النور المبين في شرح زيارة الأربعين

النور المبين في شرح زيارة الأربعين15%

النور المبين في شرح زيارة الأربعين مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
ISBN: 964-8956-16-2
الصفحات: 246

النور المبين في شرح زيارة الأربعين
  • البداية
  • السابق
  • 246 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 26587 / تحميل: 4676
الحجم الحجم الحجم
النور المبين في شرح زيارة الأربعين

النور المبين في شرح زيارة الأربعين

مؤلف:
الناشر: دار الأنصار
ISBN: ٩٦٤-٨٩٥٦-١٦-٢
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وَباعَ حَظَّهُ بِالْأَرْذَلِ الْأَدْنىٰ

الحظ : النّصيب من الفضل والخير ، قال تعالى :( إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) أي : نصيب واف ، وفي الحديث : من أراد بالعلم الدنيا فهو حظّه ، أي نصيبه وليس له حظ في الآخرة

والأرذل : الأخس والأحقر والناقص ، قال تعالى :( أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) ، فعن عليّعليه‌السلام : هو خمس وسبعون سنة ، وفي بعض الأخبار ، المائة من العمر ، والرذيلة ضدّ الفضيلة

الأدنى : نفس الأرذل ، أي : الأخس وأقل قيمة ، ويقال : وأدنى ، إذا عاش عيشاً ضيقاً بعد سعة ، وقال تعالى :( أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ ) أي الّذي هو أخس

فبقتلهم سيّد شباب الجنّة الحسين بن عليعليه‌السلام حجّة الله على الخلق ، فقد باعوا آخرتهم الّتي هي دار الخلود ، والبقاء مقابل دنيا زائلة فانية والتي عبر عنها الإمام الصادقعليه‌السلام في الزيارة « بِالْأَرْذَلِ الْأَدْنىٰ » فإنهم لم يخسروا الآخرة فحسب بل خسروا حتى الدنيا بقتلهم أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام وأهل بيته( أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )

فأمّا الخسران في الدنيا فإنهم لم يصلوا إلى أهدافهم الدنيوية من قتلهم سيد الشهداءعليه‌السلام ، فذاك عمر بن سعد عليه اللعنة الذي كان هدفه من قتل الإمامعليه‌السلام أن يصل إلى ملك الرّي وجرجان كما قال في أبيات له لمّا أمره إبن زياد أن يخرج لقتال الحسينعليه‌السلام قال :

فوالله ما أدري وإنّي لحائر

أُفكّر في أمري على خطرين

أأترك ملك الرّي والرّي منيتي

أم أصبح مأثوماً بقتل حسين

١٤١

حسين بن عمّي والحوادث جمّة

لعمري ولي في الرّي قرّة عين

وإنّ إله العرش يغفر زلّتي

ولو كنت فيها أظلم الثّقلين

ألا إنّما الدنيا لخير معجّل

وما عاقل باع الوجود بدين

يقولون إنّ الله خالق جنّة

ونار وتعذيب وغلّ يدين

فإن صدقوا فيما يقولون

إنّني أتوب إلى الرّحمن من سَنتين

وإن كذبوا فُزنا بدنيا عظمة

وملك عقيم دائم الحجلين

وإذا بنداء من السّماء قد أجابه بحيث يسمع الصّوت ولا يُرى :

ألا أيها النّغل الذي خاب سعيه

وراح من الدنيا ببخسة عين

ستصلي جحيماً ليس يطفى لهيبها

وسعيك من دون الرّجال بشين

إذا كنت قاتلت الحسين ابن فاطم

وأنت تراه أفضل الثقلين

فلا تحسبنّ الرّي يا أخسر الورى

تفوز به من بعد قتل الحسين(١)

مع ما أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام نصحه وبيّن له أنّه لا يصل إلى مراده وهدفه بل وبيّن له مصرعه على فراشه ، وإنّه لا يتهنّأ بدنيا ولا آخرة ، كما مرّ الإشارة إليه في فقرة « ومنح النّصح » من الزيارة ، راجع الصفحة

هذا نموذج واحد ممّن قاتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، وخسارته في الدّنيا قبل الآخرة ، فإنّ جميع من حضر قتال الإمام الحسينعليه‌السلام لم يتهنّأ في الدُّنيا ولا في الآخرة ، راجع ما صنع المختار ابن أبي عبيدة الثقفي بهم ، وراجع جزاء قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام ، هذا في الدنيا ، وأمّا في الآخرة والبرزخ فهم في جهنّم وبئس المصير

__________________

(١) ناسخ التواريخ ، في حياة الإمام الحسينعليه‌السلام ، ٢ : ١٧٩

١٤٢

ففي الحديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال : « يبعث الله يوم القيامة قوماً بين أيديهم نور كالقباطي ثمّ يقال له : كن هباءً منثوراً ، ثم قال : اما والله إنّهم كانوا يصومون ويصلّون ولكنّما كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه ، وإذا ذكر لهم شيء من فضل أمير المؤمنينعليه‌السلام أنكروه »(١)

وعن ثواب الأعمال(٢) باسناده عن جعفر بن محمد عن آبائهعليهم‌السلام قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ الجنّة تشتاق لأحباء عليعليه‌السلام يشتد ضوؤها لأحبّاء علي وهم في الدنيا قبل أن يدخلوها ، وإنّ النّار لتغيظ ويشتدّ زفيرها على أعداء عليعليه‌السلام وهم في الدنيا قبل أن يدخلوها »

__________________

(١) الأنوار الساطة ٤ : ٢١٢

(٢) ثواب الأعمال : ٢٤٧

١٤٣

وَشَرىٰ آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوْكَسِ

شَرَىٰ : أي باع ومنه قوله تعالى :( وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ ) أي باعوه

وقال تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ ) أي يبيعها وتأتي بمعنى بدّل ، كما قال تعالى :( اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ ) (١) أي بدلوا

الآخرة : خلاف الدنيا ، دار البقاء ، منها قوله تعالى :( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ) أي قيام الساعة

وفي الحديث عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : من حرص على الآخرة ملك ومَن حرص على الدنيا هلك

بالثمن : ما تستحق به الشيء ، وثمن كل شيء قيمته

الأوكس : النقص واتضاع الثمن في البيع ويقال وُكس فلان ( على ما لم يسمى فاعله ) في تجارته أي خسر ، وفي الحديث بيع الربا وشراؤه وكس أي نقص

فالإمام الصادقعليه‌السلام يريد أن يقول في هذه الزيارة ان الذين حضروا كربلاء وتوازروا على قتل الإمام الحسينعليه‌السلام بما غرتهم هذه الدنيا وباعوا حظهم ونصيبهم من الخير مقابل دنيا زائلة وبثمن اوكس قليل ، وباعوا آخرتهم وسعادتهم بلا مقابل ، كل ذلك لانهم عبيد الدنيا وعبيد شهواتهم واهوائهم كما قال الإمام الحسينعليه‌السلام في حقهم : « الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم » ، نعم باعوا آخرتهم بثمن قليل ، قال الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام : من ابتاع آخرته بدنياه ربحهما ، ومن باع آخرته بدنياه خسرهما ، وقال : مَن عمّر دنياه خرّب ماله من عمّر آخرته بلغ آماله

__________________

(١) مجمع البحرين ، مادة ( شري )

١٤٤

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عجباً كل العجب للمصدق بدار الحيوان وهو يسعى لدار الغرور ، فكل الذين حضروا في يوم الطف لقتال الإمام الحسينعليه‌السلام قد خسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ، ألا لعنة الله على قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام وعلى القوم الظالمين وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين

