آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء ١

آلاء الرحمن في تفسير القرآن15%

آلاء الرحمن في تفسير القرآن مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 394

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53995 / تحميل: 5628
الحجم الحجم الحجم
آلاء الرحمن في تفسير القرآن

آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

آلآءُ الرَّحْمنْ

في

تفسير القرآن

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وله الحمد وهو المستعان والصّلاة والسّلام على خيرته من خلقه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله سيد المرسلين وآله الطاهرين المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين (وبعد) ففي فجر سعادة البشر وتبلج صبح الهدى ورسالته، أشرق نور القرآن الكريم على العالم من أفق الوحي على الرسول الأمين الصادع بأمر ربّه، فكان باعجازه الباهر حجّة على وحيه وبفضائله الفائقة دليلا على فضله وبسناه الوضاح هاديا إلى أتباعه، يعرّفك في كل باب من أبواب معارفه السامية أنّه تنزيلٌ من ربِّ العالمين. ولكن اختلاط اللسان واختلاف الزمان وتشعب الأهواء وتضارب الآراء أثارت من دون أنواره غباراً وجعلت على البصائر من الجهل غشاوة. وقد أوجب الله على عباده أن ينصروا الحقيقة بالبيان ويجلوا غبار الشكوك بالحجّة ويميطوا غشاوة الجهل بيد العلم الشافي. وقد نهض جماعة لتفسيره والإرشاد إلى منهج فهمه. فآثرت وأنا الأقل محمد جواد البلاغي أن أتطفل في هذا الشأن وأقتحم في هذا الميدان جاريا على ما تقتضيه أصول العلم متنكبا مالا حجّة فيه من نقل الأقوال، متحرّيا للاختصار مهما أمكن، مستعينا بالله ومستمدا من فضله وما توفيقي إلّا بالله عليه توكلّت وإليه أنيب. وقد سميّت الكتاب (آلاء الرّحمن في تفسير القرآن) وجعلت للمقصود مقدمةً فيها فصول وخاتمة

٢

الفصل الأوّل في إعجازه

المعجز هو الذي يأتي به مدّعي النبوّة بعناية الله الخاصة خارقاً للعادة وخارجاً عن حدود القدرة البشريّة وقوانين العلم والتعلّم ليكون بذلك دليلا على صدق النبي وحجّته في دعواه النبوّة ودعوته.

وجه شهادة المعجز

ودلالته على صدق النبيّ في دعواه ودعوته ليس إلّا أنّ مدّعي النبوّة إذا كان ظاهر الصلاح موصوفا بالأمانة معروفا بصدق اللهجة والاستقامة لا يخالف العقل في دعوته وأساسيَّاتها لم يجز عقلا اظهار المعجز على يده إلّا إذا كان صادقاً في دعوى النبوّة ودعوتها. ألا ترى أنّه لو كان مع صفاته المذكورة كاذبا في دعواه لكان إظهار المعجز على يده وتخصيص الله له بالعناية إغراء للناس بالجهل وتوريطاً لهم في متاهات الضلال. وهذا قبيح ممتنع على جلال الله وقدسه.

توضيح ذلك

هو أنّ الناس بحسب فطرتهم التي لا تدنسها رذائل الأهواء والعصبيّة إذا ظهر لهم صلاح الشخص وصدقه وأمانته واستقامته فيما يعرفونه من أحواله وأطواره توسّموا بباطنه الخير وأنّ باطنه موافق لظاهره في الصلاح. وكلّما زادت خبرتهم بصلاح ظاهره زاد وثوقهم بصلاح باطنه. إلّا أنّه مهما يكن من ذلك فإنّه لا يبلغ بهم مرتبة العلم وثبات الاطمئنان بعصمته عن الكذب في دعواه وتبليغات دعوته فلا ينتظم تصديقهم له ولا يدوم انقيادهم إلى تبليغاته في دعوته. بل لا يزال اختلاج الشكوك يميل بهم يمينا وشمالا. لكن إذا خصته العناية الإلهية بكرامة المعجز وخارق العادة حصل العلم الثابت واطمأنت النفوس السليمة بصدقه وعصمته في دعواه وما يأتي به في دعوته. ويثبت اليقين وينتظم امره بالنظر إلى أنه يمتنع على جلال الله وقدسه في مثل هذه المزلقة أن يظهر المعجز وعنايته الخاصة على يد الكاذب المدلس بصلاح ظاهره. فإن اظهار المعجز حينئذ يكون مساعدةً للمدلس على تدليسه ومشاركةً له في إغوائه وإغراءً للناس في الجهل الضّار المهلك. وذلك لما ذكرناه من مقتضى فطرة الناس السليمة. فالمعجز الشاهد بصدق النبي في دعواه ودعوته هو ما يقوم بما ذكرنا من الفائدة في مثل ما ذكرناه من المقام والوجه

٣

حكمة تنوع المعجز

ولا يخفى أنّ حصول الفائدة المذكورة من تنوّع المعجز المذكور يختلف كثيرا بسبب إ ختلاف الناس في أطوارهم ومعارفهم ومألوفاتهم. فربّ خارق للعادة يعرف بعض الشعوب أنّه خارق للعادة لا يكون إلّا بإرادة إلهيّة خاصة ويكون في بعض الشعوب معرضاً للشك أو الجحود لإعجازه وخرقه للعادة.

كان في عصر موسى النبي (ع) من الرائج بين المصريين صناعة السحر المبتنية على قوانين عادية يجري عليها التعليم والتعلم. فكانوا يعرفون ما هو جار على نواميس هذه الصناعة وما هو خارج عنها وعن حدود القدرة البشرية. ولأجل ذلك اقتضت الحكمة أن يحتجّ عليهم بمعجزة العصا التي ألقاها موسى (ع) أمام أعينهم فصارت ثعبانا تلقف ما يأفكون ويسحرون به الناس من الحبال والعصي ثم رجعت بعد ذلك عصا كحالها الأول ولم يبق لحبالهم وعصيّهم عين ولا أثر فإنّهم بسبب معرفتهم لحدود السحر عرفوا أنّ أمر العصا خارج عن صناعة السحر وعن حدود القدرة البشريّة ولذا آمن السحرة بأن أمرها من الله تعالى

وكانت فلسطين وسوريا في عصر المسيح مستعمرة لليونان وفيها منهم نزلاء كثيرون. فكان للطبّ فيها رواج ظاهر وكان في الفصل الثالث عشر والرابع عشر من سفر اللاويين من التوراة الرائجة تعليم طويل في تطهير القرع والبرص والقوبا بنحو يختص بروحانية الكهنوت ويوهم انه من بركات الكهنة والآثار الرّوحية وإن كان من نحو الحجر الصحي فلأجل ذلك كانت معجزات المسيح بشفاء الأبرص والأعمى والأكمه مما يعرفون انه خارج عن حدود الطب ومزاعم الكهنة وقدرة البشر ومن خارق العادة التي لا يكون إلّا بقدرة الله تعالى

حكمة كون المعجز للعرب هو القرآن

وأما العرب الذين ابتدأت بهم دعوة الإسلام في حكمة سيرها في الإصلاح فقد كانت معارفهم نوعاً منحصرة بالأدب العربي وكانوا خالين من سائر العلوم والصنائع الخاضعة للعلم والتعلم. فلم يكونوا يميزون حدودها العادية بحسب موازين العلم والتعلم وأسرار الطبيعيات المنقادة بقوانينها للباحث والممارس والمتعلم والمجرّب والمكتشف والداخلة تحت سيطرة العلم والتعلم. فلا يعرفون من الأعمال ما هو خارج عن هذه الحدود وخارق للعادة ولا يكون

٤

إلا بإعجاز إلهيّ. فكل عمل معجز من غير الأدب العربي بمجرد مشاهدتهم له أو سماعهم به يسبق إلى أذهانهم ويستحكم في حسبانهم أنّه من السحر أو من مهارة أهل البلاد الأجنبيّة في الصنائع وتقدُّمهم في العلوم وأسرار الطبيعيّات وقوانينها. ولا يذعنون بأنّه معجز إلهي بل يسوقهم شك الجهل إلى الجحود خصوصا إذا كان ذلك يحتجّ به النبي على دعوى ودعوة ثقيلتين على ضلالتهم باهظتين لعاداتهم الوحشيّة وأهواء الجهل.

نعم برعوا بالأدب العربي وبلاغة الكلام التي تقدّموا فيها تقدُّما باهراً حتّى قد زهى في عصر الدعوة روضه الخميل وأينعت حدائقه وفاق مجده وقرَّروا له المواسم وعقدوا المحافل للمفاخرة بالرقيّ فيه. فرقت بينهم صناعته إلى أوج مجدها وزهرت بأجمل مظاهرها وأحاطوا بأطرافها وحدّدوا مقدورها. فعاد المرء منهم جدّ خبير بما هو داخل في حدود القدرة البشريّة وما هو خارج عنها ولا يصدر على لسان بشر ابتداءً إلّا بعناية إلهيّة خاصة خارقة للعادة البشريّة لحكمة إلهيّة شريفة.

ولذا اقتضت الحكمة الإلهيّة «ولله الحكمةُ البالغة» أن يكون القرآن الكريم هو المعجز المعنون والّذي عليه المدار في الحجّة لرسالة خاتم النبييّن وصفوة المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. فانه يكون حجّة على العرب باعجازه ببلاغته وبعجزهم عن الإتيان بمثله أو بسورة من مثله. وبخضوعهم لاعجازه وهم الخبراء في ذلك يكون أيضا حجّة على غيرهم في ذلك. وأنّه هو الذي يدخل في حكمة المعجز والاعجاز في شمول الدّعوة للعرب وابتدائها بهم بحسب سيرها الطبيعي على الحكمة وبه تتمّ فائدة المعجز على وجهها

إمتيازه عن غيره من المعجزات

مضافا إلى أنّه امتاز عن غيره من المعجزات وفاق عليها بأكبر الأمور الجوهرية في شؤون النبوّة والرّسالة ودعوتها «فمن ذلك» أنّه باقٍ مدى السنين ممثّل بصورته ومادّته لكل من يريد أن يطلع عليه ويمارس أمره وينظر في أمره ويعرف كنهه وحقيقته. فهو بادٍ في كل آنٍ ومكان لكل من يطلب الحجّة على النبوة والرسالة ويريد النظر في حقيقة معجزها الشاهد لصدقها. ماثل لكل من يريد النظر في الحقائق ولا تحتاج معرفة حقيقته ووجه اعجازه إلى أساطير النقل ومماراة قال أو قيل. فلا يحتمل أمره: إنّه دبرت دعواه بليل، ولا يستراب من أمره باحتمال التمويه

٥

بل ينادي هو بنفسه في كل زمان ومكان (هذا جناي وخياره فيه) وكله خيار فائق متفوق «ومن ذلك» أنّه بنفسه ولسانه وصريح بيانه قد تكفل بالاثبات لجميع المقدمات التي تنتظم منها الحجّة على الرسالة الخاصة وشهادة اعجازه لها. ولم يوكل أمر ذلك إلى غيره مما يختلج فيه الرّيب وتعرض فيه الشبهات وتطول فيه مسافة الاحتجاج وتكثر صعوباته : فالتفت واعرف ذلك من أمور

(الأول) أنّه تكفّل ببيان دعوى النبي للنبوّة والرّسالة كما في سائر النبوّات

(الثاني) أنّه تكفّل في صراحة بيانه بالشهادة للنبوّة والرّسالة فلم تبق حاجة لدلالة العقل ودفع الشبهات عنها

