في رحاب الزيارة الجامعة

في رحاب الزيارة الجامعة8%

في رحاب الزيارة الجامعة مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
ISBN: 964-7165-40-4
الصفحات: 698

  • البداية
  • السابق
  • 698 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 66215 / تحميل: 4620
الحجم الحجم الحجم
في رحاب الزيارة الجامعة

في رحاب الزيارة الجامعة

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
ISBN: ٩٦٤-٧١٦٥-٤٠-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

.........................................

____________________________________

وبهذا يتّضح جليّاً عدم صحّة رمي هذه الشهادة المباركة بالبدعة ، فقد تبيّن أنّها سنّة وليست ببدعة.

قال السيّد شرف الدين قدس سره : وقد أخطأ وشذّ من حرّم ذلك ، وقال بأنّه بدعة فإنّ كلّ مؤذّن في الإسلام يقدّم كلمة للأذان يوصلها به كقوله :( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ) (١) الآية ، أو نحوها ، ويلحق به كلمة يوصله بها كقوله : (الصلاة والسلام عليك يا رسول الله) أو نحوها. وهذا ليس من المأثور عن الشارع في الأذان ، وليس ببدعة ، ولا هو محرّم قطعاً ، لأنّ المؤذّنين كلّهم لا يرونه من فصول الأذان ، وإنّما يأتون به عملاً بأدلّة عامّة تشمله.

وكذلك الشهادة لعلي بعد الشهادتين في الأذان فإنّما هي عمل بأدلّة عامّة تشملها.

على أنّ الكلام القليل من سائر كلام الآدميين لا يبطل به الأذان ولا الإقامة ولا هو حرام في أثنائهما ، فمن أين جاءت البدعة والحرام(٢) ؟

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ١١١.

(٢) النصّ والإجتهاد : ص ١١٤.

١٠١

وَاُمَناءَ الرَّحْمنِ (١)

____________________________________

(١) ـ اُمناء جمع أمين من الأمانة ضدّ الخيانة ، والأمانة في كلّ شيء عدم الخيانة فيه ، والأمين هو المؤتمن على الشيء الذي لا يخون فيه ؛ ومنه محمّد أمين الله أي ائتمنه الله تعالى ، ومحمّد الأمين أي الذي ائتمنه الناس ولم يخنهم في الأمانة(١) .

والرحمن هو الواسع رحمته لجميع العالم وفي عموم رزقه وإنعامه(٢) .

وأهل البيت سلام الله عليهم اُمناء الله في أرضه ، والمؤتمنون منه على أمره وشهوده الاُمناء وسفراؤه النجباء في عباده.

ويدلّ عليه الزيارة المطلقة الثانية لأمير المؤمنين عليه السلام المروية عن الإمام السجّاد عليه السلام والموجودة في كتب المزار المعتبرة وقد جاء في أوّلها : «السلام عليك يا أمين الله»(٣) .

وكذلك الزيارة السادسة التي رواها صفوان ، عن الإمام الصادق عليه السلام التي ورد فيها : «قصدتك يا مولاي يا أمين الله وحجّته ...»(٤) .

والأئمة الطاهرون سلام الله عليهم اُمناء الله تعالى بجميع معنى الكلمة كجدّهم رسول الله صلى الله عليه وآله الذي جاء في التسليم عليه بالأمانة فيما رواه الشيخ المفيد والشهيد الأوّل والسيّد ابن طاووس في زيارة أمير المؤمنين عليه السلام الاُولى : «السلام من الله على محمّد رسول الله ، أمين الله على وحيه ورسالاته وعزائم أمره»(٥) .

__________________

(١) لاحظ مجمع البحرين : مادّة أمن ص ٥٤٧.

(٢) توحيد الصدوق : ص ٢٠٣.

(٣) وقد عدّها العلاّمة المجلسي في الزيارات الجامعة ، وروي عن الإمام الباقر عليه السلام «أنّه ما قالها أحد من شيعتنا عند قبر أمير المؤمنين عليه السلام ، أو أحد من الأئمّة عليهم السلام إلاّ رفع دعاؤه في درج من نور ، وطبع عليه بخاتم محمّد صلى الله عليه وآله حتّى يُسلّم إلى القائم عليه السلام ، فيلقى صاحبه بالبشرى والتحيّة والكرامة» كما في بحار الأنوار : ج ١٠٢ ص ١٧٦.

(٤) بحار الأنوار : ج ١٠٠ ص ٣٠٦ ب ٤ ح ٢٣.

(٥) بحار الأنوار : ج ١٠٠ ص ٣٨٤ ب ٤ ح ١٨.

١٠٢

.........................................

____________________________________

فإنّهم عليهم السلام مشتركون مع الرسول الأكرم في جميع الخصائص إلاّ النبوّة والنساء كما تلاحظه في حديث محمّد بن مسلم قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : «الأئمّة بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله إلاّ أنّهم ليسوا بأنبياء ، ولا يحلّ لهم من النساء ما يحلّ للنبي صلى الله عليه وآله ، فأمّا ما خلا ذلك فهم بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله»(١) .

وكيف لا يكونون اُمناء وقد عصمهم الله من كلّ زلّة ، وليس بينهم وبين كتاب الله فرقة. وفي حديث سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى طهّرنا وعصمنا ، وجعلنا شهداء على خلقه ، وحجّته في أرضه ، وجعلنا مع القرآن ، وجعل القرآن معنا ، لا نفارقه ولا يفارقنا»(٢) .

ونبّه في الشموس الطالعة على أنّ في إضافة اُمناء إلى الرحمن إشارةً إلى أنّهم لا تنحصر صفاتهم ـ ومنها أمانتهم ـ بالمؤمنين خاصّة ، بل تعمّ جميع الخلائق ، كما أنّ الرحمة الرحمانية الإلهية تعمّهم كافّة.

فهم عليهم السلام مظاهر الرحمة التي وسعت كلّ شيء ولذلك عرضت ولايتهم التي هي من الرحمة على جميع الخليقة أيضاً كما صرّحت بذلك رواية جامع البزنطي عن سليمان بن خالد قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول :

«ما من شيء ولا من آدمي ولا إنسي ولا جنّي ، ولا ملك في السماوات إلاّ ونحن الحجج عليهم ، وما خلق الله خلقاً إلاّ وقد عرض ولايتنا عليه ، واحتجّ بنا عليه ، فمؤمن بنا وكافر وجاحد حتّى السماوات والأرض والجبال ...»(٣) .

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٧ ص ٥٠ ب ١٨ ح ٢.

(٢) الكافي : ج ١ ص ١٩١ ح ٥.

(٣) مستطرفات السرائر : ج ٣ ص ٥٧٥ ، الشموس الطالعة : ص ١٤٤.

١٠٣

وَسُلالَةَ النَّبِيّينَ (١)

____________________________________

(١) ـ السَلّ : النتزاع الشيء وإخراجه برفق ، يقال : سللت السيف من الغمد أي إنتزعته وأخرجته منه ، ومنه اُخذت السُلالة بضمّ السين كما في كتب اللغويين.

وقد فسّرت لغةً بمعنى الولد ، فيطلق على الذكر سليل وعلى الاُنثى سليلة كما عن الأخفش(١) .

وفسّرها الشيخ الطريحي بمعنى الخلاصة من الشيء(٢) .

فسلالة النبيين أولادهم ، والخلاصة المأخوذة منهم.

وهذه صفة أهل البيت صلوات الله عليهم ، فإنّهم الذرّية المصطفاه ، والسلالة المنتقاة ، من أنبياء الله الكرام ، ورسله العظام : آدم وشيث وإدريس ونوح وهود وإبراهيم وإسماعيل عليهم السلام وسيّدهم الرسول محمّد صلى الله عليه وآله.

فآل محمّد صلوات الله عليهم هم صفة الصفوة من البيت الهاشمي والسلالة الطاهرة من البيت النبوي.

وقد فسّر بهم عليهم السلام قوله تعالى :( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٣) .

وقد وردت به أحاديث متظافرة من الطريقين الخاصّة والعامّة تلاحظها في غاية المرام وتفسير البرهان وتفسير الصافي(٤) .

فهم بحقّ ، سلالة الأنبياء وذرّية الأزكياء من الشامخين أصلاباً ، ومن الطاهرات أرحاماً ، كما تلاحظ نسبهم السامي المنبثق من رسول الله أبي القاسم محمّد بن

__________________

(١) لسان العرب : ج ١١ ص ٢٣٩.

(٢) مجمع البحرين : مادّة سلل ص ٤٧٩.

(٣) سورة آل عمران : الآية ٣٣ ـ ٣٤.

(٤) غاية المرام : ص ٣١٨ ، تفسير البرهان : ج ١ ص ١٧١ ، تفسير الصافي : ج ١ ص ٣٢٨.

١٠٤

.........................................

____________________________________

عبد الله بن عبد المطلّب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ابن الياس بن مضر بن نزار بن معد عدنان(١) سلام الله عليهم أجمعين(٢) .

فهم خاصّة ذريّة النبوّة في القرآن العظيم ، وليس لأحد من أعاديهم هذا النسب الكريم.

ولقد كذب من ادّعى أنّ بني اُميّة من بني عبد مناف ، إذ هم الشجرة الملعونة الكتاب(٣) ، وهم من أخسّ الأحساب والأنساب ، بل لم يكونوا من العرب أو من أهل الحسب والنسب.

