في رحاب الزيارة الجامعة

في رحاب الزيارة الجامعة8%

في رحاب الزيارة الجامعة مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
ISBN: 964-7165-40-4
الصفحات: 698

  • البداية
  • السابق
  • 698 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 66193 / تحميل: 4618
الحجم الحجم الحجم
في رحاب الزيارة الجامعة

في رحاب الزيارة الجامعة

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
ISBN: ٩٦٤-٧١٦٥-٤٠-٤
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

قبل أن يستوفي حقّه منه ، فإذا استوفاه منه ، كان مضموناً عليه. ولو فضل منه فضلة ، فالأقرب : أنّها أمانة.

ولو قال : وفيه دراهم خُذْه(١) بدراهمك ، وكانت الدراهم التي فيه مجهولةَ القدر ، أو كانت أكثر من دراهمه ، لم يملكه ، ودخل في ضمانه بحكم الشراء الفاسد. وإن كانت معلومةً وبقدر حقّه ، ملَكه.

ج - لو قال : خُذْ هذا العبد بحقّك ، ولم يكن سَلَماً فقَبِل ، ملَكه. وإن لم يقبل وأخذه ، دخل في ضمانه بحكم الشراء الفاسد.

مسألة ١٨٠ : إذا احتاج الرهن إلى مؤونة يبقى بها الرهن - كنفقة العبد وكسوته وعلف الدابّة - كانت على الراهن ؛ لما رواه العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « الرهن من راهنه ، له غُنْمه ، وعليه غُرْمه »(٢) .

قولهعليه‌السلام : « من راهنه » أي : من ضمان راهنه.

ومن طريق الخاصّة : قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الظهر يُركب إذا كان مرهوناً ، وعلى الذي يركبه نفقته ، والدَّرُّ يُشرب إذا كان مرهوناً ، وعلى الذي يشرب نفقته »(٣) .

وقد قلنا : إنّ المرتهن ممنوع من التصرّف ، وإنّ المنافع للراهن ، فتكون نفقته عليه.

وفي معناه سقي الأشجار ومؤونة الجذاذ وتجفيف الأثمار واُجرة‌ الإصطبل والبيت الذي يُحفظ فيه المتاع المرهون إذا لم يتبرّع به المرتهن أو

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « خذ ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) ورد نصّه في المغني ٤ : ٤٦٨ ، ونحوه في سنن الدارقطني ٣ : ٣٣ / ١٢٣ ، وسنن البيهقي ٦ : ٣٩ ، و التمهيد - لابن عبد البر - ٦ : ٤٢٦ ، و ٤٣٠.

(٣) الفقيه ٣ : ١٩٥ / ٨٨٦ ، التهذيب ٧ : ١٧ ١٧٦ / ٧٧٥.

٢٦١

العَدْل ، خلافاً لأبي حنيفة في اُجرة الإصطبل والبيت(١) واُجرة مَنْ يردّ العبد من الإباق ، وما أشبه ذلك(٢) .

إذا عرفت هذا ، فهل يُجبر الراهن على أداء هذه المؤونة حتى يقوم بها من خالص ماله؟ للشافعيّة وجهان :

أحدهما : أنّه يُجبر لتبقى وثيقة المرتهن.

والثاني : أنّه لا يُجبر عند الامتناع ، بل يبيع القاضي جزءاً من المرهون بحسب الحاجة ، فلو كانت تستوعب الرهن قبل الأجل ، فعلى الثاني يلحق بما يفسد قبل الأجل ، فيباع ويُجعل ثمنه رهناً(٢) .

قيل عليه : هذا إمّا أن يلحق بمالا يتسارع إليه الفساد ثمّ عرض ما أفسده ، أو بما يتسارع إليه الفساد. والأوّل باطل ؛ لأنّ العارض هناك اتّفاقي غير متوقّع ، والحاجة إلى المؤونة معلومة متحقّقة. وإن كان الثاني ، لزم إثبات الخلاف المذكور في رهن ما يتسارع إليه الفساد في رهن كلّ ما يحتاج إلى نفقة أو مكان يحفظ فيه(٣) .

وعلى الأوّل - وهو الأصحّ عندهم - لو لم يكن للراهن شي‌ء أو لم يكن حاضراً ، باع الحاكم جزءاً من المرهون ، واكترى به بيتاً يحفظ فيه الرهن(٤) .

وأمّا المؤونة الزائدة فيمكن أن يقال : حكمها حكم ما لو هرب‌

____________________

(١) تحفة الفقهاء ٣ : ٤٤ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٥١ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٣٠ و ١٣١ ،الاختيار لتعليل المختار ٢ : ١٠٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٧ ، المغني ٤ : ٤٧٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤١.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٥ - ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٢.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٦.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٢.

٢٦٢

الجمّال وترك الجِمال المستأجرة أو عجز عن الإنفاق عليها.

مسألة ١٨١ : يجوز للراهن أن يفعل بالمرهون ما فيه مصلحته ، وليس للمرتهن منعه منه ، كفصد العبد وحجامته والمعالجة بالأدوية والمراهم ، لكن لا يُجبر عليها ، بخلاف النفقة ، وهو أحد وجهي الشافعيّة(١) .

ثمّ إن كانت المداواة ممّا يرجى نفعه ولا يُخاف غائلته ، جاز : وإن كان ممّا يخاف ، فالأقوى عدم المنع أيضاً منه ، ويكتفى بأنّ الغالب منه السلامة.

وللشافعيّة وجهان ، ويجريان في قطع اليد المتآكلة إذا كان في قطعها وتركها خطر ، فإن كان الخطر في الترك دون القطع ، فله القطع ، وليس له قطع سِلْعَة(٢) ولا إصبع لا خطر في تركها إذا خِيف منه ضرر. وإن كان الغالب فيه السلامة ، ففيه الخلاف(٣) .

وله أن يختن العبد والأمة في وقت اعتدال الهواء إن كان يندمل قبل حلول الأجل ؛ لأنّه أمر لا بُدَّ منه ، الغالب فيه السلامة. وإن لم يندمل وكان فيه نقص ، لم يجز. وكذا لو كان به عارض يخاف معه من الختان.

وللراهن تأبير النخل المرهونة.

ولو ازدحمت وقال أهل الخبرة : تحويلها أنفع ؛ جاز تحويلها.

وكذا لو رأوا قطع البعض لصلاح الأكثر.

وما يُقطع منها أو يجفّ فهو مرهون ، بخلاف ما يحدث من السعف

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٣.

(٢) السِّلْعة : الضواة ، وهي زيادة تحدث في الجسد مثل الغُدّة. لسان العرب‌ ٨ : ١٦٠ « سلع ».

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٣.

٢٦٣

ويجفّ ، فإنّ الراهن مختصّ به ، وينزّل منزلة النماء.

ولا يمنع من رعي الماشية في وقت الأمن ، وتؤوى ليلاً إلى يد المرتهن أو العَدْل.

ولو أراد الراهن أن يبعد لطلب الرعي وبالقرب ما يكفيها ، فللمرتهن المنع ، وإلّا فلا.

وتؤوى إلى يد عَدْلٍ يتّفقان عليه أو ينصبه الحاكم.

ولو أراد المرتهن ذلك وليس بالقرب ما يكفي ، لم يُمنع.

وكذا لو أراد نقل المتاع من بيتٍ ليس بحرزٍ إلى حرزٍ.

ولو نَبا(١) بهما المكان وأرادا الانتقال ، فإن كان إلى أرضٍ واحدة ، فلا إشكال ، وإلّا جُعلت الماشية مع الراهن ، ويحتاط ليلاً ، كما تقدّم.

____________________

(١) نبا به منزله وفراشه : لم يوافقْه. ونبَتْ بي تلك الأرض : لم أجد بها قراراً. لسان العرب ١٥ : ٣٠٢ « نبا ».

٢٦٤

٢٦٥

الفصل الخامس : في وضع الرهن على يد العَدْل‌

مسألة ١٨٢ : يجوز أن يشترط المتراهنان وضع الرهن على يد أحدهما أو ثالثٍ غيرهما‌ ، سواء تعدّد أو اتّحد ؛ عملاً بقولهعليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم »(١) .

إذا عرفت هذا ، فإنّ ذلك العَدْل يكون وكيلاً للمرتهن نائباً عنه في القبض ، فمتى قبضه صحّ قبضه - وبه قال علماؤنا ، وجماعة الفقهاء ، منهم : عطاء وعمرو بن دينار ومالك والثوري وابن المبارك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأحمد وأصحاب الرأي(٢) - لأنّه قبض في عقدٍ ، فجاز فيه التوكيل ، كسائر القبوض.

وقال الحكم والحارث العكلي وقتادة وداوُد وابن أبي ليلى : لا يكون مقبوضاً بذلك ؛ لأنّ القبض من تمام العقد يتعلّق بأحد المتعاقدين ، كالإيجاب والقبول(٣) .

والفرق بينه وبين القبول : أنّ الإيجاب إذا كان لشخصٍ كان القبول منه ؛ لأنّه مخاطَب. ولو كلّ في الإيجاب والقبول قبل أن يوجب له ، صحّ.

وما ذكروه ينتقض بالقبض في البيع فيما يعتبر القبض فيه.

____________________

(١) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣.

(٢) المغني ٤ : ٤١٨ - ٤١٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤٨.

(٣) المغني ٤ : ٤١٨ ٤١٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤٨.

