مناظرات وحوار ليالي بيشاور

مناظرات وحوار ليالي بيشاور0%

مناظرات وحوار ليالي بيشاور مؤلف:
المحقق: السيّد حسين الموسوي
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: مناظرات وردود
الصفحات: 1199

مناظرات وحوار ليالي بيشاور

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيّد محمّد الموسوي الشيرازي
المحقق: السيّد حسين الموسوي
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: الصفحات: 1199
المشاهدات: 252335
تحميل: 4050

توضيحات:

مناظرات وحوار ليالي بيشاور
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 1199 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 252335 / تحميل: 4050
الحجم الحجم الحجم
مناظرات وحوار ليالي بيشاور

مناظرات وحوار ليالي بيشاور

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الذي ضحّى الإمام الحسينعليه‌السلام من أجله، ويعرفون أهدافه المقدّسة وأسباب نهضته المباركة، فيهتدون بهداه وهو على هدى جدّه المصطفىعليه‌السلام وأبيه المرتضىعليه‌السلام .

فالمجالس الحسينية، ما هي إلّا مدارس أهل البيت والعترة الهاديةعليه‌السلام .

الّذين يحبّون عليّاً والحسينعليه‌السلام إنّما يحبّونهما من أجل الدين، لأنّهما استشهدا وقُتلا ليبقى الإسلام والقرآن، و لتحيا رسالة محمّد السماوية، على صاحبها ألف صلاة وسلام وتحية.

نحن نحبّ الإمام علياًعليه‌السلام ونقدّسه، لأنّه كان عبداً مخلصاً لله، متفانياً في ذات الله سبحانه، شهيداً في سبيل الله تعالى.

ولمـّا نقف عند مرقده الشريف نخاطبه، نقول: أشهد أنّك عبدت الله مخلصاً حتّى أتاك اليقين - أي الموت -.

وكذلك إذا حضرنا عند مرقد سيّد الشهداء الحسينعليه‌السلام ، نشهد له ونقول: أشهد أنّك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وأطعت الله ورسوله حتّى أتاك اليقين.

ثم اعلم أيّها الحافظ، وليعلم كلّ الحاضرين، أنّ زيارة الحسينعليه‌السلام والبكاء عليه إنما يفيدان ويوجبان الأجر والكثير والثواب العظيم، إذا كانا ممّن يعرف حقّ الحسينعليه‌السلام ، كما صرّحت رواياتنا بذلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعن أئمّتنا أبناء رسول الله وعترتهعليه‌السلام ، قالوا: من زار الحسين بكربلاء عارفاً بحقّه وجبت له الجنّة.

من بكى على الحسين عارفاً بحقّه وجبت له الجنة.

٥٨١

فكما إنّ قبول العبادات كلّها - فرضها ونفلها - تتوقّف على معرفة الله سبحانه، لأنّ العبد إذا لم يعرف ربّه كما ينبغي فلا تتحقّق نيّة القربة إليه، وهي تجب في العبادات.

كذلك البكاء والزيارة للنبيّ والأئمّةعليه‌السلام ، لا تفيد ولا تُقبل إذا كان الباكي والزائر لا يعرفهم حق المعرفة، وإذا عرفهم حق المعرفة وعرف حقّهم، علم أنّه يجب أن يطيعهم، ويتمسّك بأقوالهم، ويسير على نهجهم، ويلتزم بطريقتهم المثلى.

النوّاب: سيدنا الجليل! نحن نعتقد بأنّ الحسين الشهيد إنّما نهض للحقّ وقُتل في سبيل الله عزّ وجلّ، ولكن بعض أهل مذهبنا - وأغلبهم من الشباب الّذين درسوا في المدارس العصرية - يقولون: إنّ الحسين نهض وقاتل لأجل الحصول على الحكومة والرئاسة الدنيوية، وعارض يزيد بن معاوية على ملكه، ولكنّه خُذل من قبل أنصاره، وتغلّب عليه يزيد وجنوده فقتلوه!! ما هو جوابكم عن هذا الكلام؟

قلت: الجواب حاضر، لكن الوقت لا يسمح أن نخوض في هذا الموضوع، لأنه قد طال بنا الجلوس، والحاضرون قد تعبوا.

النواب: أنا أتكلّم نيابة عن أكثر الحاضرين، نحن ما تعبنا من مجالستكم والاستماع لحديثكم، بل نحبّ أن نسمع جوابكم بكلّ لهفة واشتياق.