فإنّ جدّهم اُميّة كان غلاماً روميّاً تبنّاه عبد شمس بن عبد مناف ، فصال لصيقاً به لا إبناً له ، وهذا ظاهر لا خفاء فيه ؛ لذلك لم يستطع معاوية إنكار ما كتبه إليه أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه : «ليس المهاجر كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق»(٤) .

خصوصاً وإنّ اُمّ معاوية كانت هند بنت عتبة التي حملت بمعاوية من أربعة اسخاص لم يكن منهم أبو سفيان حتّى ينسب إليه.

فقد صرّح الزمخشري بأنّه منسوب إلى أربعة لم يكن أبو سفيان مشتركاً معهم(٥) .

وكانت جدّة معاوية حمامة بغيّة من ذوات الرايات في ذي المجاز(٦) .

هذا أصل بني اُميّة اُمّاً وأباً ، فأي وصلة بينهم وبين بني عبد مناف نسباً أو حسباً؟!

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ ص ١١٠.

(٢) العقائد الحقّة الطبعة الاُولى : ص ٢٣٣.

(٣) سورة الأسراء : الآية ٦٠.

(٤) بحار الأنوار : ج ٣٣ ص ١٠٧.

(٥) ربيع الأبرار : ج ٤ ص ٢٧٥ الباب ٦٨ الرقم ٩٩.

(٦) الزام النواصب : ص ١٦٦.

١٠٥

وَصَفْوَةَ الْمُرْسَلينَ (١)

____________________________________

(١) ـ الصفوة بتثليث الصاد من صفو الشيء : خالصه وخياره وأحسنه(١) .

وفسّرت بمعنى النقاوة أيضاً(٢) .

والمرسلين جمع المرسل ، وهو الرسول مطلقاً من الإنس والملك.

إذ المرسل بمعنى الموجّه إلى الأمر المبعوث له كالأنبياء ، بل وحتّى بعض الملائكة بدليل قوله تعالى :( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ) (٣) ـ(٤) .

وأهل البيت عليهم السلام هم الأفضل والأحسن من المرسلين أجمعين ، ما عدا جدّهم خاتم النبيين صلى الله عليه وآله.

وهم الخلاصة التي إحتارها الله من رسله ، اُولئك الرسل الذين كانوا هم المصطفون من الحقّ.

وقد دلّت على ذلك آية الإصطفاء في قوله تعالى :( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (٥) وتلاحظ تفسير آل إبراهيم بآل محمّد صلى الله عليه وآله في أحاديثه(٦) . مثل :

حديث حنان بن سدير ، عن أبيه ، عن أي جعفر عليه السلام قال :( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) قال : «نحن منهم ونحن بقيّة تلك العترة»(٧) .

وقد تمثّلت فيهم صفات الأنبياء وسنن المرسلين اُولئك الأنبياء والرسل الذين

__________________

(١) مجمع البحرين : ص ٥٤ مادّة.

(٢) لسان العرب : ج ١٤ ص ٤٦٢.

(٣) سورة الحجّ : الآية ٧٥.

(٤) مرآة الأنوار : ص ١١٠.

(٥) سورة آل عمران : الآية ٣٣.

(٦) تفسير كنز الدقائق : ج ٣ ص ٧١ ـ ٧٢.

(٧) تفسير كنز الدقائق : ج ٣ ص ٧١.

١٠٦

.........................................

____________________________________

كانوا بأنفسهم القدوة العليا للصفات الفاضلة ، والمحاسن الكاملة.

كما تلاحظه في مثل :

حديث فضيل ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : «كانت في علي سنّة الف نبي»(١) .

وحديث أبي ذرّ الغفاري قال : بينما ذات يوم من الأيّام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله إذ قام وركع وسجد شكراً لله تعالى ، ثمّ قال :

«يا جندب من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، ولى إبراهيم في خلّته ، وإلى موسى في مناجاته وإلى عيسى في سياحته ، وإلى أيّوب في صبره وبلائه ، فلينظر إلى هذا الرجل المقبل الذي هو كالشمس والقمر الساري ، والكوكب الدرّي ، أشجع الناس قلباً وأسخى الناس كفّاً ، فعلى مبغضه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» ، قال : فالتفت الناس ينظرون مَن هذا المقبل ، فإذا هو علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام(٢) .

ولذلك لم يبعث الله تعالى نبيّاً إلاّ بمعرفة حقّهم ، وتفضيلهم على مَن سواهم كما في حديث عبد الأعلى قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول :

«ما من نبي جاء قط إلاّ معرفة حقّنا وتفضيلنا على مَن سوانا»(٣) .

بل أخذ من الأنبياء الميثاق بالشهادة بذلك كما في حديث أبي الصباح الكناني ، عن جعفر بن محمّد عليهما السلام قال :

أتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام وهو في مسجد الكوفة قد احتبى بسيفه قال : يا أمير المؤمنين إنّ في القرآن آية قد أفسدت قلبي وشكّكتني في ديني.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣٩ ص ٣٨ ب ٧٣ ح ٨.

(٢) بحار الأنوار : ج ٣٩ ص ٣٨ ب ٧٣ ح ٩.

(٣) الكافي : ج ١ ص ٤٣٧ ح ٤.

١٠٧

.........................................

____________________________________

قال له عليه السلام : وما هي؟

قال : قوله عزّ وجلّ :( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا ) (١) هل كان في ذلك الزمان غيره نبيّاً يسأله؟

فقال له علي صلوات الله عليه : اجلس اُخبرك إن شاء الله.

إنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ) (٢) .

فكان من آيات الله عزّ وجلّ التي أراها محمّداً صلى الله عليه وآله أنّه أتاه جبرئيل عليه السلام فاحتمله من مكّة ، فوافى به بيت المقدّس في ساعة من الليل.

ثمّ أتاه بالبراق فرفعه إلى السماء ، ثمّ إلى البيت المعمور ، فتوضّأ جبرئيل وتوضّأ النبي صلى الله عليه وآله كوضوئه ، وأذّن جبرئيل وأقام مثنى مثنى ، وقال للنبي صلى الله عليه وآله : تقدّم فصلّ واجهر بصلاتك ، فإنّ خلفك اُفقاً من الملائكة لا يعلم عددهم إلاّ الله ، وفي الصفّ الأوّل أبوك آدم ونوح وهود وإبراهيم وموسى وكلّ نبي أرسله الله مذ خلق السماوات والأرض إلى أن بعثك يا محمّد.

فتقدّم النبي صلى الله عليه وآله فصلّى بهم غير هائب ولا محتشم ركعتين ، فلمّا إنصرف من صلاته أوحى الله إليه :( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا ) الآية.

فالتفت إليهم النبي صلى الله عليه وآله فقال : بم تشهدون؟

قالوا : نشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّك رسول الله صلى الله عليه وآله وأنّ عليّاً أمير المؤمنين ووصيّك ، وكلّ نبي مات خلّف وصيّاً من عصبته غير هذا ـ وأشار إلى عيسى بن مريم ـ فإنّه لا عصبة له ، وكان وصيّه شمعون الصفا بن حمّون بن عمامة.

__________________

(١) سورة الزخرف : الآية ٤٥.

(٢) سورة الإسراء : الآية ١.

١٠٨

.........................................

____________________________________

ونشهد أنّك رسول الله سيّد النبيّين ، وأنّ علي بن أبي طالب سيّد الوصيين ، اُخذت على ذلك مواثيقنا لكما بالشهادة.

فقال الرجل : أحييت قلبي وفرّجت عنّي يا أمير المؤمنين(١) .

وما تكاملت النبوّة لنبي في الأظلّة حتّى عرضت عليه ولاية محمّد وآل محمّد ، فأقرّوا بطاعتهم وولايتهم ، كما في حديث حذيفة بن أسد الغفاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله :

«ما تكاملت النبوّة لنبي في الأظلّة حتّى عرضت عليه ولايتي وولاية أهل بيتي ومُثّلوا له ، فأقرّوا بطاعتهم وولايتهم»(٢) .

واعلم أنّ في نسخة الزيارة(٣) بعد قوله هذا ، زيادة قوله : «وآل يس» ويس هو رسول الله صلى الله عليه وآله وآل محمّد آل يس عليهم السلام.

وقد خصّهم الله بالسلام في سورة الصافات(٤) التي سُلّم فيها على الأنبياء دون آلهم ، إلاّ آل يس كما تلاحظه في أحاديثنا المروية عن أئمّتنا الطاهرين سلام الله عليهم مثل حديث سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه السلام قال :

«أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله إسمه ياسين ، ونحن الذين قال الله :( سَلَامٌ عَلَىٰ إِلْ يَاسِينَ ) »(٥) .

وفي المجمع(٦) قال ابن عبّاس : آل يس آل محمّد صلى الله عليه وآله ، وهو قراءة ابن عامر ونافع ورويس عن يعقوب.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٦ ص ٢٨٥ ح ٤٥.

(٢) المعالم الزلفى : ص ٣٠٣ ب ٢٦ ح ٦.

(٣) في البلد الأمين ، ومستدرك الوسائل.

(٤) سورة الصافات : الآية ١٣٠.

(٥) بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ١٦٨ ب ٨ ح ٢.

(٦) مجمع البيان : ج ٨ ص ٤٥٦ و ٤٥٧.