١٤٥

وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّىٰ في هَواهُ

غطرس : الاعجاب بالنفس والتطاول على الاقران وقيل هو الظلم والتكبر

تردى : الهلاك ، يقال : سقط على رأسه في قولهم : تردىٰ من رأس الجبل إذا سقط ، ويقال : تردى إذا مات فسقط في قبره ، وقيل : تردى سقط في جهنم ، قال تعالى :( وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ ) ، إذا مات وقيل إذا تردى في النار وقوله تعالى :( وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ ) وهي التي تقع من جبل أو تطيح في بئر أو تسقط من موضع مشرف فتموت ومنه الآية :( وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ )

الهوى : هوى النفس ارادتها وما تحبه وتميل إليه ومنه قوله تعالى :( وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ )

ان من اخطر الأمراض الخلقيّة وأشدها فتكاً بالانسان ، وادعاها إلى مقت الناس له وازدرائهم به ونفرتهم منه ، هو التغطرس والاعجاب بالنفس والتطاول على الاقران والتكبر بالقول أو بالفعل ، وهذه الصفة تجسدت في الذين حاربوا الإمام الحسينعليه‌السلام ، والذين حضروا كربلاء لقتال الإمام الحسينعليه‌السلام ، فكانت نتيجة هذه الأمراض الخلقية وانعكاساتها وطغيانها ان يقتلوا ولي الله وحجته على أرضه من دون أن يتحرك لهم ساكن ، بل أكثر من ذلك أن يأخذوا بنات الوحي أسرى من بلد إلى بلد يتصفح وجوههن القريب والبعيد والدني والشريف ليس معهن من حماتهنّ حمى ولا من رجالهن ولي ، ولذلك نجد أئمة أهل البيتعليهم‌السلام أكّدوا على مذمة هذه الأمراض النفسية والاخلاقية واتباع هوى النفس في كثير من الروايات منها :

عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال : « إنما أخاف عليكم اثنتين اتباع الهوى وطول الأمل ، إما اتباع الهوى فإنه يصدّ عن الحق وإمّا طول الأمل فينسي الآخرة »(١)

__________________

(١) اُصول الكافي ٢ : ٢٥٢ ، باب اتباع الهوى

١٤٦

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام : « احذروا اهوائكم كما تحذرون اعدائكم فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد السنتهم »(١)

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يقول الله عزّ وجل : « وعزّتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواي إلّا شتت عليه أمره ولبست عليه دنياه وشغلت قلبه بها ولم أُوته منها إلّا ما قدّرت له ، وعزّتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلّا استحفظته ملائكتي وكفّلت السماوات والأرضين رزقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر واتته الدنيا وهي راغمه »(٢)

__________________

(١) و (٢) نفس المصدر

١٤٧

وَاَسْخَطَكَ وَاَسْخَطَ نَبِيَّكَ

اسخط : اغضب خلاف الرضا ، وإذا أسند إلى الله تعالى يراد منه ما يوجب السخط من العقوبة

النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : سمي به لأنه انبأ من الله تعالى أي أخبر فالنبي : هو الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة بشر أعم من أن يكون له شريعة كمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أو ليس له شريعة كيحيىعليه‌السلام ثمّ الفرق بينه وبين الرسول ، أن الرسول هو المخبر عن الله بغير واسطة أحد من البشر وله شريعة مبتدئة كآدمعليه‌السلام أو ناسخة كمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ ان النبي هو الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعان الملك والرسول هو الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين ، وأن الرسول قد يكون من الملائكة بخلاف النبي ، وعددهم مئة وعشرون ألفاً والمرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر(١)

وعن الصادقعليه‌السلام : « الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات : فنبي منبأ في نفسه ولا يعدوا غيرها ، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاين في اليقظة ولم يبعث إلى أحد ، وعليه إمام مثل ما كان إبراهيمعليه‌السلام على لوط ، ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاني الملك ، وقد أرسل إلى طائفه قلوا أو كثروا كيونسعليه‌السلام ، قال الله تعالى ليونسعليه‌السلام :( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) قال يزيدون ثلاثين ألفاً وعليه إمام ، والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل أُولي العزم »

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : « إن الله اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً ، وان الله اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً ، وإن الله اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً ، وإن الله اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً ، فلما جمع له الأشياء قال :
__________________

(١) مجمع البحرين ، مادة ( نبأ )

١٤٨

( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) فمن عظمها في عين إبراهيم :( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِي ) قال لا يكون السفيه إمام التقي

وفي حديث آخر من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً »

وعلى أي حال فالذي حضروا كربلاء قد اسخطوا الله تعالى واسخطوا نبيه ، ومن يسخط الله فجزاءه جهنم وساءت مصيرا ، ومن يسخط النبي بقتل فلذة كبده الحسينعليه‌السلام لا ينالون شفاعته يوم القيامة ، كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا أنالهم الله شفاعتي »

ففي تفسير البرهان في ذيل قوله تعالى :( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ) باسناده عن أبي عبد الله عن أبيه عن جدهعليه‌السلام قال : « للنار سبع أبواب باب يدخل منه فرعون وهامان وقارون ، وباب يدخل منه المشركون والكفار ممن لم يؤمن بالله طرفة عين ، وباب يدخل منه بنو اُمية هو لهم خاصة لا يزاحمهم فيه أحد وهو باب لظى وهو باب سقر وهو باب الهاوية تهوي بهم سبعين خريفاً فكلما فارت بهم فورة قذف بهم في أعلاها سبعين خريفاً فلا يزالون هكذا أبداً مخلدين ، وباب يدخل منه مبغضونا ومحاربونا وخاذلونا وإنه لأعظم الأبواب وأشدها حرّا »

١٤٩

وَاَطاعَ مِنْ عِبادِكَ

أطاع : في التهذيب : وقد طاع له يطوع إذا انقاد له ، بغير ألف ، فإذا مضى لامره فقد اطاعه ، فإذا وافقه فقد طاوعه ، ولكن قال ابن السكيت لا فرق بين أطاع وطاع أي انقاد له ، فالطاعة الانقياد وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام : خلق الخلق حين خلقهم غنياً عن طاعتهم آمناً من معصيتهم لأنه لا تضرّه معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه وقالعليه‌السلام : الطاعة تطفي غضب الرب ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنه لا يدرك ما عند الله إلّا بطاعته ، قال عليعليه‌السلام : أفضل الطاعات العزوف عن اللذات ، وفي حديث آخر : هجر اللذات ، وقالعليه‌السلام : أطع من فوقك يطيعك من دونك ، وقالعليه‌السلام : من احتاج إليك كانت طاعته لك بقدر حاجته إليك

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : من ارضى سلطاناً بما يسخط الله خرج عن دين الله عزّ وجل ، وقال عليعليه‌السلام : لا دين لمن دان بطاعة المخلوق ومعصية الخالق

عبادك : العبادة لغة هي غاية الخضوع والتذلل ، ولذلك لا تحسن إلّا لله تعالى الذي هو مولى أعظم النعم فهو حقيق بغاية الشكر ، قوله تعالى :( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) أي نخصك بالعبادة وهي ضرب من الشكر وغاية فيه ، وهي أقصى غاية الخضوع

والعبادة بحسب الاصطلاح : هي المواظبة على فعل المأمور به والفاعل عابد ثم استعمل العابد فيمن اتخذ الهاً غير الله ، فقيل عابد الوثني وعابد الشمس والتعبد التنسك(١)

قال المحقق الطوسي في الأخلاق الناصرية : قال الحكماء عبادة الله ثلاثة أنواع :

الأول : ما يجب على الأبدان كالصلاة والصيام والسعي في المواقف الشريفة لمناجاته

__________________

(١) ميزان الحكمة : ج ٦ ، باب الطاعة

١٥٠

الثاني : ما يجب على النفوس كالاعتقادات الصحيحة من العلم بتوحيد الله وما يستحقه من الثناء والتمجيد والفكر فيما افاضه الله تعالى على العالم من وجوده وحكمته ثم الاتساع في هذه المعارف