٢٦٦

إذا عرفت هذا ، فإنّه يجوز أن يجعلا الرهن على يد مَنْ يجوز‌ توكيله ، وهو جائز التصرّف ، سواء مسلماً أو كافراً ، عَدْلاً أو فاسقاً ، ذكراً كان أو اُنثى.

ولا يجوز أن يكون صبيّاً ؛ لأنّه غير جائز التصرّف مطلقاً ، فإن فعلا ذلك ، كان قبضه وعدم قبضه واحداً.

ولا يجوز أن يكون عبداً بغير إذن سيّده ؛ لأنّ منافع العبد لسيّده ، ولا يجوز تضييعها في الحفظ بغير إذنه ، فإن أذن مولاه ، جاز.

وأمّا المكاتب فإن كان بجُعْلٍ ، جاز ؛ لأنّه مكتسب ، وهو سائغ له بغير إذن السيّد. وإن كان بغير جُعْلٍ ، لم يجز ؛ لأنّه التبرّع بمنافعه.

مسألة ١٨٣ : لو شرط جَعْل الرهن على يد عَدْلٍ وشرطا له أن يبيعه عند حلول الحقّ ، صحّ؛ لأنّ ذلك [ يكون ] توكيلاً(١) في البيع منجّزاً ، وإنّما الشرط في التصرّف. وصحّ بيعه ، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد(٢) .

وإن عزل الراهن العَدْلَ عن البيع ، قال الشيخرحمه‌الله : لا ينعزل ، ولا تنفسخ وكالته ، وكان له بيع الرهن(٣) - وبه قال أبو حنيفة ومالك(٤) - لأنّ وكالته صارت من حقوق الرهن ، فلم يكن للراهن إسقاطها(٥) ، كسائر‌

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة و الحجرية : « ولأنّ ذلك توكيلاً ». والظاهر أنّ الصحيح ما أثبتناه.

(٢) الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٤٢ ، الوسيط ٣ : ٥٠٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩ ، المغني ٤ : ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٤.

(٣) الخلاف ٣ : ٢٤٣ ، المسألة ٤١ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢١٧.

(٤) المبسوط - للسرخسي - ٢١ : ٧٩ - ٨٠ ، بدائع الصنائع ٦ : ١٥١ ، الهداية - للمرغيناني - ٤ : ١٤٢ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٢ العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، المغني ٤ : ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٤.

(٥) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « إسقاطه ». والظاهر ما أثبتناه.

٢٦٧

حقوقه.

وقال الشافعي وأحمد : يصحّ العزل ، ولا يملك البيع ؛ لأنّ الوكالة عقد جائز ، فلم يلزم العاقد المقام عليها ، كسائر الوكالات.

قالوا : وكونه من حقوق الرهن لا يمنع بقاءه على جوازه ، كما أنّ الرهن إذا شُرط في البيع لا يصير لازماً قبل القبض ، فإن عزله عن البيع ، فعلى صحّة العزل يكون للمرتهن فسخ البيع الذي جعل الرهن ثمنه ، كما لو امتنع الراهن من تسليم الرهن المشروط في البيع(١) .

هذا إذا كانت الوكالة شرطاً في عقد الرهن ، ولو شرطاها بعده ، انفسخت بعزل الموكّل والوكيل إجماعاً.

وأمّا إن عزله المرتهن ، فلا ينعزل ، قاله الشيخ(٢) - وبه قال أحمد والشافعي في أحد قوليه(٣) - لأنّ العدل وكيل الراهن ؛ إذ المرهون ملكه ، ولو انفرد بتوكيله صحّ ، فلم ينعزل بعزل غيره.

والثاني : له عزله(٤) ، على معنى أنّ لكلّ واحدٍ منهما منعه من البيع ؛ لأنّ المرتهن له أن يمنعه من البيع ، لأنّ البيع إنّما يستحقّ بمطالبته ، فإذا لم يطالب بالبيع ومنعه منه ، لم يجز ، فأمّا أن يكون ذلك فسخاً فلا.

مسألة ١٨٤ : إذا وضعا الرهن عند عَدْلٍ وشرطا أن يبيعه عند المحلّ ، جاز.

قال الشيخرحمه‌الله : وليس للعَدْل أن يبيعه حتى يستأذن المرتهن بإذنٍ‌

____________________

(١) حلية العلماء ٤ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩ ، المغني ٤ : ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٤ - ٤٥٥.

(٢) الخلاف ٣ : ٢٤٣ ، المسألة ٤٢ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢١٧.

(٣ و ٤ ) المغني ٤ : ٤٢٣ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٥ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩.

٢٦٨

مجدَّد(١) - وهو أحد قولي الشافعي ، وبه قال أحمد(٢) - لأنّ البيع لحقه ، فإذا لم يطالب به ، لم يجز بيعه ، بل يراجع ليعرف أنّه مطالِبٌ أو مهمل أو مبرئ.

والثاني : أنّه لا يراجع ؛ لأنّ غرضه توفية الحقّ(٣) .

وأمّا الراهن فقال الشيخعليه‌السلام : لا يشترط تجديد إذنه ولا مراجعته ثانياً عند البيع(٤) - وهو أحد قولي الشافعي(٥) - لأنّ الأصل دوام الإذن الأوّل.

والثاني : أنّه يشترط تجديد إذنه ؛ لأنّه قد يكون له غرض في استبقاء المرهون ويريد قضاء الحقّ من غيره وإبقاء الرهن لنفسه(٦) .

ولو مات الراهن أو المرتهن ، بطلت الوكالة.

وإذا قلنا : إنّ الوكيل لا ينعزل بعزل المرتهن ، فلو عاد إلى الإذن ، جاز البيع ، ولم يشترط تجديد توكيل من الراهن.

قال بعض الشافعيّة : مساق هذا أنّه لو عزله الراهن ثمّ عاد ووكّل ، افتقر إلى إذنٍ جديد للمرتهن ، ويلزم عليه أن يقال : لا يعتدّ بإذن المرتهن قبل توكيل الراهن(٧) .

ولو وضعا الرهن على يد عَدْلٍ فمات ، فإنّ اتّفق الراهن والمرتهن‌

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٢٤٤ ، المسألة ٤٣ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢١٧.

(٢) حلية العلماء ٤ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩ ، المغني ٤ : ٤٢٣ - ٤٢٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٥.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩.

(٤) الخلاف ٣ : ٢٤٤ ، المسألة ٤٣ ، المبسوط للطوسي ٢ : ٢١٧ ٢١٨.

(٥ و ٦ ) حلية العلماء ٤ : ٤٣٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٩.

(٧) الوسيط ٣ : ٥٠٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٠.

٢٦٩

على كونه في يد عَدْلٍ آخَر أو في يد أحدهما ، كان لهما. وان اختلفا ، كان للحاكم أن يضعه عند عَدْلٍ يرتضيه.

ولو كان الرهن في يد المرتهن فمات ، فالرهن بحاله ، فإن رضي الراهن أن يكون في يد ورثة المرتهن ، كان في أيديهم إن اختاروا. وإن أبى ذلك ، لم يُجبر على تركه في أيديهم ؛ لأنّه لم يرض إلّا بأمانة المرتهن دون ورثته ، ويضعه الحاكم عند مَنْ يراه.

مسألة ١٨٥ : يد العَدْل يد أمانةٍ متطوّع بحفظه ، فلو اتّفقا على نقله من يده ، كان لهما ؛ لأنّ الحقّ لهما. وان اختلفا فيه فطالَب أحدهما بالنقل وامتنع الآخَر ، لم ينقل ؛ لأنّهما قد رضيا بأمانته ورضيا بنيابته عنهما في حفظه ، فلا يجوز لأحدهما أن ينفرد وإخراجه من يده.

ولو أراد العَدْل ردَّ الرهن فإن كانا حاضرَيْن ، كان له ذلك ، وعليهما قبوله منه ؛ لأنّه أمين متطوّع بحفظه ، فلا يلزمه المقام على ذلك ، فإذا قبضاه فقد بري‌ء العدْل من حفظه. وإن امتنعا من أخذه ، رفع أمرهما إلى الحاكم ليُجبرهما على [ تسلّمه ](١) فإن امتنعا أو استترا ، نصب الحاكم أميناً يقبضه منه لهما ؛ لأنّ للحاكم ولايةً على الممتنع من حقٍّ عليه.

ولو ردّه العَدْل على الحاكم قبل أن يردّه عليهما وقبل امتناعهما من قبضه ، لم يكن له ذلك ، وكان ضامناً ، وكان الحاكم ضامناً أيضاً ؛ لأنّ الحاكم لا ولاية له على غير الممتنع.

وليس للعَدْل أن يدفع الرهن إلى غير المتراهنين مع حضورهما وإمكان الإيصال إليهما ، وكذا لو دفعه العَدْل إلى ثقةٍ أمينٍ مع وجودهما ،

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في « ج » والطبعة الحجريّة : « تسليمه ». والظاهر ما أثبتناه.

٢٧٠

فإنّه يضمن ، ويضمن القابض أيضاً ؛ لأنّه لا يجوز له أن يُخرجه من يده إلى‌ غير المتراهنين ، وليس للعَدْل القابض قبضه ، فضمنه ؛ لأنّه قبضه بغير حقٍّ ، فلزمه الضمان.

