آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء ٢

آلاء الرحمن في تفسير القرآن0%

آلاء الرحمن في تفسير القرآن مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 152

آلاء الرحمن في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: آية الله الشيخ محمد جواد البلاغي
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
تصنيف: الصفحات: 152
المشاهدات: 60007
تحميل: 4372


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 152 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 60007 / تحميل: 4372
الحجم الحجم الحجم
آلاء الرحمن في تفسير القرآن

آلاء الرحمن في تفسير القرآن الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مكتبة الوجداني - قم
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وَلَا جُنُبًا إلّا عَابِرِي سَبِيلٍ

____________________________________

وذهوله وغفلاته. ومثل ذلك قوله تعالى في سورة البقرة ٢٢( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) كما أشرنا إلى وجه المنافاة في الجزء الأول ص ٧٦ وقوله تعالى ١٨٥( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) فإن المطلوب من الاعتكاف هو الانقطاع إلى الله في المسجد للعبادة والتخلي عن التلذذ فأين هو من التلذذ بمباشرة النساء وقوله تعالى في سورة المائدة ٩٩( لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) فإن الإحرام هو حبس النفس على الطاعة وترويضها بالاجتناب عن كثير من المباحات فأين هو من تطلب الصيد وقتله. وأما الجنابة فليست ظاهرة المنافاة للصلاة وانّما كشف الشارع عن ذلك إجمالا بفرض الطهارة تعبدا فلذا جاء الحال الثاني مفردا(١) وقوله تعالى( وَلا جُنُباً ) الواو فيه عاطفة و «جنبا» منصوب على الحالية معطوف على الجملة و «لا» نافية تدل على دخول الحال الثاني في حيز النهي وتفيد أن المنهي عنه كل واحد من الحالين لا مجموعهما. والجنب بضم الجيم والنون من اصابتهم جنابة وهي معروفة تنشأ من خروج المني أو الوطء مع غيبوبة الحشفة أو قدرها ويستوي في هذه الصيغة المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث( إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ) قيل معناه إلّا حال كونكم مسافرين ونسبه في التبيان إلى علي (ع) وغيره وفي مجمع البيان نسبه إلى علي وابن عباس. ولم أجد في أحاديث الإمامية رواية ذلك عن علي (ع) نعم في الدّر المنثور ذكر من أخرج عنه (ع) في قوله تعالى ولا جنبا إلّا عابري سبيل قال نزلت هذه الآية في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي وفي لفظ لا يقرب الصلاة إلّا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة فلا يجد الماء فيتيمم ويصلي حتى يجد الماء إنتهى وهذه الرواية على ما بها لا تدل على ما نسب إليه (ع) لأن قوله( وَلا جُنُباً

__________________

(١) وصاحب المنار في تفسيره حاول ان يبين وجه التفرقة بين الحالين في مجيء الأول جملة اسمية دون الثاني فقال إن التعبير بجملة وأنتم سكارى يتضمن النهي عن السكر إلى ان قال وأما نهيهم عن الصلاة جنبا فلا يدل على النهي عن الجنابة. وقد اكثر التبجح بهذا في أوائل كلامه. وليت شعري من اين جاء بتضمنه النهي عن السكر من حيث الدلالة اللفظية في الجملة الاسمية. وما ذا يقول في الآيات الثلاث التي ذكرناها فهل يقول ان التعبير عن الحال فيها بالجملة الاسمية يتضمن النهي عن العلم بوحدانية الله وانه لا ند له. وعن الاعتكاف في المساجد وعن الإحرام للحج والعمرة

١٢١

إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ) من كلام الراوي والظاهر أيضا أنَّ قوله نزلت هذه الآية في المسافر إنّما هو بالنظر إلى قوله تعالى( أَوْ عَلى سَفَرٍ ) . وأما النسبة إلى ابن عباس فمنشأها بحسب الظاهر ما ذكر روايته عنه في الدّر المنثور بنحو روايته عن علي (ع). والكلام فيها كما تقدم. وقد ذكر في الدّر المنثور من أخرج عن ابن عباس في قوله تعالى( إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ) قال لا تدخلوا المسجد إلّا عابري سبيل تمر به مرا ولا تجلس. وعن البيهقي عن أنس نحوه. وعن ابن جرير وعبد الرزاق والبيهقي عن ابن مسعود نحوه. وعن ابن جرير عن ابن مسعود أيضا هو الممر في المسجد وفي علل الصدوق في الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم عن الباقر (ع) قالا قلنا له الحائض والجنب يدخلان المسجد ام لا قال الحائض والجنب لا يدخلان المسجد إلّا مجتازين إن الله تبارك وتعالى يقول( وَلا جُنُباً إلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) . وعن العياشي عن زرارة عن الباقر نحوه. وفي تفسير القمّي سئل الصادق (ع) عن الحائض والجنب وذكر نحوه. هذا كله مع ان تفسير عابري سبيل بالمسافرين يوجب التكرار المخل في الآية بقوله تعالى( أَوْ عَلى سَفَرٍ ) وينحط بذلك أسلوب الآية عن كرامة القرآن الكريم. ومدلول هذه الروايات عليه اجماع الإمامية. ولا يضر فيه كلام سلار في مراسمه وكذا الصدوق في المقنع لموافقته في الفقيه والهداية للأصحاب بل وفي المقنع لما ذكره في الأخذ من المسجد والوضع فيه. ومذهب الشافعي مثل مذهب الأصحاب. ونسب إليه بناءه على جواز استعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمعنى المجازي بأن تكون الصلاة في الآية قد استعملت في معناها الحقيقي وفي موضعها وهو المسجد. ولا أظنه بناه على ذلك إذ يلزم منه منع من جاء من الغائط عن الدخول في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم وهو لا يقول بذلك فإن التفرقة في الأحكام بين المعنيين لو صح استعمال اللفظ فيهما معا إنّما هي مجازفة. ولكن الوجه في دلالة الآية على ما ذكرناه هو ان نهي الجنب عن قربه للصلاة يختلج منه في الذهن نهيه عن دخوله للمسجد لأجل حرمته وشدة ارتباطه بالصلاة خصوصا في عصر النزول فكأنه من مناحي قرب الصلاة المنهي عنه فجاء قوله تعالى( إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ ) بمنزلة الاستثناء المفرغ في دلالته على مضمونه بالمطابقة وعلى المستثنى منه بدلالة الالتزام واقتضاء الأسلوب. فكأنه قيل ولا ندخل المسجد ونحن جنب فقيل نعم إلّا عابري سبيل. ولمثل هذا الأسلوب البارع وهذه الدلالة بالإشارة الجميلة نظائر في بليغ الكلام منها ما ذكرناه في الجزء الأول ص ١٥٥ من قوله تعالى( فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ) . وما استشهد