الثالث : ما يجب عند مشاركات الناس في المدن ، وهي في المعاملات والمزارعات والمناكح وتأدية الامانات ونصح البعض للبعض بضروب المعاونات وجهاد الأعداء والذب عن الحريم وحماية الحوزة

وحقيقة العبودية كما في حديثٍ عنوان لثلاث أشياء : ان لا يرى العبد لنفسه فيما خوله الله ملكاً ، لأن العبيد لا يكون لهم ملك بل يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله ، ولا يدبر العبد لنفسه تدبيراً ، وجملة اشتغاله فيما أمره الله تعالى ونهاه عنه ، فإذا لم يرى العبد فيما خوله الله ملكاً هان على الانفاق ، وإذا فوض العبد تدبير نفسه إلى مدبرها هانت عليه مصائب الدنيا ، وإذا اشتغل العبد فيما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرغ منها إلى المراء أو المباهات مع الناس ، فإذا كرم الله العبد بهذه الثلاثة هانت عليه الدنيا والمسيس والخلق ، ولا يطلب الدنيا تفاخراً وتكاثراً ولا يطلب عند الناس عزاً وعلوّاً ولا يدع أيامه باطلة(١)

__________________

(١) مجمع البحرين مادة ( عبد )

١٥١

اَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ

أهل : أهل الرجل : آله وهم أشياعه وأتباعه وأهل ملّته ، وأهل الإسلام من يدين به

الشّقاق : العداوة بين فريقين والخلاف بين اثنين ، سمي ذلك شقاقاً لأن كل فريق من فرقتي العدو قصد شقاً أي ناحية غير شقّ صاحبه

النفاق : الخلاف والكفر والمنافق : هو الذي يخفي الكفر ويظهر غيره ، مأخوذة من النفق وهو السرب في الأرض أي يستتر بالاسلام كما يستتر في السرب(١)

وفي الحديث المنافق الذي يظهر الإيمان ويتصنع بالإسلام

وقد اهتم القرآن بأمر المنافقين اهتماماً بالغاً ويكرّ عليهم كرّة عنيفة بذكر مساوي أخلاقهم

فالذين حضروا كربلاء وحاربوا الإمام الحسينعليه‌السلام قد حملوا هذه الصفات الرذيلة من الشقاق والنفاق والتي ورثوها من آبائهم وأجدادهم ضد أهل البيتعليهم‌السلام ، وكما قالوا للإمام الحسينعليه‌السلام نقاتلك بغضاً منّا لأبيك وما صنع بأشياخنا يوم بدر وحنين ، وهذا الكلام يدل على عدم إيمانهم بالله وبالرسول وبالآخرة لأنهم قدموا لأخذ ثارات بدر وحنين أي ثارات أهل الكفر والشرك

وقد أشار إلى هذا النفاق والكفر ـ بما جاء به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يزيد بن معاوية حيث قال ابياته المعروفة في قصره :

ليت أشياخي ببدر شهد

جزع الخزرج من وقع الأسل

لا هلوا واستهلوا فرحا

ثم قالوا يا يزيد لا تشل

__________________

(١) لسان العرب ، مادة ( شقق )

١٥٢

إلى أن قال البيت الذي أعلى بها عن كفره :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبرٌ جاء ولا وحي نزل

ولذلك اهتم القرآن من الابتعاد عن هذه الصفات الرذيلة وبالأخص صفة النفاق

كلمة حول النفاق والمنافقين :

اهتم القرآن بأمر المنافقين اهتماماً بالغاً ، ويكرّ عليهم كرّة عنيفة بذكر مساوي أخلاقهم وأكاذيبهم وخدائعهم ودسائسهم والفتن التي أقاموها على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى المسلمين ، وقد تكرّر ذكرهم في السور القرآنية كسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب والفتح والحديد والحشر والمنافقون والتحريم

وقد أوعدهم الله في كلامه أشدّ الوعيد ؛ ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم ، وجعل الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم ، وإذهاب نورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، وفي الآخرة بجعلهم في الدرك الأسفل من النار

وليس ذلك إلّا لشدّة المصائب التي أصابت الإسلام والمسلمين من كيدهم ومكرهم أنواع دسائسهم ، فلم ينل المشركون واليهود والنصارى من دين الله ما نالوه ، وناهيك فيهم قوله تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يشير إليهم :( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ) (١)

وقد ظهر آثار دسائسهم ومكائدهم أوائل ما هاجر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة ، فورد ذكرهم في سورة البقرة وقد نزلت ـ على ما قيل ـ على رأس ستّة أشهر من الهجرة ، ثمّ في السور الأُخرى النازلة بعد بالإشارة إلى أُمور من دسائسهم
__________________

(١) سورة المنافقون : ٤

١٥٣

وفنون من مكائدهم ، كانسلالهم من الجند الإسلاميّ يوم اُحد وهم ثلثهم تقريباً ، وعقدهم الحلف مع اليهود ، واستنهاضهم على المسلمين ، وبنائهم مسجد الضّرار ، وإشاعتهم حديث الإفك ، وإثارتهم الفتنة في قصّة السّقاية وقصّة العقبة ، إلى غير ذلك ممّا تشير إليه الآيات ؛ حتّى بلغ أمرهم في الإفساد وتقليب الاُمور على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى حيث هدّدهم الله بمثل قوله :( لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ) (١)

وقد استفاضت الأخبار وتكاثرت في أنّ عبد الله بن اُبيّ بن سلول وأصحابه من المنافقين ، وهم الذين كانوا يقلّبون الاُمور على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويتربّصون به الدوائر ، وكانوا معروفين عند المؤمنين يقربون من ثلث القوم ، وهم الذين خذلوا المؤمنين يوم اُحد فانمازوا منهم ورجعوا إلى المدينة قائلين : لو نعلم قتالاً لاتّبعناكم ! وهم عبد الله بن اُبيّ وأصحابه وهم الذين انقلبوا على أعقابهم بعد شهادة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وغصبوا حق أمير المؤمنينعليه‌السلام من الخلافة وقتلوا الزهراءعليها‌السلام وتألبوا على الإمام الحسنعليه‌السلام وأخيراً اجتمعوا على فلذة كبد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيد شباب الجنة وارتكبوا تلك الجريمة النكراء التي ليس لها مثيل في العالم الإسلامي ، ثم استمروا بقتل ذرية رسول الله وأئمة الهدى واحداً تلو الآخر إلى أن غيب الله الإمام الحجةعليه‌السلام حتى يظهر ويأخذ بثارهم إنشاء الله تعالى

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٦٠ ـ ٦١

١٥٤

وَحَمَلَةَ الْأَوْزارِ

الوزر : الحمل الثقيل ويطلق على الذنب لثقله والجمع أوزار

فبقتلهم سيد شباب الجنة حملوا الذنب الثقيل في الدنيا والآخرة ، فإما في الآخرة فقد استوجبوا النار كما في الزيارة « وَحَمَلَةَ الْأَوْزارِ الْمُسْتَوْجِبينَ النّارَ » وأما في الدنيا فكما ورد في كتاب كامل الزيارات : ان كل من شارك في قتل الإمام الحسينعليه‌السلام ابتلي باحد الأمراض الثلاثة : الجنون والجذام والبرص

وتقول الرواية أيضاً بأن هذه الأمراض قد انتقلت إلى ذراريهم من بعدهم رغم أنهم لا علاقة لهم بجريرة آبائهم ، إلّا أن هذا هو الذي حصل بالفعل وكان ذلك من عواقب قتل الإمام الحسينعليه‌السلام فكما السكّير تمتد آثار عمله إلى نسله فكذلك الحال مع الظالم وهذه مسألة تكوينية