نهضة حسينية.. لا حكومة دنيوية

قلت: الذين يقولون: بأنّ الحسينعليه‌السلام نهض وقاتل للحصول على الحكم وقُتل في طلب الرئاسة الدنيوية!! إنْ كانوا مسلمين فالقرآن يردُّ كلامهم، فإنّ مقالهم يعارض قول الله تعالى:( إِنَّمَا يُرِيدُ الله

٥٨٢

لِيُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَکُمْ تَطْهِيراً ) (١) . وقد اتّفق أعلامكم من المفسّرين والمحدّثين، مثل الترمذي ومسلم والثعلبي والسجستاني وأبي نعيم وأبي بكر الشيرازي والسيوطي والحمويني والإمام أحمد والزمخشري والبيضاوي وابن الأثير والبيهقي والطبراني وابن حجر والفخر الرازي والنيسابوري والعسقلاني وابن عساكر، وغيرهم، اتّفقوا على أنّ هذه الآية، وهي آية التطهير، نزلت في شأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ وفاطمة والحسن والحسينعليه‌السلام .

فنقول:

أوّلاً: القرآن يشهد بأنّ الله تعالى طهّر الإمام الحسينعليه‌السلام من الرجس، ولا شكّ أن حبّ الدنيا وطلب الرئاسة للهوى، رجس من عمل الشيطان، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة» فنقول: حاشا الحسينعليه‌السلام أن يقاتل للدنيا والرئاسة، وإنّما نهض لإنقاذ الدين وتحرير رقاب المسلمين من براثن يزيد الكفر والإلحاد وقومه الأوغاد.

ثانياً: إذا كانت نهضة الإمام الحسينعليه‌السلام لأجل الدنيا لا الدين، لَمـا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يأمر المسلمين بنصرة ولده الحسينعليه‌السلام إذا نهض وقاتل!

فالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر بنهضة ولده الحسين، وأمر المسلمين بنصرته، وقد نقله كثير من علمائكم في كتبهم، ولكنّي أكتفي بذِكر واحد منهم لضيق الوقت.

قال الشيخ سليمان الحنفي القندوزي في كتابه ينابيع المودّة ٢/١: وفي الإصابة، أنس بن الحرث بن البيعة، قال البخاري في تاريخه

____________________

١) سورة الأحزاب، الآية ٣٣.

٥٨٣

والبغوي وابن السكّين وغيرهما عن أشعث بن سحيم، عن أبيه، عن أنس بن الحارث، قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: إنّ ابني هذا [ يعني الحسين ] يُقتل بأرضٍ يقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره.

فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء فقتل بها مع الحسين، رضي الله عنه وعمّن معه.

أمّا إذا كان القائلون لذلك الكلام يرفضون القرآن الحكيم وحديث النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ويريدون جواباً يوافق المقاييس المادّية والسياسة الدنيوية.

فأقول أوّلاً: إذا كان الحسينعليه‌السلام نهض لطلب الحكم ولأجل الوصول إلى الرئاسة، فما معنى حمله العيال والأطفال معه؟ فإنّ الذي يطلب الدنيا يدع أهله وعياله في مأمن ثمّ يخرج، فإن نال المقصود ينضمّ أهله إليه، وإذا قُتل فأهله يكونون في أمان من شرّ الأعداء.

ثانياً: الثائر الذي يطلب الدنيا يسعى لجمع الأنصار، ويُكثِر من المقاتلين والأعوان، ويعدهم النصر والوصول إلى الحكومة والرئاسة، ولكنّ أبا عبد الله الحسينعليه‌السلام من حين خروجه من المدينة إلى مكّة، وبعده من مكّة إلى العراق، كان يعلن بأنه مقتول لا محالة، وأنّ أنصاره وأعوانه يُقتلون أيضاً، وأنّ أهله وعياله وأطفاله يُسْبَوْن من بعده، فقد كتب من مكّة إلى أخيه محمد بن الحنفية وهو في المدينة.

بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى محمد بن عليّ ومَن قِبَلَه من بني هاشم، أمّا بعد، فإنّ مَن لحق بي استشهد! ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسلام.

٥٨٤

[ أعلنعليه‌السلام أنّ الفتح الذي يطلبه لا يكون إلاّ في شهادته وشهادة أنصاره وأهل بيته!! ].

خطبة الحسينعليه‌السلام عند الخروج من مكّة

لقد ذكر مؤرخو الفريقين أنّهعليه‌السلام لمـّا عزم على الخروج إلى العراق قام خطيباً فقال:

«الحمد لله و ما شاء الله و لا حول و لا قوّة إلّا بالله و صلّى الله على رسوله و سلّم خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة و ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف و خير لي مصرع أنا لاقيه كأنّي بأوصالي يتقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس و كربلاء فيملأْنَ منّي أكراشاً جوفا و أجربة سغبا لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم.

رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه و يوفّينا أُجور الصابرين لن تشذّ عن رسول الله لحمته و هي مجموعة له في حظيرة القدس تَقَرُّ بهم عينه و تنجز لهم وعده.

مَن كان باذلاً فينا مهجته موطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإنّني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى».