١٢٢

به الفرّا من قولهم : -

أعمى إذا ما جارتي برزت

حتى يواري جارتي الخدر

ويصم عما كان بينهما

سمعي وما بي غيره وقر

و «منها» ما جاء في هذه الآية وفي آية الوضوء في سورة المائدة من قوله تعالى( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ) فإنه بدلالة المقام والأسلوب وقوله( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ) قد اكتفى عن قوله تعالى (فاضربوا بأيديكم على الصعيد أو مسوه وامسحوا أيديكم بوجوهكم وأيديكم منه) وادخل فاء التفريع على المسح مع أن حقه أن يعطف بالواو لو لا الاكتفاء بحسب براعة البلاغة بالدلالة الظاهرة لأهل اللسان والذوق العربي على ما ذكرناه و «منها» ما جاء في القرآن الكريم من العطف على المحذوف الذي يدل عليه العطف ومناسبة المعطوف وما يمثله المقام للذهن كما ستسمع بعض أمثلته في آية الوضوء من سورة المائدة إن شاء الله تعالى وفي المقام مسائل ثلاث - الأولى - لا يجوز مرور الجنب وكذا الحائض في المسجد الحرام ومسجد رسول الله في المدينة المنورة. والظاهر انه لا خلاف فيه بين الإمامية وحكى غير واحد عليه إجماعهم. وعليه صحيح جميل وروايته عن الصادق (ع) في الجنب ومرفوعة محمد بن يحيى عن أبي حمزة عن الباقر (ع) في المحتلم فيهما انه لا يمر إلّا متيمما وكذا الحائض ولا بأس أن يمرا في سائر المساجد. وما أخرجه أبو داود عن عائشة عن النبي (ص) ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنب إنتهى فلم يستثن المرور بل لعل الحديث ونهيه ناظران إلى المرور كما يدل عليه ما يأتي في المسألة الأخرى - الثانية - لا يدخل في هذا النهي والتحريم رسول الله (ص) أو أهل بيته. أخرج الترمذي في فضائل علي عن أبي سعيد قال قال رسول الله (ص) لعلي يا علي لا يحل لأحد ان يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك. وفي اللآلئ المصنوعة ذكر ممن أخرجه البيهقي في سننه والبزار عن سعد عن رسول الله (ص). وأوله ضرار بن صرد وكذا في اللمعات والمفاتيح بأنه لا يحل لأحد أن يستطرقه ويمر فيه جنبا غيري وغيرك وأخرج أحمد وعن النسائي في الكبرى عن ابن عباس في حديث قول رسول الله (ص) سدوا الأبواب إلّا باب علي وكان يدخل المسجد وهو جنب ليس له طريق غيره. وعن القول المسدد لابن حجر أخرج الطبراني في الكبير بسنده عن جابر بن سمرة في حديث سد الأبواب

١٢٣

فسدها غير باب علي وربما مر وهو جنب. وأيضا عن القاضي إسماعيل المالكي في كتاب احكام القرآن عن المطلب مرفوعا أن النبي (ص) لم يكن يأذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يدخل فيه وهو جنب إلّا علي بن أبي طالب لأن بيته كان في المسجد. وذكر السيوطي في اللآلئ والحمويني في فرائد السمطين عن أبي نعيم بسنده عن بريدة الأسلمي في حديث سد الأبواب إلّا باب علي تركه النبي (ص) مفتوحا فكان يدخل ويخرج منه وهو جنب. وأخرج موفق بن أحمد بإسناده عن أبي ذر في حديث الشورى قال لهم علي (ع) في مناشدته أتعلمون أن أحدكم كان يدخل المسجد جنبا غيري. عن ابن أبي شيبة في مسنده والبيهقي في سننه عن أمّ سَلَمة قالت: خرج رسول الله (ص) إلى صرحة المسجد ونادى إلّا ان هذا المسجد لا يحل لجنب ولا حائض إلّا النبي وأزواجه وعليا وفاطمة. وذكره البيهقي من وجه آخر وضعّفه وليس في محله وفيه إلّا محمد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين. ويدل على المسألتين في مسجد النبي (ص) كلما جاء في سد النبي للأبواب الشارعة إلى مسجده إلّا باب علي. وقد تعنت ابن الجوزي فذكر الرواية لذلك بأسانيد متعددة عن ستة من الصحابة ورماها بالضعف وعمدة ما عنده زعمه انها من وضع الرافضة قابلوا به حديث أبي بكر في الصحيح. وقد كفانا الله مؤنة الرد لتعنته بما ذكر في اللآلئ المصنوعة وحكاه فيها عن ابن حجر في القول المسدد في الذب عن مسند أحمد : وقد وجدت روايته عن اكثر من عشرين صحابيا والكثير من أسانيدها من الحسان وفيها ما صححه الحاكم على أصولهم فالحديث لا شك في انه مشهور ان لم يكن من المتواتر أو يقرب منه وهو مقام مشهوريته أو تواتره لا يدخل في فن بعض المحدّثين الذين همهم من الحديث سنده الآحادي الشخصي وإن كان مضطرب المتن واهيه أو كان له معارض حتى مما يروونه بل يدخل في فن طلاب الحقيقة من العلماء والفقهاء الذين ينظرون إلى نتيجة العلم وأخذ المحصل مما جاء في الحديث ومستفيضه ومشهوره ومتواتره - المسألة الثالثة - المحصل من حديث سدّ الأبواب وما في الدّر المنثور من رواية جابر وزيد بن حبيب أن تحريم المرور للجنب في مسجد النبي (ص) من باب النسخ لا التخصيص. وفي الجزء الأوّل ص ١٢٦ في قوله تعالى( طَهِّرا بَيْتِيَ ) ذكرنا روايات الحلبيين عن الصادق (ع) ومقتضاهما أن نهي الحائض والجنب عن مطلق الدخول في المسجد الحرام ثابت من عهد إبراهيم وليس بناسخ

١٢٤

حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أو عَلَىٰ سَفَرٍ أو جَاءَ أحد مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ

____________________________________

( حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) الغسل الرافع لحدث الجنابة المانع من الصلاة ومن الكون مطلقا في المسجدين غير المرور والاجتياز في سائر المساجد. والآية واضحة الدلالة على كفاية غسل الجنابة في الدخول في الصلاة ودخول المساجد إذ جعل الاغتسال وحده غاية للنهي - ثم شرع الله التيمم في الحدث الأكبر والأصغر لإباحة الصلاة بدلا عن الطهارة لها بالماء فقال جل اسمه( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ) وجوابه( فَتَيَمَّمُوا ) وذكر المرض يشعر بأن المراد منه ما يضره التطهر بالماء وفي بداية ابن رشد نسب جواز تيمم المريض وإن وجد الماء إلى الجمهور ولم يذكر الخلاف إلّا عن عطا. وفي معتبر المحقق ويجوز التيمم لو منعه من استعمال الماء مرض وهو قول أهل العلم إلّا طاووس ومالكا. وفي تذكرة العلامة في المريض الذي يخاف التلف أو سقوط عضو أو بطلان منفعة عضو انه يجب عليه التيمم بإجماع العلماء. ومراده علماء المسلمين من الفريقين إنتهى وفي الفقيه قيل لرسول الله (ص) ان فلانا اصابته جنابة وهو مجدور فغسلوه فمات فقال (ص) قتلوه إلّا سألوا إلّا ييمموه ان شفاء العي السؤال. ورواه في الكافي مسندا عن الصادق (ع). وروي أيضا عن الصادق (ع) عن رسول الله (ص) عن مجروح اجنب فأمر بالغسل فاغتسل فمات فقال رسول الله (ص) قتلوه إنّما كان دواء العي السؤال. واخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعا إذا كان بالرجل جراحة في سبيل الله أو القروح أو الجدري فيجنب فيخاف ان اغتسل أن يموت فليتيمم. وان ظهور الآية بكون المبيح للتيمم في المرض خوف الضرر ليمنع ان يقيد في هذا الحال بقوله تعالى( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) بل يدل على أن مقام خوف الضرر سبب مستقل للانتقال إلى التيمم. نعم لا ينتقل مع عدم خوف الضرر إلّا إذا لم يجد الماء( أَوْ عَلى سَفَرٍ ) أي على حال سفر كما تقول أتيته على شوق إليه أو على رغبة أو كره. والمراد من السفر معناه اللغوي وان كان دون المسافة الشرعية لقصر الصلاة بل وان كان سفر معصية( أَوْ جاءَ أحد مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) الغائط الموضع المنخفض والمطمئن من الأرض وأهل البادية والقرى الصغيرة يقصدونه عند قضاء الحاجة في التخلي للتستر. وهو كناية متعارفة في قضاء الحاجة بما يخرج من السبيلين من العذرة والبول. ومن بابه قول أهل البادية في هذه الازمنة «خرجت إلى الوهدة أتيت من الوهدة» ومن بابه ما يقال في الاستعمال الفارسي «كنار آب» والمراد جاء من الغائط بعد قضاء حاجته من الخروج اليه. ولأجل المبالغة في حشمة