(الثالث) أنّه تكفّل في صراحته المتكررة ببيانه لكمالات مدّعي رسالته وأطرى بصلاحه وأخلاقه الفائقة كما هو معروف. فمهّد المقدمات اللازمة في البيان وصورة الاحتجاج بأنّه لو كان كاذبا لكان ظهور المعجزة له من الإغراء بالجهل القبيح الممتنع لقبحه على جلال الله وقدسه تعالى شأنه. وإليك فاسمع بعض ما جاء في القرآن في بيان هذه الأمور الثلاثة. ففي سورة الأعراف «١٥٧ :( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) وسورة النجم المكّية من الآية الثانية إلى الخامسة( ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحى ) وفي سورة الفتح «٢٩ :( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ) وفي سورة الأحزاب «٤٠ :( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ ) وفي أوائل سورة القلم المكية( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) إلى قوله تعالى( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) وقوله تعالى( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) وفي سورة الأعراف «١٥٦ :( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ) وفي سورة الأحزاب «٤٤ : و ٤٥( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إلى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً ) (الأمر الرابع) أنّه تكفل بنفسه دفع الموانع عن الرسالة والنبوّة إذ بين مواد الدّعوة وأساسياتها ومعارفها وقوانينها الجارية بأجمعها على المعقول من عرفانيها وأخلاقيها واجتماعيها وسياسيها فلا يوجد فيها ما يخالف المعقول ليكون مانعا عن النبوّة وفي سورة الاسراء المكية «٩ :( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) ودونك القرآن الكريم وحقق وتبصر وتنوّر فيما تضمنه من هذه المواد الشريفة( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ )

٦

(الأمر الخامس) أنّه زاد على كونه معجزا بنفسه بأن كرّر النداء والمصارحة في الاحتجاج باعجازه وتحدّي الناس وأعلن بالحجة وهتف بهم هتافا مكررا مؤكدا بأن يعارضوه لو لم يكن معجزا ويأتوا بمثله أو بعشر سور أو سورة واحدة من مثله إنْ كان مما تناله قدرة البشر المحدودة وقد نادى بقرار الإنصاف والمماشاة وجعل لهم إنْ أتوا بعشر سور أو سورة من مثله أن تسقط عنهم هذه الدعوة ويستريحوا من ثقلها الباهظ لضلالهم ويدعوا من يستطيعون عقلا أنْ يدعوه من دون الله لو استطاعوا أو وجدوا إلى ذلك من المعقول سبيلا. جعل لهم ذلك من باب المماشاة والمجاراة في الحجّة تعليقا على المستحيل ولهم في ذلك المهلة والأناة ليعدّوا عدّتهم في المظاهرة والتعاون ففي سورة هود المكية «١٦ :( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) ١٧ :( فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ ) وفي سورة يونس المكية «٣٩ :( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) وفي سورة البقرة «٢١ :( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) فيما تدعونهم وتصفونهم به(٢٢) ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي ) وفي سورة الاسراء المكية «٩٠ :( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) هذا وقد مضت لهم عدة أعوام ودعوة الرسالة والإعذار والإنذار والاحتجاج بإعجاز القرآن دائمة عليهم وهم في أشد الضجر من ذلك والكراهية له والخوف من عاقبته. وفي أشد التألم من آثار الدعوة وتقدّمها وظهورها. وفي أشد الرغبة في أهوائهم وعاداتهم الوحشية ورئاساتهم والعكوف على معبوداتهم ومع ذلك لم يستطيعوا أن يعارضوا شيئا من القرآن الكريم ولو بأن يأتوا بسورة من مثله لكي تظهر حجّتهم وتسقط عنهم حجّة الرسول ويستريحوا من عناهم وقلقهم وآلامهم من دعوته التي شتتت جامعتهم الأوثانيّة وهدّدت رئاساتهم الوحشيّة وتشريعاتهم الأهوائيّة وفرّقت بين الأب منهم وبنيه والأخ وأخيه والزوج وزوجه والقريب وقريبه وكدّرت صفائهم ونافرت بين عواطفهم. وقد سامعهم في دعوته إصلاحا وخضوعا لم يكونوا يحتسبونه ولم يجدوا لذلك حيلة إلّا الجحود السخيف والعناد الشديد وقساوة الاضطهاد والاستشفاع بأبي طالب في ترك الرسول لدعوته أو تمرّدهم بالمثابرة الوحشية فاقتحموا فيها الأهوال وتجشّموا المصاعب وقتال الأقارب والاخوان ومقاساة الشدائد وذلة المغلوبيّة. فلما ذا

٧

لم يتظاهروا بأجمعهم عشر سنوات أو اكثر ويأتوا بشيء من مثل القرآن الكريم ولو سورة واحدة ويفاخروا الرسول (ص) ويحاكموه في المواسم والمحافل التي أعدّوها لمثل ذلك فتكون لهم الحجّة والانتصار في الحكومة وقرار النصفة وينادوا بالغلبة ويستريحوا من عناء هذه الدعوة وتهديدها لضلالهم. فلماذا لم يفعلوا ذلك والقرآن والرسول قد دَعَواهم إلى ذلك تعجيزاً وهم هم وينابيع فصاحتهم وبلاغتهم غزيرة، وغرائزهم في الأدب العربي متدفقة، وقرائحهم سيالة، ومواد القرآن في مفرداته وتراكيبه من لغتهم، وأسلوبه من نحو صناعتهم التي لهم فيها الممارسة التامة والمهارة الفائقة والرّقي المعروف ولله الحجّة البالغة.

ولو كان هناك أقلّ قليل من المعارضة والإتيان بسورة واحدة من مثل القرآن لرفعه الضلال ناراً على عَلَمْ. واحتفلت فيه ألوف الألوف من أضداد الإسلام والقرآن. ولسجلّته دواوينهم في أقطار الأرض وأجيال الأمم. وتلقّوه بأحسن ابتهاج. وصالوا به أكبر صولة لأنّه الفيصل السلمي والحجّة الأدبية التي ما فوقها حجّة لهم في الجدل والبرهان. ولكن هل سمعت أنَّ أحداً نبس في ذلك ببنت شفة أو أجري فيه قلم. وإن أمر ذلك بمعزل عن داخلية الإسلام لكي يقال انّه أخفته شوكة المسلمين أو دسائس تواطيهم. بل إنّ بذرته ومغرسه وسوره وحفظه وحياطته ترجع إلى ألوف الألوف في كل جيل من أنصاره أضداد الإسلام والقرآن سواء كان ذلك قبل الهجرة أو بعدها أو بعد زمان الرسول (ص). ألا ترى أنّه بعد أن ضرب الإسلام بجرانه في جزيرة العرب بقي في اليمن وسوريا والعراق كثير من اليهود والنصارى وأمثالهم وهم الألوف أو ألوف الألوف من العرب أو من يعرف اللغة العربية ويتكلم بها ويتأدّب بآدابها. وأضف إلى ذلك المنافقين الذين كانوا يكيدون الإسلام جهد وسعهم في عصر الرسول وبعده. فهل يخفي هؤلاء ما هو ضالّتهم المنشودة. وسلاح سطوتهم. وعدّة صولتهم وأقطع حجّة لهم واكبر مدافع عن أديانهم؟ فإنّه لا عطر بعد عرس ولكن ماذا يصنعون بالعدم، وعدم القدرة من المتأخر على الاختلاق.

وممـّـا يشهد لما ذكرناه ويجلو تمثيله لبداهة الاعتبار أنّ اليد الأثيمة غلبت بسنوح الفرصة حتى على المحدّثين والمفسّرين فدّست في كثير من كتب التفسير خرافة الغرانيق وخرافة سبب النزول في آية التمني من سورة الحج كما نجده في اكثر التفاسير. فلوّثت قدس رسول الله (ص) بما شاءت وسنحت به لها الفرصة. وكذا قدس جميع الأنبياء والمرسلين في

٨

حديثهم وتلاوتهم بحيث لا يبقى بهم أدنى وثوق في ذلك(١)

هذا في وجهة الاعجاز الذي تقوم به الحجّة على العرب. وإنّ للقرآن المجيد أيضا وجوها من الإعجاز مما يشترك في معرفتها كل بشر ذي رشد إذا اطلع عليها. وهي عديدة نشير إلى بعض منها في هذا المختصر

إعجازه من وجهة التاريخ

لا نقول بذلك بمحض إخباره عن الحوادث الماضية والأمم الخالية وإن كان رسول الله الذي جاء به لا يقرأ ولا يكتب ولم يدخل مدرسة ولم يمارس تعلما. كما هو المعلوم من تاريخ حياته (ص). فإنّه يمكن أن يقال إنّ هذا الإخبار المذكور ممكن في العادة لنوع البشر وإن كان معرضا للعثرات التي لا تقال. بل نقول إن القرآن الكريم اشترك في تاريخه في بعض القصص مع التوراة الرائجة التي اتفق اليهود والنصارى على انها كتاب الله المنزّل على رسوله موسى فأوردت هذه التوراة تلك القصص وهي مملوءة من الخرافات أو الكفر أو عدم الانتظام الذي تشابه فيه كلام المبتلى بالبرسام : فمن ذلك قصة آدم في نهي الله له عن الأكل من الشجرة وما فيها من الخرافات والكفر بنسبة الكذب والخداع إلى الله جلّ وعلا وسائر شؤون القصّة على ما جاء في الفصل الثالث من سَفْر التكوين : ومن ذلك ما جاء في الفصل الخامس عشر منه من شكّ إبراهيم في وعد الله له بإعطائه الأرض في سوريا ومن ذكر العلامة في ذلك ومن ذلك ما جاء في الفصل الثامن عشر والتاسع عشر في مجيء الملائكة إلى إبراهيم بالبشرى باسحاق وإخباره بأمر هلاك قوم لوط ومن حكاية ذهابهم إلى لوط وخطابهم معه. ومن ذلك ما جاء في الفصل الثالث من سفر الخروج في خطاب الله لموسى من الشجرة وفي أواخره ما حاصله أنّ الله جلّ شأنه افتتح الرسالة لموسى بالتعليم بالكذب ومن ذلك ما جاء في الفصل الثاني والثلاثين في سفر الخروج في أنّ هارون هو الذي عمل العجل ليكون إلها لبني إسرائيل ودعى لعبادته وبنى له رسوم العبادة فانظر إلى هذه القصص في مواردها المذكورة من التوراة الرائجة، والقرآن الكريم أورد القصّة الأولى في سورتي الأعراف وطه ـ والثانية في أواخر سورة البقرة، والثالثة في سورتي هود والذاريات والرابعة، في سور طه والنمل والقصص ـ

__________________

(١) فانظر في الجزء الأوّل من كتاب الهدى في صفحة ١٢٣ ١٢٨ والجزء الاوّل من الرحلة المدرسية في صفحة ٣٧ و ٣٨.

٩

والخامسة في سورتي طه والأعراف فجاءت هذه القصص بكرامة الوحي الإلهي منزّهة عن كل خرافة وكفر وعن كل ما ينافي قدس الله وقدس أنبيائه. جارية على المعقول، منتظمة الحجة، شريفة البيان. وذلك مما يقيم الحجّة ويوجب اليقين بأنه لا يكون إلّا من وحي الله ولا يكون من بشر بما هو بشر مثل رسول الله الذي لم يمارس تعلما في المعارف الإلهية ولم يتخرّج عن مدرسة ولم يتربّ إلّا بين أعراب وحشيين وثنيين على أوحش جانب من الوحشية والوثنية. بل لو مارس جميع التعاليم وتخرج من جميع الكليات لما أمكنه أن يتنزّه وينزه معارفه وكلامه من أمثال هذه الخرافات الكفريّة.