وفي طريقه إلى كربلاء، لمـا وصل إليه خبر مقتل سفيره مسلم بن عقيل أعلن الخبر في أصحابه ولم يكتمه عنهم، بل وقف يخطب فيهم وينبِّئهم قائلاً: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فإنّه قد أتاني خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتُنا، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف من غير حرج

٥٨٥

ليس عليه ذمام».

فتفرّق الناس عنه وأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي من أصحابه الّذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه، فلو كانعليه‌السلام يطلب الحومة والرئاسة، لَمـّا فرّق أصحابه، بل كان يشدّ عزائمهم ويطمئنهم بالنصر ويغريهم بالمال والولايات، كما هو شأن كلّ قائد سياسي ومادّي مع جنوده.

وكذلك لمـّا التقىعليه‌السلام بالحرّ بن يزيد الرياحي وجنوده، وقد أخذ العطش منهم كلّ مأخذ وقد أشرفوا على الموت، فسقاهم الحسينعليه‌السلام وروّاهم حتّى أنقذهم من الهلاك، وهوعليه‌السلام يعلم أنهم ضدّه وليسوا من أنصاره.

فلو كان الحسينعليه‌السلام يطلب الدنيا والحكم لاغتنم الفرصة في الحُرِّ وأصحابه وتركهم يموتون عطشاً، ثمّ يمضي هوعليه‌السلام إلى ما يرده، وربّما لو كان ذلك لكانت المقاييس تنقلب، وكان التاريخ غير ما نقرأه اليوم!

وكذلك خطبتهعليه‌السلام ليلة العاشر من المحرّم، حينما جمع أصحابه وأذِنَ لهم أن يذهبوا ويتفرّقوا عنه ويتركوه مع الأعداء، لأنّهم لا يَريدون غيره، ولكنّهم قالوا: إنّهم يحبّون أن يُقتلوا دونه، ولا يريدون العيش بعده، وقد صد قوا.

وفي ظلام الليلة العاشرة من المحرّم التحق بهعليه‌السلام ثلاثون رجلاً من معسكر ابن زياد، لأنّهم سمعوا صوت القرآن والدعاء يعلو في معسكر الحسينعليه‌السلام بينما كان معسكرهم يلهو و يعلب، فعرفوا أنّ الحقّ مع الحسين فانضمّوا إليه وكانوا من المستشهَدين بين يديه.

٥٨٦

وفي صبيحة اليوم العاشر، لمـّا سمع الحرّ الرياحي، ذلك القائد، كلام الحسينعليه‌السلام واحتجاجه على عساكر الكوفة، عرف أنّ الحقّ مع الحسينعليه‌السلام فترك جيشه - وهُم ألف فارس تحت رايته - وجاء نحو الحسينعليه‌السلام وتاب على يديه وكان من المستشهدين.

ما هو سبب نهضة الحسينعليه‌السلام ؟

لا ينكر أحدٌ أنّ يزيد بن معاوية كان رجلاً فاسقاً، متجاهراً بالفجور، مولَعاً بشرب الخمور، وكانت آمال بني اُميّة معلّقة عليه على أنّه المعدّ واللائق للأخذ بثأر قتلاهم، من آل محمّد وعليّعليه‌السلام .

ويزيد بن ميسون النصرانية، الذي رُبّي في حجرها وعند قومها النصارى لاعباً مع الكلاب والفهود والقرود، شارباً للخمور، مولَعاً بالفسق والفجور، مع هذه الخصائص وغيرها من الرذائل التي اجتمعت فيه، كان قادراً على أن يجرّد سيف الكفر والإلحاد الذي صنعه أبو سفيان وقومه في عهد خلافة عثمان.

إذ يروي ابن أبي الحديد عن الشعبي قال: فلمّا دخل عثمان رحله - بعدما بويع بالخلافة - دخل إليه بنو اُميّة حتّى امتلأت بهم الدار، ثمّ أغلقوها عليهم، فقال أبو سفيان أعندكم أحد من غيركم؟

قالوا: لا.

قال: يا بَني اُميّة، تلقّفوها تلقّف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان، ما من عذاب ولا حساب، ولا جنّة ولا نار، ولا بعث

٥٨٧

ولا قيامة!(١) .

فيزيد هو الذي يقرّ عيون قومه بانتقامه من آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقبض على مقابض السيف الذي صقله أبو سفيان وحدّه معاوية وأعدّه ليزيد، حتّى يقضي به على رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله والدين الذي جاء به من عند الله سبحانه وتعالى(٢) .

____________________

١) شرح نهج البلاغة ٩/ ٥٣ ط دار إحياء التراث العربي.