١٢٥

أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا

____________________________________

الخطاب ونزاهته كما هو المعهود من كرامة القرآن في أسلوبه لم يقل على نهج سائر الجمل «أو جئتم من الغائط» بل قال «احد منكم» على صورة التنكير والإبهام حفظا للحشمة( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) والمراد منه الجماع كقوله تعالى( بَاشِرُوهُنَ ) .( وَلا تَقْرَبُوهُنَ ) .( تَمَسُّوهُنَ ) .( يَتَمَاسَّا ) . وقول مريم( يَمْسَسْنِي ) مع ان الملامسة اقرب في الكناية إلى الجماع من المس لأنها مفاعلة من اللمس الذي هو مس بقصد الإحساس فالملامسة تمثل الحالة الجماعية بين الرجل والمرأة في قصدهما التلذذ بالإحساس في مباشرتهما. وفي الدّر المنثور ذكر من أخرج عن علي (ع) اللمس هو الجماع. وعن ابن عباس في قوله تعالى( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) قال هو الجماع. وفي التهذيبين في الموثق عن الباقر (ع) قوله وما يعني بهذا( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) إلّا المواقعة في الفرج. وفي تفسير البرهان عن الشيخ الطوسي ولم أجده عاجلا في الصحيح عن الصادق (ع) قال لمس النساء الإيقاع بهن. وروى نحوه العياشي عن منصور والحلبي وقيس بن رمانة عن الصادق (ع). وقد صح واستفاض عن الباقر والصادق ان لمس المرأة بغير الجماع لا ينقض الوضوء وعلى ما ذكرنا اجماع الإمامية واليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه. وذكرت ملامسة النساء وجماعهن بعد ذكر الجنب من باب النص على الخاص بعد العموم لئلا يتوهم أن الجنابة الاختيارية بمقاربة النساء لا تدخل في رخصة التيمم فيلزم الإنسان ان يمتنع في مظان عدم وجدان الماء اذن فليس هذا من باب التكرار كما توهمه بعض( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) تصلون إلى التطهر به بالغسل أو الوضوء فليس من ذلك وجوده في البئر مثلا مع عدم الوصلة اليه. هذا ما يقتضيه سوق الكلام لا حمل عدم الوجدان على ما يشمل عدم التمكن من استعماله لمرض ونحوه فإنه تقييد لا دليل عليه أو تجوز بعيد جدا( فَتَيَمَّمُوا ) أي اقصدوا والتيمم في اللغة القصد. قال امرؤ القيس : -

تيممت العين التي دون ضارج(١)

يفيء عليها الظل عرمضها(٢) طامي(٣)

وقال الأعشى : -

تيممت قيسا وكم دونه

من الأرض من مهمه(٤) ذي شزن(٥)

ومن هذه الآية وأختها في سورة المائدة واستعمال المتشرعة لفظ التيمم في مقام الطهارة

__________________

(١) اسم موضع

(٢) العرمض هنا الطحلب

(٣) طمى طال وارتفع

(٤) الأرض المقفرة

(٥) الشزن غلظ الأرض

١٢٦

صعَيِدا

____________________________________

الترابية صار التيمم عند المتشرعة اسما لها( صَعِيداً ) في التبيان الصعيد وجه الأرض غير نبات ولا شجر قال الزجّاج: لا أعلم خلافا بين أهل اللغة في أنّ الصعيد وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن إنتهى وتبعه في النقل عن الزجّاج في مجمع البيان وقال: وبهذا يوافق مذهب أصحابنا في أنّ التيمم يجوز بالحجر سواء كان عليه تراب أو لم يكن وقال في التذكرة في ذلك عند علمائنا. أقول: وبحسب التتبع في التذكرة في مثل هذه العبارة يشك في نقله بها لإجماعنا. ونقل المنع عن التيمم بالحجر عن المرتضى في شرح الناصريات ولكن كلامه على الجواز أدل. وعن الغنية والظاهر ان كلامه وإجماعه ناظران إلى مثل الكحل والزرنيخ. وفي الروضة ان المنع من التيمم بالحجر مطلقا حتى مع فقد التراب لا قائل به إنتهى نعم ذهب جماعة منا إلى جواز التيمم بالحجر عند فقد التراب ولعل هذا القيد منهم للاحتياط وإلا فلا دليل عليه إن لم يكن الحجر مصداقا للصعيد والاستناد إلى الإجماع له موهون بأن اكثر القائلين بجواز التيمم به أو جلهم يقولون بذلك لكونه مصداقا للصعيد فلا يلتئم من المجموع اجماع كاشف. وأما قوله (ص) في بعض الروايات جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا فلم يصح ولو صح لما قيد اطلاق الصعيد في الآية والأرض في الروايات لأن شرط التقييد التنافي وجعل التراب طهورا لا ينافي جعل الصعيد ومطلق الأرض طهورا. وفي معتبر المحقق الصعيد هو وجه الأرض بالنقل عن فضلاء اللغة ذكر ذلك الخليل وثعلب عن ابن الأعرابي ويدل عليه قوله تعالى فتصبح صعيدا زلقا أي أرضا ملساء مزلقة إنتهى وأما الزرنيخ والكحل فهما كالملح وسائر المعادن ليسا من مصاديق الصعيد والأرض وان تولدا منها و «أو» في الآية لبيان الأقسام التي شرع التيمم في كل واحد منها فإن الواو توهم اشتراط الاجتماع لهذه الأمور مع عدم وجدان الماء في صحة التيمم. وقد قدمنا أن قوله تعالى( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ) واضح الدلالة في نفسه فضلا عن دلالة الحديث على أن المنشأ فيه للانتقال إلى التيمم هو خوف الضرر من الماء فيكون ذلك قرينة على أن عنوان المرضى في الآية غير مقيد في أسلوب لفظها بعدم وجدان الماء وإن كان من لا يخشى الضرر من استعماله يشترط في جواز تيممه عدم وجدان الماء بفحوى الآية ودلالتها على ان التيمم بدل عذري يدور مدار ما جعل عذرا. وأما باقي الخصال فهي بما جمعها مقيدة بعدم وجدان الماء بمقتضى

١٢٧

دلالة الآية بحسب الوضع اللغوي لأن الصحيح في المسألة الأصولية والمتبادر هو رجوع هذا القيد وأمثاله إلى الجميع عملا باطلاقه الوضعي ما لم تقم قرينة في بعضها على عدم تعلقه به في أسلوب اللفظ كما في المرضى(١) ويعضد الإطلاق المذكور في الآية ويشهد له اجماع المسلمين وحديثهم

