آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء ١

آلاء الرحمن في تفسير القرآن15%

آلاء الرحمن في تفسير القرآن مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 394

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53810 / تحميل: 5585
الحجم الحجم الحجم
آلاء الرحمن في تفسير القرآن

آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

على مشروعيته من الكتاب المجيد ما ذكرنا من الآية السابعة والستين من سورة النساء في لومهم على عدم مجيئهم ليغتنموا شفاعة الرسول باستغفاره لهم. وإن العدول والالتفات من خطاب الله لرسوله في الآية المشار إليها إلى قوله( وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ) إنما هو للإشارة إلى ان الحكمة في ذلك هو تمرينهم على الانقياد إلى الرسول ومقام الرسالة بالمجيء إلى حضرته والخضوع لكرامته بالاحتياج وطلب الاستغفار وشفاعته لهم. كل ذلك لكي ينقادوا مستوسقين إلى طاعته في أمور الدين والإيمان. وهذه المشروعية يجري وجهها وحكمتها وعلتها في شفاعة الأئمة والأولياء وليتنبه المستشفع من استشفاعه إلى كرامة المطيع لله لطاعته فيحركه ذلك إلى الرغبة في الطاعة. وهذا أمر معروف المشروعية معمول عليه في الأديان الحقة كما حكى القرآن الكريم ان أولاد يعقوب نبي الله استشفعوا بأبيهم إلى الله وطلبوا استغفاره لهم فوعدهم يعقوب بذلك كما في سورة يوسف ٩٨( يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا ) ـ ٩٩( قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي )

الاستشفاع بالمقربين من الأموات

وما ذكرناه من الحكمة يجري أيضا على رسله في الاستشفاع بهم بعد وفاتهم لكي يحفظ انقياد الناس إليهم فيما علموه وأمروا به وارشدوا إليه من أمر الدين وصلاح الدارين. وللتنبه أيضا إلى كرامة الطاعة لله. فإن قال قائل كيف يستشفع بالأموات وأين هم بعد موتهم من مقام الشفاعة

بقاء النفس بعد الموت

قلنا قد عرّفنا الله في كتابه المجيد ان النفوس تبقى بعد الموت على ما هي عليه من المقام النفساني اما متمتعة بمقام الكرامة واما مبتلاة بالهوان والسخط. وقرّب لأفهامنا القاصرة حالة النفس بعد الموت وبقائها بمقارنة حالتيها في الموت والنوم. فقال جل اسمه في سورة الزمر ٤٣( اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) وفي سورة البقرة ١٥٤( وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ ) وآل عمران ١٦٩( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ١٧٠فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ ألّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ١٧١يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) . وإن قوله تعالى( أَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ

٦١

الْمُؤْمِنِينَ ) دون ان يقول لا يضيع اجر المجاهدين في سبيله ليدل على ان ذلك من آثار الإيمان الجارية لكل مؤمن لا آثار خصوص القتل في سبيل الله ومن خواصه. وقال جا اسمه في سورة المؤمن ٤٨( فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ ٤٩ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ) فانتظم البيان لبقاء النفوس بعد الموت هذه على كرامتها وهذه في هوانها

الشفاعة

فإن قال قائل إن الله قد نفى الشفاعة في القرآن الكريم ففي سورة البقرة ٢٥٥( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ ) والسجدة ٤( ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ) إلى غير ذلك من الآيات «قلنا» ان الشفاعة قد نفاها القرآن من جهة وهي الشفاعة للمشركين أو الشفاعة التي يزعمها المشركون للذين يتخذونهم آلهة مع الله بزعم انهم آلهة قادرون بإلهيتهم بحيث تنفذ شفاعتهم طبعا وحتما. أو شفاعة الشافع الذي يطاع حتما كما في سورة يس ٢٣ والمؤمن ١٩ والزمر ٤٤ والمدّثر ٤٨ وأثبتها من جهة أخرى بالاستثناء بل بالاستدراك الدافع لإيهام نفيها المطلق عن كل أحد فقال تعالى.( إِلَّا بِإِذْنِهِ. إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ. أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً إلّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً. إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى. إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ. إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ. إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى ) . كما في سورة البقرة ٢٥٦ ويونس ٣ ومريم ٩٠ وطه ١٠٨ والأنبياء ٢٩ وسبا ٢٢ والزخرف ٨٦ والنجم ٢٧. وإن الشفاعة المستثناة والمستدركة في آيات البقرة. ويونس. وسبا. مطلقة غير مختصة بيوم القيامة ولا بما قبل وفاة الشافع في الدنيا. ولكن لو أعطي القرآن حقّه من التدبر وسلمت النفوس من وباء الأهواء والتحزب وبوادر التعصب والنصب لما ثار الهياج من بعض الناس على استشفاع المسلمين بالرسول والأئمة والأولياء لأنهم عباد مكرمون وأولى عباد الله بأن نعتقد اذنه جلت آلاؤه لهم بالشفاعة إكراما لهم لأجل الحكمة التي ذكرناها. وقد اكتفينا هاهنا بدلالة الكتاب المجيد عن الإشارة إلى ما تواتر معناه من أحاديث المسلمين في هذه الشؤون. وفي كتبهم في الحديث من ذلك شيء كثير والأمر فيه جليّ ولكن «لأمر ما جدع قصير أنفه» وللشيخ محمد عبده على ما حكاه تلميذه في سورة الفاتحة صفحة ٤٦ و ٤٧ من الطبعة الثالثة كلام ألقاه على عواهنه في زوبعة الهياج المذكور وهو غريب من تحرّيه تهذيب كلامه وتدبر القرآن الكريم وتفسيره والتحرز

٦٢

من عبودية الأهواء ولم يحضرني كتاب تفسيره لأرى ما فيه في هذا المقام( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧)اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) الهداية تستعمل في الإرشاد إلى الطريق والدلالة على الخير كقوله تعالى في سورتي فصلت ٦( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى ) والشورى ٥٢( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وتستعمل في الإيصال بالتوفيق والتسديد كقوله تعالى في سورة القصص ٥٠( إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ـ ٥٦إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ والنساء ٧٠( وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) والأنعام بعد ذكر عدة من الأنبياء ٨٧( وَهَدَيْناهُمْ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وهذا المعنى هو الظاهر والمراد من الآية حتى إذا كانت سورة الفاتحة أول ما نزل من القرآن الكريم. والهداية تتعدى إلى المهدي إليه بنفسها وبإلى. والصراط هو الطريق والمستقيم ما لا انحراف فيه ولا اعوجاج وهو أقرب نهج موصل إلى المقصود. ويكون سالكه أبعد من الضلال وخوفه. وعلى بصيرة من أمره من أول سلوكه إذ يتضح منه منار الحق وبشائر الوصول من أول الإقبال اليه. وفي حديث الجمهور كما في الدر المنثور انه في الآية كتاب الله. أو الإسلام أو رسول الله وصاحباه بعده. وفي تفسير البرهان عن تفسير وكيع بن الجراح مسندا عن ابن عباس في قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم قال قولوا يا معاشر العباد أرشدنا إلى حب محمد واهل بيته. وعن تفسير الثعلبي مسندا عن أبي بردة قال صراط محمد (ص) واهل بيته. وفي روايات الإمامية انه امير المؤمنين. أو انه الأئمة. وكلما صح من ذلك فهو من باب النص على احد المصاديق أو أظهرها( صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) بالتوفيق والسداد فنعموا بالوصول وفازوا بالزلفى( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) لأنهم عاندوا الحق بعد ما استنار صبح الإرشاد ووضحت الدلالة وقامت الحجّة فاستوجبوا بذلك غضب الله. وكلمة غير مجرورة على انها صفة للذين. وفي الحديث والروايات ان المغضوب عليهم هم اليهود أو النواصب. وما صح من ذلك فهو من باب النص على بعض المصاديق( وَلَا الضَّالِّينَ ) بجهلهم وتقصيرهم عن طلب الحق ومعرفته مع وضوح الدلالة وقيام الحجّة وجيء بكلمة «لا» مع الضالين لأجل الاستقصاء في التعوذ من الفريقين المغضوب عليهم والضالين

سورة البقرة

مدنية وهي مائتان وست وثمانون آية

٦٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (١)ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ

____________________________________

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مرّ تفسيرها في سورة الفاتحة

١( الم ) علم معناها عند الله ورسوله ومستودعي علمه وأمنائه على وحيه. ولا غرو في أن يكون في القرآن ما هو محاورة بأسرار خاصة مع الرسول وأمناء الوحي( ذلِكَ الْكِتابُ ) القرآن أشير إليه باشارة البعيد لرفعة مقامه وعلو شأنه وذلك متعارف عند العرب في الإشارة إلى العظيم الرفيع الشأن( لا رَيْبَ فِيهِ ) ليس فيه محل للريب ولا ينبغي الريب في أمره. أو ليس فيه شيء مريب بل هو( هُدىً ) بالفعل وموصل إلى حقيقة الدين وشريعة الحق وأركان الإيمان( لِلْمُتَّقِينَ ) لله الذين من تقواهم يقبلون على القرآن ويتبعونه حق الاتباع ويأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه ويتأدبون بآدابه ويسترشدون بمعارفه. والاتقاء مأخوذ من الوقاية يقال اتقى السيف بالدرقة أي اتقى ما يخاف منه وفي الآية الثانية والعشرين( فَاتَّقُوا النَّارَ ) و ٤٦( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي ) وتقوى الله عبارة عن اتقاء ما يخاف منه كغضبة وعذابه فيتقى ذلك بطلب رضاه وطاعته في أوامره ونواهيه. واطلاق التقوى في وصفهم يدلّ على انها صفة عامة ثابتة لهم وملكة راسخة كالعالم والفقيه. و( الَّذِينَ ) في الآية الآتية وكذا التي بعدها ليست مبتدأ وخبره جملة( أُولئِكَ عَلى هُدىً ) كما احتمل في بعض التفاسير بل هي صفة للمتقين ٢( الَّذِينَ ) من قوتهم في التقوى والإيمان بالحق واتباع الدليل والهداية( يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) مما لم يروه ولم يحسوا به بل يحصل لهم يقين الإيمان بالحجة من كتاب الله وقول من قامت الحجّة على عصمته وذلك كالبعث والنشور والوعد والوعيد والجنة والنار واحوال القيامة والنعيم والعذاب. ومن مصاديق المؤمنين بالغيب. المؤمنون بقيام المهدي المنتظر عجل الله فرجه كما في الرواية عن أهل البيت (ع)( وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) يواظبون عليها في أوقاتها قائمة على حدودها وشروطها وإخلاصها في العبادة والرغبة إلى الله في مناجاته والمثول في طاعته بحضرته( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ ) من مال بل وعلم كما في رواية أهل البيت( يُنْفِقُونَ ) كما فرضه الله عليهم أو ندبهم إليه من البر والإحسان بالتعليم والبيان. وينفقونه على حين معرفة منهم واعتراف بأنه رزق الله ونعمته عليهم فيكون إنفاقهم أدخل في الطاعة المقرونة بالشكر وأقرب إلى المعرفة والإحسان والدوام ٣( وَالَّذِينَ ) صفة اخرى

٦٤

(٤)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٥)أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

____________________________________

للمتقين وجيء بواو العطف استلفاتا إلى فضيلة هذه الصفة فإن التعداد بالعطف يمثل للذهن كلا من الصفات مستقلة بمزاياها لا كما إذا طردت من غير عطف. ألا ترى أنّ الذهن يجد من الرونق للصفات في قولهم جاء الرجل العالم والصالح والكريم والشجاع ما لا يجده في قولهم جاء الرجل العالم الصالح الكريم الشجاع( يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) من الوحي من الكتاب وغيره ويذعنون بأنه منزل من الله على رسوله رحمة للعباد ولطفا منه فيظهر عليهم بذلك شعار الإيمان به( وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) على الرسل والأنبياء حسب ما يحصل لهم من اسباب العلم بإنزاله. واظهر الأسباب في ذلك اخبار القرآن الكريم والرسول المصطفى به. وذلك من الإيمان بالغيب لأنهم لم يشاهدوا آية ومعجزة من أولئك الأنبياء الماضين( وَبِالْآخِرَةِ ) التي ذكرها القرآن وما فيها وعرّفتهم أنت بذلك في بشراك وإنذارك( هُمْ يُوقِنُونَ ) ويرونها بإيمانهم بالغيب حق اليقين كان ذلك رأي العين. وصيغة المضارع في يوقنون تدل على ثبات اليقين ودوامه وهو الذي تظهر سيماؤه في دوام الطاعة والرهبة من سخط الله وعقابه والرغبة في رضا الله وثوابه الذي اعدّه في الآخرة للصالحين. وهؤلاء المتصفون بهذه الصفات بالآخرة هم يوقنون لا من يكذبها باعتقاده وقوله. أو يصورها بتكلف اعتقاده بها على خلاف ما جاءت به رسل الله وكتبه. أو من كانت سيرته في أعماله السيئة وتفريطه في الطاعات تمثل ضعف إيمانه بالآخرة وإن غفلاته عنها في أعماله وتروكه تكاد أن تأتي على ما يتكلفه من الاعتقاد بها والعياذ بالله. وبعد التنويه بصفات المتقين المهتدين بالكتاب جاءت البشرى بكرامة مقامهم وربح تجارتهم فقال الله في شأنهم ٥( أُولئِكَ ) مستقرون( عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ) وتوفيق وتسديد إذ كانوا بإيمانهم وإقبالهم على الطاعة أهلا لذلك( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) دون غيرهم أما في الدنيا فبراحة ما استشعروه من القناعة وتقدير النعم وشكرها وفضيلة الرضا بأمر الله والتسليم لحكمته وراحة الهدوء والصلاح وحسن الأخلاق. وأما في الآخرة فبفلاح النعيم المقيم. وبمناسبة حال الكتاب في هداه مع المتقين الموصوفين وما لهم من الاهتداء والفلاح ذكر الله لرسوله حال بعض الكافرين بأنهم في تماديهم بالغيّ على الكفر والتمرّد لا يجدي معهم إنذارك ولا يؤمنون

