آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء ٢

آلاء الرحمن في تفسير القرآن50%

آلاء الرحمن في تفسير القرآن مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 152

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 152 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 63728 / تحميل: 5298
الحجم الحجم الحجم
آلاء الرحمن في تفسير القرآن

آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

آلآءُ الرَّحْمنْ

في

تفسير القرآن

ألجزء الثاني

أوّله سورة النساء

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وله الحمد وهو المستعان وأفضل الصّلاة والسّلام على خيرته من خلقه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله سيّد المرسلين وآله الطاهرين المعصومين صلواته عليهم أجمعين.

وبعد فهذا هو الجزء الثاني من كتاب آلاء الرحمن في تفسير القرآن. وقد تحريت فيه الاختصار مهما أمكن. مقتصرا على المهم في البيان سائلا من الله التوفيق والتسديد والإعانة إنّه أرحم الراحمين وخير معين

(سورة النساء)

مائة وست وسبعون آية عند الكوفيين وعند المكّيين والمدنيّين مائة وخمس وسبعون ، والخلاف في الفواصل. وهي مدنيّة. ولما كانت هذه الصورة متضمنة لتأسيس الأحكام الاجتماعية الجارية على حقيقة العدل ورعاية الحقوق على خلاف ما كان معتاداً قد استحكمت به صراوة النفوس الوحشية بحيث جعله الجور وتشريعات الباطل سنَّة متّبعة وخيّله الهوى بمغالطاته عملا سائغا. فكان الناس منهم من لا يرى حرمةً لمال اليتيم الذي يرّبونه ومن لا يرى للطفل والمرأة حقّا في الميراث. ومنهم من لا يتحرّج من أكل مهر المرأة. وقد بقي من ذلك الداء الردي والعدوان الوخيم أثر في كثير من المسلمين إلى هذا العصر. وقد اقتضت الحكمة ترويض

٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ

____________________________________

النفوس على ما يشرع في ذلك من الأحكام وعلى إجرائها على حقيقتها وحقوقها وعدلها. وأن تقام بالموعظة والتذكير والإشارة إلى جلال الله وقدرته العامة سيطرة روحية تقاوم الأهواء وتراقب النفوس وتحاسبها وتردعها في ظواهر أمورها وخفياتها. وما هذه السيطرة إلّا لملكة تقوى الله مالك أمر الإنسان في مبدئه ومعاده والمطّلع عليه في جميع أحواله. فإنَّ استقامة الإنسان في الظاهر والخفاء إنّما يكون لها وجود وثبات إذا كانت منبعثةً بتقوى الله. وأمّا السيطرة السياسية مهما كانت فإنها لا تردع الإنسان عن خفيّاته واختلاساته. وإنَّ الأخلاق مهما كانت لا تسير مع شريعة الحق إلّا إذا كانت بتأديب تقوى الله وترويضها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا النَّاسُ ) جمع إنسان وهو شامل لكل بشر على الأرض كما لا يخفى ولام التعريف هنا تفيد العموم لغة. ومن المعلوم في دين الإسلام أنَّ رسول الله (ص) رسولٌ إلى كافّة نوع الإنسان بلا استثناء. وفي سورة الأعراف ١٥٩( قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً ) وأنَّ الشريعة عامة لجميع البشر لا تخصُّ قسما من الإنسان ولا يخرج من نعمتها وعدلها قسم منه ومن المعلوم من الدين والعقل أنَّ تقوى الله مطلوبة من جميع الناس لأجل سعادتهم في الدارين ونظام جماعتهم في الدنيا. فلا يختص بها قسم من الإنسان ولا يمنع الله نعمة الأمر بها عن قسم من نوع الإنسان البالغ العاقل. ومن النظر إلى هذه الوجوه يكون لفظ الناس هنا نصّا على العموم( اتَّقُوا ) قد مرّ بيان معنى التقوى في الصفحة الرابعة والستين من الجزء الاوّل وغيرها( رَبَّكُمُ ) خالقكم ومربيكم ومالك أموركم جميعا. وهل من المعقول أنْ لا يتقى( الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) هو آدم أبو البشر وفي هذا بعد الامتنان والتذكير بالقدرة نوع استعطاف للناس بعضهم على بعض بما بينهم من الاتصال في النسب والاشتباك في الرحم. فإن الاتصال بالنسب مرعي عندهم فإنَّ الاسرائيلي يرعى للاسرائيلي إسرائيليته وكذا القحطاني للقحطاني وان كان الاتصال بينهما مضى منذ ألوف من السنين ونوع الإنسان مهما تباعدت أفراده وشكَّ في إتصالها في نحو خاص من صحيح النسب فإنّه لا يشكُّ في إتصالهم في الولادة من آدم. وقد سمَّى الله البشر في القرآن بني آدم في سبع مواضع لا يحتمل ذو الرشد من

٣

المسلمين أن يراد منهم بعضهم. وقد تكرر في القرآن أنَّ أول هذا البشر الموجود والمسمى بالإنسان هو آدم. ففي سورة السجدة المكّية ٦( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ٧ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ) وكذا في سورة البقرة ٣٠( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ٣٣ والحجر المكّية ٢٨( خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) ٣١ وسورة ص ٧١( إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ) ٧٨ وما في هذه السور وآياتها من أمر الملائكة بالسجود لآدم واستكبار إبليس وقد ربط الله في القرآن خلق الإنسان بخلقة آدم من الطين. ففي سورة الانعام ٢( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ) والصافات ١١( خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ) والرحمن ١٣( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ) وعلى ما ذكرناه إتفاق المسلمين وحديثهم المتواتر في المعنى ولم يشذ منهم إلّا الجاحظ على ظاهر ما حكاه السيد الرضي في حقائق التأويل حيث قال ما ملخصه ومن غريب كلامه قوله: معنى من نفس واحدة على هيئة واحدة ومعنى وخلق منها زوجها جعل زوجها من جنسها ليسكن إليها ولا يستوحش منها إنتهى وليت شعري إذا كان معنى النفس الهيئة فعلى مَ يعود الضمير في قوله( زَوْجَها ) والضمائر في قول هذا القائل «زوجها. جنسها. يسكن إليها. لا يستوحش منها».؟ وفي تفسير المنار نقل عن أستاذه عدّة جمل -

الاولى : منها (ليس المراد بالنفس الواحدة آدم بالنص ولا بالظاهر) ويردها أنَّ ذلك معلوم مما تقدّم من الآيات وغيرها ومتواتر الحديث وإجماع المسلمين -

الثانية: «والقرينة على أنّه ليس المراد هنا بالنفس الواحدة آدم قوله( وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ) بالتنكير وكان المناسب على هذا الوجه أن يقول: وبثَّ منها جميع الرجال والنساء» ويردها مع ما ذكرناه من أسباب العلم أنَّ المناسبة لا تنحصر بما اقترحه فإنَّ هذا المعنى أي بثّ جميع الناس من آدم قد تقدّم بقوله تعالى في خطاب الناس( خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ) وما أشرنا إليه من السور السبع ولم يتعلّق الغرض هنا بتأكيد ما تقدّم بما اقترحه بل الغرض بيان معنى تأسيسي وهو حال الخلق للناس في التدّرج من خلق النفس الواحدة إلى خلق زوجها إلى بثِّ الكثير من نسلهما الذي خلق الناس منه بالتناسل التدريجي -

الثالثة: في مراعاته لما يزعمه أهل الصين في نسبة البشر إلى أب آخر ويذهبون بتأريخه إلى زمن بعيد. وإنّ من الناس من لا يعرفون آدم ولا حواء ولم يسمعوا بهما. وفي حذره من أنْ يثبت ما يقوله الباحثون من الافرنج من أنَّ لكل صنف من أصناف البشر أبا. أقول: ومن العجيب أن تنبذ المعلومات الإسلامية من

٤

وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ

____________________________________

القرآن الكريم والحديث المتواتر والإجماع ظهريا لأجل زعم أهل الصين أو حذرا من الآراء الجديدة كتسلسل الأنواع والتولد الذاتي كما أحدثه داروين. وقال التلميذ ج ٤ ص ٣٢٧ أنَّ المتبادر من لفظ النفس أنَّها هي الماهية والحقيقة التي كان بها هذا الكائن الممتاز أي خلقكم من جنس واحد وحقيقة واحدة. أقول: إنَّ النفس وان كانت كسائر الموجودات الخارجية ينتزع العقل منها بتحليله جنسا وماهية كلية لكن الآثار الخارجية كالخلق منها لا تتعلق إلّا بالفرد الخارجي وإذا قيد بالوحدة امتنع احتمال التعدد فيه فالذي يفهم من النفس الواحدة هنا ليس إلّا الفرد الخارجي الواحد بالشخص كما هو المفهوم من جميع استعمالات القرآن الكريم للنفس. ثم نسأل هذا القائل ما هو معنى قوله تعالى( وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ) وما هو زوج الماهية المخلوق منها وهو مقابل لها بالزوجية. وما معنى قوله تعالى( وَبَثَّ مِنْهُما ) . ولهما في المقام كلمات(١) طويلة يفضي التعرض لها إلى طول ممل. ولو لا ان العصر الحاضر مما تنمو به هذه البذور وأمثالها لما تعرضنا لما ذكرناه( وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها ) وهي حوا( وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ ) كما تعرفون انه الإله القادر القاهر المجازي على الأعمال بحيث( تَسائَلُونَ بِهِ ) أي تتساءلون وحذف إحدى التائين في مثل هذا مطرد في العربية. وكرر الأمر بتقوى الله مبالغة في التأكيد. وفي الكلام احتجاج على الناس حتى الوثنيين بما معناه انكم في مهماتكم يسأل أحدكم الآخر بالله لما تعرفونه من عظمته ومقام إلهيته اذن فاتقوه( وَ ) اتقوا( الْأَرْحامَ ) أي اتقوا شر قطيعتها واثرها في ظلم ذوي الأرحام فانكم ترعون نوعا لاولي الأرحام حرمة الرحم وتحذرون نوعا من وبال قطيعتها ونكال الله في ذلك. وفي صحيحة الكافي عن جميل عن الصادق (ع) ان الله أمر بصلتها وعظمها ألا ترى أنّه جعلها معه إنتهى أي قرن الأمر

__________________

(١) منها التشبث لرأيهما ص ٣٢٥ بما رواه الشيعة من انه خلق قبل آدم خلق كثير ثم بادوا ثم بعد ذلك خلق آدم أبو هذا النسل خليفة لمن باد قبله كما أشرنا إليه في معنى الخليفة في الصفحة ال ٨٢ من الجزء الاول وقد أشرنا هناك أيضا إلى رواية الحاكم لذلك عن ابن عباس ورواية الطبري أيضا في تفسيره وهذه الروايات من الفريقين دالة على ان جميع البشر الموجودين في زمان الرسول هم متسلسلون من أب واحد ونفس واحدة شخصية وفي هذا أيضا رد لما زعماه

