في رحاب الزيارة الجامعة

في رحاب الزيارة الجامعة8%

في رحاب الزيارة الجامعة مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
ISBN: 964-7165-40-4
الصفحات: 698

  • البداية
  • السابق
  • 698 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 66307 / تحميل: 4648
الحجم الحجم الحجم
في رحاب الزيارة الجامعة

في رحاب الزيارة الجامعة

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
ISBN: ٩٦٤-٧١٦٥-٤٠-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وَبُرْهانِهِ (١) وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ.

____________________________________

(١) ـ البُرْهان بضمّ الباء وسكون الراء هي الحجّة والبيان كما في اللغة.

والبرهان هو الشاهد بالحقّ(١) ، وبرهانكم أي حجّتكم ، وسمّيت الحجّة برهاناً لبيانها ووضوحها(٢) ، والبرهان أوكد الأدلّة ، وهو يقتضي الصدق أبداً لا محالة(٣) .

وأهل البيت عليهم السلام براهين الله الصادقة ، وحججه الناطقة ، وآيات الله البيّنة ، ودلائله الظاهرة.

لذلك كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول : «ما لله عزّ وجلّ آية هي أكبر منّي ، ولا له من نبأ أعظم منّي»(٤) .

وبحقٍّ كان صلوات الله عليه الآية العظمى ، والدلالة الكبرى لله عزّ إسمه كما تلاحظ ذلك في أحواله(٥) ، وقد مرّ شيء من ذلك في الفقرة الشريفة «والمثل الأعلى».

هذا تمام الكلمة في التسليمات الخمسة.

ويتلوه ذكر الشهادات الثلاثة : التوحيد ، والرسالة ، والإمامة.

ثمّ المناقب الفاخرة لأهل بيت العصمة عليهم السلام.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ص ١٤٧.

(٢) مجمع البحرين : ص ٥٤٩.

(٣) المفردات : ص ٤٥.

(٤) الكافي : ج ١ ص ٢٠٧ ح ٣.

(٥) بحار الأنوار : ج ٤١ ـ ٤٢ الأبواب الكثيرة فيه ، ولاحظ ج ٤١ ص ٢٧٨ ح ٤ ، وج ٤١ ص ٥٣.

٢٢١
٢٢٢

الشهادات الثلاثة

اَشْهَدُ اَنْ لا اِلهَ اِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ (١)

____________________________________

(١) ـ بعد تكميل السلام وأداء تحيّة الإسلام إبتدأ عليه السلام في هذه الزيارة الشريفة الجامعة بأداء شهادة التوحيد الكامل ، والتصديق الشامل الذي هو حصن النجاة ، في الحياة والممات ، يعني الشهادة بأركانها الثلاثة :

التوحيد والرسالة والإمامة.

فإنّ الموحِّد الحقّ هو من يوحّد الله بما أراده الله تعالى ، لا بما يريده هو نفسه.

والذي أراده الله من التوحيد هو التوحيد بشرطه وشروطه وولاية الأئمّة من شروط كما تلاحظه في الأحاديث المتواترة ، نتبرّك بذكر بعضها تيمّناً وتبرّكاً مثل :

١ ـ حديث المفضّل قال : قال أبو عبد الله عليه السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى ضمن للمؤمن ضماناً.

قال : قلت : وما هو؟

قال : ضمن له إن هو أقرّ له بالربوبية ، ولمحمّد صلى الله عليه وآله بالنبوّة ، ولعلي عليه السلام بالإمامة ، وأدّى ما افترضه عليه أن يسكنه في جواره.

قال : قلت : فهذه والله هي الكرامة التي لا يشبهها كرامة الآدميين.

٢٢٣

.........................................

____________________________________

قال : ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام : اعملوا قليلاً تتنعّموا كثيراً»(١) .

٢ ـ حديث معتّب مولى أبي عبد الله عليه السلام ، عنه ، عن أبيه عليهما السلام قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال : يا رسول الله هل للجنّة من ثمن؟

قال : نعم.

قال : ما ثمنها؟

قال : لا إله إلاّ الله ، يقولها العبد مخلصاً بها.

قال : وما إخلاصها؟

قال : العمل بما بعثت به في حقّه وحبّ أهل بيتي.

قال : فداك أبي واُمّي وإنّ حبّ أهل البيت لمن حقّها؟

قال : إنّ حبّهم لأعظم حقّها»(٢) .

٣ ـ حديث إسحاق بن راهويه قال : لمّا وافى أبو الحسن الرضا عليه السلام نيسابور واراد أن يخرج منها إلى المأمون اجتمع عليه أصحاب الحديث فقالوا له : يا بن رسول الله ترحل عنّا ولا تحدّثنا بحديث فنستفيده منك؟

وكان قد قعد في العمارية فأطلع رأسه وقال : سمعت أبي موسى بن جعفر يقول : سمعت أبي جعفر بن محمّد يقول : سمعت أبي محمّد بن علي يقول : سمعت أبي علي بن الحسين يقول : سمعت أبي الحسين بن علي يقول : سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول : سمعت الله عزّ وجلّ يقول : «لا إله إلاّ الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي» ، قال فلمّا مرّت الراحلة نادانا : «بشروطها وأنا من شروطها»(٣) .

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣ ص ٣ ح ٦.

(٢) بحار الأنوار : ج ٣ ص ١٣ ب ١ ح ٣٠.

(٣) عيون الأخبار : ج ٢ ص ١٣٤ ح ٤.

٢٢٤

.........................................

____________________________________

والأساس العمدة في كلّ عمل هو هذا الاعتقاد الإسلامي الصحيح ، وبدونه لا يُقبل دين ولا يرفع عملٌ ولا ينفع شيء.

قال الله تعالى :( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) (١) .

وقد جاءت هذه الشهادات الثلاثة الأركان في هذه الزيارة المباركة التي هي من مفاهيم الإيمان.

(الشهادة الاُولى) : الشهادة بوحدانية الله تعالى.

والشهادة هي الإخبار الجازم بالشيء عن مشاهدةٍ أو ما يقوم مقام المشاهدة من الدلالات الواضحة ، والحجج اللائحة(٢) .

وبمعنى الحضور مع المشاهدة أمّا بالبصر أو بالبصيرة(٣) .

ومعناها الإخبار القاطع(٤) .

فالشهادة بالتوحيد إذاً لابدّ وأن تكون قطعيّة علميّة ، ناشئة من دليل علمي قطعي ، كالمعرفة الحاصلة بالأدلّة العلميّة ، والشواهد اليقينيّة الموجودة في جميع مخلوقاته وأدلّة وحدانيّته التي تدلّ على أنّه واحد ، لا شريك له ولا نظير ، ولا شبيه له ولا عديل.

تلك الدلائل التي توجب للإنسان أن يُحسّ بالوجدان ، بل يَرى بالعيان ، ويدرك بالإيمان ، معرفة الله الواحد القادر الحكيم كما أرشد إليه أمير المؤمنين عليه السلام في حديث ذِعْلب «رأته القلوب بحقائق الإيمان»(٥) .

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ٨٥.

(٢) تفسير التبيان : ج ٢ ص ٤١٦.

(٣) المفردات : ص ٢٦٧.

(٤) لسان العرب : ج ٣ ص ٢٣٩.

(٥) الكافي : ج ١ ص ١٣٨ ح ٤.

٢٢٥

.........................................

____________________________________

وأدلّة التوحيد كثيرة وفيرة نشير فيها إلى القسمين الكافيين :

١ / الدليل العلمي ، كالأدلّة الثمانية التي تلاحظها في كتاب العقائد(١) .

٢ / الدليل الوجداني ، وهي الآيات النفسية والآفاقية المتجلّية في مثل حديث المفضّل الجعفي(١) وقد جاء البيان في العقائد أيضاً(٣) نحيل القارىء الكريم إليه ، رعايةً للإختصار وعدم التكرار.

وبتلك البراهين الواضحة ، والآيات الشارحة يُعلم علم اليقين بصدق شهادة الصدّيقين ، وأوّلها الشهادة بالتوحيد التي وردت في فقرة الزيارة :

(أشهد أن لا إله) أي لا معبود بحقّ ، فالإله بمعنى المألوه وهو المعبود.

(إلاّ الله) المستجمع لجميع صفات الكمال لذاته ، والمُنزّه عن جميع صفات النقص.

(وحده لا شريك له) تأكيد ، لما تقدّم ، وبيان للتوحيد الذي هو بمعنى نفي الشريك والشبيه ، كما تلاحظه في حديث شريح بن هاني الذي جاء فيه معنى التوحيد الصحيح : «... فقول القائل : هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربّنا ، وقول القائل : إنّه عزّ وجلّ أحديّ المعنى ، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزّ وجلّ»(٤) .

__________________

(١) العقائد الحقّة الطبعة الاُولى : ص ٤٨.

(٢) بحار الأنوار : ج ٣ ص ٥٤ ـ ١٥١ ب ٤ ح ١.

(٣) العقائد الحقّة الطبعة الاُولى : ص ٦٨.

(٤) التوحيد للصدوق : ص ٨٣ ب ٣ ح ٣.