٢) وفي شرح نهج البلاغة - لابن ابي الحديد - ٥/١٢٩ قال: و روى الزبير بن بكّار في الموفّقيّات و هو غير متَّهم على معاوية، و لا منسوب إلى اعتقاد الشيعة لِمـا هو معلوم من حاله من مجانبة عليّعليه‌السلام و الإنحراف عنه_:

قال المطرّف بن المغيرة بن شعبة دخلت مع أبي على معاوية و كان أبي يأتيه فيتحدّث معه ثمّ ينصرف إليّ فيذكر معاوية و عقله، و يعجب بما يرى منه إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء و رأيته مغتمّاً فانتظرته ساعة و ظننت أنه لأمر حدث فينا.

فقلت ما لي أراك مغتمّاً منذ الليلة؟!

فقال يا بنيّ جئت من عند أكفر الناس و أخبثهم!

قلت و ما ذاك؟!

قال قلت له و قد خلوتُ به إنّك قد بلغتَ سنّاً يا أمير المؤمنين! فلو أظهرت عدلاً و بسطت خيراً فإنّك قد كبرت، و لو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم فو الله ما عندهم اليومَ شي ء تخافه و إنّ ذلك ممّا يبقى لك ذِكره و ثوابه.

فقال هيهات هيهات! أيُّ ذكر أرجو بقاءه مَلَك أخو تَيْم فعدل و فعل ما فعل فما عدا أن هَلَك حتّى هلك ذِكرُه إلّا أن يقول قائل أبو بكر!

ثمّ مَلَك أخو عديّ فاجتهد و شمّر عشر سنين فما عدا أن هلك حتّى هلك ذكرُه، إلاّ أن يقول قائل عمر!

و إنّ ابن أبي كبشة ليُصاح به كلّ يوم خمس مرّات:

٥٨٨

ولكنّ يزيد لا يتمكّن من تنفيذ ما خطّطه أسلافه وقومه، ما دام الحسين بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يحظى بالحياة.

والحسينعليه‌السلام تربى في حجر جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام وهو المعدّ لإحياء الدين وإنقاذ شريعة سيّد المرسلين من التحريف والتغيير، فنهض ليصدّ طغاة بني اُميّة عن التلاعب بالدين والاستخفاف بالشريعة المقدّسة.. فروّى شجرة الإسلام بدمه الزاكي ودماء أهل بيته وأنصاره الطيّبين، فاخضرّت وأورقت وترعرعت، بعدما كانت ذابلة وكأنّها خشبة يابسة تنتظر نيران بني اُميّة وأحقادها الجاهلية لتحولّها إلى رماد تذروه الرياح(١) .

____________________

= « أشهد أنّ محمداً رسول الله» فأيُّ عملي يبقى؟! و أيّ ذِكر يدوم بعد هذا لا أبا لك؟!

لا و الله إلّا دفناً دفناً!!

أقول: هذه نيّات معاوية الإلحادية نقلها لابنه يزيد وأمره أن يسعى ويجتهد لتنفيذها.

«المترجم»

١) وللمرحوم السيّد جعفر الحلّي قصيدة عصماء في هذا المجال أذكرها بالمناسبة:

الله أيُّ دم في كربلاء سُفكا

لم يجر في الأرض حتّى أوقف الفَلَكا

وأيُّ خيل ضلال بالطفوف عدَت

على حريم رسول الله فانتُهِكا

يوم بحامية الإسلام قد نهضت

له حميّة دين الله إذ تركا

رأى بأنّ سبيل الغيّ متّبع

والرشد لم تدر قوم أيّه سلكا

والناس عادت إليهم جاهليّتهم

كانّ من شرع الإسلام قد أفكا

وقد تحكّم بالإسلام طاغية

يمسي ويصبح بالفحشاء منهمِكا

لم أدرِ أين رجال المسلمين مضوا

وكيف صار يزيد بينهم مَلِكا

٥٨٩

وبعض الغافلين يقولون: بأنّ بقاء الحسينعليه‌السلام في المدينة المنوّرة كان أسلم له وأحفظ لعياله! لماذا خرج إلى العراق حتّى يرى تلك المصيبة الفادحة والنكبة القادحة؟!

ولكن كلّ من له أدنى معرفة بهكذا قضايا يعلم أنّ الحسينعليه‌السلام لو كان يقتل في المدينة المنوّرة، ما كان لقتله ذلك الصدى والأثر الذي كان لقتله في كربلاء، فخروجه من المدينة إلى مكّة وإقامته فيها من شهر شعبان حتّى موسم الحجّ، واجتماع المسلمين الوافدين من كلّ صوب وبلد عند الكعبة المكرّمة، والتفافهم حول الإمام أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام واستماعهم لحديثه وهو يشرح لهم ويوضّح أنّه لماذا لا يبايع يزيد، لأنّ يزيد رجل فاسق شارب الخمور، وراكب الفجور، واللاعب بالكلاب

