جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث

جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث30%

جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث مؤلف:
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
ISBN: 964-94216-1-0
الصفحات: 195

جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث
  • البداية
  • السابق
  • 195 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 24929 / تحميل: 5047
الحجم الحجم الحجم
جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث

جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٩٤٢١٦-١-٠
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ثالثها: الخضوع للمخلوق والتذلل له بأمر من اللّه و إرشاده، كما في الخضوع للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لاَوصيائه الطاهرين عليهم السَّلام بل الخضوع لكلّموَمن ، أو كلّما له إضافة إلى اللّه توجب له المنزلة و الحرمة، كالمسجد الحرام، و القرآن والحجر الاَسود وما سواها من الشعائر الاِلهية. و هذا القسم من الخضوع محبوب للّه فقد قال تعالى:( فَسَوفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَومٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُوَْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرينَ ) (المائدة|٥٤).

بل هو لدى الحقيقة خضوع للّه، و إظهار للعبودية له فمن اعتقد بالوحدانية الخالصة للّه، و اعتقد أنّ الاِحياء والاِماتة والخلق والرزق والقبض والبسط والمغفرة و العقوبة كلّها بيده، ثمّاعتقد بأنّالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أوصياءه الكرام عليهم السَّلام( عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَولِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (الاَنبياء|٢٦ـ٢٧) فعظّمهم و خضع لهم ، تجليلاً لشأنهم و تعظيماً لمقامهم، لم يخرج بذلك عن حدّالاِيمان، ولم يعبد غير اللّه.

ولقد علم كلّمسلم أنّرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقبّل الحجر الاَسود، و يستلمه بيده إجلالاً لشأنه و تعظيماًلاَمره.(١)

السوَال الرابع : دواعي العبادة للّه سبحانه

العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ لصدوره من الاِنسان من داعٍ وباعثٍ فما هو الداعي الصحيح لها؟

الجواب: العبادة فعل اختياري للاِنسان لابدّ من وجود داع إليه و يمكن أن يكون الباعث أحد الاَُمور الثلاثة التالية:

١و٢ـ الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه

وهذا هو الداعي العام في غالب الناس وقد أُشير إليهما في مجموعة منالآيات:

قال سبحانه:( تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبُّهُمْ خَوفاً وَطَمعاً ) (السجدة|١٦) وقال عزّمن قائل:( وَادْعُوهُ خَوفاً وَطَمعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنينَ ) (الاَعراف|٥٦).

____________

(١) السيد الخوئي: البيان: ٤٦٨ـ ٤٦٩.

٦١

وقال عزّ من قائل:( أُولئِك الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً ) (الاِسراء|٥٧).

ومع هذه النصوص الرائعة الصريحة في تجويز عبادة اللّه بهذين الداعيين، نرى أنّ بعض المتكلّمين يرفضون هذا النوع من الداعي، و يُصرّون على لزوم خلوص العبادة من أيّ داع نفساني من غير فرق بين الطمع في رحمته، أو الخوف من ناره و يبطلون العبادة إذا كانت ناشئة عن هذين المبدئين.

لا شكّ أنّ العبادة لاَجل كمال المعبود وجماله من أفضل العبادات، و لكنّها غاية لا يصل إليها إلاّ من ارتاض في ميدان العبادة حتى ينسى نفسه ولا يرى إلاّمعبوده، و أين تلك الاَُمنية من متناول أغلبية الناس الذين تهمهم أنفسهم لاغير، و إن أطاعوه فلاَجل الخوف.