٢٢٦

كَما شَهِدَ اللهُ لِنَفْسِهِ وَشَهِدَتْ لَهُ مَلائِكَتُهُ وَاُولُو الْعِلْمِ مِنْ خَلْقِهِ ، لا اِلهَ اِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكيمُ (١).

____________________________________

(١) ـ «كما شهد الله لنفسه» إشارة إلى قوله تعالى :( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (١) فالتوحيد الحقيقي ليس ممّا تطيقه القدرة البشرية ، لذلك نشهد له نحن بما شهد به هو لنفسه وبما أخبر به ذاته العليمة.

«وشهدت له ملائكته» أي وشده له بتوحيده جميع ملائكته ، وأقرّت به.

«واُولوا العلم من خلقه» أي وشَهِدَ له بتوحيده اُولوا العلم من خلقه ، من الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين.

«لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم» كرّر ذلك للتأكيد ، أو للتوصيف بالعزّة والحكمة.

والعزيز هو القاهر الغالب المنيع الذي لا يُغلب ولا يصل أحدٌ إلى كبريائه ، من العزّة بمعنى القوّة والشدّة والغلبة ، ومنه قوله تعالى :( وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ) أي غلبني.

وللعزيز معنى ثانٍ وهو المَلِك ، ويشهد له قوله تعالى حكاية عن أخوه يوسف :( يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ) أي يا أيّها الملك(٢) .

والحكيم هو المُحِكم لأفعاله ، والعالِم بالحِكم والمصالح ، ومعنى الإحكام هو إتقان التدبير ، وحسن التصوير والتقدير.

(الشهادة الثانية) : الشهادة برسالة خاتم النبيّين عليه وآله صلوات المصلّين كما تلاحظها في فقرة هذه الزيارة بما يلي :

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ١٨.

(٢) التوحيد للصدوق : ص ٢٠٦.

٢٢٧

وَاَشْهَدُ اَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ الْمُنْتَجَبُ ، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضى ، اَرْسَلَهُ بِالْهُدى وَدينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (١).

____________________________________

(١) ـ الأدلّة القطعيّة على نبوّته ورسالته كثيرة منها :

الأول : أنّ القرآن الكريم الذي هو مسلّم الصدور عن الخالق المتعال ، والذين عجز عن الإتيان بمثله جميع البشر أخبر برسالته ، وشهد بنبوّته ، وصدّق كلمته ، في آيات كثيرة مثل :

واحد / قوله تعالى :( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) (١) .

إثنين / قوله عزّ إسمه :( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (٢) .

هذا مضافاً إلى الكتب السماوية الاُخرى التي بشّرت برسولنا الأعظم صلى الله عليه وآله ، كما أخبر به تعالى في قوله تعالى :( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ ) (٣) .

وفي قوله عزّ إسمه :( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (٤) .

وكفى بالقرآن سنداً قطعيّاً على صدق نبوّة ورسالة خاتم الأنبياء صلوات الله عليه وآله.

الثاني : أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أخبر بنبوّة نفسه مقروناً بمعجزاته التي تشهد بصدقه.

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٤٠.

(٢) سورة الفتح : الآية ٢٩.

(٣) سورة الأعراف : الآية ١٥٧.

(٤) سورة الصف : الآية ٦.

٢٢٨

.........................................

____________________________________

إذ المعجز هو الإتيان بما يخرق العادة ، ويعجز عنه البشر ، ويطابق الدعوى ، ويكشف عن أنّ صاحبه مؤيّد من قبل الله تعالى فيكون دليلاً على صدق نبوّته.

وقد ظهر الكثير الكثير من المعجزات الباهرات على يده الشريفة ، واُحصيت منها ألف معجزة فلاحظها في مدينة المعاجز للسيّد البحراني قدس سره ، وأشار إلى بعضها صاحب حقّ اليقين(١) .

الثالث : نفس حقيقة رسالته ، وعلو أحكامه ، وجامعيّة شريعته شاهدة على ربّانيته ، بل نفس أخلاقه وأحواله تشهد بنبوّته ، لذلك يشهد الإنسان جزماً في هذه الزيارة الشريفة :

(أشهد أنّ محمّداً عبدُه) أي عبد الله الذي عَبَدَه حقّ العبادة ، وقام بوظائف العبودية.

(المنتجب) أي إنتجبه الله واختاره من بين النبيين ، واصطفاه من المرسلين على الخلق أجمعين كما تقدّم بيانه في فقرة (صفوة المرسلين).

(ورسوله المرتضى) أي أنّ محمّداً رسول الله ، الذي ارتضاه الله لرسالته وسرّه.

ففي حديث محمّد بن الفضل الهاشمي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه نظر إلى ابن هذّاب فقال : إن أنا أخبرتك أنّك مبتلى في هذه الأيّام بدم ذي رحم لك أكنت مصدّقاً لي؟

قال : لا ، فإنّ الغيب لا يعلمه إلاّ الله.

قال : أو ليس يقول :( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ ) (٢) ؟ فرسول الله صلى الله عليه وآله عند الله مرتضى ، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه

__________________

(١) حقّ اليقين : ج ١ ص ١١٨.

(٢) سورة الجن : الآية ٢٦ ـ ٢٧.

٢٢٩

.........................................

____________________________________

الله على ما يشاء من غيبه ، فعلّمه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة(١) .

(أرسله بالهدى ودين الحقّ) أي أرسله الله تعالى مقروناً بالهداية فجعله هادياً إلى الله ، وإلى دين الله الحقّ الذي هو دين الإسلام الباقي إلى يوم القيامة.

(ليظهره على الدين كلِّه ولو كره المشركون) أي ليغلبه على الأديان كلّها عند الرجعة الشريفة ، والدولة الحقّة المنيفة ، في زمان حكومة الإمام المهدي أرواحنا فداه.

فإنّه يظهر هذا الدين آنذاك على الشرك كلّه ، ويغلب على جميع المشركين ولا يبقى بيت إلاّّ ويدخله الإسلام.

وهذا إشارة إلى قوله تعالى :( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (٢) كما تلاحظ تفسير الآية الشريفة بالدولة الحقّة والرجعة في المصادر(٣) ، ويأتي بيان ذلك تفصيلاً إن شاء الله تعالى في الفقرة الآتية «مصدّقً برجعتكم» و«مرتقب لدولتكم».

هذا ما يخصّ الشهادة بالرسالة ، واعلم أنّ في نسخة الكفعمي هنا زيادة كثيرة شريفة وهي :

«فصدع صلى الله عليه وآله بأمر ربّه ، وبلّغ ما حمّله ، ونصح لاُمّته ، وجاهد في سبيل ربّه ، ودعا إليه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وصبر على ما أصابه في جنبه ، وعبده صادقاً حتّى أتاه اليقين ، فصلّى الله عليه وآله.

وأشهد أنّ الدين كما شرع ، والكتاب كما تلى ، والحلال كما أحلّ ، والحرام كما حرّم ، والفصل ما قضى ، والحقّ ما قال ، والرشد ما أمر.

__________________

(١) كنز الدقائق : ج ١٣ ص ٤٩٢.

(٢) سورة التوبة : الآية ٣٣.

(٣) مجمع البيان : ج ٥ ص ٢٥ ، كنز الدقائق : ج ٥ ص ٤٤.

٢٣٠

.........................................

____________________________________

وأنّ الذين كذّبوه وخالفوا عليه ، وجحدوا حقّه ، وأنكروا فضله واتّهموه ، وظلموا وصيّه وحلّوا عقده ، ونكثوا بيعته ، واعتدوا عليه ، وغصبوه خلافته ، ونبذوا أمره فيه ، وأسّسوا الجور والعدوان على أهله ، وقتلوهم وتولّوا غيرهم ، ذائقوا العذاب في أسفل درك من نار جهنّم ، لا يُخفّف عنهم من عذابها وهم فيه مبلسون ، ملعونون متعبون ، ناكسوا رؤوسهم ، يعاينون الندامة والخزي الطويل ، مع الأذلّين الأشرار ، قد كبّوا على وجوههم في النار.

وأنّ الذين آمنوا به وصدّقوه ، ونصروه ووقّروه وعزّروه ، واتّبعوا النور الذي اُنزل معه ، اُولئك هم المفلحون في جنّات النعيم ، والفوز العظيم ، والثواب المقيم الكريم ، والغبطة والسرور ، والفوز الكبير ، فجزاه الله عنّا أحسن الجزاء ، وخير ما جزى نبيّاً عن اُمّته ، ورسولاً عمّن اُرسل إليه ، وخصّه بأفضل قسم الفضائل ، وبلّغه أعلى محلّ شرف المكرّمين ، من الدرجات العلى في أعلى علّيين ، في جنّات ونَهَر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، وأعطاه حتّى يرضى وزاده بعد الرضى ، وجعله أقرب النبيّين مجلساً ، وأدناهم منزلاً ، وأعظمهم عنده جاهاً ، وأعلام لديه كعباً ، وأحسنهم اتّباعاً ، وأوفر الخلق نصيباً ، وأجزلهم حظّاً في كلّ خير لله قاسمه بينهم ونصيباً ، وأحسن اللهمّ مجازاته عن جميع المؤمنين من الأوّلين والآخرين».