وقد ورد أيضاً في كامل الزيارات : أن قتلة الإمام الحسينعليه‌السلام قد قُتلوا جميعاً ولم يمت أي منهم ميتة طبيعية في هذا السياق يقول الإمام محمد الباقرعليه‌السلام : والله لقد قُتل قتلة الحسينعليه‌السلام ولم يطلب بدمه بعد والله لم يرضى بعد ، لأن للإمام الحسينعليه‌السلام مكانة في أعالي الذرى والانتقام الذي حل بهم ـ وهو القتل ـ ليس كافياً ألبته

وقد ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام مخاطباً جده الإمام الحسينعليه‌السلام : أشهد أنك ثار الله في أرضه حتى يستثير لك من جميع خلقه ، فإن الله تعالى استغاث واستنهض بجميع الخلائق والكائنات للقيام بثأر الحسينعليه‌السلام ثم ضمّن جميع بقاع الأرض وجميع بني البشر ضمنهم دم الحسين أي جعل دم الحسين ضماناً في ذمتهم

١٥٥

فالمستغيث لثأر الحسين هو الله تعالى بنفسه ، فالله تعالى بذاته يطلب العون للأخذ بثأر الحسين ، والمستغاث فيها جميع الخلق أي جميع المخلوقات ابتداءاً من اللوح والقلم والعرش والكرسي والسماوات والأرضين والاجرام وكل ما يرى وما لا يرى ، وتستمر الاستغاثة إلى آخر مخلوق وحتى آخر لحظة من حياة العالم أشهد أنك ثار الله حتى يستثير لك من جميع خلقه

١٥٦

الْمُسْتَوْجِبينَ النّارَ

استوجب : استحق : اوجب الرجل إذا عمل عملاً يستحق الجنة أو النار والموجبة : الكبير من الذنوب ومنه الحديث : ولا تكتب عليه السيئات إلّا أن يأتي بموجبه

النار : السّمَةُ

فإن كل من خرج لحرب الإمام الحسينعليه‌السلام استوجب النار بل استوجب نار الدنيا قبل نار الآخرة ، والأكثر من ذلك هو أن كل من حضر كربلاء حتى ولم يقاتل عاقبه الله تعالى في الدنيا قبل يوم الآخرة

قال الزهري : ما بقي منهم أحد إلّا وعوقب في الدنيا إما بالقتل أو العمى أو سواد الوجه ، أو زوال الملك في مدّة يسيرة(١)

فقد روى الصدوق في عقاب الأعمال بإسناده إلى يعقوب بن سليمان قال : سهرت أنا ونفر ذات ليلة ، فتذاكرنا قتل الحسينعليه‌السلام فقال رجل من القوم : ما تلبّس أحد بقتله إلّا أصابه بلاء في أهله وماله ونفسه

فقال شيخ من القوم ـ فهو والله ممَن شهد قتله وأعان عليه فما أصابه إلى الآن أمر يكرهه فمقته القوم ـ أنا ممن حضر كربلاء وما أصابني شيء ، قال : فتغير السراج ، وكان دهنه نفطاً فقام إليه ليصلحه فأخذت النار باصبعه فنفخها ، فأخذت بلحيته ، فخرج يبادر إلى الماء فالقى نفسه في النهر وجعلت النار ترفرف على رأسه فإذا أخرجه احرقته حتى مات لعنه الله(٢)

__________________

(١) كشف الغمة

(٢) عقاب الأعمال

١٥٧

وقال ابن شهر آشوب ان المختار حرق بالنار كل من سلب الحسين وغيرهم ، فالذي سلب عمامة الحسينعليه‌السلام جابر بن يزيد الأزدي ، وقميصه اسحاق بن حويه ، وثوبه جعونه بن حويه ، وقطيفته من خزّ قيس بن الأشعث الكندي والقوس والحلل الرحيل بن خيثمة الجعفي ، وغيره ونعليه الأسود الأوسي ، وسيفه رجل من بني نهشل من بني دارم ، فاحرقهم المختار بنار الدنيا قبل نار الآخرة(١)

وروى كان الإمام الحسينعليه‌السلام جالساً في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فسمع رجلاً يحدث أصحابه ويرفع صوته ليسمع الحسينعليه‌السلام وهو يقول : إنا شاركنا آل أبي طالب في النبوّة حتى نلنا منها مثل ما نالوا منها من السبب والنسب ، ونلنا من الخلافة ما لم ينالوا فبم يفتخرون علينا ؟ وكرّر هذا القول ثلاثاً

فأقبل عليه الحسينعليه‌السلام فقال له : « إني كففت عن جوابك في قولك الأول حلماً وفي الثاني عفواً ، وإما في الثالث فإني مجيبك ، إني سمعت أبي يقول : إن الوحي الذي أنزله الله على محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا قامت القيامة الكبرى حشر الله بني اُمية في صور الذّر يطاهم الناس حتى يفرغ من الحساب ، ثم يوتى بهم فيحاسبوا ويصار بهم إلى النار » فلم يطق الأموي جواباً وانصرف وهو يتميّز من الغيظ(٢)

__________________

(١) كما تدين تدان : ٦٠ عن مناقب آل أبي طالب

(٢) حياة الحسين ٢ : ٢٣٥

١٥٨

فَجاهَدَهُمْ فيكَ

جاهد العدوّ : قاتله في سبيل الله ، قال في المجمع : قوله تعالى :( وَجَاهِدُوا فِي اللَّـهِ حَقَّ جِهَادِهِ ) أي في عبادة الله ، قيل : الجهاد بمعنى رتبة الإحسان ، ومعنى رتبة الإحسان هو انك تعبد ربك كأنك تراه فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك ، ولذلك قال : حق جهاده ، أي جهاداً حقاً كما ينبغي بجذب النفس ، وخلوصها عن شوائب الرياء والسمعة مع الخشوع والخضوع ، والجهاد مع النفس الأمارة واللوامة في نصرة النفس العاقلة المطمئنة وهو الجهاد الأكبر ، ولذلك ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه رجع من بعض غزواته فقال : « رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر »

فالإمام الحسينعليه‌السلام جاهد في الله تعالى وبذل النفس والمال لاعلاء كلمة التوحيد وإحياء دين جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا الجهاد مع النفس لاصلاحها فإنهمعليهم‌السلام منزهون عن دناسة النفس ، فأنفسهم طاهرة مطهرة كما أخبر الله تعالى بذلك في آية التطهير ، وإن أبيت إلّا أن يراد من الجهاد الأعم منه ومن الجهاد مع النفس فحينئذ معنى جهادهم مع أنفسهم هو عدم اقدامهم على المكاره أو المعاصي مع تمكنهم منها

ضرورة أن عصمتمعليه‌السلام وان اوجبت عدم صدور المعاصي عنهم إلّا أنه لا بنحو الجبر بل بنحو الاختيار ، فعصمتهم لم تنف امكان اقدامهم على المعاصي ، قال عليعليه‌السلام : « لولا التقى لكنت ادهى العرب » أي إني يمكنني الدهاء إلّا أن التقوى المعبر بها هنا بالعصمة تمنعني عنه كما لا يخفى

فجهادهم مع النفس عبارة عن عدم اقدامهم على المعاصي بعد ما كانت لهم المكنة عليها كما لا يخفى ، إلّا أن جهادهم معها لا لأجل تطهيرها عن الرذائل قال الإمام الحسنعليه‌السلام لمعاوية ما حاصله : « إن الله تعالى قد طهرني من الرذائل كما قد برّاك من الفضائل »

١٥٩

وكيف كان فالإمام الحسينعليه‌السلام جاهد في سبيل الله تعالى وفي سبيل طاعته ومحبته وتوحيده حق جهاد ، بل جاهد في الله بتمام انحاء الجهاد سواء بالسيف وبذل المال والزهد في حطام الدنيا والعبادات الشاقة من القيام في الليل والصيام في النهار الخ ومع ذلك كله كان جهاده جهاد صابر محتسب