٦٥

(٦)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ

____________________________________

بالله ورسوله وكتابه. هذا ما يقتضيه سياق القرآن الكريم خصوصا مع ابتداء الإخبار عن الذين كفروا بدون عطف بالواو ٦( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) يعني قسما خاصا ممن ينتحل الكفر والمعهودين عند الرسول أو هم مطلق الطواغيت الذين يعلم الله انهم من تمردهم يموتون على التمادي على ضلال الشرك والكفر بالله ورسوله وكتابه وما جاءا به في دعوة الحق مع الحجج القيمة والدلالة الواضحة. هؤلاء( سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ولا يختارون الإيمان لأنهم بطغيانهم وانهماكهم بضلال الكفر قد ارتجوا قلوبهم وأسماعهم وأحكموا سدها عن أن يلجها شيء من دعوة الإيمان ودلائل آياتها ولا شيء من نور الحق وشافي البيان فاستحقوا بذلك حرمانهم من توفيق الله وتسديده لهم. وإن توفيقه وتسديده جلت آلاؤه من أقوى ما يعين العبد في اختياره للطاعة والإيمان إذ يرفع عنه من طريقهما ما يعرقله ويزل اقدامه من نزغات الشيطان وهفوات الهوى وطموح النفس الأمارة إلى شهواتها ونزغاتها الردية ومألوفاتها. فكان حرمان المتمردين من التوفيق والتسديد بمنزلة الختم على ما سدوه بسوء اختيارهم وطغيانهم. ولأجل ان ذلك الحرمان من الله لخروجهم عن الأهلية نسب الختم الذي سمي به إلى اللهعزوجل لأنّ الله هو الذي بيده أمر التوفيق منحة وحرمانا. وعلى هذا قال جل اسمه ٧( خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ. وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) من التمرد حيث استحبوا العمى على الهدى فلا يبصرون أنوار الحق والعرفان مع إشراقها كالشمس راد الضحى( وَلَهُمْ ) بما جنوه من التمرد في الكفر والطغيان ومحادة الله ورسوله( عَذابٌ عَظِيمٌ ) وغير خفي ان مذهب العدلية من الإمامية والمعتزلة هو انه يمتنع على جلال الله القدوس الكامل الغني أن يمنع الإنسان بالإلجاء عن قبول الإيمان أو يلجئه إلى الكفر أو يكون هو الخالق للكفر فيه فضلا عن أن يلومه ويعاقبه مع ذلك عليه. فإنّ ذلك كله قبيح عقلا كما هو من البديهيات الفطرية. ومن البديهي ان القبيح ممتنع الصدور من الله الغني القدوس. وقد ذكرنا في أخريات شواهد المقام الثاني من الفصل الرابع في المقدمة ان اللهعزوجل قد مجد قدسه في القرآن الكريم بالنزاهة عما هو دون ذلك في القبح ووبخ الناس على أعمال السوء. ولكن ابن المنير

٦٦

في تعليقته على الكشاف تحامل على الزمخشري في هذا المقام وأورد لمذهبه وجوها طالما لهج بها الأشاعرة «أولها» ان مذهب العدلية في المسألة مخالف لدليل العقل على وحدانية الله فإن مقتضاه أنْ لا حادث إلّا بقدرة الله «ويدفعه» أنّ مسألة القدرة غير مسألة التوحيد وغاية ما يقال في قدرة الله انها لا تقصر ولا تضعف عن الممكن وإن صار لقبحه ممتنع الصدور منه لجلال شأنه وقدسه وكماله وغناه. وليس مقتضى دليل العقل على الوحدانية أن يكون الزنا واللواط والكفر ومنع الكافرين عن الإيمان وأمثالها من القبائح تقع بفعل الله وخلقه وقدرته. وأما قولهم ان نسبة الفاعلية للناس وإيجادهم لأفعالهم وخلقهم لها يقضي بالشرك والإشراك مع الله في صفته وهو خلاف الوحدانية والتوحيد. فهو مردود بأن التوحيد الواجب في الإيمان هو توحيد الله ونفي الشريك له في الإلهية وما يعود إليها. وأما في غير ذلك فإن القرآن الكريم نفسه قد شرّك بين الله وعباده في نوع صفة الحياة والعلم والرحمة والرأفة والخلق وغير ذلك وإن كانت صفات الله ممتازة عن نوعها بكماله ومميزاتها «ثانيها» دليل النقل كقوله تعالى( خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) . و( هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ ) . ويرده ان ابن المنير ومن يحتج بهذا كأنهم لم يقرءوا ولم يسمعوا من سورة العنكبوت قول إبراهيم خليل الله لقومه ١٦( تَخْلُقُونَ إِفْكاً ) . وقول الله لعيسى كما في سورة المائدة ١١٠( وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) . وقول عيسى رسول الله كما في سورة آل عمران ٤٣( أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ) . وقوله تعالى من هذا الباب في سورة المؤمنون ١٦( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) . ولماذا لم يلتفتوا من ذلك إلى أن الخلق المقصور على الله إنما هو خلق الإله وإيجاده مما هو من أعمال الإلهية. وعلى ذلك جاء قوله تعالى في سورة الرعد ١٧( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) «ثالثها» انه وان قبح صدور بعض الأفعال من الناس بحسب الشاهد لكن الحكم بقبح صدورها من الله قياس للغائب على الشاهد وهو باطل. ويردهم أولا انه ما اسمج التعبير عن الله وشؤونه بالغائب. وهو على كل شيء شهيد. وهو أقرب إليكم من حبل الوريد «وثانيا» ان الحكم على بعض افعال الناس بالقبح ليس من الحواس الخمس لكي يقال انّ الحواس لا تدرك الله. وان الناس ليعلمون ان العدلية يعنونون هذه المسألة ومحل نزاعها بالحسن والقبح العقليين وينادون بأن الحاكم بالحسن أو القبح إنما هو العقل بنفسه وإدراكه من دون مداخلة للحس أو وجود الفعل في الخارج. وليت شعري هل عند العقل شاهد وغائب «وثالثا» ان حكم

٦٧

العقل الفطري بقبح صدور القبيح من فاعله انما هو بالنظر إلى عقل الفاعل وجهة كماله وعلمه بالفعل وبجهة قبحه ولذا لا يحكم بالقبح الفاعلي على الفاعل من الأطفال والمجانين الذين لا يميزون ولا على الغافل عن الفعل أو جهة قبحه. وان الله هو الكامل العليم الخبير فهو جل قدسه أول من ينظر العقل إلى فعله ويحكم بامتناع صدور القبيح منه جل شأنه «رابعها» انه يقبح من الإنسان أن يمكن عبده من القبائح والفواحش بمرأى منه ومسمع ثم يعاقبه على ذلك مع أن القدرة التي يفعل بها الناس الفواحش هي من الله على علم منه بمن سيفعل الفواحش منهم (ويردهم) ان التمكين القبيح هو ما كان مختصا بفعل الفواحش ولكن اللهعزوجل أعطى القوى للإنسان ليتمتع بها في المباح والراجح نعمة منه لإبقاء نوعه وانتظام اجتماعه. غاية الأمر ان الإنسان يتمكن من أن يعملها في المحرم الذي أرشده إلى تركه بالعقل وزجر الأنبياء ونواهيه في وحيه وإنذارهم لهم بالوعيد. فهذه القوى نعمة مسدودة لا مساس لها بما ذكروه من المثال. ولم يخلق الله قوة مختصة بأعمال الشر لكي تكون نقضا على ما نقول به من مسألة القبح «خامسها» أن ما يكون ظلما قبيحا إنما هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه والله مالك العباد وكل شيء. فكل ما يفعله بالعباد ليس بظلم. ويرده أولا ان العقل لا يتوقف في احكامه وموضوعاتها على ما يذكر في بعض المتون الفقهية أو معاجم اللغة في معنى الظلم تساهلا أو قصورا أو اقتصارا على محل الحاجة في البيان. فإن كل ذي شعور إذا رأى مالك العبد قد سدّ فمه ومنعه بالقهر عن شرب الماء واستمرّ على المنع وهو يقول له اشرب الماء اشرب حتى إذا أضرّ به العطش وهو ممنوع عن الشرب استشاط مالكه غضبا عليه وصار يعنفه وينكل به لأنّه لم يشرب الماء. وكذا لو فعل مثل ذلك فيما يملكه من الحيوان. فإن الرائي لذلك الحال وكل من علم به يحكم بالبداهة ان العبد والحيوان المذكورين مظلومان. وإن المالك المذكور ظالم قد فعل قبيحا. وثانيا. ان مقتضى ما زعموه انّ الأنبياء والرسل الذين أفنوا أعمارهم في طاعة الله وعبادته والدعوة إليه وصبروا في ذلك على الشدائد هؤلاء الكرام يجوز أن يعذبهم الله يوم القيامة في جهنم خالدين فيها بعذاب إبليس وفرعون بزعمهم وإنه ليس بظلم ولا قبيح فإنهم عبيد الله وملكه «سادسها» أنه يجوز ان تكون هناك حكمة تسوغ ان يلجئ الله عباده على الكفر وأعمال الشر ثم يعاقبهم على ذلك فلا سبيل للعقل مع هذا الجواز إلى حكمه بقبح هذا الإلجاء وهذا العقاب (ويردهم) ان العقل يحكم بالقبح والامتناع في هذا وأمثاله لأنّه يجد ان لا حكمة ترفع قبحه وامتناعه من الله ولا يصلح

٦٨

(٨)وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ

____________________________________

لأن ترفع حكمة قبحه. ولو حاول أحد أن يد على العقل باب هذا الوجدان كان ذلك منه سفسطة سخيفة تسد على العقل باب احكامه وذلك باطل بالضرورة. على ان هذا الاحتمال والتجويز للحكمة يرد عليهم بنحو لا مخلص لهم منه أبدا فإنهم بإنكارهم للقبح العقلي وامتناع صدور القبيح من الله قد سدّوا على أنفسهم باب العلم بصدق النبوات وبأن الله لا يظهر المعجز على يد الكاذب وبصدق الكتب الإلهية وما فيها من تقديس الله وأمر القيامة والنعيم والعذاب والجنة والنار فإن قالوا إنا نعرف من عادة الله انه لا يكذب جلّ وعلا ولا يظهر المعجز على يد الكاذب. قلنا عليهم أولا لماذا لا تجوزون ان تكون هناك حكمة تسوغ مخالفة العادة وإذ قد عزلتم العقل في هذا المقام لم يكن لكم أن تقولوا ان العقل يجد أن لا حكمة تجوز مخالفة العادة. مع ان مخالفة العادة ليس فيها محذور لا تعارضه حكمة بخلاف القبيح كما قلناه «وثانيا» ان دعوى العلم بعادة الله لا تليق إلّا من قديم أزلي مطلع على جميع اعمال الله منذ الأزل نفيا وثبوتا لكي يعرف ما صار عادة لله وما لم يصر. ومن ذا الذي يزعم انه ذلك الأزلي المطلع على جميع أعمال الله منذ الأزل. وما هو المانع من مخالفة العادة حتى مع عدم الحكمة. سبحانك اللهم ما أجلى قدسك وكمالك للعقول التي وهبتها لعبادك وأقمت باحكامها عليهم الحجّة ٨( وَمِنَ النَّاسِ ) أي قوم منهم وهم المنافقون( مَنْ يَقُولُ ) أفرد الضمير باعتبار لفظ «من»( آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ) والظاهر كما حكي عليه الاتفاق ان المراد منهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون النفاق ومن الشواهد لذلك قوله تعالى فيما بعد( وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ ) . ذكروا إيمانهم بالله واليوم الاخر جمعا لأطراف الإيمان لأن ايمانهم باليوم الآخر متفرع على الإيمان بالرسول والقرآن. ولأجل أن يظهروا في مخادعتهم أنهم يخافون الله وعذاب الآخرة ويرجون نعيم الثواب فهم ملازمون للتقوى من أجل ذلك. ومرادهم من قولهم آمنا انهم ثبتت لهم صفة الإيمان فهم من زمرة المؤمنين ولا يريدون الاخبار بمجرد صدور الإيمان منهم في الماضي والذي يجتمع مع الثبات عليه ومع الارتداد والنفاق بعده ولذا قال الله جلّ شأنه( وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) بل منافقون ٩( يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) والمخادعة هو ما يسبب الخديعة ويولدها من قول أو فعل والخديعة هو ما يسبب ويتولد من