لم يكن في ذلك العصر وما قبله إلّا تعاليم اليهود والنصارى. وأساسها في الديانة مبنيّ على ما أشرنا إليه من خرافات التوراة الرائجة فهم عكوف عليها في عبادتهم ومواسمهم وتعاليمهم ومدارسهم. أو تعاليم الوثنيين ومنهم قومه. تلك التعاليم الجهلية الخاسئة. أو تعاليم المجوس المتشعبة من كلا التعليمين المذكورين فإنّه صلوات الله عليه لو كان أخذ القصص المذكورة من ذات التوراة الرائجة بالإتقان أو من الروحانيين المسيطرين على تعليمها وأراد أن يتقوّل بها على الوحي تزلفا أو مخادعة لهم ليستجيبوا إلى اتباع دعوته لأتى بها على ما في التوراة من الخرافة والكفر. ولو كان أخذها سطحيا من أفواه الرجال كما يأخذ الأميّ من ألسن العامة لزاد عليها أضعاف خرافاتها وكفرها كما تستلزمه وتوجبه أميّته وتربيته وجهل قومه وبلاده ووحشيّتهم ووثنيّتهم لكن (إنْ هو إلّا وحيٌ يوحى) إلى رسول لا تأخذه في تبليغ الحقائق لومة لائم أو مخالفة أمم. فانظر إلى تفصيل ذلك في الجزء الأوّل من الرحلة المدرسية(١) وعلى هذا النحو يجري الكلام فيما ذكر في العهد القديم الذي يعدّه أهل الكتاب من الوحي الصادق حيث نسب إلى أيّوب أشنع الاعتراض على الله والجزع من قضائه ونسبة الظلم إليه جلّ وعلا وطلب المحاكمة معه حتى أنه صار يوبخ واعظيه والناهين له عن هذه الجرأة ويسفه رأيهم. ونسب الزنا إلى داود بأشنع وجه. ونسب إلى سليمان أنّه تمادى في تأييد الشرك بالله والعبادة الأوثانية وكثر منه بناء المباني لعبادة الأوثان. وقد كثرت مصائب الأناجيل في القدح بقدس المسيح مع صغر حجمها وقلة مكتوبها فنسبت إلى قدسه شرب الخمر وتكرّر الكذب والأحوال المنافية للعفة وانتهاره لوالدته وقدحه في قداستها والقول بتعدد

__________________

(١) صحيفة ٧ ١١ و ٤١ و ٤٢ و ٤٣ ٤٦ و ٤٧ و ٥٨. و ٣٠ ٣٤.

١٠

الآلهة والأرباب وغير ذلك مما سنشير اليه. وجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بوحي قرآنه منزّها لهؤلاء الأنبياء ومبرّءا لهم عن هذه الوصمات الشنيعة فانظر إلى تفصيل ذلك في الجزء الأول من كتاب الهدى(١) وعلى هذا النحو يجري الكلام أيضا فيما ذكر في التوراة والعهد القديم من القصص الخرافية المنافية لجلال الله وقدس أنبيائه وشرفهم وشرف عائلاتهم كما في خرافات إختباء آدم عن الله، وبرج بابل. وشأن لوط مع الخمر وابنتيه والمصارعة مع يعقوب ومخادعة يعقوب لأبيه وتكرر كذبه عليه. وقصة يهوذا مع كنته ثامار وولادة سبط يهوذا الذي منهم داود وسليمان وكثير من الأنبياء. وقصة امنون بن داود وابن عمه مع أخته ثامار وملاعب شمشون. ومشورة الله جل شأنه مع جند السماء في إغواء آخاب ملك إسرائيل(٢) وكثير من ذلك

ولأجل أنّ القرآن الكريم كلام الله القدّوس ووحيه لم يذكر شيئا من ذلك ولو كان من إختلاق رسول الله (ص) كما يزعم الظالمون لامتنع في العادة على البشريّة وأغراضها وتزلفاتها أن لا يذكر شيئا من ذلك مع ما فيها من القعقعة التاريخية. وإنّ البشر الذي يتطلّب قصص العهدين ويذكرها في كلامه وأغراضه لا يفوته ما أشرنا إليه.

إعجازه في وجهة الاحتجاج

نهض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لتعليم البشر وتنوير بصائرهم في عصر الظلمات والجهل والعمى، ولإرشادهم إلى حقائق المعارف التي حجبتها ظلمات الضلال المتراكمة في تلك العصور المظلمة تلك الظلمات التي استولت على ارجاء العالم بحيث لم تدع أن ينقدح من نور الحق للعقول المغلوبة أقل بصيص فجاء (ص) في قرآنه بكثير غزير من الحجج الساطعة على أهمّ المعارف وأشرفها. تلك الحجج الجارية على أحسن نهج وأعمّه نفعا في الاحتجاج والتعليم. جاء بها على أرقى نحو يستلفت العامي إلى نور الغريزة الفطرية فيمثله لشعوره. والى سناء البديهيات فيجلوه لإدراكه. ويجري بمؤدى تلك الحجج مع الفيلاسوف في قوانين المنطق وتنظيم قياساته على أساسيات المعقول. فاحتجّ على وجود الإله ولوازم إلهيته، وعلمه وقدرته وتوحيده.

__________________

(١) صفحة ١٠٠ ١١٠ و ١١٢ ١١٦ و ٢٢٧ ٢٣٢.

(٢) أنظر إلى ذلك في سفر (لتكوين في الاصحاح الثالث. والحادي عشر. والتاسع عشر. والتاسع والعشرين. والثامن والثلاثين. وفي الثالث عشر من صموئيل الثاني. والرابع عشر إلى السابع عشر من سفر القضاة. والثاني والعشرين من الملوك الأول. والثامن عشر من الأيام الثاني

١١

وعلى المعاد الجسماني، وعلى أنَّ القرآن وحي إلهي، وعلى صدق الرسول في دعوته، فلا يكاد يوجد في شيء من هذه الحجج خلل عرفاني أو وهن أدبي أو شائبة اختلاف أو شائنة من تناقض. فإذا فرضت أي بشر يكون في ذلك العصر المظلم ومثلت نشأته وتربيته بين الأعراب الوحشيين الوثنيين في تلك البلاد الماحلة من كل تعليم والقاحلة من كل فضيلة في المعارف وانه لم يتعاط تعلما ولا تأدّبا على معلم ولا قراءة مكتوب ولا دراسة كتاب علمت انه يمتنع عليه في العادة بما هو بشر وبلا وحي إلهي إليه أن يأتي ببيان المعارف الصحيحة والمناقضة للجهل العام في عصره وبيئته وقومه ويحتج عليها بتلك الحجج النيرة القيمة على ذلك المنهاج الممتاز بفضيلته.

وإن شئت أن تزداد بصيرة فيما ذكرناه فانظر إلى ما في الأناجيل مما نسبته إلى احتجاجات المسيح وحاشا قدسه منه ومما ذكرته من الحجج الساقطة الفاسدة على أمور أكثرها ضلال أو غلط كالاحتجاج على تعدد الآلهة وعلى تعدد الأرباب، وعلى المنع من الطلاق. وانظر إلى ما اشتملت عليه من الغلط والتحريف. نعم ذكرت الاحتجاج على القيامة من الأموات ولكن ماذا جاءت به من الغلط والخبط في الحجّة واحوال القيامة. وإن شئت الاطلاع على شيء من ذلك فانظر في الجزء الأوّل من كتاب الهدى صفحة ١١٢ ـ ١١٦ و ١٩٧ و ٢٠٥ والجزء الأول من الرحلة المدرسية صفحة ٧٣ و ٣٢ ـ ٣٩.

إعجازه من وجهة الاستقامة والسلامة من الاختلاف والتناقض

قد خاض القرآن الكريم في فنون المعارف والإصلاح مما يتخصص فيه الممتازون بالرقي في أبواب الفلسفة والسياسة والخطابة والإصلاح من علم اللاهوت أو الأخلاق أو التشريع المدني والتنظيم الإداري أو الفن الحربي. أو البشرى والترغيب بالجزاء أو الإنذار والتهديد بالنكال. أو الحجج والأمثال. أو تذكرة المواعظ والعبر. وجرى من ذلك في الميادين الشريفة بأحسن أسلوب وأقوم منهج وبلغ في جميع ذلك أكرم الغايات وأعلاها في الرقي وهو يكرر بحسب الحكمة كثيرا من قصصه ومقاصده وفي جميع ذلك لم تشنه زلة اختلاف ولا عثرة تناقض ولا وهن اضطراب ولا سقوط حجّة ولا فساد مضمون ولا سخافة بيان. وها هو بارز في جميع العالم لكل من يريد الهدى والفحص والتدبر ينادي بابهة الافتخار وجمال السداد وشوكة الاستظهار( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (١) ( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ

__________________

(١) سورة الاسراء : ٩

١٢

لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) (١) منتشرا في أبوابه ومقاصده. فهل يمكن في العادة أن يكون كل هذا من بشر قد ذكرنا لك عصره ونشأته وتربيته وبلاده وقومه وجهلهم الوحشي الوثني ولك العبرة بكتب العهدين وهي التي منذ قرون عديدة يصفق لاستحسانها اكثر العالم المفتخر بالعلم والتمدّن وينسبونها بكمال الاحتفال إلى كرامة الوحي ـ فكم وكم يوجد فيها من الوهن والسقوط والاختلاف والتناقض وقد ذكر شيء من ذلك في كتب إظهار الحق والهدى، والرحلة المدرسية. واعتبر أيضا بأنَّ كل واحد من الأناجيل لا يزيد على صحيفة أسبوعيّة وقد كثر فيها الخبط والتناقض والاختلاف إلى حد مهول مدهش وقد ذكر شيء منه في الجزء الاوّل من كتاب الهدى صفحة ١٩٦ ـ ٢٣٤ وأيضا إنّ الأناجيل وكتب العهد الجديد مؤسسة على أنّ كتب العهدين الرائجة هي كتب وحي إلهي صحيحة. إذن فاعتبر بأنه كم وقع الاختلاف والتناقض بين الأناجيل والعهد الجديد وبين العهد القديم وقد ذكر شيء مما ذكرنا في الجزء الأوّل من الرحلة المدرسية صفحة ١٣٢ ـ ١٨٤

إعجازه في وجهة التشريع العادل ونظام المدنيّة

قدّر رسول الله (ص) بشرا عاديا في مثل ما ذكرناه مرارا في عصره ونشأته وتربيته وبلاده وقومه وجهلهم وعاداتهم الوحشية. ثم انظر هل يمكن في العادة لمثل هذا البشر إذا لم يكن موحى إليه أن يأتي من عنده ومن بشريته بمثل ما أتى به في القرآن الكريم من الشريعة الحقوقية العادلة والقوانين القيمة والأنظمة المعقولة الجارية بأجمعها على ما هو الصالح للبشر في المدنية والاجتماع والسياسة والحرب ومقدماتها ونتائجها. وجرت في عنايتها بالإصلاح من إدارة جميع العالم إلى الإدارة العائلية والبيتية والزوجية بل وإلى شؤون الكاتب والشاهد كما في سورة البقرة آية ٢٨٢ فمنعت فيها من مضارة الكاتب والشاهد ونهت عن أن يحملا من أجل الكتابة والشهادة وأدائها ضرر المشقة والعناء وتضييع وقت اكثر من الوقت الطبيعي لمحض الأداء. وفي ذلك عبرة لأولي الألباب. وإليك فانظر ما في القرآن الكريم من الشرائع والقوانين العامة والخاصة واعتبر بكرامتها ومجدها في التشريع الفائق والإصلاح الحميد. ولا تحتاج معرفة مجدها وكرامتها إلى المقايسة والاعتبار بشرائع قطره وقومه تلك الشرائع الجائرة الوحشية الوثنية. نعم تزداد بصيرة إذا نظرت إلى شرائع التوراة الرائجة التي يعتبرها اليهود

__________________

(١) سورة النساء : ٨٤.