١٠٩

وَعِتْرَةَ خِيَرَةِ رَبِّ الْعالَمينَ (١)

____________________________________

(١) ـ عترة الرجل : نسله ورهطه وعشيرته الأقربون. وجاء أيضاً بمعنى ذرّية الرجل من صلبه ، وجاء في اللغة أيضاً لمعان اُخرى فقد حكي عن ابن الأعرابي مجيئه بمعنى قطع المسك الكبار في النافجة ، وبمعنى الريقة العذبة ، وبمعنى الشجرة ، أو الشجرة المقطوعة التي تنبت من اُصولها. وعترة رسول الله صلى الله عليه وآله هم آل محمّد صلوات الله عليهم كما جاء التصريح بذلك في حديث الريّان بن الصلت قال :

حضر الرضا عليه السلام مجلس المأمون بمرو ، وقد إجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان. فقال المأمون : مَن العترة الطاهرة؟

فقال الرضا عليه السلام : الذين وصفهم الله في كتابه ، فقال جلّ وعزّ :( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) (١) وهم الذين قال رسول الله صلى الله عليه وآله : «إنّي مخلّف فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، أيّها الناس لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم» قالت العلماء : أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة ، أهم الآل أم غير الآل؟

فقال الرضا عليه السلام : هم الآل(٢) . قال الشيخ الصدوق قدس سره : (العترة علي بن أبي طالب وذرّيته من فاطمة وسلالة النبي عليهم السلام ، وهم الذين نصّ الله تبارك وتعالى عليهم بالإمامة على لسان نبيّه صلى الله عليه وآله ، وهم إثنى عشر أوّلهم علي وآخرهم القائم عليهم السلام ، على جميع ما ذهبت إليه العرب من معنى العترة ..)(٣) وهم إثنى عشر أوّلهم علي وآخرهم القائم عليهم السلام ، على جميع ما ذهبت إليه العرب من معنى العترة ...)(٤) .

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٣٣.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٥ ص ٢٢٠ ب ٦ ح ٢٠.

(٣) معاني الأخبار : ص ٩٢.

(٤) معاني الأخبار : ص ٩٢.

١١٠

.........................................

____________________________________

والخِيَرة بكسر الخاء وفتحها ، معناها المختار ، أي رسول الله الذي هو خيرة ربّ العالمين ، إختاره الله تعالى الذي هو المنشىء للخلق ، والمربّي لهم ، والمصلح لشأنهم والعالم بخيرهم.

قال في المجمع : (محمّد خيرتك من خلقك) أي المختار المنتجب(١) .

وأهل البيت سلام الله عليهم هم عترة خيرة ربّ العالمين أي أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله كما أوضحه وبيّنه وخصّها بهم هو صلوات الله عليه وآله في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين في قوله : «وعترتي أهل بيتي» كما لاحظته في الحديث الرضوي المتقدّم(٢) .

فلا يبقى أدنى ريب ، ولا أقلّ شبهة في أنّ أهل البيت عليهم السلام هم عترة الرسول دون غيرهم ، وإن ادّعاها الغير كذباً.

فقول أبي بكر في السقيفة : (نحن عترة رسول الله) يردّه ما يلي :

أوّلاً : أنّه من بني تيم بن مرّة وليس من بني هاشم ، فكيف بنسل النبي وعشيرته الأقربين حتّى يكون من عترته ، كما هو واضح.

ثانياً :أنّه لو كانت دعواه صحيحة لكانت قريش كلّها عترة واحدة ، بل كانوا بنو مُعد بن عدنان عترة واحدة ، بل كان جميع ولد ىدم عترة واحدة ، وهذا واضح الفساد(٣) .

ثالثاً : أنّه يشهد بعدم كونه من العترة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله ردّه حينما أمره بتبليغ سورة البراءة ، فهبط عليه جبرئيل عليه السلام بأنّه لا يبلّغها إلاّ هو أو رجل منه. فأنفذ رسول الله صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام وقال : «علي منّي ولا يؤدّي عنّي إلاّ علي»(٤) . ففعل الرسول يشهد على أنّ أبا بكر ليس من عترته ، بل ليس منه ، فالعترة خاصّة بأهل بيته.

__________________

(١) مجمع البحرين : مادّة خَيَر ص ٢٥٨.

(٢) وتلاحظ مصادر الحديث في إحقاق الحقّ : ج ٩ ص ٣٠٩ ، وغاية المرام : ص ٢١١.

(٣) تلخيص الشافي ، لشيخ الطائفة : ج ٢ ص ٢٤٢.

(٤) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٧٥ ب ٣١ ح ١٠ بطرق الخاصّة ونقله في التلخيص : ج ٢ ص ٢٢٣ في الهامش عن البخاري والترمذي والطبري والسيوطي والشوكاني والمتّقي وابن كثير والخوارزمي والزرقاني والكنجي وابن حجر وغيرهم.

١١١

وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ (١)

____________________________________

(١) ـ الرحمة والبركات معطوفتان على السلام الذي تقدّم في أوّ الزيارة الشريفة في قوله عليه السلام : «السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة».

والرحمة إمّا بيان للسلام ، أو أنّ السلام لرفع المكاره ، والرحمة لجلب الفضائل.

كما وأنّ الركة التي هي الخير والكرم تشمل البركات الدنيوية والاُخروية(١) .

هذا تمام بيان السلام الأوّل من السلامات الخمسة التي إشتملت عليها هذه الزيارة الشريفة.

__________________

(١) روضة المتّقين : ج ٥ ص ٤٦١.

١١٢

الفصل الثاني

اَلسَّلامُ عَلى اَئِمَّةِ الْهُدى (١)

____________________________________

(١) ـ مضى بيان معنى السلام على ثلاثة وجوه وأنسبيّة المعنى الأخير منها بأن يراد من السلام إسم الله تعالى ، وخاصّية السلامة والرحمة.

فيكون حاصل المعنى من هذه الفقرة أنّ رحمة الله وسلامته على أئمّة الهدى سلام الله عليهم.

والأئمّة جمع إمام وهو المقتدى ، قال تعالى :( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ) (١) أي يأتمّ بك الناس فيتّبعونك ويأخذون عنك ، لأنّ الناس يؤمّون أفعاله ، أي يقصدونها فيتّبعونها(٢) .

والهدى هي الهداية والإرشاد ، والدلالة والبيان.

قال الكازراني : (خلاصة معنى الهداية في الإستعمال الشرعي ، الدلالة إلى الحقّ ، والدعاء إليه ، وإراءة طريقه ، والإرشاد إليه والأمر به)(٣) .

وأهل البيت عليهم السلام هم أئمّة الهدى بمعنى إنّ الهدى يلازمهم ويتبعهم ، فهم أئمّته ، أو بمعنى أنّهم أئمّة الناس في الهداية كما أفاده شيخنا المجلسي قدس سره(٤) .

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٢٤.

(٢) مجمع البحرين : مادّة أمَمَ ص ٥٠٣.

(٣) مرآة الأنوار ص ٢٢٧.

(٤) بحار الأنوار : ج ١٠٢ ص ١٣٥.

١١٣

.........................................

____________________________________

فهم الهداة ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه ربّه سبحانه :( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (١) .

وهم عدل القرآن الكريم الذين وصفه الله عزّ إسمه بقوله :( إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (٢) .

وقد جعلهم الله أعلام الهداية في قوله جلّ جلاله :( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) (٣) .

كما تلاحظ ذلك في تفسير هذه الآية في مثل :

حديث بريد العجلي ، عن أبي جعفر عليه السلام قال :

«رسول الله صلى الله عليه وآله المنذر ، ولكلّ زمانٍ منّا هادٍ يهديهم إلى ما جاء به نبي الله صلى الله عليه وآله ثمّ الهداة من بعده عليٌّ ثمّ الأوصياء واحدٌ بعد واحد»(٤) .

وجاء ذلك في أحاديث الخاصّة والعامّة(٥) .

فمن أتاهم اهتدى ، ومن تركهم سلك طريق الردى ، كما في حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى من طرقنا(٦) .

ومن اقتدى بهم هُدي إلى صراط مستقيم ، ولم يهب الله محبّتهم لعبد إلاّ أدخله الله الجنّة ، كما في حديث جابر من طرق العامّة(٧) .

__________________

(١) سورة الشورى : الآية ٥٢.

(٢) سورة الإسراء : الآية ٩.

(٣) سورة الرعد : الآية ٧.

(٤) الكافي : ج ١ ص ١٩١ ح ٢.

(٥) إحقاق الحقّ : ج ٤ ص ٣٠٠.

(٦) الكافي : ج ١ ص ١٨١ ح ٦.

(٧) ينابيع المودّة : ص ٦٢ ، عنه إحقاق الحقّ : ج ٤ ص ٥٩.

١١٤

وَمَصابيحِ الدُّجى (١)

____________________________________

(١) ـ مصابيح جمع مصباح ـ وهو في اللغة بمعنى السراج الثاقب المضيء ، ويكنّى به عن كل ما يهتدى به.

والدُجى جمع الدُجْيَة بضمّ الدال أي الظلمة ، يقال : ليل دَجِيّ وليل داجٍ أي مظلم.

