آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء ١

آلاء الرحمن في تفسير القرآن15%

آلاء الرحمن في تفسير القرآن مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 394

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54013 / تحميل: 5638
الحجم الحجم الحجم
آلاء الرحمن في تفسير القرآن

آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

أبى جوده لا البخل واستعجلت به

نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله

نعم لم يوافقهم الزمخشري على زعمهم لزيادة (لا) في قوله تعالى في سورة الأنعام ١٠٩( وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ ) وقوله تعالى فيها ١٥٢( قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ألّا تُشْرِكُوا ) . ومن شواهد ذلك انك سمعت كلام الكشاف في دخول لا النافية على القسم واستفاضته في كلامهم وأشعارهم وما ذكره من الشواهد في الشعر ومع ذلك قال في تفسير سورة النساء في قوله تعالى( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ) معناه فو ربك كقوله تعالى( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ ) و «لا» مزيدة لتأكيد معنى القسم كما زيدت في( لِئَلَّا يَعْلَمَ ) لتوكيد وجوب العلم انتهى فانظر فيه واعتبر وقل أين ما ذكرته من الاستفاضة واين مضى الاستشهاد بالشعر. ولو لا الحمل على التحامل لذكرنا عن الكشاف وغيره اكثر من ذلك وفي ذلك كفاية لأولي الألباب : ومن ذلك ما نقله السيد الرضي في حقائق التأويل من قول بعضهم بزيادة الواو في قوله تعالى في سورة آل عمران ٨٥( وَلَوِ افْتَدى بِهِ ) . وابراهيم ٥٢( وَلِيُنْذَرُوا بِهِ ) . والزمر ٧٣( وَفُتِحَتْ أَبْوابُها ) . أقول ولمثل هذه الواو في القرآن موارد وهي فيها كلها واو العطف على محذوف يدل عليه سياق القرآن بكرامة نهجه وبراعة أسلوبه في مناحي البلاغة ويجلوه المقام باشراق تلك البراعة بأجلى المظاهر كما سيأتي التنبيه عليه في موارده ان شاء الله. ومن شواهد ذلك مما جناه القصور ان جماعة وقفوا عن الوصول في بعض ما في القرآن الكريم من فرائد البراعة وفوائد البلاغة حتى صار يلوح من ترددهم ان ذلك مخالف لقواعد العربية فاغتنم اعداء القرآن من ذلك فرصة الاعتراض وقد ساعد التوفيق على التعرض لتلك الاعتراضات وبيان خطأها بإيضاح براعة القرآن الكريم في مواردها بأسرار البلاغة ولباب الأدب العربي وبواهر اساليبه وقد كتب شيء من ذلك في الجزء الأول من كتاب الهدى وفي خصوص المقدمة الثالثة عشرة من صفحة ٣٢١ حتى آخره ومن شواهد ذلك ان كثيرا من مجازات القرآن الكريم واستعاراته للواضحة العلاقة والفائقة في لحاظ التشبيه ومرمى الإشارة والمؤيدة بأحكام العقل ومحكمات الكتاب هذه الاستعارات التي كانت من ازهار الأدب العربي الغريزي حين ما كان روضه زاهيا زاهرا عادت بعد ما ذوى خميله معركة للآراء وهدفا للجحود وإن حامت عنها محكمات الكتاب ونصرتها البراهين العقلية في تقديس الله وتفرده بالكمال. فمن ذلك ما في القرآن من نسبة الإضلال إلى الله جل اسمه في عدة آيات منها السابعة والعشرون

٤١

من سورة الرعد والثانية والثلاثون من سورة إبراهيم ونحوهما. فإن التعبير في ذلك بالإضلال مجاز فائق في الحسن يمثل ببراعته حاجة الإنسان مع نفسه الأمارة إلى لطف الله به وعنايته في توفيقه ويشير إلى ما في اللطف والتوفيق من الأثر الشريف الكبير في النعمة على الإنسان وينبه إلى ان خذلان الله للإنسان المتمرد برفع العناية في التوفيق وايكاله إلى نفسه شبيه بإضلاله في قوة الأثر. كل ذلك لأجل التنويه والامتنان بنعمة الله في توفيقه لعباده ولأجل هذه المزايا الفائقة استعير الإضلال لخذلان الله لعبده المتمرد وإيكاله إلى نفسه والعياذ بالله

ولقد كان يكفي في القرينة على التجوز في لفظ الإضلال هنا وصرفه عن مقتضى وضعه ما في القرآن من المحكمات مثل قوله تعالى في سورة الأعراف ٢٧( إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) وفي سورة النحل ٩٢( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) فإن تمجد الله بذلك كاف في كونه قرينة على ان الإضلال المنسوب لله تعالى شأنه إنما هو مجاز. وإن مجده والطافه جلت آلاؤه تعين المراد منه وهو ما ذكرناه. وكيف يكون الإضلال المنسوب إلى الله على حقيقته مع أن الله يذم الضالين ويعذبهم على ضلالهم ويوبخهم بقوله تعالى( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ. لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ. لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ. فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ. فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا ) وتمام الكلام في الكتب الكلامية. وقد ذكر شيء منه في الجزء الثالث من الرحلة المدرسية صفحة ٢٩ إلى ٤٢ : ومن ذلك ان الفرقة الظاهرية لم تلتفت إلى المجاز ووجهه الواضح في قوله تعالى( الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) ولم يصرفهم عن المعاني الحقيقة لهذه الألفاظ ضرورة العلم من القرآن والبراهين القطعية في ان الله منزه عن الجسم والأين والمكان لكي يعرفوا ان المراد بالعرش هنا هو شأن القدرة والجلال واستيلاء السلطان على الملكوت في الأزل والأبد. ولأجل إحضار هذا الشأن العظيم في أذهاننا القاصرة وملأ قلوبنا بعظمته مثل القرآن لتصورنا المحدود بتشبيهه بما نعرفه ونعرف آثاره من العرش الجسماني للملك الأرضي الذي بالصعود عليه صعودا زمنيا ينفذ سلطانه وتعم قدرته. ومن آثار الظاهريين العجيبة ما أخرجه ابن مردويه والخطيب في تاريخه وابن منصور في سننه من مسند عمر عن النبي (ص) في قوله تعالى( عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ) قال حتى يسمع له اطيط الرحل. وانظر إلى كنز العمال الجزء الأول صفحة ٢٢٦ وكذا منتخب الكنز واطيط

٤٢

الرحل والقتب صوته أي صوت أخشابه من ضغط ثقل الراكب والحمل وسيأتي شبيه ذلك في تفسير آية الكرسي. وفي ميزان الذهبي من أنكر ما جاء عن مجاهد في التفسير في قوله( عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) قال يجلسه معه على العرش. وفي شواهد الحق كتاب الشيخ يوسف النبهاني صفحة ١٣٠ قال ومن كتب ابن تيمية كتاب العرش قال في كشف الظنون ذكر فيه إن الله يجلس على العرش وقد أخلى فيه مكانا يقعد معه فيه رسول الله (ص) كما ذكر ذلك أبو حيان فى قوله تعالى( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ) وقال يعني أبا حيان قرأت في كتاب العرش لأحمد بن تيمية بخطه ما صورته ما ذكرناه ونقلها كشف الظنون من طريق آخر عن السبكي انتهى. وعلى هذا الوتر ضرب محمد بن عبد الوهاب في رسالته المطبوعة في ضمن مجموعة فيها عدة من الرسائل طبعت في مكّة فانظر إلى صفحة ١٥٥ و ١٥٦ من المجموعة وكذا عبد الرحمن بن حسن الوهابي في صفحة ٣٦ من المجموعة المذكورة

المقام الثالث

جاء في القرآن شيء كثير من الألفاظ العامة التي يراد بها الخاص أو التي هي نص في خاص باعتبار نزولها في شأنه وغير ذلك مما كان معروفا في عصر نزوله ثمّ صارت أسباب الخفاء تختلسه شيئا فشيئا وتجعل ضده كما في خرافة الغرانيق وآية التمني.

والمفزع في تفسير ذلك هو ما يحصل به العلم من إجماع المسلمين أو اتفاقهم في الرواية للتفسير. أو في الرواية عن الرسول (ص) في الدلالة على من يفزع إليه بعده في تفسير كتاب الله وذلك كحديث الثقلين المتواتر القطعي الذي ذكره إخواننا من أهل السنة في كتبهم وأوردوا من روايته عن الصحابة الذين سمعوه من رسول الله (ص) اكثر من ثلاثين صحابيا وبقي على ذلك متواترا في كل عصر إلى العصر الحاضر وهو قوله (ص) «إني تارك فيكم الثقلين أو الخليفتين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلّوا أبدا فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» وان لفظ العترة والأحاديث الكثيرة الصحيحة الواردة في تعيين أهل البيت يعينان المراد من أهل البيت فضلا عن دلالة العرف والمحاورات. وقوله (ص) ما ان تمسكتم بهما لن تضلّوا ابدا مع قوله (ص) فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يعينان الأئمّة الاثني عشر المعصومين من عترة الرسول وذريته. ومن دلائل ذلك اجماع المسلمين على ان من عدا هؤلاء ليس معصوما ولا يتصف بانه مثل كتاب الله لا يضل من تمسك به