٥

إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (٢)وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٣)وَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ

____________________________________

باتقائها بالأمر بتقواه. ونحوه عن العياشي عن عمر بن حنظلة عنه (ع)( إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) لا يخفى عليه شيء ولا يفوته شيء بل يحاسبكم ويجازيكم في أمر الأرحام ٢( وَآتُوا الْيَتامى ) إذا بلغوا الرشد( أَمْوالَهُمْ ) ويلزم من ذلك وجوب حفظها لهم والنهي عن أكلهم لها( وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) أي لا تجعلوا الخبيث بدلا تأخذونه بالطيب مثل قوله تعالى في سورتي البقرة ١٠٦( وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ ) والأحزاب ٥٢( وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ) والتبدل كالاستبدال يتعدى إلى المأخوذ أو المنتحل بنفسه ويتعدى إلى المرغوب عنه بالباء. وفي تفسير البرهان عن نهج البيان للشيباني «قال ابن عباس لا تتبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم لأجل الجودة والزيادة فيه وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله» والظاهر ان الوصف بالخبث من أجل الحرمة وبالطيب من أجل الحل واستفادة الجودة والزيادة من دواعي التبدل الذي يكون به المأخوذ حراما خبيثا. وإلى ما ذكرناه يرجع ما جعله في التبيان أقوى الوجوه وتبعه في المجمع( وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إلى أَمْوالِكُمْ ) ليس المراد هو النهي عن خصوص الأكل بمعناه الحقيقي بل الأكل هنا مجاز بمعنى الأخذ والغصب وضم الغاصب لها إلى أمواله وأشير إلى ذلك بقوله تعالى( إِلى أَمْوالِكُمْ ) ليفهم من الأكل ما يناسب كلمة «إلى» جريا على الغالب من كون المتسلطين على أموال اليتامى ذوي أموال وإن كانت عند بعضهم قليلة( إِنَّهُ ) أي غصب مال اليتامى المكنى عنه بالأكل المنهي عنه( كانَ حُوباً كَبِيراً ) فسروا الحوب بالإثم. وفي المصباح المنير باكتساب الإثم ٣( وَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا ) قد قدمنا في الآية السادسة عشرة من سورة آل عمران ان القسط والاقساط إنّما هما مقاربان في المعنى للعدل لا مراد فان له على معنى واحد والظاهر بحسب التتبع لموارد الاستعمال ان الاقساط هو معاملة الطرف الواحد بالحق والإنصاف وان العدل هو الجري على الحق في المعاملة مع الاثنين أو الأكثر أو في الحكم بينهم أو هو ما يعم هذا المعنى ومعنى الاقساط( فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) وقد اضطربت الأوهام في هذه الآية

٦

وتعسفت في الاعتراض والتفسير توهما لكون المراد من اليتامى في هذه الآية هو المراد منهم في الآية السابقة وهم الذكور والإناث الصغار الذين لم يخرجوا من الصغر إلى البلوغ بحسب حال الذكر والأنثى وتوهما لكون المراد من «تقسطوا» هو الاقساط في أموالهم كما هو مضمون الآية السابقة فشذت الافهام عن الوصول إلى حقيقة الربط بين قوله تعالى( وَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى ) وبين قوله تعالى( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) فلما ذا يغيب عن الافهام ان لفظ اليتيم واليتامى قد تقتضي المناسبات ومحاسن الكلام ان يستعمل فيمن انقضى عنه اليتم فيقال يتيم ويتامى لغرض يدعو إلى ذلك. انشد السيد الرضي في حقائق التأويل : -

إنَّ القبور تنكح الأيامى

النسوة الأرامل اليتامى

وحكي عن الأصمعي عن بعض العرب :

أحب اليتامى البيض من آل سامة

واكره منهن اليتامى الفواركا

إذن فما ظنك بحسن الاستعمال فيمن هنَّ قريبات العهد بزمان اليتم وقد بقيت عليهن آثاره. ولماذا لا يلتفت إلى أنَّ الحكم بحسب مناسبته كثيرا ما يكون هو المبين لموضوعه والمعين له. وكثيرا ما يدل طرف الكلام على تعيين المراد من طرفه الآخر كما تقول لمن يريد التزويج في وقته المرتضعات من أمهاتهن تزوج منهم. وقد يؤتى بالحكم في بليغ الكلام على وجه يعم موضوع الكلام وغيره كما إذا سألت الطبيب عن أكل التفاح فقال يجوز لك أنْ تأكل ما اشتهيت من فواكه الصيف إلى المقدار الفلاني. ولئن اخفت الغفلات وجه الدلالة فإنه يتضح بالنظر إلى قوله تعالى في هذه السورة ١٢٦( يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ) الظاهر من الإطلاق كون الاستفتاء عن الأمر المختص بالنساء وهو التزوج بهن لا من حيث اصل التزوج فإنه لا يشك فيه أحد لكي يستفتي عنه بل عن التعدد( قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ ) بما شرعه في أمرهن( وَ ) يفتيكم أيضا بذلك كلما قرأ القرآن وحيه المنزل وهو( ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي ) شأن( يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي ) توليتم أمورهنَّ بعد موت آبائهنَّ وبلغن مبلغ النساء واستحققن أن تؤتوهنَّ ما كتب لهن من ميراثهن ونمائه مثلا وأنتم من حرصكم واثر العادة الجاهلية( لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ ) مما ذكر( وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ) أي ترغبون في أن تنكحوهنَّ فإنّه الظاهر في التقدير دون كلمة «عن» ويكون هذا الظاهر محكما بالنظر إلى أنّه ليس في القرآن فتوى في اللاتي يرغب عن نكاحهنَّ بل الفتوى في الكتاب إنّما تنطبق على اللاتي يرغب في

٧

نكاحهنَّ وهي قوله تعالى( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) (١) فيكون محصل الكلام في الآية هو انه بعد أن جرى التعرض لأموال اليتامى جرى التعرض ليتامى النساء في المعاملة معهن في ذواتهن بالقسط بمعنى انكم إذا أحس أحدكم من نفسه انه لا يسمح لمن عنده من يتامى النساء ان يؤتيها ما كتب الله لها من الأموال لئلا تذهب به إلى من يتزوّجها وترغبون في ان تتزوجوّهن إمّا رغبة في أموالهنّ وبقائها في حوزتكم أو رغبة فيهنّ ولكنّكم تتحرّجون من التزوج بهنّ إمّا لتوهم الحرج في تعدد الزوجات أو في نكاح من ربيت يتيمة عندكم قياسا على الربائب كما أشار إليه القمّي في تفسيره فتخافون من أجل ذلك أن تمنعوهنَّ من الزواج فلا تقسطوا فيهن بل تظلمونهن بذلك فإن الله جلت آلاؤه يرشدكم إلى رفع هذا الخوف بان تتزوّجوهنّ وان كنتم ذوي زوجات فانه أحلَّ لكم ولغيركم في الشريعة ان تنكحوا ما طالب لكم بالحل من النساء اللاتي لم يذكر تحريمهن في الشريعة إلى اربع. و «ما» في ما طاب الاشارة إلى عنوان الجنس المتصف بالحل بجميع اصنافه من حيث الثيبوبة والبكارة والمال والجمال والفقر وعدم الجمال وكونها يتيمة مرباة أو غير ذلك ولو قيل «من طبن» لتوجه الذهن إلى اعيان المحللات وفاتت فائدة الإشارة المذكورة. واما الأمر في قوله تعالى( فَانْكِحُوا ) فانه بحسب وجه الكلام في الجملة الشرطية وعنوان الأسلوب والسياق ما هو إلّا للإرشاد إلى نحو من أنحاء التخلص مما يخافونه من عدم الاقساط مع إمكان التخلص أيضا بجهاد النفس وكفها عن الحرص في أموال اليتامى. فالآية الكريمة اذن جارية في خصوصياتها واشاراتها وقرائنها على النحو السامي من البراعة والمنهج الواضح في البلاغة. ولنا الفخر إذا اهتدينا بالتدبر في خصوصياتها وقرائنها ومزاياها إلى ما هي عليه من اتساق النظام ، وسداد الانتظام وبراعة الأسلوب( مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ) أي اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا بحسب ما تريدون. والمعدودات بدل تفصيلي من «ما طاب» ومنعت هذه الكلمات من الصرف لكونها معدولة عما

__________________

(١) وفي كتابي التفسير من جامعي البخاري ومسلم من طريق الزهري عن قول عائشة في آخر الحديث «رغبة أحدكم عن يتيمته. من أجل رغبتكم عنهن» لكن الحديث مضطرب الأطراف ، متدافع الكلمات فإن في آخره أيضا «ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء» وفي اوله «يعجبه مالها وجمالها ويريد ان يتزوجها» وفي الحديث أيضا ان الذي يتلى في يتامى النساء هو قوله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تُقْسِطُوا الآية. وزد على ذلك ما تجده من التدافع والاضطراب بين هذه الرواية في تفسير الآيتين وبين ما رواه هشام عن أبيه عروة عنها كما في جامع مسلم. فدع هذا الحديث لما به

٨

فَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً

____________________________________

فسرناها به ولتضمنها الوصفية فإنك تصف المعدود وتقول جاءني رجال اربعة ونساء اربع( فَإِنْ خِفْتُمْ إلّا تَعْدِلُوا ) بين المتعددات في حقوقهن والتسوية بينهن فإن اكثر حقوقهن متساوية متكافئة ان زيدت إحداهن كان ذلك جورا على غيرها منهن( فَواحِدَةً ) بالنصب على المفعولية بكلمة «انكحوا» مقدرة يدل عليها «فانكحوا» المتقدمة ولا بد من ان تكونا بمعنى واحد في المادة والهيئة كما هو شأن المقدر وما يدل عليه. فكما كان الدال للإرشاد بكون المقدر أيضا للإرشاد إلى احدى الطرق المؤمنة من عدم العدل وان كان من الطرق أيضا ان يروض نفسه فيتبع العدل بحسب تكليفه في الحقوق الشرعية فإن هذا العدل مستطاع مقدور بالبداهة. وكيف يكون غير مستطاع مع قوله تعالى( وَإِنْ خِفْتُمْ ) ومع الإرشاد السابق ولازمه من إباحة ما زاد على الواحدة إلى الأربع. وأما قوله تعالى ١٢٨( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ) فإن المراد فيه هو العدل في المودة القلبية لأن أسبابها خارجة عن الاختيار فإن منها جمال هذه أو حسن أخلاقها ، وقبح تلك أو سوء أخلاقها. وفي الكافي بسنده ان ابن أبي العوجاء اعترض على هشام بن الحكم بزعمه تناقض الآيتين فسأل هشام الصادق (ع) فأجابه ان الاولى في النفقة والثانية في المودة. وقد اقتصرعليه‌السلام على ذكر النفقة من حقوق الزوجات اكتفاء بها في التفرقة بين الآيتين. وأظن أن هشاما لا يخفى عليه الجواب ولكنه سأل الإمام ليأخذ الحقيقة من معدنها أمناء الوحي أحد الثقلين اللذين لن يتفرقا. فإنه لو تكلم واحد من البشر بمثل الآيتين لوجب في الاستقامة والفهم ان يحمل كلامه على اختلاف متعلق العدل كما في الآيتين(١) والمفهوم من قوله تعالى( وَإِنْ خِفْتُمْ