والأئمّة الأطهار عليهم السلام مصابيح الدجى ، وسُرُج الهداية في الدنيا ، وهادون للخلق من ظلمة الشرك والكفر ، والضلالة والجهل ، إلى نور الإيمان والطاعة والمعرفة والعلم.

بل هم المثل الأعلى لمصباح الهدى ، ووسائل النجاة في جميع الظلمات كما تلاحظ ذلك في حديث عبد العزيز بن مسلم ، عن الإمام الرضا عليه السلام قال فيه :

«الإمام كالشمس الطالعة المجلِّلة بنورها للعالَم وهي في الاُفق ، بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار ، الإمام البدرُ المنير ، والسراج الزاهر ، والنور الساطع ، والنجم الهادي ي غياهب الدجى»(١) .

وقد تقدّم في حديث بريد العجلي أنهم الهادون في قوله تعالى :( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ) وأفاد في الشموس الطالعة كأنّ قوله عليه السلام في الزيارة الشريفة : «ومصابيح الدجى» إشارة إلى قوله تعالى في الكتاب الكريم :( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (٢) ـ(٣) . فقد فسّرت بأهل بيت العصمة سلام الله عليهم كما تلاحظ ذلك في مثل : حديث صالح بن سهل الهمداني قال :

__________________

(١) الكافي : ج ١ ص ٢٠٠ ح ١.

(٢) سورة النور : الآية ٣٥.

(٣) الشموس الطالعة : ص ١٥٧.

١١٥

.........................................

____________________________________

قال أبو عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ :( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ) (١) ، فاطمة عليها السلام.

( فِيهَا مِصْبَاحٌ ) : الحسن عليه السلام.

( الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ) : الحسين عليه السلام.

( الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ) : فاطمة كوكب درّي بين نساء أهل الدنيا.

( يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) : إبراهيم عليه السلام.

( زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ ) : لا يهوديّة ، ولا نصرانيّة.

( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ) : يكاد العلم ينفجر بها.( وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ) .

( نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ) : إمام منها بعد إمام.

( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ) : يهدي الله للأئمّة عليهم السلام من يشاء.( وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ) (٢) .

وقد جاء هذا التفسير من العامّة أيضاً كابن المغازلي في المناقب والحضرمي في رشفة الصادي(٣) وذكر مفصّلاً أحاديث التفسير في المجامع(٤) .

فأهل البيت سلام الله عليهم مصابيح الهداية في السماوات والأرضين ، والسرج المنيرة في غياهب الظلمات ، وكلّهم سفن النجاة.

وفي حديث عباية ، عن أمير المؤمنين عليه السلام : «مَثَلُ أهل بيتي مَثَل النجوم ، كلّما أَفَل نجمً طلع نجم آخر»(٥) .

__________________

(١) سورة النور : الآية ٣٥.

(٢) تفسير كنز الدقائق : ج ٩ ص ٣٠٨.

(٣) مناقب علي بن أبي طالب : ص ٣١٦ ، رشفة الصادي : ص ٢٩ من الطبعة المصرية.

(٤) بحار الأنوار : ج ١٦ ص ٣٥٥ ب ١١ ح ٤٢ وما بعده.

(٥) بحار الأنوار : ج ٢٤ ب ٢٠ ص ٨٢ ح ٣٢.

١١٦

وَاَعْلامِ التُّقى (١)

____________________________________

(١) ـ أعلام : جمع عَلَم بفتحيتين مثل أسباب جمع سَبَب ، معناه العَلامة.

ويطلق على الجبل الذي يُعلم به الطريق ، والمنار المرتفع الذي يوقد في أعلاه النار ليهتدي به الضالّ ، والراية التي يعرف بها أهل تلك الراية وتكون علامةً لهم.

والتُّقى مصدر إتّقى يتّقي ، وتقى يتّقي ، تُقىً وتِقاء ، معناه التقوى.

والتقوى على وزن نجوى إسم من الإتّقاء ، وهي لغةً بمعنى التحذّر(١) .

وجاء في الكتاب العزيز بمعنى الخشية والهيبة ، ومنه قوله تعالى :( وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ) (٢) .

وبمعنى الطاعة والعبادة ، ومنه قوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ) (٣) .

وبمعنى تنزيه القلوب عن الذنوب ، ومنه قوله تعالى :( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) (٤) ـ(٥) .

وقال العلاّمة المجلسي : (التقوى من الوقاية ، وهي في اللغة فرط الصيانة ، وفي العرف صيانة النفس عمّا يضرّها في الآخرة ، وقصرها على ما ينفعها فيها ، ولها ثلاث مراتب :

١ ـ وقاية النفس عن العذاب المخلّد بتصحيح العقائد الإيمانيّة.

٢ ـ التجنّب عن كلّ ما يؤثم من فعل أو ترك ، كما هو المعروف عند أهل الشرع.

٣ ـ التوقّي عن كلّ ما يشغل القلب عن الحقّ ، وهذه درجة الخواصّ بل خاصّ

__________________

(١) لسان العرب : ج ١٥ ص ٤٠٢.

(٢) سورة البقرة : الآية ٤١.

(٣) سورة آل عمران : الاية ١٠٢.

(٤) سورة النور الآية ٥٢.

(٥) مجمع البحرين : مادّة تقا ص ٩٦.

١١٧

.........................................

____________________________________

الخاصّ(١) .

وجاء في الحديث تفسير جامع لطيف للتقوى ، فقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن تفسير التقوى؟

فقال : «أن لا يفقدك حيث أمرك ، ولا يراك حيث نهاك»(٢) .

وهذا معنى يجمع المعاني العالية للتقوى ، رزقنا الله الإتّصاف بها.

وأمّا حقيقته فأبلغ كلام وأتمّ بيان في حقيقة التقوى وصفات المتّقين هي غوالي لئالي سيّدهم ومولاهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في خطبته الجليلة التي صعق لها همّام ، فلاحظها في نهج البلاغة(٣) ، وجاءت في اُصول الكافي باسناد ثقة الإسلام الكليني عن عبد الله بن يونس ، عن أبي عبد الله عليه السلام(٤) .

وتوصيف أهل البيت عليهم السلام في هذه الزيارة الشريفة بأنّهم أعلام التُّقى بمعنى أنّهم الهادون إلى التّقى كالمنار المنير.

فهم أتقى المتّقين وسادة أهل التقوى واليقين ، فلا تُعرف التقوى إلاّ منهم ، ولا تؤخذ إلاّ عنهم.

وما أكثر وصيّتهم بها ، وحثّهم عليها ، وسَوقهم الناس إليها ، فكانوا أعلام التّقى بحقٍّ وحقيقة باعتراف الأحبّاء والأعداء.

وهم العلامات التي جعلها الله تعالى للعالمين ، وهدى بها المخلوقين كما يستفاد من حديث داود الجصّاص(٥) .

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٠ ص ١٣٦.

(٢) سفينة البحار : ج ٨ ص ٥٥٨.

(٣) نهج البلاغة : ج ٢ ص ١٨٥ الخطبة ١٨٨ من الطبعة المصرية.

(٤) الكافي : ج ٢ ص ٢٢٦ مع اختلاف يسير.

(٥) الكافي : ج ١ ص ٢٠٦ ح ١ ـ ٣.

١١٨

................................ ____________________________________

وقد تظافرت الأحاديث في أنّهم أعلام التقى ومناره(١) نتبرّك منها بحديثٍ واحد طريف جاء ذلك من آخره وهو :

حديث النوفلي ، عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال : حدّثني العبد الصالح الكاظم موسى بن جعفر ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين ، قال : حدّثني أخي وحبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله قال :

«من سرّه أن يلقى الله عزّ وجلّ وهو مقبل عليه غير معرض عنه فليتوالك يا علي.

من سرّه أن يلقى الله عزّ وجلّ وهو راضٍ عنه فليتوال إبنك الحسن عليه السلام.

من أحبّ أن يلقى الله ولا خوف عليه فليتوال إبنك الحسين عليه السلام.

ومن أحبّ أن يلقى الله عزّ وجلّ وقد محا الله ذنوبه عنه فليوال علي بن الحسين عليهما السلام ، فإنّه ممّن قال الله عزّ وجلّ :( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) (٢) .

ومن أحبّ أن يلقى الله عزّ وجلّ وهو قرير العين فليتوال محمّد بن علي الباقر عليهما السلام.

ومن أحبّ أن يلقى الله عزّ وجلّ ويعطيه كتابه بيمينه فليتوال جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام.

ومن أحبّ أن يلقى الله طاهراً مطهّراً فليتوال موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام.

ومن أحبّ أن يلقى الله عزّ وجلّ وهو ضاحك فليتوال علي بن موسى الرضا عليهما السلام.

ومن أحبّ أن يلقى الله عزّ وجلّ وقد رفعت درجاته وبدّلت سيّئاته حسنات فليتوال محمّد بن علي الجواد عليهما السلام.

ومن أحبّ أن يلقى الله عزّ وجلّ ويحاسبه حساباً يسيراً ، ويدخله جنّات عدن

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٧ ص ١٠٧ ب ٤ ح ٨٠ وج ٩٤ ص ٨٣ ب ٣٠ ح ٢.

(٢) سورة الفتح : الآية ٢٩.

١١٩

.........................................

____________________________________

عرضها السماوات والأرض اُعدّت للمتّقين فليتوال علي بن محمّد الهادي عليهما السلام.