٤٣

وهاك أسماء الصحابة السامعين لهذا الحديث عن رسول الله (١) علي (ع) امير المؤمنين (٢) عبد الله بن عباس (٣) أبو ذر الغفاري (٤) جابر الأنصاري (٥) عبد الله بن عمر (٦) حذيفة بن أسيد (٧) زيد بن أرقم (٨) عبد الرحمن بن عوف (٩) ضميرة الأسلمي (١٠) عاصم ابن ليلى (١١) أبو رافع (١٢) أبو هريرة (١٣) عبد الله بن حنطب (١٤) زيد بن ثابت (١٥) أمّ سلمة (١٦) ام هاني أخت امير المؤمنين علي (ع) (١٧) خزيمة بن ثابت (١٨) سهل بن سعد (١٩) عدي بن حاتم (٢٠) عقبة بن عامر (٢١) أبو أيوب الأنصاري (٢٢) أبو سعيد الخدري (٢٣) أبو شريح الخزاعي (٢٤) أبو قدامة الأنصاري (٢٥) أبو ليلى (٢٦) أبو الهيثم بن التيهان. وهؤلاء الذين ذكرنا أسماءهم من بعد ام هاني قد رواه كل منهم منفردا كمن تقدمه وقاموا في رحبة الكوفة مع سبعة من قريش فشهدوا انهم سمعوه من رسول الله فهؤلاء ثلاثة وثلاثون. ورواه أبو نعيم الأصبهاني في كتاب منقبة المطهرين مسندا عن جبير بن مطعم وأسنده أيضا عن أنس بن مالك وأسنده عن البراء بن عازب ورواه موفق بن أحمد اخطب خوارزم عن عمرو بن العاص. وقلّ ما يخلو عن رواية هذا الحديث مسند أو جامع أو كتاب في الفضائل لأهل السنة من أول ما اخرج الحديث من الحفظ وصدور الحفاظ إلى صحف المحدّثين ولا زال يروي فيها عن صحابي واحد أو أكثر وربما روي في واحد منها عن أكثر من عشرين صحابيا اما مجملا كما في الصواعق واما مسندا مفصلا كما في كتب السخاوي والسيوطي والسمهودي وغيرهم ومن أراد الاطلاع فليرجع إلى الجزأين المكتوبين في أسانيد هذا الحديث من كتاب العبقات

ورواه الإمامية في كتبهم بأسانيدهم المتكررة عن الباقر (ع) والرضا (ع) والكاظم (ع) والصادق (ع) عن آبائهم (ع) عن رسول الله (ص). وبالأسانيد الأخر عن أمير المؤمنين (ع) وعمر وأبي ذر وجابر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وحذيفة بن أسيد وأبي هريرة وغيرهم عن رسول الله (ص) كما في غاية المرام وتفسير البرهان للسيد هاشم البحراني طاب ثراه وغير ذلك.

ولعلك تقول: إنَّ البخاري لم يذكر هذا الحديث في جامعه فاعرف إذن أنَّ المحدّثين لا يلتفتون إلى استفاضة الحديث وتواتره وافادته للعلم من هذه الجهة كما هو شأن العالم المحقّق في حجّته وبحثه عن الحقائق. وإنمّا المهم للمحدّث والموضوع في فنه هو الحديث الآحادي

٤٤

الذي يأخذه بما عندهم في طرق الأخذ من رجل عن آخر على شروط يقررها في السند فكأن البخاري لم يحصل شرطه في سند من أسانيد الحديث الآحادية ولكن الحاكم في مستدركه استدرك عليه وعلى مسلم حديث زيد بن أرقم من طريق حبيب عن أبي الطفيل قال لما رجع رسول الله (ص) عن حجّة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن فقال (ص): إني قد دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ثم قال إن اللهعزوجل مولاي وأنا مولى كل مؤمن ثم أخذ بيد عليّ فقال من كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بطوله. ومن طريق مسلم بن صبيح عنه قال قال رسول الله (ص) إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله واهل بيتي وانهما لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. وقال الحاكم أيضا هذا صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه قلت: ولم أجد من تعقب الحاكم على استدراكه بهذين الحديثين فيكون ذلك موافقة ممن عاصر الحاكم ومن بعده على الإستدراك وصحة الحديثين على شرط البخاري ومسلم. ومن طريق سلمة بن كهيل عن أبي الطفيل أنّه سمع زيد بن أرقم يقول وساق نحو الحديث الأول وفيه إني تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن اتّبعتموهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي الحديث وتعقّبه الذهبي بأن في طريقه محمد بن سلمة وقد وهاه السعدي وذكر له ابن عدي أحاديث منكرة. ومراده من السعدي هو إبراهيم بن يعقوب السعدي الجوزجاني كما ذكره في ترجمة محمد بن سلمة. قلت: وما ادراك ما السعدي فإنه معروف بالنصب وفي الميزان عن ابن عدي كان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في التحامل على علي (ع) وقد قال في إسماعيل ابن أبان الوراق شيخ البخاري أنّه كان مائلا عن الحق قال ابن عدي ولم يكن يكذب الجوزجاني يريد به ما عليه الكوفيون من التشيع إذن فاعرف السبب في تحامل الجوزجاني وابن عدي على محمد بن سلمة. ولعمر العلم الحق أنَّ الحديث بتواتره في غنى عن التعرض له في جامع البخاري ـ هذا وأما الرجوع في التفسير وأسباب النزول إلى أمثال عكرمة ومجاهد وعطا وضحّاك كما ملئت كتب التفسير بأقوالهم المرسلة فهو مما لا يعذر فيه المسلم في أمر دينه فيما بينه وبين الله ولا تقوم به الحجّة. لأن تلك الأقوال إن كانت روايات فهي مراسيل مقطوعة ولا يكون حجّة من المسانيد إلّا ما ابتنى على قواعد العلم الديني الرصينة ولو لم يكن

٤٥

من الصوارف عنهم إلّا ما ذكر في كتب الرجال لأهل السنة لكفى. وإن الجرح مقدم على التعديل إذا تعارضا. أما عكرمة فقد كثر فيه الطعن بأنه كذاب غير ثقة ويرى رأي الخوارج وغير ذلك. وقيل للأعمش ما بال تفسير مجاهد مخالف أو شيء نحوه قال أخذه من أهل الكتاب. ومما جاء عن مجاهد من المنكرات في قوله تعالى( عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) قال يجلسه معه على العرش. وأما عطا فقد قال أحمد ليس في المراسيل أضعف من مراسيل الحسن وعطا كانا يأخذان عن كل أحد وقال يحيى بن القطان مرسلات مجاهد أحب إلي من مرسلات عطا بكثير، كان عطا يأخذ من كل ضرب وروي انه تركه ابن جريح وقيس بن سعد. وأما الحسن البصري فقد قيل انه يدلس وسمعت كلام أحمد فيه وفي عطا. وأما الضحّاك ابن مزاحم المفسر فعن يحيى بن سعيد قوله: الضحّاك ضعيف عندنا وكان يروي عن ابن عباس وأنكر ملاقاته له حتى قيل انه ما رآه قطّ. وأما قتادة فقد ذكروا انه مدلس. وأما مقاتل بن سليمان فقد قال فيه وكيع: كان كذّابا. وقال النسائي: كان مقاتل يكذب وعن يحيى قال: حديثه ليس بشيء وقال ابن حيان: كان يأخذ من اليهود والنصارى من علم القرآن الذي يوافق كتبهم. وأما مقاتل بن حيان فعن وكيع انه ينسب إلى الكذب وعن ابن معين ضعيف وعن أحمد بن حنبل لا يعبأ بمقاتل بن حيان ولا بابن سليمان فانظر إلى ميزان الذهبي من كتب الرجال أقلا ودع عنك أنَّ أصول العلم عندنا تأبى من الركون إلى روايتهم فضلا عن أقوالهم إلّا في مقام الجدل أو التأييد أو حصول الاستفاضة والتوافق في الحديث.

هذا وإن كثيرا من كتب التفسير قد لهج بأكذوبة شنيعة وهي ما زعموا من أن الرسول (ص) قرأ سورة النجم في مكّة في محفل من المشركين حتى إذا قرأ قوله تعالى( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) قال (ص) في تمجيد هذه الأوثان وحاشا قدسه «تلك الغرانيق الأولى منها الشفاعة ترتجى» فأخبره جبرائيل بما قال فاغتمّ لذلك فنزل عليه في تلك الليلة أية تسلية ولكن بماذا تسليه بزعمهم تسليه بما يسلب الثقة من كل نبي وكل رسول في قراءته وتبليغه. والآية هي قوله تعالى في سورة الحج ٥١( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) فقالوا معنى ذلك إذا تكلم أو حدث أو تلا وقرأ ادخل الشيطان ضلاله في ذلك.