__________________

(١) ولكن بعض المعاصرين قد اثرت بهم ضجة الغربيين في منع تعدد الزوجات فكتب بعض في كتابه تحرير المرأة المطبوع في مصر سنة ١٣١٦ ص ١٣٨ : والذي يطيل البحث في النصوص القرآنية يجد أنها تحتوي إباحة وحظرا في آن واحد. وذكر الآيتين. وكتب آخر ما معناه : إن تعدد الزوجات كان جائزا للصدر الاول إذ كانوا يستطيعون العدل ولم تكن آية وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا جارية في شأنهم واما أهل العصور المتأخرة فالعدل غير مستطاع لهم إنتهى وليته عرف ان المخاطبين بأنهم لن يستطيعوا ان يعدلوا بين النساء إنّما هم الصدر الأول فعليه ان يفهم العدل الذي لا يستطاع في أي شيء هو لكي يعرف كيف يتكلم

وفي الجزء الرابع من تفسير المنار ص ٣٤٩ - ٣٥١ بل إلى ٣٥٨ بل إلى ٣٧٠ كلام ليته لم يكتب في تفسير القرآن الكريم في التشريع الإلهي. نعم ذكر في أثناء هذا الكلام كلمات عن الكاتبات الغربيات كما في ص ٣٦٠ - ٣٦٢ ما يصلح ان يكون ردا عليه. ومن المعلوم ان جل ما ينقم في ذلك الكلام على تعدد الزوجات انما

٩

أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ

____________________________________

أَلَّا تَعْدِلُوا ) هو انه إذا أوجس أحدكم من نفسه أو غيره امرا يخاف ان يغريه من حيث التعدد وهذا قليل الوقوع وليس المفهوم هو مجرد التجويز لأن يضعف في المستقبل التزامه بالشرع فيحيد عن العدل في حقوق الزوجات. فإن هذا التجويز المجرد لا يسمى خوفا مع انه حاصل لكل من لم يكن معصوما حتى في القسط والعمل بالشريعة مع الزوجة الواحدة فكيف يمنع الله معه التعدد ويأذن بالواحدة وكل من الواحدة والأكثر إماء الله والجور مبغوض في كل مقام. لكن أمر المستقبل مع سلامة النفس في الحال لا يوقف الأمور عن سيرها في الحال ما لم تكن في الحال نزعة أو حال تنذر بالورطة في المعصية ويتحقق معها عنوان الخوف فيحسن التحذر منها عند الخوف فإن رأى ما ينذر بذلك في التعدد حسن منها الحذر كما أرشده الله بقوله تعالى( فَواحِدَةً أو ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) قيل ما ملكت اشارة إلى عنوان الجنس المتصف بالمملوكية كما تقدم نظيره أي ما يملكه الناكح من النساء فإن اللاتي يتسرى بهن المالك ليس لهن شيء من حقوق الزوجية فلا يكون في أمرهن ما يخالف العدل بينهن من حيث المساواة المطلوبة في الزوجات. واما من كانت ملك الغير وتزوجها الحر على ما يأتي فإنها زوجة لها حقوق الزوجية. هذا وقد اتفق المسلمون على أن كل أنثى تكون من المحارم ويحرم نكاحها إذا كانت حرة هي كذلك إذا كانت امة. وذهب الإمامية والحنفية إلى انه لا يملك من هي من محارمه وقال الشافعي لا يملك الأمهات وإن علون والبنات وإن نزلن لا غير ويزيد مذهب مالك عليه بأنه لا يملك الأخوات للأبوين أو لأحدهما. وقال أهل الظاهر يملك الجميع وان حرم وطأهن والحجة للإمامية في مذهبهم إجماعهم وأحاديثهم واحتج الحنفية بما أخرجه أحمد والترمذي وابو داود وابن ماجه والحاكم في مستدركه عن سمرة عن النبي (ص) من ملك ذا رحم محرم فهو حر. وهاهنا مسائل «الاولى» يجوز للعبد أن يتزوج اربع إماء لإطلاق الآية وعليه اجماع الإمامية ونص ما نشير إليه من رواياتهم في المسئلة الثانية. وعن أبي حنيفة والشافعي لا يجوز له إلّا نكاح أمتين ولم يحك في الاحتجاج لهما إلّا القياس على أن عليه نصف حد الحر. وفي هذا الاحتجاج ما فيه «الثانية» ذهب الإمامية إلى انه لا يجوز له التزوج من الحرائر إلا

__________________

- ينشأ من سوء أخلاق النساء وحسدهن ونقصان عقولهن وضعف تدينهن ووهن التزامهن بالشريعة والحقوق. وهذا لا يرجع إلى عدل الزوج في حقوقهن وسقوطها بنشوزهن بسوء أخلاقهن ومخالفتهن للواجب عليهن.

١٠

ذلِكَ أَدْنى إلّا تَعُولُوا (٤)وَآتُوا النِّساءَ صدقاتهنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ

____________________________________

اثنتين. والحجة لهم إجماعهم ورواية زرارة عن الباقر (ع). ورواية الصيقل عن الصادق (ع) وصحيح ابن مسلم عن أحدهما (ع) ورواية زرارة أيضا عن أحدهما بل وغيرها من الروايات «الثالثة» لا يزيد على حرة وأمتين بإجماع الإمامية وهل له ان يتزوج الحرة والأمتين فيه رواية في الفقيه عن امير المؤمنين فإن كانت مجبورة بالشهرة فذاك : هذا ويشهد أيضا على أن قوله تعالى( فَواحِدَةً ) إنّما هو للإرشاد قوله تعالى( ذلِكَ ) أي نكاح الواحدة أو ملك اليمين حينما تريدون النكاح ابعد عن الأمور المقتضية لمخالفة العدل بين ذوات الحقوق إذ ليس في هذين الصورتين ذوات حقوق و( أَدْنى ) واقرب إلى( أَلَّا تَعُولُوا ) وتميلوا بمخالفة العدل قال أبو طالب في لاميته المعروفة المشهورة في مدح النبي (ص) والتصديق برسالته : -

بميزان عدل لا يخيس شعيرة

ووزان صدق وزنه غير عائل

وحكي عن بعض انه فسر تعولوا بقوله بكثرة عيالكم ورده المتضلعون من علم اللغة بأن الذي يجيء للمعنى الذي يقوله هو أعال يعيل بضم الياء لا عال يعول ورد أيضا بأن المشار إليه بقوله «ذلك» هو نكاح ما شاء الرجل من ملك يمينه ولو عشرا وذلك يوجب كثرة العيال فكيف يكون اقرب إلى قلة العيال من الزوجتين أو الثلاث أو الأربع. وايضا لو كان كما يقول وليس بمعنى عدم العدل لكان علة ثانية للاقتصار على الواحدة فيلزم أن يؤتى بالواو قبله ويقال «وذلك ادنى» عطفا على العلة التي سيقت لها الجملة الشرطية وهي الأمن من عدم العدل ٤( وَآتُوا النِّساءَ ) الخطاب هنا بالنظر إلى الحكمة يكون للأزواج بالنسبة إلى صداق زوجاتهم( صَدُقاتِهِنَ ) جمع صدقة بفتح الصاد وضم الدال اسم لصداق الزوجة ومهرها( نِحْلَةً ) النحلة العطيّة المقصود منها انتفاع من أعطيت له. وفي ذلك تأكيد لوجوب إيتاء النساء صدقاتهنَّ ببيان أنَّ الوجه في إعطاء الصداق هو انتفاع الزوجة به وليس هو مجرد وسيلة لاستخلاصها ممن يلي أمرها كثمن الشاة مثلا. وفي هذا البيان ردع عن العادة الجاهلية التي بقيت موروثة في كثير من الأوباش إلى هذا الزمان وهي أنَّ الزوج يدفع الصداق لمن يلي أمر الامرأة لمجرد أن يستخلصها منه مع علمه بأنه يأكله ظلما( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ ) «من» للتبيين أو للتبعيض جريا على الغالب( نَفْساً ) تمييز للضمير في «طبن»( فَكُلُوهُ ) الأمر للإباحة حال كون المأكول

١١

مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٥)وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً

____________________________________

( هَنِيئاً ) المراد كونه نعمة بلا نكد ولا تبعة( مَرِيئاً ) والمراد منه السائغ كالطعام السائغ في المري بسهولة وبلا غصّة ٥( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ ) جمع سفيه. والسَفَه هو الخفّة في العقل والطيش ووضع الأمور في غير موضعها ومنه التبذير في صرف المال وصرفه في المحرمات والملاهي وشرب الخمر بل لا يخفى أنَّ شرب الخمر بذاته من السَفَه كما اتفق عليه حديث الفريقين( أَمْوالَكُمُ ) وقد أكّد النهي جلّت حكمته وأشار إلى حكمته الرادعة للعقلاء بوصف الأموال بأنّها( الَّتِي جَعَلَ اللهُ ) أي جعلها الله والضمير هو المفعول الأول لكلمة «جعل»( قِياماً ) وهو المفعول الثاني. وفي التبيان والمصباح انّه مأخوذ من القِوام بكسر القاف. وفي المصباح قوام الأمر عماده الذي يقوم به وينتظم. وفي القاموس نظام الأمر وعماده أقول أو ما يعتمد عليه كقول لبيد في معلقته : -