__________________

(١) وزعم صاحب المنار في تفسيره واستاده على ما حكاه عنه أن التقييد في الآية بعدم وجدان الماء يختص بمن جاء من الغائط وملامس النساء دون المريض ودون المسافر. وغاية ما ذكره عن اسناده مستندا لزعمه هو ان هذا هو ما يفهمه القارئ من الآية نفسها وأطال الكلام في التعريض بالمفسرين ومن يفسر الآية بغير ما زعمه. وغاية ما عند التلميذ هو انه ان قيل في المسألة أن القيد المتعقب لأمور تصلح لأن تقيد به إنّما يرجع للأخيرة لم يرجع التقييد بعدم الوجدان إلى المسافر. وان قيل برجوعه إلى الجميع فهو مشروط بعدم المانع والمانع من رجوعه إلى المسافر موجود وهو انه لا يظهر لاشتراط فقد الماء لتيمم المسافر دون المقيم. ثم عقب هذا في الصفحة الثانية باستحسان التوسعة على المسافر بالتيمم وان وجد الماء قياسا على قصر الصلاة والإفطار في السفر. وقال بذلك في آية الوضوء والتيمم في سورة المائدة وانه يجوز للمسافر ان يتيمم بدل الوضوء وان وجد الماء. فنقول ان المسافر في هذه الآية يشمل من اجنب باحتلام أو بملامسة النساء وان من لامس النساء الذي يعترف باشتراط تيممه بفقدان الماء يشمل الحاضر والمسافر فإن جعلنا كلا من المسافر وملامس النساء مخالفا للآخر في التقييد والإطلاق والحكم تعارضا في ملامس النساء في السفر فهل في الآية دليل على تقديم أحد العامين من وجه على آخر اذن فما هو. أو هي مجملة معماة المراد وان كانت في مقام البيان والتعليم. ومع ذلك يخرج من مضمونها المحتلم في الحضر. وتزيد آية المائدة بأن المسافر على زعمه يعم من جاء من الغائط ومن كان محدثا بالنوم وان الجائي من الغائط يعم المسافر والحاضر فيتعارضان بحسب الإطلاق والتقييد في المسافر الجائي من الغائط فيسأل أيضا بمثل السؤال المتقدم. وهذا يوجب الإعضال والاشكال الشديدين في الآية التي هي للبيان والتعليم. ويلزم من ذلك أيضا بقاء المحتلم في الحضر وكذا المحدث بالنوم لا حكم لهما في الآية في التيمم مع انهما قسمان لا يستهان بهما في هذا المقام لكنا نقول أن العنوان لمن كان على سفر في الآيتين لم يذكر لامتياز المسافر عن الحاضر في حكم الآيتين بل لأجل ان قوله تعالى في الآية قبل ذلك وَلا جُنُباً إلّا عابِرِي سَبِيلٍ يشير بمورده عند النزول إلى الحضر لان المساجد لم تكن حينئذ في طرق -

١٢٨

كما جمع بعضه في الوسائل في أبواب التيمم. ومنه ما في الكافي والتهذيب في الصحيح عن زرارة عن أحدهما «يعني الباقر والصادق (ع)» قال إذا لم يجد المسافر الماء فليطلب ما دام في الوقت فإذا

__________________

- المسافرين بل لأجل ان هو الغالب من احوال المكلفين فربما يتوهم من ذلك اختصاص حكم التيمم بالحاضرين فذكر من كان على سفر لأجل النص على عموم الحكم للحاضر والمسافر. وكذا الكلام في آية المائدة بالنظر إلى ان الحالة الغالبة هي الحضر. وان السفر مظنة لفقدان الماء اكثر من الحضر فيظهر فيه مقام الامتنان والفائدة بتشريع التيمم ولئلا يتوهم المنع من اختيار السفر عند العلم والظن بفقدان الماء ولو لبعض الفرائض. وعنوان ملامسة النساء هو لبيان عموم الامتنان بالتيمم حتى مع كون الجنابة اختيارية تسوق إليها الشهوة وهذا هو الذي يفهمه السلف والخلف ممن انعقد منهم الإجماع على خلاف ما يقوله مفسر المنار واستاذه وخلاف مما ذكرناه مما يلزم تفسير المنار. اذن فلا اشكال ولا إعضال في الآيتين ولا تعارض ولا إبهام في مقام البيان ولا إهمال لما أشرنا إليه من اقسام المسألة.

واما بناء صاحب المنار للمسألة على رجوع القيد إلى الجملة الأخيرة فهو مع فساد المبنى فاسد البناء لأنه ملتزم برجوع بفقدان إلى ما قبل الأخيرة وهو قوله تعالى ( أَوْ جاءَ أحد مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) وان خصه بزعمه في الحضر فما ذا الذي دل على رجوع القيد هنا إلى ما قبل الأخيرة فإن قال الإجماع من علماء الإسلام قلنا ان هؤلاء مجمعون أيضا على رجوع القيد إلى المسافر فكيف تحتج في مقام بإجماعهم وفي مقام تسميهم ادعياء العلم وتقول في شأنهم «المقلد لا يحاج لأنه لا علم له» وان قال الحديث قلنا له أنت وصفتهم بالمفتونين بالروايات فلما ذا صرت مثلهم ام تحل لنفسك ما تحرمه على غيرك. تلك اذن قسمة ضيزى. واما بناؤه على وجود المانع من رجع القيد «وهو عدم وجدان الماء» إلى من كان على سفر. فقد احتج فيه على ان المانع هنا هو انه لا يظهر وجه لاشتراط فقد الماء للمسافر دون المقيم : ويرد عليه ان عنوان المسافر في الآية إنّما جاء كما ذكرناه للنص على عموم حكم التيمم له ولبيان الامتنان ولرفع توهم الخطر بالسفر مع العلم بفقدان الماء فيه أو الظن به فمن اين يجئ ما تحكم به من المانع ولو كان العنوان في الآية يلزم منه اشتراط فقدان الماء دون العنوان المخالف له لعاد عليه الكلام فيمن جاء من الغائط فإنه لا يظهر وجه لاشتراط فقدان الماء به دون المحدث بالنوم وكذا ملامس النساء دون المحتلم. وهل يسعه إلّا ان هذه العناوين ذكرت لنكت اقتضت النص عليها لا لاشتراط فقدان الماء بها دون المحدث بالنوم والجنب بالاحتلام في الحضر. اذن فلما ذا يغفل عن ذلك فيمن كان على سفر. واما استحسانه للتوسعة على المسافر على قصر الصلاة والإفطار فقد شذ فيهما فإن القائل بالقياس والاستحسان لا يقول بهما مع مصادمة -

١٢٩

طَيِّباً

____________________________________

خاف ان يفوته الوقت فليتيمم ويصلي. وفي التهذيب في المعتبر المعمول عليه عن السكوني عن الصادق عن أبيه عن علي امير المؤمنين (ع) قال يطلب الماء في السفر ان كانت حزونة فغلوة وان كانت سهولة فغلوتين الحديث. وذكره في كنز العمال ومختصره مما أخرجه أبو خلف العسكري عن علي (ع) وفيهما مما أخرجه ابن سعد وعبد ابن حميد وابن جرير والقاضي إسماعيل في الأحكام والطحاوي والدارقطني والبيهقي عن الاسلع ابن شريك ما ملخصه ان رسول الله (ص) قال له قم يا اسلع فارحلن قال اصابتني جنابة فنزلت آية التيمم وعلمه إياه رسول الله (ص) ثم ساروا حتى مروا بماء فقال (ص) له يا اسلع امسّ هذا جلدك. وأخرج أحمد والترمذي وعن ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر عن رسول الله (ص) الصعيد الطيب وضوء المسلم وان لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته وفي رواية الترمذي طهور المسلم. واخرج أحمد عن أبي ذر فيما وقع في نفسه من تيممه أياما حينما اجنب وقد كان غرب عن الماء ان رسول الله (ص) قال له ان الصعيد الطيب طهور ما لم تجد الماء إلى عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمس بشرتك. واخرج نحوه الحاكم في مستدركه وذكر في كنز العمال ومختصره إخراجه عن عبد الرزاق وابن أبي منصور.( طَيِّباً ) جاء في القرآن الكريم بلد طيب. والبلد الطيب. وكلمة طيبة. والكلم الطيب. وريح طيبة. ومساكن طيبة. وحياة طيبة. ووصف المال الحلال بالطيب والحرام بالخبيث كما في قوله تعالى في الآية الثانية من السورة( وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) . وفي النهاية في الحديث في شأن عمار قوله (ص) مرحبا بالطيب. ونهى ان يستطيب الرجل بيمينه أي يستنجي أقول والمستفاد من تتبع موارد الاستعمال ان الطيب هو الخالص المنزه عما يستخبث أو يكره بحسب حاله أو ما يراد منه ويرغب به فيه. ولم أجد عاجلا مما يؤثر عن الرسول الأكرم والصحابة الكرام والأئمة الهداة شيئا يتعلق بتفسير الطيب في الآية. والظاهر ان استعمال الطيب فيما ذكرناه من الموارد إنّما هو من استعمال المشترك المعنوي في معناه الواحد الذي له اصناف من المصاديق فتستفاد إرادة المصداق في صنفه من مناسبات مقام الاستعمال على ما استظهرناه في معنى الطيب.