١٦٠

صابِراً مُحْتَسِباً

الصبر : حبس النفس عن الجزع عند المكروه ، وهو يمنع الباطل عن الاضطراب واللسان عن الشكاية والأعضاء عن الحركات غير المعتادة(١)

قال المجلسي : إن الصبر على البلاء وعلى فعل الطاعة وعلى ترك المعصية وعلى سوء اخلاق الخلق بالفتح

وفي الحديث الصبر صبران : صبر على ما تكره وصبر على ما تحب ، وقد ورد في القرآن ثمانون آية في الصبر

نشير إلى بعض الروايات التي وردت عن الإمام الحسينعليه‌السلام التي تحرض المؤمنين على الصبر وأجر الصبر عند المصيبة

عن فاطمة بنت الحسين عن الإمام الحسينعليه‌السلام قالت ، قالعليه‌السلام : « من أصابته مصيبة ، فقال إذا ذكرها « إنا لله وإنا إليه راجعون » جدّد الله له من أجرها مثل ما كان له يوم أصابته »(٢)

قالعليه‌السلام : « اصبر على ما تكره فيما يلزمك الحق واصبر عما تحب فيما يدعوك إليه الهوى »(٣)

ومن كتاب له إلى عبد الله بن عباس حين سيّره عبد الله بن الزبير إلى اليمن(٤) : « أما بعد ، بلغني أن ابن الزبير سيّرك إلى الطائف فرفع الله لك بذلك ذكراً وحطّ به عنك وزراً ، وإنما يُبتلى الصالحون ، ولو لم توجر إلّا فيما تحب لَقلَّ الأجر ، عزّم الله لنا ولك بالصّبر عند البلوى والشكر عند النُّعمى ولا اشمت بنا ولا بك عدوّاً حاسداً أبداً والسلام »(٤)

__________________

(١) مرآة العقول ٨ : ١٢٠

(٢) موسوعة كلمات الإمام الحسين : ٧٧٠

(٣) و (٤) نفس المصدر

١٦١

الحسيب : الذي يفعل الأفعال الحسنة بماله وغير ماله ، وقيل لمن ينوي بعمله وجه الله ، في الحديث : مَن مات له ولد فاحتسبه أي احتسب الأجر بصبره على مصيبته به ، معناه : اعتد مصيبته به في جملة بلايا الله التي يثاب على الصبر عليها ، واحتسب بكذا اجراً عند الله تعالى

وسوف نذكر كيفية جهادهعليه‌السلام في الله صابراً محتسباً في قول الإمام الصادقعليه‌السلام من هذه الزيارة في فقرة « وَجاهَدْتَ في سَبيلِهِ »

١٦٢

حَتّىٰ سُفِكَ في طاعَتِكَ دَمُهُ

سَفَكَ الدم : صبَّه وأهرقه ، ومنه قوله تعالى :( لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ ) أي تصبون ، والسفك الاراقة والاجراء لكل مائع وفي الدعاء « وأمطرت بقدومك السوافك » أي التي تصب صبا وتهرق اهراقاً ، ورجل سفاك للدماء وسفاك للكلام : القادر على الكلام وبليغ

الطاعة : اسم لما يكون مصدره الاطاعة وهو الانقياد

فالإمام الحسينعليه‌السلام سُفِكَ دمه لاجل طاعة العباد لله تعالى وعبادته وحده ، كما مر في الفقرة الماضية « لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ » فالإمام الصادقعليه‌السلام استخدم كلمة « عبادك » وهي لاتخص الشيعة وحدهم بل جميع العباد

ان الإمام الحسينعليه‌السلام بسفك دمه واستشهاده قد فتح مدرسة للجميع مدرسة الفكر والضمير للجميع ، ليقارعوا الظلم ويتحمّلوا الشدائد والمصاعب حتى يذوقوا طعم السعادة

فالإمامعليه‌السلام أراد أن ينجي العباد من الجهالة والضلالة والتيه ، فمن أراد أن يتقرب إليه أكثر فعليه أن يبذل ما عنده وما يملك في خدمة هذه القضية حتى يركب في سفينة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام سفينة الهداية والسعادة ، كما هو مكتوب في ساق العرش : « الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة »

فالإمام الحسينعليه‌السلام سُفِكَ دمه من أجل ثلاثة أهداف : أُصول الدين والأحكام الشرعية والأخلاق الإسلامية ، فمن أراد أن يثبت ولائه لسيد الشهداءعليه‌السلام عليه أن يسعى لتحقيق هذه الأهداف الثلاثة التي استشهد من أجلها الإمامعليه‌السلام ، وأن يضعها على رأس أُولوياته لتقرّ عين الإمام الحسينعليه‌السلام والإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه

١٦٣

وَاسْتُبيحَ حَريمُهُ

استباحه : أي انتهبه واستأصله واستباحوهم : استأصلوهم ، ومنه حديث الدعاء للمسلمين : لا تسلط عليهم عدواً من غيرهم فيستبيح بيضتهم ويستبيح ذراريهم أي : يسبيهم وينهبهم(١)

الحرمه : ما لا يحل لك انتهاكه ، وجميع ما كلف الله به بهذه الصفة فمن خالف فقد انتهك الحرمة ، وحرم الرجل نساؤه وما يحمي المحارم : ما لا يحل استحلاله

فإن بني اُمية قد استباحوا كل شيء من الحسينعليه‌السلام بعد قتله حتى قال السيد بن طاووس : وتسابق القوم ـ بعد مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ـ على نهب بيوت آل الرسول وقرة عين الزهراء البتول حتى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة عن ظهرها ، وخرجن بنات آل الرسول وحريمه يتساعدن على البكاء ويندبن لفراق الحماة والأحبة ، ولله در القائل :

ولم ير حتى عينها ظل شخصها

إلى أن بدت في الغاضرية حسرا

قال حميد بن مسلم : رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها في عسكر عمر بن سعد ، فلما رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسينعليه‌السلام وفسطاطهن ، وهم يسلبونهن اخذت سيفاً واقبلت نحو الفسطاط وقالت : يا آل بكر بن وائل أتسلب بنات رسول الله ، لا حكم إلّا لله ، يا لثارات رسول الله ، فأخذها زوجها وردّها إلى رحله(٢)

وحائرات أطار القوم أعينها

رعباً غداة عليها خدرها هجموا

__________________

(١) مجمع البحرين

(٢) معالي السبطين : ٥٠٢

١٦٤

اَللّهُمَّ فَالْعَنْهُمْ لَعْناً وَبيلاً

اللهم : أصلها يا الله فحذف « يا » المنادى وعوضت عنها الميم المشدّد ، لأنهما لا يجتمعان وذلك لأن النحوي لم يجدوا ياء مع هذه الميم في كلمة واحدة ، ووجدوا اسم الله مستعملاً بياء إذا لم يذكروا الميم في آخر الكلمة فعلموا أن الميم في آخر الكلمة بمنزلة الياء في أولها ، والضمة التي هي في الهاء هي ضمة الاسم المنادىٰ المفرد ، وفتح الميم المشدّد لسكونها وسكون الميم قبلها والقاعدة تقول : إذا اجتمع الساكنان حرّك بالفتح وقال الفراء معنى اللهم : يا الله اُمَّ بخير

اللعن : الطرد من الرحمة ، وقوله تعالى :( لَّعَنَهُمُ اللَّـهُ بِكُفْرِهِمْ ) أي أبعدهم وطردهم من الرحمة

وبيلا : قال تعالى :( فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا ) أي شديداً في العقوبة