ولو دفعه إلى أحد المتراهنين ، فإنّهما يضمنان أيضاً ؛ لأنّه وكيل لهما في حفظه ، فلم يجز له تسليمه إلى أحدهما دون صاحبه ، فإذا سلّمه ، ضمن ، وضمن القابض ؛ لأنّه قبض ما لا يجوز له قبضه.

ولو امتنعا من القبض وليس هناك حاكم فتركه عند ثقةٍ ، جاز ولا ضمان.

ولو امتنع أحدهما فدفعه إلى الآخَر ، ضمن.

والفرق بينهما أنّ العَدْل يمسكه لهما ، فإذا دفعه إلى أحدهما ، كان ماسكاً لنفسه ، فلم يجز.

ولو كانا غائبين فإن كان للعَدْل عذرٌ في الامتناع من بقائه في يده - كسفرٍ عزم عليه ، أو مرضٍ خاف منه ، أو غير ذلك - دفعه إلى الحاكم ، وقبضه الحاكم عنهما ، أو نصب عَدْلاً يقبضه لهما. وإن لم يجد حاكماً ، جاز له أن يودعه عند ثقةٍ ، ولا ضمان على أحدهما.

فإن أودعه عند ثقةٍ مع وجود الحاكم ، فالأقرب : الضمان ؛ لأنّ الولاية في مال الغائب إلى الحاكم.

وللشافعيّة وجهان(١) .

وإن لم يكن له عذرٌ ، قال الشيخرحمه‌الله : لم يجز له تسليمه إلى

____________________

(١) المهذب - للشيرازي - ١ : ٣٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٩٩ و ٧ : ٢٩٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٦ ، و ٥ : ٢٩.

٢٧١

الحاكم(١) . وهو جيّد.

وفصّل الشافعي فقال : إن كانت غيبتهما طويلةً - وهو السفر الذي يقصر فيه الصلاة - فإنّ الحاكم يقبضه عنهما ، ولا يلجئه إلى حفظه ، وإن لم يجد حاكماً ، أودعه عند ثقة أو أمين : وإن كانت المسافة قصيرةً ، فهو كما لو كانا حاضرَين(٢) .

وإن كان أحدهما غائباً والآخَر حاضراً ، لم يجز تسليمه إلى الحاضر ، وكان كما لو كانا غائبين.

وليس له قسمته وإعطاء الحاضر نصفه ، بخلاف ما لو أودع اثنان وديعةً عند ثالثٍ وغاب أحدهما الآخَر فطالَب ، فإنّ الحاكم يقسّمها بينه وبين الغائب ؛ لأنّ المودعين ما لكان ظاهراً ؛ لثبوت يدهما معاً عليها ، فقسّمها الحاكم ، وهنا الملك لأحدهما وللآخَر حقّ الوثيقة ، وذلك لا يمكن قسمته ، فاختلفا.

مسألة ١٨٦ : لو جعلا الرهن على يد عَدْلين ، جاز إجماعاً ، ولهما إمساكه ، ولا يجوز لأحدها الانفراد بحفظه. فإن سلّمه أحدها إلى الآخَر ، ضمن النصف ؛ لأنّه القدر الذي تعدّى فيه. ولأنّ الراهن لم يرض بأمانة أحدهما ، وإنّما رضي بأمانتهما جميعاً ، فلا يجوز لأحدها أن ينفرد بحفظه.

ويحتمل عندي أن يكون عليهما معاً ضمان الكلّ.

وليس لهما أن يقتسما الرهن وإن كان ممّا يمكن قسمته من غير ضرر ، مثل الطعام والزيت ، وهذا أحد وجهي الشافعيّة.

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٢٤٧ ، المسألة ٤٩ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢٢١.

(٢) راجع : المغني ٤ : ٤٢٢ ، والشرح الكبير ٤ : ٤٥٠.

٢٧٢

وفي الآخَر : يجوز أن يدفعه أحدهما إلى الآخَر ؛ لأنّ اجتماعهما على حفظه ممّا يشقّ عليهما ويتعذّر ، فحمل الأمر على أنّ لكلّ واحدٍ منهما‌ الحفظ(١) .

وهو ممنوع ؛ لإمكان جَعْله في محرز لهما لكلّ واحدٍ منهما عليه قُفْلٌ.

وقال أبو حنيفة : إن كان ممّا لا ينقسم ، جاز لكلّ واحدٍ منهما إمساك جميعه. وإن كان ممّا يمكن قسمته ، لم يجز ، بل يقتسمانه(٢) .

وقال أبو يوسف ومحمّد : يجوز أن يضعاه في يد أحدهما بكلّ حال(٣) .

احتجّ أبو حنيفة بأنّه إذا كان ممّا ينقسم فقَبْضُ أحد النصفين لا يكون شرطاً في الآخَر ؛ لأنّه ممّا لا يستحقّ عليه بدل ، كما لو وهب لرجل عينين فقَبِل إحداهما ، بخلاف البيع ، فإذا ثبت لأحدهما إمساك نصفه ، لم يُسلّم إلى غيره.

وعلى القول الثاني للشافعيّة - وهو جواز دفع أحدهما إلى الآخَر - لو كان ممّا ينقسم فقسّماه بينهما ، جاز ، وانفرد كلّ واحدٍ منهما بحفظ ما في يده ، فإن أراد أحدهما أن يردّ ما في يده إلى الآخَر ، فوجهان :

أحدهما : يجوز ؛ لأنّه كان يجوز لكلٍّ منهما أن ينفرد بحفظ جميعه.

والثاني : لا يجوز ؛ لأنّه لمـّا اقتسماه بينهما صار في يد كلّ واحدٍ

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٧ ، حلية العلماء ٤ : ٤٢٩ - ٤٣٠ ، المغني ٤ : ٤١٩ - ٤٢٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤٩.

(٢ و ٣ ) المبسوط - للسرخسي - ٢١ : ٧٩ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٠ ، المغني ٤ : ٤٢٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٤٩.

٢٧٣

ما ينفرد(١) بحفظه ، فلم يكن له ردّه إلى غيره. ولأنّ قبل القسمة جاز ذلك ؛ لحصول المشقّة ، وبعد القسمة زالت المشقّة(٢) .

مسألة ١٨٧ : لو جني على الرهن في يد العَدْل ، وجبت قيمته على الجاني ، وكانت رهناً. وللعَدْل حفظها ؛ لأنّها بدل الرهن ، وله إمساك الرهن وحفظه ، والقيمة قائمة مقامه. وبطلت وكالته في بيع العين بتلفها ، فلا تتعلّق الوكالة بالقيمة ، بل تبطل ؛ لأنّ الوكالة كانت في العين دون قيمتها ، وبطلت الوكالة ؛ لأنّها لم تصر من حقوق الرهن ، وإنّما هي باقية على جوازها ، ولهذا للراهن الرجوعُ ، بخلاف إمساك العَدْل الرهنَ.

ولو كان الرهن في يد العَدْل فقبضه المرتهن ، وجب عليه ردّه إليه ؛ لأنّ الراهن لم يرض بتسليمه إليه ، فإذا ردّه إلى العَدْل ، زال عنه الضمان.

ولو كان الرهن في يد المرتهن فتعدّى فيه ثمّ أزال التعدّي أو سافر به ثمّ ردّه ، لم يزل عنه الضمان ؛ لأنّ استئمانه بطل بذلك ، فلم يعتد بفعله ، ولا تعود الأمانة إلّا بأن يرجع إلى صاحبه ثمّ يردّه إليه أو إلى وكيله أو يبرئه من ضمانه.

ولو غصب المرتهن الرهنَ من يد العَدْل ، ضمنه ، فإن ردّه إليه ، زال الضمان ؛ لأنّه قد ردّه إلى وكيله.

ولو اقترض ذمّيّ من مسلمٍ مالاً ورهن عنده خمراً وجعله على يد ذمّيّ ، لم يصح الرهن ، فإذا حلّ الحقّ وباعها الذمّي العَدْل وجاء بالثمن ،

____________________

(١) في النسخ الخطّيّة و الحجريّة : « صار ما في يد كلّ واحدٍ ينفرد ». والظاهر ما أثبتناه.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣١٧ ، حلية العلماء ٤ : ٤٣٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢٦.

٢٧٤

قال الشيخرحمه‌الله : جاز له أخذه ، ولا يُجبر عليه(١) .

وللشافعي في إجبار المسلم قبض الثمن وجهان : أحدهما : لا يُجبر ؛لأنّه قد تعيّن ثمن الخمر ، وذلك غير مملوك. والثاني : يُجبر ؛ لأنّ أهل الذمّة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة جرى مجرى الصحيحة ، فيقال : إمّا أن تقبض ، وإمّا أن تبرئ(٢) .

وإن جعلها على يد مسلم فباعها عند محلّ الحقّ أو باعها الذمّيّ من مسلمٍ ، لم يُجبر المرتهن على قبول الثمن ؛ لأنّ البيع فاسد لا يُقرّان عليه ، ولا حكم له.

مسألة ١٨٨ : إذا أذن الراهن والمرتهن للعَدْل في بيع الرهن ، فإن عيّنا له قدراً أو جنساً ، لم يجز له أن يعدل عمّا ذكراه إلى أقلّ ؛ لأنّ الحقّ لهما لا شي‌ء للعَدْل فيه.