__________________

- الإجماع والدليل لهما. ولم اقصد بكلامي هذا محاجة صاحب المنار

بل ذكرته خدمة للعلم والحقيقة. اللهم وفقنا لتدبر القرآن واتباع سبيل المؤمنين

١٣٠

فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ

____________________________________

وانسب ما يكون في هذا المقام هو استفادة الطهارة والحل. اما الطهارة فيشهد لها ما صح واستفاض بين المسلمين من قوله (ص) خلقت لي الأرض مسجدا وطهورا. لا لما يقال من أنَّ طهورا مبالغة في الطاهر ومعنى المبالغة ان يكون مطهرا. فإنه ممنوع لأن المبالغة في الصفة القاصرة كالطاهر لا تقلبها إلى المتعدية كالمطهر. نعم لفظ الحديث يشير إلى معنى المطهر باعتبار ان الطهور اسم لما يتطهر به كالوقود والسحور والسعوط ونحوها بفتح أولها فتستفاد الطهارة من ذلك. لأن مما لا يذعن به الذهن ولا يستقيم في الفهم ان يكون ما يتطهر به غير طاهر وان كان تطهيره معنويا. ولا بد من جريان الحديث على ما يقتضيه الذهن والفهم من طهارة المطهر كما هو اللازم في حكمة الخطاب. فتكون الطهارة من وجوه الطيب في الآية. والظاهر اجماع الإمامية على اعتبار الطهارة في الصعيد. والظاهر اجماع المسلمين على اشتراط إباحته وعدم جواز التيمم بالمغصوب. ويعضده الإجماع على ان التيمم بجميع أفعاله عبادة ومنها الضرب على الصعيد أو وضع اليد عليه وان كان على الحجر للتيمم. وهذا الضرب أو وضع اليد على غير المباح تصرف غصب والغصب منهي عنه ولا يكون عبادة. وهذا أيضا يبين وجها من وجوه الطيب في الآية وهو الإباحة( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ) ولا ينبغي الشك في ان يكون اللازم في دلالة الآية ان يكون هناك شيء يمس به الصعيد فيمسح بالوجه واليدين. وبالنظر إلى المتعارف في الأعمال ودلالة المقام ان ذلك هما اليدان. وفي الجوامع الستة وعن ابن أبي شيبة عن عمار في حديث تيممه ان رسول الله (ص) قال له إنّما يكفيك ان تقول هكذا ثم ضرب بيديه الأرض فمسح بهما وجهه وكفيه. واستفاضت رواية ذلك من طرق الإمامية عن الباقر والصادق (ع) لكن في صحيحة الفقيه عن زرارة عن الباقر (ع) عن تيمم رسول الله فوضعهما على الصعيد ثم مسح بهما جبينيه. وفي آخر السرائر من كتاب ابن بكير عن زرارة عن الباقر (ع) ثم مسح بجبينيه ثم مسح كفيه كل واحدة على ظهر الأخرى. واخرج الحاكم وعن الطبراني عن ابن عمر عن رسول الله (ص) قال التيمم ضربتان الحديث. واخرج الحاكم عنه أيضا تيممنا مع رسول الله (ص) فضربنا ضربة بأيدينا على الصعيد - ثم ضربنا ضربة أخرى الحديث. واستفاض عن الأئمة (ع) ذكر الضرب على الأرض أو الوضع عليها في

١٣١

افعال التيمم بل في الروايات جعل ذلك هو العنوان للتيمم كما احصى بعضه في الوسائل في الحادي عشر والثاني عشر من أبواب التيمم. ولأجل التفنن ببراعة التعبير وحسن الاكتفاء اكتفى القرآن الكريم بدلالة الأسلوب والمقام بذكر تيمم الصعيد الطيب وذكر الممسوح به ومجرى العادة في مزاولة الأعمال باليد واستغنى ذكر الضرب على الصعيد أو مسه بباطن الكفين ومسحهما ببعض الوجه وبالبعض الآخر من اليدين واقتصر على قوله تعالى( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ ) . ومن المعلوم ان المعاني تختلف باختلاف التعبير وجهات التعلق فقول القائل امسح وجهك بيدك يقضي بمسح جميع الوجه تحصيلا لمسمى الاسم(١) بما يحصل به المسح من بعض اليد. وذلك لمكان الباء التي هي للآلة كما يقال امسح وجهك بالمنديل. وفي قول القائل امسح يدك بوجهك يقضي باستيعاب ما ينبغي مسحه من اليد وهو ما يلاقي الصعيد بالضرب وبأن مسحها ببعض الوجه لمكان الباء التي هي للآلة. فإن قلت: إنَّ المقصود هو مسح بعض الوجه لا كون الوجه آلة لمسح اليدين. قلنا. لو سلمنا ذلك لم يناف دلالة اللفظ وقوانين اللغة وصوغ التركيب ان يكنى بذلك عن التبعيض في الوجه. ويبين به ان الممسوح من اليدين هو ما مس الصعيد والممسوح به منهما هو ما لم يمسسه فكشف الله جل اسمه عن المراد المحتاج إلى العبارة الطويلة بالإتيان بباء الآلة. وهذا هو المحصل من صحيحة زرارة لما سأل الباقر (ع) عن الحجّة على كون المسح في الوضوء لبعض الرأس فقال (ع) ما حاصله ان الله تعالى قال( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) فعرفنا ان الوجه كله ينبغي أن يغسل ثم قال( وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرافِقِ ) فوصلهما «اي بالعطف والنسق والتسمية» بالوجه فعرفنا انه ينبغي لهما أن يغسلا ثم فصل بين الكلامين «اي بأسلوب التعبير» فقال( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) فعرفنا أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء. أي لكون الباء بحسب السوق هي التي تدخل على الآلة كما حفظ (ع) صورة ذلك بقوله (ع) ان المسح ببعض الرأس. ثم طرد الكلام (ع) إلى التيمم وأشار إلى مكان الباء ووصل اليدين في الأسلوب والنسق بالعطف بمدخول الباء وهي الوجوه. هذا وقال الجمهور من أهل السنة بمسح الرأس كله. وهذا مناف لما ذكرناه من وجه الدلالة الذي هو ابلغ من التصريح. وأما ما ورد في حديثهم مما يوهم الإطلاق في الوجه فإنه يجب

__________________

(١) ما لم تقم قرينة على الاكتفاء بمسح بعضه كما إذا كان ما تطلب إزالته بالمسح المطلوب كالعرق أو الوسخ متعلقا ببعض الوجه