١٣

والنصارى في اجيالهم في اكثر من خمسة وعشرين قرنا ويعدونها كتاب وحي إلهي مقدس فانظر فيما فيها من شريعة تقديس هارون وبنيه وتفصيل ثيابهم وأوضاعها. وشريعة امرأة الأخ الميت. وتفلتها وولدها البكر من الأخ الثاني. وشريعة من ادعى زوجها انه لم يجد لها عذرة. وشريعة قتل الأطفال والنساء من البلاد المفتوحة بالحرب فإنك تعرف ان هذه الشرائع لا تكون إلّا من بشر سخيف قاس وتزداد بصيرة بمجد القرآن الشريف في تشريعه وإنه لا يكون إلّا من وحي إلهي وقد أشير إلى شيء مما ذكرنا في أواخر الجزء الثاني من كتاب الهدى صفحة ٢٨٠ ـ ٢٩٢ والجزء الأول من الرحلة المدرسية صفحة ٢٩ و ٧٩ ـ ٨٢ وانظر إلى العهد الجديد والغائه لنظام المدنية والأخذ أمام الظلم والعدوان بحيث ترك العالم بلا نظام راذع ولا شريعة تأديب عادلة فإنك تزداد بصيرة بأن المتقول على الوحي في أمر التشريع لا بد له من أن يسقط سقطة تشوه التاريخ وتئنّ منها الحقائق جزعا. فاعرف اذن اعجاز القرآن في تشريعه الممتاز بفضيلة الوحي الإلهي

اعجازه من وجهة الأخلاق

وإذا نظرت إلى ظلمات العصر والقطر والتربية وشيوع الجهل في الأمة وسوء الأعمال وعدم الدراسة في العلم أو التخرج في الفضيلة على الحكماء الصالحين فإنك ترى هذه الأمور لها اثر كبير في الجهل بالأخلاق الفاضلة والانحراف عن جادتها والخبط في معرفتها وتمييز حدودها. فلا ترد البشر إلى الاستقامة في ذلك تكلفات الفكر المحاط بالجهل العام والجيل المظلم والقطر الوبيء من نزغات الأهواء. ولئن حاول الرجل المريد للصلاح حينئذ شيئا من تهذيب الأخلاق لم يهتد السبيل في قوله وعمله إلّا إلى شيء يشير إليه التداول بين جملة من الناس ولئن تكلف المتفلسف شيئا من التعليم بالأخلاق خبط فيها خبطا غلب فيه الجهل والزلل وتتابعت فيه العثرات.

ومن بين تلك الظلمات المذكورة بزغ القرآن الكريم بأنواره وأتى بما لا تسمح به العادة بأن يأتي به في تلك الظلمات بشر من عند نفسه وتقولا على الوحي فجاء في اجماله وتفصيله مستقصيا للأخلاق الفاضلة على حدودها بالحث على التزين بها بما توجبه الحكمة من البعث والترغيب. ومحصيا للأخلاق الرذيلة بالزجر عن التلوث بها بما يوجبه الإصلاح من الإرهاب والتنفير. واقام لذلك في العالم اشرف مدرسة زاهرة وأعلى فلسفة مرشدة وابلغ خطابة واعظة

١٤

وإليك بعضا من جوامعه في ذلك كقوله تعالى في سورة النحل : ٩٢( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) . ومن سورة الفرقان ما في الآية الرابعة والستين إلى الخامسة والسبعين. ومن سورة المعارج ما في الآية الثالثة والعشرين إلى الثالثة والثلاثين. ومن سورة الحجرات ما في الآيات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة. وغير ذلك مما لا يكاد أن تخلو منه سورة أو يتخطاه تعليم أو يحابى به قوم دون قوم أو يتجاوز بالإفراط إلى التفريط والإخلال بنظام المدنية وراحة الاجتماع ولك العبرة بأن التوراة الرائجة فيها وشل من تعاليم التوراة الحقيقية ولكن لأنها تلفيق واختلاق بشري كدّرت ما فيها من ذلك الوشل وذهبت بصفاء التعليم الإلهي. فأمرت بني إسرائيل بالحكم بالعدل لقريبهم ونهتهم عن الحقد على أبناء شعبهم وعن السعي بالوشاية وعن شهادة الزور على قريبهم وأن يغدر أحدهم بصاحبه. ويا للأسف على شرف هذا الأمر والنهي إذ شوّهت جماله بتخصيص تعليمها لبني إسرائيل وبتخصيص المأمور به والمنهي عنه بالقريب والشعب والصاحب.

ولك العبرة أيضا بأن الأناجيل الرائجة قد أفرطت بتصوفها البارد فنهت عن ردع الظالمين بالانتصاف من الظالم وقطع مادة الفساد بالحدود الشرعية ودفاع الظالمين بل علمت بأن من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الآخر أيضا ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا ومن أخذ الذي لك فلا تطالبه

فلوثت بافراطها البشري قدس تعاليم المسيح المتلقاة من الوحي الإلهي

اعجازه في وجهة علم الغيب

وقد تكرر في القرآن معجزه في اخباره بالغيب اخبارا يقتضي التكهن والفراسة خلافه من حيث النظر إلى الحال الحاضر وطغيان الشرك وضعف الدعوة الإسلامية وما يجري من النكال والتشريد والجفاء على ملبيها. فمن ذلك قوله في سورة الحجر المكية في الأمر لرسول الله (ص) بالإعلان بالدعوة والبشرى بنجاحها وارغام معانديها ومعارضيها وكان ذلك عند طغيان الشرك واستفحاله وهيجان المشركين على رسول الله «٩٤( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) : ٩٥( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) : ٩٦( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) وقد كفاه الله اشرف كفاية لم تكن تعلق بها الآمال بحسب العادة. وقد بان للمشركين وعلموا

١٥

ما في قوله تعالى في آخر الآية( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) . وقوله في سورة الصف المكية في الحال الذي وصفناه من طغيان الشرك والمشركين «٩( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) فأظهره على الذين أعز اظهار أرغمت به آناف المشركين. ومن الاخبار بالغيب قوله تعالى في سورة الروم( غُلِبَتِ الرُّومُ ٢فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ٣فِي بِضْعِ سِنِينَ ) فغلبت الروم فارس ودخلت مملكتها قبل مضي عشر سنين وقوله تعالى في سورة تبت في شأن أبي لهب وامرأته( سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) وهو اخبار بأنهما يموتان على الكفر ولا يحظيان بسعادة الإسلام الذي يكفر عنهما آثام الشرك ويحط أوزاره فماتا على الكفر كما اخبر به اخبارا حتميا ولك العبرة في ذلك بأن إنجيل متى ذكر اخبارا واحدا غيبيا للمسيح وهوائه يبقى مدفونا في قلب الأرض ثلاثة أيّام وثلاث ليال. ولكن ما برح إنجيل متى أن كذب في أواخره هذا الإخبار فوافق الأناجيل الثلاثة الأخر على ان المسيح في مساء ليلة السبت طلب بعض الناس جثته من بيلاطس فأنزلها عن الصليب وكفنها ودفنها وقبل الفجر من يوم الأحد قام المسيح من الموت وخرج عن قبره. وعلى ذلك لا يكون المسيح بقي في القبر إلّا ليلة السبت ونهاره وليلة الأحد وذلك نهار وليلتان

هذا وإني عند مقايستي للقرآن الكريم بما ينسب إلى الوحي الإلهي من كتب الأمم المتدينة ومنهم البراهمة والبوذيون وغيرهم لم يحضر عندي إلّا كتب العهدين فلا ينبغي ان يجعل مقايستي بهما تحاملا على خصوص اليهود والنصارى. ولي العذر في ذلك فإنه لا يصح للإنسان ان تأخذه في خدمة الحق وإيضاح الحقيقة وتأييدها لومة لائم أو يصده عذل عاذل. فإن خدمة الحق نصرة للبشر جميعا والله المستعان

هذا شيء قليل من البيان في الوجهات المذكورة إذ لا يسع هذا المختصر اكثر من ذلك. وهب ان الوساوس تتقحم على الحقائق وتغالط الأذهان بواهيات الشكوك في الاعجاز ببعض آحادها ولكن هل يمكن ذلك بالنظر إلى مجموعها. وهل يسوغ لذي الشعور ان يختلج في ذهنه الشك في اعجاز الكتاب الجامع بفضيلته لهذه الكرامات الباهرة وخروجه عن طوق البشر مطلقا وخصوصا في ذلك العصر وتلك الأحوال وهل يسمح عقله إلّا بأن يقول( إِنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يُوحى )

١٦

الفصل الثاني في جمعه في مصحف واحد

لم يزل القرآن الكريم بحسب حكمة الوحي والتشريع والمصالح والمقتضيات المتجددة آنا فآنا يتدرج في نزوله نجوما(١) الآية والآيتان والأكثر والسورة. وكلما نزل شيء هفت إليه قلوب المسلمين وانشرحت له صدورهم وهبوا إلى حفظه بأحسن الرغبة والشوق وأكمل الإقبال وأشد الارتياح. فتلقونه بالابتهاج وتلقوه بالاغتنام من تلاوة الرسول العظيم الصادع بأمر الله والمسارع إلى التبليغ والدعوة إلى الله وقرآنه. وتناوله حفظهم بما امتازت به العرب وعرفوا به من قوة الحافظة الفطرية وأثبتوه في قلوبهم كالنقش في الحجر. وكان شعار الإسلام وسمة المسلم حينئذ هو التجمل والتكمل بحفظ ما ينزل من القرآن الكريم. لكي يتبصر بحججه ويتنور بمعارفه وشرائعه وأخلاقه الفاضلة وتاريخه المجيد وحكمته الباهرة وأدبه العربي الفائق المعجز. فاتخذ المسلمون تلاوته لهم حجّة الدعوة. ومعجز البلاغة. ولسان العبادة لله. ولهجة ذكره. وترجمان مناجاته. وأنيس الخلوة. وترويح النفس. ودرسا للكمال. وتمرينا في التهذيب. وسلما للترقي. وتدربا في التمدّن. وآية الموعظة. وشعار الإسلام. ووسام الإيمان والتقدّم في الفضيلة. واستمرّ المسلمون على ذلك حتى صاروا في زمان الرّسول يعدون بالألوف وعشراتها ومئاتها. وكلهم من حملة القرآن وحفاظه(٢) وإن تفاوتوا في ذلك بحسب

__________________

(١) ولا بد من أن تكون كتب الوحي والدعوة والتشريع جارية في كمالها على منهاج هذه الحكمة. ومما يشير إلى ذلك ان التوراة الرائجة تذكر ان نزول التوراة على موسىعليه‌السلام كان من زمان تكليمه من الشجرة متدرجا بحسب الأزمان والحوادث والتاريخ والحكم في التشريع إلى حين وفاته بعد التيه عند عبر الأردن ومتراخيا في اكثر من أربعين سنة. فانظر في شرح هذا المجمل إلى المقدمة الثانية من الجزء الأول من كتاب الهدى صحيفة ٩ إلى ١٢.

(٢) اخرج ابن سعد وابن عساكر عن محمد بن كعب القرضي قال جمع القرآن اي حفظا في زمان النبي (ص) خمسة من الأنصار معاذ بن جبل وعبادة بن الصمت وأبي بن كعب وابو أيوب الانصاري وابو الدرداء. واخرج ابن سعد ويعقوب بن سفيان والطبراني وابن عساكر عن الشعبي قال جمع القرآن على عهد رسول الله (ص) ستة من الأنصار أبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وابو الدرداء وسعد بن عبيد وابو زيد وكان مجمع ابن جارية قد أخذه كله إلّا سورتين أو ثلاثة. واخرج ابن عساكر عن محمد بن كعب القرضي قال كان ممن ختم القرآن ورسول الله حي عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود. واخرج عن انس قرأ القرآن على عهد رسول الله (ص) معاذ وأبي وسعد وابو زيد. واخرج الحاكم في الصحيح على شرط البخاري ومسلم عن زيد بن ثابت قال كنا عند رسول الله (ص) نؤلف القرآن من الرقاع. وفي رواية حول رسول الله نؤلف القرآن «فانظر إلى كنز العمال ومنتخبه اقلا» ولم اذكر هذه الروايات احتجاجا بها للحقيقة المعلومة ولكن لتجبه بالمعارضة بعض الروايات الشاذة الواردة في خلاف ما ذكرناه من حفظ المسلمين في عصر النبي وبعده للقرآن الكريم.