فإن أطلقا البيع ، جاز له البيع بثمن المثل حالّاً بنقد البلد ، وبه قال الشافعي(٣) ، خلافاً لأبي حنيفة ؛ فإنّه جوّز أن يبيعه ولو بدرهمٍ واحد ؛ لإطلاق الأوّل(٤) .

ليس جيّداً ؛ لأنّ الإطلاق محمول على المعتاد المتعارف بين الناس ، وهو هنا مقيّد بما قلناه.

فإن باعه العَدْل بدون ثمن المثل ، فإن كان بقدر ما يتغابن به الناس ، فالأقوى : الجواز ؛ لأنّه مندرج تحت المتعارف. وإن كان بأزيد ممّا يتغابن به الناس ، لم يصح ، مثل أن يكون الرهن يساوي مائة درهم ويتغابن الناس

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٢٤٨ ، المسألة ٥٢ ، المبسوط - للطوسي - ٢ : ٢٢٣.

(٢) حلية العلماء ٤ : ٤٦٠.

(٣ و ٤ ) المغني ٤ : ٤٢٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.

٢٧٥

فيه بخمسة دراهم ، فباعه العَدْل بثمانين ، بطل ، ورجع الراهن في العين إن كانت باقيةً ، وإن كانت تالفةً ، كان له الرجوع على أيّهما شاء.

فإن رجع على المشتري ، رجع بقيمتها ، ولا يردّ المشتري على‌العَدْل. وإن رجع على العَدْل ، رجع بجميع القيمة ؛ لأنّه أخرج العين من يده على وجهٍ يجز له ، فضمن جميع قيمتها ، وصار كما لو أتلفها ، فإنّه يرجع عليه بجميع القيمة ، وهو أصحّ قولي الشافعي.

والثاني : أنّه يرجع عليه نقص من ثمن مثلها الذي يتغابن به الناس ، فيرجع بالباقي على المشتري ؛ لأنّ ذلك هو القدر الذي فرّط فيه ، فإنّه لو باعها بما يتغابن الناس بمثله ، نفذ بيعه ، ويلزم عليه المشتري ؛ لأنّه لو اشتراه بما يتغابن الناس عليه(١) لم يرجع عليه بشي‌ء ، ومع هذا يجب عليه جميع القيمة(٢) .

وكذا لو أوجبنا تعميم العطاء في الزكاة وأعطى بعض الأصناف الزكاةَ وحرّم بعضاً ، فكم يضمن؟ للشافعيّة وجهان :

أحدهما : القدر الذي لو أعطاهم في الابتداء جاز ؛ لأنّ التفضيل جائز.

والثاني : يضمن بقدر ما يخصّهم إذا سوّى بين العدد(٣) . وكذا لو قالوا(٤) في الاُضحية(٥) .

____________________

(١) كذا ، والظاهر : « بمثله » بدل « عليه ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣١.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ١٨٠ ، المجموع ٦ : ٢١٨ ، الوجيز ١ : ٢٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٧ : ٤٠٨ ، روضة الطالبين ٢ : ١٩١ - ١٩٢.

(٤) كذا ، والظاهر : « وكذا قالوا ».

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٤٧ ، المجموع ٨ : ٤١٦ ، الحاوي الكبير ١٥ : ١١٨ ، =

٢٧٦

فأمّا إذا باعه بثمن مثله أو بما يتغابن الناس بمثله ، صحّ البيع.

وإن باعه العَدْل بغير نقد البلد أو باعه بثمن مؤجَّل ، لم يصحّ البيع ، ويجب ردّ العين ، فإن كانت باقيةً ، استرجعها ، وإن كانت تالفةً ، رجع بقيمتها على مَنْ شاء منهما ، فإن رجع على العَدْل ، رجع العَدْل على المشتري ؛ لأنّ التلف كان في يده ، وإن رجع على المشتري ، لم يرجع على العَدْل.

مسألة ١٨٩ : إذا باع العَدْل بثمن المثل أو بما يتغابن به الناس ، صحّ البيع ؛ لأنّ ما يتغابن به الناس لا يمكن الاحتراز عنه ، وهو يقع لأهل الخبرة والبصيرة ، والمرجع في ذلك إليهم.

فإن جاء بعد البيع مَنْ زاد في ثمنه ، فإن كان بعد لزوم البيع وانقطاع الخيار بينهما ، لم يعتد بهذه الزيادة ؛ لأنّه لا يجوز له قبولها ، ولا يملك فسخ البيع في هذه الحال.

وإن كان ذلك من زمن الخير مثل أن يكون قبل التفرّق عن المجلس أو في زمن خيار الشرط ، فإنّه يجوز له قبول الزيادة ، وفسخ العقد ، فإن لم يقبل الزيادة ، لم ينفسخ العقد ، قاله الشيخ(١) رحمه‌الله ؛ لأنّ العقد قد صحّ ، وهذه الزيادة مظنونة ، فلا ينفسخ بها العقد ، وهو أحد قولي الشافعي.

وقال في الآخَر : إنّه ينفسخ ؛ لأنّه مأمور بالاحتياط ، وحالة الخيار بمنزلة حال العقد ، ولو دفع إليه زيادة في حالة العقد وباع بالنقصان لم يصح بيعه وإن كان قد باع بثمن المثل ، فكذا هنا(٢) .

____________________

= حلية العلماء ٣ : ٣٧٦ ، الوجيز ٢ : ٢١٤ ، العزيز شرح الوجيز ١٢ : ١٠٩ ، روضة الطالبين ٢ : ٤١٩.

(١) الخلاف ٣ : ٢٤٥ ، المسألة ٤٥.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣١ - ٣٣٢.

٢٧٧

فلو بدا للراغب فإن كان قبل التمكّن من البيع منه ، فالبيع الأوّل بحاله. وإن كان بعده ، فقد ارتفع ذلك البيع ، فلا بدّ من بيعٍ جديد.

وقال بعض الشافعيّة : إذا بدا له ، كان البيع بحاله ، كما لو بذل الابن الطاعة لأبيه في الحجّ وجعلناه مستطيعاً به ثمّ رجع عن الطاعة قبل أن يحجّ أهل بلده ، عرفنا عدم الوجوب(١) .

ولو لم يفسح العَدْل البيعَ الأوّل وباع من الراغب ، ففي كونه فسخاً لذلك البيع ثمّ في صحّته خلاف تقدّم.

ولهم خلاف في أنّ الوكيل بالبيع لو باع ثمّ فسخ البيع هل يتمكّن من البيع مرّةً اُخرى؟(٢) .

مسألة ١٩٠ : إذا باع العَدْل الرهنَ بإذنهما ، فالثمن يكون أمانةً في يده لا ضمان عليه فيه إجماعاً ، ويكون من ضمان الراهن إلى أن يتسلّمه المرتهن ، فإن تلف في يده من غير تفريطٍ ، لم يسقط من دَيْن المرتهن شي‌ء - وبه قال الشافعي وأحمد(٣) - لأنّ العَدْل وكيل الراهن في البيع ، والثمن ملكه ، وهو أمين له في قبضه ، فإذا تلف ، كان من ضمانه ، كسائر الأُمناء.

وقال أبو حنيفة ومالك : يكون من ضمان المرتهن(٤) .

أمّا أبو حنفية فبناه على أصله من أنّ الرهن مضمون على المرتهن والثمن بدله ، فيكون مضموناً.

____________________

(١ و ٢ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٢.

(٣) حلية العلماء ٤ : ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٠ ، المغني ٤ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.

(٤) حلية العلماء ٤ : ٤٦١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٢ ، المغني ٤ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.

٢٧٨

وليس بجيّد ؛ لما عرفت من أنّ الرهن أمانة.

وأمّا مالك فإنّه يقول : البيع حقّ للمرتهن ، وهو تابع لحقّه ، والثمن‌ يكون للمرتهن ، ويبرأ الراهن ببيع الرهن.

وقوله : « الثمن يكون للمرتهن » ليس بصحيح ؛ لأنّه بدل الرهن ، وإنّما تعلّق حقّ المرتهن باستيفاء الثمن منه ؛ لما روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « الرهن من راهنه »(١) بمعنى من ضمان راهنه ، وهذه عادة العرب في حذف المضاف.

ولو باع العَدْل وتلف الثمن في يده من غير تفريطٍ ثمّ خرج الرهن مستحقّاً ، فإن كان العَدْل قد أعلم المشتري أنّه وكيل الراهن ، فإنّ العهدة على الراهن ، وكذا كلّ وكيلٍ باع مالَ غيره وبه قال الشافعي وأحمد(٢) لأنّه نائبه في عقدٍ عن غيره ، فلم يلزمه الضمان ، كأمين الحاكم وسائر الوكلاء.

ولا يكون العَدْل طريقاً للضمان في أصحّ وجهي الشافعيّة ؛ لأنّه نائب الحاكم ، والحاكم لا يطالب فكذا نائبه.

والثاني : يكون طريقاً ، كالوكيل والوصي(٣) .

وقال أبو حنيفة : العهدة على الوكيل ، ويرجع على الراهن. وبنى ذلك على أنّ حقوق العهدة تتعلّق - عنده - بالوكيل(٤) .

____________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢٦٠ ، الهامش (٢)

(٢) المغني ٤ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٠٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣٠.

(٤) بدائع الصنائع ٦ : ١٤٩ ، حلية العلماء ٤ : ٤٦١ ، المغني ٤ : ٤٢٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.

٢٧٩

وهو ممنوع على ما يأتي في الوكالة.