أفتلك ام وحشية مسبوعة

خذلت وهادية الصوار قوامها

أي والبقرة التي تهدي القطيع من بقر الوحش هي قوامها. وفي النهاية في الحديث إلّا ان يكون له قوام من معيشته. ومحصل بيان الآية الكريمة أنّه كيف يحسن لذي الرشد أنْ يعمد إلى المال الذي جعله الله قواما وقياما لأمر المعيشة فيعرضه للتلف هدرا بايتائه للسفيه وفي الكشّاف تقومون بها وتنتعشون فكأنها في أنفسها قيامكم وانتعاشكم : ولا يخفى ما فيه من تعسف( وَارْزُقُوهُمْ ) فيما يحتاجون إليه( فِيها ) بما هو أعم من كون الرزق لهم بالشراء بالبعض من نمائها أو من أعيانها أو ببعضها إن كانت مما يحتاجون إليه من المأكول. ولذا لم يجر التعبير بقوله تعالى «منها» لئلا يظهر منه إيتاء البعض منها فيعود إلى إيتاء الأموال للسفهاء( وَاكْسُوهُمْ ) أي فيها( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) تألفا لهم واستصلاحا ورفعا لحزازة حبس الأموال عن إيتائها لهم. وقد اختلف المأثور في تفسير الآية في السفهاء. ففي الدّر المنثور عن أبي هريرة هم الخدم وهم شياطين الإنس. وعن ابن مسعود النساء والصبيان. وعن ابن عباس من طريق العوفي النساء والأولاد وفي رواية اخرى السفيه من ولدك. وهذه الكلمات زيادة على إطلاقها ظاهرة بسوق ألفاظها وقرائن اسلوبها في ارادة المطلق من

١٢

الخدم والنساء والأولاد. وفي ذلك ما فيه مضافا إلى ان تخصيصها للسفيه بمن ذكرته كأنه اجتهاد لا رواية موقوفة على انها ساقطة بصحاح الروايات ففي تفسير القمّي في الصحيح عن الصادق (ع) عن رسول الله (ص) في حديث شارب الخمر لا تأتمنوه لأن الله يقول( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) واي سفيه أسفه من شارب الخمر. ونحوه رواية السكوني عن الصادق (ع) عن آبائه امير المؤمنين (ع) ورواية الكافي من قول الباقر (ع) للصادق (ع). وصحيحته من قول الصادق (ع) لولده إسماعيل ورواية العياشي عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي جعفر (ع) كل من يشرب المسكر فهو سفيه. وفي مستدرك الحاكم وصححه وعن البيهقي في الشعب عن أبي موسى عن رسول الله (ص) في حديث ورجلا آتى السفيه ماله وقد قال الله( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) الحديث. هذا وبعض هذه الروايات نص في كون السفيه في موردها من غير النساء والولد والخدم وبعض كالصريح في ارادة العموم. ولترجع إلى مفردات الآية وما يستنتج منها في مسائل - الأولى - ان الأمر في قوله تعالى( وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ ) هل هو للوجوب فيختص بواجب النفقة. أو هو للاباحة في كل من يباح رزقه من السفهاء وان لم يكن من الأقارب لأن الأمر وارد في مقام توهم المنع بالنهي عن ايتائهم الأموال. والثاني هو الأظهر - الثانية - ان النهي في الآية عام كعموم لفظ السفهاء فلا يختص بمن يحتاج إلى الرزق والكسوة. وذلك لأن تعقب ضمير الخاص للعام لا يجعله خاصا إلّا بدلالة القرائن المقامية. والقرائن في الآية والحديث إنّما هي على العموم ومنها ما أشرنا إليه من التعليل المستفاد من وصف الأموال بأنها جعلها الله قياما للتعيش فلا يصح ان يسلط عليها السفيه المتلف لها - الثالثة - ان النهي لا يختص بمال المنهي بل يعم ما كان بيده بحسب الولاية أو الوصاية أو الوكالة أو غير ذلك من أموال الناس. وذلك لأن المخاطبين هم الناس كما في أول السورة فتكون الأموال مضافة إلى الضمير العائد لهم ولنوعهم وكأنه قيل لكل مكلف لا تؤت أموال الناس الذين أنت منهم للسفهاء. ولا يلزم من ذلك حمل الاضافة الواحدة على الحقيقة والمجازية كما حكاه الرازي في تفسيره عن القاضي ولا حاجة إلى ما أجاب به الرازي من دعوى عموم المجاز في الاضافة وقد جاء ما ذكرناه من الإضافة إلى النوع في قوله تعالى في سورة النور ٣٢( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ) فيكون منطوق الآية وعموم تعليلها محتويا لمقتضى الحكمة ومصلحة احترام المال وحفظه لمالكه مطلقا لأنه جعله الله قياما للمعيشة

١٣

(٦)وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ

____________________________________

٦ ( وَابْتَلُوا الْيَتامى ) الذين لهم أموال محجوبة عن تصرفهم لصغرهم وامتحنوهم وجربوهم ، بممارسة أمرهم لاستكشاف رشدهم ولياقتهم لصون أموالهم على النهج العقلائي النوعي بما يحصل به الامتحان ويتوقف عليه ولو بأن يدفع إلى اليتيم شيء من المال مع الاذن بالتصرف فيه والمراقبة له في تصرفاته المأذون له فيها. ولا دلالة في الابتلاء بوجه من الوجوه على ان يخلي بين اليتيم وبين المال ليتصرف فيه بلا اذن ولا مراقبة في التصرفات بل ان تعليق الدفع على البلوغ وانس الرشد يدل على ما قلناه. وليكن هذا الابتلاء قبل البلوغ ليعطي الرشيد ماله أول بلوغه كما هو حقه فإن حصول الرشد لا يتوقف على البلوغ بل يمكن حصوله متدرجا من حين التمييز ويعرف بالامتحان والابتلاء( حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ ) أي الحالة والصفة التي قدرها الله لنوع الإنسان في تطورات نشأته ونموه وهي ان تحدث فيه مادة التناسل وهو المني بحسب نوعه ودم الحيض في رحم الأنثى فيكون بذلك صالحا للزاوج مائلا إليه بحركة مادة التناسل إلى الرغبة النوعية فيه. ولحدوث تلك الحالة وتلك الصفة أمارات تدل عليها تكون العبرة بأولها حصولا. منها هيجان تلك المادة وخروج المني ماء الشهوة المعروف بأحد المحركات كالجماع ونحوه أو بتخيله في النوم وهو الاحتلام. ولأن الغالب تقدم الاحتلام على الجماع ونحوه جعل القرآن الكريم بلوغه هو العنوان في قوله تعالى في سورة النور ٥٧( الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ ) ٥٨( وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ) . وربما يتأخر المحرك لخروج المني فتكون العبرة في الأنثى بخروج دم الحيض منها وإذا تأخر ذلك كان حملها كاشفا عن بلوغها. وإذا تأخر ظهور هذه الإمارات أخذ بالسن وهو في الذكر إكمال خمسة عشر سنة هلالية على المشهور عندنا بل هو اجماع إذ لم يعهد البقاء على الخلاف إلّا من ابن الجنيد. ولو لم يكن اجماعا فهو شهرة تعضد ما توافقه من الحديث وتوهن ما تخالفه. وعلى المشهور معتبرة العبدي بالحسن ابن محبوب وروايات الكناسي عن الباقر (ع) وصحيحا ابن وهب عن الصادق (ع) ونحوهما وروايات الخصال في مرسلة ابن عامر عن الصادق. والروايات المعارضة ان لم تقبل التأويل بإمكان ان تظهر الإمارات المذكورة قبل الخمسة عشر سنة فهي مطرحة لمخالفتها المشهور واعراض القدماء عنها. وفي الأنثى إكمال تسع سنين بإجماعنا وما أشرنا إليه من رواية العبدي : ومن

١٤

فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً

____________________________________

علامات البلوغ نبات الشعر الخشن على العانة دون الزغب وعليه علماؤنا وهو المحكي عن مالك واحمد والشافعي في أحد قوليه وفي القول الآخر خصه بالكفار وعن أبي حنيفة انه لا يعتد بذلك. والحجة عليه ان رسول الله (ص) أمر بالاعتبار به في أمر بني قريضة كما هو مروي من طرق الجمهور في الصحيح عندهم كما في مسند أحمد وصحيح ابن حبان وجامع عبد الرزاق عن عطية القرضي. ومن طرقنا رواية أبي البختري عن الصادق (ع) عن الباقر (ع) كما تدل عليه روايتا العبدي والكناسي عن الباقر (ع) وذكرت فيهما اللحية للغلام ايضا. وهناك أمارات أخر كتغير الصوت وتورم الثديين وانفراج ارنبة الأنف ولكن التدرج في حدوثها قد يسبق البلوغ فلذا لم تعد من الإمارات المعول عليها( فَإِنْ آنَسْتُمْ ) في التبيان آنستم وجدتم يقال آنست من فلان خيرا. ولعله يشير بالمثال إلى وجه الاستعمال وهو ان أنس ليس معناه ابصر وعلم كما قال بعض اللغويين بل هو مأخوذ من الانس واستعمل في وجدان ما يؤنس به ضد ما يستوحش منه ولم يسمع في مستقيم الكلام استعماله فيما يحذر منه( مِنْهُمْ رُشْداً ) في حفظ المال وعدم تبذيره ولعل في التنكير اشارة إلى ذلك. ولا يعتبر في ذلك الرشد في التقوى بمعنى العدالة ولم يحك القول باعتبار العدالة إلّا عن الشيخ الطوسي والشافعي لكن قال في التبيان والأولى حمله أي الرشد على العقل وإصلاح المال وهو المروي عن أبي جعفر (ع) أيضا أقول وفي الفقيه عن الصادق (ع) في الآية إيناس الرشد حفظ المال وعن العياشي عن يونس بن يعقوب عن الصادق (ع) في الآية أي شيء الرشد الذي يؤنس منه قال (ع) حفظ ماله وصحيحة العيص المروية في الكافي والفقيه والتهذيب عن الصادق (ع) في اليتيمة متى يدفع إليها مالها قال (ع) إذا علمت انها لا تفسد ولا تضيع. وفي صحيحة الكافي عن هشام عن الصادق (ع) وان احتلم ولم يؤنس منه رشده وكان سفيها وضعيفا فليمسك عنه وليه ماله. ونحوه رواية الفقيه والتهذيب والظاهر ان السفه والضعف بمنزلة عطف التفسير لعدم الرشد. وموثقة التهذيب عن عبد الله بن سنان عن الصادق (ع) في الغلام جاز امره إلّا أن يكون سفيها أو ضعيفا وفسر السفيه بالذي يشتري الدرهم بأضعافه والضعيف بالابله : وفي الدّر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في الآية رشدا في حالهم