ومن أحبّ أن يلقى الله عزّ وجلّ وهو من الفائزين فليتوال الحسن بن علي العسكري عليهما السلام.

ومن أحبّ أن يلقى الله عزّ وجلّ وقد كمل إيمانه ، وحسن إسلامه فليتوال الحجّة بن الحسن المنتظر صلوات الله عليه.

هؤلاء أئمّة الهدى وأعلام التقى ، من أحبّهم وتوالاهم كنت ضامناً له على الله عزّ وجلّ الجنّة»(١) .

وفي المقام بابً خاص في تقوى أمير المؤمنين عليه السلام وزهده وورعه في الآيات والروايات وكلمات الأصحاب فلاحظه في البحار(٢) .

ولاحظ أيضاً الأخبار المتظافرة التي رواها العامّة في أنّ علياً ولي المتّقين وإمام المتّقين(٣) .

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٧ ص ١٠٧ ب ٤ ح ٨٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤٠ ص ٣١٨ ب ٩٨.

(٣) فهرس إحقاق الحقّ : ص ٥٨٤.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

يكون من العسير تشخيصها ، إلّا المؤمنين المتوكّلين على الله والمشمولين برحمته وحمايته :( إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (1) .

ولا بدّ من الانتباه إلى أنّ كلمة الشيطان تستبطن التمرّد والعناد والبعد عن كلّ خير وبركة. إلّا أنّ ذكر كلمة «مريد» (الفاقد لكلّ خير وسعادة) بعد كلمة الشيطان مباشرة ، هو تأكيد لتوضيح مصير من يتّبعه.

4 ـ تفسير عبارة( كُتِبَ عَلَيْهِ ) (2) .

واضح أنّ هذه العبارة تعني «الإلزام» ، سواء كانت في عالم الخلق أم في عالم التشريع. إلّا أنّه يجب أن لا نتصوّر أنّها تعني «الجبر» وأنّ الشياطين مجبورون على إضلال أتباعهم ليرسلوهم إلى دار البوار. بل إنّها نتيجة مؤكّدة لبرنامج اختاروه بمحض إرادتهم. فإبليس قائد الشياطين وكبيرهم خالف أمر الله وعنده بملء إرادته ، حتّى بلغت به الجرأة أن يعترض على ذات الله. فهو ضالّ ومضلّ وكذلك سائر الشياطين من الجنّ والإنس. وذلك كما نقول للمدمن على المخدرات : كتب على جبينه سوء الطالع والتعاسة ، فهل يعني ذلك جبرا؟!

* * *

__________________

(1) سورة الحجر ، 40.

(2) قال البعض : إنّ ضمير «عليه» يعود إلى الشيطان ، وقال آخرون : إنّه يعود إلى اتّباع الشيطان. كما يستنتج ذلك من عبارة «ومن الناس» أيضا ، إلّا أنّ ظاهره يؤكّد أنّه يعود إلى الشيطان ، لا سيّما وأنّ الضمير المتّصل بـ «من تولّاه» يعود إلى الشيطان أيضا.

٢٨١

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) )

التّفسير

دليل المعاد في عالم الأجنّة والنّبات :

بما أنّ البحث في الآيات السابقة كان يدور حول تشكيك المخالفين للمبدأ والمعاد ، فالآيات محل البحث طرحت دليلين منطقيين قويّين لإثبات المعاد

٢٨٢

الجسماني : أحدهما التغيّرات التي تحدث في مراحل تكوين الجنين ، والآخر هو التغيّرات التي تحدث في الأرض عند خروج النبات.

والقرآن شرح صورا للمعاد ممّا يلمسه الناس في هذه الدنيا ، ويرونه بامّ أعينهم ، إلّا أنّهم لم ينتبهوا لذلك ، ليعلموا أنّ الحياة بعد الموت ليست ضربا من الخيال ، بل هي حادثة فعلا مشهودة للعيان ، والخطاب القرآني يعمّ جميع الناس بنوره( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) (1) كلّ ذلك من أجل أن نوضّح لكم حقيقة قدرتنا على القيام بأي عمل( لِنُبَيِّنَلَكُمْ ) .

فتبقى الأجنّة في الأرحام إلى مدّة معلومة نحن نحدّدها لتمرّ بمراحل تكاملها. ونسقط ما نريد منها فنخرجها من الأرحام في وسط الطريق قبل أن تكمل( وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ) ثمّ تبدأ الأجنّة مرحلة تطوّر جديدة. لنخرجكم أطفالا من أرحام أمّهاتكم.

( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) وبهذا تنتهي مرحلة حياتكم المحدّدة في بطون أمّهاتكم.

فتضعون أقدامكم في محيط أوسع مملوء بالنور والصفاء ، وإمكانات واسعة جدّا ، إلّا أنّ تكاملكم يستمرّ في قطع المسافات بسرعة لتبلغوا الهدف ، ألا وهو الرّشد والكمال الجسمي والعقلي.( ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ) .

وهنا يتبدّل الجهل إلى علم ، والضعف إلى قوّة ، والتبعيّة إلى الاستقلال ، لكن مسيرة حياتكم تطوى وتستمر فبعضكم يودّع الحياة بينما يستمرّ آخرون حتّى المرحلة الأخيرة من الحياة ، أي مرحلة الشيخوخة بعد تكاملهم :( وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) .

أجل ، فالمرء يصل إلى مرحلة لا يتذكّر فيها شيئا ، حيث يسيطر عليه النسيان ،

__________________

(1) «المضغة» مشتقة من «المضغ» وتعني مقدارا من اللحم يمكن للإنسان مضغه في لقمة واحدة. وهذا تشبيه رائع للجنين في المرحلة التي تعقب مرحلة العلقة.

٢٨٣

ويصبح في وضع وكأنّه طفل( لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ) وهذا الضعف والخمول دليل على بلوغ المرء مرحلة انتقالية جديدة كما نجد ضعف التحام الثمرة بالشجرة حين تبلغ مرحلة النضج ممّا يدلّ على وصولها إلى مرحلة الانفصال.

وهذه التغيّرات المدهشة المتلاحقة التي تتحدّث عن قدرة الله تعالى غير المحدودة ، توضّح أنّ إحياء الموتى يسير على الله جلّت عظمته. وهناك بحوث تعرض لمراحل الحياة المختلفة هذه ، سنذكرها في الملاحظات القادمة.

ثمّ تتناول الآية بيان الدليل الثّاني أي حياة النباتات ، فتبيّن ما يلي : تنظر إلى الأرض في فصل الشتاء فتجدها جافّة وميتة ، فإذا سقط المطر وحلّ الربيع ، دبّت الحياة والحركة فيها ونبتت أنواع النباتات فيها ونمت( وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) (1) .

الآيتان اللاحقتان تشرحان ما توصّلنا إليه ، وذلك باستعراض خمس

* * *

ملاحظات

1 ـ إنّ ما استعرضته الآيات الخاصّة بالمراحل التي تسبق مراحل الحياة للإنسان وعالم النبات ، من أجل أن تعلموا أنّ الله تعالى حقّ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ ) وبما أنّه هو الحقّ ، فالنظام الذي خلقه حقّ أيضا ، لهذا لا يمكن أن يكون

__________________

«الهامدة» تعني في الأصل النّار التي أطفئت ، ويطلق على الأرض التي جفّت نباتاتها وأصبحت دون حركة «مفردات الراغب الاصفهاني» والبعض الآخر قال : إنّ كلمة «هامدة» تطلق على الحدّ الفاصل بين الموت والحياة (تفسير في ظلال القرآن).

«اهتزّت» مشقّة من «الهزّ» وتعني تحرّكت بشدّة.

«ربت» مشقّة من «الربو». وتعني الزيادة والنمو ، كما أنّ كلمة «ربا» مشتقّة أيضا من «الربو».

«بهيج» تعني الجميل السّاحر السارّ.

٢٨٤

هذا الخلق دون هدف ، كما يذكر القرآن الكريم هذا المعنى في مورد آخر :( وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) (1) .

وبما أنّ هذه الحياة ليست عبثا ، وأنّ لها هدفا ، وأنّنا لا نصل إلى تحقيق ذلك الهدف في حياتنا ، إذن نعلم من ذلك وجود المعاد والبعث حتما.

2 ـ إنّ هذا النظام الذي يسيطر على عالم الحياة يقول لنا( وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ) .

إنّ الذي يلبس الأرض لباس الحياة ، ويغيّر النطفة التافهة إلى إنسان كامل ، ويمنح الحياة للأرض الميتة ، لقادر على أن يمنح الحياة للموتى ، فهل يمكن التردّد في قبول فكرة المعاد مع وجود كلّ هذه التشكيلات الحيّة الدائمة للخالق جلّ وعلا في هذا العالم(2) ؟

3 ـ الهدف الآخر هو أن نعلم( وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) ولا يستحيل على قدرته شيء.

هل يمكن لأحد تحويل الأرض الميتة إلى نطفة؟ ويطوّر هذه النطفة التافهة في مراحل الحياة؟ ويلبسها كلّ يوم لباسا جديدا من الحياة! ويجعل الأرض الجافّة العديمة الروح خضراء زاهية تعلوها بهجة الحياة؟! أليس القادر على القيام بهذه الأعمال بقادر على أن يحيي الإنسان بعد موته؟!

4 ـ إنّ كلّ هذا لتعلموا أنّ ساعة نهاية هذا العالم وبداية عالم آخر ، ستحلّ بلا شكّ فيها( وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها ) .