١٧

السابقة والفضيلة هذا ولما كان وحيه لا ينقطع في حياة رسول الله (ص) لم يكن كله مجموعا في مصحف واحد وإن كان ما أوحي منه مجموعا في قلوب المسلمين وكتاباتهم له ولما اختار الله لرسوله دار الكرامة وانقطع الوحي بذلك فلا يرجى للقرآن نزول تتمة رأى المسلمون ان يسجلوه في مصحف جامع فجمعوا مادته على حين اشراف الألوف من حفاظه ورقابة مكتوباته الموجودة عند الرسول وكتاب الوحي وسائر المسلمين جملة وابعاضا وسورا(١) نعم لم يترتب على ترتيب نزوله ولم يقدم منسوخه على ناسخه(٢) فاستمرّ القرآن الكريم على هذا الاحتفال العظيم بين المسلمين جيلا بعد جيل ترى له في كل آن الوفا مؤلفة من المصاحف والوفا من الحفاظ ولا تزال المصاحف ينسخ بعضها على بعض والمسلمون يقرأ بعضهم على بعض ويسمع بعضهم من بعض. تكون ألوف المصاحف رقيبة على الحفاظ ، وألوف الحفاظ رقباء على المصاحف وتكون الألوف من كلا القسمين رقيبة على المتجدد منهما ، نقول الألوف ولكنها مئات الألوف وألوف الألوف. فلم يتفق لأمر تاريخي من التواتر وبداهة البقاء مثل ما اتفق للقرآن الكريم كما وعد الله جلت آلاؤه بقوله في سورة الحجر( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) وقوله في سورة القيامة( إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ) ولئن سمعت في الروايات الشاذة شيئا في تحريف القرآن وضياع بعضه فلا تقم لتلك الروايات وزنا. وقل ما يشاء العلم في اضطرابها ووهنها وضعف رواتها ومخالفتها للمسلمين وفيما جاءت به في مروياتها الواهية

__________________

(١) ومما يشهد لما ذكرناه ما عن أبي عبيد في فضائله وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه مسندا عن عمر بن عامر الانصاري ان عمر بن الخطاب قرأ «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فرفع الأنصار ولم يدخل واو العطف على «الذين» فقال له زيد بن ثابت «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فقال عمر «الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فقال زيد أمير المؤمنين اعلم فقال عمر ايتوني بابي بن كعب فسأله عن ذلك فقال «وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ» فجعل كل واحد منهما يشير إلى انف صاحبه بإصبعه فقال أبي والله اقرأنيها رسول الله (ص) وأنت تتبع الخبط فقال عمر فنعم إذن فنعم إذن. واخرج أبو عبيد في فضائله وسنيد وابن جرير وابو الشيخ عن محمد بن كعب القرضي. واخرج أبو الشيخ في تفسيره والحاكم في المستدرك مصححا على شرط البخاري ومسلم عن اسامة ومحمد بن إبراهيم التيمي انه جرى بين عمر وأبي بن كعب في هذه الآية نحو ذلك فانظر في كنز الأعمال ومنتخبه.

(٢) نعم من المعلوم عند الشيعة ان عليا أمير المؤمنين (ع) بعد وفاة رسول الله (ص) لم يرتد برداء إلّا للصلاة حتى جمع القرآن على ترتيب نزوله وتقدم منسوخه على ناسخه. واخرج ابن سعد وابن عبد البر في الاستيعاب عن محمد بن سيرين قال نبئت ان عليا ابطأ عن بيعة أبي بكر فقال أكرهت امارتي فقال آليت بيميني ان لا ارتدي برداء إلّا للصلاة حتى اجمع القرآن قال فزعموا انه كتبه على تنزيله قال محمد فلو أصبت ذلك الكتاب كان فيه علم قال ابن عوف فسألت عكرمة عن ذلك الكتاب فلم يعرفه.

١٨

من الوهن. وما الصقته بكرامة القرآن مما ليس له شبه به واستمع من ذلك لأمور

اضطراب الروايات في جمع القرآن

(الأمر الأول) جاء فيها ان أبا بكر هو الذي أدى رأيه أولا إلى جمع القرآن وهو الذي طلب من زيد بن ثابت جمعه فثقل ذلك عليه فلم يزل أبو بكر يراجعه حتى قبل. وجاء فيها أيضا ان زيدا هو الذي أدى رأيه أولا إلى جمع القرآن وعزم عليه وكلم في ذلك عمر فكلم فيه عمر أبا بكر فاستشار أبو بكر في ذلك المسلمين. وجاء فيها أيضا ان أبا بكر هو الذي جمع القرآن فى أيامه. وجاء فيها ان عمر قتل ولم يجمع القرآن. وجاء فيها ان عثمان هو الذي جمع القرآن في أيامه بأمره. وجاء فيها ان عمر هو الذي أمر زيد بن ثابت وسعيد بن العاص لما أراد جمع القرآن أن يملي زيد ويكتب سعيد. وجاء فيها ان ذلك كان من عثمان في أيامه وبعد قتل عمر. وجاء في ذلك أيضا ان الذي يملي أبيّ بن كعب وزيد يكتبه وسعيد يعربه. وفي رواية أخرى ان سعيدا وعبد الله بن الحرث يعربانه : هذا بعض حال هذه الروايات في تعارضها واضطراباتها ، ومن جملة ما جاء فيها ما مضمونه ان براءة آخر ما نزل من القرآن فما ذا ترى لهذه الرواية من القيمة التاريخية. فانظر إلى الجزء الأول من كنز العمال ومنتخبه اقلا

بعض ما الصق بكرامة القرآن الكريم

(الثاني) في الجزء الخامس من مسند أحمد عن أبيّ بن كعب قال ان رسول الله (ص) قال ان الله أمرني ان اقرأ عليك القرآن قال فقرأ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهل الْكِتابِ ) فقرأ فيها «لو ان ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه لسأل ثانيا فلو سأل ثانيا فأعطيه لسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب وان ذلك الدين القيم عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يعمل خيرا فلن يكفره». وفي رواية الحاكم في المستدرك ورواية غيره أيضا «ان ذات الدين عند الله الحنيفية لا المشركة» وفي رواية «غير المشركة» إلى آخره وعن جامع الأصول لابن الأثير الجزري «ان الدين عند الله الحنيفية المسلمة لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية» وذكر في المسند أيضا بعد هذه الرواية عن أبي قال قال لي رسول الله (ص) ان الله أمرني ان اقرأ عليك فقرأ عليّ( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهل الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً

١٩

مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ) إن الدين عند الله الحنيفية لا المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل خيرا فلن يكفره قال شعبة ثم قرأ آيات بعدها ثم قرأ «لو ان لابن آدم واديين من مال لسأل واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب». قال ثم ختمها بما بقي منها انتهى. وهذه الروايات رواها أيضا أبو داود الطيالسي وسعيد بن منصور في سننه والحاكم في مستدركه كما في كنز العمال. وذكر في المسند أيضا عن أبي واقد الليثي قال كنا نأتي النبي (ص) إذا أنزل عليه فيحدّثنا فقال لنا ذات يوم ان اللهعزوجل قال «إنّا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولو كان لابن آدم واد لأحبّ أن يكون له ثان ولو كان له واديان لأحبّ أن يكون لهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ثم يتوب الله على من تاب انتهى. هب ان المعرفة والصدق لا يطالبان المحدّثين «ولا نقول القصاص» ولا يسألانهم عن هذا الاضطراب الفاحش فيما يزعمون انه من القرآن ولا يسألانهم عن التمييز بين بلاغة القرآن وعلو شأنه فيها وبين انحطاط هذه الفقرات. ولكن أليس للمعرفة أن تسألهم عن الغلط في قولهم «لا المشركة» فهل يوصف الدين بأنه مشركة. وفي قولهم «الحنيفية المسلمة» وهل يوصف الدين أو الحنيفية بأنه مسلمة وقولهم «ان ذات الدين» وفي قولهم «إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة» ما معنى إنزال المال. وما معنى كونه لإقام الصلاة. هذا واستمع لما يأتي ففي الجزء السادس من مسند أحمد مسندا عن مسروق قال قلت لعائشة هل كان رسول الله يقول شيئا إذا دخل البيت قالت كان إذا دخل البيت مثل لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ فمه إلّا التراب وما جعلنا المال إلّا لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ويتوب الله على من تاب. وفي الجزء السادس في اسناده عن جابر قال قال رسول الله (ص) لو ان لابن آدم واديا من مال لتمنى واديين ولو ان له واديين لتمنى ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب. وباسناده أيضا قال سئل جابر هل قال رسول الله لو كان لابن آدم واد من نخل تمنى مثله حتى يتمنى أودية ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب انتهى. وهل تجد من الغريب أو الممتنع في العادة أن يكون لابن آدم واد من مال أو من نخل. أو ليس في بني آدم في كل زمان من ملك واديا من ذلك بل اودية. اذن فكيف يصح في الكلام المستقيم أن يقال لو كان لابن آدم. لو ان لابن آدم. أو ليست لو للامتناع. باللعجب من الرواة لهذه الروايات ألم يكونوا عربا أو لهم إلمام باللغة العربية. نعم يرتفع هذا الاعتراض

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وزكرياء، وميمون بن إبراهيم، ومحمد بن موسى المنجم، وأخاه أحمد بن موسى، وعلي بن يحيى بن أبي منصور، وجعفر المعلوف مستخرج ديوان الخراج وغيرهم نحواً من عشرين رجلاً، فوقع ذلك من المتوكل موقعاً أعجبه وقال له: أغد غدوةً فلما أصبح لم يشك في ذلك، وناظر عبيد الله بن يحيى المتوكل فقال له: يا أمير المؤمنين أراد أن لا يدع كاتباً ولا قائداً ولا عاملاً إلا أوقع بهم، فمن يقوم بالأعمال يا أمير المؤمنين!

وغدا نجاح فأجلسه عبيد الله في مجلسه ولم يؤذن له، وأحضر موسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فقال لهما عبيد الله: إنه إن دخل إلى أمير المؤمنين دفعكما إليه فقتلكما، وأخذ ما تملكان، ولكن اكتبا إلى أمير المؤمنين رقعة تقبلان به فيها بألفي ألف دينار، فكتبا رقعة بخطوطهما وأوصلها عبيد الله بن يحيى وجعل يختلف بين أمير المؤمنين، ونجاح وموسى بن عبد الملك والحسن بن مخلد، فلم يزل يدخل ويخرج ويعين موسى والحسن، ثم أدخلهما على المتوكل فضمنا ذلك وخرج معهما فدفعه إليهما جميعاً والناس جميعا الخواص والعوام، وهما لا يشكان أنهما وعبيد الله بن يحيى مدفوعون إلى نجاح للكلام الذي دار بينه وبين المتوكل فأخذاه وتولى تعذيبه موسى بن عبد الملك، فحبسه في ديوان الخراج بسامرا وضربه درراً وأمر المتوكل بكاتبه إسحاق بن سعد، وكان يتولى خاص أموره وأمر ضياع بعض الوُلد، أن يغرم واحداً وخمسين ألف دينار، وحلف على ذلك وقال إنه أخذ مني في أيام الواثق، وهويخلف عن عمر بن فرج خمسين ديناراً

٦١

حتى أطلق أرزاقي، فخذوا لكل دينار ألفاً وزيادة ألف فضلاً، كما أخذ فضلاً فحبس، ونُجِّمَ عليه في ثلاثة أنجم، ولم يطلق حتى أدى تعجيل سبعة عشر ألف دينار، وأطلق بعد أن أخذ منه كفلاء بالباقي، وأخذ عبد الله بن مخلد فأغرم سبعة عشر ألف دينار، ووجه عبيد الله الحسين بن إسماعيل وكان أحد حجاب المتوكل، وعتاب بن عتاب عن رسالة المتوكل، أن يضرب نجاح خمسين مقرعة إن هولم يقر ويؤدِّ ما وصف عليه، فضربه ثم عاوده في اليوم الثاني بمثل ذلك، ثم عاوده في اليوم الثالث بمثل ذلك، فقال: أبلغ أمير المؤمنين أني ميت، وأمر موسى بن عبد الملك جعفراً المعلوف ومعه عونان من أعوان ديوان الخراج، فعصروا مذاكيره حتى برد فمات، فأصبح فركب إلى المتوكل فأخبره بما حدث من وفاة نجاح، فقال لهما المتوكل: إني أريد مالي الذي ضمنتماه، فاحتالاه فقبضا من أمواله وأموال ولده جملة، وحبسا أبا الفرج وكان على ديوان زمام الضياع من قبل أبي صالح بن يزداد، وقبضا أمتعته كلها، وجميع ملكه، وكتبا على ضياعه لأمير المؤمنين، وأخذا ما أخذا من أصحابه الخ. ».