(الشهادة الثالثة) : الشهادة بإمامة أمير المؤمنين وأبنائه الأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجميعن كما تلاحظها في بيان فقرة الزيارة الشريفة فيما يأتي :

٢٣١

وَاَشْهَدُ اَنَّكُمُ الاْئِمَّةُ (١)

____________________________________

(١) ـ الأدلّة القطعيّة على إمام الأئمّة الإثنى عشر سلام الله عليهم كثيرة متظافرة ، وعلميّة متواترة أسلفنا ذكرها في مبحث الإمامة من كتاب العقائد(١) وفصّلنا البحث فيها ، ونشير هنا بالمناسبة إلى خلاصة من أدلّتها من الكتاب والسنّة والعقل والإعجاز بالبيان التالي :

١ / دليل الكتاب : ففي القرآن الكريم الذي هو كتاب الله باتّفاق جميع البشر آيات عديدة نصّت على إمامتهم وولايتهم ، ولزوم طاعتهم ومتابعتهم أحصاها القاضي التستري في المجلّد الثاني من كتاب (إحقاق الحقّ) نشير إلى آية واحدة منها وهي :

قوله تعالى :( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٢) وقد نزلت هذه الآية الشريفة في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام باتّفاق أحاديث تفسير الفريقين المتواترة ، من طرق الخاصّة في (١٩) حديثاً ، ومن طرق العامّة في (٢٤) حديثاً(٣) .

وهذه الآية صريحة في إنحصار الولاية بمن إشتملت عليه دون غيرهم بواسطة كلمة (إنّما) المفيدة للحصر(٤) .

على أنّ الاُمّة على اختلافها مجتمعة ، وأخبار الخاصّة والعامّة على كثرتها مطبقة على نزولها في أمير المؤمنين عليه السلام عند تصدّقه بخاتمه في حال ركوعه كما أفاده الشيخ الطوسي(٥) .

__________________

(١) العقائد الحقّة الطبعة الاُولى : ص ٢٥٩ ـ ٢٩٠.

(٢) سورة المائدة : الآية ٥٥.

(٣) غاية المرام : ص ١٠٣.

(٤) مجمع البيان : ج ٣ ص ٢٠٩.

(٥) تلخيص الشافي : ج ٢ ص ١٨.

٢٣٢

.........................................

____________________________________

ومصادر العامّة فقط التي ذكرت نزول هذه الآية المحكمة في أمير المؤمنين عليه السلام تبلغ (٦٦) مصدراً كما أحصاها شيخنا الأميني(١) .

وقد وردت الأحاديث في أنّ المراد بالمؤمنين الذين يعطون الزكاة وهم راكعون جميع الأئمّة الطاهرين عليهم السلام الذين وُفّقوا لمثل هذه الفضيلة في حياتهم كما أفاده العلاّمة المجلسي(٢) .

٢ / دليل السنّة : والأحاديث الشريفة الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله في التنصيص على إمامة الأئمّة الإثنى عشر عليهم السلام ما أكثرها وأوفرها.

ويكفي منها النصّ الجليّ من شخص النبي صلى الله عليه وآله بأمر الله العلي على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام بعد حجّة الوداع على رؤوس الأشهاد ، في حديث الغدير الأغرّ ، المتواتر بين الفريقين.

وقد ورد من طرق الخاصّة في ثلاثة وأربعين حديثاً ، ومن طرق العامّة في تسعة وثمانين حديثاً تلاحظها باسنادها ومتونها في المصادر المعتبرة(٣) .

ونقتطف زهرة اُخرى ، من الأزاهير النبويّة ، في التنصيص على إمامة سادة الإمامية ، وهو الحديث المتواتر بين المسلمين ، ورواه الخاصّة في (٥٠) حديثاً ، والعامّة في (٥٨) حديثاً وهو تصريح النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بقوله :

«أنّ علياً وأبنائه الأحد عشر هم أوصيائي والأئمّة من بعدي»(٤) .

٣ / دليل العقل : فإنّ من البديهي عدم استواء مرتبة من يعلم ومن لا يعلم ، وأنّ العقل يحكم بتقديم الأعلم والأفضل على غيره ، فهو الحَسَن وعكسه هو القبيح.

__________________

(١) الغدير : ج ٣ ص ١٥٦.

(٢) بحار الأنوار : ج ٣٥ ص ٢٠٦.

(٣) غاية المرام : ص ٧٩ ـ ١٠٣.

(٤) غاية المرام : ص ١٩١ لاحظ الحديث ٤٧.

٢٣٣

.........................................

____________________________________

ومن الواضح أنّ الأعلم الأفضل من جميع الاُمّة بحكم العقل وحكومة العقلاء حتّى باعتراف الخصم هو علي بن أبي طالب عليه السلام وأولاده الأئمّة المعصومين عليهم السلام ، وهذا أوضح من الشمس وأبين من الأمس ، فيحكم العقل بتقديمهم وإمامتهم.

وقد تصدّى العلاّمة الحلّي قدس سره إحصاء الأدلّة العقلية على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام في كتاب (الألفين) بألف دليل عقلي ، والف دليل نقلي.

وسُئل الخليل بن أحمد الفراهيدي : ما الدليل على أنّ علياً إمام الكل في الكل؟

فأجاب : إحتياج الكل إليه ، واستغنائه عن الكل(١) .

فدليل العقل حاكم بإمامتهم سلام الله عليهم.

٤ / دليل الإعجاز : فإنّهم سلام الله عليهم أخبروا بإمامتهم ووصايتهم وولايتهم عن الله تعالى ، مقروناً بمعجزاتهم الساطعة وبيّناتهم المصدّقة لإمامتهم التي هي شواهد قطعيّة على صدق كلامهم ، ودلائل وجدانية على انتصابهم من قِبَل ربّهم ، وإلاّ لم يكونوا قادرين على إتيان ما لم يقدر عليه إلاّ الله العزيز.

كما كانت المعاجز من أدلّة صدق نبيّنا العظيم ، ومَن قبله من الأنبياء المكرّمين حيث إنّ معاجزهم تنبئ عن صدقهم. فكذلك بالنسبة إلى الأئمّة الإثنى عشر صلوات الله عليهم ، تكون إعجازاتهم بإذن الله تعالى من أدلّة صدقهم في إمامتهم بالإمامة الإلهية ، والولاية الربّانية.

وقد جمع المحدّث الجليل الحرّ العاملي قدس سره معاجزهم في الأجزاء الثلاثة من كتابه (إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات) وكذلك السيّد البحراني في (مدينة المعاجز) فلاحظها.

فحياتهم مليئة بالمعجزات الباهرات منذ ولادتهم إلى شهادتهم وبعد شهادتهم ،

__________________

(١) تنقيح المقال : ج ١ ص ٤٠٣.

٢٣٤

.........................................

____________________________________

ومقرونة بشهادات الصدق على إمامتهم ووصايتهم.

وقد شهدت لهم الكائنات بأوثق البيّنات ويكفينا واحدة منها منقولة من طرق الفريقين وهو حديث رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام : «يا أبا الحسن كلّم الشمس فإنّها تكلّمك.

قال علي عليه السلام : السلام عليك أيّها العبد المطيع لله.

فقالت الشمس : وعليك السلام يا أمير المؤمنين ، وإمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، يا علي أنت وشيعتك في الجنّة ، يا علي أوّل من ينشقّ عنه الأرض محمّد ثم أنت ، وأوّل من يحيا محمّد ثمّ أنت ، وأوّل من يكسى محمّد ثمّ أنت.

ثمّ انكبّ علي ساجداً وعيناه تذرقان بالدموع ، فانكبّ عليه النبي صلى الله عليه وآله فقال : يا أخي وحبيبي ارفع رأسك فقد باهى الله بك أهل سبع سماوات»(١) .

وبهذا يجزم الإنسان بوصايتهم ، ويتّضح له بالعيان إمامتهم ، وينطق بشهادتها المكمّلة للإيمان. والشهادة بالإمامة لا تفارق الشهادة بالرسالة منذ اليوم الأوّل إلى يوم القيامة ، وأمرنا بالإتيان بها ، ولا يستطيع أحد أن يتخلّف عنها كما تلاحظه في أحاديثنا الكثيرة(٢) .

فيلزم الإتيان بها في كلّ مقام بعد الشهادة بالرسالة حتّى في الأذان ، فالشهادة فيه منن شعائر الإيمان ، ومن علائم تشيّع الإنسان ، الموجب للفوز بالجنان.

كلّ ذلك يؤكّد حتميّة الشهادة بالإمامة وعلميّة ما جاء في الزيارة الجامعة : (وأشهد أنّكم الأئمّة).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤١ ص ١٦٩ ب ١٠٩ ح ٥ المروي بطريق العلاّمة والخوارزمي.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٧ ص ١ ب ١٠ الأحاديث.

٢٣٥

الرّاشِدُونَ (١)

____________________________________

(١) ـ (الراشدون) أي الذين يُرشدون إلى الدين الحقّ المبين ، ويهدون إلى الصواب باليقين.

من رَشِدَ يرشَدُ رَشَداً فهو راشد ، والرَشَد هي الهداية(١) ، في الاُمور الدنيوية والاُخروية(٢) ، وهو نقيض الغيّ والضلال(٣) .

والرَشَد والرُشْد والرَّشاد واحد وهي الإستقامة على طريق الحقّ ، مع تصلّب فيه(٤) .