____________________

=

العاصر الخمر من لؤم بعنصره

ومن خساسة طبع يعصر الودكا

لئن جرت لفظة التوحيد في فمه

فسيفه بسوى التوحيد ما فتكا

قد أصبح الدين يشتكي منه سقماً

وما إلى أحد غير الحسين شكا

فما رأى السبط للدين الحنيف شفاً

إلّا إذا دمه في كربلاء سُفكا

وما سمعنا عليلاً لا علاج له

إلّا بنفس مداويه إذا هلَكا

بقتله فاح لإسلام نشر هدىً

فكلّما ذكرَتْه المسلمون ذكا

نفسي الفداء لفاد شرع والده

بنفسه وبأهليه وما ملكا

وشبّها بذبال السيف نائرة

شعواء قد أوردت أعداءه الدركا

إلى آخر قصيدته العصماء وهو يتطرّق فيها إلى شجاعة بني هاشم وأنصار الحسينعليه‌السلام ومصارعهم بالطفوف، وإلى سبي العيال والأطفال من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام.

إنا لله وإنا إليه راجعون.

«المترجم»

٥٩٠

والقردة، وقاتل النفوس المحترمة البريئة، فإذاً لا يليق للخلافة والإمامة.

فكانعليه‌السلام يبعث الوعي في النفوس وفي المجتمع بهذا الإعلام الصريح وأخيراً أَعلَن أنّه خارج إلى العراق، وهو لا يخضع لحكم يزيد حتّى إذا آل الأمر إلى قتله وقتل أهل بيته وأنصاره - فخطب تلك الخطبة التي ذكرناها لكم قبل دقائق - وأعلن في الناس أنّه مقتول مسلوب، وأنّ عياله وأطفاله يُسَبوْن بعده ويؤخذون أسارى إلى الشام!

بهذا الإعلان، غدا المسلمون يترصّدون أخباره، والاُمّة كانت لابثة في سبات ونوم عميق، لا يُستيقظ منه إلّا بحركة عنيفة واعية، ونهضة مقدّسة دامية تهزها، وهذه الحركة والنهضة ما كانت تتحقّق إلّا بواسطة آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيت الوحي، وكان الإمام الحسينعليه‌السلام ذلك اليوم زعيم أهل البيت والإمام المسؤول من عند الله سبحانه وتعالى لحفظ دينه وكتابه، وقد أدّى ما عليه بأحسن وجه، وسار بخطوات حكيمة نحو الهدف المقدّس، وانتصر على يزيد وبني اُميّة بشهادته وسفك دمه.

فإن النصر تارة يتحقّق بقتل العدوّ وهزيمته، وتارة يتحقّق بأن يكون المنتصر مظلوماً قتيلاً شهيداً، فالحسينعليه‌السلام ما كان طالباً للحكم والرئاسة في نهضته، حتّى يكون خاسراً بعدم وصوله إليها، وإنّما كان يريد يقظة الاُمّة وتحرّكها ضد الظالمين، وكان يريد أنْ يفضح بني أُميّة ويكشف واقعهم للمسلمين، وقد تحقّق كلّ ما أراده، فهو قد انتصر في كربلاء وعدوه خسر وانكسر(١) .

____________________

١) وأذكر لكم بعض أبيات من قصيدة رائعة بالمناسبة لعبد الحسين الأزري: <=

٥٩١

وَقَدِمَ الحسينعليه‌السلام إلى كربلاء وسار إلى ميدان الجهاد على بصيرة كاملة فقد روى المؤرّخون أنّه لمـّا عارضه بعض أقربائه - ليمنعوه من الخروج إلى العراق واقترحوا عليه أن يخرج إلى اليمن لأنّ أهلها شيعة مخلصون له ولأبيه وليسوا كأهل الكوفة مذبذبين وانتهازيّين - أجابهم قائلاً:

إنّ جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أتاني فقال: يا حسين أُخرج إلى العراق، فإنّ الله شاء أن يراك قتيلاً!

قالوا: إذاً ما معنى حملك هؤلاء النسوة معك؟!

فقال: إنّ الله شاء أن يراهنّ سبايا!!

نعم، كلّ من أمعن النظر في تاريخ النهضة الحسينية المباركة ودرس أبعادها وجوانبها،عرف أهمّيّة دور النساء والأطفال، وأهمّيّة دور السبايا من أهل البيتعليهم‌السلام في نشر أهداف الحسينعليه‌السلام وأسباب ثورته

____________________

=

عش زمانك ما استطعت نبيلا

واترك حديثك للرواة جميلا

العزّ مقياس الحياة وضلّ من

قد عدّ مقياس الحياة الطّولا

قل: كيف عاش؟ ولا تقل كم عاش

مَنْ جعلَ الحياةَ إلى علاه سبيلا

ما كان للأحرار إلّا قدوة

بطل توسَّدَ في الطفوف قتيلا

خشيت أُميةَ أن يزعزع عرشها

والعرش لولاه استقام طويلا

قتلوه للدنيا ولكن لم تدم

لبني أُميّة بعد ذلك جيلا

ولرُبّ نصرٍ عاد شرّ هزيمة

تركت بيوت الظالمين طلولا

إلى آخر القصيدة العصماء، وينطلق الشاعر بها إلى شرح جانب من واقعة عاشوراء وآثار تلك النهضة المباركة الدامية.