وإليك حديثين رائعين عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام :

قال أمير الموَمنينعليه‌السلام : إنّقوماً عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار، و إنّ قوماً عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، و إنّ قوماً عبدوا اللّه شكراً فتلك عبادة الاَحرار.(١)

وقال الاِمام الصادقعليه‌السلام : العبادة ثلاثة، قوم عبدوا اللّه عزّو جلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاَُجراء، و قوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ حبّاً له فتلك عبادة الاَحرار، وهي أفضل العبادة.(٢)

٣ـ كونه سبحانه أهلاً للعبادة

أن يعبد اللّه بما أنّه أهل لاَن يُعبد، لكونه جامعاً لصفات الكمال و الجمال، و هذا النوع من الداعي يختص بالمخلصين من عباده الّذين لا يرون لاَنفسهم إنّية، و لا لذواتهم أمام خالقهم شخصية، إندكت أنفسهم في ذات اللّه فلا ينظرون إلى شيء إلاّ و يرون اللّه قبله و معه و بعده، فهم المخلَصون الّذين لا يطمع الشيطان في إغوائهم قال سبحانه حاكياً عن إبليس:( وَ لاَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ* إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (الحجر|١٩ـ٤٠) قال سيد الموحدين عليعليه‌السلام :«ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك و لكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتُك.(٣)

____________

(١) نهج البلاغة، قسم الحكم برقم ٢٣٧.

(٢) الحر العاملي: وسائل الشيعة ج١|٤٤، ب ٨ من أبواب المقدمة ، الحديث ٨.

(٣) المجلسي: مرآة العقول ، ج٨، ص٨٩: باب النيّة.

٦٢

خاتمة المطاف

الفوضى في التطبيق بين الاِمام و المأموم

لقد ترك الاِهمال في تفسير العبادة تفسيراً منطقياً، فوضى كبيرة في مقام التطبيق بين الاِمام و المأموم فنرى أنّإمام الحنابلة أحمد بن حنبل (١٦٤ـ ٢٤١هـ) صدر عن فطرة سليمة في تفسير العبادة ، وأفتى بجواز مسِّ منبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرّك به و بقبره و تقبيلهما عند ما سأله ولده عبد اللّه بن أحمد، و قال: سألته عن الرجل يمسُّ منبرَ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يتبرّك بمسِّه، و يُقَبّله، ويفعل بالقبر مثل ذلك، يريد بذلك التقرّب إلى اللّه عزّ وجلّ؟ فقال: «لا بأس بذلك».(١)

هذه هي فتوى الاِمام ـ الذي يفتخر بمنهجه أحمد بن تيمية، وبعده محمّد بن عبد الوهاب ـ و لم ير بأساً بذلك، لما عرفت من أنّ العبادة ليست مجرّد الخضوع، فلا يكون مجرّد التوجّه إلى الاَجسام و الجمادات عبادة، بل هي عبارة عن الخضوع نحو الشيء، باعتبار أنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير الخاضع في عاجله و آجله، وأمّا مسّ المنبر أو القبر و تقبيلهما لغاية التكريم و التعظيم لنبيّ التوحيد، فلايوصف بالعبادة و لايتجاوز التبرّك به في المقام عن تبرّك يعقوب بقميص ابنه يوسف، و لم يخطر بخلد أحد من المسلمين إلى اليوم الذي جاء فيه ابن تيمية بالبدع الجديدة، أنّها عبادة لصاحب القميص و المنبر و القبر أو لنفس تلك الاَشياء.

و لمّا كانت فتوى الاِمام ثقيلة على محقّق الكتاب، أو من علق عليه لاَنّها تتناقض مع ما عليه الوهابية و تبطل أحلام ابن تيمية، و من لفَّ لفَّه، حاول ذلك الكاتب أن يوفّق بين جواب الاِمام و ما عليه الوهابية في العصر الحاضر، فقال: «أمّا مسّمنبر النبيّ فقد أثبت الاِمام ابن تيمية في الجواب الباهر (ص ٤١) فعله عن ابن عمر دون غيره من الصحابة، روى أبوبكر بن أبي شيبة في المصنف (٤|١٢١) عن زيد بن الحباب قال: حدّثني أبو مودود قال: حدّثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال: رأيت نفراً من أصحاب النبيّإذا خلا لهم المسجد قاموا إلى زمانة المنبر القرعاء فمسحوها، ودعوا قال: و رأيت يزيد يفعل ذلك.