أقول: هذه صورة لإدارة دولة الخلافة الإسلامية، وتكالب خليفتها وكبار وزرائه على أموال المسلمين المستضعفين! فكيف يجوز تسميته خليفة رسول الله (ص)، وتلقيبه المتوكل على الله! وأي إدارة هذه؟ وأي خلافة لرسول الله هذه؟!

٦٢

نكب كاتب إيتاخ سليمان بن وهب ثم احتاج اليه!

روى التنوخي في كتابه الفرج بعد الشدة « 1 / 51 » كيف أخذ المتوكل كاتب إيتاخ، قال: « سمعت عبيد الله بن سليمان بن وهب يقول: كان المتوكل من أغلظ الناس على إيتاخ، فذكر فيه حديثاً طويلاً، وصف فيه كيف قبض المتوكل على إيتاخ وابن وهب ببغداد لما رجعا من الحج بيد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب.

قال سليمان بن وهب: وساعة قبض على إيتاخ ببغداد قبض عليَّ بسر من رأى، وسُلِّمْتُ إلى عبيد الله بن يحي. وكتب المتوكل إلى إسحاق بن إبراهيم بدخوله بسر من رأى، ليتقوى به على الأتراك، لأنه كان معه بضعة عشر ألفاً لكثرة الظاهرية بخراسان، وشدة شوكتهم، فلما دخل إسحاق أمر المتوكل بتسليمي إليه وقال: هذا عدوي ففصل عظامه! هذا كان يلقاني في أيام المعتصم فلا يبدأني بالسلام، وأبدأه لحاجتي فيرد عليَّ كما يرد المولى على عبده، وكل ما دبره إيتاخ فعن رأيه! فأخذني إسحاق وقيدني بقيد ثقيل، وألبسني جبة صوف، وحبسني في كنيف وأغلق على خمسة أبواب، فكنت لا أعرف الليل من النهار، فأقمت كذلك نحوعشرين يوماً لايفتح على الباب إلا حملةً واحدة في كل يوم وليلة، ويدفع إلى فيهما خبز شعير وملح وماء حار، فكنت آنس بالخنافس وبنات وردان، وأتمنى الموت لشدة ما أنا فيه » ثم روى كيف اضطر المتوكل للإفراج عنه لخبرته في تحصيل مالية البلاد التي كان يحكمها إيتاخ، وهي: مصر، والكوفة، والحجاز، وتهامة، ومكة، والمدينة. « النجوم الزاهرة: 2 / 275 ».

٦٣

قال: « فحُملت إلى مجلس إسحاق فإذا فيه موسى بن عبد الملك صاحب ديوان الخراج، والحسن بن محمد صاحب ديوان الضياع، وأحمد بن إسرائيل الكاتب، وأبو نوح، وعيسى بن إبراهيم، كاتب الفتح بن خاقان، وداود بن الجراح صاحب الزمام، فطُرحت في آخر المجلس، فشتمني إسحاق بن إبراهيم أقبح شتم، وقال: يا فاعل يا صانع تعرضني لاستبطاء أمير المؤمنين، والله لأُفَرِّقن بين لحمك وعظمك، ولأجعلن بطن الأرض أحب إليك من ظهرها، أين الأموال التي جمعتها من غير وجهها الرأي أن تكتب خطك بالتزام عشر ـ ة آلاف ألف درهم، تؤديها في عشرة أشهر، كل شهر ألف ألف درهم، وتَتَرَفَّهُ عاجلاً مما أنت فيه! فأمر إسحاق بأخذي في الحال وإدخالي الحمام، وجاؤني بخلعة نظيفة فلبستها، وبخور طيب فتبخرت، واستدعاني إسحاق ..

فلما كان من غد حولني إلى دار كبيرة حسنة مفروشة، ووكل على فيها بإحسان وإجلال، واستدعيتُ كل من أردت، وتسامع الناس بأمري، وجاؤني ففرج عني، ومضت سبعة وعشرون يوماً، وقد أعددت ألف ألف درهم الخ. »!

٦٤

الفصل الثالث:

سياسة المتوكل مع الإمام الهادي (ع)

من ثوابت سياسة الخلفاء تصفية مخالفيهم!

من ثوابت الخليفة القرشي: أن يعمل للتخلص من خصومه بقتلهم بالسم، أوبالمكيدة، ليكون قتلاً ناعماً مسكوتاً عنه عند الناس!

وكان شعار معاوية المعروف: إن لله جنوداً من عسل! قاله عندما نجح في دسَّ السُّمَّ لمالك الأشتر حاكم مصر (رحمه الله). كما في المستطرف / 352، وغيره .

وقال معاوية: لاجدَّ إلا ما أقْعَصَ عنك من تكره. أي العمل الجدِّي المهم هو: أن تقتل عدوك وتخمده في مكانه، فتزيحه من طريقك! « محاضرات الراغب: 1 / 531 ».

قال في جمهرة الأمثال « 2 / 376 »: « والمثل لمعاوية رضي الله عنه » قاله بعد قتله عبد الرحمن بن خالد، لأنه كان يعارض توليته لولده يزيد! « ورواه في الأمثال للميداني: 1 / 630، والمستقصى للزمخشري / 334، وطبقات الأطباء: 1 / 154: والمنمق في أخبار قريش لابن حبيب: 1 / 172، والتذكرة الحمدونية / 1497، وتاريخ دمشق: 19 / 189 ».

وعلى هذه السياسة مشى خلفاء بني أمية وبني العباس، وكان المتوكل يعمل لقتل الإمام الهادي (ع) وهويعلم أنه إمام رباني، وأنه لا يعمل للسلطة! ولاحجة للمتوكل إلا خوفه من إيمان الناس بالإمام (ع)، فقد رأى أمه تطلب دعاءه، وتنذر له النذور!

٦٥

1. سَجَنَ المتوكل الإمام (ع) ليقتله فنجاه الله:

روى الصدوق في الخصال / 395: « عن الصقر بن أبي دلف الكرخي، قال: لما حمل المتوكل سيدنا أبا الحسن العسكري (ع) جئتُ أسأل عن خبره قال: فنظر إليَّ الزُّرَافي وكان حاجباً للمتوكل، فأمر أن أدخل إليه فأدخلت إليه، فقال: يا صقر ما شأنك؟ فقلت: خيرٌ أيها الأستاذ. فقال: أقعد، فأخذني ما تقدم وما تأخر وقلت: أخطأت في المجئ! قال: فوحى الناس عنه، ثم قال لي: ما شأنك وفيم جئت؟ قلت: لخير ما، فقال: لعلك تسأل عن خبر مولاك؟ فقلت له: ومن مولاي؟ مولاي أمير المؤمنين! فقال: أسكت، مولاك هو الحق فلا تحتشمني فإني على مذهبك، فقلت: الحمد لله. قال: أتحب أن تراه؟ قلت: نعم. قال: أجلس حتى يخرج صاحب البريد من عنده. قال: فجلست فلما خرج قال لغلام له: خذ بيد الصقر وأدخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس وَخَلِّ بينه وبينه، قال: فأدخلني إلى الحجرة، فأومأ إلى بيت فدخلت فإذا به (ع) جالس على صدر حصير وبحذاه قبر محفور! قال: فسلمت فرد، ثم أمرني بالجلوس، ثم قال لي: يا صقر ما أتى بك؟ قلت: يا سيدي جئت أتعرف خبرك؟ قال: ثم نظرت إلى القبر فبكيت! فنظر إلي فقال: يا صقر لا عليك، لن يصلوا إلينا بسوء الآن، فقلت: الحمد لله.

ثم قلت: يا سيدي حديث يروي عن النبي (ص) لا أعرف معناه، قال وما هو؟ فقلت قوله: لا تعادوا الأيام فتعاديكم، ما معناه؟ فقال: نعم، الأيام نحنُ ما

٦٦

قامت السماوات والأرض، فالسبتُ إسم رسول الله (ص) والأحدُ كنايةٌ عن أمير المؤمنين (ع)، والإثنين الحسن والحسين، والثلاثاء علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد، والأربعاء موسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وأنا، والخميس ابني الحسن بن علي، والجمعة ابن ابني، وإليه تجتمع عصابة الحق، وهو الذي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

فهذا معنى الأيام، فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة. ثم قال (ع): وَدِّعْ واخرج، فلا آمن عليك ».

قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه: الأيام ليست بأئمة ولكن كنى بها (ع) عن الأئمة لئلا يدرك معناه غير أهل الحق. كما كنى الله عز وجل بالتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين عن النبي (ص) وعلي والحسن والحسين (ع) وكما كنى بالسير في الأرض عن النظر في القرآن، سئل الصادق (ع) عن قول الله عز وجل: أو لم يسيروا في الأرض، قال: معناه أو لم ينظروا في القرآن ».

ملاحظات

1. يظهر أن سجن الإمام (ع) في سامراء كان في إحضاره الأول الى سامراء، في أوائل خلافة المتوكل، ولم يسجن في سامراء بعدها.

2. أما الصقر بن أبي دلف، فهو من الكرخ وكان فيها شيعة لأهل البيت (ع) من زمن الإمام الصادق (ع) , وكانت بغداد: الكرخ وبراثا، ثم أسس المنصور بينهما بغداد المدورة، وقد وثقنا ذلك في سيرة الإمام الكاظم (ع).

٦٧

والحديث يدل على أن الحاجب زرافة كان يعرف الصقر ويحترمه، وكان يميل الى الشيعة، وقيل يكتم تشيعه عن المتوكل، وقد روى مدحه في الهداية الكبرى.

3. لايبعد أن يكون الصقر من أولاد أبي دلف العجلي القائد المعروف الذي خرج على هارون الرشيد، ثم اتفق معه وصار والياً على بلاد الجبل من إيران، وأسس مدينة كرج. وقد كتبنا عنه في القبائل العراقية: قبيلة عِجل بن لُجَيْم.

وكان أبو دلف شيعياً متشدداً، وسكن قسم من أولاده في بغداد وآخرون في الحلة، وبقي قسم منهم في الجبل، ويشمل همدان وأصفهان وغيرهما، ومنهم ولاة في زمن الواثق والمتوكل.

4. سؤال الصقر عن معنى الأيام في الحديث النبوي، يدل على تعمقه في التشيع فقد كان مطروحاً وقتها موقع الأئمة (ع) التكويني، وتفسير قوله تعالى: ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) . « التوبة: 36 ».

وكان في عصره بوادر ظهور مذاهب الغلو في بغداد، وأشهرها مذهب الحلاج والشلمغاني، وبشار الشعيري الذي عرف أتباعه بالكرخية المخمسة، وهو مذهب مأخوذ من مذهب الحلول المجوسي، قالوا: « إن سلمان الفارسي والمقداد وعماراً وأبا ذر وعمر بن أمية الضمري، هم الموكلون بمصالح العالم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ». « خلاصة الأقوال للعلامة / 364 ».

٦٨

ولعل أول من أشاع ذلك في بغداد أحمد بن هلال الكرخي، الملعون على لسان الإمام المهدي (ع)، فسُمِّيَ أتباعه بالكرخية والكرخيين.