«المترجم»

٥٩٢

المقدّسة ونقل المصائب الأليمة والفجائع العظيمة التي وقعت لأهل البيت في كربلاء.

وكان لهذا الدور أثراً بالغاً في فضح بني أُميّة وتعريتهم وكشفهم للأُمّة الإسلامية.

فالخُطَب التي ألقتها الفاطميّات في الكوفة كانت سبب ثورة التوّابين ومن بعدهم ثورة المختار وانتقامه من قتلة الحسينعليه‌السلام .

وكذلك خُطْبة الحوراء زينب في مجلس يزيد، وخطبة الإمام زين العابدينعليه‌السلام في الجامع الأُموي بالشام، قَلَبَت كلّ المعادلات، بحيث اضطّر يزيد بن معاوية أن يلعن ابن زياد، وتَنصَّل هو عن مسؤولية الواقعة وألقى كلّ تبعاتها على عاتق ابن زياد.

وعلى أثر تلك الحادثة الأليمة، لا نجد يومنا هذا لبني أُميّة وخلفائهم، حتّى في الشام التي كانت عاصمة حكمهم وسلطانهم لا نجدُ ذِكْراً حسناً ولا أثراً ظاهراً، حتّى قبورهم مجهولة مهجورة.

نتيجة البحث

فثبت أنّ نهضة الإمام الحسينعليه‌السلام كانت نهضة دينية، وقد استشهد في سبيل الله ولنصرة دين الله عزّ وجلّ، فلمّا يحضر الشيعي والمحبّ في مجلس عزائهعليه‌السلام ويستمع إلى الخطيب وهو يشرح أسباب ثورة الحسين وأهدافها ويسمع بأنّ الحسينعليه‌السلام خالف يزيد وقاتله، لأنّه كان يعمل بالمنكرات ويرتكب المحرّمات.

ويسمع الخطيب وهو ينقل كلام الحسين قائلاً: إنّي ما خرجت أشراً ولا بطراً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي وأن آمر

٥٩٣

بالمعروف وأنهى عن المنكر.

أو يسمع بأنّ الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء أقام صلاته في ساحة القتال مع أصحابه جماعةً.

أو يقرأ في زيارته: أشهد أنّك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر

فيلتزم بأنّ يعمل بما عمل الحسينعليه‌السلام لأنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع، لذلك كلّ عام في محرّم حين تكثر المجالس الحسينية نجد كثيراً من الناس - وخاصّة الشباب - على أثر حضورهم في تلك المجالس واستماعهم لمواعظ الخطيب ونصائحه وتفسيره للنهضة الحسينية وشرحه حديث «من بكى على الحسين وجبت له الجنة» كما مرّ، وغير ذلك، يؤثّر فيهم تأثيراً بالغاً، فنجد انهم يهتدون إلى الصراط المستقيم، فتتحسّن سيرتهم ويعتدل سلوكهم، فيتركون السيّئات ويتوبون إلى الله تعالى ببركات الحسينعليه‌السلام ومجالس عزائه.

وهذا جانب من معنى الحديث النبوي الشريف:

«إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة».

- لمـّا وصل كلامنا إلى هنا دمعت عيون كثير من الحاضرين، وكانوا مطرقين برؤوسهم، يتفكّرون في عظمة الحسين وعظمة ثورته المقدّسة وعزمت على أن أختم الحديث..

النوّاب: سيدنا الجليل! وإن كان قد انقضى وقت المجلس، وطال بالحاضرين الجلوس، ولكن أودّ أن أقول بأنّنا بفضل حديثك قد تعرّفنا على عظمة الحسين وفضله، وعرفنا شخصيّته المقدّسة أكثر من ذي قبل، فجزاك خيراً، إذ علّمتنا معنى الحبّ وفلسفة البكاء والزيارة.

٥٩٤

وإنّي آسف جدّاً على ما فتني من الأجر والثواب لعدم حضوري في مجالس عزاء آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التي يعقدها إخواننا الشيعة في بلدنا هذا، لأنّي اتّبعت بعض أهل مذهبي وأطعتهم عن جهل وتعصّب، إذ كانوا يقولون: إنّ الحضور في مجالس عزاء الحسين بدعة، وزيارته بدعة، والبكاء عليه بدعة، ولكنّي عرفت أنّ هذه المجالس حتّى إذا كانت بدعة فهي حسنة، لأنّها تكون مدارس جامعة!

لذلك نرى أنّ ثقافة أبناء الشيعة الدينية هي أعلى ممّا هي عليه عند أبنائنا، وهم أعلم منّا بأُمور المذهب وأحكام الدين.