٦٩

(٩)يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (١٠)فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ

____________________________________

ذلك إذا لم يمنع منه علم من طلبت خديعته أو تسديده من الله أو حذره. والمفاعلة قد تجيء من طرف واحد كما في عافاه الله وعاقب المجرم وعاينت الشيء وحاولت الأمر وزاولته. ولكن مخادعتهم هذه لا تسبب ولا يتولد منها خديعة إلّا لهم( وَما يَخْدَعُونَ ) بها( إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ) لما يعود عليهم في الدنيا والآخرة من وبال مخادعتهم هذه ونفاقهم( وَما يَشْعُرُونَ ) فإن قيل ان هؤلاء المنافقين ان كانوا في الحقيقة دهريين ينكرون وجود الإله فكيف يتوجهون إليه بالمخادعة. وإن كانوا وثنيين يعترفون بالله وإلهيته وعلمه ولكنهم يشركون الأوثان معه في الإلهية فكيف يتصور اقدامهم على مخادعته فيحاولون منه الغرّة والانخداع. قلنا إذا لم يتصور ذلك في تذبذبهم في النفاق وخبطهم في ضلالات الأهواء والكفر فقد قال بعض المفسرين ان المخادعة جاءت هنا على نحو التجوز والاستعارة باعتبار ان قولهم ذلك يشبه المخادعة وان لم يريدوها. ولكن الذي يظهر من المقام انهم بقولهم ذلك يخادعون الرسول والذين آمنوا على حقيقة المخادعة. ولا يجوز استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمعنى المجازي معا. ولذا أبقى المخادعة بعضهم على حقيقتها وقال ان التجوز إنما هو بإضافتها إلى الله دون إضافتها إلى الذين آمنوا والتجوز باعتبار ان الجرأة على مخادعة الرسول في مقدمة الذين آمنوا من حيث انه رسول الله بمنزلة الجرأة على مخادعة الله فأضيفت المخادعة إلى الله على النهج الذي جاء عليه قوله تعالى في سورة الفتح( إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ ) وهذا أظهر القولين ١٠( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) مرض النفاق والتلون واستعير اسم المرض هنا لأن فيه خروجا عن الصحة العادية والنفاق خروج عن الاستقامة الفطرية للبشر وجريهم على ما توضحه الدلائل النيرة. ولأجل تمردهم في نفاقهم خرجوا عن أهلية التوفيق للاستقامة فأعرض الله بوجهه الكريم عنهم وحرمهم الله بركات لطفه( فَزادَهُمُ اللهُ ) بحرمانهم التوفيق( مَرَضاً ) على وتيرة من تمرد بالطغيان فوكله الله إلى نفسه المنهمكة بالقبح منذ اسلست قيادها للهوى والشيطان. وقيل المرض هو غم الحسد والعداوة للمؤمنين وبحرمان الله لهم من توفيقه زاد مرضهم وبهذا الاعتبار نسبت الزيادة إلى الله وقيل ان فزادهم دعاء عليهم ولكن الفاء لا تناسبه. وقيل غير ذلك( وَلَهُمْ

٧٠

(١١)وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١٢)أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٣)وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ ألا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٤)وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ

____________________________________

عَذابٌ أَلِيمٌ ) شديد الألم( بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ) في نفاقهم ومخادعتهم وقولهم آمنا وما هم بمؤمنين. وما ظنك بعذابهم على كفرهم وسوء أعمالهم وفسادهم ١١( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ) بنفاقكم وسوء اعمالكم( قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) وما أكذبه من قول يقوله مريض القلب والمتحكم بجهله أو نفاقه على الحقائق والدين وشؤون الناس. فيسميه اذنابه بالمصلح الكبير ١٢( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ ) بنقصهم وبما يلحقهم من ذلك من وصمة الضلال وظهور الحال ووخامة السمعة ١٣( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ ) بالإيمان المعهود وثبتوا على حقيقة الايمان وتعاليمه الصالحة وأخلاقه الفاضلة والطاعة في نصرهم لدين الحق( قالُوا ) من غيهم( أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ ) الذين آمنوا وخضعوا للإسلام وأحكام دينه والجهاد في سبيل الله وإظهار الحق( أَلا إِنَّهُمْ ) وهم المنافقون( هُمُ السُّفَهاءُ ) الذين هم اختاروا سفاهة النفاق ورذيلته وأضاعوا رشدهم في المعارف ودين الحق وسعادة الدارين والعاقبة الحسنى( وَلكِنْ ) لأجل تماديهم في الغي( لا يَعْلَمُونَ ) بما يكون العلم به فضيلة للإنسان ووسيلة لسلامته من خسة السفاهة الموبقة. وهؤلاء المنافقون زيادة على ما ذكر لهم من قبائح الكفر والأقوال والأفعال مذبذبين ذوي لسانين ووجهين ١٤( وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا ) بحقيقة الايمان الثابت عن بصيرة( قالُوا ) بتزويرهم( آمَنَّا ) ونحن الآن من زمرة المؤمنين( وَإِذا خَلَوْا إلى شَياطِينِهِمْ ) الذين يغرونهم بالكفر ومحادة الله ورسوله( قالُوا ) لهم في خلوتهم بهم( إِنَّا مَعَكُمْ ) على ما أنتم عليه ومن زمرتكم( إِنَّما نَحْنُ ) في حالنا مع المؤمنين وإظهارنا لهم انا منهم( مُسْتَهْزِؤُنَ ) بهم. فتعسا لآراء المنافقين ١٥( اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) بأن يمهلهم ويخوّلهم من حطام الدنيا وحياتها شيئا ومصيرهم في عاقبة ذلك إلى اخس الهوان وأشد العذاب فاستعير لذلك لفظ الاستهزاء لمشابهته له في ابتهاجهم بظاهر الامهال والتخويل مع انه مقرون بالاستهانة بهم واعداد العذاب الأليم.

٧١

(١٥)اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِى طُغْيَٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ١٦ )أُولَٰٓئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَٰلَةَ بِالْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٧)مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ)

____________________________________

ويزداد حسن هذه الاستعارة في مقابلة قولهم انما نحن مستهزءون. واين عنها قول عمر بن كلثوم في معلقته :

ألا لا يجهلن احد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ ) يملي لهم ويمهلهم في تماديهم على طغيانهم مع حرمانهم التوفيق وهذا بمنزلة التفسير لما استعير له لفظ الاستهزاء( يَعْمَهُونَ ) العمه هو العمى في الرأي والبصيرة والتردد في الضلال ١٥( أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى ) إذ كانوا ممن هيأ الله بألطافه لهم اسباب الاهتداء وجعل بلادهم محط بركة الهجرة ومشرق أنوار الوحي ومنار الدلائل والحجج قد أحاطت الألطاف بهم وتوارد عليهم الإرشاد في مصبحهم وممساهم وأجابوا دعوة الإسلام بلا إكراه حرب ولا إرهاب سيف. ولكن هذا الهدى الذي سعدوا بالقرب من موارده العذبة وثماره الجنية قد اشتروا به الضلالة. وان كل مشتر من العقلاء لا بد من أن يراعي منفعته بما اشتراه وغبطته بتجارته وهذا أول ما يطلب من الربح فيها. والربح نقيض الخسران ومن لم يربح في تجارته ولم يكن لما اشتراه منفعة فهو خاسر ويكفي هؤلاء من السفه إنهم اشتروا وتاجروا( فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ) ولا نفع لهم فيما اشتروه فضلا عن وباله في الدنيا والآخرة( وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ) من أول الأمر لأنهم لم يظهروا الإسلام عن بصيرة وإيمان وإنما أظهروه لأغراض أخرى. وقيل وما كانوا مهتدين في تجارتهم والأول أظهر وأوفق بمقتضى الحال ١٧( مَثَلُهُمْ ) في حالهم( كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ) وطلب وقودها لحاجته إلى الضياء( فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ) من النواحي وحان انتفاعه بنورها فيما يعنيه من أموره ذهب ذلك النور وعاد هذا المستوقد في ظلام دامس لا يبصر فيه شيئا وخبط عشواء لا يهتدي فيه سبيلا. وهؤلاء المنافقون المذكورون كانوا يتشرفون بحضرة الرسول (ص) ويستمعون إلى كلامه وحججه في بيانه ودلائله في إرشاده وتلاوته لكتاب الله فهم بذلك كمن استوقد نارا لهدى فلما أضاءت لهم بلطف الله مناهج الرشد ومغاني الحق تمرّدوا على الله بنفاقهم فخرجوا عن كونهم أهلا

٧٢

(١٨)صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ

____________________________________

للتوفيق والتسديد ووكلهم الله إلى أنفسهم الأمّارة وأهوائهم الخبيثة. فأسدلا عليهم ظلمات الضلال بسوء اختيارهم. ولأجل ان ينوّه الله بما للتوفيق والتسديد من الأثر الشريف في تأييد العقل على مكافحته لوساوس الشيطان ونزغات النفس الأمارة واهوائها عبر عن حالهم في غيهم على سبيل المجاز واستعارة التشبيه بأنهم حينئذ( ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ ) وأشار إلى معنى ذلك بقوله تعالى( وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ ) أي خلى الله بينهم وبين أهوائهم وسوء اختيارهم وصاروا يخبطون في ظلمات الضلال لا يبصرون فيها طريق الهدى والرشاد. وقد سلك القرآن الكريم أحسن منهاج البلاغة في بيان مثلهم ونتيجتهم السيئة فذكر مجرى المثل ومغزاه واكتفى بذكر نتيجته بدلالة النتيجة السيئة لحال الذين ضرب المثل في شأنهم فناول السامع تتمة المثل ونتيجة حال المنافقين بأوجز بيان مفهم كما اكتفى بمقدمات المثل عن ذكر المنافقين في استيقادهم لنار الهدى واضاءتها لما حولهم كما ذكرناه وربما تصوره جودة الفهم أحسن مما ذكرناه. ولو بسط القرآن الكلام كما شرحناه للزم التطويل. ولو أهمل ما ذكره لحال المنافقين لما تمثلت من ضرب المثل فائدة لها قيمة بل لو ذكر قبلها نتيجة المستوقد المذكور لأنس الذهن بها ولم يرعه ما ذكر من نتيجة المنافقين السيئة المهولة وذلك خلاف المقصود وحسن البيان.

(ومما ينبغي التنبيه عليه) هو ان بعض التفاسير المعروفة بالفضيلة ذكرت تفسير الآية على غير ما ذكرناه فنشأ من ذلك أمور «أحدها» جرأة غير المسلمين على الاعتراض على القرآن الكريم «ثانيها» التجاؤه إلى ان يجعل «الذي» بمعنى «الذين» وهذا مع وهنه مناف لإفراد الضمير في «استوقد» و «ما حوله» «ثالثها» استشهاده بقوله تعالى في سورة التوبة ٧٠( وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا ) مع ان كلمة «الذي» في الآية للمفرد لا بمعنى الذين «رابعها» عدم ذكر النتيجة السيئة لحال المنافقين وفي ذلك ما فيه. مع ان قوله تعالى( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) إنما هي من صفات المنافقين لا من تتمة المثل وعلى ما ذكره يستلزم ربطها بالمنافقين طفرة كبيرة وفصلا بالأجنبي الطويل وهؤلاء المنافقون الذين ذهب الله بنورهم على ما ذكرناه هم في ضلالهم ١٨( صُمٌ ) جمع أصم وهو الفاقد لحاسة السمع وقيل هو من ولد كذلك( بُكْمٌ ) جمع ابكم قيل هو الأخرس وقيل من ولد كذلك وقيل هو الأخرس مع عيّ وبله( عُمْيٌ )

٧٣

فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ أو كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ

____________________________________

جمع أعمى شبهوا بذلك لأنهم بإصرارهم على الغي قد أخرجوا أنفسهم عن الانتفاع والاهتداء بما يسمعون من الدلائل والوعظ والإنذار والتعليم وعن الاهتداء بسؤالهم عن الحق ومكالمتهم في ذلك وعن الانتفاع بما يشاهدونه مما يوضح لهم سبيل الرشد( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ) إلى حقيقة الإيمان إذ قد استحوذ عليهم الشيطان ١٩( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ ) عطف بأو لأجل التنبيه بالترديد بين المثلين على اختلاف مجراهما ومغزاهما. فكأنه قيل ان شئت ضرب المثل لحال المنافقين مع الإسلام وهداه بالذي استوقد نارا إلى آخره. وان شئت ضرب المثل لشأن الإسلام مع المنافقين فإن مثله كمثل صيب من السماء وحذف لفظ المثل لدلالة ما سبق وسياق الكلام عليه. والصيب هو المنهمل النازل من العلو والسماء جهة العلو فوق الأرض فالمراد من الصيب هو المطر الغزير المنصبّ والذي تحيى به الأرض وتزهر بنباتها وينمو به الزرع والضرع وهو قوام المعيشة للناس وخصوص العرب وأهل البوادي والأنعام ولكنه مع ذلك لا يخلو من أن تقارنه ظلمات تتتابع كلما اكفهر السحاب الهاطل وادلهمت به الآفاق خصوصا إذا كان بالليل. ولذا وصف المطر الصيب بالتوسع في الظرفية بأنه( فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ) إذ لا ينفك عن الرعد والبرق والصواعق وهي الرعود القاصفة المخيفة بصوتها وهي المرادة في الآية وان كانت الصاعقة أيضا اسما للنار النازلة مع ذلك الرعد المخيف. فالإسلام للناس ونظام اجتماعهم كالمطر الصيب فيه حياتهم وسعادتهم في الدارين وزهرة الأرض بالعدل والصلاح والأمن وحسن الاجتماع ولكن معاندة المعاندين للحق وأهله جعلت الإسلام كالمطر لا يخلو من ظلمات شدائد وحروب ومعاداة من المشركين ورعود قتل وقتال وتهديدات مزعجات لغير الصابرين من ذوي البصائر والذين ارخصوا نفوسهم في سبيل الله ونيل السعادة. وفيه بروق من النصر وآمال الظفر واغتنام الغنائم وعزّ الانتصار والمنعة والهيبة. فهم إذا سمعوا صواعق الحرب أخذهم الهلع والحذر من القتل وشبهت حالهم في ذلك بأنهم( يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ ) اجل( الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ) وخوفا من أن تخلع قلوبهم من هول أصواتها. وسفها لعقولهم اين يفرون عن الموت وماذا يجديهم حذرهم( وَاللهُ مُحِيطٌ

٧٤

بِالْكافِرِينَ (٢٠)يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً

____________________________________

بِالْكافِرِينَ ) المنافقين لا مفر لهم من قضائه.( أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ. لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضاجِعِهِمْ ) . أو ان المراد ما هذا الخوف والهلع والتحذر والحال ان الله محيط بالكافرين المحاربين للإسلام وخاذلهم ومهلكهم وقد ظهرت آيات ذلك في غزوة بدر وما قبلها ٢٠( يَكادُ الْبَرْقُ ) اي ما ذكرناه من برق الإسلام وأنوار عزه وسعادته.( يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ ) بشدة أنواره فهم( كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ ) وارتاحوا لبهجته وعلقت آمالهم بسعادة الدنيا( مَشَوْا فِيهِ ) وجاروا المسلمين وأظهروا موافقتهم( وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ ) بأن انقطع عنهم ضوء الآمال لما يرونه أحيانا من ظلمات الشدائد( قامُوا ) ووقفوا في مكانهم في النفاق وثبتوا على حيرة ضلالهم( وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ ) فلا يسمعون بما حصل من المبشرات في الإسلام ولا بما يرد أحيانا على المسلمين من الشدائد ولا يبصرون ذلك فلا يترددون في ضلال النفاق( إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٢١يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا ) الله( رَبَّكُمُ ) واخضعوا له حق الخضوع للآلة وأطيعوه فإنه هو ربكم ومالككم ومدبركم ومربيكم( الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) لم تجئ لعلّ للترجي بل لبيان انه لا يلزم من عبادتهم لله انهم يتقونه حق تقاته بل يجوز أن تقع منهم التقوى المذكورة بحسن اختيارهم ويجوز ان لا تقع لسوء اختيارهم. ولأجل الاحتجاج بآلاء الربوبية وآثار القدرة ذكر من صفات الرب أيضا انه ٢٢( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً ) ممهدا يتيسر لكم الانتفاع بها في السكنى ونحوها والزرع والغرس( وَالسَّماءَ بِناءً ) لا تخشون سقوط أجرامها عليكم. وليس في ذلك صراحة بموافقة الهيئة القديمة ولا صراحة بمخالفة الهيئة الجديدة فإن حقيقة الأمر لا يعلمها إلّا الله وان الأوضاع المذكورة في الهيئتين لا مبنى لها إلّا الحدس الذي تدافعه الشكوك والردود. والمحسوس إنما هي حركات الكواكب( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ) أي من جهتها أو ان المراد من السماء هنا جهة العلو( ماءً ) وهو المطر الذي يحيي به

٧٥

فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ

____________________________________

الأرض بعد موتها( فَأَخْرَجَ بِهِ ) بما خلقه فيه وقدره من الخواص( مِنَ الثَّمَراتِ ) يجوز ان يراد بها ما يعم الحبوب والأطعمة( رِزْقاً لَكُمْ ) وهل يكون ذلك من غير الإله القادر العليم الحكيم. وانكم لتعترفون بالإله وان هذا كله من خلقه وانعامه فما بالكم تجعلون معه آلهة ولو بزعم انها من تنزلات الإلهية. أو انها منبثقة من الإله. أو انها مظاهره. أو بناء على مزاعم العقول العشرة وانه لا يمكن أن يصدر من الله إلّا العقل الأول تعالى الله عما يصفون( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً ) جمع ندّ بكسر النون. قيل ان الندّ المثل وقيل الضدّ. وفي النهاية هو مثل الشيء الذي يضادّه في أموره وينادّه أي يخالفه. وفي المصباح لا يكون الندّ إلّا مخالفا. وفي التبيان ومجمع البيان في الآية المائة والستين وأصل الندّ المثل المناوئ. وفي الكشاف في هذه الآية ولا يقال إلّا للمثل المخالف المناوي ومثله في جمع الجوامع. وفي المصباح ناويته عاديته أو فعلت مثل فعله مماثلة. وفي القاموس فاخره وعاداه ونحوه في النهاية. والمشركون يجعلون لأوثانهم وما يؤلهونه صفة الإلهية واعمالها وبذلك يجعلون كلا مما يشركون به ندّا لله ومثلا معارضا له في إلهيته واعمالها( وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) ان الإله الخالق المعبود والمطاع هو الله فما هذه المزاعم وما هذا الشرك المناقض لعلمكم ومعرفتكم ولو تدبرتم الحجج الساطعة لعرفتم كيف لبست عليكم الأوهام ودلست على عقولكم الأهواء. فوحدوا الله ايها الناس كما هو حقه وآمنوا بعبد الله رسوله الذي جاء بالحجج الباهرة وأنزل عليه القرآن العظيم ٢٣( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا ) من القرآن( عَلى عَبْدِنا ) وشككتم في انه كلام الله ووحيه المنزل من عنده وجوزتم أن يأتي به بشر من عند نفسه بلا وحي من الله( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) أي مثل القرآن فإنه نزل بلسانكم العربي وأنتم أهل الفصاحة والبلاغة. وقد بلغتم أوج الرقي في الأدب العربي بما تناله القدرة البشريّة ولكم المهلة والأناة( وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ) الذين ينصرونكم ويشهدون لكم لكي تستظهروا بشهادتهم فإن الله لا يشهد لكم فإنه يعلم انكم لا تقدرون على ذلك. أو وادعوا رجال بلاغتكم الذين يشهدون المواسم وأسواق العرب

٧٦

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

____________________________________

لأجل المفاخرة في البلاغة والمسابقة في ميادينها فاستعينوا بهم على ذلك من دون الله. فإن الاستعانة بالله على ذلك ودعاءه يجعل الإتيان بالسورة والأكثر ممكنا بواسطة اعانة الله ووحيه كإمكانه لرسول الله( إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) في زعمكم ان القرآن يمكن للإنسان بقدرته البشريّة أن يأتي به أو بمثله أو بسورة من مثله. وهؤلاء وإن كان صدقهم في ذلك ممتنعا يناسب ان يقال فيه لو كنتم صادقين لكن قيل( إِنْ كُنْتُمْ ) مجاراة لهم وملاينة في الخطاب واما قوله تعالى( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ ) مع ان ظاهرهم الجحود لكون القرآن منزلا من الله فيجوز أن يكون لأجل علمه جل شأنه بأن منهم من تأثر قليلا بكثرة الشواهد على الرسالة وإنزال القرآن من الله فيرجع أمره من الجحود إلى الشك والريب في ذلك فاحتج الله عليهم بالحجة القاطعة لوساوس الشك وعناد الجحود. أو انه جل شأنه احتج على ادنى معارض للإيمان وهو الريب بالحجة الجارية فيه وفي الجحود ٢٤( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ) ولم تأتوا بسورة من مثله لعجزكم وقصور القدرة البشريّة عن ذلك( وَلَنْ تَفْعَلُوا ) اخبار لهم بأنهم لا يفعلون ذلك لخروجه عن القدرة البشريّة مهما برعوا وتقدموا في الفصاحة والبلاغة ومهما تعاونوا واستعانوا بالبشر( فَاتَّقُوا النَّارَ ) أي فإن عجزتم ولم تفعلوا لزمكم ان تعرفوا ان القرآن منزل من الله على رسوله ولزمكم الإيمان بالكتاب وبالرسول وان لم يدعكم إلى الإيمان شرف الانسانية والعقل والرغبة في السعادة على نهج إيمان الأحرار فلا أقل من أن يدعوكم الخوف كما في طاعة العبيد فإن من ورائكم النار التي أنذركم بها القرآن( الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) الوقود بفتح الواو ما توقد به النار فما ظنكم بنار يكون وقودها الناس بلحومهم ودمائهم وفضلاتهم ووقودها مطلق الحجارة فاتقوها بإيمانكم وطاعتكم لله ورسوله( أُعِدَّتْ ) وهيئت( لِلْكافِرِينَ ) الذين يموتون على الكفر. ثم قرن جل شأنه وعيده للكافرين ببشراه للمؤمنين بقوله جل اسمه ٢٥( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ) يتنعمون بها ومن كمال بهجتها وروحها وجمال منظرها انها( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) على عادة الجنان ذوات البهجة والرونق من أن الماء لا ينقطع عنها ولا يعلوها فتكون كالمستنقعات

٧٧

كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً

____________________________________

بل تكون مجاري مياهها اوطأ من ارضها يتنعمون بثمارها و( كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً ) رأوا ذلك من جنس ثمار الدنيا و( قالُوا ) عند ذلك( هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ ) في الدنيا. والحكمة في كون ثمار الجنة من جنس ثمار الدنيا هو ان ذلك ادعى للرغبة إلى نعيم الجنة واحسن وقعا في البشرى فإن النفوس تهش إلى مألوفاتها ولو ذكر للناس ما لم يروا له نموذجا في الدنيا لما رغبوا فيه رغبتهم فيما يعرفونه( وَأُتُوا بِهِ ) الظاهر انه رزق الجنة( مُتَشابِهاً ) فيما بينه في الحسن والجودة لم يختلط مع جيده ردي( وَلَهُمْ فِيها ) في الجنة( أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ) طهرهن الله في خلقه لهن وناهيك بذلك وصفا ثابتا ومقتضى اطلاق التطهير انهن منزهات من كل ما يستقذر في خلقهن وأخلاقهن( وَهُمْ فِيها ) في الجنة( خالِدُونَ ) مدى الأبد ٢٦( إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما ) أي مثل يكون بحسب المناسبة في التمثل سواء كان بالحقير أو بالخطير والاية تشعر بأنها توبيخ لمن استنكر ضرب الله للأمثال ويجوز أن يكون لمنع الاعتراض على ضرب الله للمثلين المتقدمين وغيرهما وان لم يسبق من احد اعتراض. ورويت في نزولها اسباب ولم تصح ولا تسلم من وجوه الشك والخدشة. ولا يخفى ان في ضرب المثل فوائد كبيرة في التلقين والفهم لا تحصل بدونه. فإنه بتمثيله بالمحسوسات والمعهودات والمألوفات يشتد تأثر النفس بها ويستلفت الذهن إلى الإقبال على فهم الأمر الممثل له فيستحكم تأثر النفس به. ومعنى( إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي ) هو ان ضرب المثل مع ما فيه من الحكمة واللطف في البيان لا يتركه الله لأجل حقارة الممثل به أو ان الممثل له أعظم منه بكثير. وقد اقتضت المناسبة والتشبيه ان يستعار للترك المذكور لفظ الاستحياء الذي هو انفعال في النفس وخجل يمنع عن إبداء الشيء وان تعلق به غرض( بَعُوضَةً ) من هذا البعوض المستحقر لصغره( فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) والجاري على الحكمة في بيان الحقيقة( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ) على سبيل الاستنكار والاستخفاف( ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً ) والظاهر انهم يقولون( أَرادَ اللهُ ) على