إذن فما حال الأمم المساكين وما حال هداهم مع هذا الإدخال الذي لم يسلم بزعمهم

٤٦

منه نبي أو رسول ولم يسلم منه شيء من كلامهم أو حديثهم أو تلاوتهم على ما يزعمون «ما هكذا تورد يا سعد الإبل» أفلا صدهم من ذلك اقلا أنَّ سورة الحج مدنية أمر فيها بالأذان بالحج ٢٧ واذن فيها بالقتال ٤٠ وأمر فيها بالجهاد ٧٧ ولم يكن هذا الأمر وهذا الاذن إلّا بعد الهجرة بأعوام. وإنّ الذي بين ذلك وبين الوقت الذي يجعلونه لخرافة الغرانيق وخرافة نزول الآية هذه في ليلتها يكون اكثر من عشرة أعوام وقد ذكر شيء من الكلام في ذلك في الجزء الأول من كتاب الهدى صفحة ١٢٣ ـ ١٢٩ فلا بأس بمراجعته

ومن ذلك أنَّ جملة من المفسرين والقرّاء يترددون في الوقف على بعض الكلمات لترددهم في ارتباطها بما بعدها أو بما قبلها. فلم يراعوا في ذلك مناسبات الكلام وجودته والحاجة إلى التقدير أو حسنه ومن ذلك كلمة «فيه» من قوله تعالى في أول سورة البقرة( ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) زعما منهم انها تكون خبرا مقدما لقوله تعالى( هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) ويقدرون مثلها لقوله تعالى( لا رَيْبَ ) مع ان الوقف على لا ريب يجعل الكلام قلقا مبتورا بنحو لا يجدي فيه التقدير. ومع انه لا حاجة لجعل الظرف خبرا مقدما لهدى وجملته تكون خبرا ثانيا لذلك الكتاب. فإن كلمة هدى هي بنفسها تكون خبرا وهذا هو الأنسب بكرامة الكتاب المجيد فقد قال الله انه( هُدىً وَرَحْمَةً ) كما في الأعراف ٥٠ والنحل ٦٦ و ٩١ وغير ذلك وإن القرآن( هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ) و( هُدىً لِلنَّاسِ ) و( هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) و( لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ ) كما في سورة البقرة ٩١ و ١٨١ والنمل ٢٩ وحم السجدة ٤٤

ومن ذلك كلمة «هذا» من قوله تعالى في سورة (يس) من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن. فكأنهم لا يلتفتون إلى أنّ المقام غني عن وصف المرقد باسم الإشارة حتى للإيضاح لأنهم يقولون ذلك عند خروجهم من الأجداث ومراقد القبور. وان إخراج اسم الإشارة عن كونه مبتدءا وما وعدنا خبره ليخرج الكلام عن الانتظام ويجعل صورته الحسنى مشوشة هي للنفي اقرب منها للاثبات وهو ضد المعنى الذي سيقت لبيانه الآية. هذا وأما الذين تهاجموا بآرائهم على تفسير القرآن بما يسمونه تفسير الباطن ركونا بآرائهم إلى مزاعم المكاشفة والوصول ونزعات التفلسف أو التجدد أو حب الانفراد والشهرة بالقول الجديد وإن كان فيها ما فيها فقد آثروا متاهة الرأي على النهج السويّ عن أصول العلم وفارقوه من أول خطوة

٤٧

المقام الرابع

ان القرآن الكريم كثيرا ما ينسب التعقل والإدراك والاهتداء ونحو ذلك إلى القلب والمتجددون ينسبون الإدراك وآثاره إلى الدماغ ويعتمدون في حدسهم في ذلك على انهم رأوا تلافيف الدماغ اي عقده في الإنسان اكثر منها في سائر الحيوانات وان الأعصاب الجمجمية المتصلة بظاهر الدماغ والمنتشرة أليافها في باطنه مرتبطة بأعصاب آلات الحس كالأذن والعين وغيرهما : ولكن مباحث التشريح تقف دون حدسهم هذا. فإن المجموع العصبي والنخاع الممتد إلى الفقرة القطنية الأولى التي هي تحت الفقرة الثانية عشرة من الظهر هذه كلها كمخ الدماغ في كونها مكوّنة من الجوهر السنجابي والجوهر الأبيض فلا ميزة لتكوين الدماغ لكي يحدس امتيازه عنها بكونه كرسي الإدراك والتعقل دونها. وإن الأعصاب كما ترتبط بآلات الحس ترتبط أيضا بالقلب والكبد والمعدة بل حتى الأسنان وأعضاء البدن إلى أنامل اليدين والرجلين. وأما ما يتراءى من أن صغر الدماغ يقارن ضعف الإدراك والتعقل إلى أن يصل الحال إلى البله فلا يدلّ على مدّعاهم بل يجوز أن يكون خروجه عن المقدار الطبيعي للإنسان ككثير من العوارض البدنية موجبا لضعف الجزء الآخر العاقل في أداء وظيفته. وأما التفاوت بين أدمغة الرجال وبين أدمغة النساء فهو جار في قلوب الصنفين أيضا. هذا مع أن الدماغ يزيد نموه في زمان قلة القوة العاقلة إلى السنة السابعة ثمّ ينمو بطيئا إلى الرابعة عشرة ويتقهقر نموه إلى العشرين ومنها إلى الثلاثين ويقف عند الأربعين ثمّ ينقص وزنه في كل عشر سنين نحو اوقية مع أنّ الإنسان من العشرين فما زاد يزداد في قوة التعقل ويترقى في كونه أقوى وأحسن تعقلا وإدراكا. والقلب لا يزال يأخذ بالنمو والزيادة إلى الأدوار الأخيرة من الحياة ولا سيما في الذكور. وهذا أنسب بأزمنة حسن التعقل وجودة الإدراك. مضافا إلى أنّ القلب هو مبدء الحركة الحيوية المديرة للدورة الدموية وأسباب الحياة والنمو وتوزيع القوى على جميع أجزاء البدن فهو أنسب من غيره بأن تستخدمه الروح الحيوانية في أعمالها العقلية. وأيضا انّ بناء القلب مؤلف من حلفات ليفية والياف عضلية وكلها على نوع مدهش من التغمم والتصالب والتشبك بحيث يقال انّ البناء العضلي للقلب لم يعرف كما ينبغي إلى الآن. وانّ بناء القلب وأليافه العضلية أكثر وأكثر تضمما وتصالبا وتشبكا من البناء الذي امتازت به عضلات الحياة الحيوانية الحساسة للإرادة التي هي من أعمال النفس والممتثلة في أعمالها لأمرها. وهذا كله يشير إلى

٤٨

أنّ لعضلية القلب وميزة بنائه عمل نفسي كبير فائق يفوق ما ذكر لعضلات الحياة الحيوانية وأنسب ما يكون بذلك هو الإدراك والتعقل. نعم يمكن أن يكون الدماغ محفظة لصور المدركات التي يستودعها القلب إياه.

وخلاصة الحجّة في ذلك هو ان وجوه الإعجاز في القرآن الكريم حجّة على انه منزل من الله خالق القلب والدماغ بعلمه وحكمته. وقد اخبر بأنّ محلّ الإدراك والتعقل وآثاره هو القلب خاتمة من جملة ما يحضرني عند كتابتي لهذا التفسير من كتب الشيعة من كتب التفسير وانقل عنه تفسير القمّي عليّ بن ابراهيم. والجزء الخامس من كتاب حقائق التأويل في متشابهات التنزيل للسيد الرضي طاب ثراه وهذا هو المقدار الموجود منه وابتداؤه من الآية الخامسة من سورة آل عمران إلى نهاية تأويل الحادية والخمسين من سورة النساء. وكتاب مختصر التبيان للشيخ الطوسي. وهو قليل النسخة جدا وفيه احالات على كتابيه الخلاف وشرح جمل العلم. وكتاب مجمع البيان للطبرسي. وكتاب البرهان للسيد هاشم البحريني وهو تفسير بالحديث وهو مع الوسائل واسطتي إلى تفسير العياشي. واما التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (ع) فقد أوضحنا في رسالة منفردة في شأنه أنه مكذوب موضوع ومما يدل على ذلك نفس ما في التفسير من التناقض والتهافت في كلام الراويين وما يزعمان انه رواية وما فيه من مخالفة الكتاب المجيد ومعلوم التاريخ كما أشار إليه العلامة في الخلاصة وغيره. ومن كتب آيات الأحكام كنز العرفان للمقداد وزبدة البيان للأردبيلي. والقلائد للجزائري. ومن كتب الحديث. الكافي. والفقيه. والتهذيبان. والوسائل. وعدة من كتب الصدوق وغيرها ومن كتب أهل السنة من كتب التفسير تفسير الطبري. والكشاف. والدر المنثور في التفسير المأثور للسيوطي. ومن كتب الحديث جوامعهم السنة. وموطأ مالك. ومسند احمد. ومستدرك الحاكم. وكنز العمال. ومختصره. وان الدر المنثور اجمع من غيره للمأثور في التفسير باعتبار الأحاديث ورواتها ومخرجيها في كتبهم فلذا كانت احالتي في الغالب عليه وان اخرج الحديث عن صحاحهم التي هي أعلى منه سمعة. وقد انقل عنها ما لم يذكره. وإنما اذكر عنه ما أسنده عن الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وسلم . أو عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم. واما ما يرويه موقوفا على التابعين ومن بعدهم فلا حاجة لي فيه والله الموفق والمعين ولنشرع بعون الله وتوفيقه في المقصود

٤٩

فاتحة الكتاب

____________________________________

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣)مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (٦)صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (٧)

____________________________________

تسميتها

تواترت تسميتها بفاتحة الكتاب ومن ذلك قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا صلاة لمن لم يقرء بفاتحة الكتاب ونحو ذلك. وتكاثرت روايات الفريقين من الشيعة واهل السنة عن رسول الله (ص) وامير المؤمنين (ع) والصادق (ع) في تسميتها بأم الكتاب. وأمّ القرآن. والسبع المثاني. والقرآن العظيم. وعن أبي عبد الله الصادق (ع) إنما سميت المثاني لأنها تثنى في الركعتين

بركتها

واستفاضت الرواية من الفريقين عن رسول الله (ص) والباقر (ع) والصادق (ع) بل كادت ان تكون متواترة المعنى أن في قراءتها شفاء من الداء