وأئمّة أهل البيت عليهم السلام هم الأئمّة الراشدون ، كما نصّ عليه سيّدهم وجدّهم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في حديث الصدوق قدس سره باسناده عن زيد بن أرقم قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله فقال بعد ما حمد الله وأثنى عليه :

«أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي لا يستغني عنه العباد ، فإنّ من رغب في التقوى زهد في الدنيا.

واعلموا أنّ الموت سبيل العالمين ومصير الباقين ، يخطف المقيمين ، ولا يعجزه الخلق الهاربون ، يهدم كلّ لذّة ، ويزيل كلّ نعمة ، ويبشع كلّ بهجة ، والدنيا دار الفناء ، ولأهلها منها الجلاء ، وهي حلوة خضرة قد عجلت للطالب ، فارتحلوا عنها يرحمكم الله بخير ما يحضر بكم من الزاد ولا تطلبوا منها أكثر من البلاغ ولا تمدّوا أعينكم منها إلى ما متّع به المترفون.

ألا أنّ الدنيا قد تنكّرت وأدبرت واخلولقت وأذنت بوداع ، وأنّ الآخرة قد رحلت وأقبلت باطّلاع.

معاشر الناس كأنّي على الحوض يرد قوم عليّ منكم وستؤخّر اُناس من دوني ،

__________________

(١) مجمع البحرين : مادّة رشد ص ٢٠٦.

(٢) المفردات : ص ١٩٦.

(٣) المحيط في اللغة : ج ٧ ص ٣٠٠.

(٤) القاموس المحيط : ج ١ ص ٢٩٤.

٢٣٦

.........................................

____________________________________

فأقول : يا ربّ منّي ومن اُمّتي فيقال : هل شعرت بما عملوا بعدك والله ما برحوا بعدك يرجعون على أعقابهم.

أيّها الناس اُوصيكم في عترتي وأهل بيتي خيراً ، فإنّهم مع الحقّ والحقّ معهم.

وهم الأئمّة الراشدون بعدي والاُمناء المعصومون.

فقال إليه عبد الله بن العبّاس فقال : يا رسول الله كم الأئمّة بعدك؟

قال : عدد نقباء بني اسرائيل وحواري عيسى ، تسعة من صلب الحسين ، ومنهم مهدي هذه الاُمّة»(١) .

فالخلافة الهادية المهديّة الراشدة ، التي ترشد إلى الحقّ ، وتهدي إلى الصواب ، وتستقيم في طريق الحقيقة هي خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأولاده المعصومين عليهم السلام الذين عرفت أدلّة إمامتهم الراشدة ، وعصمتهم الرشيدة.

فهم خلفاء الرسول الأمين ، والأئمّة القدوة إلى يوم الدين ، دون من سواهم ممّن لم يكن عليهم أدنى تنصيص ، ولم يكن لهم أقلّ لياقة كما تلاحظ حالهم في مثل مجلّدات الفتن والمحن من البحار ، وفيالسبعة من السلف ، وفي حياة الخليفة وغيرها.

والقرآن الكريم مصرّح بأنّ عهد الإمامة لا ينال الظالم ، وهو من تلبّس في حياته بالظلم شركاً أو معصية ومن تعدّى حدود الله تعالى ، فكيف تنال غير أهل البيت ممّن لا عصمة لهم؟!

فقد قال عزّ إسمه :( وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) (٢) .

__________________

(١) غاية المرام : ص ٢٠٥ ح ٤٨.

(٢) سورة البقرة : الآية ١٢٤.

٢٣٧

.........................................

____________________________________

وقد فُسّر هذا العهد بالإمامة من قِبَل الخاصّة والعامّة كما أفاده شيخ الطائفة قدس سره(١) .

فالحقّ المحقّق هو رشادة خصوص من اتّفق الفريقان في أحاديثهم المتواترة على أنّه مع الحقّ والحقّ معه يدور الحقّ معه حيثما دار ، ولن يفترقا إلى يوم القرار ، كما تلاحظه في أحاديث الخاصّة في (١٠) طرق ، وأحاديث العامّة في (١٥) طريقاً(٢) .

ثبّتنا الله على ولاية الأئمّة الراشدين ، والبراءة من أعدائهم المعاندين.

__________________

(١) تفسير التبيان : ج ١ ص ٤٤٨.

(٢) غاية المرام : ص ٥٣٩ ، بحار الأنوار : ج ٣٨ ص ٢٦ ب ٥٧ الأحاديث ، إحقاق الحقّ : ج ٤ ص ٢٧ ، وج ٩ ص ٤٧٩.

٢٣٨

الْمَهدِيُّونَ (١)

____________________________________

(١) ـ من الهداية والرشاد ، والإرشاد إلى طريق الحقّ والسداد ، جمع المهدي ، والمهديّ هو من هداه الله تعالى بهدايته الخاصّة.

وأهل البيت سلام الله عليهم هم الذين هداهم الله بهدايته ، وأرشدهم بدلالته وتولاّهم بتربيته ورعايته ، وعصمهم من كلّ خطلة وزلّة ، ثمّ جعلهم أعلام الهدى وأئمّة الهداية.

فكانوا هم المهديّون من الله ، وهم الهادون لخلق الله ، كما ترى أحاديثه المتظافرة في بابه. ففي حديث أبي الجارود ، عن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى :( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) (١) قال : «هذه الآية لآل محمّد وأشياعهم»(٢) .

وفي حديث حمران عن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى :( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ) (٣) قال : «هم الأئمّة»(٤) .

وفي حديث عبد الله بن جعفر عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال :

«ليس في جنّة عدن منزل ـ أشرف ولا ـ أفضل ولا أقرب إلى عرش ربّي من منزلي ، ونحن فيه اربعة عشر إنساناً ، أنا وأخي علي وهو خيرهم وأحبّهم إليّ ، وفاطمة وهي سيّدة نساء أهل الجنّة ، والحسن والحسين ، وتسعة أئمّة من ولد الحسين ، فنحن فيه أربعة عشر إنساناً في منزل واحد أذهب الله عنّا الرجس وطهرّنا

__________________

(١) سورة العنكبوت : الآية ٦٩.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٤ ص ١٤٣ ب ٢٥ ح ٣.

(٣) سورة الأعراف ك الآية ١٨١.

(٤) بحار الأنوار : ج ٢٤ ص ١٤٤ ب ٤٥ ح ٥.

٢٣٩

.........................................

____________________________________

تطهيراً ، هداة مهديين»(١) .

فرسول الله صلى الله عليه وآله هو المنذر ، ولكلّ قومٍ هادٍ إلى يوم القيامة أمير المؤمنين وأولاده المعصومون سلام الله عليهم ، كلّهم هداة مهديون ، إلى أن يبلغ خاتمهم الإمام الثاني عشر الذي هو المهدي وصفاً وإسماً ، والممتاز بهذا الإسم شخصاً.

خصّه الله بهذا الإسم الشريف لأنّه يُهدي إلى أمرٍ خفي ، ويُهدي إلى أمرٍ قد دُثر وضلّ عنه الناس ، كما في حديثي أبي سعيد الخراساني ومحمّد بن عجلان(٢) .

وهذا الإسم المبارك من أحلى أسمائه الكريمة وسماته العظيمة ، التي هي كثيرة ، شأن العظماء الذين تتعدّد أسماؤهم لتعدّد صفاتهم ، وكثرة جوانب عظمتهم وقد فصّلنا البيان في أسماءه الشريفة ، وكنيته المباركة ، وألقابه السامية ، في كتاب الفوائد(٣) .

ويمتاز سلام الله عليه باللقب الشريف (القائم) لقيامه بالحقّ بأعظم قيام إلهي يعرفه التاريخ البشري ، وكلّهم قائمون بالحقّ.

فيلزم تعظيمه بهذا اللقب ، والقيام عنده كما قام له الإمام الرضا عليه السلام ، بل أمر به الإمام الصادق عليه السلام في حديث الزام الناصب(٤) .

وهذا القيام ووضع اليد على الرأس ـ مضافاً إلى التعظيم ـ هو تسليم للإمام عليه السلام وإستعداد لقيامه ، وطلب تعجيل فرجه التي هي من الوظائف الدينيّة ، والمرغّبات الشرعية خصوصاً في عهد الغيبة.

فاللازم على المؤمن :

١ ـ انتظار الفرج مع عدم الاستعجال في ذلك ، فإنّما يهلك المستعجلون كما دلّت

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس : ج ٢ ص ٨٤٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥١ ص ٢٩ ـ ٣٠ ب ٢ ح ٢ و ٦ ـ ٧.

(٣) الفوائد الرجالية : ص ٢١.

(٤) الزام الناصب : ج ١ ص ٢٧١.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

مسائل حسن الطالع والحظ وعدمهما ، وما شابه ذلك ، فيرجعون كل الحوادث الحسنة أو المرّة إلى هذه الأمور. وكل ذلك بسبب الخوف من الأسباب الحقيقة لتلك الأمور.