٧٨

يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إلّا الْفاسِقِينَ (٢٦)الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أمر اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ

____________________________________

سبيل الاستهزاء بدعوى الرسول ان المثل وحي منزل من الله فإن الكافرين بل والمنافقين ينكرون الوحي المذكور ولو اعترفوا به لما قالوا قولهم هذا. وقد اعرض الله عن بيان ما أراد بالمثل فإن بيانه مقرون به وعن ذكر فائدته فإن حكمته ومغزاه ونتيجته واضحة لا يتجاهل فيها إلّا السفيه المعاند ولكنه جل شأنه أجابهم بعاقبته السيئة بالنسبة إليهم فيما هم عليه من العناد وبأثره الحميد بالنسبة للمؤمنين فقال جل اسمه( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ) من الناس المنكرين على المثل أو المستهزئين أي تكون عاقبتهم في ذلك الضلال وان أراد الله به تفهيمهم وهدايتهم. وذلك كما قيل فلان قتل فلانا بحلمه فإنه لم يرد بحلمه إلّا فضيلته ولكن صارت عاقبته ان فلان الآخر اغتر بجهله واجترأ على آخر فقتله فنسب القتل إلى فلان الأول باعتبار ان حلمه كانت عاقبته قتل ذلك المغتر بسوء اختياره( وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) وهم المؤمنون إذ يتدبرونه ويهتدون بمفاده ويعرفون حكمته( وَما يُضِلُّ بِهِ ) بالمعنى المذكور( إِلَّا الْفاسِقِينَ ) وهم الكافرون والمنافقون الهاتكون للحجاب فإن الفسق في اللغة هو خروج الشيء من حجابه يقال فسقت التمرة إذا خرجت من قشرها. ولا يضر بعمومه للكافرين والمنافقين كونه في الاصطلاح المتأخر مختصا بالمسلم العامل بالمعاصي ٢٧( الَّذِينَ ) الأظهر ان ذلك بيان لصفات مطلق الفاسقين لا خصوص من يضلهم ضرب المثل( يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ) نقض البناء هدمه ونقض الحبل حل فتله فهو ضد ابرامه. والعهد يستعمل في الوصية نحو قوله تعالى ألم أعهد إليكم يا بني آدم. وفي الوعد المقرون بإظهار الالتزام به. والميثاق مصدر من الوثوق مثل الميعاد من الوعد والميلاد من الولادة أي ينقضون وصية الله لهم أو ما أعطوه لله من العهد مع توثيقه بالمؤكدات. وشبه عهد الله في توثيقه وربطه ما بين العبد وربه بالحبل وابرامه فاستعير لمخالفته لفظ النقض. والأظهر ان المراد ما عهده الله إلى الناس ووثقه سواء كان بدلالة العقل أم بتبليغ الرسل والكتب المنزلة وسواء كان في التوحيد والمعرفة أم في النبوة أم في الإمامة ام في الدين والشريعة( وَيَقْطَعُونَ ما أمر اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) ومن ذلك صلة الأرحام وصلة الرسول والإمام بالطاعة كما أمر

٧٩

(٢٨)كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إليه تُرْجَعُونَ

____________________________________

الله. وصلة قربى الرسول بالمودة ونحوها( وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ) في فسقهم وما ذكر من سوء اعمالهم ٢٨( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ) يجوز أن يكون الخطاب المتكرر في الآية للكافرين وتكون «كيف» لتوبيخهم على كفرهم مع ما يذكر من الحجة. ويجوز أن يكون ذلك خطابا لجميع الناس وبيانا لأنّه لا يليق ان يختار الكفر انسان له شعور مع قيام الحجج في نفس وجوده وأحواله على حقيقة العرفان لله أفيكفر بالله( وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ) الواو حالية ولا حاجة إلى إضمار «قد» بل لا يصحّ لأنّه يستلزم ان تكون الحال جملة( وَكُنْتُمْ أَمْواتاً ) وليس كذلك لأنها لا تفي بالحجة بل الجملة الحالية مجموع وكنتم أمواتا فأحياكم أو هو وما بعده ولا ينتظم ذلك بمعنى واحد يكون حالا إلّا إذا جعل الجميع خبرا لأنتم محذوفة اي وأنتم تعتور عليكم هذه الأمور الكافية في الدلالة على وجود الإله الواحد القهار. والمراد من كونهم أمواتا انهم كانوا أشياء فاقدة للحياة ومن اقرب عهودهم بذلك انهم كانوا نطفا في الأصلاب أو كانوا في الأرحام علقة أو مضغة أو عظاما ولحما ولا حياة في شيء من ذلك فجعل فيهم الحياة ولا يكون ذلك بلا مؤثر ولا من لا شيء ولا من فاقد العلم والحكمة والإرادة. فليعتبر الإنسان بما في تركيب بدنه وأجزائه وأوضاعها وأسباب حياته من بواهر الحكم وعجائب الصنع ثم ليعتبر بما وهب له من الحياة والحواس والإدراك وقد أوضح وجه الاعتبار بذلك بالنحو العرفي والعقلي في رسالة البلاغ المبين( ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ) في آجالكم( ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) ان كان هذا من تتمة الاحتجاج فلا بد من أن يحمل على أمر معلوم محسوس لجميع الناس ومعناه حينئذ أنه يحيي نوعكم باحياء أمثالكم من الناس وفي هذه القدرة التامة الدائمة عبرة وحجة لأولي الألباب. وإن لم يكن من تتمة الاحتجاج كما هو المناسب لقوله تعالى( ثُمَّ إليه تُرْجَعُونَ ) بل كان اخبارا بمواقع قدرته وآثار حكمته فإنه يكون المراد يحييكم في القبر. ويجوز أن يكون المراد يحيي بعضكم في الرجعة التي يقول بها الإمامية ونسبت الحياة إلى النوع تجوزا( ثُمَّ إليه تُرْجَعُونَ ) يوم القيامة وليس رجوعهم بعد غيبوبتهم أو انفصالهم عنه جل وعلا بل كما تقول للحاضر عندك إليّ مرجعك أي لا مهرب لك ولا بد من أن أنفذ فيك حكمي وعدلي وإن

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

وتفسير الطبريّ ( ج ١٠؛ ٦ ) وفتح القدير ( ج ٢؛ ٢٩٥ ) والدّرّ المنثور ( ج ٣؛ ١٨٧ ) وسنن النسائي ( ج ٧؛ ١٢١ ) وصحيح البخاري ( ج ٣؛ ٣٦ ) وصحيح مسلم ( ج ٢؛ ٧٢ ) ومسند أحمد ( ج ١؛ ٢٩٤ ) وشرح النهج ( ج ١٦؛ ٢٣٠ - ٢٣١ ) و ( ج ١٢؛ ٨٣ ) والمصنف لابن أبي شيبة ( ج ١٢؛ ٤٧١ / الحديث ١٥٢٩٧ ) و ( ج ٥؛ ٢٣٨ / الحديث ٩٤٠٨ ) و ( ج ١٢؛ ٤٧٢ / الحديث ١٥٣٠١ ) والسنن الكبرى ( ج ٦؛ ٣٤٤ ) ومشكل الآثار ( ج ٢؛ ٣٦ ) والأموال (٣٣٢). وانظر النصّ والاجتهاد (١١١).

رضيت وإن انتهكت الحرم

إنّ انتهاك القوم حرمة عليّعليه‌السلام ، وحرمة الزهراءعليها‌السلام ، وحرمة الدين، ثابت بالأدلّة القطعيّة، حتّى أنّ عليّاعليه‌السلام صرّح بظلامته في كثير من الموارد، وصرّح بلفظ استحلال حرمته أيضا في خطبه وكلماته، ففي مناقب ابن شهرآشوب ( ج ٢؛ ٢٠٢ ) في خطبة لأمير المؤمنينعليه‌السلام قال فيها: اللهم إنّي استعديك على قريش، فخذ لي بحقّي؛ ولا تدع مظلمتي لها، وطالبهم يا ربّ بحقّي فإنّك الحكم العدل، فإنّ قريشا صغّرت قدري، واستحلّت المحارم منّي، واستخفّت بعرضي وعشيرتي إلى آخر الخطبة. والخطبة في كتاب العدد القويّة ( ١٨٩ - ١٩٠ / الحديث ١٩ ).

ونقلها العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ( ج ٨؛ ١٦٩ ) نقلا عن كتاب العدد نقلا عن كتاب « الإرشاد لكيفيّة الطلب في أئمّة العباد » للصفار.

وانظر كلامه القريب من ذلك في نهج البلاغة ( ج ٢؛ ٨٥ / الخطبة ١٧٢ ) و ( ج ٢؛ ٢٠٢ ) والإمامة والسياسة ( ج ١؛ ١٧٦ ).

وسيأتي انتهاكهم حرمة عليّعليه‌السلام في الطّرفة الثامنة والعشرين عند قوله: « وبعثوا إليك طاغيتهم يدعوك إلى البيعة، ثمّ لبّبت بثوبك، وتقاد كما يقاد الشارد من الإبل »، وفي الطّرفة التاسعة عشر انتهاكهم حرمة الزهراء والحسنينعليهم‌السلام ، عند قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله « وويل لمن انتهك حرمتها »، وما بعده من حرق الباب وضربها وإسقاط جنينها وشجّ جنبيها.

٣٤١

وعطّلت السنن

إنّ تلاعب الثلاثة - ومن بعدهم معاوية - بالأحكام ممّا لا ينكره ذو عقل، ولا يجحده إلاّ مكابر، وقد ألّفت الكتب في ذلك، ومخالفاتهم لسنّة رسول الله مبثوثة في كتب المسلمين، وفي أغلب أبواب الفقه، بل في أمّهات أبوابه وأساسيّات مسائله، وذلك جهلا منهم بالأحكام وعداوة لله ولرسوله، ولذلك كان أئمّة أهل البيت يؤكّدون هذه الحقيقة ويصدعون بها ويبيّنونها للمسلمين.

ففي الكافي ( ج ٨؛ ٣٢ ) قول عليّعليه‌السلام في الخطبة الطالوتيّة: ولكن سلكتم سبيل الظلام فأظلمت عليكم دنياكم برحبها، وسدّت عليكم أبواب العلم، فقلتم بأهوائكم، واختلفتم في دينكم، فأفتيتم في دين الله بغير علم، واتّبعتم الغواة فأغوتكم، وتركتم الأئمّة فتركوكم، فأصبحتم تحكمون بأهوائكم ...

وفي تفسير العيّاشي ( ج ١؛ ١٦ ) عن الصادقعليه‌السلام ، قال: لا يرفع الأمر والخلافة إلى آل أبي بكر أبدا، ولا إلى آل عمر، ولا إلى آل بني أميّة، ولا في ولد طلحة والزبير أبدا، وذلك أنّهم بتروا القرآن وأبطلوا السنن، وعطّلوا الأحكام.

وفي الكافي ( ج ٨؛ ٥٨ ) بسنده عن سليم بن قيس الهلالي، قال: خطب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ صلّى على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ قال: إنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، يجري الناس عليها ويتّخذونها سنّة، فإذا غيّر منها شيء قيل: قد غيّرت السنّة ثمّ أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصّته وشيعته، فقال:

قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، متعمّدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيّرين لسنته، ولو حملت الناس على تركها - وحوّلتها إلى مواضعها، وإلى ما كانت في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - لتفرّق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي، الّذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيمعليه‌السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ،

٣٤٢

ورددت فدك إلى ورثة فاطمةعليها‌السلام ، ورددت صاع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما كان، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ ورددت ما قسم من أرض خيبر، ومحوت دواوين العطايا، وأعطيت كما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعطي بالسويّة ولم أجعلها دولة بين الأغنياء، وألقيت المساحة، وسوّيت بين المناكح، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عزّ وجلّ وفرضه، ورددت مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ما كان عليه، وسددت ما فتح فيه من الأبواب، وفتحت ما سدّ منه، وحرّمت المسح على الخفّين، وحددت على النبيذ، وأمرت بإحلال المتعتين، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرّحمن الرّحيم، وأخرجت من أدخل مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجده ممّن كان رسول الله أخرجه، وأدخلت من أخرج بعد رسول الله ممّن كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أدخله، وحملت الناس على حكم القرآن، وعلى الطلاق على السنّة، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها إذا لتفرّقوا عنّي ما لقيت من هذه الأمّة، من الفرقة وطاعة أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار ....

وفي مصباح الكفعمي ( ٥٥٢، ٥٥٣ ) المروي عن ابن عبّاس أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام كان يقنت به، فيه قولهعليه‌السلام : اللهم العن صنمي قريش وجبتيها وطاغوتيها وأفّاكيها وابنتيهما، الّذين خالفا أمرك وحرّفا كتابك وعطّلا أحكامك، وأبطلا فرائضك اللهم العنهم بعدد كلّ منكر أتوه، وحقّ أخفوه وفرض غيّروه، وأثر أنكروه وخبر بدّلوه، وكفر نصبوه، وإرث غصبوه، وفيء اقتطعوه، وسحت أكلوه، وخمس استحلّوه وحلال حرّموه وحرام أحلّوه اللهم العنهم بكلّ آية حرّفوها، وفريضة تركوها، وسنّة غيّروها، ورسوم منعوها، وأحكام عطّلوها ...