____________

(١) أحمد بن حنبل، العلل و معرفة الرجال ٢: ٤٩٢، برقم :٣٢٤٣، تحقيق الدكتور وصي اللّه عباس، ط بيروت ١٤٠٨.

٦٣

وهذا لما كان منبره الذي لامس جسمه الشريف، أمّا الآن بعد ما تغيّر لايقال بمشروعية مسحه تبركاً به».

ويلاحظ على هذا الكلام: بعد وجود التناقض بين ما نقل عن ابن تيمية من تخصيص المسّ بمنبر النبيّبابن عمر، و ما نقله عن المصنف لابن أبي شيبة من مسح نفر من أصحاب النبيّ زمانة المنبر:

أوّلاً: لو كان جواز المسّ مختصّاً بالمنبر الذي لامسه جسم النبي الشريف دون ما لم يلامسه كان على الاِمام المفتي أن يذكر القيدَ، ولا يُطلق كلامَه، حتى ولو افترضنا أنّالمنبر الموجود في المسجد النبوي في عصره كان نفسَ المنبر الذي لامسَه جسمُ النبيّ الاَكرم، و هذا لا يغيب عن ذهن المفتي، إذ لو كان تقبيل أحد المنبرين نفس التوحيد، و تقبيل المنبر الآخر عينَ الشرك، لما جاز للمفتي أن يُغفل التقسيم و التصنيف.

وثانياً: أنّ ما يفسده هذا التحليل أكثر ممّا يصلحه، وذلك لاَنّ معناه أنّلجسمه الشريف تأثيراً على المنبر و من تبرّك به، و هذا يناقض التوحيد الربوبي من أنّه لا موَثّر في الكون إلاّاللّه سبحانه، فكيف يعترف الوهابي بأنّ لجمسه الشريف في الجسم الجامد تأثيراً و أنّه يجوز للمسلمين أن يتبرّكوا به عبر القرون.

ثمّ إنّ المعلّق استثنى مسح قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرك به، ومنعهما و قال في وجهه:

«وأمّا جواز مسّ قبر النبيّ و التبرّك به فهذا القول غريب جدّاً لم أر أحداً نقله عن الاِمام، وقال ابن تيمية في الجواب الباهر لزوار المقابر (ص ٣١): اتّفق الاَئمّة على أنّه لا يمسّ قبر النبيّ و لا يقبله، وهذا كلّه محافظة على التوحيد، فإنّ من أُصول الشرك باللّه اتّخاذ القبور مساجد».(١)

لكن يلاحظ عليه: كيف يقول: لم أجد أحداً نقله عن الاِمام، أو ليس ولده أبو عبد اللّه راويةَ أبيه و وعاء علمه و هو يروي هذه الفتوى و ثقة عند الحنابلة.

____________

(١) تعليقة المحقّق، نفس الصفحة.

٦٤

وأمّا التفريق بين مسّ المنبر والقبر بجعل الاَوّل نفس التوحيد، و الثاني أساس الشرك، فمن غرائب الاَُمور، لاَنّ الاَمرين يشتركان في التوجّه إلى غير اللّه سبحانه، فلو كان هذا محور الشرك، فالموضوعان سيّان، و إن فرّق بينهما بأنّ الماسّ، ينتفع بالاَوّل دون الثاني لعدم مسّ جسده بالثاني فلازمه كون الاَوّل نافعاً والثاني أمراً باطلاً دون أن يكون شركاً على أنّ تجويز الاَوّل يرجع إلى القول بأنّ لبدنه تأثيراً فيما يقصد لاَجله التبرّك و هو عين الشرك عند القوم فما هذا التناقض في المنهج يا ترى. و لو رجع المحقّق إلى الصحاح و المسانيد وكتب السيرة والتاريخ، لوقف على أنّ التبرّك بالقبر و مسّه، كان أمراً رائجاً بين المسلمين في عصر الصحابة و التابعين، و لاَجل إيقاف القارىَ على صحّة ما نقول نذكر نموذجين من ذلك:

١ـ إنّ فاطمة الزهراءعليها‌السلام سيدة نساء العالمين بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حضرت عند قبر أبيها و أخذت قبضة من تراب القبر تشمّه و تبكي و تقول:

ما ذا على من شـمّتربة أحمد

ألاّيشـمّ مدى الزمان غوالـياً

صُبَّتْ عليَّ مصـائب لو أنّها

صُبَّتْ على الاَيّام صِرنَ ليالياً (١)

إنّ هذا التصرّف من السيدة الزهراء المعصومةعليها‌السلام يدل على جواز التبرّك بقبر رسول اللّه و تربته الطاهرة.

٢ـ إنّ بلالاً ـ موَّذّن رسول اللّه ـ أقام في الشام في عهد عمر بن الخطاب فرأى في منامه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو يقول: «ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آنَ لك أن تزورني يا بلال؟».

فانتبه حزيناً وَجِلاً خائفاً، فركب راحلته و قصد المدينة فأتى قبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يبكي عنده و يمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن و الحسينعليهما‌السلام فجعل يضمّهما و يقبّلهما... إلى آخر الخبر.(٢)

____________

(١) لقد ذكر هذه القضية جمع كثير من الموَرخين، منهم السمهودي في وفاء الوفا ٢:٤٤٤ ـ و الخالدي في صلح الاخوان: ٥٧، و غيرهما.

(٢) ابن ا لاَثير : أُسد الغابة١: ٢٨، و غيره من المصادر.

٦٥

والحقّ انّ الاِختلاف بين السلف الصالح، و الخلف!! غير مختص بهذا المورد بل هناك موارد كان السلف يراها نفس التوحيد، و يراها الوهابيون عين الشرك و إن كنت في شكّ فلاحظ ما يلي:

١ـ قال ابن حبّان : «في شأن الاِمام عليّ بن موسى الرضا عليمها السَّلام : «قد زرته مراراً ، و ماحلّت بي شدّة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا صلوات اللّه على جدّه و عليه، و دعوت اللّه ازالتها عني إلاّ استجيب و زالت عني تلك الشدة، و هذا شيء جرّبته مراراً فوجدته كذلك.(١)

٢ـ نقل ابن حجر العسقلاني عن الحاكم النيسابوري أنّه قال: «سمعت أبا بكر محمد بن الموَمل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة، وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا وهم إذ ذاكمتوافرون إلى زيارة قبر علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام بطوس قال: فرأيت من تعظيمه يعني ابن خزيمة لتلك البقعة تواضعه لها و تضرعه عندها ما تحيرنا». (٢)

٣ـ وقال أحمد بن يحيى ألونشريسى المتوفى بفاس عام٩١٤ في كتابه القيم: «المعيار المعرب» سئل سيدي قاسم العقباني عمّن جرت عادته بزيارة قبر الصالحين فيدعو هناك و يتوسل بالنبيّعليه‌السلام وبغيره من الاَنبياء صلوات اللّه على جميعهم، و يتوسل بالاَولياء والصالحين و يتوسل بفضل ذلك الولي الّذي يكون عند قبره على التعيين، فهل يسوغ له هذا و يتوسل إلى اللّه في حوائجه بالولي على التعيين؟ وهل يجوز التوسل بعمّ نبيّنا أم لا؟

____________

(١) ابن حبان: كتاب الثقات، ج٨، ص ٤٥٧.

(٢) ابن حجر: تهذيب التهذيب، ج٧| ٣٨٨.