فوائد زيارة مشاهد آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

قلت: سمعت منك بأنّ بعض أهل مذهبك يقولون: إنّ مجالس الحسين والبكاء عليه بدعة، وزيارته بدعة، وأنا بيّنت لكم فوائد مجالس الحسين وفلسفة البكاء عليه، واُبيّن لكم فوائد زيارته وزيارة مشاهد آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومراقدهم.

إضافة على الثواب والأجر الأُخروي، فإنّ فيها فوائد جمّة:

أوّلاً: زيارة القبور ليست بدعة، بل هي سُنّة، فقد كان رسول الله يزور القبور، فإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله زار قبر أُمّه آمنة(١) بالقرب من المدينة المنورّة، وزار البقيع واستغفر للمدفونين فيه(٢) فعندنا أنّ زيارة قبور آل البيت من علائم الإيمان وليس كلّ مسلم بمؤمن.

____________________

١) أخرج مسلم في صحيحه ١/ ٣٥٩ قال: زارصلى‌الله‌عليه‌وآله قبر أُمّه آمنة فبكى وأبكى من حوله.

٢) شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد - ١٠/١٣٨ ط دار إحياء التراث العربي.

٥٩٥

ثانياً: إذا ذهبتم أنتم إلى قباب الأئمّة ومشاهد آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التي يزورها الشيعة، فستشاهدون بأعينكم أنّها مراكز عبادة الله، وهي( بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْکَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) (١) .

فالمؤمنون يسألون حوائجهم من الله تعالى ويبتهلون إليه خاشعين، والمشاهد لا تغلق أبوابها ليل نهار إلّا سويعات في الأسبوع لأجل التنظيف.

فالشيعي حينما يسافر إلى تلك المزارات الشريفة يلتزم غالباً بالحضور فيها كلّ يوم ساعات عديدة، وأكثرهم يفضّلون الحضور فيها وقت السحر إلى ما بعد طلوع الفجر، وقبل الظهر إلى ما بعده، وقبل المغرب إلى ما بعد العشاء، فيصلّون النوافل ثمّ يقيمون الفرائض جماعة، ويشتغلون بقراءة القرآن الكريم والدعاء، بكلّ لهفة ورغبة، وبكلّ خضوع وخشوع، فأيّ هذه الأعمال بدعة؟!

إنّ المشاهد التي يزورها الشيعة إنّما هي أماكن عبادة الله سبحانه، منوّرة بنور أهل البيتعليهم‌السلام ومجلّلة بهالة قدسية من شجرة النبوّة والعترة الهادية.

فلو لم تكن لهذه المشاهد أيّة فائدة إلّا التوفيق الذي يناله الزائر عند حضوره فيها لكفَت، فيقضي ساعات من عمره بعبادة ربّه متقرّباً إليه بتلاوة القرآن والدعاء والتضرّع إليه وإظهار فقره وحوائجه إلى ربه، مستغرقاً في الأمور المعنويّة، متوجّهاً إلى المراتب الأُخروية، ومنصرفاً عن الأُمور الماديّة والمسائل الدّنيوية.

فهل تعرفون في بلادكم و سائر البلاد التي يسكنها أهل السُنّة

____________________

١) سورة النور، الآية ٣٦.

٥٩٦

محلاً مقدَّساً يحضره الناس على مختلف طبقاتهم في كلّ ساعات الليل والنهار، يشتغلون بالعبادة ويتقرّبون إلى الله تعالى لنيل السعادة، كهذه الروضات المقدّسة؟!

أمّا مساجدكم فلا تُفتح إلّا أوقات الفرائض ثمّ تغلق أبوابها، وإنّي شاهدت في بغداد مرقدي الشيخ عبد القادر الجيلاني وأبي حنيفة، كانت أبوابها مغلقة وما فتحت إلّا وقت الصلاة، فحضر بعض السوقيّين المجاورين وصلّوا مع الإمام الموظّف لمديرية الأوقاف، ثمّ خرجوا وأُغلقت الأبواب.

ولكنّ مرقد الإمامين العسكريّين - علي بن محمد الهادي وهو عاشر الأئمّة، وابنه الحسن الزكي، وهو الإمام الحادي عشر للشيعة - الذي يقع في مدينة سامراء في العراق، وسكّان هذه المدينة من أهل السُنة والجماعة، وتوجد جالية شيعية مستضعفة فيها، وأمّا السّادن وخدّام الروضة المقدّسة فكلهم من السُنة الموظفين لمديرية الأوقاف، وقد يصعب عليهم فتح أبواب الروضة قبل الفجر. ولكن بإلحاح وإصرار من الشيعة والزائرين يفتحون أبوابها قبل الفجر ويدخل الزائرون والمجاورون من كلّ باب، ويشتغلون بالنوافل والعبادات، ولا يوجد أحدٌ من أهل السُنّة في تلك الجموع، حتّى خدّام الروضة والمسؤولين عليها، بعد أن يفتحوا الباب يذهبوا ليناموا.