وانظر الأحكام الّتي بدّلوها والسنن الّتي عطّلوها في بحار الأنوار ( ج ٨؛ الباب ٢٢ / ٢٣ - ٢٥ ) في تفصيل مطاعن الأوّل والثاني والثالث على التوالي، ودلائل الصدق ( ج ٣؛ ٥ - ١٠٥ ) في مطاعن الأوّل، ( ١٠٧ - ٢٣٧ ) في مطاعن الثاني، ( ٢٤١ - ٣٤١ ) في مطاعن الثالث،

٣٤٣

والغدير ( ج ٧؛ ٩٥ - ١٨١ ) فيما يتعلّق بالأوّل، ( ج ٦؛ ٨٣ - ٣٣٣ ) في مطاعن الثاني بعنوان « نوادر الأثر في علم عمر »، ( ج ٨؛ ٩٧ - ٣٢٣ ) فيما يتعلّق بعثمان، النصّ والاجتهاد في ابتداعاتهم جميعا، والطرائف ( ٣٩٩ - ٤٩٨ ) في مطاعنهم جميعا.

ومزّق الكتاب

روى الشيخ الصدوق في الخصال (١٧٥) بسنده عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال: يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون إلى الله: المصحف والمسجد والعترة، يقول المصحف: يا ربّ حرّقوني ومزّقوني وانظر بحار الأنوار ( ج ٢؛ ٨٦ ) عن المستدرك المخطوط لابن البطريق، وفي بصائر الدرجات ( ٤٣٣، ٤٣٤ ) بلفظ ( حرّفوا ) بدلا عن ( حرّقوا ).

وفي مقتل الحسين للخوارزمي ( ج ٢؛ ٨٥ ) بسنده عن جابر الأنصاريّ، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يجيء يوم القيامة ثلاثة: المصحف والمسجد والعترة، فيقول المصحف: حرقوني ومزّقوني ونقله الإمام المظفر في دلائل الصدق ( ج ٣؛ ٤٠٥ ) عن كنز العمال ( ج ٦؛ ٤٦ ) عن الديلمي عن جابر أيضا، وعن أحمد والطبراني وسعيد بن منصور، عن أبي أمامة، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي حديث أصحاب الرايات الخمس التي ترد يوم القيامة، أنّهم يسألون عن الكتاب والعترة، فيقول أصحاب أربع رايات منها: أمّا الأكبر فكذّبناه ومزّقناه كما في اليقين ( ٢٧٥، ٢٧٦ ) والخصال (٤٥٩) وتفسير القمّي ( ج ١؛ ١٠٩ ). وستأتي تخريجات هذا الخبر ومتنه في الطّرفة الثانية والثلاثين عند قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « ابيضّت وجوه واسودّت وجوه، وسعد أقوام وشقي آخرون »، وفيها التصريح بأنّ الثلاثة هم أصحاب الرايات الثلاثة الأول، وهم القائلون هذا القول، فلاحظه.

وقد ثبت أنّ عثمان بن عفان هو الّذي أحرق المصاحف واستهان بها، وكان ذلك ممّا نقمه عليه المسلمون، حتّى كسر عثمان أضلاع ابن مسعود لمعارضته حرق المصاحف.

ففي تقريب المعارف (٢٩٦) عن زيد بن أرقم أنّه سئل: بأي شيء كفّرتم عثمان؟ فقال:

٣٤٤

كفّرناه بثلاث: مزّق كتاب الله ونبذه في الحشوش الخ.

وفي إرشاد القلوب (٣٤١) قول حذيفة بن اليمان: وأمّا كتاب الله فمزّقوه كلّ ممزّق ....

وفي المسترشد (٤٢٦) في كتاب عليّ الّذي أخرجه للناس، قال في شأن عثمان: وأنحى على كتاب الله يحرّقه ويحرّفه ...

وفي كتاب سليم بن قيس (١٢٢) وفي الاحتجاج ( ج ١؛ ١٥٣ ) قول طلحة: وقد عهد عثمان حين أخذ ما ألّف عمر، فجمع له الكتّاب، وحمل الناس على قراءة واحدة، فمزّق مصحف أبي بن كعب وابن مسعود وأحرقهما بالنار ....

وانظر في حرق المصاحف وتمزيقها تاريخ اليعقوبي ( ج ٢؛ ١٥٧ ) وتاريخ المدينة المنوّرة ( ج ٣؛ ٩٩١ )، عن أنس وبكير، وصحيح البخاريّ ( ج ٦؛ ٩٦ ) وكنز العمال ( ج ٢؛ ٥٨١ ) بسند عن الزهريّ، عن أنس، وفيه لفظ « وأمر بسوى ذلك في صحيفة أو مصحف أن يحرق »، ثمّ كتب « ابن سعد خ ت ن، وابن أبي داود وابن الأنباريّ معا « في المصاحف » حب، ق » انتهى.

وفي تاريخ الطبريّ ( ج ٧؛ ١٦٠ ) ذكر تسمية الناس لعثمان من بعد « شقّاق المصاحف »، وكان كلّ ذلك بسبب غصب الخلافة من آل محمّد، وتسلّط من لا علم له بالدين على أمور المسلمين بالقهر والمؤامرات، فصاروا يهتكون حرمات الله دون رادع ولا وازع، حتّى آل الأمر إلى أن يستفتح الوليد بن يزيد - خليفة المسلمين!! - بكتاب الله، فإذا هو بقوله تعالى:( وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) (١) ، فنصب القرآن غرضا ومزّقه بالسهام، وأنشد يقول:

تهدّد كلّ جبار عنيد

فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربّك يوم حشر

فقل يا ربّ مزّقني الوليد

انظر تمزيق الوليد للمصحف في مروج الذهب ( ج ٣؛ ٢٢٨، ٢٢٩ ) والفتوح ( ج ٤؛ ٣٣٣ )

__________________

(١) إبراهيم؛ ١٥

٣٤٥

والكامل في التاريخ ( ج ٥؛ ٢٩٠ ) والأغاني ( ج ٧؛ ٤٩ ) والبدء والتاريخ ( ج ٦؛ ٥٣ ).

وهدّمت الكعبة

في بصائر الدرجات ( ٤٣٣، ٤٣٤ ) بسنده عن جابر، عن الباقرعليه‌السلام ، قال: دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أصحابه بمنى فقال: يا أيّها الناس، إنّي تارك فيكم حرمات الله، وعترتي، والكعبة البيت الحرام، ثمّ قال أبو جعفر: أمّا كتاب الله فحرّفوا، وأمّا الكعبة فهدموا ...

ويدلّ عليه ما مرّ من حديث المصحف والمسجد والعترة، لأنّ المراد من المسجد، مسجد بيت الله الحرام، حيث يقول المسجد: يا ربّ خرّبوني وعطّلوني وضيّعوني، وهو أشرف المساجد وأوّلها.

وعلى كلّ حال، فقد أحرقت الكعبة وهدمت مرتين، الأولى على يد الحصين بن نمير، والثانية على يد الحجّاج لعنهما الله، وكانت المرّتان بسبب اعتصام عبد الله بن الزبير ومقاتلته في الكعبة:

أمّا الأولى : فقد أحرق الحصين بن نمير الكعبة المشرّفة وهدمها في أواخر أيّام يزيد لعنه الله، وبأمر منه، وذلك بعد وقعة الحرّة وانتهاك حرمة المدينة.

قال الطبريّ في تاريخه ( ج ٧؛ ١٤ ) في أحداث سنة ٦٤: قذفوا البيت بالمجانيق وحرقوه بالنار، وأخذوا يرتجزون ويقولون:

خطارة مثل الفنيق المزبد

نرمي بها أعواد هذا المسجد

وقال المسعوديّ في مروج الذهب ( ج ٣؛ ٨١ ): ونصب الحصين فيمن معه من أهل الشام المجانيق والعرّادات على مكّة والمسجد، من الجبال والفجاج فتواردت أحجار المجانيق والعرّادات على البيت، ورمي مع الأحجار بالنار والنفط ومشاقات الكتّان وغير ذلك من المحرقات، وانهدمت الكعبة واحترقت البنيّة.

وقال ابن أعثم الكوفيّ في الفتوح ( ج ٣؛ ١٨٥ - ١٨٦ ): والحصين بن نمير قد أمر بالمجانيق فنصبت، فجعل يرمي أهل مكّة رميا متداركا، لا يفتر من الرمي، فجعل رجل من

٣٤٦

أهل مكة يقول في ذلك:

ابن نمير بئس ما تولّى

قد أحرق المقام والمصلّى

وبيت ذي العرش العليّ الأعلى

قبلة من حجّ له وصلّى

وقال ابن قتيبة في الإمامة والسياسة ( ج ٢؛ ١٦، ١٧ ): ونصب [ الحصين ] عليها العرّادات والمجانيق، وفرض على أصحابه عشرة آلاف صخرة في كلّ يوم، يرمونها بها وكانت المجانيق قد أصابت ناحية من البيت الشريف فهدمته مع الحريق الّذي أصابه.

وانظر في ذلك الكامل في التاريخ ( ج ٤؛ ١٢٤ ) وتاريخ اليعقوبي ( ج ٢؛ ٢٥١ ) والأخبار الطوال ( ٢٦٧، ٢٦٨ ) والبدء والتاريخ ( ج ٦؛ ١٥ ).

وأمّا المرّة الثانية: فقد أحرق الحجّاج الكعبة المشرّفة في محاصرته لعبد الله بن الزبير في سنة ٧٣ ه‍، حيث طال الحصار ستّة أشهر وسبع عشرة ليلة كما نصّ عليه الطبريّ في تاريخه ( ج ٧؛ ٢٠٢ ) وكانت مكّة والبيت الحرام بيده من سنة ٦٤ ه‍ حتّى سنة ٧٣ ه‍، وكان هو يقيم الحجّ للناس، وكان يأخذ البيعة لنفسه من الحجّاج، فمنع عبد الملك بن مروان أهل الشام من الحجّ وبنى الصخرة في بيت المقدس، فكان الناس يحضرونها يوم عرفة ويقفون عندها. انظر في ذلك وفيات الأعيان ( ج ٣؛ ٧١ - ٧٢ ) في ترجمة عبد الله بن الزبير، وهل بعد هذا التلاعب في الدين من تلاعب؟!

وعلى أيّ حال، فإنّ الكعبة المشرّفة أحرقت مرّة ثانية، وكان الحجّاج يرمي الكعبة بنفسه، قال ابن الأثير في الكامل ( ج ٤؛ ٣٥١ ) في أحداث سنة ٧٣:

وأوّل ما رمي بالمنجنيق إلى الكعبة رعدت السماء وبرقت، وعلا صوت الرعد على الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا أيديهم، فأخذ الحجّاج حجر المنجنيق بيده، فوضعه فيه ورمى به معهم.

وقال اليعقوبي في تاريخه ( ج ٢؛ ٦٦ ): وقدم الحجّاج فقاتلهم قتالا شديدا، وتحصّن [ ابن الزبير ] بالبيت، فوضع عليه المجانيق، فلم يزل يرميه بالمنجنيق حتّى هدم البيت.

وقال ابن أعثم الكوفي في الفتوح ( ج ٣؛ ٣٨٦ ): وجعلوا يرمون البيت الحرام بالحجارة،

٣٤٧

وهم يرتجزون بالأشعار فلم يزل الحجّاج وأصحابه يرمون بيت الله الحرام بالحجارة حتّى انصدع الحائط الّذي على بئر زمزم عن آخره، وانتقضت الكعبة من جوانبها، قال: ثمّ أمرهم الحجّاج فرموا بكيزان النفط والنار، حتّى احترقت الستارات كلّها فصارت رمادا، والحجّاج واقف ينظر في ذلك كيف تحترق الستارات، وهو يرتجز ويقول:

أما تراها صاعدا غبارها

والله فيما يزعمون جارها

فقد وهت وصدعت أحجارها

ونفرت منها معا أطيارها

وحان من كعبته دمارها

وحرقت منها معا أستارها

لما علاها نفطها ونارها

وانظر في ذلك الإمامة والسياسة ( ج ٢؛ ٣٨ ) والأخبار الطوال (٣١٤) وتاريخ الطبريّ ( ج ٧؛ ٢٠٢ ) ومروج الذهب ( ج ٣؛ ١٢٠ ) والخرائج والجرائح (٢٤١).

وخضبت لحيتي من رأسي بدم عبيط

هذا الإخبار من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام بشهادته وقاتله، يعدّ من دلائل وعلامات نبوّة نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد اتّفق على نقل هذا الإخبار جميع المسلمين في كتبهم ومصادرهم الروائيّة، واتّفقوا على أنّ عليّاعليه‌السلام كان يقول: ما ينتظر أشقاها، عهد إليّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لتخضبنّ هذه من هذا. رواه ابن المغازلي في مناقبه (٢٠٥).