٦٦

فأجاب يجوز التوسل إلى مولانا العظيم الكريم بأحبائه من النبيين و الصديقين والشهداء والصالحين. وقد توسل عمر بالعباس رضي اللّه عنهما، و كان ذلك بمشهد عظيم من الصحابة والتابعين، و قَبِلَ مولانا وسيلتهم و قضى حاجتهم و سقاهم. ومازال هذا يتكرر في الّذين يُقتدى بهم فلا ينكرونه، وما زالت تظهر العجائب في هذه التوسلات بهوَلاء السادات نفعنا اللّه بهم و أفاض علينا من بركاتهم. و ورد في بعض الاَخبار انّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّم بعض الناس الدعاء فقال في أوّله قل: اللّهمّ انّي أُقسم عليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة. فقال الاِمام الاَوحد عزّ الدين بن عبد السّلام: هذا الخبر إن صحّ يحتمل أن يكون مقصوراً على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لانّه سيّد ولد آدم، ولا يُقسم على اللّه تعالى بغيره من الاَنبياء والملائكة والاَولياء، لانّهم ليسوا في درجته ، وأن يكون هذا إنّما خصّ به نبيّنا على علوّ درجته و مرتبته انتهى.(١)

ترى انّ السلف الصالح يتلقى هذه الاَُمور، بفطرتهم السليمة أُموراً مشروعة، غيرمخالفة للتوحيد، بينما الوهابيين يدّعون انّهذه الاَُمور، تنافي التوحيد و تقارن الشرك، من دون أن يقيموا دليلاً على مخالفتها للتوحيد، إلاّ الاعتماد على أقوال ابن تيمية و آرائه مكان الاعتماد على الكتاب والسنّة و سيرة السلف الصالح، فهم مقلده أقوال الرجال، و قدسيطرت على عقولهم، مكان استنطاق الذكر الحكيم والسنة النبوية.

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم

أنّ موقف الكاتب أبي الاَعلى المودودي من الوهابية موقف الدعم والتأييد و قد صب نزعاته في كتابه «المصطلحات الاَربعة» فقد ألف ذلك الكتاب لغاية دعم المبادىَ الوهابية تحت غطاء تفسير المصطلحات الاَربعة و مع ذلك كلّه فقد صدرت منه عن «لاوعى» كلمة حق لو كان سائراً على ضوئها لاصاب الحقيقة قال: «و صفوة القول أنّ التصور الذي لاَجله يدعو الاِنسان الاِله و يستغيثه و يتضرع إليه هو لا جرم تصور كونه مالكاً للسلطة المهيمنة على قوانين الطبيعية و للقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانين الطبيعة».

____________

(١) المعيار المعرب عن فتاوى علماء افريقية والاَندلس والمغرب، ج١|٣١٧ـ ٣٢٢.

٦٧

هذا كلامه و هو تعبير عن عقائد الوثنيين الذين لايصدرون في توسلاتهم و استغاثاتهم إلاّ عن هذا المبدء و أين ذلك من توسل المسلمين الذي يتوسلون بالنبي و آله ، لاَجل أنّهم عباد صالحون« لا يعصون اللّه في ما أمرهم و هم بأمره يعملون» فالحافز على التوسل والاستغاثة ليس إلاّذلك لا انّهم أصحاب السلطة على قوانين الطبيعة مع الاعتراف بانّهم عباد لا يملكون لاَنفسهم موتاً ولا حياة ولا نشوراً.

تصور خاطىَ:

انّ الكاتب مع أنّه نطق بالحقّ و الحقّ ينطق به المنصف والعنود، أراد اضفاء الشرك على التوسلات الدارجة بين المسلمين فذكر انّ السبب لها ليس إلاّاعتقاد المتوسل أنّللنبي مثلاً نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم.