والقرآن الكريم في الآيات المتقدمة يضع أصبع التحقيق على الأصل والمنبع ، ويبيّن أنواع العلاج وأسباب النصر والهزيمة فيقول : لأجل معرفة الأسباب الأصيلة لا يلزم البحث عنها في السماوات ولا في الأرضين ، ولا وراء الأوهام والخيال ، بل ينبغي البحث عنها في وجودكم وفكركم وأرواحكم وأخلاقكم ، وفي نظمكم والاجتماعية ، فإنّ كل ذلك كامن فيها.

فالشعوب التي فكّرت مليّا وحركت عقولها ووحدّت جموعها وتآخت فيما بينها ، وكانت قوية العزم والإرادة ، وقامت بالتضحية والفداء عند لزوم ذلك ، هذه الشعوب منتصرة حتما.

أمّا إذا حلّ الضعف والتخاذل والركود مكان العمل والسعي الحثيث ، وحلّ التراجع مكان الجرأة والنفاق والتفرقة مكان الاتحاد ، وحبّ النفس مكان الفداء ، وحل التظاهر والرياء محل الإخلاص والإيمان ، فيبدأ عند ذلك السقوط والبلاء.

وفي الحقيقة أنّ جملة :( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) تبيّن أسمى قانون في حياة الإنسانية ، وتوضح أنّ مدرسة القرآن الكريم هي أكرم مدرسة فكرية لحياة المجتمعات الإنسانية ، وأوضحها حتى لأولئك الذين نسوا في عصر الفضاء والذرّة قيمة الإنسان ، وجعلوا حركة التأريخ مرتبطة بالمصانع والمعامل وقضايا الإقتصاد.

فهي تقول لهؤلاء : إنّكم في خطأ كبير إذا أخذتم بالمعلول وتركتم العلة الأصلية أو نسيتموها ، وتمسكتم بغصن واحد من شجرة كبيرة وتركتم أصولها.

ولئلا نمضي بعيدا ، فإنّ تأريخ الإسلام ، أو تأريخ حياة المسلمين ـ بتعبير أصح ـ قد شهد انتصارات باهرة في بداياته ، وانكسارات وهزائم مرّة صعبة

٤٦١

بعدها.

ففي القرون الأولى كان الإسلام يتقدم في العالم بسرعة ، ويبث في كل مكان منه أنوار العلم والحريّة ، ويبسط ظلاله على أقوام جدد بالثقافة والعلوم ، فكان ذا قدرة متحركة ومحركة وبنّاءة معا ، وجاء بمدينة زاهرة لم يشهد التاريخ مثلها ، ولم تمر بضعة قرون حتى أخذ الخمول يعطل تلك الحركة ، وأخذت الفرقة والتشتت والضعف والخور والتخلف مكان ذلك الرقي ، حتى بدأ المسلمون يمدون أيديهم إلى الآخرين طلبا لوسائل الحياة الابتدائية ، ويبعثون بأبنائهم إلى ديار الأجانب لأخذ الثقافة والعلم ، بينما كانت جامعات المسلمين يومئذ من أرقى جامعات العالم العلمية والمراكز التي تهوي إليها أفئدة الأصدقاء والأعداء ابتغاء المعرفة.

لكن الأمور بلغت حدا بحيث أنّهم لم يصدروا علما وصناعة ، بل استوردوا ما يحتاجونه من خارج بلدانهم.

وأرض فلسطين التي كانت يوما مركز مجد المسلمين وعظمتهم ولم يتمكن الصليبيون ـ لمدّة مائتي عام ـ برغم تقديمهم ملايين القتلى والجرحى من ابترازها من أيدي المقاتلين المسلمين. إلّا أنّهم أسلموها «اليوم» خلال ستة أيّام ببساطة ، في وقت كان عليهم أن يعقدوا المؤتمرات أشهرا وسنين لإرجاع شبر منها. ولا يعرف بعد هذا إلى أية نتيجة سيصلو؟

ألم يعد الله عباده بالقول :( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) أو قوله :( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (2) .

أو قوله :( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) (3) .

__________________

(1) الروم ، 47.

(2) المنافقون ، 8.

(3) الأنبياء ، 105.

٤٦٢

فهل الله عاجز ـ والعياذ بالله ـ من تحقيق وعوده؟! أو قد نسيها! أو غيّرها؟

وإذا لم يكن كذلك ، فلم ذهب كل ذلك المجد والعظمة والعزّة؟

إنّ القرآن الكريم يجيب ـ في آية قصيرة ـ على كل تلك التساؤلات ، ويدعو إلى العودة إلى أعماق الوجدان ، والنظر في ثنايا المجتمع ، فسترون أن التغيير يبدأ من أنفسكم ، وأنّ الألطاف والرحمة الإلهية تعم الجميع ، فأنتم الذين أذهبتم قدراتكم وطاقاتكم هدرا فصرتم إلى هذا الحال.

ولا تتكلم الآية عن الماضي فحسب ليقال : إنّ ما مضى قد مضى بما فيه من مرارة وحلاوة ، وانتهى ولن يعود ، والكلام عنه غير مجد وغير نافع. بل تتكلم الآية عن الحاضر والمستقبل أيضا ، فإنّكم إذا عدتم إلى الله وأحكمتم أسس إيمانكم ، ووعت عقولكم ، وذكرتم عهودكم ومسئولياتكم ، وتصافحت الأيدي بعضها مع بعض وتعالت الصرخات المدوّية للنهضة ، وبدأتم بالجهاد والفداء والسعي والعمل على كل صعيد ، فسوف تعود المياه إلى مجاريها ، وستنقضي الأيّام السود وترون أفقا مشرقا وضاء ، وستعود أمجادكم العظيمة ، في صورة أجلى وأكبر!

تعالوا لتبديل أحوالكم ، وليكتب علماؤكم ، ويجاهد مقاتلوكم ، ويسعى التجار والعمال ، ويقرأ شبابكم أكثر فأكثر ويطهروا أنفسهم وتزداد معارفهم ، ليتحرك دم جديد في عروق مجتمعكم فتتجلّى قدراتكم بشكل يعيد له أعداؤكم الأرض المحتلة التي لم يعد منه شبر واحد بالرغم من كل أنواع التذلل والرجاء والاستعطاف!! ومن الضروري أن نذكر هذه اللطيفة ، وهي أنّ القيادة ذات تأثير مهم في مصير الشعوب ، ولا ننسى أن الشعوب الواعية تختار لنفسها القيادة الحكيمة اللائقة ، أمّا القادة الضعاف أو المتكبرون أو الظالمون فيسحقهم غضب الشعوب وإرادتهم القوية ، ولا ينبغي أن ننسى أنّ ما وراء الأسباب والعوامل الظاهرية

٤٦٣

سلسلة من الإمدادات الغيبية تنتظر المؤمنين والمخلصين ، لكنّها لا ينالها كل أحد جزافا ، بل لا بدّ من الاستعداد والجدارة!

ونختتم هذا الموضوع بذكر روايتين.

الأولى : ما ورد عن الإمام الصّادق في هذا الشأن إذ قالعليه‌السلام «ما أنعم الله على عبد بنعمة فسلبها إياه حتى يذنب ذنبا يستحقق بذلك السلب»(1) .

والثّانية : ما نقرؤه في حديث آخر لهعليه‌السلام : «إنّ الله عزوجل بعث نبيا من أنبيائه إلى قومه وأوحى إليه أن قل لقومك : إنّه ليس من أهل قرية ولا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء ، فتحولوا عمّا أحبّ إلى ما أكره إلّا تحولت لهم عمّا يحبّون إلى ما يكرهون. وليس من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عمّا أكره إلى ما أحبّ إلّا تحولت لهم عمّا يكرهون إلى ما يحبّون».

والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

2 ـ لا جبر في العاقبة ولا جبر في التأريخ ، ولا في سائر الأمور

والموضوع المهم الآخر الذي يستفاد من هذه الآيات بوضوح ، هو أنّه ليس للإنسان مصير خاص قد تعين من قبل ، ولا يقع تحت تأثير ما يسمى بـ «جبر التأريخ» و «جبر الزمان» بل إنّ الذي يصنع التأريخ وحياة الإنسانية ، ويجعل التحوّلات في الأسلوب والأخلاق والأفكار وغيرها ، وهو إرادة الإنسان نفسه! فبناء على ذلك فالذين يعتقدون بالقضاء والقدر الجبري ، ويقولون : إنّ الأمور والحوادث جميعها تجري بمشيئة الله الإجبارية ، تردّهم هذه الآية.

وكذلك الجبر المادي الذي يجعل من الإنسان ألعوبة بيد الغرائز التي لا تتغير

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 193.

٤٦٤

وأصول الوارثة.

أو جبر المحيط بحيث يرون أنّه تتحكم فيه الأوضاع الاقتصادية والمعامل والمصانع.

فكل ما تقدم من «الجبر» ترفضه المدرسة الإسلامية ، ويرفضه القرآن ، فالإنسان حرّ وهو الذي يقرر مصيره بنفسه.

إنّ الإنسان ـ بملاحظة ما قرأناه في الآيات من قانون ـ يمسك بزمام مصيره وتأريخه بنفسه ، فيصنع لها الفخر والنصر ، وهو الذي يسوق نفسه إلى الابتلاء والمذلة ، فداؤه منه ودواؤه بيده ، فإذا لم يغير نفسه ولم يسع في بناء شخصيته لن يكون له دور في صياغة مصيره وشأنه.