قال الطوسي في الغيبة / 414: « وكان الكرخيون مُخمسة، لايشك في ذلك أحدٌ من الشيعة، وقد كان أبو دلف يقول ذلك ويعترف به وجنون أبي دلف وحكايات فساد مذهبه، أكثر من أن تحصى، فلا نطول بذكرها الكتاب ها هنا ».

أقول: أبو دلف المغالي بعد الصقر بن أبي دلف بسنين كثيرة، وقد يكون من آل أبي دلف أو على اسمه. ولم يكن الصقر من أهل الغلو، وسؤاله عن معنى الأيام وتفسيرها ليس من الغلو، لأن الآية تدل على أن مخطط الكون مبني على عدة الشهور الإثني عشر، وعدة أوصياء الأنبياء (ع) ونقبائهم، فهو قانون المنظومة العددية في تكوين الكون، وفي هداية المجتمع. وبحثه خارج عن غرضنا.

2. واتهم المتوكل الإمام (ع) بجمع السلاح للثورة عليه:

وقد أحضره ليلاً فأدخلوه على المتوكل وهو يشرب الخمر وأراد منه أن يشرب معه فأبى، بل وعظه فبكى المتوكل، وأمر برفع مائدة الخمر من مجلس الخلافة!

وقد روت ذلك عامة المصادر، ومنها المسعودي في مروج الذهب « 4 / 10 » بسنده عن محمد بن عرفة النحوي قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد: « وقد كان سُعِيَ بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل، وقيل له: إن في منزله سلاحا وكتباً وغيرها من شيعته، فوجه إليه ليلًا من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله على غفلة ممن في داره فوجده في بيت وحده مغلق عليه، وعليه مَدْرَعة من شَعَرٍ، ولا بساط في البيت

٦٩

إلا الرمل والحصى، وعلى رأسه مَلْحَفة من الصوف متوجهاً إلى ربه، يترنم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد، فأُخذ على ما وجد عليه، وحُمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس، فلما رآه أعظمَه وأجلسه إلى جنبه، ولم يكن في منزله شئ مما قيل فيه، ولا حالة يتعلل عليه بها. فناوله المتوكل الكأس الذي في يده، فقال: يا أمير المؤمنين، ما خامر لحمي ودمي قط فأعْفِنِي منه، فأعفاه، وقال: أنشدني شعراً أستحسنه، فقال: إني لقليل الرواية للأشعار، فقال: لا بد أن تنشدني. فأنشده:

باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرسهمْ

غُلْبُ الرجالِ فما أغنتهمُ القُللُ

واستُنْزِلُوا بعد عِزٍّ عن مَعَاقِلهمْ

فأُودعُوا حُفَراً يا بِئسَ ما نَزلوا

ناداهُمُ صارخٌ من بعد ما قُبروا

أينَ الأسِرَّةُ والتيجانُ والحُلَلُ

أينَ الوجوهُ التي كانت مُنَعَّمَةً

من دونها تُضرُب الأستارُ والكِللُ

فأفصحَ القبرُ عنهمْ حين ساءلهمْ

تلكَ الوجوهُ عليها الدُّودُ يَقْتَتِل

قد طالَ ما أكلُوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلوا

وطالما عَمروا دوراً لتحصنهمْ

ففارقوا الدورَ والأهلينَ وانتقلوا

وطالما كنزوا الأموالَ وادَّخروا

فخلَّفُوها على الأعداء وارتحلوا

أضحت مَنازِلُهم قَفْراً مُعَطَّلَةً

وساكنوهَا إلى الأجْدَاثِ قد رَحَلُوا

قال: فأشفق كل من حضر على علي، وظنوا أن بادرة تبدر منه إليه، قال: والله لقد بكى المتوكل بكاء طويلًا حتى بلت دموعه لحيته، وبكى من حضره، ثم أمر

٧٠

برفع الشراب، ثم قال له: يا أبا الحسن، أعليك دَينٌ؟ قال: نعم أربعة آلاف دينار، فأمر بدفعها إليه، ورده إلى منزله من ساعته مكرماً ».

ورواها الذهبي في تاريخ الإسلام « 18 / 199 » ، فقال: « سُعِيَ بأبي الحسن إلى المتوكل وأن في منزله سلاحاً وكتباً من أهل قم، ومن نيته التوثب، فكَبَسَ بيته ليلاً فوجده في بيت عليه مدرعة صوف، متوجهاً إلى ربه يترنم بآيات، فأُخذ كهيئته إلى المتوكل وهويشرب ». واليافعي في مرآة الجنان: 2 / 119، والقلقشندي في معالم الخلافة: 1 / 232، والأبشيهي في المستطرف: 2 / 874، وغيرهم، وغيرهم .

3. وكان يقول: أعياني أمرُ ابن الرضا!

كان المتوكل ذات يوم غاضباً متوتراً، لأنه عجز أن يجرَّ الإمام الهادي (ع) الى شرب الخمر، ثم يُظهره للناس سكراناً لتسقط عقيدتهم به!

وهذه لجاجةٌ منه لأنه يعرف أن الإمام (ع) من العترة الذين طهرهم الله تعالى! روى في الكافي « 1 / 502 »: « حدثني أبوالطيب المثنى يعقوب بن ياسرقال: كان المتوكل يقول: ويحكم قد أعياني أمر ابن الرضا! أبى أن يشرب معي أوينادمني أوأجد منه فرصة في هذا! فقالوا له: فإن لم تجد منه، فهذا أخوه موسى قَصَّافٌ عَزَّاف، يأكل ويشرب ويتعشق. قال: إبعثوا إليه فجيئوا به حتى نُمَوِّهَ به على الناس ونقول ابن الرضا! فكتب إليه وأشخص مكرماً وتلقاه جميع بني هاشم والقواد والناس على أنه إذا وافى أقطعه قطيعة، وبنى له فيها، وحول الخمارين والقيان إليه، ووصله وبره وجعل له منزلاً سرياً، حتى يزوره هوفيه!

٧١

فلما وافى موسى تلقاه أبوالحسن (ع) في قنطرة وصيف، وهو موضع يتلقى فيه القادمون، فسلم عليه ووفاه حقه، ثم قال له: إن هذا الرجل قد أحضرك ليهتكك ويضع منك، فلا تقر له أنك شربت نبيذاً قط.

فقال له موسى: فإذا كان دعاني لهذا فما حيلتي؟ قال: فلا تضع من قدرك ولا تفعل، فإنما أراد هتكك، فأبى عليه، فكرر عليه. فلما رأى أنه لا يجيب قال: أما إن هذا مجلس لا تجمع أنت وهوعليه أبداً!

فأقام ثلاث سنين، يبكر كل يوم فيقال له: قد تشاغل اليوم فَرُحْ فَيروح. فيقال: قد سكر فبكِّر، فيبكر. فيقال: شرب دواءً! فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل، ولم يجتمع معه عليه ».

أقول: لما رأى الإمام (ع) إصرار أخيه على المنكر، وعلى إعطاء المتوكل مبرراً للطعن بإمامة العترة النبوية (ع)، دعاعليه بأن لا يلتقي بالمتوكل أبداً، وهو يعلم أن الله تعالى لا يردُّ له طلبة، فأخبره بأنه لن يجتمع مع صاحبه الخليفة الخمَّار أبداً!

هذا، وقد روي أن موسى المبرقع تاب بعد ذلك وأناب واستقام. وله ذرية كثيرة، وفيهم أبرار وعلماء أجلاء.

4. يتفاءل المتوكل بنفسه ويتشاءم بالإمام (ع):

« عن فارس بن حاتم بن ماهويه قال: بعث يوماً المتوكل إلى سيدنا أبي الحسن (ع) أن اركب وأخرج معنا إلى الصيد لنتبرك بك، فقال للرسول: قل له إني راكب، فلما خرج الرسول قال لنا: كذب، ما يريد إلا غير ما قال! قالا: قلنا: يا

٧٢

مولانا فما الذي يريد؟ قال: يظهر هذا القول فإن أصابه خير نسبه إلى ما يريد بنا ما يبعده من الله، وإن أصابه شرٌّ نسبه إلينا، وهويركب في هذا اليوم ويخرج إلى الصيد فيرد هو وجيشه على قنطرة على نهر، فيعبر سائر الجيش ولا تعبر دابته، فيرجع ويسقط من فرسه فتزل رجله وتتوهن يداه، ويمرض شهراً.

قال فارس: فركب سيدنا وسرنا في المركب معه والمتوكل يقول: أين ابن عمى المدني؟ فيقول له: سائرٌ يا أمير المؤمنين في الجيش، فيقول: ألحقوه بنا، ووردنا النهر والقنطرة، فعبر سائر الجيش وتشعثت القنطرة وتهدمت، ونحن نسير في أواخر الناس مع سيدنا، ورُسل المتوكل تحثُّه، فلما وردنا النهر والقنطرة امتنعت دابته أن تعبر، وعبر سائر الجيش ودوابنا، فاجتهدت رسل المتوكل عبور دابته فلم تعبر، وعثر المتوكل فلحقوا به، ورجع سيدنا، فلم يمض من النهار إلا ساعات حتى جاءنا الخبر أن المتوكل سقط عن دابته وزلت رجله وتوهنت يداه، وبقي عليلاً شهراً! وعتب على أبي الحسن (ع) قال: أبوالحسن (ع) إنما رجع عنا لئلا تصيبنا هذه السقطة فنشأم به، فقال أبو الحسن (ع): صدق الملعون ».

5. وكانت أم المتوكل تعتقد بالإمام (ع) وتنذر له:

روى في الكافي « 1 / 499 »: « عن إبراهيم بن محمد الطاهري قال: مرض المتوكل من خَرَّاجٍ خرج به وأشرف منه على الهلاك، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها. وقال له الفتح بن خاقان: لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنه لا يخلوأن يكون

٧٣

عنده صفة يفرج بها عنك، فبعث إليه ووصف له علته، فرد إليه الرسول بأن يؤخذ كُسْبُ الشاة « بالضم عُصارة الدهن » فيداف بماء ورد، فيوضع عليه.

فلما رجع الرسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله، فقال له الفتح: هو والله أعلم بما قال. وأحضر الكسب وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبشرت أمه بعافيته، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها. ثم استقل من علته فسعى به البطحائي العلوي، بأن أموالاً تحمل إليه وسلاحاً، فقال لسعيد الحاجب: أُهْجُمْ عليه بالليل وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح، واحمله إليَّ.

قال إبراهيم بن محمد: فقال لي سعيد الحاجب: صرت إلى داره بالليل ومعي سلم فصعدت السطح، فلما نزلت على بعض الدرج في الظلمة، لم أدر كيف أصل إلى الدار، فناداني: يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة، فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدته: عليه جبة صوف وقلنسوة منها وسجادة، على حصير بين يديه، فلم أشك أنه كان يصلي، فقال لي: دونك البيوت فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً، ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم أم المتوكل وكيساً مختوماً وقال لي: دونك المصلى، فرفعته فوجدت سيفاً في جفن غير ملبس.

فأخذت ذلك وصرت إليه، فلما نظر إلى خاتم أمه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه، فأخبرني بعض خدم الخاصة أنها قالت له: كنت قد نذرت في علتك لما آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه، وهذا خاتمي على الكيس، وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار، فضم إلى البدرة بدرة أخرى وأمرني بحمل ذلك إليه فحملته، ورددت السيف

٧٤

والكيسين وقلت له: يا سيدي عَزَّ عليَّ! فقال لي: وَسَيَعْلَمُ أَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَىَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ».

أقول: البطحائي العلوي، الذي افترى على الإمام (ع) هو مع الأسف: محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي (ع).