5 ـ ثمّ إنّ كلّ هذا مقدّمة لنتيجة أخيرة هي( وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) .

__________________

(1) سورة ص ، 27.

(2) يرى بعض المفسّرين في عبارة( أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ) إشارة إلى حياة الناس في القيامة. مع أنّ هذا المعنى تضمّنته عبارة( وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) أيضا ، مع فارق هو أنّ العبارة الأولى إشارة إلى أصل الحياة ، والثّانية إشارة إلى كيفية إحياء الموتى.

إلّا أنّ التّفسير الآخر الذي استندنا إليه بصورة أكثر ، هو أنّ عبارة ( أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى ) إشارة إلى منح الله الحياة بشكل مستمر في هذه الدنيا ، ليكون دليلا على إمكان تحقّق ذلك يوم البعث.

٢٨٥

وهذه النتائج الخمس بعضها مقدّمة ، وبعضها ذو المقدّمة ، البعض منها إشارة إلى الإمكان ، والآخر إشارة إلى الوقوع ، ومترتّبة بعضها على بعض وكلّ يكمل صاحبه ، وجميعها ينتهي إلى نقطة واحدة ، هي أنّ البعث ليس ممكن فحسب ، بل إنّه سيقع حتما.

فالذين يشكّون في إمكان الحياة بعد الموت يشاهدون الصور المشابهة لها في حياة البشر والنباتات بامّ أعينهم. وهي تتكرّر كلّ يوم وكلّ عام.

وإذا شكّوا في قدرة الله فإنّ قدرة الله جعلتهم يشاهدون أمثلة بارزة لها بأعينهم. ألم يخلق الإنسان من تراب؟ ألا نشاهد كلّ عام احياء الأرض الميتة؟

فهل عجيب أمر حياة الأموات ثانية ونهوضهم من تراب؟

وإن شكّوا في وقوع مثل هذه الأمور ، فعليهم أن يعلموا أنّ النظام المسيطر على الخلق في العالم يدلّ على وجود هدف له ، وإلّا فإنّه باطل تافه ، والحياة القصيرة المملوءة بالآلام وخيبة الآمال غير جديرة بأن تكون هي الهدف الأخير لعالم الخلق.

وعلى هذا يجب أن يكون هناك عالم آخر ، وسيع ، خالد ، جدير بأن يعدّ هدفها للخلق.

* * *

بحوث

1 ـ مراحل حياة الإنسان السبع

الآيات السابقة شرحت حركة الإنسان في مسيرة ذات مراحل سبع ، لتبيّن البعث وتثبت إمكانه :

المرحلة الأولى : عند ما كان الإنسان ترابا ، وقد يراد به التراب الذي خلق منه آدمعليه‌السلام . كما قد يكون إشارة إلى أنّ جميع البشر ـ من تراب ، لأنّ جميع المواد

٢٨٦

الغذائية التي تكوّن النطفة وغذاءها ـ من بعد ـ من تراب. ولا شكّ في أنّ الماء يشكّل جزءا ملحوظا من جسم الإنسان ، والجزء الآخر من الأوكسجين والكاربون ، وليس من التراب ، إلّا أنّ العنصر الأساس الذي تتشكّل منه أعضاء الجسم مصدره التراب. إذن عبارة خلق الإنسان من تراب صحيحة حتما.

المرحلة الثّانية : (النطفة) : يتحوّل التراب ، هذا الموجود البسيط المهمل العديم الحسّ والحركة ، يتحوّل إلى نطفة تتألّف من أحياء مجهولة مثيرة تسمّى عند الرجل «أسپر» أو الحيمن وعند المرأة «أوول» أو البويضة وهي غاية في الصغر حتّى أنّها تبلغ الملايين في نطفة الرجل!

والمثير أنّ الإنسان يواصل عقب ولادته حركة تدريجيّة هادئة ، تأخذ في الغالب شكل «التكامل الكمّي» في الوقت الذي كانت حركته في الرحم «كيفيّة» ترافقها طفرات سريعة مغيّرة. والتغيّرات المتعاقبة للجنين في الرحم مدهشة إلى درجة يمكن تشبيهها بحشرة صغيرة بسيطة تتطوّر بعد أشهر قليلة إلى طائرة نفّاثة!

وقد تطوّرت وتوسّعت الدراسات عن «علم الأجنة» اليوم بحيث تمكّن علماؤه من دراسة الجنين في مراحله المختلفة ، وكشفوا عن أسرار هذه الظاهرة العجيبة في عالم الوجود. وعرضوا النتائج الباهرة التي توصّلوا إليها في دراساتهم عن الجنين.

وفي المرحلة الثّالثة يصبح الجنين علقة ، وتكون خلاياه كحبّات التوت ، بشكل قطعة دم خاثر متلاصقة ، يطلق عليها علميّا «مورولا». وبعد مضي مدّة قصيرة تظهر أخاديد التقسيم الصغيرة كبداية لتقسيم أجزاء الجنين ، ويطلق على الجنين في هذه المرحلة اسم «لاستولا».

وفي المرحلة الرّابعة يتّخذ الجنين شكل قطعة لحم ممضوغ ، دون أن تتّضح معالم الأعضاء فيه ، وفجأة تحدث تغييرات في قشرة «الجنين» وتتّخذ شكلا يلائم العمل المطلوب منه القيام به ، فتظهر أعضاء الجسم تدريجيّا ، ويسقط كلّ جنين

٢٨٧

لا يمكنه المرور بهذه المرحلة ، ويمكن أن تكون عبارة( مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ) إشارة إلى هذه المرحلة ، أي أنّ الجنين يكون «كامل الخلقة» أو «ناقص الخلقة».

ومن المثير أنّ القرآن المجيد ذكر عبارة( لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ) بعد ذكر هذه المراحل الأربع ، مؤكّدا أنّ هذه التغييرات السريعة المدهشة التي تغيّر قطرة ماء صغيرة إلى إنسان كامل ، لدليل واضح على أنّ الله قادر على كلّ شيء.

ثمّ أشار القرآن الكريم إلى مرحلة الجنين الخامسة والسّادسة والسّابعة ، التي تلي الولادة أي «الطفولة» و «البلوغ» و «الشّيخوخة»(1) .

والجدير بالذكر أنّ ولادة الإنسان ـ من التراب ـ كائنا حيّا ، قفزة كبيرة ، ومراحل الجنين المختلفة قفزات متعاقبة ، وولادة الإنسان من بطن أمّه قفزة مهمّة جدّا ، وهكذا البلوغ والشيخوخة.

وتعبير القرآن عن يوم القيامة بالبعث ، قد يكون إشارة إلى مفهوم القفزة ذاتها التي تحدث يوم البعث أيضا. وما أجدرنا بالانتباه إلى أنّ القرآن تحدّث عن مراحل تكوّن الجنين قبل أن يظهر علم الأجنّة ، وحديثه عنها في ذلك الزمن دليل حيّ على أنّ هذا الكتاب العظيم إنّما هو وحي يوحى من قدرة قادرة هي التي أبدعت الطبيعة وما وراءها.

2 ـ المعاد الجسماني

ممّا لا شكّ فيه أنّ القرآن الكريم أينما تحدث عن البعث قصد بعث الإنسان جسما وروحا في العالم الأخروي ، والذين حصروا البعث في الروح وقالوا ببقائها هي وحدها لم يفقهوا آيات القرآن قطّ.

__________________

(1) الذي يثير الانتباه أنّ تعبير القرآن( ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ) عن ولادة الإنسان لم يرد بصيغة الجمع (أطفال) وفقا للقاعدة ، إلّا أنّ هذا التعبير (طفلا) يمكن أن يكون مصدرا يتساوى فيه المفرد والجمع ، أو أن يكون الهدف بيان النوع. وليس خصائص الأطفال ، فالفروق بين البشر في هذه المرحلة مخفية تبرز في المراحل اللاحقة.

٢٨٨

فهذه الآيات المباركة كالآية السابقة تصرّح بالمعاد الجسماني. وإلّا فما هو وجه التشابه بين المعاد الروحي ، ومراحل الجنين وإحياء الأرض الموات بنمو النباتات؟ ويؤكّد ذلك ختام الآيات التي نحن بصددها إذ تقول :( وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) والقبر موضع جسم الإنسان وليس روحه.

وأساسا فانّ تعجّب المشركين إنّما هو من البعث الجسماني ، فهم يقولون : كيف يمكن للإنسان أن يعود للحياة ثانية بعد ما صار ترابا؟ وبقاء الروح لم يكن شيئا عجبا ، لأنّه كان موضع قبول ورضى الأقوام الجاهلية.

3 ـ ما هو «أرذل العمر»؟

«الأرذل» مشتقّة من «رذل» أي المنحطّ وغير المرغوب فيه. ويقصد بـ «أرذل العمر» تلك المرحلة من عمر الإنسان التي هي أكثر انحطاطا وغير مرغوب فيها لما يفقده فيها الإنسان من القوّة والذاكرة ، ولما يغلبه فيها من الضعف والانفعال ، حتّى تراه يغتاظ من أدنى شيء ، ويرضى ويفرح لا يسر شيء ، ويفقد سعة صدره وصبره ، وربّما قام بحركات طفولية. مع فارق بينه وبين الطفل وهو أنّ الناس لا يتوقّعون منه ذلك ، لأنّه ليس طفلا ، مضافا إلى أنّ الطفل يؤمل في أن يكبر وينضج جسديّا ونفسيّا وتزول عنه هذه الحركات الصبيانية ، لهذا يتركوا أحرارا في ممارستها ، وليس كذلك في الفرد المسنّ ، أي أنّ الطفل ليس لديه شيء ليفقده ، ولكن المسنّ يفقد رأس مال حياته بذلك. وعلى هذا فإنّ وضع الشيوخ المعمّرين يثير الشفقة والأسى عند مقارنته بوضع الأطفال.