محل نزولها

ذكر الواحدي في اسباب النزول وعن الثعلبي في تفسيره عن عليّ (ع) قد نزلت فاتحة الكتاب بمكّة الحديث. وروي عن عمرو بن شرجيل ما حاصله ان نزولها كان في أول الرسالة ونزول جبرائيل بالوحي. ولكن في مضامين الرواية ما فيها. وعن رجل من بني سلمة ما يقضي بأنها كانت تتلى قبل الهجرة. وقال الله تعالى في سورة الحجر ٨٧( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) وإذا كانت سورة الحجر كلها مكية قبل الهجرة ففي ذلك بضميمة ما ذكره في تسميتها دلالة على انها نزلت في مكّة قبل الهجرة ولكن مرسوم في عناوين المصاحف انها مدنية وقبل انها مكية مدنية وهي سبع آيات باتفاق المسلمين وتضافر الأحاديث زيادة على أحاديث السبع المثاني بل الأحاديث في روايات الفريقين متواترة في ذلك

بسملتها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ جزء من السورة باتفاق الإمامية والشافعية واجماع أهل البيت

٥٠

والروايات المتكاثرة عنهم (ع) وباتفاق المسلمين على رسمها في المصاحف من أول الأمر إلى الآن. والأخبار من طرق أهل السنة عن رسول الله وفيها الصحاح والحسان باصطلاحهم متكاثرة في ذلك كما في أحاديث علي (ع) وام سلمة وعمار وجابر وبريدة وطلحة بن عبيد الله وابن عمر وأبي هريرة وانس والنعمان ابن بشير كما روي أيضا عن علي (ع) وابن عباس ومحمد بن كعب القرضي

الجهر بالبسملة

يجهر بها باتفاق الإمامية واجماع أهل البيت وعملهم وحديثهم وحديث أهل السنة عن رسول الله (ص) من طريق علي (ع) وعمار وعائشة والحكم بن عمير وابن عمرو انس وأبي هريرة والنعمان بن بشير : وان تفسير البرهان للسيد هاشم البحريني من الإمامية وتفسير الدر المنثور للسيوطي من أهل السنة قد ذكر فيهما الكثير مما أشرنا إليه من الأحاديث فليرجع إليها من أراد الاطلاع على التفصيل

اعراب البسملة

(بسم الله) يتعلق بمحذوف يشير إليه ظاهر المقام. وقيل تقديره ابدءوا أو اقرأوا. أو قولوا. قلت على تقدير اقرأوا أو قولوا تكون الباء بمعنى الاستعانة باسم الله كما يقال اكتبوا بالقلم وذلك لجلالة اسم الله وبركته بجلال المسمى جل وعلا وبركته. ويكون المقروء والمقول هو ما بعد البسملة من السورة (ويرد) على هذا النحو من التقدير أولا انه مناف لجزئية البسملة من السورة ومساواتها لسائر آياتها في حكم القراءة. وان التخلص يجعل البسملة معمولة أيضا لا قرءوا أو مقولة لقولوا يستلزم تقدير عامل آخر تتعلق به الباء ومجرورها فما هو اذن. كما يرد أيضا ما ذكرنا على تقدير الكشاف اقرأ أو اتلو من كلام القاري والتالي ويكون المقروء والمتلو هو ما بعد البسملة : ويرد الجميع ثانيا حتى ابدأوا للأمر انه لا يتجه اطراد هذه التقادير في السورة المصدرة بخطاب النبي (ص) نحو( يا أَيُّهَا النَّبِيُ ) .( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ) .( قُلْ أُوحِيَ ) بل وسائر السور المصدرة بكلمة (قل) وما أشبه ذلك من السور. وكذا السور المصدرة بخطاب عير النبي نحو( يا أَيُّهَا النَّاسُ ) .( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) فإن أمر الله للعباد بالقراءة أو القول يخرجها عن كونها في أول نزولها خطابا إنشائيا من الله لرسوله أو للناس أو للذين آمنوا. وكذا إذا كان المقدر اقرأ أو اتلو بصيغة المضارع. مضافا إلى أن كلمة اقرأ أو اتلو لا يصح ان تكون

٥١

من الله لأنّه جلّ شأنه هو المتكلم بالقرآن والمنشئ له فكيف تنسب إليه القراءة والتلاوة : فإن قلت انا في السور المشار إليها نجعل المقدر ما لا ينافي خطابها وفي غيرها نجعل المقدر كلمة اقرأ أو اتلو بصيغة المضارع من قول الناس. قلنا أولا ماذا تصنع بما أوردناه أولا (وثانيا) ما هو الذي تقدره في السور المشار إليها بحيث لا ينافي مقام خطابها وإنشاءه فإنه ينبغي بيانه (وثالثا) يلزم من ذلك ان تفكك بين سياق البسملات التي في القرآن بلا دليل ولا حاجة ملزمة. مع أن الظاهر كونها في جميع السور على سياق واحد متسق كما ان الظاهر ان المقدر في تلك السور وغيرها في حال النزول ووحي الله وفي حال تلاوة الناس وقراءتهم هو واحد. كما ان الظاهر ان التالي يتلو البسملة على ما تعلقت به حال النزول وان ما تعلقت به هو من القرآن المنزل الذي أمر الناس بتلاوته وان كان مقدرا.

فالظاهر ان البسملة في جميع السور متعلقة بكلمة «ابدء» للمتكلم من قول الله جل اسمه تنويها بجلال اسمه الكريم وبركاته وتعظيما له لجلال المسمى وعظمته جلّ شأنه وله الأسماء الحسنى كما أمر في القرآن بذكر اسمه وتسبيحه كما في سورة المائدة والحج والمزّمل والدهر والأعلى. فينتظم المقدر في جميع السور وجميع الأحوال بنظام واحد على نسق واحد. ولا يعتري ما استظهرناه غرابة ولا إشكال وكيف يعتريه ذلك وقد نسب الله الابتداء لذاته المقدسة في خلقه كما في قوله جل اسمه( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ) .( كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ ) وقد اقسم جل اسمه بمخلوقاته كالشمس والقمر والنفس وغيرها تعظيما لها لأنها مظاهر قدرته وآيات حكمته

خلق القرآن

وان لوحي الله بالسور إلى رسوله بداية ونهاية كما للسور كما قال الله تعالى في سورة الأحقاف في شأن القرآن( وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى ) ودع عنك ان القرآن الكريم كلام مؤلف من الحروف والكلمات ولا بد من أن يكون لها ولتأليفها بداية ونهاية ولا بد من أن يكون له علة في إيجاده ووجوده لأنّه ليس بواجب الوجود فإن واجب الوجود واحد هو الله. وليست علة وجود الموحى منه إلّا خلق الله خالق كل شيء قال الله في سورة الزخرف( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) والجعل هو الخلق وكل مجعول ومخلوق له بداية.

(الله) علم لواجب الوجود إله العالمين جلت أسماؤه وعظمت آلاؤه. وتفخم لامه بعد الفتح والضم (الرحمن) لا أظنك تشك في ان معنى الرحمة تتلقاه افهام الناس من لفظه

٥٢

في المحاورات على حدوده ومزاياه وتتناوله غرائزهم في اللغة على خصائصه وتميز في كل مقام ما يراد منه. بيد ان مقام التفسير قد يشوش الذهن لعدم اللفظ المرادف وعدم الاستقصاء في البيان لمزايا المعنى وحدوده. وقد فسرت الرحمة بالعطف والحنوّ. أو الرأفة والحنان. أو الرقة والتعطف. وكل هذه التفاسير إنما تحوم حول المعنى وتشير إلى شيء منه من بعيد. ألا ترى أنّ كلا من التفاسير الثلاثة تختلف كلمتاه في المعنى وإن هذه المذكورات قاصرة مع ان الرحمة تتعدى إلى المفعول. وان الأساس لمعنى الرحمة ودعامه ان تتعلق بالمحتاج إلى ما لا يقدر عليه من نيل الخير ودفع الأذى والضر. ويكون الداعي للراحم هو احتياج ذلك المحتاج والرغبة في إسعافه وإعانته فيه من دون أن يرجع إلى أغراض الراحم من نحو حاجة أو محبة أو ارتباط خاص به. ويعرف من تعديتها إلى المفعول انها ليست عبارة عن الانفعال النفسي بل هي تستعمل في حالة نفسية تتعلق بالمحتاج على الوجه المذكور وبالنسبة لله جل شأنه نحو من كماله الذاتي يتعلق بالمحتاجين على الوجه المذكور. ولأجل قصور البشر نوعا عن فهم صفات الله جلّ اسمه على ما هي عليه جرى القرآن الكريم على التعبير عنها بما يعبر به عما يناسبها في الشبه بالآثار والمزايا من صفات البشر الحميدة وجرى على ذلك في المبدأ والاشتقاق. وتستعمل الرحمة أيضا بنفس الاسعاف أو بنفس المسعف به. ومن الثالث بحسب الظاهر قوله تعالى في سورة آل عمران( وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) وفي سورة الكهف( رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) وغير ذلك. وفي القرآن أيضا ما يصلح انطباقه على المعنى الأول والثاني. فالرحمن فعلان لذي الصفة الفعلية البينة ذات الأثر الظاهر ولها بقاء واستمرار كغضبان وريّان وفرحان. فيدل على فعلية الراحمية البينة واستمرارها. وان إهمال المتعلق مع اشتقاقها من المتعدّي ليدل على عموم هذه الراحمية ذات الأثر الظاهر وشمولها لكل محتاج إليها والكل محتاج إليها. ومن ذا الذي تكون راحميته أو رحمته بمعنى اسعافه فعلية بينة ظاهرة الأثر مستمرة شاملة مطلقة ومن ذا الذي يقدر على هذا الإسعاف غير الله جلت آلاؤه ولأجل ذلك اختص هذا الاسم الكريم بالله جلّ شأنه (الرحيم) صفة مشبهة تؤخذ بهذه الصيغة من المعاني الثابتة كالسجايا والأخلاق فتدل على ثبوت الرحمة ودوامها لله كدوام السجايا والأخلاق للبشر ولزومها وبهذه الدلالة وهذه المزية كانت ابلغ في المدح وبهذه الجهة صح الترقي إليها بالتمجد والمدح ولا يمتنع أخذ الصفة المشبهة بهذه الصيغة من الوصف المتعدي بحسب وضعه لأنّه قد يجعل لازما بتضمينه معنى السجية