ان العقل السليم يحكم ويدرك بأن كل من نصب العداء والحرب والقتل لمحمد وآلهعليهم‌السلام يستحق اللعنة والعداء والبراءة منهم ، وإذا العقل لم يحكم بهذا الحكم فهو مشكوك به مختل أو ناقص ، وأما ما ورد من النقل فهو كثير منها ما عهد أمير المؤمنينعليه‌السلام لميثم التمار في حديث مفصل قال ميثم : وجبت لعنة الله على قتلة الحسينعليه‌السلام كما وجبت على اليهود والنصارى والمجوس(١)

وأما ما ذكر بعض علماء العامة عن عدم جواز اللعن على قتلة الإمام الحسين وبالأخص يزيد بن معاوية فما هو إلّا عناد بحت وتسويل شيطاني لايصغى إليه بل إن كثير من علمائهم المنصفون لم يتوقفوا في كفر يزيد وزندقته ولعنه واجمعوا على لعنه ، منهم سعد الدين التفتازاني في شرح العقائد النسفية : ص ١٨١ ، قال : « ونحن لانتوقف في شأنه بل في إيمانه فلعنة الله عليه وعلى أنصاره وعلى أعوانه »

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ٢٦٧

١٦٥

وقال صاحب كتاب شفاء الصدور : قد ردّ على الذين لم يجيزوا لعن يزيد كأبي حامد الغزالي صاحب كتاب إحياء علوم الدين فانشاء يقول :

قل لمن لا يجيز لعن يزيد

أنت ان فاتنا يزيد يزيد

زادك الله لعنة وعذابا

وله الله ضعف ذاك يزيد

وأما ورد عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في لعن قاتل الإمام الحسينعليه‌السلام : ما ورد في البحار عن جعفر بن محمد الفزاري معنعناً عن الإمام الصادقعليه‌السلام قالعليه‌السلام : كان الحسينعليه‌السلام مع اُمه تحمله فأخذه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال لعن الله قاتلك ولعن الله سالبك ، وأهلك الله المتوازرين عليك ، وحكم الله بيني وبين من أعان عليك ، قالت فاطمة الزهراءعليها‌السلام : يا أبت أي شيء تقول ، قال : يا بنتاه ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم ، والغدر والبغي ، وهو يومئذ في عصبة كأنهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل ، وكأني انظر إلى معسكرهم وإلى موضع رحالهم وتربتهم ، قالت : يا أبه وأين هذا الموضع الذي تصف ؟ قال : موضع يقال له كربلاء وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الاُمّة ، يخرج عليهم شرار اُمتي لو أن أحدهم شفع له من في السماوات والأرض ما شفّعوا فيه ، وهم المخلدون في النار ، قالت : يا أبه فيقتل قال نعم يا بنتاه وما قُتل أحد كان قبله ، ويبكيه السماوات والأرضون والملائكة والوحش والنباتات والبحار ولو يؤذن لها ما بقي على الأرض متنفس ، ويأتيه قوم من محبينا ليس في الأرض أعلم بالله ولا أقوم بحقّنا منهم الحديث(١)

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٤ : ٢٦٤

١٦٦

وعن كامل الزيارات عن داود الرّقي قال : كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام إذا استسقى الماء فلما شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه ثم قال لي : يا داود لعن الله قاتل الحسين فما من عبد شرب الماء فذكر الحسينعليه‌السلام وقاتله إلّا كتب الله له مائة ألف حسنة ، وحط عنه مئة ألف سيئة ، ورفع له مائة ألف درجة ، وكأنما اعتق مائة ألف نسمة ، وحشره الله يوم القيامة ثلج الفؤاد(١)

__________________

(١) بحار الأنوار ٦٣ : ٤٦٤

١٦٧

وَعَذِّبْهُمْ عَذاباً اَليماً

العذاب : النّكال والعقوبة وعذبته تعذيباً عاقبته ، وأصله في كلام العرب الضرب ثم استعمل في كل عقوبة مؤلمة واستعير للأُمور الشاقة فقيل السفر قطعه من العذاب

أليم : ومنه قوله تعالى :( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي مؤلم موجع ، إذ لا ألم فوق ألم عذاب لا رجاء معه للخلاص إذ الرجاء يهون العذاب ، والعذاب الأليم : الذي يبلغ ايجاعه غاية البلوغ فالأليم هنا معنى مؤلم ، والتألم ، التوجع

فقد ورد في زيارة عاشوراء « اللهم فضاعف عليهم اللعن منك والعذاب الأليم » ، فإن الإمام الصادقعليه‌السلام دعا عليهم بمضاعفة اللعن والعذاب ليكون عذابهم مثل عذاب جميع أهل النار ، كما روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : « ان قاتل الحسين بن عليعليه‌السلام في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل الدنيا ، وقد شدّ يداه ورجلاه بسلاسل من نار منكس في النار ، حتى يقع في قعر جهنم ، وله ريح يتعوّذ أهل النار إلى ربهم من شدّه نتنه وهو فيها خالد ذائق العذاب الأليم مع جميع من شايع على قتله ، كلّما نضجت جلودهم بدل الله عليهم الجلود حتى يذوقوا العذاب الأليم ، لا يفتر عنهم ساعة ويسقون من حميم جهنم فالويل لهم من عذاب النار »(١)

وفي رواية عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « ان في النار منزلة لم يكن يستحقها أحد من الناس إلّا بقتل الحسين بن علي ويحيى بن زكريا »(٢)

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ : ٣١٤

(٢) بحار الأنوار ٤٤ : ٣٠١

١٦٨

اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَابْنَ رَسُولِ اللهِ

ان كون الإمام الحسينعليه‌السلام ابن رسول الله فهو من المسلمات عند الإمامية الاثني عشر ، وقد دل على ذلك جملة من الآيات والأخبار الواردة عن أئمة أهل البيتعليهم‌السلام فمن الآيات التي يستدل بها على بنوّة الحسن والحسينعليهما‌السلام هي آية المباهلة في قوله تعالى :( أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ) وأيضاً استدل بها من العامة كالسيوطي في تفسيره الدر المنثور والطبري في تفسيره والقرطبي في تفسير الجامع لأحكام القرآن وكذلك من الآيات التي استدل بها آية ٨٤ من سورة الأنعام سوف نشير إليها في الحديث

وأما ما ورد عن الأخبار على بنوتهما فعن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن كل بني اُم ينتمون إلى أبيهم إلّا أولاد فاطمة فإني أنا أبوهم(١)

واحتجاج يحيى بن يعمر العامري وفي رواية سعيد بن جبير على الحجاج بن يوسف الثقفي وذلك ما رواه العلامة المجلسي(٢) قال : ذات يوم دخل الشعبي على الحجاج ـ وكان يوم عيد ـ فقال : بما يتقربون الناس بمثل هذا اليوم ؟ فقال الشعبي : بالاضحية ، فقال : الحجاج : ما تقول لو نتقرب برجل يقول : ان الحسن والحسين ولدا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول الشعبي : اطرقتُ وإذا برجل كبير مقيد بالحديد والأغلال وضعوه بين يديه ، فقال الحجاج للشيخ يحيى بن يعمر العامري من علماء الشيعة ـ وفي رواية كان سعيد بن جبير ـ : تقول : ان الحسن والحسين كانا ولدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لتأتيني بحجة من القرآن وإلّا لضربت عنقك ، يقول الشعبي : نظرت إلى الشيخ وإذا هو يحيى بن يعمر فحزنت له وقلت : كيف يجد حجة على ذلك من القرآن ؟

__________________

(١) السيوطي في احياء الميت : ٢٩ وغيره

(٢) بحار الأنوار ٤٣ : ٢٢٩ والفخر الرازي في تفسيره ٢ : ١٩٤

١٦٩

فقال الشيخ :( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ) (١)

فقال الشيخ : كيف يليق هنا عيسىعليه‌السلام إنه من ذرية إبراهيم ولم يكن له أب فقال : إنه ابن ابنته مريمعليه‌السلام فقال الشيخ : إذا كان عيسى بن إبراهيم عن طريق مريم فالحسن والحسين أُولى أن ينسبا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنهم أقرب من عيسى إلى إبراهيم ، فطرق الحجاج ثم أمر له بعشرة آلاف دينار فدفعه إليه