١٣٢

إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٤)أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا ِالْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ

____________________________________

تقييده بدلالة الآية وحكى في التذكرة عن أبي حنيفة انه يجوز ان يترك من ظاهر الوجه دون الربع وفي رواية عنه لو مسح اكثر الوجه اجزأه. فكأنه أخذ في ذلك بالمتيقن من مفاد الآية وحكى ابن رشد في بدايته ان مشهور المذهب وبه قال فقهاء الأمصار منهم ان مسح اليدين هو إلى المرافق كالوضوء. وهذا مخالف لدلالة الآية على البعض وعلى ان الممسوح ما مس الصعيد والممسوح به ما لم يمسسه. مضافا إلى انه لو اريدت الأيدي بأجمعها إلى المرافق لعبر بعبارة الوضوء ولكن لكل عبارة في القرآن مدلول ولكل مراد عبارة. ومخالف أيضا للمتفق على صحته عندهم وعند الإمامية وهو ما ذكرنا من حديث عمار هو أن رسول الله (ص) في تعليمه التيمم مسح كفيه وأما حديث المرافق فقد ضعفه أحمد وماذا له من الأثر في نفسه فضلا عن مصادمته بالآية والحديث الصحيح. وحكى ابن رشد انهم عضدوا حديثهم الضعيف بالقياس على الوضوء أقول ويا له من قياس مخالف للآية والحديث المتفّق على صحته فضلا عما صح من طرق الامامية في مسح الجبهة وظاهر الكفين وللكلام في التيمم تتمة تأتي ان شاء الله في آية المائدة( إِنَّ اللهَ كانَ ) منذ الأزل ولا يزال برحمته وغناه( عَفُوًّا غَفُوراً ) فهو الرحيم الموسع الميسر على عباده ٤٤( أَلَمْ تَرَ ) يا رسول الله. قد يقال ذلك كما في الآية في مقام الإنكار على ما يذكر من الفعل والتسفيه لفاعله( إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) يريد المعاصرين لرسول الله (ص). وأشار جلّ اسمه إلى ان هؤلاء لم يصل إليهم من الكتاب الإلهي المنزل على أسلافهم إلّا بعضا ونصيبا من انقاضه التي بقيت بعد تلف الباقي وتحريفه فإنه قد بقيت منه بعض الكلمات في التوحيد والنبوة ونبوة موسى وعيسى وان عيسى رسول الله وعبده وبعض احكام القصاص في التوراة. والبشرى برسول الله وقرآنه وانه كلام الله يجعله في فم رسوله. واما الباقي وهو الجل فقد عبث به التلف والتحريف ما شاءت الأهواء والشرك كما أشرنا إلى بعض ذلك في كتاب «الهدى» و «الرحلة المدرسية» وفي المقدمة من هذا التفسير( يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ ) وفي مقدمتها الشرك ويطلبونها على عمد وغي ويبذلون بإزاء خسيسها المهلك أعلى الأمور وأغلاها من التوحيد وصلاحه والهدى واسباب السعادة والكمال وحسن الاجتماع بالعدل والإصلاح

١٣٣

(٤٥)وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٦)مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا

____________________________________

الحقيقي( وَ ) فوق ذلك( يُرِيدُونَ ) من غيهم وانهماكهم بالضلال( أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ) المستقيم الذي هداكم الله بلطفه إليه وأوضح منهجه وأنار اعلامه فحظيتم بالتوفيق لحقيقة الإيمان ودين الهدى وشريعة الحق فلا يغووكم بضلالهم وان أظهروا لكم بنفاقهم مخادعات النصيحة والمودة والولاء والنصرة فإنهم عدو لكم ٤٥( وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ ) إله الناس وخالقهم القاهر القادر( وَلِيًّا ) للمؤمنين( وَكَفى بِاللهِ ) كرر ذلك للتأكيد وملأ القلب بكفايته وكرر اسم الجلالة اشارة إلى عظمة الإلهية وقدرة الله في كفايته ونصره جل اسمه( نَصِيراً ٤٦ مِنَ الَّذِينَ ) من لتبين «الذين أوتوا» ولا يضر الفصل بالآية المتوسطة والاعتراض بجملها كما يعترض كثيرا بالدعاء ونحوه مع اتساق الكلام وتناسب أطرافه. وقيل ان «من الذين» خبر مقدم والمبتدأ محذوف وجملة «يحرفون» صفة والتقدير قوم يحرفون. وفي مجمع البيان كما قال ذو الرمة : «فظلوا ومنهم دمعه سابق له» أي من دمعه سابق له. وانشد سيبويه

فما الدهر إلّا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

أي فتارة منهما. لكن في هذا الحذف تكلفا لا يناسب كرامة القرآن( هادُوا ) وهم اليهود لأنهم انتسبوا إلى مملكة يهودا بعد ان اضمحلت سائر الأسباط من بني إسرائيل وباد ملكهم الوثني وجامعتهم بسبي الآشوريين وقتلهم لهم( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ ) من تمردهم في الضلال( سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ) بفتح الميم الثانية وهو دعاء على من يخاطبونه كقوله اسمع لا سمعت( وَراعِنا ) قد مر تفسير هذه الكلمة فيما يريدونه منها في الجزء الأول ص ١١٣ و ١١٤ وأظنهم يقولون «وعصينا. وغير مسمع. وراعنا» بنحو من لحن التحريف ومناحي الالغاز واللهجة ؛( لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا ) اختيارا للهدى على الضلال( سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ ) منا ما نقول في مقام الإيمان والاهتداء( وَانْظُرْنا ) باللطف والعناية بهمزة الوصل وضم الظاء المعجمة وهو المعنى الذي كانوا يغالطون فيه في قولهم راعنا

١٣٤

لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلاً (٤٧)يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ

____________________________________

من المراعاة والملاحظة وهي من النظر الذي فيه عناية ولطف. وكذا قوله تعالى في سورة البقرة( لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا ) أي بدلوا كلمة «راعنا» بما هو بمعناها وهو قولكم انظرنا لئلا يتخذها اليهود وسيلة لسب رسول الله (ص) كما تقدم. وقال بعض «أنظرنا» بمعنى انتظرنا وأمهلنا ولكنه شذوذ عن مجرى الكلام ووجهه ان ساعدت اللغة( لَكانَ ) ذلك( خَيْراً لَهُمْ ) إذ يلقون بسعادتهم قياد السمع والطاعة إلى رسول الله هادي البشر ومبلغهم عن الله ما فيه الصلاح والسعادة والوصول إلى الحقيقة وحقيقة الإيمان ومعارف الحق وشريعته( وَأَقْوَمَ ) واعدل( وَلكِنْ ) لا يزالون متمردين على الحق معرضين عنه بعصبيتهم وأهوائهم وعنادهم قد حرموا أنفسهم بتمردهم لطف التوفيق ورحمة الهداية والإيصال فطردهم الله لذلك عن رحمته التي عاندوها واعرضوا عنها و( لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ ) أي بسبب كفرهم عن عناد ومحادة لله ورسوله بعد ما تجلت لهم الآيات وقامت عليهم الحجّة( فَلا يُؤْمِنُونَ إلّا قَلِيلاً ) منهم من لم يتوغل في التمرد على الحق ولم يتهود في عناده للحجة ولا في المحادة لله ورسوله ٤٦( يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) نسب إيتاء جنس الكتاب الإلهي إليهم باعتبار إيتائه لأسلافهم حينما كان الكتاب في أول أمره مصونا عن النقصان المخل والتبديل والتحريف والضياع والزيادة. وأما المعاصرون لرسول الله فالذي أوتوه إنّما هو نصيب من الكتاب كما تقدم في الآية السابقة( آمِنُوا بِما نَزَّلْنا ) على رسول الله محمد (ص) من القرآن الكريم الذي سبقت لكم البشرى به في التوراة وقد حفظ الله بعنايته هذه البشرى إلى يومكم هذا( مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ ) في توراتكم من البشرى به وبرسوله بكونه المصداق الذي تنطبق عليه وعلى رسول الله تلك البشرى الكريمة السامية أو مصدقا لما معكم من اسم التوحيد ورسالة الأنبياء وبعض الحقائق التي لم يشوهها التحريف فاغتنموا سعادتكم بهذا الإيمان( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ ) بكسر الميم وماضيه طمس بفتحها يستعمل قاصرا كما في كثير من الشعر والكلام ومتعديا كما في الآية وقوله تعالى في سورة القمر. فطمسنا أعينهم. ويعدى بعلى كما في قوله تعالى في سورة يس( لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ ) . وفي سورة يونس أطمس على أموالهم. في التبيان والطمس هو الدثر وهو عفو الأثر والطامس والداثر والدارس