١٥

فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ

____________________________________

والإصلاح في أموالهم : ومن السفه وعدم الرشد تعاطي صرف المال في الملاهي والقمار وشرب الخمر وللزنا ونحو ذلك وقد سمعت من الحديث ان شارب الخمر سفيه( فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) وخلوا بينهم وبينها كسائر ذوي الأموال. ومدلول الآية ان الولي على أموالهم لا يدفعها إليهم حتى يأنس منهم رشدا مهما طعنوا في السن فمن الغريب حتى في القياس والاستحسان ما عن أبي حنيفة من انها تدفع إليهم بعد الخمس وعشرين سنة من عمرهم وان كانوا سفهاء - هذا ولما نهى الله تعالى في الآية الثانية عن بعض الأنحاء من أكل أموال اليتامى اقتضت الحكمة والرحمة ان ينهى عن سائر الأنحاء مما يغوي به الشيطان وتغري به دناءة النفس الأمارة من أكلها بالإسراف أو في سورة الحذر من ان يكبر اليتيم فيأخذ ما يجده من أمواله فيسرع المتولي عليها إلى صرفها واتلافها فقال جلت رحمته( وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً ) والإسراف معروف ومقتضى الظاهر ان «إسرافا» نائب عن المفعول المطلق( وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا ) البدار مصدر بادرته الشيء أي سابقته ومفعوله مصدر ان يكبروا ويكون بدارا مفعولا لأجله أي تأكلونها مسابقة منكم لكبرهم. ولا حاجة إلى تأويل الإسراف والبدار باسم الفاعل لجعلهما حالين كما في مجمع البيان والكشاف( وَمَنْ كانَ غَنِيًّا ) بماله لا يضايقه العمل في أموال اليتامى وإصلاحها والنظر في شؤونها ولا يزاحمه في أمر معاشه وما يحتاج إليه( فَلْيَسْتَعْفِفْ ) أي يطلب صفة العفة ويتخلق بها أو فليصر عفيفا مثل استحجر الطين ومن العفة تركه بكرم الأخلاق والشهامة والرحمة وان لم يكن حراما كما ذكره اللغويون ويعرف من موارد الاستعمال وسيأتي ان الأمر فيه للاستحباب أو للإرشاد إلى الخلق الحميد( وَمَنْ كانَ فَقِيراً ) بحيث يكون عمله في أموال اليتامى ونظره في أمرها مخلا بنظام تعيشه وكسبه لما يحتاج إليه( فَلْيَأْكُلْ ) الأمر للاباحة( بِالْمَعْرُوفِ ) ولا يعهد هنا معروف يحال عليه ويجعل ميزانا إلّا اجرة المثل لعمله. وتحرير الكلام في الآية الكريمة هو انه بحسب النظر إلى القواعد الشرعية العامة أو الدليل الخاص وهل يجوز لمتولي مال اليتيم ان يأخذ الاجرة على عمله فيه ام لا. ولا يخفى انه عمل محترم وليس في أمر الولاية ما يهده حرمته. اما الوصية وقبولها فليس فيهما التباني على العمل مجانا

١٦

ولا ما يوجب الالتزام بهذا التباني لو كان. واما وجوب العمل فإنما هو توصلي لا يمنع من استحقاق الاجرة. ولو منع منها لمنعه من أن يستأجر غيره مع انه لا كلام ولا خلاف في جواز ذلك حتى الاستئجار على النظر في امور العاملين. ودعوى ان مباشرته مهدورة وان جاز له ان يستأجر محتاجة إلى بيان المبني والدليل والفارق. وأما النهي عن أكل أموال اليتامى فإنه ناظر إلى غصبها وهو القدر المتيقن من ذلك. ومن ذلك يعرف الكلام في سائر اقسام المتولين. وفي التبيان والظاهر في أخبارنا ان له اجرة المثل سواء كان قدر كفايته أو لم يكن ونحوه في مجمع البيان وقد افتى الشيخ بذلك في نهايته في آخر باب التصرف في أموال اليتامى من كتاب المكاسب وعليه الفتوى في وصايا الشرايع وللقواعد والإرشاد والتذكرة والإيضاح والدروس والجواهر وغيرها. وعلى ما ذكرناه من احترام عمل الولي واستحقاقه به اجرة المثل يبتني قول اللمعة والمسالك بها مع الحاجة والفقر وقول المبسوط وكنز العرفان وجامع المقاصد والروضة بأقل الأمرين منها ومن الكفاية. لأن ما ذكروه من التقييد مستند إلى ما فهموه من الآية الكريمة. وكذا ما ذكره الرازي من قول البعض من علمائهم ان له ان يأخذ من مال اليتيم ما يحتاج إليه وبقدر اجرة عمله وذكر الاحتجاج له بوجوه ستة سادسها القياس على الساعي في أخذ الصدقات. وما حكاه في الكشّاف وتفسير أبي السعود عن محمد بن كعب من قوله ينزل نفسه منزلة الأجير فيما لا بد منه. وعن الشعبي يأكل من ماله بقدر ما يعين فيه وفي تفسير المنار «وعن عطا يضع يده مع أيديهم ويأكل معهم كقدر خدمته في عمله ومن هنا قال الفقهاء ان له اجرة مثله من مال اليتيم» وعلى نحو ما ذكرناه يجري ما في الدّر المنثور من انه أخرج البخاري وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن عائشة قالت أنزلت هذه الآية في والي اليتيم فليأكل بالمعروف بقدر قيامه عليه إنتهى والموجود فيما عندي من نسخة البخاري في التفسير يأكل منه مقام قيامه عليه بمعروف. والمآل واحد. وايضا أخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن عباس في الآية قال يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله ومنفعته له : وفي التهذيب في الصحيح عن هشام ابن الحكم قال سألت أبا عبد الله يعني الصادق (ع) عمن تولى مال لليتيم ماله ان يأكل منه فقال ينظر إلى ما كان غيره يقوم به فليأكل بقدر ذلك. ولا يخفى ان مناسبات المقام وتشديد القرآن الكريم في المحافظة على أموال اليتامى وللنهي عن أكلها لا تسوغ للذهن ان يحتمل ان الله

١٧

فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٧)لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أو كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً

____________________________________

جعل أموال اليتامى طعمة لوليها الفقير يأكل منها بدون جهة استحقاق يعود نفعها لليتيم من عمل له اجرة. وهذه الجهة مشتركة بين الغني والفقير. وفي الدّر المنثور ذكر جماعة اخرجوا عن القاسم بن محمد قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال إن في حجري أيتاما وإن لهم إبلا فما ذا يحل لي من ألبانها فقال إن تبع ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها وتسعى إليها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في حلب. وفي الكافي والتهذيب بسندهما عن حنان عن الصادق (ع) نحوه ومما ذكرناه في معنى العفة واحترام عمل الولي ووجه استحقاقه للأكل يعرف أن الأمر في قوله تعالى( فَلْيَسْتَعْفِفْ ) إنّما هو للندب لما في الاستعفاف من الخلق الكريم في الرحمة بالأيتام واعانة الضعفاء ، وصيانة النفس من تعديها ومغالطتها للغني بأن عمله من حيث جلالته بالثروة ثمين جدا. مع ان الاجرة يرعى فيها ذات العمل لا شؤون العامل. وعلى هذا النحو من الأحكام الأخلاقية والآداب الاجتماعية جاءت الأحاديث المختلفة لسانها بحسب النظر إلى مراتب الاستحباب والمروءة والحاجة كما في الدّر المنثور والباب المائة والبابين اللذين بعده من كتاب المكاسب من الوسائل( فَإِذا دَفَعْتُمْ ) ايها المتولون على أموال اليتامى( إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) عند بلوغهم ورشدهم( فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ ) من يكتفى بشهادته وتقوم به الحجة. وهذا الأمر للإرشاد والاستحباب لبعض الجهات عند الإمامية ولم اعرف عاجلا قائلا بالوجوب. وفي تفسير الرازي أجمعت الامة على الاشهاد هو الأولى والأحوط. وفي تفسير المنار عن استاذه أنه ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأمر بالإشهاد أمر ارشاد وحكى عن الشافعية والمالكية وجوب الإشهاد( وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً ) محاسبا لكم فيما أوصاكم به في هذه الآيات ولليتامى إن جحدوكم. وقيل شاهدا. هذه شريعة الحق وزواجر العدل في امور اليتامى ومن شريعة العدل ، وقوانين الحق في المواريث قوله تعالى ٧( لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أو كَثُرَ نَصِيباً ) وهو حال مؤكدة جيء بها توطئة للوصف بكون النصيب( مَفْرُوضاً ) في شريعة العدل لا يختص الرجال

١٨

بذلك ولا تنعزل عنه النساء مما قل منه أو كثر فلا يستكثر عليهن الكثير وهذا هو النكتة في ذكر النساء أي كما ان الرجال يكونون وراثا من القليل والكثير فكذلك النساء لأن المال الموروث مال الميت وانّما ينتقل إلى غيره بسبب الولدية للوالدين والأقربية للأقربين وهذا السبب كما يحصل للرجال يحصل بعينه للنساء أيضا فلما ذا نحرم النساء إرثها وإن كانت أقرب القربى والمراد بالمفروض هو الواجب المدلول عليه بالخصوص أو العموم لا خصوص فرض النصف والثلثين فإن اكثر النساء كالبنات والأخوات مع إخوتهن وغيرهن ليس لهن فرض خصوصي - ولا يخفى - انه كثيرا ما يكون للرجل جميع التركة بإجماع الامة كما إذا انفرد بالإرث لا نصيب وبعض منها. فيعرف من ذلك ان التعبير بالنصيب هنا وبالنصف والثلثين في الآيات الأخر إنّما هو ناظر إلى صورة وجود الشريك في الإرث فيقال ذلك توسعة لمجال الشركة ومقدمة لحساب القسمة وتوطئة للموازنة بنحو غير حاصر بل تكون تصفية الحساب وجمعه وإكمال الحصص وتحديدها وأخذ النتيجة العملية من قاعدة الأقربية المؤسس تشريعها فيما كرر هاهنا من قوله تعالى( وَالْأَقْرَبُونَ ) فإنه جلت حكمته أوضح أن المبني في الإرث وقاعدته الأساسية هي الأقربية في الرحم فإنه إذا كان الموروث للوارث هو الأقرب إليه فالوارث هو الأقرب اليه. وقد جرى التأكيد لهذه القاعدة بقوله تعالى في سورة الأنفال ٧٤( وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ) لكن مقام العلقة النسبية والأقربية في الرحم محفوظ لا يتقدم عليها في آثار الارتباط شيء( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) وقوله تعالى في سورة الأحزاب( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إلّا أَنْ تَفْعَلُوا إلى أَوْلِيائِكُمْ ) منهم( مَعْرُوفاً ) في حبوتكم بالعطاء المنجز أو الوصية( كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً ) ونظر الآيتين إلي الميراث اظهر من ان يجحد. ومن المعلوم أن جل الصحابة ومنهم أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود والزبير كانوا يورثون الأرحام بهاتين الآيتين وعلى ذلك فقهاء العراق بل والشافعي إذا لم ينتظم بيت المال. وهو اجماع أهل البيت والإمامية. وحديثهم في ذلك كثير جدا. وتناصرت فيه أحاديث أهل السنة من طرقهم مع صحتها عندهم في ان الآية نزلت في تقديم اولي الأرحام في الإرث على غيرهم كما أسنده الطبري في تفسيره وعبد بن حميد عن أبي بكر وأسنده الحاكم عن الزبير كما أسنده عن ابن عباس بسندين وذكر