٥٣

والخلق فيؤول إلى معنى فعل بضم العين كقوله تعالى في سورة المؤمن ١٥( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) اي رفيعة درجاته فأضيفت الصفة إلى فاعلها كحسن الوجه على ما هو من خصائص الصفة المشبهة كما قال الشريف في حاشية الكشاف وحكاه عن صرف المفتاح وفائق الزمخشري ومما يشهد بأن لفظ الرحيم ضمن معنى غير المتعدي هو انه حيث ذكر في القرآن متعلقا بمعمول ذكر متعلقا بواسطة الباء على سنة غير المتعدي دون لام التقوية كما في سورة البقرة ١٣٨( إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) وفي سورة الحج ١٦٤( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إلّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) وفي سورة الحديد ٨( وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ ـ ٩وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) وفي سورة بني إسرائيل ٦٨( رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ٦٩وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً ٧٠أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ ـ ٧١أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ ـفَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ) وفي سورة التوبة( إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) وفي سورة النساء( إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ) وفي سورة الأحزاب( وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ) وهذه الصفة غير مختصة بالله فقد جاء في سورة التوبة في وصف الرسول (ص) ١٢٩( بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ )

وقد عرفت مما ذكرناه من سورة البقرة والحج وبني إسرائيل والحديد ما ينبغي أن تطرح الرواية التي تذكر ان الرحمن بجميع خلقه والرحيم بالمؤمنين خاصة ومما ذكرناه من سورتي بني إسرائيل والحج ينبغي ان تطرح أيضا الرواية التي تذكر ان الرحمن رحمان الدنيا والآخرة والرحيم رحيم الآخرة كما أمرنا بذلك في عرض الحديث على كتاب الله

( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) الحمد ثناء بالخير معروف يضعه المتكلم بحسب مرتكزاته في اللغة مواضعه ويعرف معناه بمزاياه ويفرق بينه وبين ما يقارنه في الاستعمال والفهم. ولكن الاضطراب يجيء من ناحية التفسير فمن قائل انه أخو المدح أي مرادفه. ومنهم من فسره بالشكر مستشهدا بقولهم الحمد لله شكرا جاعلا قولهم شكرا مفعولا مطلقا لا مفعولا لأجله. ومنهم من قال ان الحمد والمدح والشكر متقاربة. ومنهم من جعله على صفات المحمود الذاتية وعلى عطائه. ومنهم من خصه بالثناء على الفعل الجميل الاختياري. والظاهر من التدبر في موارد الاستعمال والتبادر

٥٤

ان الحمد هو الثناء باللفظ بالخير على فعل الجميل الاختياري إذا كان للجميل نحو مساس بالحامد وإلّا فهو مدح. وأما الشكر فهو مقابلة الإحسان بنوع إحسان يتضمن الاعتراف سواء كان عملا أو قولا ولو بنحو من الاعتراف بذلك الإحسان وفضله لا مجرد الاعتراف بذات الفعل لا من حيث انه احسان وتفضل. ولا أظن قولهم الحمد لله شكرا إلّا أنّ شكرا مفعول لأجله نحو سبحته تعظيما. وإن فاعل الجميل من الناس إنما يستحق الحمد إذا فعله لحسنه أو لوجه الله وهو روح الإتيان بالفعل لحسنه «وقليل ما هم» بل لا يستحقه حتى في الظاهر إذا عرف انه لم يفعله لله ولا لحسنه وذلك القليل لا يستحق الحمد إلّا من حيث مباشرته لفعل الجميل واختياره له. فإن القوى التي فعل بها والإدراك الذي عرف به حسنه والإرشاد إلى فعل الجميل والأعيان التي تكون محققة لاسداء الجميل هي كلها لله ومن الله جلت آلاؤه ولذا كان الحمد كله وبحقيقته لله الغني المطلق جليل النعم التي لا تحصى نعماؤه ولا يخلو من عظائمها إنسان في حال من الأحوال. وجملة الحمد لله خبرية ان كانت من كلام الله في تمجيده لذاته وتنويهه بجلاله جلّ شأنه ولكن روى الصدوق في الفقيه من كتاب العلل للفضل بن شاذان عن الرضا (ع) ليس شيء من القرآن والكلام جمع فيه من جوامع الخير والحكمة ما جمع في سورة الحمد وذلك ان قولهعزوجل ( الْحَمْدُ لِلَّهِ ) إنما هو أداء لما أوجب اللهعزوجل من الشكر وشكر لما وفق له عبده من الخير( رَبِّ الْعالَمِينَ ) توحيد له وتحميد واقرار بأنه هو الخالق المالك لا غيره( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) استعطاف وذكر لآلائه ونعمائه على جميع خلقه( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) اقرار له بالبعث والحساب والمجازاة الحديث. إذن فجملة الحمد لله إلى آخره إنما هي عن لسان العباد وتعليم لهم كيف يحمدون ويوحدون ويقرون فهي خبرية تتضمن إنشاء الحمد بانه كله وبحقيقته لله( رَبِّ الْعالَمِينَ ) الرب المالك المدبر أو المربي والعالمين جمع عالم( الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) تقدم تفسيره( مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) مالك يوم القيامة وبيده أمره يتصرف فيه بعدله أو برحمته كيف يشاء وفي التبيان والكشاف ومجمع البيان أن إضافة مالك إلى يوم الدين من اضافة اسم الفاعل إلى الظرف نحو قولهم «يا سارق الليلة أهل الدار». ولا أرى حاجة ماسة إلى ما ذكروه. وروي في التبيان ومجمع البيان مرسلا عن الباقر (ع) والقمي مسندا عن أبي عبد الله (ع) واخرج ابن جرير والحاكم وصحّحه مسندا عن ابن مسعود وناس من الصحابة ان يوم الدين يوم الحساب وأظن ذلك لبيان انه يوم القيامة. وفي التبيان والبيان الدين الحساب والجزاء وفي

٥٥

الكشاف الجزاء واستشهدوا لذلك بقولهم كما تدين تدان وبيت الحماسة المنسوب لشهل بن ربيعة

صفحنا عن بني ذهل

وقلنا القوم اخوان

عسى الأيام ان ير

جعن قوما كالذي كانوا

ولما صرح الشر

وأمسى وهو عريان

ولم يبق سوى العدوا

ن دناهم كما دانوا

على معنى كما تجازي غيرك إذا أساء فإنك تجازى أيضا إذا أسأت وإنا جازينا بني ذهل على عدوانهم كما جازوا غيرنا فإن ظاهر الشعر ان قوم شهل كانوا قد صفحوا عن بني ذهل ولم يسبق منهم ما يكون به اعتداء بني ذهل عليهم مجازاة ولعل من معنى الدين المذكور في قول الأعشى «هودان الرباب أذكر هو الدين دراكا بغزوة وصيال» ولعل من هذا الباب الديان من أسماء الله له الأسماء الحسنى وديان يوم الدين وقول الأعشى مخاطبا لرسول الله (ص) «يا سيد الناس وديان العرب» والحديث كما ذكره في النهاية كان على ديان هذه الأمة. والأمر في تفسير الدين في الآية سهل فإنه يتراوح بين هذه المعاني وما يقرب منها. ولا غرو إذا تشابهت علينا هاهنا حقيقة معنى الدين بحدودها بواسطة التوسع في الاستعمال. ولا ينبغي أن يخفى أن قولهعزوجل ( رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) . هو بمنزلة الحجّة على ان الحمد له جلت آلاؤه وبمنزلة الحجّة على انحصار العبادة والاستعانة به في قوله جلت عظمته( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) وهل يعبد أو يستعان به بما هو رب العالمين غير رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين. وهل يصح في الشعور ان يرغب عن عبادته أولا تغتنم الاستعانة به. وقد كررت كلمة (إياك) لوجهين الأول للتصريح والنص على انحصار كل من العبادة والاستعانة به. ولو قيل إياك نعبد ونستعين لأوهمت صورة اللفظ ان المنحصر هو مجموع الأمرين من العبادة والاستعانة لا كل واحد منهما والثاني لأن الحصر فيهما مختلف فإنه بالنسبة للعبادة حصر لجميع أفرادها وبالنسبة للاستعانة حصر باعتبار بعض افرادها كما سيأتي إن شاء الله. وهذا الأسلوب في الآية الكريمة من قسم الالتفات من الغيبة إلى الخطاب. والالتفات في كلام العرب وشعرهم كثير وهم يعدونه من محاسن الكلام ومزاياه في البلاغة وهو متفاوت في الحسن ولكنه مهما بلغ فإنه لا يكاد ان يبلغ ما بلغه هذا الالتفات من الحسن الباهر والجودة الفائقة وأعلى درجات البلاغة. فإنه يمثل العبد شاخص البصر إلى جلال مولاه ومتوجها إلى حضرته بالاعتراف بأنه لا معبود سواه ولا مستعان إلّا هو ومتضرعا بخطاب العبودية والمسكنة ومناجاة الرهبة والرغبة خاضعا لربوبيته مادّا إلى رحمته يد الانقطاع في المسألة والاستعانة