* * *

٤٦٥

الآيات

( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) )

التّفسير

مواجهة من ينقض العهد بشدّة!

في هذه الآيات المباركة إشارة إلى طائفة أخرى من أعداء الإسلام الذين وجهوا ضربات مؤلمة للمسلمين في حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المليئة بالأحداث ، إلّا أنّهم ذاقوا جزاء ما اقترفوه مرّا وكانت عاقبة أمرهم خسرا. وهؤلاء هم يهود المدينة الذين عاهدوا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة مرات.

وهذه الآيات تبيّن الأسلوب الشديد الذي ينبغي أن يتخذه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحقّهم ، الأسلوب الذي فيه عبرة للآخرين ، كما فيه درء لخطر هذه الطائفة.

٤٦٦

وتبدأ الآيات فتعرف هذه الطائفة بأنّها شر الأحياء الموجودة في هذه الدنيا فتقول :( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

ولعل التعبير ب( الَّذِينَ كَفَرُوا ) يشير إلى أنّ كثيرا من يهود المدينة كانوا يعلنون حبّهم للنبي وإيمانهم به قبل أن يظهرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفقا لما وجدوه مكتوبا عنه في كتبهم ، حتى أنّهم كانوا يدعون الناس ويمهدون الأمور لظهوره. ولكنّهم وبعد أن ظهر وجدوا أنّ مصالحهم المادية مهددة بالخطر ، فكفروا به وأظهروا عنادا شديدا في هذا الأمر حتى لم تبق بارقة أمل بإيمانهم ، وكما يقول القرآن الكريم :( فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) .

وتقول الآية الأخرى :( الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ) (1) . والمغروض أن يراعوا الحياد على الأقل فلا يكونوا بصدد الإضرار بالمسلمين وإعانة الأعداء عليهم.

فلا هم يخافون الله تعالى ، ولا يحذرون من مخالفة أوامره ، ولا يراعون القواعد والأصول الانسانية :( وَهُمْ لا يَتَّقُونَ ) .

والتعبير بـ «ينقضون» و «لا يتقون» وهما فعلان مضارعان ، هذا التعبير بهما يدلّ على الاستمرار ، كما أنّه يدل على أنّهم قد نقضوا عهودهم مرارا.(2) .

والآية بعدها توضح كيفية أسلوب مواجهة هؤلاء فتقول :( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ ) أي قاتلهم بشكل مد مرّ بحيث أن الطوائف القابعة خلفهم لإمدادهم يعتبروا بذلك ويتفرقوا عنهم.

وكلمة «تثقفنهم» مأخوذة من مادة «الثقف» على زنة «السقف» بمعنى بلوغ

__________________

(1) «من» في جملة «عاهدت منهم» إمّا للتبعيض فتعني أنّك عاهدت سادتهم أو البارزين من يهود المدينة ، أو أنّها للصلة فتكون معناها عاهدتهم كما يرد هذا الاحتمال وهو أن معنى «عاهدت منهم» هو أخذت العهد منهم.

(2) بالإضافة إلى ما ذكرنا في المتن فهناك قرينة لفظية تدل على هذا المعنى أيضا وهي «في كل مرّة»

٤٦٧

الشيء بدقة وسرعة ، وهي إشارة إلى وجوب التنبه والاطلاع السريع والدقيق على قراراتهم ، والاستعداد لإنزال ضربة قاصمة لها وقع الصاعقة عليهم قبل أن يفاجئوك بالهجوم.

وكلمة «شرّد» مأخوذة من مادة «التشريد» وهي بمعنى التفريق المقرون بالاضطراب فينبغي أن يكون الهجوم عليهم بشكل تتفرق معه المجموعات الأخرى من الأعداء وناقضي العهود ، ولا يفكروا بالهجوم عليكم.

وهذا الأمر إنّما صدر ليعتبر به الأعداء الآخرون ، بل حتى الأعداء في المستقبل أيضا ويتجنبوا الحرب مع المسلمين ، وليتجنب نقض العهد ـ كذلك ـ الذين لهم عهود مع المسلمين ، أو الذين سيعاهدونهم مستقبلا( لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

( وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ ) ولا تبدأهم بالهجوم قبل إبلاغهم بإلغاء العهد( إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ ) .

وبالرغم من أنّ الآية قد منحت النّبي صلاحية نقض العهد إذا أحس بخيانتهم أو نقضهم عهودهم ، إلّا أن من الواضح أن الخوف من نقضهم العهد لا يكون جزافا ودون سبب بل عند ما يرتكبون ما يدلّ على تفكيرهم بالنقض ويتفقون مع العدوّ على الهجوم ، فهذا القدر من القرائن والأمارات يجيز للنّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلغهم إلغاء العهد.

وجملة «فانبذ إليهم» من «الإنباذ» وهي بمعنى «الإلقاء» أو «الإعلام» و «الرّد» أي : ردّ عليهم عهودهم وأعلن عن إلغائها جهرا.

والتعبير بـ «على سواء» إمّا بمعنى أنّه كما أنّهم نقضوا العهد بأعمالهم التي اقترفوها ، فألغه أنت من جهتك أيضا ، فهذا حكم عادل ، يتساوى وما فعلوه. أو بمعنى الإعلان عن ذلك بأسلوب واضح صريح لا لبس فيه ولا خدعة.

وعلى كل حال ، فإنّ الآية ـ محل البحث ـ في الوقت الذي تنذر فيه

٤٦٨

المسلمين من نقض العهد ، وتحذرهم أن يكونوا هدفا وغرضا لهجوم العدوّ ، فهي تدعوهم إلى رعاية مبادئ الإنسانية في حفظ العهود أو إلغائها.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يوجه تعالى الخطاب إلى ناقضي العهد ، فيحذرهم من عاقبة ذلك فيقول :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ) .

* * *

٤٦٩

الآيات

( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) )

التّفسير

المزيد من التعبئة العسكرية والهدف منها :

تشير أوّل آية هنا ـ لتناسب الكلام في الآيات المتقدمة عن الجهاد ـ إلى أصل مهم يجب على المسلمين التمسك به في كل عصر ومصر ، وهو لزوم

٤٧٠

الاستعداد العسكري لمواجهة الأعداء ، فتقول :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) .

أي لا تنتظروا حتى يهجم العدوّ فتستعدوا عندئذ لمواجهته ، بل يجب أن تكون لديكم القدرة والاستعداد اللازم لمواجهة هجمات الأعداء المحتملة.

وتضيف الآية قائلة :( وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ) .

«الرّباط» بمعنى شدّ الشيء ، ويرد هذا الاستعمال كثيرا بمعنى ربط الحيوان في مكان ما لرعايته والمحافظة عليه ، وقد جاء هذا اللفظ هنا بما يناسب ذلك بمعنى الحفظ والمراقبة بصورة عامّة.

و «المرابطة» تعني حفظ الحدود ، وتأتي كذلك بمعنى الرقابة على شيء آخر ، ويطلق على مكان شدّ وثاق الحيوان بـ «الرباط» ولذلك سمّت العرب أماكن نزول المجاهدين رباطا أيضا.

* * *

ملاحظات

1 ـ في الجملة القصيرة ـ آنفة الذكر ـ بيان لأصل مهم في الجهاد وحفظ وجود المسلمين وما لديهم من مجد وعظمة وفخر ، والتعبير في الآية واسع إلى درجة أنّه ينطبق على كل عصر مصر تماما.

وكلمة «قوّة» وإن قصرت لفظا ، إلّا أنّها ذات معنى وسيع ومغزى عميق ، فهي لا تختص بأجهزة الحرب والأسلحة الحديثة لكل عصر فحسب ، بل تتسع لتشمل كلّ أنواع القوى والقدرات التي يكون لها أثرا ما في الإنتصار على الأعداء ، سواء من الناحية المادية أو الناحية المعنوية.

فالذين يرون أنّ السبيل الوحيد للانتصار على الأعداء هو كمية السلاح ، هم على خطأ كبير ، لأنّنا شاهدنا في عصرنا الحاضر شعوبا قليلة العدد وأسلحتها غير

٤٧١

متطورة انتصرت على شعوب أقوى وذات أسلحة حديثة متطورة ، كما حصل للشعب الجزائري المسلم في مواجهة الدولة الفرنسية القوية!

فبناء على ذلك ، ومضافا إلى ضرورة تحصيل الاسلحة المتطورة في كل زمان بعنوان وظيفة إسلامية حتمية ـ تجب تقوية عزائم الجنود ومعنوياتهم للحصول على قوّة أكبر وأهمّ.

ولا ينبغي الغفلة عن بقية القوى والقدرات الاقتصادية والثقافية والسياسية ، والتي تندرج تحت عنوان «القوّة» ولها تأثير بالغ على الأعداء.

وممّا يسترعي النظر أنّ الرّوايات الإسلامية ذكرت لنا تفاسير مختلفة في شأن «القوّة» ومعناها ، وذلك يكشف عن مفهومها الواسع ، ففي بعض الرّوايات نجد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن أنّ المراد من القوّة هو «النّبل»(1) .

ونقرأ في رواية أخرى ـ وردت في تفسير علي بن إبراهيم ـ أن المقصود من القوة هو كل أنواع السلاح(2) .