١٩

(٨)وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ

____________________________________

ثانيهما أبو داود أيضا في جامعه. والآيات الثلاث متعاضدة الدلالة واضحة العناية بتأكيد عمومها وتثبيته بالتكرار وبيان وجهه الواضح وعلته المأنوسة في الأذهان وهو الأقربية في الرحم. وزاد تشديد التأكيد بتكرار البيان لكون أولية الأقرب في الرحم ثابتة في كتاب الله وما سطره في كتابه من شريعة الحق الثابتة وبأن الله الذي هو بكل شيء عليم والعالم بما يحدث من الأمور نص في كتابه على أولية الأقرب في الرحم من غيره ٨( وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ ) للميراث( أُولُوا الْقُرْبى ) الظاهر انهم أولو قربى الميت من غير الوراث الأقربين( وَالْيَتامى ) المحتاجين( وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ ) من غير تعيين للمقدار بل ما يؤدي هذا العنوان ولا يجحف بالمال( مِنْهُ ) أي من المال المدلول عليه بمقام الميراث والقسمة كما ذكرنا مثله في الشعر العربي في الصفحة ١٥٥ من الجزء الأول( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) من القول الطيب والظاهر اتفاق الإمامية وإجماعهم على أن مؤدى الآية غير واجب. واختلف الحديث من الفريقين في نسخها وعدمه كما في الدّر المنثور في الروايات عن ابن عباس وفي تفسير البرهان من رواياتنا. واما الاستحباب فإن لم يثبت بعنوانه الخاص فلا بأس في ثبوته بعنوان الإحسان نعم لا يجوز ذلك قبل القسمة فيما إذا كان في الوراث قاصر أو معتوه أو غائب ولا بعدها فيما يرجع إلى هؤلاء ٩( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ) لهم( ضِعافاً ) جمع ضعيف( خافُوا عَلَيْهِمْ ) وهذه الجملة جواب «لو» وقد ورد فيما يرجع إلى مضمون الآية وينطبق عليه أحاديث. منها : صحيحة عقاب الأعمال وعن العياشي عن الصادق (ع) قال ان في كتاب علي (ع) ان آكل مال اليتيم سيدركه ذلك في عقبه من بعده في الدنيا ويلحقه وبال ذلك في الآخرة اما في الدنيا فإن الله يقول وذكر الآية. وفي معناه موثقة سماعة المروية في الكافي والفقيه والتهذيب وعن العياشي عن الصادق (ع). وما في الفقيه من قوله قال الصادق (ع) أن آكل مال اليتيم يخلفه وبال ذلك في الدنيا وتلا الآية. وكذا ما أسنده عن الرضا (ع) وروايتا الصفار والعياشي عن الصادق : ومرجع ذلك إلى أن الله لا يوفق آكل مال اليتامى لأن يجعل على يتاماه وذريته الضعاف قيما أمينا ولا يدفع عن أموالهم من يريد أكلها ولا يدفع

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الحركات الرجعيّة

1

7

الجهميّة

قد عرفت أنّ المتّهمين بالقدرية كانوا دعاة الحرّية، لا نُفاة القضاء والقدر، بل كانوا قائلين بأنّه سبحانه تبارك وتعالى قدّر وقضى، ومع ذلك، لم يسلب الاختيار عن الإنسان، فخيّره بين الإيمان والكفر، بين الخير والشّر، فلو قدّر الخير فلعلم منه بأنّه يختار الخير عن اختيار، أو قدّر الشر فلعلم منه أنّ الفاعل يختار الشر كذلك، وهو نفس صميم الإسلام ولبّه، قال سبحانه: ( فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ ) (1) .

لكن ظهرت في القرن الثاني والثالث حركات رجعيّة استهدفت أركان الإسلام والعودة بالأُمّة إلى الأفكار الجاهلية الّتي سادت قبل الإسلام، من القول بالجبر والتجسيم، وإليك أبرز ممثّلي هذه الحركات الرجعية.

____________________

(1) الكهف: 29.

٨١

الجهميّة:

إنّ سمات الجهميّة، هي: القول بالجبر والتعطيل، أسّسها جهم بن صفوان السمرقندي (المتوفّى 128هـ).

قال الذهبي: جهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع، رأس الجهميّة في زمان صغار التابعين، وما علِمْته روى شيئاً، لكنّه زرع شرّاً عظيماً.

وقال المقريزي: الجهميّة،أتباع جهم بن صفوان الترمذي، مولى راسب، وقُتل في آخر دولة بني أُميّة، وتتلخّص عقائده في الأُمور التالية:

1 - ينفي الصفات الإلهيّة كلّها، ويقول: لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خَلْقه.

2 - إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالقدرة ولا بالاستطاعة.

3 - إنّ الجنّة والنّار يفنيان، وتنقطع حركات أهلهما.

4 - إنّ من عرف الله ولم ينطق بالإيمان لم يكفر؛ لأنّ العلم لا يزول بالصمت، وهو مؤمن مع ذلك.

وقد كفّره المعتزلة في نفي الاستطاعة، وكفّره أهل السنّة بنفي الصفات وخلق القرآن ونفي الرؤية.

5 - وانفرد بجواز الخروج على السلطان الجائر.

6 - وزعم أنّ علم الله حادث لا بصفة يوصف بها غيره. (1)

____________________

(1). الخطط المقريزيّة: 3/349، ولاحظ: ص351.

٨٢

أقول: الظاهر أنّ قاعدة مذهبه أمران:

الأوّل: الجبر ونفي الاستطاعة، فجهم بن صفوان رأس الجبر وأساسه، ويُطْلق على أتباعه الجبريّة الخالصة، في مقابل غير الخالص منها.

الثاني: تعطيل ذاته سبحانه، عن التوصيف بصفات الجلال والجمال، ومن هنا نجمت المعطّلة.

وأمّا غير هذين الأمرين فمشكوك جداً.

التطورات الّتي مرّ بها مفهوم الجهمي:

لمّا كان نفي الصفات عن الله والقول بخلق القرآن ونفي الرؤية ممّا نسب إلى منهج الجهم، صار لفظ الجهمي رمزاً لكلِّ من قال بأحد هذه الأُمور، وإن كان غير قائل بالجبر ونفي القدر؛ ولأجل ذلك ربّما تطلق الجهميّة ويراد بها المعتزلة أو القدريّة، يقول أحد بن حنبل:

والقرآن كلام الله ليس بمخلوق، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومن زعم أنّ القرآن كلام الله ووقف، ولم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو أخبث من الأوّل، ومن زعم أنّ ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي، ومن لم يكفّر هؤلاء القوم كلّهم فهو مثلهم. (1)

____________________

(1) السنّة: 49.

٨٣

الحركات الرجعيّة

2

8

المجسّمة

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد، والبرهان عن التفكير، ألحق أضراراً جسيمة بالمجتمع الإسلامي، حيث ظهرت فيه حركات هدّامة ترمي إلى تقويض الأُسس الدينية والأخلاقيّة.

ومن تلك الحركات المجسّمة؛ الّتي رفع لواءها مقاتل بن سليمان المجسم (1) (المتوفّى عام 150هـ)، ونشر أقاصيص الأحبار والرهبان في القرن الثالث، فهو وجهم بن صفوان، مع تشاطرهما في دفع الأُمّة الإسلامية إلى حافة الجاهلية،على طرفي نقيض في مسألة التنزيه والتشبيه.

____________________

(1) مقاتل بن سليمان بن بشر الأزدي بالولاء، البلخي، أبو الحسن، من المفسرين، أصله من بلخ، انتقل إلى البصرة ودخل بغداد وحدّث بها، وتوفّي بالبصرة، كان متروك الحديث، من كتبه (التفسير الكبير)، و(نوادر التفسير)، و(الرّد على القدريّة)، و(متشابه القرآن)، و(الناسخ والمنسوخ)، و(القراءات)، و(الوجوه والنظائر)، [الأعلام: 7/281].

٨٤

أمّا صفوان، فقد بالغ في التنزيه حتّى عطّل وصف ذاته بالصفات.

وأمّا مقاتل، فقد أفرط في التشبيه فصار مجسّماً، وقد نقل المفسرون آراء مقاتل في كتب التفاسير.

فليعرف القارئ مكانه في الوثاقة وتنزيه الربّ عن صفات الخلق.

قال ابن حبّان: كان يأخذ من اليهود والنصارى - في علم القرآن - الّذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوقات، وكان يكذب في الحديث.

وقال أبو حنيفة: أفرط جهم في نفي التشبيه، حتّى قال إنّه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعله مثل خلقه. (1)

____________________

(1) لاحظ: ميزان الاعتدال، 4/173. وراجع تاريخ بغداد، 13/166.

٨٥

الحركات الرجعية

3

9

الكرّاميّة

وهذه الفرقة منسوبة إلى محمد بن كرام السجستاني (المتوفّى عام 255هـ) شيخ الكرامية.

قال الذهبي: ساقط الحديث على بدعته، أكَثَر عن أحمد الجويباري، ومحمد بن تميم السعدي؛ وكانا كذّابين.

وقال ابن حبّان: خذل، حتّى التقط من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أوهاها... وجعل الإيمان قولاً بلا معرفة.

وقال ابن حزم: قال ابن كرام: الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه، فهو مؤمن. ومن بِدَع الكرّاميّة قولهم في المعبود تعالى إنّه جسم لا كالأجسام، وقد سقت أخبار ابن كرّام في تاريخي الكبير، وله أتباع ومؤيّدون، وقد سجن في نيسابور لأجل بدعته ثمانية أعوام، ثُمَّ أُخرج وسار

٨٦

إلى بيت المقدس، ومات بالشام سنة 255هـ. (1)

إنّ للكرّامية نظريات في موضوعات أُخر، ذكرها البغدادي، وقد بلغت جُرأتهم في باب النبوّة حتّى قال بعضهم: إنّ النبي أخطأ في تبليغ قوله[ تعالى]: ( وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرَى ) ، حتّى قال بعده: (تلك الغرانيق العلى، وان شفاعتها لترتجى). (2)

مع أنّ قصة الغرانيق أُقصوصة ابتدعها قوم من أهل الضلالة، وقد أوضحنا حالها في كتابنا (سيد المرسلين (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم».