وإنّي أسأل الله سبحانه أن يوفّقكم لتسافروا إلى العراق لتقايسوا بين مدينتين متقاربتين - المسافة بينهما لا تقل عن العشرة كيلو مترات -.

إحداهما مدينة الكاظمية، وهي تضمّ مرقد الإمامين الجواديْن الكاظمينعليهما‌السلام - الإمام السابع موسى بن جعفر، والإمام التاسع محمد

٥٩٧

بن عليّ - وهي من مراكز الشيعة.

والأُخرى مدينة بغداد، وهي عاصمة العراق ومركز أهل السُنة والجماعة، وفيها مرقد الشيخ عبد القادر الجيلاني، وإمامكم الأعظم أبي حنيفة.

سافروا إلى هاتين المدينتين وقايسوا بينهما حتّى تنظروا بأعينكم إلى آثار تعاليم أهل البيتعليهم‌السلام وانطباع الشيعة عنهم! فتحسّون ببركات تلك القباب المنيرة، وتدركون بركاتها الشاملة على الزائرين والمجاورين لها، فإن كثيراً منهم ينامون أوّل الليل حتى يستيقظوا وقت السحر ساعتيْن قبل الفجر، ليحضروا في روضة الإمامين الجوادْينعليهما‌السلام برغبة واشتياق، فيقيموا نافلة الليل ويشتغلوا بالدعاء والعبادة، وكثير منهم أصحاب متاجر كبيرة ومهمّة في بغداد إلّا أنّ دور سكنهم في الكاظمية، فيقضون ساعة أو أكثر في الروضة المقدسة بالعبادة والدعاء، ثمّ يذهبون إلى متاجرهم وأشغالهم واكتساب معايشهم.

ولكن إذا نظرتم إلى أكثر أهالي بغداد، وهم مع الأسف منهمكون في المعاصي، ومستقرون في الفسوق والملاهي، فالمقامر ودور البغاء والفجور وحانات الخمور، تعمل ليل نهار!!

النوّاب: سيدنا الجليل! إنّي أُصدّقك وأقبل كلامك، ويحقّ أن ألعنَ نفسي، إذ كنت جاهلاً بمقام آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وشأنهم، فتبعت أُناساً ما كان لي أن أتبعهم.

قبل سنين سافرت من هذا البلد مع قافلة كبيرة من أهل بلدتي ونحلتي إلى بغداد وقصدنا قبر الإمام الأعظم أبي حنيفة، والشيخ عبد القادر «رض» وكنا نبغي زيارتهما، راجين بها الأجر والثواب،

٥٩٨

فانفردت يوماً عن أصحابي وذهبت إلى روضة الإمامين الجوادين، فرأيت الوضع كما وصفتم، ولكن لمـّا رجعت إلى أصحابي وعرفوا بأنّي ذهبت إلى تلك الروضة المقدّسة، تحاملوا عَليَّ وعاتبوني عتاباً شديداً! فاعتذرت إليهم بأنّي ما ذهبت بقصد الزيارة والتقرّب إلى الله عزّ وجلّ، وإنّما ذهبت للتفرّج والاستطلاع، فسكتوا عنّي!!

وأنا الآن أُراجع نفسي وأتعجّب كثيراً، فأقول لماذا تكون زيارة الإمام الأعظم والشيخ عبد القادر في بغداد جائزة، وزيارة الخواجة نظام الدين في الهند جائزة، وموجبة للأجر والثواب، حتّى إنّ جماعة كثيرة - كلّ عام - يشدّون الرحال إليهم من هذه البلاد ويقطعون مسافات بعيدة، ويصرفون أموالاً كثيرة، وهم يقصدون التقرّب إلى الله سبحانه، ويعتقدون أنّهم يحسنون صنعاً ويكتسبون ثواباً وأجراً!!

عجباً هذه الزيارات موجبة للأجر والثواب، مع علمنا بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يذكر فيهم خبراً، ولم يذكرهم بمدح و ثناء، ولكن زيارة الحسين، ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي جاهد في سبيل الله وضحّى بنفسه للدين، وقد وردت في شأنه وفي فضله الأحاديث النبوية الشريفة الكثيرة المرويّة في كتب كبار علمائنا، تكون بدعة؟!!

ولقد نويتُ الآن وعزمتُ على أن أذهب هذا العام إن شاء الله، وأتشرّف لزيارة سيّدنا الحسين، وأحضر عند مرقده المقدّس، قربةً إلى الله تعالى، وطالباً لمرضاته، وراجياً منه سبحانه أن يعفو عمّا سلف منّي.

ثمّ قاموا وانصرفوا جميعاً، وودّعناهم وشايعناهم إلى باب البيت.

٥٩٩

٦٠٠