وجاء في بعض الأحاديث أنّ أرذل العمر هو الذي يبلغ مائة عام وأكثر(1) وقد تعني هذه العبارة نوع الأشخاص ، وإلّا فهناك من يبلغ هذه الحالة وسنّهم أقل من

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، المجلّد الثّالث ، الصفحة 472.

٢٨٩

مائة عام. كما أنّ هناك أشخاصا تجاوزت أعمارهم مائة عام وهم بكامل وعيهم وذكائهم. وتندر مشاهدة من يصابون بهذه الحالة بين العلماء الذين شغلتهم المعارف والبحوث.

وما أولانا بدعاء الله تعالى أن يحفظنا من هذه الحالة! وما أجدرنا أن ننهي غرورنا وغفلتنا بمجرد الفكر بهذه العاقبة! علينا أن نفكّر ماذا كنّا وعلى ماذا أصبحنا وماذا سنكون؟

* * *

٢٩٠

الآيات

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) )

التّفسير

الجدال بالباطل مرّة أخرى :

تتحدّث هذه الآيات أيضا عمّن يجادلون في المبدأ والمعاد جدالا خاويا لا أساس له ، في البداية يقول القرآن المجيد :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ) .

وعبارة( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) هي ذاتها التي ذكرت في آية سابقة ، وإعادتها تبيّن لنا أنّ العبارة الأولى إشارة إلى مجموعة من الناس ، والثّانية إلى مجموعة أخرى. وبعض المفسّرين يرى أنّ الفرق بين هاتين المجموعتين من الناس هو أنّ الآية السابقة الذكر دالّة على وضع الأتباع الضالّين الغافلين ، في

٢٩١

وقت تكون فيه هذه الآية دالّة على قادة هذه المجموعة الضالّة(1) .

وعبارة( لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) تبيّن هدف هذه المجموعة ، ألّا وهو تضليل الآخرين ، وهذا دليل واضح على الفرق بينهما ، مثلما توضّح هذا المعنى عبارة( يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ ) في الآيات السابقة التي تتحدّث عن اتّباع الشياطين.

ولكن ما الفرق بين «العلم» و «الهدى» و «الكتاب المنير»؟

للمفسّرين آراء في هذا المجال أقربها إلى العقل هو أنّ «العلم» إشارة إلى الاستدلال العقلي. و «الهدى» إشارة إلى إرشاد القادة الرّبانيين. و «الكتاب المنير» إشارة إلى الكتب السماويّة ، أي أنّها تعني الأدلّة الثلاثة المعروفة «الكتاب» و «السنّة» و «الدليل العقلي». وأمّا الإجماع فإنّه يعود إلى السنّة طبقا لدراسات العلماء ، وقد جمعت هذه الأدلّة الأربعة في هذه العبارة أيضا.

ويحتمل بعض المفسّرين أنّ «الهدى» إشارة إلى الإرشادات المعنوية التي يكتسبها الإنسان في ظلّ بناء الذات وتهذيب النفس وتقواه. «وبالطبع يمكن ضمّ هذا المعنى إلى ما تقدّم آنفا».

ويمكن أن يكون الجدال العلمي مثمرا إذا استند إلى أحد الأدلّة : العقل ، أو الكتاب ، أو السنّة.

ثمّ يتطرّق القرآن المجيد في جملة قصيرة عميقة المعنى إلى أحد أسباب ضلال هؤلاء القادة ، فيقول :( ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ) إنّهم يريدون أن يضلّوا الناس عن سبيل الله بغرورهم وعدم اهتمامهم بكلام الله وبالأدلّة العقليّة الواضحة.

«ثاني» مشتقّة من «ثني» بمعنى التواء و «عطف» تعني «جانب» فالجملة تعني ثني الجانب ، أي الإعراض عن الشيء وعدم الاهتمام به.

__________________

(1) تفسير الميزان ، والتّفسير الكبير للفخر الرازي ، في تفسير الآيات موضع البحث.

٢٩٢

ويمكن أن تكون عبارة «ليضلّ» هدف هذا الإعراض ، أي إنّهم (قادة الضلال) يستخفّون بآيات الله والهداية الإلهيّة لتضليل الناس. ويمكن أن تكون نتيجة لذلك. أي أنّ محصّلة الإعراض وعدم الاهتمام هو صدّ الناس عن سبيل الحقّ. ويعقب القرآن ذلك ببيان عقابهم الشديد في الدنيا والآخرة بهذه الصورة :( لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ ) .

ونقول له :( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ ) و( أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) لا يعاقب الله أحدا بلا ذنب ، ولا يضاعف عقاب أحد دون سبب ، فهو العدل المطلق سبحانه(1) .

وهذه الآية من الآيات التي تنفي مذهب الجبريّة ، وتثبت مبدأ العدالة في أفعال الله تعالى. (للمزيد من التفصيل راجع تفسير الآية (182) من سورة آل عمران).

* * *

__________________

(1) «ظلّام» صيغة مبالغة تعني كثير الظلم. وطبيعي أنّ الله لا يظلم أبدا لا كثيرا ولا قليلا ، ويمكن أن يكون استخدام هذا التعبير هنا إشارة إلى أنّ العقاب دون مبرّر من قبل الله تعالى ـ جلّ عن ذلك وعلا علوّا كبيرا ـ مصداق ظلم كبير.

٢٩٣

الآيات

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) )

التّفسير

الواقف على حافّة وادي الكفر

تحدّثت الآيات السابقة عن مجموعتين : الأتباع الضالّين ، والقادة المضلّين.

أمّا هذه الآيات ، فتتحدّث عن مجموعة ثالثة هم ضعاف الإيمان. قال القرآن المجيد عن هذه المجموعة :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ) أي إنّ بعض الناس يعبد الله بلقلقة لسان ، وإنّ إيمانه ضعيف جدّا. ولم يدخل الإيمان إلى قلبه.

٢٩٤

وعبارة «على حرف» ربّما تكون إشارة إلى أنّ إيمانهم باللسان فقط ، وأنّ قلوبهم لم تر بصيصا من نوره إلّا قليلا ، وقد تكون إشارة إلى أنّ هذه المجموعة تحيا على هامش الإيمان والإسلام وليس في عمقه ، فأحد معاني «الحرف» هو حافّة الجبل والأشياء الاخرى. والذي يقف على الحافّة لا يمكنه أن يستقرّ. فهو قلق في موقفه هذا ، يمكن أن يقع بهزّة خفيفة ، وهكذا ضعاف الإيمان الذين يفقدون إيمانهم بأدنى سبب.

ثمّ تناول القرآن الكريم عدم ثبات الإيمان لدى هؤلاء الأشخاص( فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ ) (1) إنّهم يطمئنون إذا ضحكت لهم الدنيا وغمرتهم بخيراتها! ويعتبرون ذلك دليلا على أحقّية الإسلام.

إلّا أنّهم يتغيّرون ويتّجهون إلى الكفر إن امتحنوا بالمشاكل والقلق والفقر ، فالدين والإيمان لديهم وسيلة للحصول على ما يبتغون في هذه الدنيا ، فإن تمّ ما يبغونه كان الدين حقّا ، وإلّا فلا.

وذكر «ابن عبّاس» ومفسّرون قدماء سبب نزول هذه الآية : «أنّها نزلت في أعراب كانوا يقدمون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة مهاجرين من باديتهم ، فكان أحدهم إذا صحّ بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا. وولدت امرأته غلاما وكثر ماله وماشيته ، رضي به واطمأنّ إليه ، وإن أصابه وجع وولدت امرأته أنثى أو أجهضت فرسه أو ذهب ماله أو تأخّرت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان وقال له : ما جاءتك هذه الشور إلّا بسبب هذا الدين. فينقلب عن دينه»(2) .

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن الكريم يعبّر عن إقبال الدنيا على هؤلاء الأشخاص بالخير. وعن إدبارها بالفتنة (وسيلة الامتحان) ولم يطلق عليها كلمة

__________________

(1) كلمة «انقلب» في جملة «انقلب على وجهه» تعني التراجع. ويمكن أن تكون إشارة إلى ترك الإيمان تماما ، حتّى إنّه لا يعود إليه. فهو غريب عن الإيمان دوما.

(2) تفسير الفخر الرازي ، المجلّد الثّالث والعشرون ، ص 13 ، وتفسير القرطبي ، المجلّد السادس ، ص 4409.

٢٩٥

الشّر ، إشارة إلى أنّ هذه الأحداث غير المرتقبة ليست شرّا ولا سوءا وإنّما هي وسيلة للامتحان.