ونكتفي بهذا النزر في بيان عقائدهم، وكلّها وليد إقصاء العقل والمنطق عن ساحة العقائد، والاكتفاء بالروايات مع ما فيها من أباطيل وترّهات وضعها الأعداء واختلقتها الأهواء، فهي من أسوأ الحركات الرجعيّة الظاهرة في أواسط القرن الثالث.

____________________

(1) ميزان الاعتدال: 4/21.

(2) الفرق بين الفِرق: 222.

٨٧

الحركات الرّجعيّة

4

10

الظاهرية

وهذا المذهب منسوب إلى داود بن علي الأصفهاني الظاهري (200 - 270هـ).

وقد أسّس مذهباً في الفروع، فالمصدر الأصلي في الفقه عنده هو النصوص، بلا رأي في حكم من أحكام الشرع، فهم يأخذون بالنصوص وحدها، فإذا لم يكن بالنص، أخذوا بالإباحة الأصليّة.

ما هو السبب لظهور هذا المذهب؟

إنّ إقصاء العقل عن ساحة العقائد يستلزم طرده عن ساحة الفقه بوجه أولى، لأنّ أساسه هو التعبُّد بالنصوص، وعدم الإفتاء بشيء لا يوجد له أصل في الكتاب والسنّة، لكن الجمود على حرفيّة النصوص شيء، والتعبّد بالنصوص وعدم الإفتاء في مورد لا يوجد فيه أصل ودلالة في المصدرين الرئيسيّين شيء آخر،

٨٨

فالظاهرية على الأوّل، والفقهاء على الثاني، ولأجل إيضاح الحال نأتي بمثالين:

1 - إنّ الشكّل الأوّل من الأشكال الأربعة ضروري الإنتاج، من غير فرق بين الأُمور التكوينيّة أو الأحكام الشرعيّة؛ فكما أنّ الحكم بحدوث العالم نتيجة حتمية لقولنا: العالم متغيّر وكلّ متغيّر حادث، فهكذا الحكم بحرمة كلّ مسكر، نتيجة قطعيّة لقولنا: الفقاع مسكر، وكل مسكر حرام، فالفقاع حرام؛ لكنّ الظاهري يقبل المقدّمتين، ولكن لا يفتي بالنتيجة؛ بحجة أنّها غير مذكورة في النصوص.

2 - ما يسمّيه الفقهاء بلحن الخطاب، وإن كان شيئاً غير مذكور في نفس الخطاب، لكنّه من اللوازم البيّنة له، بحيث يتبادر إلى الذّهن من سماعه، فإذا خاطبنا سبحانه بقوله: ( فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍ ) (1) ، يتوجّه الذهن إلى حرمة ضربهما وشتمهما بطريق أولى، ولكن الفقيه الظاهري يأبى عن الأخذ به بحجّة كونه غير منصوص.

قال سبحانه: ( قُل لِلّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنّتُ الْأَوّلِينَ ) (2) .

فالموضوع للحكم (مغفرة ما سلف عند الانتهاء)؛ وإن كان هو الكافر، لكن الذهن السليم يتبادر إلى فهم شيء آخر، لازم لهذا الحكم بالضرورة، وهو تعميم الحكم إلى المسلم أيضاً بوجه آكد، ولكنّ الظاهري يتركه؛ بحجة أنّه غير مذكور في النص.

____________________

(1) الإسراء: 23.

(2) الأنفال: 38.

٨٩

وهذا النوع من الجمود يجعل النصوص غير كافلة لاستخراج الفروع الكثيرة، وتصبح الشريعة ناقصة من حيث التشريع والتقنين، وغير صالحة لجميع الأجيال والعصور، وفاقدة للمرونة اللازمة الّتي عليها أساس خاتميّة نبوّة نبيّناً محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وكتابه وسنّته.

ثمَّ إنّ الاكتفاء بظاهر الشريعة؛ وأخذ الأحكام من ظواهر النصوص؛ له تفسيران: أحدهما صحيح جداً، والآخر باطل، فإن أُريد منه نفي الظنون؛ الّتي لم يدلّ على صحة الاحتجاج بها دليل، فهو نفس نص الكتاب العزيز، قال سبحانه: ( قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ ) (1) ، فالشيعة الإماميّة، وبفضل النصوص الوافرة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المتّصلة اسنادها إلى الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، استطاعت أن تستخرج أحكام الحوادث والموضوعات الكثيرة منها، وامتنعت عن العمل بالقياس والاستحسان وغيرهما من الأدلّة الظنية؛ الّتي لم يقم الدليل القطعي على صحّة الاحتجاج بها، بل قام الدليل على حرمة العمل على بعضها، كالقياس، وقد ورد في نصوص أئمتهم (عليهم السلام): «إنّ السنّة إذا قيست مُحق الدين» (2) .

وإن أُريد بها لوازم الخطاب؛ أي ما يكون في نظر العقلاء، كالمذكور أخذاً بقولهم: (الكناية أبلغ من التصريح)، ويكون التفكيك بينهما أمراً غير صحيح، فليس ذلك عملاً بغير المنصوص. نعم ليس عملاً بالظاهر الحرفي، ولكنّه عمل بها بما يفهمه المخاطبون بها.

____________________

(1) يونس: 59.

(2) الوسائل: 18، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.

٩٠

أُفول نجمه:

إنّ هذا المذهب لأجل حرفيته قد أفل نجمه بسرعة.

نعم قد تبعه فقيه آخر باسم ابن حزم (384 - 458هـ)، وأعاد هذا المذهب إلى الساحة، وألّف حوله كتباً ورسائل، وخدمه بالتآليف التالية:

1 - الإحكام في أُصول الأحكام: بيّن فيه أُصول المذهب الظاهري.

2 - النُّبَذ: وهو خلاصة ذلك الكتاب.

3 - المحلّى: وهو كتاب كبير نشر في عشرة أجزاء، جمع أحاديث الأحكام وفقه علماء الأمصار، طبع في بيروت بتحقيق أحمد محمد شاكر، وله آراء شاذة - كبطلان الاجتهاد في استخراج الأحكام الفقهية، وجواز مس المصحف للمجنب، وقاتل الإمام عليّ كان مجتهداً - ذكرناها في موسوعتنا. (1)

وقد ذكرنا هذا المذهب، مع أنّه فقهي؛ لأجل اشتراكه مع ما سبق في الرجعيّة، وإقصاء العقل عن ساحة الاجتهاد الفقهي.

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 3/141 - 146.

٩١

11

المعتزلة

المعتزلة بين المدارس الكلاميّة المختلفة؛ مدرسة فكريّة عقليّة أعطت للعقل القسط الأوفر، ومن المؤسف أنّ هوى العصبية، بل يد الخيانة، لعبت بكثير من مخلّفاتهم الفكريّة، فأطاحت به فأضاعتها بالخرق والتمزيق، فلم يبق فيما بأيدينا من آثارهم إلاّ الشيء القليل، وأكثرها يرجع إلى كتب عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى عام 415هـ)، ولأجل ذلك فقد اعتمد في تحرير هذا المذهب غير واحد من الباحثين على كتب خصومهم كالأشاعرة، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على كتاب الخصم لا يُورث يقيناً.

وقد اهتمّ المستشرقون في العصور الأخيرة بدراسة مذهب الاعتزال، ولقد أُعجبوا بمنهج الاعتزال في حرّية الإنسان وأفعاله، وصار ذلك سبباً لرجوع المعتزلة إلى الساحة من قبل المفكّرين الإسلاميّين، ولذلك نُشرت في هذه الآونة الأخيرة كتباً حول المعتزلة.

ومؤسّس المذهب هو واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري، نقل الشهرستاني أنّه دخل شخص على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين!، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم تُخرج به

٩٢

عن الملّة، وهم وعيديّة الخوارج، وجماعة يُرجئون أصحاب الكبائر، ويقولون لا تضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأُمّة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟

فتفكّر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب، قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إنّ صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثُمّ قام واعتزل إلى اسطوانة المسجد؛ يقرّر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل، فسمّي هو وأصحابه: معتزلة. (1)

سائر ألقاب المعتزلة:

إنّ للمعتزلة ألقاباً أُخر:

1 - العدليّة: لقولهم بعدل الله سبحانه وحكمته.

2 - الموحّدة: لقولهم لا قديم مع الله، وينفون قدم القرآن.

3 - أهل الحق: لأنّهم يعتبرون أنفسهم أهل الحق.

4 - القدريّة: يُعبَّر عن المعتزلة في الكتب الكلاميّة بالقدريّة، والمعتزلة يطلقونها على خصومهم، وذلك لما رُوي عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «أنّ القدريّة مجوس هذه الأُمّة». فلو قلنا بأنّ القدريّة منسوبة إلى القدر؛ عِدْل القضاء، فتنطبق على

____________________

(1) الملل والنحل: 1/62.

٩٣

خُصَماء المعتزلة؛ القائلين بالقدر السالب للاختيار. ولو قلنا بأنّها منسوبة إلى القدرة؛ أي القائلين بتأثير قدرة الإنسان في فعله واختياره وتمكّنه في إيجاده، فتنطبق - على زعم الخُصَماء - على المعتزلة؛ لقولهم بتأثير قدرة الإنسان في فعله. وقد طال الكلام بين المتكلّمين في تفسير الحديث وذِكْر كلِّ طائفة وجهاً لانطباقه على خصمها. (1)

5 - الثنويّة: ولعلّ وجهه ما يتراءى من بعضهم من نسبة الخير إلى الله والشر إلى العبد.

6 - الوعيدية: لقولهم إنّ الله صادق في وعده، كما هو صادق في وعيده، وإنّه لا يغفر الذنوب إلاّ بعد التوبة، فلو مات بدونها يكون معذّباً قطعاً ويخلَّد في النار.