وفي رواية اُخرى عن أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام قال ، قال لي أبو جعفرعليه‌السلام : يا أبا الجارود ما يقولون لكم في الحسن والحسينعليهما‌السلام ، قلت ينكرون علينا انهما ابناء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : فأي شيء احتججتم عليهم ، قلت : احتججنا عليهم بقول الله عزّ وجل في عيسى بن مريم :( وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ ) فجعل عيسى بن مريم من ذرية نوحعليه‌السلام ، فقال فأي شيء قالوا لكم ؟ قلت : قالوا قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون من الصُّلب قال : فأي شيء احججتم عليهم ، قلت احججنا عليهم بقول الله تعالى لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) ، قال : فأي شيء قالوا ، قلت : قالوا قد يكون في كلام العرب أبناء رجل وآخر يقول ابناؤنا ، قال فقال أبو جعفرعليه‌السلام : يا أبا جارود لاعطينكها من كتاب الله إنهما من صلب
__________________

(١) سورة الأنعام : ٨٤ ـ ٨٥

١٧٠

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يردها إلّا كافر ، قلت وأين ذلك جعلت فداك ، قال من حيث قال الله تعالى :( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ ) الآية ، إلى أن انتهى إلى قوله تعالى :( وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ) فسلهم يا أبا جارود هل كان يحل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نكاح حليلتيهما فإن قالوا نعم : كذبوا وفجروا وإن قالوا لا ، فهما ابناه لصلبه(١)

__________________

(١) الكافي ٨ : ٣١٧

١٧١

اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَابْنَ سَيِّدِ الْأَوْصِيآءِ

الأوصياء : جمع وصي والوصية من وصى يصي إذا وصل الشيء بغيره ، لأن الموصي يوصل تصرفه بعد الموت بما قبله فكون الأئمةعليهم‌السلام أوصياء نبي الله أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أوصلهم إلى نفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ماله التصرف الثابت من الله تعالى من الولاية الشرعية والتكوينية ومعلوم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كسائر الأنبياء إنما كان معظم وصيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى من بعده من الأئمة هو أمر الولاية المعهودة والتمسك بها وأما وصيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله أُمته فترجع إلى التمسك بولاية الأئمةعليهم‌السلام ومتابعتهم

وعلى أي حال فإن الإمام الحسينعليه‌السلام هو أحد أوصياء الله ورسوله ـ وقد مرّ البحث عنه في فقرة « وجعلته حجة على خلفاؤك من الأوصياء » ـ فراجع

وابن سيد الأوصياء وهو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبيطالبعليه‌السلام ، فإن الوصاية لهمعليهم‌السلام أمر ثابت بالتواتر من طرق العامة والخاصة بل هو ثابت بالآيات القرآنية الدالة على ثبوت الولاية والوصاية لأمير المؤمنين والأئمة من بعده ، كآية التبليغ وآية الاطاعة ونحوهما فإنها تعطي مقام الخلافة والوصاية لهمعليهم‌السلام

وأما ما ورد من الأخبار عن من لا يحضره الفقيه عن ابن عباس قال سمعت النبي يقول لعلي : يا علي أنت وصيي اوصيت إليك بأمر ربي وأنت خليفتي استخلفتك بأمر ربي

وعن الإمام الكاظمعليه‌السلام عن أبيه قال : قال علي بن أبيطالبعليه‌السلام : إنه كان في وصية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أوّلها :

« بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد محمد بن عبد الله وأوصى به وأسنده بأمر الله إلى وصيّه علي بن أبي طالب أمير المؤمنينعليه‌السلام »

١٧٢

وكان في آخر الوصيّة :

« شهد جبرئيل وميكائل واسرافيل على ما أوصى به محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وقَبَضَه وصيّه ، وضمانه على ما فيها على ما ضَمِن يوشع بن نون لموسى بن عمرانعليه‌السلام وعلى ما ضمن وادّى وصي عيسى بن مريم ، وعلى ما ضمن الأوصياء قبلهم على أن محمد أفضل النبيين ، وعلياً أفضل الوصيين ، وأوصى محمد وسلّم إلى علي واقرّ علي وقبض الوصيّة على ما اوصى به الأنبياء وسلم محمد الأمر إلى علي بن أبي طالب وهذا أمر الله وطاعته وولّاه الأمر على أن لا نبوّة لعلي ولا لغيره بعد محمد وكفى بالله شهيدا »(١)

__________________

(١) بحار الأنوار ٢٢ : ٤٨١ عن كتاب الطرف : ٢١

١٧٣

اَشْهَدُ اَنَّكَ اَمينُ اللهِ وَابْنُ اَمينِهِ

الأمين : المؤتمن على الشيء ومنه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أمين الله على رسالته ، ورجل أمين أي له دين(١)

ان الله تعالى جعل الإمام الحسينعليه‌السلام أميناً على دينه أي إنه تعالى ائتمنه على دينه في حفظه من التغيير والتبديل والتحريف عن مواضعه ، كما أراد يزيد ومعاوية لعنهم الله وأعوانهم تغيره وتحريفه ، فالإمام الحسينعليه‌السلام بسفك دمه وبذل مهجته ، احيىٰ دين جده رسول الله وحفظه عن التغيير ، ولذلك أدى الأمانة بأحسن صورها إلى من بعده من الاُمناء والأوصياء

إذن معنى كون الإمام الحسينعليه‌السلام وأمير المؤمنين والأئمةعليهم‌السلام اُمناء على الخلق : أي مطهرون عما ينافي الأمانة من الخيانة ومبرّاون عنها لأن الله عصمهم من الزلل كما في زيارة الجامعة « عصمكم الله من الزلل » وفي حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام : « اختصهم لدينه وآتاهم ما لم يؤت احداً من العالمين وجعلهم عماداً لدينه ومستودعاً لمكنون سرّه واُمناء على وحيه »(٢)

فإن الله تعالى علم منهم الوفاء بما اشترط عليهم فهمعليهم‌السلام مؤتمنون على أنفسهم فحبسوها على طاعته وحفظوها عن معصيته ، ثم إن الله تعالى جعل قلوبهم محل مشيّة الله تعالى وارادته ، وإنما جعلها محلاً لهما لما ائتمنهم عليها ، وعلم تعالى انهم لا يشاءون ولا يريدون إلّا ما شاء الله وأراد ، قال تعالى في حقهم( عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ )

__________________

(١) مجمع البحرين ، مادة ( أمن )

(٢) كشف اليقين

١٧٤

فهم أول مصداق لأداء الأمانة حتى بالنسبة إلى الفاجر ، فهم اُمناء الله أي مؤتمنوه في ايصال الفيض إلى الفجار أيضاً بلا صدور شائبة خلاف أبداً

ففي الحديث : ان علي بن الحسينعليه‌السلام قال : « لو أن قاتل أبي جعل عندي السيف الذي قتل به أبي آمانة لأديته له إذا طلبه »

فهم ينظرون إلى الخلق بنظر الله إليهم حيث شملتهم الرحمة الواسعة منه تعالى فهمعليهم‌السلام بهذه الجهة والنظرة يتعاملون مع الخلق وهم اُمناؤه تعالى في ذلك ، ولذلك أمير المؤمنين يرفق بقاتله كما في الحديث : « ثم التفت إلى ولده الحسنعليه‌السلام وقال له : ارفق يا ولدي باسيرك وارحمه واحسن إليه واشفق عليه ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في اُم راسه ، وقلبه يرجف خوفاً ورعباً وفزعاً ، فقال الحسنعليه‌السلام : يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وافجعنا فيك قال : نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب الينا إلّا كرماً وعفواً ، والرحمة والشفقة من شيمتنا لا من شيمته ، بحقي عليك فاطعمه يا بُني مما تأكله »