وفي كتاب سليم بن قيس (٩٤) قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام : تقتل شهيدا، تخضب لحيتك من دم رأسك.

وفي أمالي الصدوق (٩٩) بسنده، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أمّا عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فيضرب على قرنه ضربة تخضب منها لحيته.

وفي كشف الغمّة ( ج ١؛ ٤٢٧ ) عن عليّعليه‌السلام ، قال: إنّي سمعت رسول الله الصادق المصدّقصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: إنّك ستضرب ضربة هاهنا - وأشار إلى صدغيه - فيسيل دمها حتّى تخضب

٣٤٨

لحيتك، ويكون صاحبها أشقاها كما كان عاقر الناقة أشقى ثمود.

وانظر في ذلك روضة الواعظين (٢٨٨) والخرائج والجرائح ( ١١٥، ١٧٦ ) وأمالي الطوسي (٦٦) والخصال ( ٣٠٠، ٣٧٧ ) ومناقب ابن شهرآشوب ( ج ١؛ ٢٧٢ ) و ( ج ٢؛ ١١٨ ) وإرشاد المفيد (١٦٨) وإرشاد القلوب (٣٥٨) وبشارة المصطفى (١٩٨) ومقاتل الطالبيين (٣١) وشرح النهج ( ج ٤؛ ٣٦٩ ) وأسد الغابة ( ج ٤؛ ٣٤ - ٣٥ ) وتذكرة الخواص ( ١٧٢ - ١٧٥ ) ومناقب الخوارزمي (٢٧٥) ومسند أحمد ( ج ٤؛ ٢٦٣ ) ومستدرك الحاكم ( ج ٣؛ ١١٣، ١٤٠ ) وخصائص النسائي ( ١٢٩ - ١٣٠ ) ونزل الأبرار ( ٦١ - ٦٢ ) وكفاية الطالب (٤٦٣) وكنز العمال ( ج ١١؛ ٦١٧ ) وتاريخ دمشق ( ج ٣؛ ٢٧٠ / الحديث ١٣٤٨ ) و ( ٢٧٩ الحديث ١٣٦٥ ) و ( ٢٨٥ / الحديث ١٣٧٥ ) و ( ٢٩٣ / الحديث ١٣٩١ ) ومجمع الزوائد ( ج ٩؛ ١٣٦، ١٣٧، ١٣٨ ) وأنساب الأشراف ( ج ٢؛ ٤٩٩ / الحديث ٥٤٤ ) ونظم درر السمطين (١٣٦) وجواهر المطالب ( ج ٢؛ ٨٧ ).

وقد علم من التاريخ ضرورة، أنّ عليّا استشهد على يد أشقى البريّة عبد الرحمن بن ملجم الخارجي، وذكرت كلّ التواريخ قول عليّعليه‌السلام : « فزت وربّ الكعبة »، فمضى صابرا محتسبا حتّى لقي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فختمت الوصيّة بخواتيم من ذهب لم تمسّه النار ودفعت إلى عليّعليه‌السلام

ذكر الكليني في الكافي ( ج ١؛ ٢٧٩ - ٢٨٤ ) أربعة أحاديث حول هذه الوصيّة المختومة الّتي نزل بها جبرئيل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، في باب « أنّ الأئمّة لم يفعلوا شيئا ولا يفعلون إلاّ بعهد من الله وأمر منه لا يتجاوزونه »، الأولى: بسنده عن معاذ بن كثير، عن الصادقعليه‌السلام ، والثانية: عن محمّد بن أحمد بن عبيد الله العمريّ، عن أبيه، عن جدّه، عن الصادقعليه‌السلام ، والثالثة: عن ضريس الكناسي، عن الباقرعليه‌السلام ، والرابعة: عن عيسى بن المستفاد، عن الكاظمعليه‌السلام ، وهي الطّرفة المذكورة في متن الطّرف. وإليك نصّ الرواية الثانية:

أحمد بن محمّد ومحمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن أحمد بن محمّد، عن

٣٤٩

أبي الحسن الكناني، عن جعفر بن نجيح الكنديّ، عن محمّد بن أحمد بن عبيد الله العمريّ، عن أبيه، عن جدّه، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام ، قال: إنّ الله عزّ وجلّ أنزل على نبيّه كتابا قبل وفاته، فقال: يا محمّد هذه وصيّتك إلى النّجبة من أهلك، قال: وما النّجبة يا جبرئيل؟ فقال: عليّ بن أبي طالب وولده، وكان على الكتاب خواتيم من ذهب، فدفعه النبي إلى أمير المؤمنين، وأمره أن يفكّ خاتما منه ويعمل بما فيه، ففكّ أمير المؤمنينعليه‌السلام خاتما وعمل بما فيه، ثمّ دفعه إلى ابنه الحسنعليه‌السلام ، ففكّ خاتما وعمل بما فيه، ثمّ دفعه إلى الحسينعليه‌السلام ، ففكّ خاتما فوجد فيه أن « أخرج بقوم إلى الشهادة، فلا شهادة لهم إلاّ معك، واشر نفسك لله عزّ وجلّ » ففعل، ثمّ دفعه إلى عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، ففكّ خاتما فوجد فيه أن « أطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين » ففعل، ثمّ دفعه إلى ابنه محمّد بن عليّعليهما‌السلام ، ففكّ خاتما فوجد فيه « حدّث الناس وأفتهم ولا تخافنّ إلاّ الله عزّ وجلّ، فإنّه لا سبيل لأحد عليك » ففعل، ثمّ دفعه إلى ابنه جعفرعليه‌السلام ، ففكّ خاتما فوجد فيه « حدّث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك، وصدّق آباءك الصالحين، ولا تخافنّ إلاّ الله عزّ وجلّ وأنت في حرز وأمان » ففعل، ثمّ دفعه إلى ابنه موسىعليه‌السلام ، وكذلك يدفعه موسى إلى الّذي بعده، ثمّ كذلك إلى قيام المهديّ صلّى الله عليه.

وفي الحديث الأوّل قال الصادقعليه‌السلام : إنّ الوصيّة نزلت من السماء على محمّد كتابا، لم ينزل على محمّد كتاب مختوم إلاّ الوصيّة، فقال جبرئيل: يا محمّد، هذه وصيّتك في أمّتك عند أهل بيتك، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أيّ أهل بيتي يا جبرئيل؟ قال: نجيب الله منهم وذريّته، ليرثك علم النبوّة كما ورثه إبراهيم، وميراثه لعليّ وذريتك من صلبه، قال: وكان عليها خواتيم ....

وانظر حديث هذه الصحيفة المختومة الّتي نزل بها جبرئيل في أمالي الصدوق (٣٢٨) ومناقب ابن شهرآشوب ( ج ١؛ ٢٩٨، ٢٩٩ ) عن الصادقعليه‌السلام ، ثمّ قال: « وقد روى نحو هذا الخبر أبو بكر بن أبي شيبة، عن محمّد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله »، وبصائر الدرجات ( ١٦٦ / الحديث ٢٤ من الباب ١٢

٣٥٠

من الجزء الثالث ) و ( ١٧٠ / الحديث ١٧ من الباب ١٣ من الجزء الثالث ) وإكمال الدين ( ٢٣١، ٢٣٢ / الحديث ٣٥ من الباب ٢٢ ) و ( ٦٦٩ - ٦٧٠ / الحديث ١٥ من الباب ٥٨ ) والإمامة والتبصرة ( ٣٨ - ٣٩ ) وأشار إليه في الصفحة ١٢ أيضا، وعلل الشرائع ( ١٧١ / الحديث الأوّل من الباب ١٣٥ ) والغيبة للنعماني (٢٤) وأمالي الطوسي ( ٤٤١ / الحديث ٩٩٠ ). وانظر روايات هذه الصحيفة السماويّة المباركة في بحار الأنوار ( ج ٢٦؛ ١٨ / الباب الأوّل « ما عندهم من الكتب » و ( ج ٣٦؛ ١٩٢ - ٢٢٦ / الباب ٤٠ ).

٣٥١

٣٥٢

الطّرفة الخامسة عشر

روى هذه الطّرفة الشريف الرضي في كتاب خصائص الأئمّة (٧٢) ورواها العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ( ج ٢٢؛ ٤٨٢ - ٤٨٣ ) عن كتاب الطّرف، عن خصائص الأئمّة، وهي في الصراط المستقيم ( ج ٢؛ ٩١، ٩٢ )، حيث نقلها العلاّمة البياضي باختصار.

وهذه الطّرفة موضوعها متعلّق بما سبقها من حديث الصحيفة المختومة، وأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أعطاها لعليّعليه‌السلام ، وأمره وولده أن يعملوا بما فيها، فعملوا طبق ما في هذه الوصيّة، ولم يجاوزوا ما فيها، فوردوا على رسول الله لا مقصّرين ولا مفرّطين. والمطالب الفرعيّة الموجودة في الطّرفة كلّها مرّ بعضها، وسيأتي بعضها الآخر.

٣٥٣

٣٥٤

الطّرفة السادسة عشر

روى هذه الطّرفة الشريف الرضي في كتاب خصائص الأئمّة ( ٧٢ - ٧٣ ) ورواها العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ( ج ٢٢؛ ٤٨٣ - ٤٨٤ ) عن كتاب الطّرف، وعن خصائص الأئمّة، ونقلها العلاّمة البياضي في الصراط المستقيم ( ج ٢؛ ٩٢ ) باختصار.

اتّفقت الكلمة على أنّ عليّاعليه‌السلام وأهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا عند رسول الله قبل موته، وأنّهم هم الّذين قاموا بأمره، وتظافرت الروايات من طرق الفريقين أنّ النبي مات ورأسه في حجر عليّ، أو أنّ عليّا كان مسنّده، ولم يزعم أحد غير ذلك إلاّ عائشة، فقد ادّعت لوحدها ذلك، ولم يقرّها عليه المسلمون، بل كان عليّعليه‌السلام هو القائم بشأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد دعاه رسول الله في مرضه وأسرّ له جميع الأسرار، وأخبره بكلّ ما يجري من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ففي الخصال (٦٤٢) بسنده عن أمّ سلمة، قالت: قال رسول الله في مرضه الّذي توفّي فيه: ادعوا لي خليلي، فأرسلت عائشة إلى أبيها، فلمّا جاء غطّى رسول الله وجهه، وقال: ادعوا لي خليلي، فرجع أبو بكر، وبعثت حفصة إلى أبيها، فلمّا جاء غطّى رسول الله وجهه، وقال: ادعوا لي خليلي، فرجع عمر، وأرسلت فاطمةعليها‌السلام إلى عليّعليه‌السلام ، فلمّا جاء قام رسول الله فدخل، ثمّ جلّل عليّا بثوبه، قال عليّ: فحدّثني بألف حديث، يفتح كلّ حديث ألف حديث، حتّى عرقت وعرق رسول الله، فسال عليّ عرقه وسال عليه عرقي.

وفيه أيضا (٦٤٣) عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال: سمعته يقول: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله علّمني ألف باب من الحلال والحرام، وممّا كان إلى يوم القيامة، كلّ باب منها

٣٥٥

يفتح ألف باب، فذلك ألف ألف باب، حتّى علمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب.

وفي بصائر الدرجات (٣٢٤) بسنده عن الصادقعليه‌السلام ، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعائشة وحفصة في مرضه الّذي توفي فيه: ادعيا لي خليلي، فأرسلتا إلى أبويهما، فلمّا نظر إليهما أعرض عنهما، ثم قال: ادعيا لي خليلي، فأرسلتا إلى عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، فلمّا نظر إليه أكب عليه يحدّثه، فلمّا خرج لقياه، فقالا له: ما حدّثك خليلك؟ فقال: حدّثني خليلي ألف باب، ففتح لي كلّ باب ألف باب.

وفيه أيضا (٣٢٥) بسنده عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، قال: سمعته يقول: إنّ رسول الله علّمني ألف باب من الحلال والحرام، وممّا كان وما هو كائن وممّا يكون إلى يوم القيامة، كلّ يوم يفتح ألف باب، فذلك ألف ألف باب، حتّى علمت المنايا والوصايا وفصل الخطاب.

فدعوة المرأتين أبويهما، وسؤال أبويهما عليّا عمّا حدّثه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقول عليّ: أنّه علّمه ما كان وما هو كائن وما سيكون، يدلّ على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر عليّاعليه‌السلام بما سيصنعه القوم، وما سيكون من بعده، وقد كان عليّعليه‌السلام يصرّح بأنّه سكت لعهد من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يأمره فيه بالسكوت.