وقال مالك : لا عهدة على العَدْل ، ولكن يرجع المشتري على المرتهن ، ويعود دَيْنه في ذمّة الراهن كما كان ؛ لأنّ البيع وقع للمرتهن‌ بمطالبته واستحقاقه ، وكانت العهدة عليه ، كالموكّل(١) .

وقد بيّنّا أنّه نائب عن الراهن وكيلٌ له دون المرتهن.

ولو خرج مستحقّاً بعد ما دفع الثمن إلى المرتهن ، فإنّ للمشتري أن يرجع على الراهن(٢) ، وبه قال الشافعي(٣) .

وقال أبو حنيفة : يرجع على العَدْل ويرجع العَدْل على المرتهن أو على الراهن أيّهما شاء(٤) .

وإن كان المشتري ردّه عليه بعيبٍ ، لم يكن له الرجوعُ على المرتهن ؛ لأنّه قبضه بحقٍّ ، وإنّما يرجع على الراهن.

وإن كان العَدْل حين باعه لم يُعلم المشتري أنّه وكيل ، كان للمشتري الرجوعُ عليه ، ويرجع هو على الراهن إن أقرّ بذلك أو قامت به بيّنة ، وإن أنكر ذلك ، كان القولُ قولَ العَدْل مع يمينه ، فإن نكل عن اليمين ، حلف المشتري ، ويرجع عليه ، ولم يرجع هو على الراهن ؛ لأنّه مُقرٌّ بأنّه ظلمه.

مسألة ١٩١ : لو باع العَدْل وقبض الثمن ثمّ ادّعى تلفه في يده من غير تفريطٍ ، فالقول قوله مع اليمين ، ولا يكلَّف إقامة البيّنة على ذلك ؛ لأنّه أمين ، ويتعذّر عليه إقامة البيّنة على ذلك ، فإن كلّفناه البيّنة ، شقّ عليه ،

____________________

(١) حلية العلماء ٤ : ٤٦٢.

(٢) في المغني والشرح الكبير : « المرتهن » بدل « الراهن ».

(٣) المغني ٤ : ٤٢٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.

(٤) بدائع الصنائع ٦ : ١٤٩ ، المغني ٤ : ٤٢٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٥٢.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

.........................................

____________________________________

فقال أبو الدرداء : فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله(١) .

وفي نهج البلغة تلمس بوضوح أسمى آيات تعظيم الله ، ومعاني تجليل الله ، فأمعن النظر من أوّل خطبة منه غلى آخر كلمة فيه ، تدرك أجلّ المعارف في معانيه.

وقد شهد الفريقان بشدّة تعظيمه لله جلّ جلاله ، وعظيم عبادته للمولى عزّ شأنه.

وتلاحظ شهادة عدوّه اللدود معاوية بذلك في حديث ضرار بن ضمرة(٢) . وشهادة ابن أبي الحديد في شرح النهج(٣) .

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤١ ص ١١ ب ١٠١ ح ١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤١ ص ١٤ ح ٦.

(٣) شرح نهج البلاغة : ج ١ ص ٢٧.

٣٠١

وَاَكْبَرْتُمْ (١) شَأْنَهُ ، وَمَجَّدْتُمْ كَرَمَهُ (٢)

____________________________________

(١) ـ الإكبار والتكبير : هو التعظيم والإستعظام.

والشأن : هو الأمر والمقام والمنزلة.

أي أنّكم أهل البيت عظّمتم مقام الله ومنزلته الشامخة ، وأعظمتم أمر الله تعالى فيما يفعله من أفعاله الحكيمة ومقاديره العظيمة.

وذلك أنّهم أعرف الناس بعظمة الله ، وأعلم الناس بمنزلة الله ، فكانوا أكثر الناس تعظيماً لله ، وأكثرهم إكباراً لشأن الله.

وتدلّ عليه الزيارة المطلقة العلويّة المتقدّمة التي ورد فيها : «وأكبرتم شأنه» ونفس سيرتهم وعباداتهم الرائعة المفيدة للتعظيم والإكبار.

وفي نسخة الكفعمي بعد هذه الفقرة : «وهِبتم عظمته».

(٢) ـ المجد في اللغة هو الشرف الواسع ، والرفعة العالية ، والعظمة الكاملة ، والتمجيد هو التعظيم والتشريف.

والكَرَم ضدّ اللؤم ، وفُسّر بالخير الكثير ، والكريم هو الجامع لأنواع الخير والشرف والكرامة. أي أنّكم أهل البيت سلام الله عليكم عظّمتم كرم الله تعالى على خلقه وخيره بعباده.

كما عظّمتم كرامته العلياء التي أكرمكم بها في الدنيا والآخرة فعرفتم قدرها ، وعظّمتم مقدارها ، وشكرتم المنعم بها.

وعظّمتم ذاته الكريمة المشتملة على الصفات المجيدة.

وأدعيتهم الغرّاء تدلّ على تمجيداتهم العلياء هذه.

ويتجلّى ذلك بوضوح في مثل مناجاة أمير المؤمنين عليه السلام ، ودعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة ، ودعاء الإمام السجّاد عليه السلام في الأسحار الذي رواه أبو حمزة الثمالي فلاحظها.

٣٠٢

وَاَدَمْتُمْ ذِكْرَهُ (١)

____________________________________

(١) ـ أدمتم : من الدوام وهو الثبوت والاستمرار.

وفي نسخة العيون (أدمنتم) مأخوذ من الإدمان ، وهي المداومة والمواظبة ، والاستمرار.

وذِكُر الله هو ما يذكّر بالله تعالى من الأذكار الشريفة بالقلب واللسان ، والعبادات المقرّبة كإقامة الصلاة وقراءة القرآن ، فهذه تذكّر الإنسان بالمولى المتعال لساناً وجَناناً.

قال الله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) (١) .

وأهل البيت عليهم السلام أعظم العاملين بهذه الآية الشريفة ، والمديمين للأذكار المنيفة. وتشهد سيرتهم وحياتهم أنّهم بلغوا الدرجة القصوى ، والمكانة العظمى في ذكر الله تعالى بجميع معنى الكلمة.

فأوّلاً : كانوا مستمرّين في ذكر الله تعالى بالقلب واللسان في كلّ حال.

ففي حديث الإمام الصادق عليه السلام قال : «وكان أبي عليه السلام كثير الذكر ، لقد كنت أمشي معه وإنّه ليذكر الله ، وآكل معه الطعام وإنّه ليذكر الله ، ولقد كان يحدّث القوم [و] ما يشغله ذلك عن ذكر الله ، وكنت أرى لسانه لازقاً بحنكه يقول : لا إله إلاّ الله.

وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتّى تطلع الشمس ، ويأمر بالقراءة من كان يقرأ منّا ، ومن كان لا يقرأ منّا أمره بالذكر»(٢) .

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٤١ ـ ٤٢.

(٢) الكافي : ج ٢ ص ٤٩٨ ح ١.

٣٠٣

.........................................

____________________________________

وتلاحظ أنحاء الذكر في سفينة البحار(١) .

وثانياً : كانوا مداومين على عبادة الله المذكّرة بأحسن الوجوه ، وأكثر المقادير في أدوم الأزمان ، بالليل والنهار.

ففي حديث نوف قال : بتُّ ليلة عند أمير المؤمنين عليه السلام فكان يصلّي الليل كلّه ، ويخرج ساعة بعد ساعة فينظر إلى السماء ويتلو القرآن ، قال : فمرّ بي بعد هدءٍ من الليل فقال : «يا نوف أرقد أنت أم رامق؟

قلت : بل رامق ، أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين.

قال : يا نوف طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة ، اُولئك الذين اتّخذوا الأرض بساطاً ، وترابها فراشاً ، وماءها طيباً ، والقرآن دثاراً ، والدعاء شعاراً ، وقرّضوا من الدنيا تقريضاً على منهاج عيسى بن مريم.

إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى عيسى بن مريم : قل للملأ من بني إسرائيل : لا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلاّ بقلوب طاهرة ، وأبصار خاشعة ، وأكفّ نقيّة ، وقل لهم : اعلموا أنّي غير مستجيب لأحد منكم دعوة ولأحد من خلقي قِبَله مظلمة» ، الخبر(٢) .

وفي حديث حبّة العرني قال : بينا أنا ونوف نائمين في رحبة القصر إذ نحن بأمير المؤمنين عليه السلام في بقيّة من الليل ، واضعاً يده على الحائط شبيه الواله ، وهو يقول :( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (٣) إلى آخر الآية.

قال : ثمّ جعل يقرأ هذه الآيات ويمرّ شبه الطائر عقله ، فقال لي : أراقد أنت

__________________

(١) سفينة البحار : ج ١ ص ٤٨٦ ، معاني الأخبار : ص ١٩٢.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤١ ص ١٦ ب ١٠١ ح ٩.

(٣) سورة البقرة : الآية ١٦٤.

٣٠٤

.........................................

____________________________________

يا حبّة أم رامق؟

قال : قلت ك رامق ، هذا أنت تعمل هذا العمل فكيف نحن! فأرخى عينيه فبكى. ثمّ قال لي : «يا حبّة إنّ لله موقفاً ولنا بين يديه موقفاً [موقف ـ خ] لا يخفى عليه شيء من أعمالنا ، يا حبّة إنّ الله أقرب إليّ وإليك من حبل الوريد ، يا حبّة إنّه لن يحجبني ولا إيّاك عن الله شيء.