٥٦

العبادة

لا يزال العوام والخواص يستعملون لفظ العبادة على رسلهم ومجرى مرتكزاتهم على طرز واحد كما يفهمون ذلك المعنى بالتبادر ويعرفون بذوقهم مجازه ووجه التجوز فيه. وإن المحور الذي يدور عليه استعمالهم وتبادرهم هو ان العبادة ما يرونه مشعرا بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلها ليوفيه بذلك ما يراه له من حق الامتياز بالإلهية. أو بعنوان انه رمز أو مجسمة لمن يزعمونه إلها تعالى الله عما يشركون. ولكن الخطأ والشرك. أو البهتان والزور. أو الخبط في التفسير وقع هنا في مقامات ثلاثة (الأول) الإتيان بما تتحقق به حقيقة العبادة لما ليس أهلا لذلك بل هو مخلوق لله كعبادة الأوثان مثلا (الثاني) مقام البهتان والافتراء وخدمة الأغراض الفاسدة لترويج التحزبات الأثيمة فيقولون لمن يوفي النبي أو الإمام شيئا من الاحترام بعنوان انه عبد مخلوق لله مقرّب عنده لأنّه عبده وأطاعه ويرمونه بأنه عبد ذلك المحترم وأشرك بالله في عبادته. ألا تدري لمن يبهتون بذلك؟ يبهتون من يحترم النبي أو الإمام تقربا إلى الله لأنّه اختاره وأكرمه بمقام الرسالة أو الإمامة التي هي بجعل الله وعهده كما وعد الله بذلك إبراهيم في قوله تعالى في سورة البقرة( وَإِذِ ابْتَلى إبراهيم رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) وهذا الاحترام المعقول المشروع لا يقل عنه ولا يخرج من نوعه ما هو المعلوم والمشاهد من احترام هؤلاء المتحزبين لملوكهم وزعمائهم وحكامهم وخضوعهم لهم بالقول والعمل مهما بلغوا من النخوة الاعرابية. ولقد سرت هذه البادرة السوءى موروثة من ضلال الخوارج في تحزبهم إذ نسبوا الشرك والكفر لأمير المؤمنينعليه‌السلام إذ ألجأوه عند رفع المصاحف إلى السكوت عن تحكيم رجلين يعملان بما يوجبه القرآن في شقاق معاوية في حربه. كما ألجأوه إلى كون الحكمين أبا موسى وابن العاص. وكما نسبوا الشرك ثانيا إلى ولده الحسن السبطعليه‌السلام لما نافق قومه وزعماء جنده وانحاز بعضهم إلى معاوية وكاتبه آخرون وواعدوه تسليم الحسن له قبض اليد فخطب الحسن (ع) في معسكره المحشو بالنفاق مستشيرا ومقيما للحجة ومختبرا لهم لكي يعرف الناس نفاقهم فيكونوا على بصيرة من أمرهم في الحرب أو الهدنة.

وهذه المباهتة الوخيمة والدسيسة الوبيئة في التحزب الأثيم صارت في العصور المتأخرة وسيلة للتهاجم على ما حرم الله من دماء المسلمين وأموالهم واعراضهم وعلى حرمات الرسول والأئمة

٥٧

عليهم‌السلام وجرى من جرّاء ذلك ما تقشعر منه الجلود. ولو لا أن ملكهم قمع طغيانهم لجرى من عدوانهم والدفاع لهم حوادث في المسلمين مزعجة والله المستعان اللهم إياك نعبد وإياك نستعين. (المقام الثالث) كثيرا ما فسرت العبادة بأنها ضرب من الشكر مع ضرب من الخضوع. أو الطاعة. وهل يخفى عليك أن هذه التفاسير مبنية على التساهل بخصوصيات الاستعمال أو الارتباك في مقام التفسير وهل يخفى أن اغلب الافراد من كل واحد مما ذكروه لا يراه الناس عبادة ويغلطون من يسمّيها أو بعضها عبادة إلّا على سبيل المجاز. وإن لفظ العبادة وما يشتق منه كعبد ويعبد لا تجدها مستعملة على وجه الحقيقة إلّا فيما ذكرناه من معاملة الإنسان لمن يتخذه إلها معاملة الإله المستحق لذلك بمقامه في الإلهية. ولم أجدها في القرآن الكريم مستعملة في غير ذلك إلّا في ثلاثة موارد ولكنها لم تخرج عن النظر إلى مناسبة المعنى الحقيقيّ المذكور والتجوز بلفظه. وهي قوله تعالى في سورة مريم ٤٥( يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا ) وفي سورة يس ٦٠( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) . فاستعير اسم العبادة للطاعة العمياء للشيطان على الدوام كما يلقي المؤمنون قياد طاعتهم لله على بصيرة من أمرهم لأنّه إلههم على نحو التجوز الواقع في قوله تعالى في سورة الفرقان ٤٥( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) . والجاثية ٢٢( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) فإنهم لم يكونوا يعبدون الشيطان ولم يتخذوا هواهم إلها على سبيل الحقيقة. وثالثها قوله تعالى في سورة المؤمنون ٤٩( فَقالُوا ) (اي فرعون وملائه)( أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ ) اي دائبون على العمل في تسخيرنا كما يدأب المؤمن في طاعة الله وعبادته. أو باعتبار ان فرعون كان يدعي الإلهية فجعلوا بالتشبيه والتمويه خضوع بني إسرائيل بالقهر والغلبة عبادة لفرعون هذا وان الشيخ محمد عبده خاض في هذا المقام في البحث على ما حكاه عنه تلميذه في تفسيره لسورة الفاتحة وقارب الغرض في كلامه ولما يقرطس. قال ما ملخصه مهما غالى العاشق في تعظيم معشوقه والخضوع له وتفانى في هواه وارادته. أو بالغ بعض الناس في تعظيم الملوك والزعماء فترى من خضوعهم لهم ما لا تراه من خضوع القانتين لله فإن العرب لم يكونوا يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة فما هي العبادة اذن. وقال : تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها واعتقاده بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها وقصارى ما يعرفه منها انها محيطة به

٥٨

ولكنها فوق إدراكه انتهى كلامه ولو انه صارح بجامع كلامه وملاك صحته واستقامته «وهو ما قدمنا من تقيد العبادة بالتعلق بمن يراه العابد إلها» لما عادت جمله فلا متدافعة يشلها الانتقاد وان اعتصم بعد ذلك بصائب قوله «للعبادة صور كثيرة في كل دين شرعت لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى» فإنه لا يتسق قوله هذا إلّا أن يعتبر في معنى العبادة كونها ناظرة إلى توفية من يتخذه إلها حقه من التعظيم والخضوع واي شعور مذكر فيها لو لا ذلك الاعتبار. وان لم يعتبر ما ذكرناه فلا مفرّ لجملة المتقدمة عن النقد. فإن صور كثير من العبادات لا تبلغ حد النهاية من الخضوع ولا تقاربه كما ذكر في عبادة المتحنثين القانتين بالنسبة لخضوع ذلك العاشق لمعشوقه وخضوع أولئك في تعظيم الملوك والزعماء. وأيضا ان عابد الله يعرف أن منشأ العظمة وملاكها هي السلطة الإلهية ولئن كانت فوق إدراكه فباعتبار عمومها لما لا يعدّ ولا يحدّ من الممكنات لا بما هي سلطة إلهيّة عظيمة يمكن عرفانها ونيلها بالإدراك من هذه الوجهة. وفي مقام الفرق بين العبادة والعبودية قال ومن هنا قال بعض العلماء أنَّ العبادة لا تكون في اللغة إلّا لله تعالى «أقول» يريد ان العبادة من حيث ان معناها الحقيقي في اللغة مأخوذ فيه التعلق بالإلهية والإله لا يصح تعلقها إلّا بالله الذي لا إله إلّا هو ولا يريد أنها لم تنسب في اللغة إلّا لله. وكيف يخفى عليه أنها جاءت في نفس محاورات القرآن منسوبة لغير الله في اكثر من سبعين موردا. فالظاهر أنه لا وقع لاعتراضه عليه بقوله ولكن استعمال القرآن يخالفه. نعم يرد على من قال ان لفظ العباد مأخوذ من العبادة انه غفل عن قوله تعالى في سورة النور ٣٢( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ )

حصر الاستعانة بالله جلّ اسمه

قال الله تعالى في سورة المائدة ٣( تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) واما المعاونة في المباحات فهي إحسان أمر الله به أيضا في كتابه بقوله تعالى في سورة النحل ٩٢( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ) وفي سورة البقرة ٩١ وآل عمران ١٢٨ والمائدة ١٥( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) . والمعلوم بالضرورة من سيرة النبي (ص) وأصحابه والأئمة والمسلمين انهم يستعينون في غالب أمورهم المباحة بالآلات والدابة والخادم والزوجة والصاحب والرسل والأجراء وغيرهم وفي سورة البقرة ٤٢ و ١٢٨( اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) وفي سورة النساء ٦٧( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) فقد لامهم الله على

٥٩

عدم مجيئهم للاستعانة على المغفرة باستغفار الرسول. وهذا يكفي في الحجّة والدلالة على ان الإعانة ليست بجميع أقسامها منحصرة بالله. وعلى انه لا يلزمنا أن نقصر استعانتنا بقول مطلق على الله. وتفصيل ذلك هو انا ننظر إلى استعانات البشر قولا وعملا فنراها تكون على نحوين (النحو الأول) هو الاستعانة بالوسائل المجعولة من الله لنيل المقصود التي هي وما فيها من التسبيب من جعل الله وخلقه. (والنحو الثاني) هو الاستعانة بالإله بما هو إله معين بإلهيته وقدرته الذاتية المطلقة الفائقة. ولا ريب في ان النحو الثاني من الاستعانة هو المتيقن في قصره على الله. لأن الاستعانة بهذا النحو إذا كانت بغير الله كانت تأليها لذلك الغير واشراكا بالله. ومما ذكرنا من الآية والسيرة واقتران( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) في سياق توحيد الله وتمجيده بالمجد الإلهي تقوم الحجّة وتتضح الدلالة على ان هذا النحو من الاستعانة هو تمام المقصور على الله دون النحو الأول