7 - المعطّلة: لتعطيل ذاته سبحانه عن الصفات الذاتية، ولكن هذا اللقب أُلصق بالجهميّة، وأمّا المعتزلة فلهم في الصفات مذهبان:

أ - القول بالنيابة، أي خلو الذات عن الصفات، ولكن تنوب الذّات مكان الصفات في الآثار المطلوبة منها، وقد اشتهر قولهم: (خُذ الغايات واترك المبادئ)، وهذا مخالف لكتاب الله والسنّة والعقل. فإنّ النقل يدلّ بوضوح على اتّصافه سبحانه بالصفات الكماليّة، وأمّا العقل، فحدِّث عنه ولا حرج؛ لأنّ الكمال يساوق الوجود، وكلّما كان الوجود أعلى وأشرف، تكون الكمالات فيه آكد.

____________________

(1) كشف المراد: 195، شرح المقاصد للتفتازاني: 2/143.

٩٤

ب - عينيّة الصفات مع الذّات واشتمالها على حقائقها، من دون أن يكون ذات وصفة، بل الذّات بلغت في الكمال إلى درجة صار نفس العلم قدرة.

8 - الجهميّة، وهذا اللّقب منحه أحمد بن حنبل لهم، فكل ما يقول: قالت الجهميّة، أو يصف القائل بأنّه جهميّ؛ يُريد به المعتزلة، لِمَا وجد من موافقتهم الجهميّة في بعض المسائل.

9 - المفنية.

10 - اللّفظيّة.

وهذان اللّقبان ذكرهما المقريزي وقال: إنّهم يوصفون بالمفنية، لما نسب إلى أبي الهذيل من فناء حركات أهل الجنة والنار؛ واللفظية لقولهم: ألفاظ القرآن مخلوقة. (1)

الأُصول الخمسة عند المعتزلة:

اشتهرت المعتزلة بأُصول خمسة، فمن دان بها فهو معتزلي، ومن نقص منها أو زاد عليها فليس منهم، وتلك الأُصول المرتبة حسب أهميتها عبارة عن: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فمن دان بها، ثُمَّ خالف بقية المعتزلة في تفاصيلها، لم يخرج بذلك عنهم.

وإليك تفصيل هذه الأُصول بنحو موجز:

____________________

(1) الخطط المقريزيّة: 4/169.

٩٥

إيعاز إلى الأُصول الخمسة

وقبل كلّ شيء نطرح هذه الأُصول على وجه الإجمال، حتّى يُعلم ماذا يريد منها المعتزلة، ثُمَّ نأخذ بشرحها واحداً بعد احد؛ فنقول:

1 - التوحيد: ويراد منه العلم بأنّ الله واحد، لا يشاركه غيره فيما يستحقُّ من الصفات نفياً وإثباتاً على الحدّ الّذي يستحقّه. والتوحيد عندهم رمز لتنزيهه سبحانه عن شوائب الإمكان ووهم المثليّة وغيرهما ممّا يجب تنزيه ساحته عنه، كالتجسيم والتشبيه وإمكان الرؤية وطروء الحوادث عليه. غير أنّ المهمّ في هذا الأصل؛ هو الوقوف على كيفيّة جريان صفاته عليه سبحانه، ونفي الرؤية، وغيرهما يقع في الدّرجة الثانية من الأهمية في هذا الأصل؛ لأنّ كثيراً منها لم يختلف المسلمون فيه، إلاّ القليل منهم.

2 - العدل: إذا قيل إنّه تعالى عادل، فالمراد أنّ أفعاله كلّها حسنة، وأنّه لا يفعل القبيح، وأنّه لا يَخِلّ بما هو واجب عليه. وعلى ضوء هذا: لا يكذب في خبره، ولا يجور في حكمه، ولا يعذِّب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، ولا يُظهر المعجزة على أيدي الكذّابين، ولا يكلِّف العباد وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، بل يُقْدِرهم على ما كلّفهم، ويعلِّمهم صفة ما كلّفهم، ويدلّهم على ذلك، ويبيّن لهم ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ ) (1) ، وأنّه إذا كلّف المكلّف وأتى بما كلّف على الوجه الّذي كُلِّف، فإنّه يثيبه لا محالة، وأنّه سبحانه إذا آلم وأسقم، فإنّما فعله لصلاحه ومنافعه، وإلاّ كان مخلاًّ بواجب...

3 - الوعد والوعيد: والمراد منه أنّ الله وعد المطيعين بالثواب، وتوعّد

____________________

(1) الأنفال: 42.

٩٦

العصاة بالعقاب، وأنّه يفعل ما وعد به وتوعّد عليه لا محالة. ولا يجوز الخُلف، لأنّه يستلزم الكذب. فإذا أخبر عن الفعل، ثُمَّ تركه، يكون كذباً. ولو أخبر عن العزم، فبما أنّه محال عليه، كان معناه الإخبار عن نفس الفعل، فيكون الخُلف كذباً. وعلى ضوء هذا الأصل، حكموا بتخليد مرتكب الكبائر في النار؛ إذا مات بلا توبة.

4 - المنزلة بين المنزلتين: وتلقّب بمسألة الأسماء والأحكام؛ وهي أنّ صاحب الكبيرة ليس بكافر كما عليه الخوارج، ولا منافق كما عليه الحسن البصري، ولا مؤمن كما عليه بعضهم، بل فاسق لا يحكم عليه بالكفر ولا بالإيمان.

5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والمعروف: كلّ فعل عرف فاعله حسنه أو دلّ عليه، والمنكر: كلّ فعل عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه. ولا خلاف بين المسلمين في وجوبهما؛ إنّما الخلاف في أنّه هل يُعلم عقلاً أو لا يُعلم إلاّ سمعاً؟، ذهب أبو عليّ (المتوفّى 303هـ) إلى أنّه يُعلم عقلاً وسمعاً، وأبو هاشم (المتوفّى 321هـ) إلى أنّه يُعلم سمعاً، ولوجوبه شروط تُذكر في محلّها، ومنها أن لا يؤدّي إلى مضرّة في ماله أو نفسه، إلاّ أن يكون في تحمّله لتلك المذلّة إعزاز للدّين.

قال القاضي: وعلى هذا يحمل ما كان من الحسين بن عليّ (عليهما السّلام)؛ لِمَا كان في صبره على ما صبر، إعزاز لدين الله عزّ وجلّ، ولهذا نباهي به سائر الأُمم، فنقول: لم يبق من ولْد الرّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) إلاّ سبط واحد، فلم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتّى قتل دون ذلك. (1)

____________________

(1) الأُصول الخمسة: 142، نقلاً عن، بحوث في الملل والنحل: 3/254 - 255.

٩٧

سبب الاقتصار على هذه الأُصول الخمسة:

هناك سؤال يطرح نفسه، وهو:

لماذا اقتصروا على هذه الأُصول، مع أنّ أمر النبوّة والمعاد أولى بأن يُعدَّ من الأُصول؟

وقد ذكروا في وجه ذلك أُموراً لا يُعتمد عليها، والحق أن يقال: إنّ الأُصول الخمسة الّتي يتبنّاها المعتزلة، مؤلّفة من أُمور تعدُّ من أُصول الدين كالتوحيد والعدل على وجه، ومن أُصول كلاميّة أنتجوها من البحث والنقاش، وأقحموها في الأُصول لغاية ردِّ الفرق المخالفة؛ الّتي لا توافقهم في هذه المسائل الكلامية.

وعند ذلك يستنتج القارئ أنّ ما اتّخذته المعتزلة من الأُصول، وجعلته في صدر آرائها، ليست إلاّ آراء كلاميّة لهذه الفرقة، تظاهروا بها للردّ على المجبّرة والمشبّهة والمرجئة والإماميّة وغيرهم من الفرق، على نحو لو لا تلكم الفِرَق لما سمعت من هذه الأُصول ذكراً.

أئمة المعتزلة:

المراد بأئمتهم؛ مشايخهم الكبار؛ الّذين نضج المذهب بأفكارهم وآرائهم، ووصل إلى القمة في الكمال.

نعم، في مقابل أئمة المذهب، أعلامهم الّذين كان لهم دور في تبيين هذا المنهج من دون أن يتركوا أثراً يستحق الذكر في الأُصول الخمسة، وها نحن نذكر من الطائفيتن نماذج:

٩٨

1. واصل بن عطاء (80 - 131هـ):

أبو حذيفة واصل بن عطاء، مؤسّس الاعتزال، المعروف بالغزّال، يقول ابن خلّكان: كان واصل أحد الأعاجيب، وذلك أنّه كان ألثغ، قبيح اللثغة في الرّاء، فكان يُخلِّص كلامه من الرّاء ولا يُفطن لذلك، لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه، ففي ذلك يقول أبو الطروق؛ يمدحه بإطالة الخطب واجتنابه الراء على كثرة تردّدها في الكلام، حتّى كأنّها ليست فيه.

عـليم بـإبدال الحروف وقامع

لـكلّ خطيب يغلب الحقَّ باطلُه

وقال الآخر:

ويـجعل البرّ قمحاً في تصرّفه

وخالف الرّاء حتّى احتال للشعر

ولـم يطق مطراً والقول يعجله

فـعاذ بالغيث اشفاقاً من المطر

من آرائه ومصنّفاته:

إنّ واصل هو أوّل من أظهر المنزلة بين المنزلتين؛ لأنّ الناس كانوا في أسماء أهل الكبائر من أهل الصلاة على أقوال: كانت الخوارج تسمّيهم بالكفر والشرك، والمرجئة تسمّيهم بالإيمان، وكان الحسن وأصحابه يسمّونهم بالنفاق.

مؤلّفاته:

ذكر ابن النديم في (الفهرست)، وتبعه ابن خلّكان: إنّ لواصل التصانيف التالية:

٩٩

1 - كتاب أصناف المرجئة.

2 - كتاب التوبة.

3 - كتاب المنزلة المنزلتين.

4 - كتاب خطبه الّتي أخرج منها الرّاء.

5 - كتاب معاني القرآن.

6 - كتاب الخُطب في التوحيد والعدل.

ومن المحتمل أنّه قام بجمع خطب الإمام عليّ (عليه السّلام) في التوحيد والعدل فأفرده تأليفاً.

7 - كتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد.

8 - كتاب السبيل إلى معرفة الحق.

9 - كتاب في الدعوة.

10 - كتاب طبقات أهل العلم والجهل. (1)

2. عمرو بن عبيد (80 - 143هـ):

وهو الإمام الثاني للمعتزلة بعد واصل بن عطاء، وكان من أعضاء حلقة الحسن البصري، مثل واصل، لكن التحق به بعد مناظرة جرت بينهما في مرتكب الكبيرة.

روى ابن المرتضى، عن الجاحظ، أنّه قال: صلَّى عمرو أربعين عاماً صلاة

____________________

(1) فهرست ابن النديم: 203، الفن الأوّل من المقالة الخامسة.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152