كما نقرأ في تفسير العياشي أن المراد منه السيف والدرع(3) .

ونجد رواية أخرى في كتاب من لا يحضره الفقيه تقول : «منه الخضاب بالسواد»(4) .

فترى أنّ الإسلام قد أولى لون شعر المقاتلين من كبار السن اهتماما ليستعملوا الخضاب ، فيراهم العدوّ في عمر الشباب فيصاب بالرعب منهم ، ويكشف هذا الأمر عن مدى سعة مفهوم القوّة.

وبناء على ذلك ، فمن فسّر القوّة بمصداق واحد محدود قد جانب الصواب

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 164 ـ 165.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السّابق.

٤٧٢

جدّا.

ولكن مع الأسف ، فإنّ المسلمين على الرغم ممّا لديهم من مثل هذا التعليم الصريح ، لا نجد فيهم أثرا لتقوية العزائم والمعنويات بين صفوفهم ، كأنّهم قد نسوا كل شيء. ولا هم يستغلّون قواهم الاقتصادية والثقافية والعسكرية والسياسية لمواجهة عدوّهم.

والأعجب من ذلك أنّنا مع إهمالنا هذا الأمر العظيم وتركه وراء ظهورنا نزعم أنّنا ما زلنا مسلمين!! ونلقي تبعة تأخرنا وانحطاطنا على رقبة الإسلام ، ونقول : إذا كان الإسلام داعية ترقّ وتقدم ، فلم نحن المسلمون في تأخر وتخلف؟!

ونحن نعتقد أنّ هذا الشعار الإسلامي الكبير :( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) إذا أضحى شعارا شاملا في كل مكان ، ينادي ، به الصغير والكبير ، والعالم وغير العالم ، والمؤلف والخطيب ، والجندي والضابط ، والفلاح والتاجر ، والتزموا به في حياتهم وطبقوه ، كان كافيا لجبران التخلفّ والتأخر.

إنّ سيرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العملية وأئمّة الإسلام تدل على أنّهم لم يدخروا وسعا ، واستغلوا كل فرصة لمواجهة العدوّ ، كإعداد الجنود وتهيئة السلاح ، وشد الأزر ورفع المعنويات ، وبناء معسكرات التدريب ، وإختيار الزمان المناسب للهجوم ، والعمل على استعمال مختلف الأساليب الحربية ، ولم يتركوا أية صغيرة ولا كبيرة في ذلك.

والمعروف أنّ النّبي بلغه أن سلاحا جديدا مؤثرا صنع في اليمن أيّام معركة حنين ، فأرسل النّبي جماعة إلى اليمن لشرائه فورا.

ونقرأ في أخبار معركة أحد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ على شعار المشركين «أعل هبل ، اعل هبل» بشعار أقوى منه وهو «الله أعلى وأجل» ورد على شعارهم : «إنّ لنا العزى والعزى لكم» ، بقوله : «الله مولانا ولا مولى لكم» ، وهذا الأمر يدلّ على أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ـ كذلك ـ لم يغفلوا عن اختيار أقوى الشعارات في

٤٧٣

مواجهة الأعداء والردّ على عقائدهم وشعاراتهم.

ومن التعاليم الإسلامية المهمّة في هذا الصدد موضوع سباق الخيل والرماية ، وما جوّزه الفقه فيهما من الربح والخسارة ، فهو مثل آخر على تفكير الإسلام العميق إلى جانب الاستعداد لمواجهة الأعداء وحثّ المسلمين على ذلك.

2 ـ واللطيفة المهمّة الأخرى التي نستنتجها من الآية آنفة الذكر هو عالمية وخلود هذا الدين الالهي. لأنّ مفاهيم هذا الدين ومضامينه ذات أبعاد واسعة لا تخلق على مرور الزمان ولا تغدو بالية أو منسوخة برغم القدم ، فجملة( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) كان لها مفهوم حي قبل أكثر من ألف عام ، كما هي الحال اليوم ، وسيبقى مفهومها حيا إلى عشرات الآلاف من السنين الأخرى لأنّ أي سلاح يظهر في المستقبل فهو كامن في كلمة «القوّة» الجامعة ، إذ أن جملة «ما استطعتم» عامّة ، وكلمة «قوّة» نكرة تؤيد عمومية تلك الجملة لتشمل كل قوّة.

3 ـ ويرد هنا سؤال وهو : لماذا وردت عبارة «رباط الخيل» بعد كلمة «قوّة» بمالها من المفهوم الواسع.

وجواب هذا السؤال هو أنّ الآية بالرغم من أنّها تتضمن قانونا شاملا لكل عصر وزمان ، فهي في الوقت ذاته تحمل تعليما مهما خاصا بعصر النّبي ، الذي هو عصر نزول القرآن. وفي الحقيقة إن هذا المفهوم العام جاء بمثال واضح لذلك العصر ، لأنّ الخيل كانت في ذلك الزمن من أهم وسائل الحرب ، فهي وسيلة مهمّة عند المقاتلين الشجعان والأبطال في هجومهم وقتالهم السريع ، وأهميتها تشبه أهمية الطائرات والدبابات في العصر الحاضر.

الهدف من تهيئة السلاح وزيادة التعبئة العسكرية :

ثمّ ينتقل القرآن بعد ذلك التعليم المهم إلى الهدف المنطقي والإنساني من وراء هذا الموضوع ، فيقول : إنّ الهدف منه ليس تزويد الناس في العالم أو في

٤٧٤

مجتمعكم بأنواع الأسلحة المدمرة التي تهدم المدن وتحرق الأخضر واليابس وليس الهدف منه استغلال أراضي الآخرين وممتلكاتهم ، وليس الهدف هو توسعة الاستعباد والاستعمار في العالم ، بل الهدف من ذلك هو( تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ ) !

لأنّ أكثر الأعداء لا يستمعون لكلمة الحق ولا يستجيبون لنداء المنطق والمبادي الإنسانية ، ولا يفهمون غير منطق القوّة!

فإذا كان المسلمون ضعافا ، فسوف يفرض عليهم الأعداء كل ما يريدون ، أمّا إذا اكتسبوا القوّة الكافية ، فإنّ أعداء الحق والعدل والاستقلال والحرية سيشعرون بالخوف ولا يفكرون بالتجاوز والعدوان.

واليوم ـ ونحن في تفسير هذه الآية ـ فإنّ قسما من الأراضي الإسلامية في فلسطين وغيرها من الدول المجاورة تسحقها أحذية الجنود الصهاينة ، وقد أغاروا بهجومهم الأخير على لبنان فشردّوا الآلاف من العوائل ، وقتلوا المئات من الأبرياء ، وهدموا الكثير من الأحياء والدور السكنية ، وأحالوها إلى انقاض ، فأضافوا ـ بهذه المأساة المروعة جريمة أخرى إلى سجلهم الأسود في وقت استنكر الرأي العام العالمي هذا العمل الوحشي حتى أصدقاء إسرائيل ، وأصدرت الأمم المتحدة بيانا دعت فيه إلى إخلاء هذه الأرض ، لكن هذا الشعب الذي لا يتجاوز بضعة ملايين لا يريد الاستماع لأية كلمة حق وأي منطق إنساني ، وذلك لما لديه من قوّة وأسلحة واستعداد كاف للحرب أعدّه منذ سنين طويلة لمثل هذا العدوان.

فالمنطق الوحيد الذي يمكن به الردّ على هؤلاء هو منطق( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) فكأنّ هذه الآية نزلت في عصرنا الحاضر ومن أجلنا ، لتقول لنا : جهزوا أنفسكم وكونوا من القوة بحيث يصاب عدوّكم بالذعر والخوف كيما يغادر أرضكم وينسحب إلى مكانه الأوّل.

٤٧٥

وممّا يثير النظر ويسترعيه أنّ الآية هنا جمعت التعبير بـ «عدوّ الله» و «عدوّكم» وذلك إشارة إلى عدم وجود منافع وأغراض شخصية في الجهاد والدفاع عن الإسلام ، بل الهدف هو حفظ رسالة الإسلام الإنسانية ، فالذين يعادونكم إنّما هم أعداء الله وأعداء الحق والعدل والإيمان والتوحيد والأخلاق الإنسانية ، فينبغي الردّ عليهم انطلاقا من هذا المجال.

وفي الحقيقة إنّ هذا التعبير شبيه بالتعبير «في سبيل الله» أو «الجهاد في سبيل الله» الذي يدلّ على أنّ الجهاد أو الدفاع الإسلامي لا يشبه فتح البلدان في ما مضى من التأريخ ، ولا غزو الاستعمار التوسعي اليوم ، ولا في صورة إغارات القبائل العربية في زمن الجاهلية ، بل كل ذلك من أجل الله وفي سبيل الله ، وفي مسير إحياء الحق والعدل.

ثمّ تضيف الآية بأنّ المزيد من استعداداتكم العسكرية يخيف أعداء آخرين لا تعرفونهم فتقول :( وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ ) .

* * *

ملاحظتان

1 ـ من هم المقصودون في الآية «الذين لا تعلمونهم»

بالرّغم من أنّ المفسّرين احتملوا في هذه الطائفة : الذين لا تعلمونهم احتمالات كثيرة ، فقال بعضهم : إنّهم يهود المدينة الذين كانوا يضمرون عداءهم ، وقال آخرون : إنّها إشارة إلى الأعداء مستقبلا ، كدولة الروم والفرس اللتين لم يحتمل المسلمون يومئذ أنّهم سيكونون في حرب معهما أو يقع القتال بينهما وبينهم.

