بضميمة كون مخالفتها أهون المحذورين، لكن سقوط مثل هذا التحريم نظير السقوط بالامتناع لا ينافي كون الفعل ممنوعا عنه شرعا لو لا الامتناع ويستحق العقاب على مخالفته ولو لاجل الامتناع وليس المدعى الا ذلك (قوله: إنما هو الخطاب) التكليف الذي يصلح للسقوط والثبوت ليس الا التكليف الاعتباري وهو جعل الكلفة المساوق للبعث العقلي

٣٩٨

أنه الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبية بلا حدوث قصور أو طروء فتور فيه أصلا وانما كان سقوط الخطاب لاجل المانع وإلزام العقل به لذلك إرشادا كاف لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والايجاب له فعلا فتدبر جيدا، وقد ظهر مما حققناه فساد القول بكونه مأمورا به مع إجراء حكم المعصية عليه نظرا إلى النهي السابق - مع ما فيه من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة ولا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم والايجاب قبل الدخول أو بعده كما في الفصول مع اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما وإنما المفيد اختلاف زمانه ولو مع اتحاد زمانهما وهذا أوضح من أن يخفى كيف ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول عصيانا للنهي السابق وإطاعة للامر اللاحق فعلا ومبغوضا ومحبوبا كذلك بعنوان واحد. وهذا

______________________________

وأما الخطاب فهو لا يقبل ذلك لانه تدريجي متصرم. نعم يصلح للاتصاف بالحسن والقبح فيقال: يحسن الخطاب ويقبح، لكن حسنه وقبحه أيضا منوطان بترتب البعث العقلي عليه وعدمه ولا ينفك أحدهما عن الآخر فمع فرض أهمية الواجب يكون هو المبعوث إليه والواجب والمكلف به والذي يحسن الخطاب به (قوله: انه الآن) يعني بعد الاضطرار والدوران كما كان عليه قبلهما (قوله: السابق) يعني الساقط حين حدوث الاضطرار قبل الخروج ولذا كان الخروج بحكم المعصية لا معصية (قوله: كما في الفصول) واستدل عليه بانه لو كانت مبغوضية شئ في زمان مضادة لمطلوبيته في زمان آخر لامتنع البداء في حقنا مع وضوح جوازه وإنما لا يترتب هنا أثر الاول لرفع البداء له بخلاف المقام... الخ (أقول): المناسب تمثيل المقام بالبداء الحقيقي في حقه سبحانه فإذا كان مستحيلا كانت المحبوبية والمبغوضية في زمان لشئ واحد في زمان واحد كذلك لا بالبداء في حقنا إذ المصحح له في حقنا الجهل بالخصوصيات التي عليها الشئ واقعا والمقام ليس كذلك (قوله: مع اتحاد زمان) فان الفعل الواحد في زمان واحد لا يجتمع فيه ملاكا المحبوبية والمبغوضية ولو في زمانين (قوله: عصيانا للنهي)

٣٩٩

مما لا يرضى به القائل بالجواز فضلا عن القائل بالامتناع كما لا يجدي في رفع هذه الغائلة كون النهي مطلقا وعلى كل حال وكون الامر مشروطا بالدخول ضرورة منافات حرمة شئ كذلك مع وجوبه في بعض الاحوال (وأما) القول بكونه مأمورا به ومنهيا عنه ففيه - مضافا إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع فيما إذا كان بعنوانين فضلا عما إذا كان بعنوان واحد كما في المقام حيث كان الخروج بعنوانه سببا للتخلص وكان بغير اذن المالك وليس التخلص الا منتزعا عن ترك الحرام المسبب(١) عن الخروج لا عنوانا له - أن الاجتماع هاهنا لو سلم انه لا يكون بمحال لتعدد العنوان وكونه مجديا في رفع غائلة التضاد كان محالا لاجل كونه طلب

______________________________

قد عرفت أن تضاد هذه الامور بتوسط تنافي ملاكاتها (قوله: وكون الامر مشروطا) هذا ذكره في الفصول لا بقصد رفع الاشكال بحيثيتي الاطلاق والاشتراط بل لتحقيق اختلاف زماني الحكمين وعليه فلا بد أن يكون المراد بالاطلاق عدم الاشتراط بالدخول لا الشامل لما بعد الدخول بقرينة قوله: فهما غير مجتمعين، وبنائه على سقوط النهي بالاضطرار المسقط له عقلا فكيف يكون له إطلاق يشمل حال الاضطرار ؟ (قوله: بعنوانه سببا) يعني بعنوانه الاولي فيكون واجبا بعنوانه الاولي كما تقدم في مبحث المقدمة (قوله: وكان بغير) يعني وكان بعنوانه الاولي بغير إذن المالك فيكون المحرم الخروج غير

______________

(١) قد عرفت مما علقت على الهامش ان ترك الحرام غير مسبب عن الخروج حقيقة وانما المسبب عنه هو الملازم له وهو الكون في خارج الدار. نعم يكون مسببا عنه مسامحة وعرضا وقد انقدح بذلك انه لا دليل في البين إلا على حرمة الغصب المقتضي لاستقلال العقل بلزوم الخروج من باب انه اقل المحذورين وانه لا دليل على وجوبه بعنوان آخر فحينئذ يجب اعماله ايضا بناء على القول بجواز الاجتماع كاحتمال النهي عن الغصب ليكون الخروج مأمورا به ومنهيا عنه فافهم. (منه قدس سره) (*)

٤٠٠

401

402