قال : ثمّ قال : أراقد أنت يا نوف؟

قال : قال : لا يا أمير المؤمنين ما أنا براقد ، ولقد أطلت بكائي هذه الليلة.

فقال : يانوف إن طال بكاؤك في هذا الليل مخافة من الله تعالى قرّت عيناك غداً بين يدي الله عزّ وجلّ ، يانوف إنّه ليس من قطرة قطرت من عين رجل من خشية الله غلاّ أطفأت بحاراً من النيران ، يانوف إنّه ليس من رجل أعظم منزلة عند الله من رجل بكى من خشية الله ، وأحبَّ في الله ، وأبغضَ في الله ، يانوف إنّه من أحبّ في الله لم يستأثر على محبّته ، ومن أبغض في الله لم ينل ببغضه خيراً ، عند ذلك استكملتم حقائق الإيمان ، ثمّ وعظهما وذكّرهما وقال في أواخره : فكونوا من الله على حذر ، فقد أنذرتكما.

ثمّ جعل يمرّ وهو يقول : ليت شعري في غفلاتي أمعرض أنت عنّي أم ناظر إلىّ؟ وليت شعري في طول منامي وقلّة شكري في نعمك علىّ ما حالي؟».

ثالثاً : كانوا موظبين على ذكر الله القرآني ووحيه الرحماني بأتمّ قراءة ، وأحسن كيفية.

٣٠٥

.........................................

____________________________________

ففي حديث إبراهيم بن العبّاس قال : كان الرضا عليه السلام يختم القرآن في كلّ ثلاث ، ويقول : «لو اردت أن أختمه في أقلّ من ثلاث لختمته ، ولكن ما مررت بآية قطّ إلاّ فكّرت فيها وفي أي شيء اُنزلت ، وفي أي وقت ، فلذلك صرت أختم ثلاثة أيّام»(١) .

وفي حديث معاوية بن عمّار ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : الرجل لا يرى أنّه صنع شيئاً في الدعاء والقراءة ، حتّى يرفع صوته.

فقال : «لا بأس إنّه علي بن الحسين عليهما السلام كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن ، وكان يرفع صوته حتّى يسمعه أهل الدار ، وإنّ أبا جعفر عليه السلام كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن ، وكان إذا قام من الليل ، وقرأ رفع صوته فيمرّ به مارّ الطريق من السقّائين وغيرهم ، فيقومون فيستمعون إلى قراءته»(٢) .

وذكرهم القرآني الأعلى ثابت حتّى باعتراف غيرنا(٣) .

ولم يسبق لهم نظير في التاريخ أن يقرأ أحد القرآن حتّى بعد وفاته ، كما قرأه سيّد الشهداء الحسين عليه السلام بعد شهادته ممّا تلاحظه في النقل المتظافر(٤) .

فهم عليهم السلام أعظم الذاكرين لله تعالى ، ذكرهم الله تعالى بالسلام وحيّاهم بالتحيّة والإكرام.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٢ ص ٢٠٤ ب ٢٤ ح ١.

(٢) بحار الأنوار : ج ٩٢ ص ١٩٤ ب ٢١ ح ٩.

(٣) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد : ج ١ ص ٢٧ ، الإمام الصادق : ج ١ ص ٥٣ ـ ٥٤.

(٤) معالي السبطين : ج ٢ ص ٦٨.

٣٠٦

وَوَكَّدْتُمْ ميثاقَهُ (١)

____________________________________

(١) ـ وكّدتم : من التوكيد بمعنى التأكيد وهي التقوية ، والتوكيد افصح من التأكيد.

والميثاق : هو العهد الموثّق ، مفعالٌ من الوثاق ، وهو في الأصل : الحبل الذي يُقيّد ويُشدّ به ، سمّي به العهد لوثاقته واستحكامه.

وأهل البيت عليهم السلام ممّن اتّصفوا بتقوية عهد الله تعالى ، والتزموا بالوفاء بميثاق الله ، إذ هم أطوع الخلق لله تعالى فكانوا أوفى بميثاقه.

والميثاق هذا فُسّر بمعنيين :

١ / الميثاق الذي أخذه الله تعالى من النبيّين بالدعوة إلى التوحيد ، وتبليغ الرسالة وإعلاء الكلمة ، وهو ما قال الله تعالى :( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) (١) ـ(٢) .

وأهل البيت عليهم السلام كانوا في أعلى درجات تأكيد هذا الميثاق ، كما يشهد له جهودهم وجهادهم إلى أن وقعت شهادتهم.

٢ / الميثاق الذي أخذه الله تعالى من بني آدم في عالم الذرّ ، المشار إليه بقوله تعالى :( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ ) (٣) ـ(٤) .

وأهل البيت عليهم السلام أسبق الخلق وأوفاهم بهذا الميثاق.

وقد تقدّم حديث الإمام الصادق عليه السلام : «لمّا أراد الله أن يخلق الخلق نثرهم بين

__________________

(١) سورة الأحزاب : الآية ٧.

(٢) البرهان : ج ١ ص ٣٧٤ ، وج ٢ ص ٨٣٣.

(٣) سورة الأعراف : الآية ١٧٢.

(٤) البرهان : ج ١ ص ٣٧٥ ، بحار الأنوار : ج ٥ ص ٢٢٥ ، وج ٦٠ ص ١٣١.

٣٠٧

.........................................

____________________________________

يديه ، فقال لهم : مَن ربّكم؟

فأول من نطق رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام والأئمّة عليهم السلام فقالوا : أنت ربّنا»(١) .

وقد مضى بيانه في الفقرة الشريفة : «وحججُ الله على أهل الدنيا والآخرة والاُولى». فراجع.

ونُضيف هنا بمناسبة ذكر الميثاق ما أفادته الأحاديث الشريفة : أنّ هذا الميثاق الذي أخذه الله تعالى من عباده في عالم الذرّ ، وأقرّوا له بذلك سجّله الله تعالى وأثبته ، وكتب أسماء عبيده في رَقٍّ ـ وهو الجلد الرقيق الذي يكتب فيه ـ وأودعه في الحجر الأسود.

وكان لهذا الحجر آنذاك عينان ولسانان وشفتان ، لأنّه كان يومئذٍ قبل تبديله إلى هذه الصورة مَلَكاً من ملائكة الله العظام ، فقال له : إفتح فاك ، ففتح فاه ، فألقمه ذلك الرقّ ثمّ قال له : إشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة ، وسيشهد.

ولهذا استحبّ للطائف حول الكعبة المعظّمة ، وللداخل إلى المسجد الحرام إستلام الحجر ، وأن يقول عنده مشيراً إليه مخاطبة له : «أمانتي أدّيتُها وميثاقي تعاهدتُه ، لتشهد لي بالموافاة»(٢) .

ولهذا الحجر المبارك خصوصيات فريدة ، فإنّه أنزله الله من الجنّة على آدم عليه السلام وهو بأرض الهند ، فحمله على عاتقه حتّى وافى به مكة المكرّمة ، فجعله في ركن البيت الشريف(٣) .

واعلم أنّ هذا الحجر موضوع في الزاوية الشرقية من الكعبة المعظّمة في الركن

__________________

(١) كنز الدقائق : ج ٥ ص ٢٣٠.

(٢) علل الشرائع : ص ٤٢٣ ب ١٦١ الأحاديث.

(٣) سفينة البحار : ج ١ ص ٢٢٥.

٣٠٨

.........................................

____________________________________

العراقي في مبدأ الطواف ، وعلى إرتفاع مترٍ ونصف من أرض المسجد الحرام ، ملبّساً بإطارٍ من فضّة.

ويمتاز الحجر الأسود عن أحجار العالم بأنّه حجر كبير ضخامته (٣٠) سنتيمتراً ، وبالرغم من ذلك يساوي وزنه (٢) كيلو غرام فقط.

وهو أخفّ من الماء ولذلك لا يرسب فيه.

وهو ضدّ النار والحرارة ، ولذلك لا يتأثّر بالحرارة ، ولا يحترق بالنار ، بالرغم من إصابة الحريق له عدّة مرّات.

وأكبر خصوصية فيه أنّه (يمينُ الله في أرضه يصافح بها خلقه) كما ورد في الحديث ، فيجدر تعظيمه وتقبيله واستلامه(١) .

كما وأنّه امتاز من بين الأحجار بعد وضعه في ركن البيت الشريف بخصوصية أن أنطقه الله تعالى وتكلّم بلسانٍ عربيّ مبين بإمامة مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام كما تلاحظه في حديثي زرارة(٢) والكابلي(٣) .

__________________

(١) أحكام حج واسرار آن : ص ٩٨.

(٢) الكافي : ج ١ ص ٣٤٨ ح ٥.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤٦ ص ٢٩ ب ٣ ح ٢٠.

٣٠٩

وَاَحْكَمْتُمْ عَقْدَ طاعَتِهِ (١)

____________________________________

(١) ـ أحكمتم من الإحكام بالكسر بمعنى : ضبط الشيء ، وجعله مستحكماً.

والعقد بمعنى المعقود ، وهو أوكد العهود ، وفيه معنى الإستيثاق والشدّ ، مأخوذ من عقد الشيء بغيره : أي وصله به كما يعقد الحبل.