إلّا أنّ الأصح ـ كما نراه ـ هو أن المراد منها هم المنافقون الذين دخلوا في صفوف المسلمين دون أن يعلموهم ، فإذا قوى جيش الإسلام فإنّ أولئك سيقعون

٤٧٦

في حيرة واضطراب ويرحلون ، والشاهد على هذه الموضوع هو الآية (101) من سورة التّوبة إذ تقول :( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ) .

ويحتمل أن مفهوم الآية يشمل جميع أعداء الإسلام غير المعروفين أعم من المنافقين وغيرهم.

2 ـ الاستعداد في كل مكان وزمان

وتتضمن الآية تعليما لمسلمي اليوم أيضا ، وهو أنّه لا ينبغي الاكتفاء بالاستعداد لأعداء الإسلام الذين تعرفونهم ، بل عليكم أن تنتبهوا للأعداء الاحتماليين أو «بالقوّة» وأن تتهيأوا حتى تكونوا في أعلى حدّ من القوّة والقدرة ، وفي الحقيقة فإنّ المسلمين لو تنبهوا لهذه القضية المهمّة لما منوا بهجمات الأعداء المفاجئة.

وفي نهاية الآية إشارة إلى موضوع مهم آخر ، وهو أنّ الاستعداد العسكري وجمع الأسلحة والأجهزة الحربية ووسائل الدفاع المختلفة ، كل ذلك يحتاج إلى بالدعم المالي اللازم له ، لذلك تأمر المسلمين بالتعاون الجماعي لتهيئة ذلك المال ، وأن ما يبذلونه في هذا الأمر فهو عطاء في سبيل الله ، ولن ينقص منه شيء أبدا( وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) فيرجع إليكم جميعه ، بل أكثر ممّا أنفقتم( وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ) ، وستنالون ثواب ذلك في هذه الدنيا في انتصار الإسلام وقوته وعظمته ، لأنّ الشعب الضعيف ستتعرض أمواله للخطر وسيفقد أمنه وحريته واستقلاله أيضا ، فبناء على ذلك فإنّ ما تنفقونه في هذا السبيل سيعود إليكم عن طريق آخر وفي مستوى أفضل وأسمى.

كما أنّ ثوابا أعظم ينتظركم في العالم الآخر في جوار رحمة الله ، فمع هذه الحال لا تظلمون ، بل ستنالون خيرا كثيرا.

٤٧٧

وممّا يسترعي النظر أنّ الجملة آنفة الذكر جاء فيها لفظ «شيء» وهي ذات مفهوم واسع ، أي لا يخفى على الله ما تبذلونه من جميع الأشياء ، مالا كان أو نفسا أو فكرا أو منطقا أو قوة أو أي مال آخر ينفق في تقوية بنية المسلمين الدفاعية والعسكرية ، فإنّ الله سيدخره ويعيده إليكم في حينه.

وقد احتمل بعض المفسّرين أن جملة «وأنتم لا تظلمون» معطوفة على جملة «ترهبون» أي أنّكم إذا ما أعددتم القوة اللازمة لمواجهة الأعداء فسيخافون أن يهجموا عليكم ، ولن يقدروا على ظلمكم وإيذائكم ، وبناء على ذلك فلن يصيبكم ظلم أبدا.

أهداف الجهاد في الإسلام وأركانه :

واللطيفة الأخرى التي تستفاد من هذه الآية ، وتكون جوابا على كثير من أسئلة الجهلاء وإشكالاتهم ، هي بيان شكل الجهاد وهدفه ومنهجه ، فالآية تقول بوضوح : إنّ الهدف منه ليس قتل الناس أو الاعتداء على حقوق الآخرين ، بل الهدف ـ كما ذكرنا ـ هو إرهابكم الأعداء لكيلا يعتدوا عليكم وليخافوكم ، فينبغي أن تكون جميع جهودكم وسعيكم منصبّا في سبيل قطع شر أعداء الله والحق والعدل.

فهل يملك الجهلة في أذهانهم مثل هذا التصوّر عن الجهاد في القرآن الكريم ، وما صرّح به في هذه الآية ـ محل البحث ـ ليسوغ لهم أن يحملوا كل هذه الحملات المسعورة المتتالية على هذا القانون الإسلامي. فتارة يدّعون بأنّ الإسلام هو دين السيف ، وتارة يقولون بأنّ الإسلام يفرض على الناس أفكاره بالحديد ، ويقيسون النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسائر محتلي البلدان في التاريخ.

وفي عقيدتنا أنّ جواب كل هؤلاء هو أن يعود إلى القرآن ، ويفكروا في الهدف الأصيل لهذا الموضوع ، لتتّضح لهم كل تلك الأمور.

٤٧٨

الاستعداد للصّلح :

مع أنّ الآية السابقة أو ضحت هدف الجهاد في الإسلام بقدر كاف ، فإنّ الآية التالية التي تتحدّث على الصلح بين المسلمين توضح هذا الأمر بصورة أجلى فتقول( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها ) .

ويحتمل في تفسير هذه الجملة المتقدمة أنّهم إذا بسطوا أجنحتهم للسلم فابسط جناحيك أنت للسلم أيضا ، لأنّ «جنحوا» فعل مصدره «الجنوح» وهو الميل ، ويطلق على كل طائر أنّه «جناح» أيضا ، لأنّ كل جناح في الطائر يميل إلى جهة ، لذلك يمكن الاستناد في تفسير هذه الآية إلى جذر اللغة تارة ، وإلى مفهومها الثّانوي تارة أخرى.

ولمّا كان الناس يترددّون أغلب الأحيان عند ما يراد التوقيع على معاهدة الصلح ، فإنّ الآية تأمر النّبي بعدم التردد في الأمر إذا كانت الشروط عادلة ومنسجمة مع المنطق السليم والعقل ، فتقول :( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .

ومع ذلك فهي تحذر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين من احتمال الاحتيال والخداع في دعوة الأعداء ، إلى الصلح ، فقد تكون دعوة للتمويه والرّغبة في توجيه ضربة مفاجئة ، أو يكون هدفهم هو تأخير الحرب ليتمكنوا من إعداد قوات أكثر ، إلّا أنّ الآية تطمئن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يخشى هذا الأمر أيضا ، لأنّ اللهعزوجل سيكفيه أمرهم وسينصره في جميع الأحوال ، إذ تقول :( وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ ) .

وسيرتك أيّها النّبي ـ السابقة ـ شاهدة على هذه الحقيقة ، لأنّ الله( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ) .

فكم أرادوا بك كيدا ، وكم مهدوا وأعدّوا لك من خطط مدمّرة بحيث لم تكن الغلبة عليها بالوسائل المألوفة ممكنة ، لكنّهعزوجل حفظك ورعاك في مواجهة

٤٧٩

كل ذلك.

أضف إلى ذلك أنّ المؤمنين المخلصين قد أحاطوا بك من كل جانب ولم يدخروا وسعا في الدفاع عنك ، فقد كانوا قبل ذلك متشتتين متعادين ، ولكنّ الله شرح صدورهم بأنوار الهداية( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ) .

وقد كانت الحرب لسنوات طويلة قائمة على قدم وساق بين طائفتي الأوس والخزرج وكانت صدورهم تغلي غيظا وحقدا بعضهم على بعض بشكل لم يكن أي أحد يتصور أنّهم سيعيشون بعضهم مع بعض بالحب والصفاء في يوم ما ، وسيكونون صفا واحدا متراصا ، ولكن الله القادر المتعادل فعل ذلك ببركة الإسلام وفي ظلال القرآن ، ولم يكن هذا الإمر مقتصرا على الأوس والخزرج الذين هم من الأنصار ، بل كان ذلك بين المهاجرين أيضا الذين جاءوا من مكّة ، إذ لم يكن بينهم ـ قبل الإسلام ـ حب ومودّة ، بل كانت صدورهم مليئة بالبغضاء والشحناء أيضا ، لكن اللهعزوجل غسل كل تلك الأحقاد وأزالها بحيث تمكن معها ثلاثمائة وثلاثة عشر من أبطال بدر ، منهم حوالي ثمانين نفرا من المهاجرين والباقي من الأنصار ، فكانوا جيشا صغيرا ، لكنّه متحدّ قوي استطاع أن يكسر شوكة العدوّ ويحطم قوته.

ثمّ تضيف الآية أن اتّحاد تلك القلوب ، أو إيجاد تلك الألفة ، لم يكن بوسائل مألوفة أو مادية( لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ) .

إنّ الذين يعرفون حالة نفوس المتعصبين والحاقدين ، كأولئك الذين كانوا في العصر الجاهلي ، يعرفون كذلك أن تلك الأحقاد والضغائن لم يكن بالإمكان إزالتها ، لا بالمال ولا بالجاه والمقام ، لأنّها كانت لا تزول عندهم إلّا بالانتقام الذي يتكرر بصورة متسلسلة فيما بينهم ، وفي كل مرّة يكون في صورة أبشع وأكثر

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698