١٣٥

(٤٨)إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ

____________________________________

بمعنى واحد وتبعه على ذلك في مجمع البيان. قلت والظاهر ان الألفاظ الثلاثة متقاربة المعنى لا مترادفة وفسره في القاموس والمصباح بالمحو والدروس وفي التبيان أي نمحو آثارها حتى تصير كالقفا ونجعل عيونها في قفاها فتمشي القهقرى. ونسبه في مجمع البيان إلى ابن عباس وعطية العوفي وفي الدّر المنثور أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس وفي التبيان أيضا قيل نطمسها عن الهدى فنردها على ادبارها في ضلالها ذمّا لها بأنها لا تفلح ابدا. وفي مجمع البيان رواه أبو الجارود عن أبي جعفر يعني الباقر (ع) وقيل المراد جلاء الكثير منهم من الحجاز وردهم إلى اريحات وأذرعات وبلاد أسلافهم من الشام كما وقع ذلك ببني النضير ومن لم يصالح في حرب خيبر إذ محيت آثار وجوههم من الرؤية والوجود في الحجاز بجلائهم وردهم على ادبارهم إلى بلاد الشام وفي التبيان وهو أضعف الوجوه وفي مجمع البيان لأنه ترك للظاهر (أقول) وترك الظاهر فيه اقل من القول الثاني إذ ليس فيه إلّا التجوز في الطمس بالاستعارة التي يقرب وجه الشبه فيها بخلاف الثاني وترجيح الثاني بالرواية عن الباقر (ع) جيد لو سلمت الرواية عن ضعف الإرسال وغيره وعن المعارضة بالرواية الأخرى الراجحة عليها عن الباقر (ع) أيضا لدلالتها على ان ألفاظ الآية مستعملة في معانيها الحقيقية ففي تفسير البرهان عن النعماني وعن اختصاص المفيد عن عمر ابن أبي المقدام عن جابر الجعفي عن الباقر (ع) في حديث الخسف في البيداء بجيش السفياني ولا يفلت منهم إلّا ثلاثة نفر تحول وجوههم إلى أقفيتهم وفيهم نزلت هذه الآية( يا أَيُّهَا الَّذِينَ ) إلى قوله تعالى( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها ) الرواية. ولعل قوله (ع) وفيهم نزلت إنّما هو باعتبار انطباق مضمونها عليهم وقال في الكشّاف وقيل أن الطمس منتظر ولا بد من طمس ومسخ لليهود قبل يوم القيامة وقال الرازي في الرابع من أجوبته وعندنا انه لا بد من طمس في اليهود أو مسخ قبل يوم القيامة(١) ٤٧( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) شيئا غيره في الإلهية وما لله تعالى شأنه من مقام الإلهية وشؤونها. فمن الشرك الشائع في العصور الماضية والحاضرة ما يزعمونه في بعض البشر من انه منبثق ومتولد من الله وانه ابن الله المتولد من عذراء من النساء ويجعلون الله الواحد ذا أقانيم ثلاثة الأب والابن

__________________

(١) لم يتمقدس‌سره تفسير بقية هذه الآية ومكانها بياض في المسودة

١٣٦

وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ

____________________________________

والروح القدس. ويجعلون لكل من الثلاثة آثارا خاصة فالابن كالأب إله له خواص الإلهية لذاته ومن القائلين بهذا فرق البراهمة والبوذيين والنصارى ويحكى عن البابليين والآشوريين وغيرهم ومن الشرك ما يحكى عن الوثنيين انهم جعلوا لكل نوع من المخلوقات إلها وربا يدبر امره فجعلوا للماء إلها وللنار إلها وللهواء إلها وغير ذلك.( أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) . ومن ذلك التأليه لبعض القوى والسيارات بحيث جعلوا المجسمات الاصنامية تمثالا ورمزا لعبادتها وهذا هو الأصل لعبادة المجسمات الاصنامية وان خفي على بعض المتوحشين من الوثنيين. وكم جنى اتباع الفلسفة اليونانية بشطحات المتفلسفين والمتصوفين بمزاعم العرفان وجر على الحقائق ويلات عبثت بتوحيد بعض الناس لله في الإلهية وشؤونها وردتهم على اعقابهم من حيث لا يشعرون. أو ليس من نحو ذلك خرافات المظاهر وان الله سبحانه وتعالى لا يدرك من نحو ذاته بكل اعتبار إلى غير ذلك من الكلمات وهلم الخطب في مسألة العقول العشرة والعقل الفعال فإنها لم تبق لله الواجب بالذات شيئا مما تمجد به في القرآن الكريم من خلقه لكل مخلوق وعلمه وارادته ومشيئته وحكمته واعماله بل جعلته لغيره من مخلوقاته. وراجع ما ذكره نصير الدين في التجريد من الخلل في مباني زعمهم وما ذكرهقدس‌سره في فصول العقائد فى بطلان قولهم واستلزامه للمحال وقد كنا ذكرنا ما ذكرهقدس‌سره في آخر الجزء الثاني من الرحلة المدرسية في الطبعة الأولى ولما اطعنا بعد ذلك على ما افاده في فصول العقائد ذكرناه وشرحناه وأوضحناه في الطبعة الثانية

وجرى التعبير بقوله تعالى( أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) لدلالة المضارع على الدوام أي لا يغفر للإنسان اشراكه الذي يدوم عليه إلى الموت فإن مما اجمع عليه المسلمون بل عليه ضرورة دينهم ان من اسلم بعد شركه غفر له شركه السابق ولك الشاهد الكريم الحميد من شأن الكبار من الصحابة الكرام واتل قوله تعالى في آخر سورة الفتح( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ) إلى قوله تعالى( مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ) وقال جل اسمه في سورة طه واني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى. وغير ذلك من الآيات( وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) ممن يراه بحكمته ورحمته أهلا للغفران جزاء لما سعد به من اختياره للأعمال الصالحات العظيمة التي

١٣٧

وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٩)أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ

____________________________________

تؤهله بكثرتها وكبير شأنها وعظيم اثرها في الصلاح أن يغفر الله برحمته وحكمته له بعض سيئاته وان لم يبادرها بالتوبة( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ ) في إلهيته وشؤونها( فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً ) الافتراء اختلاق الكذب أي الكذب المختلق أي كذب اختلاقا ولأن الافتراء إثم وذنب جرى ذكر المصدر الذي هو الافتراء بصفته اللازمة وهو الإثم وذلك لزيادة البيان لقبحه ووباله و «عظيما» صفة للمصدر وهو الافتراء والإثم. وذلك لأن كل من أشرنا إليه من اقسام المشركين يعترفون بالإلهية وانه هو الإله الواجب الوجود وان كل ما يجعلونه من الشركاء هم مخلوقون لله ويشاهدون فيهم لوازم الحدوث ونقص الإمكان واحتياجه ومع ذلك يختلقون له صفة الإلهية بسفسطات مستحيلة ومقدمات فاسدة وتأويلات لا تروج إلّا في سوق الأهواء والأغراض الفاسدة وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في الجزء الأول ص ٣٥٦ وفي الصدر نفثات ٤٩( أَلَمْ تَرَ ) يا رسول الله أي ألم يصل إلى علمك ولذا عديت بكلمة «الى» كما تقدم وهذه كلمة تقال كثيرا في مقام الإنكار على الغير والتنبيه على رداءة فعله( إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ) أي يزعمون أنَّ أنفسهم زكية بارة أي يزكونها بالزعم والدعوى. في مختصر التبيان هم اليهود والنصارى في قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه ونسب غير ذلك إلى القيل. وفي مجمع البيان قيل نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا نحن أبناء الله واحباؤه وقالوا لن يدخل الجنة إلّا من كان هودا أو نصارى وهو المروي عن أبي جعفر يعني الباقر (ع) أقول ولم أجد للرواية أثرا وعليها فالتفسير بذلك لعله من باب الانطباق وبعض المصاديق. وفي الدّر المنثور ذكر من أخرج عن ابن عباس ما لا ينطبق على تزكية النفس( بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ ) وفي هذا الإضراب اشارة واضحة الدلالة والبيان باكتفاء بارع وأسلوب جميل وحاصل ذلك انهم كيف يزكون أنفسهم ويدعون ذلك لهم ولقومهم مع ان ما يعلم ويشاهد ويعرفونه فيما بينهم من ظواهر الأحوال والأخلاق والأهواء والأعمال تعارضهم في ذلك وكيف لهم بإثبات دعواهم في أمورهم الخفية واعتقاداتهم السرية والزكي النفس إنّما هو من زكت اعماله وأخلاقه واعتقاداته في السر والعلانية فأين أنتم من التزكية وادعائها لو أردتم

١٣٨

وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٥٠)انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥١)أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ

____________________________________

الصدق بل الله العالم بالحقائق والخفيات هو الذي يزكي من يشاء ان يخبر بتزكيته من عباده الصالحين كما اخبر في قرآنه المجيد بتزكية أنبيائه ورسله وبعض أوليائه ووصفهم بالصلاح والإحسان( وَلا يُظْلَمُونَ ) أي هؤلاء الذين يزكون أنفسهم( فَتِيلاً ) أي مقدار فتيل وهو مفعول ثاني ليظلمون كما تقول ظلمني زيد مقدار فلس والفتيل في تفسير القمّي القشر الذي على النواة وفي التبيان الذي في شق النواة وكذا في المصباح وكذا في النهاية وفيها وقيل ما يفتل بين إصبعيك من الوسخ وفسره بهما وفي القاموس وذكر في الدّر المنثور من أخرجه عن ابن عباس انه الذي في شق النواة وانه استشهد له بقول النابغة الذبياني

يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو

ثم لا يرزأ الأعادي فتيلا

وقول الآخر

أعاذل بعض لومك لا تلحّي

فإن اللوم لا يغني فتيلا

وفي الدّر المنثور عن ابن عباس أيضا من طرق ان الفتيل ما خرج من بين الإصبعين أي من الوسخ عند ما تدلك ما بينهما. والغرض من ذكر الفتيل هو قلته وحقارته والمراد ان الله لا يظلم هؤلاء بهذا المقدار لو أحسنوا ولكن اين هذا من التزكية ٥٠( انْظُرْ ) يا رسول الله( كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ) في شركهم وما ينسبونه إلى قدس الله جل وعلا وما شرعوه بأهوائهم وما يزعمونه من انهم أبناء الله واحباؤه إلى غير ذلك( وَكَفى بِهِ ) أي بالكذب على الله( إِثْماً مُبِيناً ) وموضحا لجرأتهم على الله ومحادته واقدامهم على المعاصي والفعل القبيح ٥١( أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) باعتبار ما بقي من انقاض الكتب الإلهية التي ضيعها أسلافهم وبدلوها وحرفوها( يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ) اما الجبت ففي مختلف روايات في الدّر المنثور انه الساحر أو الأصنام أو الشيطان أو حي بني أخطب واقتصر في مختصر التبيان على نقل الأقوال بنحو ما ذكر وعلى هذا الترديد جرى في القاموس وفي مجمع البيان فسر الجبت والطاغوت بالصنمين اللذين كانا لقريش وفي الكشّاف الجبت الأصنام وكل ما عبد من دون الله. هذا واما الطاغوت فقد أشرنا في الجزء الأول ص ٢٢٨ و ٢٢٩ إلى معناه في

١٣٩

وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥٢)أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٣)أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً

____________________________________

موارد استعماله. ولا يخفى من القرآن الكريم ان معنى الجبت شبيه بمعنى الطاغوت في رجوعه إلى الضلال وقد يسمى به الضال المضل وقد روي ان جماعة من اليهود مضوا إلى مكّة ليتألبوا مع مشركيها على حرب رسول الله فسجدوا لأصنامهم وقالوا ما حاصله أن مشركي مكّة اهدى سبيلا من رسول الله والمؤمنين معه والآية الشريفة تدل على نحو هذا المعنى من دون تعيين للأشخاص فالتعيين على عهدة الرواية( وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ ) اشارة إلى قومهم الكافرين( أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) أي رسول الله وأصحابه( سَبِيلاً ٥٢ أُولئِكَ ) أي الذين أوتوا نصيبا من الكتاب المذكورين في الآية هم( الَّذِينَ ) لأجل تمردهم ومحادتهم لله ورسوله وطغيانهم( لَعَنَهُمُ اللهُ ) وطردهم عن رحمته وتوفيقه وعذبهم بدل القتل والجلاء وسلب الأموال مهما تألبوا واستنصروا واعدوا العدة والعديد( وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ ) أي يلعنه الله( فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ) ومن ذا ينصر على الله من لعنه ٥٣( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ) النقير كما في التبيان والكشاف والقاموس والمصباح وغيرها هو النقطة التي في ظهر النواة و «أم» هنا هي المنقطعة وهي التي لا تقع في اللفظ معادلة لهمزة استفهام قبلها وان تضمنت في الأكثر استفهاما إنكاريا مع ترق واضراب عن جملة قبلها تتضمن ابطال ما يشارك ما بعدها في الإنكار به عليهم كقوله تعالى( الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ) و «اذن» هنا ملغاة عن العمل نحو قوله في سورة الاسراء ٧٥( وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إلّا قَلِيلاً ) وقال بعض النحويين ان ذلك على سبيل الجواز فيما إذا وقعت اذن بعد الواو والفاء والظاهر اتفاقهم على ان نصبها المضارع مشروط بتصديرها كما في المغني وغيره وعبر ابن الحاجب عن هذا الشرط بأن لا يعتمد ما بعدها على ما قبلها وذكر الرضي من امثلة ذلك ان يكون ما بعدها جزاء للشرط الذي قبلها. أقول مراده الشرط الموجود في الكلام وينبغي ان يكون ما كان محذوفا كما في الآية ودل عليه اجزاء الكلام من نحو فاء الجزاء أو واو العطف على جزاء مقدر مع شرطه يدل عليهما سوق الكلام كما في آية الاسراء. هذا وان اذن في الأكثر تكون

١٤٠