ويضيف القرآن المجيد في الختام ـ( خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ) و( ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) مؤكّدا أنّ أفدح الضرر وأفظع الخسران ، هو أن يفقد الإنسان دينه ودنياه. وهؤلاء الأشخاص الذين يقيسون الحقّ بإقبال الدنيا عليهم ينظرون إلى الدين وفق مصالحهم الخاصّة ، وهذه الفئة موجودة بكثرة في كلّ مجتمع ، وإيمانها مزيج بالشرك وعبادة الأصنام ، إلّا أنّ أصنامهم هي وأزواجهم وأبناؤهم وأموالهم ومواشيهم ، ومثل هذا الإيمان أضعف من بيت العنكبوت!

وهناك مفسّرون يرون أنّ هذه الآية تشير إلى المنافقين ، لكن إذا اعتبرنا أنّ المنافق هو من لا يملك ذرّة من الإيمان ، فإنّ ذلك يخالف ظاهر هذه الآية ، فعبارة «يعبد الله» و «اطمأنّ به» و «انقلب على وجهه» تبيّن أنّه ذو إيمان ضعيف قبل هذا.

أمّا إذا قصد بالمنافق من يملك قليلا من الإيمان ، فلا يعارض ما قلناه ، ويمكن قبوله.

وتشير الآية التالية إلى إعتقاد هذه الفئة الخليط بالشرك ، خاصة بعد الانحراف عن صراط التوحيد والإيمان بالله ، فتقول :( يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ) أي إذا كان هذا الإنسان يسعى إلى تحقيق مصالحه الماديّة والابتعاد عن الخسائر ويرى صحّة الدين في إقبال الدنيا عليه ، وبطلانه في إدبارها عنه. فلما ذا يتوجّه إلى أصنام لا يؤمّل منها خير ، ولا يخاف منها ضرر.

فهي أشياء لا فائدة فيها ، ولا أثر لها في مصير البشر؟! أجل( ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) . إنّ هؤلاء ليبتعدون عن الصراط المستقيم بعدا حتّى لا ترجى عودتهم إلى الحقّ إلّا رجاء ضعيفا جدّا.

ويوسّع القرآن الكريم هذا المعنى فيقول :( يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ) .

لأنّ هذا المعبود المختلق ينزل بفكرهم إلى الحضيض في هذه الدنيا ، ويدفعهم

٢٩٦

نحو الخرافات والجهل ، ويدعهم في الآخرة في نار جهنّم ، بل هم كما تقول الآية 98 من سورة الأنبياء :( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) .

وتضيف الآية في الختام( لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) فما أسوأه ناصرا ومعينا ، وما أسوأه مؤنسا ومعاشرا.

وهنا يثار سؤال ، فالآية السابقة تنفي كلّ فائدة ونفع من هذه الأصنام وكلّ ضرر ، وهذه الآية تقول إنّ ضررها أقرب من نفعها! فكيف ينسجم الحكمان؟

في الجواب عن ذلك نقول : إنّ ذلك أمر اعتيادي في المخاطبة ، ففي مرحلة لا يعتبرون لشيء فائدة وتأثير يذكر ثمّ يترقّى إلى الحال في مرحلة أخرى فيعدّونه مصدر الضرر. كأن نقول : لا تصادق فلانا ، فلا نفع فيه لدينك ولا لدنياك.

وبعدها نتقدّم فنقول إنّما هو : (أي هذا الصديق) سبب لتعاستك وافتضاحك. وهنا تجد إضافة إلى كون الأصنام لا ضرر فيها لأعداء المشركين ، لأنّها غير قادرة على الإضرار بأعدائهم كما يتوقّعون منها ، ولكنّها تتضمّن ضررا حتميّا لأتباعها.

كما أنّ صيغة «أفعل التفضيل» في كلمة «أقرب» كما قلنا سابقا : تعني عدم اتّصاف طرفي المقارنة بصفة معينّة. وقد يكون الطرف الأضعف فاقدا لأيّة صفة ، كأن نقول : ساعة صبر عن الذنب خير من نار جهنّم (وليس معنى ذلك أنّ نار جهنّم فيها خير ، إلّا أنّ الصبر أفضل منها ،).

وقد اختار هذا الرأي عدد من كبار المفسّرين كالشيخ الطوسي في «التبيان» والطبرسي في «مجمع البيان».

واحتمل البعض كالفخر الرازي في تفسير الآية بأنّ كلّ واحدة من هاتين الآيتين إشارة إلى مجموعة من الأصنام ، فالآية الأولى تخصّ الأصنام الحجرية والخشبية ، وأمّا الآية الثّانية فتخصّ الطواغيت والبشر المتعالين أشباه الأصنام.

فالمجموعة الأولى لا تضرّ ولا تنفع ، بل هي بالتأكيد خالية من أيّة صفة. أمّا المجموعة الثّانية «أئمّة الضلال» فإنّهم يضرّون ولا ينفعون. وإذا كان فيهم خير

٢٩٧

قليل فضرّهم كبير جدّا ، وعبارة( لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ) تؤكّد ذلك ، وعليه فلا تناقض بين الآيتين(1) .

وختام الآية المباركة نلحظ مقارنة بين الخير والشرّ كما هو دأب القرآن الكريم لتتّضح النتائج بشكل أكبر ، فتقول الآية :( إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) . فعاقبتهم معلومة ومنهج تفكير هم وسلوكهم واضح فمولاهم هو الله تعالى ، ورفاقهم وجلساؤهم في الآخرة هم الأنبياء والصالحون والملائكة ، وأنّ الله سبحانه يثيب المؤمنين العاملين للصالحات ، جنّات تجري من تحتها الأنهار ، لينعموا بالسعادة والسرور جزاء استقامتهم على الحقّ واستجابتهم له في الحياة الدنيا( إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ) .

وثوابهم يسير عليه ـ جلّ وعلا ـ يسر عقاب الذين ظلموا أنفسهم بإيثار الباطل على الحقّ ، وبعبادتهم الأصنام من دون الله سبحانه.

وفي هذه المقارنة نلاحظ طائفة من الناس لم يؤمنوا إلّا بلسانهم ، فهم على جانب من الدين وينحرفون بأدنى وسوسة ، وليس لهم عمل صالح ، أمّا المؤمنون الحقيقيّون فإيمانهم راسخ ولا تزعزعه العواطف ومثمر هذا من جهة ومن جهة أخرى فلئن كان مولى الخاسرين لا ينفع ولا يضرّ ، فإنّ مولى الصالحين على كلّ شيء قدير. ولئن خسر الظالمون كلّ شيء ، فقد ربح المهتدون خير الدنيا وسعادة الآخرة.

* * *

__________________

(1) بعض المفسّرين الأفاضل كمفسّر الميزان فسّر عبارة «يدعو» بمعنى «يقول» إلّا أنّ ذلك لا يطابق ظاهر الآية.

٢٩٨

الآيات

( مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) )

سبب النّزول

روى بعض المفسّرين حول سبب نزول الآية الأولى من هذه الآيات ، أنّها نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا : نخاف أنّ الله لا ينصر محمّدا ، فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا. فحذّرتهم هذه الآية ووبّختهم بشدّة.

وقال آخرون : إنّها نزلت في قوم من المسلمين لشدّة غيظهم وحنقهم على المشركين ، يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر ، فنزلت هذه الآية(1) تلومهم

__________________

(1) أبو الفتوح الرازي ، وكذلك الفخر الرازي في تفسير هما الآيات موضع البحث.

٢٩٩

على عدم صبرهم.

التّفسير

البعث نهاية جميع الخلافات :

بما أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث عن ضعفاء الإيمان ، فإنّ الآيات مورد البحث ترسم لنا صورة أخرى عن هؤلاء فتقول :( مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ ) .

أي من يظنّ أنّ الله لا ينصر نبيّه في الدنيا والآخرة ، وهو غارق في غضبه ، فليعمل ما يشاء ، وليشدّ هذا الشخص حبلا من سقف منزله ويعلّق نفسه حتّى ينقطع نفسه ويبلغ حافّة الموت ، فهل ينتهي غضبه؟!

لقد اختار هذا التّفسير عدد كبير من المفسّرين ، أو ذكروه كاحتمال يستحقّ الاهتمام به(1) .

الضمير في قوله سبحانه :( لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ ) بحسب هذا التّفسير يعود إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و «السّماء» تعني سقف المنزل (لأنّ كلّ شيء فوقنا يطلق عليه سماء). أمّا عبارة «ليقطع» فتعني قطع النفس والوصول إلى حافّة الموت.

واحتمل البعض احتمالات أخرى في تفسير هذه الآية لا حاجة لذكرها ، ما عدا تفسيرين منها يستحقّان الاهتمام ، وهما :

1 ـ إنّ السّماء يقصد بها السّماء الحقيقيّة ، وبناء على هذا الرأي : فإنّ الأشخاص الذين يظنّون أنّ الله لا ينصر نبيّه ، ليذهبوا إلى السّماء وليشدّوا بها حبلا ويعلّقوا أنفسهم بينها وبين الأرض حتّى تنقطع أنفسهم. (أو يقطعوا الحبل الذي تعلّقوا به كي يسقطوا) ولينظروا إلى أنفسهم هل انتهى غضبهم؟!

__________________

(1) تراجع تفاسير «مجمع البيان» و «التبيان» و «الميزان» و «الفخر الرازي» و «أبو الفتوح الرازي» و «تفسير الصافي» و «القرطبي» في تفسير الآية التي يدور حولها البحث.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698