أي أنّ أهل البيت عليهم السلام ضبطوا وأتقنوا وقوّوا ميثاق إطاعة الخلق لله تعالى وعهده الذي أخذه منهم ، بواسطة هدايتهم بالمواعظ الشافية والنصائح الوافية ، وإرشادهم بتحبيب الطاعة لهم ، وتحذيرهم عن وقوع المعصية منهم ، وبترغيبهم إلى الثواب وتجنيبهم عن العقاب.

فكان من تبعهم واهتدى بهداهم مطيعاً لله ، منقاداً لحضرته خاضعاً لجنابه كما هو الملحوظ في الخيرة من أصحابهم الكرام وشيعتهم العظام ، الذين ربّوهم على طاعة الله ، وهذّبوهم على عبادة الله ، وزيّنوهم بترك معصية الله.

وللنموذج من ذلك راجع أحوال كبار أصحابهم وما أكثرهم وأطوعهم من أمثال محمّد بن أبي عمير الأزدي رضوان الله تعالى عليه.

ففي رجال الكشّي : وجدت في كتاب أبي عبد الله الشاذاني بخطّه : سمعت أبا محمّد الفضل بن شاذان يقول : دخلت العراق فرأيت واحداً يعاتب صاحبه ويقول له : أنت رجل عليك عيال ، وتحتاج أن تكتب عليهم ، وما آمن أن يذهب عيناك لطول سجودك ، فلمّا أكثر عليه قال : أكثرتَ علىّ ، ويحك لو ذهبت عين أحد من السجود لذهبت عين ابن أبي عمير ، ما ظنّك برجل سجد سجدة الشكر بعد صلاة الفجر فما يرع رأسه إلاّ زوال الشمس.

وسمعته يقول : أخذ يوماً شيخي بيدي ، وذهب بي إلى ابن أبي عمير فصعدنا في غرفة وحوله مشايخ له يعظّمونه ويبجّلونه ، فقلت لأبي : مَن هذا؟

٣١٠

.........................................

____________________________________

قال : هذا ابن أبي عمير.

قلت : الرجل الصالح العابد؟

قال : نعم.

وسمعته يقول : ضُرب ابن أبي عمير مائه خشبة وعشرين خشبة بأمر هارون لعنه الله ، تولّى ضربه السندي بن شاهك على التشيّع ، وحبس فأدّى مائه وإحدى وعشرين ألفاً حتّى خلّي عنه.

فقلت : وكان متموّلاً؟

قال : نعم كان ربّ خمسمائة ألف درهم(١) .

كما كانوا هم عليهم السلام في أنفسهم المثل الأعلى ن والقدوة العُليا لطاعة الله ، وتطويع الخلق لله ، وقد تقدّم شيء من ذلك في فقرة «المطيعون لله».

ولم يستطع أحد من الناس أن يصل إليهم في قدر الطاعة ، وما زالوا على ذلك حتّى أقاموا الحقّ والدين ، وقطعوا ظهور الشياطين ، وقامت بهم الطاعة والعبادة.

ولذلك ورد في الحديث : «ولولانا ما عُبِدَ الله»(٢) .

وفي نسخة الكفعمي : «وأحكمتم عقد عُرى طاعته».

__________________

(١) رجال الكشّي : ص ٤٩٤.

(٢) الكافي : ج ١ ص ١٩٣ ح ٦.

٣١١

وَنَصَحْتُمْ لَهُ فِى السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ (١)

____________________________________

(١) ـ النُصح ، والإسم منه النصيحة هو : الخلوص وعدم الغشّ.

يُقال : نَصَحَه ونَصَحَ له : إذا فعل فعلاً أو تكلّم بكلامٍ أراد به الخير والصلاح للمنصوح.

وإشتقاقه من نصحت العسل إذا صفّيته ، فالناصح يُصفّي فعله وكلامه من الغشّ ، أو من نصحت الثوب إذا خطته ، فالناصح يصلح خلل أخيه كما يصلح الخيّاط خرق الثوب على ما يستفاد من اللغة.

والسرّ والعلانية هي الخفاء والظهور.

وفُسّرت النصيحة في السرِّ بالنصح في الإعتقاد والنيّة فيما بين الله تعالى وبين أنفسهم.

كما فُسّرت النصيحة في العلانية بالنصح في الأقوال والأفعال فيما بينهم وبين الناس.

والمعنى أنّكم أهل البيت سلام الله عليكم نصحتم لله تعالى عباده ، وأردتم لهم الخير ، وأصلحتم خللهم ، في السرّ والعلانية(١) .

فإنّهم صلوات الله عليهم أرادوا بأقوالهم وأفعالهم الخير والصلاح لجميع عباد الله تعالى صالحهم وطالحهم.

كما تشهد به سيرتهم الطيّبة مع أوليائهم وأعدائهم ، بل مع الخلق كلّهم.

لذلك تظافرت زياراتهم بالشهادة لهم أنّهم نصحوا لله ولرسوله

وما مرّت عليهم فرصة في حياتهم إلاّ وتحرّوا الطريق الأرشد ، والمنهاج الأسعد لخير المخلوقين ، وصلاح العالمين ، وقد جَلَبوا لهم المصالح وجنّبوهم عن المفاسد.

__________________

(١) لاحظ روضة المتّقين : ج ٥ ص ٤٧٤.

٣١٢

.........................................

____________________________________

فأهل البيت عليهم السلام اتّصفوا بالنصيحة بالنحو الأكمل والنهج الأفضل.

ولم يكتفوا بنصيحة العباد بأنفسهم ، بل أمروا المؤمنين بالنصح فيما بينهم ، وأوجبوا عليهم النصيحة لهم ، وجعلوها من أفضل الأعمال.

ففي حديث سفيان بن عيينة قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : «عليكم بالنصح لله في خلقه ، فلن تلقاه بعمل أفضل منه»(١) .

وقد ضمنوا الجنّة لمن نصح لله ولرسوله ولكتابه ولدينه وللمسلمين ، على ما في حديث تميم الداري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : «من يضمن لي خمساً أضمن له الجنّة.

قيل : وما هي يا رسول الله؟

قال : النصيحة لله عزّ وجلّ ، والنصيحة لرسوله ، والنصيحة لكتاب الله ، والنصيحة لدين الله ، والنصيحة لجماعة المسلمين»(٢) .

وقد فسّر العلاّمة المجلسي أعلى الله مقامه هذه النصائح بقوله :

(المراد بنصيحة المؤمن : إرشاده إلى مصالح دينه ودنياه ، وتعليمه إذا كان جاهلاً ، وتنبيهه إذا كان غافلاً ، والذبّ عنه عن أعراضه إذا كان ضعيفاً ، وتوقيره في صغره وكبره ، وترك حسده وغشّه ، ودفع الضرر عنه ، وجلب النفع إليه ، ولو لم يقبل النصيحة سلك به طريق الرفق حتّى يقبلها ، ولو كانت متعلّقة بأمر الدين سلك به طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الوجه المشروع

ومعنى نصيحة الله : صحّة الإعتقاد في وحدانيّته ، وإخلاص النيّة في عبادته.

والنصيحة لكتاب الله هو : التصديق والعمل بما فيه.

__________________

(١) الكافي : ج ٢ ص ٢٠٨ ح ٦.

(٢) الخصال : ج ١ ص ١٩٤ ح ٦٠.

٣١٣

.........................................

____________________________________

ونصيحة رسوله صلى الله عليه وآله : التصديق بنبوّته ورسالته ، والإنقياد لما أمر به ونهى عنه.

ونصيحة الأئمّة عليهم السلام : أن يطيعهم في الحقّ ، ولا يرى الخروج عليهم

ونصيحة عامّة المسلمين : إرشادهم إلى مصالحهم)(١) .

__________________

(١) مرآة العقول : ج ٩ ص ١٤٢ ـ ١٤٤.

٣١٤

وَدَعَوْتُمْ اِلى سَبيلِهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (١)

____________________________________

(١) ـ إشارة إلى أنّ أهل البيت عليهم السلام هم المصداق الكامل العامل بقوله تعالى :( ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (١) .

بمعنى أنّكم أهل البيت عليكم سلام الله دعوتم الخلق ، وهديتم المخلوق إلى سبيل الله لقويم ، وصراطه المستقيم ، ودينه العظيم ، بلسان الحكمة والموعظة الحسنة.

فما هي الحكمة وما هي الموعظة الحسنة؟

أمّا الحكمة فقد جاء تعريفها بالعلوم الحقيقيّة الإلهية(٢) .

وفُسّرت هنا بالقرآن الكريم(٣) .

وسُمّي القرآن حكمة لأنّه يتضمّن الأمر بالأفعال الحسنة والنهي عن الأفعال القبيحة ، وأصل الحكمة المنع عن القبيح والفساد كما اُفيد.

وأهل البيت سلام الله عليهم دَعَوا الخلق إلى دين الله تعالى بالقرآن الكريم وبما أخذوه من كلام الله الحكيم ، فكلّموا كلّ واحدٍ بغرر الحكم على ما يوافق عقله وبمقدار فهمه وبقدر إدراكه ، فإنّهم سلام الله عليهم كانوا كرسول الله صلى الله عليه وآله يكلّمون الناس على قدر عقولهم ، كما في حديث الإمام الصادق عليه السلام(٤) .