6. بنى المتوكل عاصمة جديدة بالإجبار:

من غطرسة المتوكل وبذخه: أنه قرر بناء عاصمة قرب سامراء، وسماها سامراء وأجبر الناس على أن يبنوا بيوتهم فيها، وكان يعطيهم نفقاتها، أو قسماً منها.

فقال الإمام الهادي (ع) كما في الهداية / 320: « إن هذا الطاغية يبني مدينة يقال لها سامرا، يكون حتفه فيها على يد ابنه المسمى بالمنتصر، وأعوانه عليه الترك ...

ثم كان من أمر بناء المتوكل الجعفري وما أمر به بني هاشم وغيرهم من الأبنية هناك ما تحدث به، ووجه إلى أبي الحسن (ع) بثلاثين ألف درهم، وأمره أن يستعين بها على بناء دار، وركب المتوكل يطوف على الأبنية، فنظر إلى دار أبي الحسن (ع) لم ترتفع إلا قليلاً، فأنكر ذلك وقال لعبيد الله بن يحيى بن خاقان: عليَّ وعليَّ يميناً وأكدها: لئن ركبت ولم ترتفع دار أبي الحسن (ع) لأضربنَّ عنقه، فقال له عبيد الله: يا أمير المؤمنين لعله في إضاقة، فأمر له بعشرين ألف درهم وجه بها إليه مع أحمد ابنه، وقال له: تحدثه بما جرى، فصار إليه وأخبره بما جرى فقال: إنْ رَكِب فليفعل ذلك! ورجع أحمد إلى أبيه عبيد الله فعرفه ذلك، فقال عبيد الله: ليس والله يركب »! أي قال رئيس الوزراء: إن المتوكل لن يركب، لأنه يعرف أن الإمام (ع) يتكلم بإلهام من الله تعالى!

٧٥

7. حاول المتوكل إذلال الإمام (ع) فدعا عليه:

« عن زرافة حاجب المتوكل وكان شيعياً أنه قال: كان المتوكل لحظوة الفتح بن خاقان عنده وقربه منه دون الناس جميعاً، ودون ولده وأهله، أراد أن يبين موضعه عندهم. فأمر جميع مملكته من الأشراف من أهله وغيرهم، والوزراء والأمراء والقواد وسائر العساكر ووجوه الناس، أن يَزَّينوا بأحسن التزيين، ويظهروا في أفخر عُدَدهم وذخائرهم، ويَخرجوا مشاة بين يديه، وأن لا يَركب أحد إلا هو والفتح بن خاقان خاصة بسر من رأى!

ومشى الناس بين أيديهما على مراتبهم رَجَّالَة، وكان يوماً قائظاً شديد الحر.

وأخرجوا في جملة الأشراف أبا الحسن علي بن محمد (ع) وشقَّ ما لقيه من الحر والزحمة. قال زرافة: فأقبلت إليه وقلت له: يا سيدي يعز والله عليَّ ما تلقى من هذه الطغاة، وما قد تكلفته من المشقة، وأخذت بيده فتوكأ عليَّ وقال: يا زرافة ما ناقة صالح عند الله بأكرم مني، أوقال بأعظم قدراً مني، ولم أزل أسائله وأستفيد منه، وأحادثه إلى أن نزل المتوكل من الركوب وأمر الناس بالإنصراف. فقدمت إليهم دوابهم فركبوا إلى منازلهم، وقدمت بغلة له فركبها وركبت معه إلى داره فنزل وودعته وانصرفت إلى داري، ولوُلدي مؤدبٌ يتشيع من أهل العلم والفضل، وكانت لي عادةٌ بإحضاره عند الطعام، فحضر عند ذلك وتجارينا الحديث، وما جرى من ركوب المتوكل والفتح، ومشي الأشراف وذوي الأقدار بين أيديهما، وذكرت له ما شاهدته من أبي الحسن علي بن محمد

٧٦

وما سمعته من قوله: ما ناقة صالح عند الله بأعظم قدراً مني. وكان المؤدب يأكل معي فرفع يده وقال: بالله إنك سمعت هذا اللفظ منه؟ فقلت له: والله إني سمعته يقوله، فقال لي: إعلم أن المتوكل لا يبقى في مملكته أكثر من ثلاثة أيام ويهلك! فانظر في أمرك وأحرز ما تريد إحرازه وتأهب لأمرك كي لا يفجؤكم هلاك هذا الرجل فتهلك أموالكم بحادثة تحدث أوسبب يجري.

فقلت له: من أين لك ذلك؟ فقال: أما قرأت القرآن في قصة صالح والناقة وقوله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ. ولا يجوز أن تبطل قول الإمام (ع)! قال زرافة، فوالله ما جاء اليوم الثالث حتى هجم المنتصر ومعه بغا ووصيف والأتراك على المتوكل فقتلوه وقطعوه، والفتح بن خاقان جميعاً، قطعاً حتى لم يعرف أحدهما من الآخر، وأزال الله نعمته ومملكته!

فلقيت الإمام أبا الحسن (ع) بعد ذلك وعرفته ما جرى مع المؤدب وما قاله، فقال: صدق إنه لما بلغ مني الجهد رجعت إلى كنوز نتوارثها من آبائنا هي أعز من الحصون والسلاح والجنن، وهودعاء المظلوم على الظالم، فدعوت به عليه فأهلكه الله ». « مهج الدعوات / 267 ».

وفي الخرائج: 1 / 402: ذكر زرافة حديثه مع مؤدبه وقال: « فغضبت عليه وشتمته وطردته من بين يدي، فخرج. فلما خلوت بنفسي تفكرت وقلت: ما يضرني أن آخذ بالحزم، فإن كان من هذا شئ كنت قد أخذت بالحزم، وإن لم يكن لم يضرني ذلك، قال: فركبت إلى دار المتوكل فأخرجت كل ما كان لي فيها، وفرقت كل ما

٧٧

كان في داري إلى عند أقوام أثق بهم، ولم أترك في داري إلا حصيراً أقعد عليه. فلما كانت الليلة الرابعة قتل المتوكل وسلمت أنا ومالي، فتشيعت عند ذلك وصرت إليه، ولزمت خدمته، وسألته أن يدعولي وتوليته حق الولاية ».

وفي الثاقب / 539: « سمعت من سعيد الصغير الحاجب قال: دخلت على سعيد بن صالح الحاجب فقلت: يا أبا عثمان قد صرت من أصحابك، وكان سعيد يتشيع. فقال: هيهات! قلت: بلى والله. فقال: وكيف ذلك؟ قلت: بعثني المتوكل وأمرني أن أكبس على علي بن محمد بن الرضا فأنظر ما فعل، ففعلت ذلك فوجدته يصلي فبقيت قائماً حتى فرغ، فلما انفتل من صلاته أقبل عليَّ وقال: يا سعيد، لا يكف عني جعفر أي المتوكل حتى يقطع إرباً إرباً! إذهب واعزب، وأشار بيده الشريفة فخرجت مرعوباً ودخلني من هيبته ما لا أحسن أن أصفه! فلما رجعت إلى المتوكل سمعت الصيحة والواعية، فسألت عنه فقيل: قتل المتوكل، فرجعنا وقلتُ بها ».

أقول: كذب سعيد، فقد كان جلوازاً سيَّافاً عند بني العباس، ثم ادعى التشيع!

وفي الخرائج: 1 / 412: « حدثنا ابن أرومة قال: خرجت أيام المتوكل إلى سر من رأى فدخلت على سعيد الحاجب ودفع المتوكل أبا الحسن إليه ليقتله، فلما دخلت عليه، قال: تحب أن تنظر إلى إلهك؟ قلت: سبحان الله إلهي لا تدركه الأبصار. قال: هذا الذي تزعمون أنه إمامكم! قلت: ما أكره ذلك. قال: قد أمرت بقتله وأنا فاعله غداً وعنده صاحب البريد فإذا خرج فادخل إليه.

٧٨

فلم ألبث أن خرج قال: أدخل، فدخلت الدار التي كان فيها محبوساً فإذا هو ذا بحياله قبر يحفر، فدخلت وسلمت وبكيت بكاءً شديداً، قال: ما يبكيك؟ قلت: لما أرى. قال: لا تبك لذلك فإنه لا يتم لهم ذلك. فسكن ما كان بي فقال: إنه لا يلبث أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه الذي رأيته. قال: فوالله ما مضى غير يومين حتى قتل وقتل صاحبه ».

8. أظهر الله قدرة وليه (ع) فخاف الطاغية:

روى الخصيبي في الهداية الكبرى / 322: « عن الحسن بن مسعود وعلي وعبيد الله الحسني، قال: دخلنا على سيدنا أبي الحسن (ع) بسامرا وبين يديه أحمد بن الخصيب ومحمد وإبراهيم الخياط، وعيونهم تفيض من الدمع، فأشار الينا (ع) بالجلوس فجلسنا وقال: هل علمتم ما علمه إخوانكم؟ فقلنا: حدثنا منه يا سيدنا ذكراً. قال: نعم، هذا الطاغي قال مسمعاً لحفدته وأهل مملكته: تقول شيعتك الرافضة إن لك قدرة، والقدرة لا تكون إلا لله، فهل تستطيع إن أردت بك سوءً أن تدفعه؟ فقلت له: وإن يمسك الله بسوء فلا كاشف له إلا هو.

فأطرق ثم قال: إنك لتروي لكم قدرة دوننا، ونحن أحق به منكم، لأننا خلفاء وأنتم رعيتنا. فأمسكت عن جوابه، لأنه أراد أن يبين جبره بي، فنهضت فقال: لتقعدن وهو مغضب، فخالفت أمره وخرجت، فأشار إلى من حوله: الآن خذوه، فلم تصل أيديهم إليَّ وأمسكها الله عني! فصاح: الآن قد أريتنا قدرتك والآن نريك قدرتنا، فلم يستتم كلامه حتى زلزلت الأرض ورجفت!

٧٩

فسقط لوجهه، وخرجتُ فقلت: في غدٍ الذي يكون له هنا قدرة يكون عليه الحكم لا له. فبكينا على إمهال الله له وتجبره علينا وطغيانه.

فلما كان من غد ذلك اليوم، فأذن لنا فدخلنا فقال: هذا ولينا زرافة يقول إنه قد أخرج سيفاً مسموماً من الشفرتين، وأمره أن يرسل إليَّ فإذا حضرت مجلسه أخلى زرافة لأمته مني ودخل إلي بالسيف ليقتلني به، ولن يقدر على ذلك.

فقلنا: يا مولانا إجعل لنا من الغم فرجاً. فقال: أنا راكب إليه فإذا رجعت فاسألوا زرافة عما يرى. قال: وجاءته الرسل من دار المتوكل، فركب وهويقول: إن كيد الشيطان كان ضعيفاً. ولم نزل نرقب رجوعه إلى أن رجع ومضينا إلى زرافة فدخلنا عليه في حجرة خلوته فوجدناه منفرداً بها واضعاً خده على الأرض يبكي ويشكر الله مولاه ويستقيله، فما جلس حتى أتينا إليه فقال لنا: أجلسوا يا إخواني حتى أحدثكم بما كان من هذا الطاغي، ومن مولاي أبي الحسن (ع)، فقلنا له: سُرَّنَا سَرَّك الله، فقال: إنه أخرج إلي سيفاً مسموم الشفرتين وأمرني ليرسلني إلى مولاي أبي الحسن إذا خلا مجلسه فلا يكون فيه ثالث غيري وأعلومولاي بالسيف فأقتله. فانتهيت إلى ما خرج به أمره إليَّ فلما ورد مولاي للدار وقفت مشارفاً فاعلم ما يأمر به، وقد أخليت المجلس وأبطأت، فبعث إلي هذا الطاغي خادماً يقول إمض ويلك ما آمرك به. فأخذت السيف بيدي ودخلت، فلما صرت في صحن الدار ورآني مولاي فركل برجله وسط المجلس فانفجرت الأرض، وظهر منها ثعبان عظيم فاتحٌ فاه، لوابتلع سامرا ومن فيها لكان في فيه

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394