وكذلك من يخاف أحداً يرى انّ سخطه يجرّ عليه الضرر و مرضاته تجلب له المنفعة فلا يكون مصدر اعتقاده ذلك و عمله إلاّما يكون في ذهنه من تصوّر أنّ له نوعاً من السلطة على هذا الكون فلا يبعثه عليه إلاّاعتقاده فيه انّ له شركاً في ناحية من نواحي السلطة الاَُلوهية.(١)

أنّ ما ذكره من مبدأ التوسل و انّه الاعتقاد بأنّ للمتوسل به نوعاً من السلطة على هذا الكون، إنّما ينطبق على توسل المشركين بأصنامهم و أوثانهم فقد كانو معتقدين بمالكيتها لبعض الشوَون الاِلهية و لا أقلّسلطنتها على الغفران والشفاعة النافذة و أين ذلك من توسل المسلمين بأحباء اللّه بما انّهم عباده الصالحون لو دَعوا لاجيبوا بتفضل منه سبحانه لا الزاماً و ايجابا ـ والدليل على ذلك انّه سبحانه دعى في غير واحدة من الآيات إلى التوسل بالنّبي فقال سبحانه:( وَ لَو اَنّهم إذْ ظَلَموا أنفُسَهم جاوَُكَ فَاسْتغفَروا اللّهَ وَ اسْتَغفَرَ لَهُمُ الرَّسُول لَوَجَدوا اللّهَ تَواباً رَحِيماً ) (النساء|٦٤) حتى انّه سبحانه ذمّ المنافقين لاَجل اعراضهم عن النبي و عدم طلبهم استغفاره قال سبحانه:( وإذا قِيل لَهُمْ تَعالَوا يَسْتَغفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللّه لَووا رُوَسهم وَ رأيتَهُمْ يَسُدّونَ و هُم مُسْتكبِرون ) (المنافقون|٥).

____________

(١) المودودي: المصطلحات الاَربعة|١٨ـ١٩.

٦٨

و من يتوسل من المسلمين بعد رحيل نبيهم الاَكرم فإنّما يتوسل بنفس ذلك الملاك الموجود في زمن حياته لا بملاك انّه مسيطر على العالم، و اختصاص الآية ـ على زعمهم ـ بحياة النبيّ لا يضر بالاستدلال، لانّالهدف هو انّالداعي للتوسل في كلتا الفترتين أمر و احد سواء اختصت الآية بفترة الحياة أم لا.

انّ الكاتب المودودي أخذ البرىء بجرم المعتدى فنسب عقيدة الوثنيّين إلى المسلمين و جعل الدعوتين من باب واحد و صادرتين من منشأ فارد و ليس هذا إلاّ قضاءً بالباطل و لا تزر وازرة وزر أُخرى.

الفصل الرابع : في حصر الاستعانة في اللّه

إنّ التوسل بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إن كان استعانة به لكنّه لاينافي حصر الاِستعانة باللّه تبارك وتعالى وذلك أنّ المسلمين في أقطار العالم يَحصرون الاستعانة في اللّه سبحانه و مع ذلك يستعينون بالاَسباب العادية، جرياً على القاعدة السائدة بين العقلاء، ولا يرونه مخالفاً للحصر، كما أنّ المتوسّلين بأرواح الاَنبياء يستعينون بهم في مشاهدهم و مزاراتهم ولايرونه معارضاً لحصر الاستعانة باللّه سبحانه، و ذلك لاَنّ الاستعانة بغير اللّه يمكن أن تتحقق بصورتين:

١ـ أن نستعين بعامل ـ سواء أكان طبيعياً أم غير طبيعي ـ مع الاعتقاد بأنّ عمله مستند إلى اللّه، بمعنى أنه قادر على أن يعين العباد و يزيل مشاكلهم بقدرته المكتسبة من اللّه و إذنه.

وهذا النوع من الاستعانة ـ في الحقيقة ـ لا ينفك في الواقع عن الاستعانة باللّه ذاته، لاَنّه ينطوي على الاعتراف بأنّه هو الذي منح تلك العوامل، ذلك الاَثر، وأذن لها، و إن شاء سلبها وجرّدها منه.

فإذا استعان الزارع بعوامل طبيعية كالشمس و الماء وحرث الاَرض، فقد استعان باللّه ـ في الحقيقة ـ لاَنّه تعالى هو الّذي منح هذه العوامل: القدرة على إنماء ما أودع في بطن الاَرض من بذر و من ثمّ إنباته و الوصول به إلى حدّ الكمال.