الاستشفاع إلى الله

ولا ريب في أن الاستشفاع إلى الله في دعائه والتوسل إليه بالنبي (ص) والأئمة والأولياء في الحوائج إنما هو من الاستعانة بالنحو الأول. وإنك إذا سألت حتى من الهمج عما يفعلون في توسلهم بالنبي (ص) والأئمة والأولياء قالوا انا نستشفع بهم إلى الله ونقدمهم أمام تضرعاتنا إليه لكرامتهم عليه ووجاهتهم عنده لأنهم من عباده المكرمين. فإن قلت لهم انكم ربما تخاطبونهم بالتضرع والتمجيد وطلب الحاجة منهم فما هذا. قالوا لك تخاطبهم بالضراعة ليشفعوا وبالتمجيد بما هم أهل له احتراما لمقامهم عند الله وبطلب الحاجة منهم إلحاحا عليهم وتأكيدا في الاستشفاع. وبيانا لأن شفاعتهم وسيلة ناجحة كما تقول لمقرّب الملك فيما يرجع أمره إلى الملك أريد هذا الأمر منك. فإن قلت لهم هلا تسألون طلباتكم منهم. قالوا لك كيف وإنهم بشر لا يقدرون على ما يختص الله بالقدرة عليه من حيث الإلهية ولا إله إلّا الله : فإن قيل ان الله ارحم الراحمين فما هي الحاجة إلى الاستشفاع. قلنا شرع الاستشفاع لأجل الحكمة التي شرع لأجلها الدعاء كما قال الله وهو أرحم الراحمين عالم الغيب والشهادة في سورة المؤمن ٦٢( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ـ ٦٧( فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) وفي سورة الأعراف ٢٨( وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) ـ ٥٤( وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً ) فإن دعاء الله تمرين على عبادته والالتجاء إليه والفزع إلى إلهيته وقدرته فإن قيل أين شرع الاستشفاع. قلنا يكفي في الدلالة

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

قال المصنّف ـ عطّر الله ضريحه ـ(١) :

المبحث الخامس

في أنّ الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة [ في ] كون الشيء مرئيا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود ، سواء كان في حيّز أم لا ، وسواء كان مقابلا أم لا!

فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية ـ كالعلم ، [ وإلإرادة ، ] والقدرة ، والشهوة ، واللذّة ـ ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر ـ كالروائح ، والطعوم ، والأصوات ، والحرارة ، والبرودة ، وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ(٢) .

ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات ، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك بالذوق لا بالبصر ، والروائح إنّما تدرك بالشمّ لا بالبصر(٣) ، والحرارة ـ وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ إنّما تدرك باللمس لا بالبصر ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦١ ـ ٦٣ ، تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٣.

(٣) كان في الأصل : « بالإبصار » ، وما أثبتناه من المصدر ليناسب وحدة السياق.

٨١

والصوت إنّما يدرك بالسمع لا بالبصر

[ ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ؛ ولو كانت مدركة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله ].

وبالجملة : فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك ، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.

ومن أعجب الأشياء : تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء ، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر!

وهل هذا إلّا عدم تعقّل من قائله؟!(١) .

__________________

(١) اختلفت النسخ في إيراد هذه الجملة ؛ ففي المخطوط وطبعة طهران : « وهل هذا الأمر يغفل قائله؟! » وفي طبعة القاهرة وإحقاق الحقّ : « وهل هذا إلّا من تغفّل قائله؟! » ؛ ولا شكّ أنّ التصحيف قد طرأ عليها على أثر سقوط كلمة « عدم » ؛ وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

٨٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية الله تعالى(٢) .

وتقرير الدليل ـ كما ذكر في « المواقف » وشرحه ـ : أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها ، من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ وهذا ظاهر.

ونرى الجوهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ، لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.

فالطول مثلا ، إن قام بجزء واحد ، فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر ، فيقبل القسمة ؛ هذا خلف.

وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض [ الواحد ] بمحلّين ؛ وهو محال.

فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١٨ ـ ١٢٢.

(٢) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٦ الدليل ٨١ ، الملل والنحل ١ / ٨٧ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٧ ؛ وقال به الباقلّاني أيضا في تمهيد الأوائل : ٣٠١ ، وفخر الدين الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ والمسائل الخمسون : ٥٦ الوجه الأوّل ، والتفتازاني في شرح العقائد النسفية : ١٢٦.

٨٣

فقد ثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود ، وانتفائها عند العدم ، ولو لا تحقّق أمر يصحّح حال الوجود غير [ متحقّق ] حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجّح.

وهذه العلّة لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ، وإلّا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة ، وهو غير جائز.

ثمّ نقول : هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة ، فإذا العلّة المشتركة : الوجود ، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ الله تعالى ، فتتحقّق صحّة الرؤية ؛ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود : كالأصوات ، والروائح ، والملموسات ، والطعوم ـ كما ذكره هذا الرجل ـ ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول : لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤية له.

وإنّا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من الله تعالى بذلك ـ أي بعدم رؤيتها ـ فإنّ الله تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمتنع أن يخلق الله فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.

والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون : هذه مكابرة محضة ، وخروج عن حيّز العقل بالكلّيّة.

ونحن نقول : ليس هذا الإنكار إلّا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد في الرؤية ؛ والحقائق ، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع ، لا تؤخذ من العادات ،

٨٤

بل ممّا تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات(١) .

ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة ، فنقول :

إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ، ثمّ غمضنا العين ، فعند التغميض نعلم الشمس علما جليّا.

وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة ، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط ـ كما حقّق في محلّه ـ ، بل هي حالة أخرى يخلقها الله تعالى في العبد ، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات.

وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء ، ومحلّها القلب ؛ كذلك البصر يدرك الأشياء ، ومحلّها الحدقة في الإنسان.

ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ ، وإن كان يستحيل أن ( يدرك الإنسان بلا مقابلة )(٢) وباقي الشروط عادة.

فالتجويز عقلي ، والاستحالة عاديّة ؛ كما ذكرنا مرارا.

فأين الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟!

ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمناه.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٤ ملخّصا.

(٢) في المصدر : تدرك الأشياء إلّا بالمقابلة.

٨٥

وأقول :

لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذكره في كتبهم ، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه ، فلم ينفعهم ، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.

فهذا شارح « المواقف » بعد ترويجه بما أمكن ، والإيراد عليه ببعض الأمور ، قال : « وفي هذا الترويج تكلّفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمّل ، فإذا الأولى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر »(١) .

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد »(٢) بعد ما أطال الكلام في إصلاحه : « والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ »(٣) .

وأقرّ القوشجي في « شرح التجريد » بورود بعض الأمور عليه ممّا

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٢٩.

(٢) كان في الأصل : « شرح المطالع » وهو سهو ، بل هو « شرح المقاصد » ، فلم يعهد للتفتازاني كتاب بذاك الاسم ؛ انظر : هديّة العارفين ٦ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٨٤٩ رقم ١٦٨٥٦.

و« مطالع الأنوار » في المنطق ، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ـ المتوفّى سنة ٦٨٢ ه‍ ـ ، ولكتابه شرح اسمه « لوامع الأسرار » لقطب الدين محمّد ابن محمّد الرازي ـ المتوفّى سنة ٧٦٦ ه‍ ـ أحد تلامذة العلّامة الحلّي ، وعلى شرحه هذا حواش عديدة ، منها : حاشية لسيف الدين أحمد بن محمّد ـ حفيد سعد الدين التفتازاني ، المتوفّى سنة ٨٤٢ ه‍ ـ ؛ ومن هنا حصل اللبس في نسبة الكتاب ؛ فلاحظ!

انظر : كشف الظنون ٢ / ١٧١٥ ـ ١٧١٧ ، أمل الآمل ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ رقم ٩٠٨ ، رياض العلماء ٥ / ١٧٠ ، لؤلؤة البحرين : ١٩٤ ـ ١٩٨ رقم ٧٤.

(٣) شرح المقاصد ٤ / ١٩١.

٨٦

لا يمكن دفعها(١) .

وكذلك الرازي في كتاب « الأربعين » على ما نقله عنه السيّد السعيد ;(٢) .

فحينئذ يكون ذكر الفضل له ـ بدون إشارة إلى ذلك ـ تلبيسا موهما لاعتباره عند أصحابه ، بل يكون نقصا فيهم ، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر ، فضلا أن يعتبر!

ولنشر إلى بعض ما يرد عليه ، فنقول : يرد عليه :

أوّلا : إنّ دعوى رؤية الجواهر الفردة ، التي هي الأجزاء التي لا تتجزّأ ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها ، لا من الهيولى والصورة ، وهو باطل ؛ لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.

فعلى الأوّل : لا بدّ أن يلاقي كلّا منها بعضه ، فتلزم التجزئة.

وعلى الثاني : يلزم التداخل ، وهو محال ؛ وعدم زيادة الحجم ، وهو خلاف المطلوب.

وبعبارة أخرى : إنّ الوسط إمّا أن يلاقي الأطراف بكلّه

أو ببعضه

أو لا يلاقي شيئا منها

أو يلاقي بعضا دون بعض.