وفي مناقب ابن شهرآشوب ( ج ١؛ ٢٣٦ ) قال: الطبريّ في الولاية، والدار قطني في الصحيح، والسمعاني في الفضائل، وجماعة من رجال الشيعة، عن الحسين بن عليّ ابن الحسن، وعبد الله بن عبّاس، وأبي سعيد الخدريّ، وعبد الله بن الحارث، واللّفظ الصحيح أنّ عائشة قالت: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في بيتها لمّا حضره الموت: ادعوا لي حبيبي، فدعوت له أبا بكر، فنظر إليه ثمّ وضع رأسه، ثمّ قال: ادعوا لي حبيبي، فدعوا له عمر، فلمّا نظر إليه، قال: ادعوا لي حبيبي، فقلت: ويلكم، ادعوا له عليّ بن أبي طالب، فو الله ما يريد غيره، فلمّا رآه أفرج الثوب الّذي كان عليه، ثمّ أدخله فيه ولم يزل يحتضنه، حتّى قبض ويده عليه.

وفي فضائل ابن شاذان ( ١٤١ - ١٤٢ ) بسنده يرفعه إلى سليم بن قيس، أنّه قال: لمّا

٣٥٦

قتل الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، بكى ابن عبّاس بكاء شديدا، ثمّ قال: ولقد دخلت على عليّ ابن أبي طالب ابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذي قار، فأخرج لي صحيفة، وقال: يا بن عبّاس، هذه الصحيفة إملاء رسول الله وخطّي بيدي، قال: فقلت يا أمير المؤمنين اقرأها عليّ، فقرأها وإذا فيها كلّ شيء منذ قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يوم قتل الحسينعليه‌السلام وكان فيها لمّا قرأها أمر أبي بكر وعمر وعثمان وكم يملك كلّ إنسان منهم فلمّا أدرج الصحيفة، قلت: يا أمير المؤمنين، لو كنت قرأت عليّ بقية الصحيفة، قال: ولكنّي أحدّثك بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ عند موته بيدي، ففتح لي ألف باب من العلم، تنفتح من كلّ باب ألف باب، وأبو بكر وعمر ينظرون إليّ، وهو يشير لي بذلك، فلمّا خرجت قالا: ما قال لك؟ قال: فحدّثتهم بما قال، فحرّكا أيديهما ثمّ حكيا قولي، ثمّ ولّيا يردّدان قولي ويخطران بأيديهما ورواه العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ( ج ٢٨؛ ٧٣ / الحديث ٣٢ عن كتاب الروضة ) - لأحد علماء القرن السابع - بسنده إلى سليم بن قيس.

وانظر مناجاة النبي ومسارّته لعليّ عند موته، وإخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّا بكلّ ما كان وما يكون، وتعلّمه ألف ألف باب من العلم، ودعوة المرأتين أبويهما للنبي وإعراضهصلى‌الله‌عليه‌وآله عنهما، في أمالي الصدوق (٥٠٩) وبصائر الدرجات ( ٣٢٢ - ٣٢٧ ) وفيه عدّة أحاديث / في الباب ١٦ من الجزء السادس « في ذكر الأبواب الّتي علّم رسول الله أمير المؤمنين »، ( ٣٩٧ - ٣٩٨ ) الباب ٣ من الجزء الثامن « باب في الأئمّة أن عندهم أسرار الله، يؤدي بعضهم إلى بعض، وهم أمناؤه » وفيه ستّة أحاديث في أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أسرّ كلّ شيء إلى عليّعليه‌السلام ، وكفاية الأثر ( ١٢٤ - ١٢٦ ) والخصال ( ٦٤٢ - ٦٥٢ ) وفيه أحاديث كثيرة، وروضة الواعظين (٧٥) والتهاب نيران الأحزان ( ٤٣ - ٤٤ ) وأمالي الطوسي (٣٣٢) والاختصاص (٢٨٥) والإرشاد (٩٩) وفيه « أنّ عليّا قال لهم: علّمني ألف باب من العلم، فتح لي كلّ باب ألف باب، وأوصاني بما أنا قائم به إن شاء الله »، وإعلام الورى (٨٣) والطرائف (١٥٤) والكافي ( ج ١؛ ٢٩٦ ).

وهو في تاريخ ابن عساكر ( ج ٢؛ ٤٨٥ / الحديث ١٠٠٣ ) وفيه « أنّهم دعوا له عثمان

٣٥٧

فأعرض عنه »، ( ج ٣؛ ١٥ / الحديث ١٠٢٧ ) ومناقب الخوارزمي (٢٩) عن ابن مردويه، وبحار الأنوار ( ج ٣٨؛ ٣٣١ ) عن كتاب الأربعين، وقال المظفر في دلائل الصدق ( ج ٢؛ ٦٣٩ ): « إنّ الحديث ذكره السيوطي في اللآلئ المصنوعة عن الدار قطني، ثمّ حكم بضعفه، وقال: أنّ له طريقا آخر إلى ابن عمر أيضا »، وقد ناقش المظفر تضعيف السيوطي فراجعه. ومهما يكن من شيء فهو ثابت وطرقه كثيرة، وهو دالّ على محتوى الطّرفة، وأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أخبر عليّاعليه‌السلام بما سيجري، وأوصاه بوصايا، فقام بها عليّعليه‌السلام جميعا.

أنّ القوم سيشغلهم عنّي ما يريدون من عرض الدنيا وهم عليه قادرون، فلا يشغلك عنّي ما يشغلهم

لهذا المطلب أكثر من دليل ودليل، فقد علم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بما كانوا ينوونه من غصب الخلافة، والتهافت على الدنيا، فبعثهم في جيش أسامة، ولعن من تخلّف عنه، وأبقى عليّا وأهل بيتهعليهم‌السلام ليقودوا الأمّة، ويستلموا الخلافة، وصرّح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في رواياتنا أنّه إنّما بعثهم لذلك، ولتتمّ عليهم الحجّة، وأخبرصلى‌الله‌عليه‌وآله عليّاعليه‌السلام بأنّه المظلوم والمضطهد من بعده، وأنّ الأمّة ستغدر به، وأنّه المبتلى والمبتلى به؛ كما مرّ كلّ ذلك، وقد تحقّق ما أخبر بهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتنازع القوم على الخلافة، وغصبوها في سقيفة بني ساعدة، وتركوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ملقى في بيته، والحزن يغمر عليّا، وأهل بيت النبي صلوات الله عليهم، وقد احتجّت فاطمةعليها‌السلام على الأنصار والمهاجرين بأحقّيّة عليّعليه‌السلام ، فاعتذروا بأنّ عليّا لو كان حاضرا في السقيفة لبايعوه، فقال الإمامعليه‌السلام : أفأترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جنازة وأنازع الأمر؟! فقالت الزهراءعليها‌السلام : ما فعل أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي، وهذا كلّه ثابت في التواريخ والمناقب والتراجم، وقد اتّفقت كلمة أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم على ذلك.

ففي تفسير العيّاشي ( ج ٢؛ ٣٣٠ ) عن أحدهماعليهما‌السلام ، قال: فلمّا قبض نبي الله، كان الذي كان؛ لما قد قضي من الاختلاف، وعمد عمر فبايع أبا بكر، ولم يدفن رسول الله بعد. وإليك بعض النصوص في ذلك من كتب العامّة.

٣٥٨

فقد قام الشيخان يعرض كلّ منهما لصاحبه، فيقول هذا لصاحبه: ابسط يدك لأبايعك، ويقول الآخر: بل أنت، وكلّ منهما يريد أن يفتح يد صاحبه ويبايعه، ومعهما أبو عبيدة الجراح - حفّار القبور بالمدينة - يدعو الناس إليهما. تاريخ الطبريّ ( ج ٣؛ ١٩٩ ). وعليّ والعترةعليهم‌السلام وبنو هاشم ألهاهم النبي، وهو مسجّى بين أيديهم، وقد أغلق دونه الباب أهله. سيرة ابن هشام ( ج ٤؛ ٣٣٦ ).

وخلّى أصحابه بينه وبين أهله فولوا إجنانه. طبقات ابن سعد ( ج ٢؛ ٣٠١ ).

ومكثصلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثة أيّام لا يدفن. تاريخ ابن كثير ( ج ٥؛ ٢٧١ ) وتاريخ أبي الفداء ( ج ١؛ ١٥٢ ).

أو مكث من يوم الاثنين إلى يوم الأربعاء أو ليلته. طبقات ابن سعد ( ج ٢؛ ٢٧٣ - ٢٧٤، ٢٩٠ ) وسيرة ابن هشام ( ج ٤؛ ٣٤٣ - ٣٤٤ ) ومسند أحمد ( ج ٦؛ ٢٧٤ ) وسنن ابن ماجة ( ج ١؛ ٤٩٩ ) وتاريخ أبي الفداء ( ج ١؛ ١٥٢ ) قال: « والأصحّ دفنه ليلة الأربعاء »، وتاريخ ابن كثير ( ج ٥؛ ١٧١ ) قال: « وهو المشهور عن الجمهور، والصحيح أنّه دفن ليلة الأربعاء »، وتاريخ اليعقوبي ( ج ٢؛ ١١٣ - ١١٤ ).

فدفنه أهله، ولم يله إلاّ أقاربه. طبقات ابن سعد ( ج ٢؛ ٣٠٤ ).

دفنوه في اللّيل، أو في آخره. سنن ابن ماجة ( ج ١؛ ٤٩٩ ) ومسند أحمد ( ج ٦؛ ٢٧٤ ).

ولم يعلم به القوم إلاّ بعد سماع صريف المساحي، وهم في بيوتهم في جوف اللّيل.

طبقات ابن سعد ( ج ٢؛ ٣٠٤ - ٣٠٥ ) ومسند أحمد ( ج ٦؛ ٢٧٤ ) وسيرة ابن هشام ( ج ٤؛ ٣٤٤ ) وتاريخ ابن كثير ( ج ٥؛ ٢٧٠ ).

ولم يشهد الشيخان دفنه. أخرجه ابن أبي شيبة؛ كما في كنز العمال ( ج ٣؛ ١٤٠ ).

وقالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى سمعنا صوت المساحي في جوف اللّيل؛ ليلة الأربعاء. سيرة ابن هشام ( ج ٤؛ ٣١٤ )، تاريخ الطبري ( ج ٣؛ ٢٠٥ )، شرح النهج ( ج ١٣؛ ٣٩ ).

٣٥٩

إنّما مثلك في الأمّة مثل الكعبة وإنّما تؤتى ولا تأتي

في المسترشد (٣٩٤) بسنده عن عليّعليه‌السلام ، قال:( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (١) فلو ترك الناس الحجّ لم يكن البيت ليكفر بتركهم إيّاه، ولكن كانوا يكفرون بتركه؛ لأنّ الله تبارك وتعالى قد نصبه لهم علما، وكذلك نصّبني علما، حيث قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عليّ، أنت بمنزلة الكعبة، يؤتى إليها ولا تأتي.

وفي أسد الغابة ( ج ٤؛ ٣١ ) بسنده عن عليّعليه‌السلام ، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت بمنزلة الكعبة، تؤتى ولا تأتي، فإن أتاك هؤلاء القوم فسلّموها إليك - يعني الخلافة - فاقبل منهم، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتّى يأتوك.

وقد روت كتب الفريقين هذا الحديث بمعنى واحد، وألفاظ مختلفة، فورد في بعضها « أن مثل عليّ مثل الكعبة، يحجّ إليها ولا تحجّ » و « إنّما أنا كالكعبة أقصد ولا أقصد » و « مثل عليّ كمثل بيت الله الحرام، يزار ولا يزور »، وما شاكلها وقاربها من الألفاظ. انظر في ذلك الصراط المستقيم ( ج ٢؛ ٧٥ ) وكشف اليقين (٢٩٨) وكفاية الأثر ( ١٩٩، ٢٤٨ ) وبشارة المصطفى (٢٧٧) وإرشاد القلوب (٣٨٣) ومناقب ابن شهرآشوب ( ج ١؛ ٢٦٢ ) ( ج ٣؛ ٢٠٢، ٢٦٨ ) وأمالي الصدوق (١٧) والتحصين (٦٠٩) وتفسير فرات ( ٨١ - ٨٢ ) ودلائل الإمامة (١٢) والمسترشد (٣٨٧) وبحار الأنوار ( ج ٤٠؛ ٧٥ - ٧٨ ) نقلا عن الفردوس للديلمي.

وهو في مناقب ابن المغازلي (١٠٧) وتاريخ دمشق ( ج ٢؛ ٤٠٧ / الحديث ٩٠٥ ) وينابيع المودّة ( ج ٢؛ ٧ ) ونور الهداية للدواني المطبوع في الرسائل المختارة (١٢٦) وكنوز الحقائق (١٨٨).

وأئمّة آل البيتعليهم‌السلام كلّهم كالكعبة، ففي الصراط المستقيم ( ج ٢؛ ٧٥ ) قال: أسند ابن جبر في نخبه إلى الصادقعليه‌السلام ، قوله: « نحن كعبة الله، ونحن قبلة الله » وفي هذا وجوب

__________________

(١) آل عمران؛ ٩٧.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394