وأمّا الموعظة الحسنة فمعناه : الوعظ الحسن ، وهو الصَّرف عن القبيح ، على وجه الترغيب في تركه ، والتزهيد في فعله ، ومن ذلك تليين القلوب بما يوجب الخشوع(٥) .

__________________

(١) سورة النحل : الآية ١٢٥.

(٢) الأنوار اللامعة : ص ٧٧.

(٣) تفسير البرهان : ج ١ ص ٥٨٥.

(٤) الكافي : ج ١ ص ٢٣ ح ١٥.

(٥) مجمع البيان : ج ٦ ص ٣٩٣.

٣١٥

.........................................

____________________________________

فالوعظ ، والاسم منه الموعظة هو التذكير بالعواقب ، كالوصيّة بالتقوى ، والحثّ على الطاعات ، والتحذير عن المعاصي والإغترار بالدنيا وزخارفها ، ونحو ذلك(١) .

فيكون الوعظ بالزجر المقترن بالتخويف ، وبالتذكير بالخير فيما يرقّ له القلب(٢) .

وعليه فتكون الموعظة الحسنة في محصّل معناها عبارة عن الوعظ بما يكون حسناً في نفسه ، ومؤثراً في غيره ، بحيث يكون جاذباً للقلوب ، ومقرّباً للمطلوب.

وجاء في الآية الشريفة بعد الأمر بالدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة الأمر بالجدال بالتي هي أحسن.

وقد فُسّرت في حديث الإمام العسكري عليه السلام بالحجج الإلهية.

مثل التي بيّنها الله تعالى لنبيّه الأكرم في جواب من قال :( قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) ؟

فقال الله تعالى في ردّه :( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ) (٣) كما في حديث التفسير(٤) .

وأهل البيت عليهم السلام هم المثل الأعلى للدعوة إلى سبيل الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة.

ومن لاحظ سيرتهم ومواعظهم الحسان أيقن بذلك غاية الإيقان.

__________________

(١) مجمع البحرين : مادّة وعظ ص ٣٦٩.

(٢) المفردات : ص ٥٢٧.

(٣) سورة يس : الآيات ٧٨ ـ ٨٠.

(٤) تفسير البرهان : ج ١ ص ٥٨٥.

٣١٦

.........................................

____________________________________

والدليل الوجداني ظاهرٌ بالتدبّر في مواعظهم عليهم السلام المرويّة وإرشاداتهم العالية(١) .

وأخصّ بالذكر مواعظ الإمام الصادق عليه السلام في رسالته المباركة إلى أصحابه ، التي رواها ثقة الإسلام الكليني في أوّل حديث من الروضة وهي موعظة جليلة الشأن ، بليغة المتن ، مفصّلة مستوفية ، يأتي مقدار منها في فقرة «وسننتم سنّته» فراجع(٢) .

__________________

(١) بحار الأنوار : كتاب الروضة ج ٧٨ أبواب مواعظ الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجميعن.

(٢) روضة الكافي : ج ٨ ص ٢.

٣١٧

وَبَذَلْتُمْ اَنْفُسَكُمْ فى مَرْضاتِهِ (١)

____________________________________

(١) ـ البذل في اللغة هو العطاء ضدّ المنع.

والمرضاة : مصدر ميمي من الرضا.

أي أنّكم أهل البيت سلام الله عليكم فديتم بأرواحكم الشريفة في سبيل ما يُرضي الله تعالى من المداومة على أوفر العبادات ، والإلتزام بأعظم الطاعات وإعلاء كلمة الله في جميع المجالات ، حتّى تحملّتم ما تحمّلتم من المشاقّ ، وأصابكم ما أصابكم من المحن ولاقيتم ما لاقيتم من المصائب ، إلى درجة الشهادة في سبيل الله وتحصيل مرضاته ، حتّى لم يكن منكم إلاّ مسموم أو مقتول ، كما في حديث جُنادة عن الإمام المجتبى عليه السلام أنّه عهد إلينا من رسول الله صلى الله عليه وآله(١) .

وفي خطبته عليه السلام :

«لقد حدّثني حبيبي جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله أنّ الأمر يملكه إثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوته ، ما منّا إلاّ مقتول أو مسموم»(٢) .

ودراسة حياتهم المليئة بهذه المفاخر كفيلة بمعرفة غاية جهدهم ، في عبادتهم وجهادهم ، والإطّلاع على مدى محنهم ومصائبهم موصلٌ إلى العلم ببذل أنفسهم في سبيل مرضاة ربّهم.

وللنموذج تلاحظ بذل نفسهم في العبادة في مثل حديث عبادة الإمام السجّاد عليه السلام الذي رواه شيخ الطائفة الطوسي جاء فيه :

أنّ فاطمة بنت علي بن أبي طالب عليه السلام لمّا نظرت إلى ما يفعل ابن أخيها علي ابن الحسين عليهما السلام بنفسه من الدأب في العبادة ، أتت جابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٧ ص ٢١٧ ب ٩ ح ١٨.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٧ ص ٢١٧ ب ٩ ح ١٩.

٣١٨

.........................................

____________________________________

الأنصاري ، فقالت له : يا صاحب رسول الله ، إنّ لنا عليكم حقوقاً ، ومن حقّنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه إجتهاداً أن تذكّروه الله ، وتدعوه إلى البُقيا على نفسه.

وهذا علي بن الحسين بقيّة أبيه الحسين عليهما السلام ، قد انخرم أنفه ، وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه دأباً منه لنفسه في العبادة.

فأتى جابر بن عبد الله باب علي بن الحسين عليهما السلام ، وبالباب أبو جعفر محمّد ابن علي عليهما السلام في اُغيلمة من بني هاشم قد اجتمعوا هناك ، فنظر جابر إليه مقبلاً ، فقال : هذه مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسجيّته ، فمن أنت يا غلام؟

قال : فقال : أنا محمّد بن علي بن الحسين ، فبكى جابر بن عبد الله ٢. ثمّ قال : أنت والله الباقر عن العلم حقّاً ، اُدنُ منّي بأبي أنت واُمّي ، فدنا منه فحلّ جابر ازاره ووضع يده في صدره فقبّله ، وجعل عليه خدّه ووجهه ، وقال له : اُقرئك عن جدّك رسول الله صلى الله عليه وآله السلام ، وقد أمرني أن أفعل بك ما فعلت ، وقال لي : يوشك أن تعيش وتبقى حتّى تلقى من ولدي من إسمه محمّد يبقر العلم بقراً. وقال لي : إنّك تبقى حتّى تعمى ثمّ يكشف لك عن بصرك.

ثمّ قال لي : ائذن لي على أبيك ، فدخل أبو جعفر على أبيه عليهما السلام فأخبره الخبر ، وقال : إنّ شيخاً بالباب ، وقد فعل بي كيت وكيت.

فقال : يابني ذلك جابر بن عبد الله. ثمّ قال : أمن بين ولدان أهلك قال لك ما قال وفعل بك ما فعل؟ قال : نعم [قال :] إنّا الله ، إنّه لم يقصدك فيه بسوء ، ولقد أشاط بدمك.

ثمّ أذن لجابر ، فدخل عليه فوجده في محرابه قد أنضته العبادة ، فنهض علي عليه السلام فسأله عن حاله سؤالاً حفيّاً ، ثمّ أجلسه بجنبه.

فأقبل جابر عليه يقول : يابن رسول الله ، أما علمت أنّ الله تعالى إنّما خلق

٣١٩

.........................................

____________________________________

الجنّة لكم ولمن أحبّكم ، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم ، فما هذا الجهد الذي كلّفته نفسك؟

قال له علي بن الحسين عليهما السلام : يا صاحب رسول الله ، أما علمت أنّ جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر فلم يدع الإجتهاد له ، وتعبّد ـ بأبي هو واُمّي ـ حتّى انتفخ الساق وورم القدم ، وقيل له : أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر!

قال : أفلا أكون عبداً شكوراً.

فلمّا نظر جابر إلى علي بن الحسين عليهما السلام وليس يغني فيه من قول يستميله من الجهد والتعب إلى القصد ، قال له : يابن رسول الله ، البُقيا على نفسك ، فإنّك لمن اُسرة بهم يُستدفع البلاء ، وتستكشف اللأواء ، وبهم تُستمطر السماء.

فقال : يا جابر ، لا أزال على منهاج أبويّ مؤتسيّاً بهما صلوات الله عليهما حتّى ألقاهما ، فأقبل جابر على من حضر فقال لهم : والله ما أرى في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلاّ يوسف بن يعقوب عليهما السلام ، والله لذرّية علي بن الحسين عليهما السلام أفضل من ذرّية يوسف بن يعقوب ، إنّ منهم لمن يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً(١) .

وتلاحظ بذل النفس في مصائبهم ومحنهم في الأحاديث التي عقد لها شيخ الإسلام المجلسي باباً ، من ذلك : حديث أبان ، عن الإمام الباقر عليه السلام جاء فيه : قال أبان : ثمّ قال لي أبو جعفر الباقر عليه السلام : «ما لقينا أهل البيت من ظلم قريش وتظاهرهم علينا وقتلهم إيّانا ، وما لقيت شيعتنا ومحبّونا من الناس.

إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قُبض وقد قام بحقّنا وأمر بطاعتنا وفرض ولايتنا ومودّتنا ،

__________________

(١) أمالي الشيخ الطوسي : ص ٦٣٦ ح ١٣١٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698