__________________

(١) انظر : شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٢) كتاب الأربعين ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٧ ، وانظر : إحقاق الحقّ ١ / ١٢٢.

٨٧

فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.

والثاني يقتضي التجزئة.

والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.

وإن شئت قلت : لو وضع جزء على جزء ، فإن لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم ، وإن لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.

وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين ١ وغيره من العلماء وجوها كثيرة لإبطال الجوهر الفرد ، فلتراجع(١) .

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو سلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها ، فإثبات رؤيتها ـ كما صرّح به الدليل ـ موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ؛ لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.

وأنت تعلم أنّه إن أريد لزوم قيام العرض بتمامه ، في كلّ واحد من المحلّين ، فهو ممنوع.

وإن أريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين ، فمسلّم ولا بأس به.

وثالثا : إنّه لو سلّم رؤية الجواهر كالأعراض ، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر ، بناء على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!

ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا ، فلا تصلح لأن تتعلّق بها

__________________

(١) انظر : تجريد الاعتقاد : ١٤٥ ، أوائل المقالات : ٩٦ ـ ٩٧ رقم ٨٧ ، النكت الاعتقادية : ٢٨ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٤٦ وما بعدها ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٤ و ٤٣ ـ ٤٨ ، كشف المراد : ١٤٥ ـ ١٤٦ المسألة ٦.

٨٨

إرادة الله تعالى وقدرته ، صحيحة ؛ لكن عندنا دونهم.

إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم ، ونحوها من الكيفيات الموجودة ، وقد أنكروا امتناع رؤيتها.

ورابعا : إنّه لو سلّم أنّ العلّة هي الوجود ، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هو العلّة ، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي ، أو الزماني ، أو بالإمكان ، أو بما يثبت معه شروط الرؤية ، وإن قلنا : إنّ بعض هذه الأمور عدميّ ؛ لأنّها قيود ، والقيد خارج.

ويمكن ـ أيضا ـ أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق ، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.

فلا يلزم صحّة رؤية الباري سبحانه.

ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض ، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما ، وأن تكون العلّة مشتركة أيضا بينهما ، باطلة ؛ لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.

وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه ، إلّا أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.

ولو سلّم تعلّقها بالمشترك ، فهو لا يستلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق ، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما ، كما عرفت.

ولو أعرضنا عن هذا كلّه وعن سائر ما يورد على هذا الدليل ،

٨٩

فلا ريب ببطلانه ، لمخالفته للضرورة القاضية بامتناع رؤية بعض الموجودات ، كالكيفيات النفسانية والروائح والطعوم ، فليس هو إلّا تشكيكا في البديهيّ!

وأمّا ما ذكره من حقيقة الرؤية ، ففيه :

إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي ، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال ، لا الباصرة ، وهي موقوفة على سبق الرؤية.

فحينئذ إن كانت رؤية الله سبحانه ممتنعة ، فقد امتنعت هذه الحالة ، وإلّا فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.

ولو سلّم أنّها غير موقوفة عليها ، بناء على إنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها ، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ؛ لأنّها ـ كما زعم ـ شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات ، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!

مع إنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة ، بل محلّه الرؤية المعروفة ، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق ، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.

ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود ، ليتسنّى له دعوى إمكان رؤية الله تعالى ، وإلّا فلو أراد رؤية أخرى غيرها ، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أخرى عليه سبحانه.

٩٠

لكنّ القوم لمّا رأوا بطلان دليل الأشعري بالبداهة ، وفساد مذهبه بالضرورة ، التجأوا ـ في خصوص المقام ـ إلى ذكر معنى للرؤية لا يعرفون حقيقته! وإلى جعله محلّا للنزاع من دون أن يخطر ـ في الصدر الأوّل ـ ببال المتنازعين ، فشوّشوا كلماتهم ، وشوّهوا وجه الحقيقة!

* * *

٩١
٩٢

هل يحصل الإدراك لمعنى في المدرك؟

قال المصنّف ـ طيّب الله مثواه ـ(١) :

المبحث السادس

في أنّ الإدراك ليس لمعنى

والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك ، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا ، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.

فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا : إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّا لا آفة فيه.

والأشاعرة قالوا : إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنى حصل في المدرك ، فإن حصل ذلك المعنى في المدرك ، حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط ؛ وإن لم يحصل ، لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط!(٢) .

وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٣) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) انظر مؤدّاه في : تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٧.

(٣) في المصدر : بالمرئي.

٩٣

عدمه كما يحصل حال وجوده ، فإنّ الواحد منّا يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلّق.

وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد ، وبأنّ الشيء قد كان موجودا ، وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ؛ لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم!

وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.

وأيضا : يلزم أن يكون الواحد منّا رائيا مع الساتر العظيم البقّة ، ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر ، على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ؛ لأنّه موجود!

وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته ، ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى(١) إنّما تكون بمعنى آخر.

وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين ، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد ، وذوقها باللسان ، وشمّها بالأنف ، وسماعها بالأذن؟!

وهل هذا إلّا مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!

__________________

(١) في المصدر : الشيء.

٩٤

وقال الفضل(١) :

الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية ، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون : إنّ الرؤية معنى يحصل في المدرك ، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.

وهذا ما قدّمنا ذكره غير مرّة ، وبيّنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.

ثم إنّ قوله : « وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٢) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده » استدلال باطل على معنى(٣) مخترع له.

فإنّ كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم ، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السابق.

وأمّا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.

ثمّ ما ذكره من أنّ العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ ، مثل العلم باستحالة رؤية المعدوم

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) في المصدر : بالمرئي.

(٣) في المصدر : مدّعى.

٩٥

فقد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقليّة ، فممنوع ؛ وإن أراد العاديّة ، فمسلّم والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان.

ثمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجودا ، كان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ، لأنّه موجود ، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنى آخر.

فالجواب : إنّ العقل يجوّز رؤية كلّ موجود وإن استحال عادة ، فالرؤية إذا كانت موجودة [ به ] يصحّ أن ترى نفسها ، لا برؤية أخرى ، فانقطع التسلسل ، كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا ، فلا استحالة فيه ، ولا مصادمة للضرورة.

ثمّ ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة ، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين(١) :

وذي سفه يواجهني بجهل

وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا

* * *

__________________

(١) ينسب البيتان إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب ٧ ، كما نسبا إلى الشافعي باختلاف يسير في صدر البيت الأوّل ؛ انظر : ديوان الإمام عليّ ٧ : ٢٨ ، ديوان الشافعي : ١٤٤.

٩٦

وأقول :

لا ريب أنّ بحث المصنّف ; هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية ، كما يشهد له قوله : « وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ».

وقوله : « وجواز لمس العلم والقدرة » وهو أيضا لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلّا بالمعنى المطلق.

فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية ، دفعا لتوهّم اختصاص البحث بها ؛ ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!

كما توهّم أيضا أنّه أراد أنّ الإدراك معنى يحصل في المدرك ؛ والحال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنى في المدرك.

وحاصل مقصوده أنّهم قالوا : إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنى فيه ، كالحياة ، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه ، ولا يتقيّد الشيء ـ بالوجود ونحوه ـ إلّا لأجل تلك الشروط السابقة ، وهم لا يعتبرونها ، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.

فإذا حصل المعنى في الشخص ، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد إلى غير ذلك.

مع إنّه بمقتضى مذهبهم ـ من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ـ يلزم أيضا جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة ، كما

٩٧

جاز رؤية العلم والقدرة ونحوهما.

فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات ، لازم لهم من أقوالهم ، وأراد بالنسبة إليهم النسبة بحسب ما يلزمهم ، وإن لم يقولوا به ظاهرا.

ثمّ إنّه أراد بقوله : « لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم ، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ » إلى آخره

دفع استبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.

وحاصله : إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق ، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها ، مكابرة ومخالفة لضرورة العقل والعقلاء ، لم يستبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.

وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله : « قد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقلية ، فممنوع » إلى آخره لا ربط له بكلامه ، اللهمّ إلّا أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاستحالتين ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم عاديّة ، واستحالة رؤية المعدوم عقلية!

فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين : من جهة : دعوى الفرق ، ومن جهة : أصل القول ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.

وأمّا ما أجاب به عن التسلسل :

فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف ، غير دافع للتسلسل

أمّا عدم ارتباطه به ؛ فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأن تتعلّق الرؤية برؤية أخرى ، إلى ما لا نهاية له ، بناء منه على إنّه أراد بالمعنى : الرؤية

٩٨

ـ كما سبق ـ وقد عرفت بطلانه ؛ وأنّ مراده بالمعنى : هو الأمر الذي لأجله يحصل الإدراك ، فيكون مراده بالتسلسل ـ بناء على هذا ـ هو تسلسل هذه المعاني ، لا الرؤية ـ كما هو واضح من كلامه ـ.

وأمّا أنّه غير دافع له ؛ فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية ، لا من حيث وجوب التعلّق ، فلا يندفع إلّا بإنكار هذه الصحّة ، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها ، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.

على إنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها ، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيقية والمرئيّ ؛ لأنّ تعلّق أمر بآخر يستدعي الاثنينيّة بالضرورة.

وأمّا ما نسبه إلى القوم ، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود ، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، فلا ربط له بالمقام ؛ لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل ، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل ، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أخرى إلى ما لا نهاية له ، والصحّة أمر اعتباري ، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!

وأمّا ما استشهد به من البيتين ، فلا يليق بذي الفضل إلّا الإعراض عن معارضته!

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394