فالخلاصة ان الله تعالى لم يعرض ولايتهم على الخلق إلّا بعد ما ائتمنهم على جميع ما استوى به من رحمانيته على عرشه فهمعليهم‌السلام مؤتمنون عليها وأمرهم الله تعالى أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها فادوا الأمانة إلى انحاء الخلق بانحاء الأداء ، فادّوا إلى كل ذي حق حقه

١٧٥

عِشْتَ سَعيداً وَمَضَيْتَ حَميداً

السعادة : ضد الشقاوة معناه الرخاء واليسر في شؤونه في الدارين الدنيا والآخرة ، وبعبارة اُخرى : هي الحياة الطيبة فيهما

ولذلك الإمام الحسينعليه‌السلام عاش سعيداً لأنه ادىٰ ما فرض الله تعالى عليه من الطاعة لله تعالى وهدى الاُمة المرحومة إلى الصراط المستقيم ، والأكثر من ذلك ان الذي سار على نهج الحسينعليه‌السلام وسار اثر مسيرته أيضاً يعيش سعيداً في الدنيا والآخرة ولذلك ورد في زيارة الجامعة « سعد من والاكم ، وهلك من عاداكم وفاز من تمسك بكم ، وأمن من لجأ إليكم »

فالإمام الحسينعليه‌السلام عاش سعيداً واسعد من تولاه لأن السعادة في الدنيا هو أن يكون الإنسان على السمحة السهلة ، وإذا مرّ بقليل من البلايا من النقص في الأموال والأنفس والأمراض ، فمن كان على نهج الحسين وأهل البيت تكون كفارّة لذنوبه واعلاء لدرجته ومقامه في الآخرة

ففي الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام : إنه ليكون للعبد منزله عند الله تعالى فما ينالها إلّا باحدى خصلتين : إما بذهاب ماله أو بيلية في جسده(١)

وعنهعليه‌السلام عن عبد الله بن أبي يعفور قال : شكوت إلى أبي عبد اللهعليه‌السلام مما القى من الأوجاع وكان مسقاماً : فقال لي : « يا عبد الله لو يعلم المؤمن ما له من الأجر في المصائب لتمنى أنه قرضى بالمقارين »(٢)

والخلاصة فإن الانسان المؤمن الذي يوالي أهل البيتعليهم‌السلام يعيش سعيداً لأنه على الصراط القويم ، وإما ما يمر عليه من البلايا فما هي إلّا ليصلح بها حاله ويدفع بها ما هو أعظم منها من عذاب الآخرة أو الدنيا مع ما فيها من الأجر
__________________

(١) و (٢) الشافي عن الكافي

١٧٦

العظيم ، حيث إنها تكون من أعظم نعم الله تعالى عليه ، فيجب شكرها لأنه بها المنزلة والمقام عند الله تعالى

ومضيت حميدا : الحميد من صفات الله تعالى بمعنى المحمود على كل حال وقد وردت هذه العبارة في زيارة سلمان الفارسي : اشهد انك عشت حميداً ومضيت سعيداً لم تنكث عهداً ولا حللت من الشرع عقدا(١)

واحمد الرجل قال في كتاب العين أي فعل فعلاً يُحمد عليه فالإمام الحسينعليه‌السلام بشهادته فعل فعلاً حُمد عليه ومضى عليه حميداً في الدنيا والآخرة

__________________

(١) بحار الأنوار ٩٩ : ٢٨٩

١٧٧

وَمُتَّ فَقيداً مَظْلُوماً شَهيداً

الموت : ضد الحياة وهو خلق من خلق الله تعالى ، والموت يقع على أنواع بحسب أنواع الحياة فمنها ما هو بازاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات ، كقوله تعالى :( يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ) ، ومنها زوال القوة الحسيّة ، كقوله تعالى :( يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـٰذَا ) ، ومنها زوال القوّة العاقلة ، وهي الجهالة ، كقوله تعالى :( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ ) ومنها الحزن والخوف المكدّر للحياة ، كقوله تعالى :( يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ) ومنها المنام كقوله تعالى :( وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) وقد قيل المنام هو الموت الخفيف ، والموت النوم الثقيل ، وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة : كالفقر والذل والسؤال والهرم والمعصية ، وغير ذلك ومنه الحديث : اول من مات ابليس لانه اول من عصى(١)

وقيل للإمام الصادقعليه‌السلام صف لنا الموت ؟ فقال : هو للمؤمن كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه ، فينقطع التعب والألم كله عنه ، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب وأشد(٢)

والموت والحياة خلقان من الله تعالى فإذا جاء الموت فدخل الإنسان لم يدخل في شيء إلّا وخرجت منه الحياة

الفقد : فقدان الشيء يقال امرءة فاقدة أي مات ولدها أو حميمها والفقيد هو الذي يُكترث لفقده(٣)

__________________

(١) لسان العرب ، مادة ( موت )

(٢) مجمع البحرين

(٣) كتاب العين ، مادة ( فقد )

١٧٨

مظلوماً : الظّلم وضع الشيء في غير موضعه ، وقد مر بحثه في فقرة « المظلوم الشهيد » ، فراجع

الشهيد : من قتل مجاهداً في سبيل الله ثم اتسع فاطلق على غيره وقال الأنباري : سمي الشهيد شهيداً لأن الله وملائكته شهود له بالجنة ، وهو أيضاً من أسماء الله تعالى الأمين في شهادته الذي لا يغيب عن علمه شيء ، والشهيد : الحاضر ، وقد مرّ البحث عنه مفصلاً في فقرة « المظلوم الشهيد » فراجع

١٧٩

وَاَشْهَدُ اَنَّ اللهَ مُنْجِزٌ ما وَعَدَكَ

أشهد : أي أقرُّ بلساني مذعنا بصميم جناني بأن الله تعالى منجز ما وعدك

منجز : يقال : نجز الوعد وأنجزته أي : عجلت ووفيت به وقضيته

الوعد : قال الجوهري يستعمل في الخير والشر ، وفي الخير الوعد والعدة ، وفي الشرّ الإيعاد والوعيد

وفي الحديث : يا من إذا وعد وفى وإذا توعد عفا

روي عن الصادقعليه‌السلام في قوله :( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) ، وقالعليه‌السلام : قَتْلُ علي بن أبي طالبعليه‌السلام وطَعنُ الحسنعليه‌السلام ( وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) ، وقال : قتل الحسينعليه‌السلام ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا ) إذا جاء نصر دم الحسينعليه‌السلام ( بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ) قوم يبعثهم الله قبل خروج القائمعليه‌السلام ( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ) خروج الحسينعليه‌السلام في سبعين من أصحابه عليهم البيض المذهّب لكلّ بيضة وجهان المؤدّون إلى الناس ، إن هذا الحسين قد خرج حتّى لا يشك المؤمنون فيه ، وإنه ليس بدجال ولا شيطان والحجة القائم بين أظهرهم ، فإذا استقرّت المعرفة في قلوب المؤمنين انّه الحسينعليه‌السلام جاء الحجّة الموتَ فيكون ـ الإمام الحسينعليه‌السلام ـ الذي يغسله ويكفنه ويحنطه ويلحده في حفرته الحسين بن علي ولا يلي الوصي إلّا الوصي(١)

وفي هذه الزيارة إشارة إلى كمال الإمام الحسينعليه‌السلام ووصوله إلى مقام مرضاة ربّه عزّ وجل وذلك بإنجاز ما وعده الله تعالى بالنّصر في الدنيا والآخرة ، امّا في الدنيا فقد نصره بالحجج والبينات والبراهين التي ظهرت على يدهعليه‌السلام ،
__________________

(١) الكافي ٨ : ٢٠٦

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246