٢ـ أن يستعين بإنسان حىّ او ميّت أو عامل طبيعي مع الاعتقاد بأنّه مستقلّفي وجوده، أو في فعله عن اللّه، فلا شكّ أنّ ذلك الاعتقاد شرك و الاستعانة به عبادة.

٦٩

فإذا استعان زارع بالعوامل المذكورة و هو يعتقد بأنّها مستقلّة في تأثيرها أو أنّها مستقلّة في وجودها ومادتها كما في فعلها وقدرتها، فالاعتقاد شرك والطلب عبادة للمستعان به.

وبذلك يظهر أنّ الاستعانة المنحصرة في اللّه المنصوص عليها في قوله تعالى:"و إيّاكَ نَسْتَعينُ" هي الاستعانة بالمعونة المستقلّة النابعة من ذات المستعان به، غير المتوقّفة على شيء، فهذا هو المنحصر في اللّه تعالى، وأمّا الاستعانة بالاِنسان الذي لا يقوم بشيء إلاّ بحول اللّه و قوّته و إذنه و مشيئته، فهي غير منحصرة باللّه سبحانه، بل إنّ الحياة قائمة على هذا الاَساس ، فإنّالحياة البشرية مليئة بالاستعانة بالاَسباب التي توَثّر و تعمل بإذن اللّه تعالى.

وعلى ذلك لا مانع من حصر الاستعانة في اللّه سبحانه بمعنى، و تجويز الاِستعانة بغيره بمعنى آخر و كم له نظير في الكتاب العزيز.

و لاِيقاف القارىَ على هذه الحقيقة نلفت نظره إلى آيات تحصر جملة من الاَفعال الكونية في اللّه تارة، مع أنّها تنسب نفس الاَفعال في آيات أُخرى إلى غير اللّه أيضاً، و ما هذا إلاّ لعدم التنافي بين النسبتين لاختلاف نوعيّتهما فهي محصورة في اللّه سبحانه مع قيد الاستقلال، و تنسب إلى غير اللّه مع قيد التبعية و العرضية.

الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى اللّه و إلى غيره:

١ـ يقول سبحانه:( و إذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (الشعراء|٨٠). بينما يقول سبحانه فيه (أي في العسل):( شِفاءٌ لِلنّاسِ ) (النحل|٦٩).

٢ـ يقول سبحانه:( إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ) (الذاريات|٥٨) بينما يقول تعالى:( وَارْزُقُ وهُمْ فِيها ) (النساء|٥).

٣ـ يقول سبحانه:( ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ ) (الواقعة|٦٤). بينما يقول سبحانه:( يُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفّارَ ) (الفتح|٢٩).

٤ـ يقول تعالى:( وَ اللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ) (النساء|٨١). بينما يقول سبحانه:( بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (الزخرف|٨٠).

٥ـ يقول تعالى:( ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الاََمْرَ ) (يونس|٣). بينما يقول سبحانه:( فَالمُدَبِّراتِ أَمْراً ) (النازعات|٥).

٧٠

٦ـ يقول سبحانه:( اللّهُ يَتَوفَّى الاََنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) (الزمر|٤٢). بينما يقول تعالى:( الَّذِينَ تَتَوفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبينَ ) (النحل|٣٢).

إلى غير ذلك من الآيات التي تنسب الظواهر الكونية تارة إلى اللّه تعالى، و أخرى إلى غيره.

والحل أن يقال: إنّالمحصور باللّه تعالى هو انتساب هذه الاَُمور على نحو الاستقلال، وأمّا المنسوب إلى غيره فهو على نحو التبعية، و بإذنه تعالى، ولا تعارض بين النسبتين ولا بين الاعتقاد بكليهما.

فمن اعتقد بأنّ هذه الظواهر الكونية مستندة إلى غير اللّه على وجه التبعية لا الاستقلال لم يكن مخطئاً ولا مشركاً، و كذا من استعان بالنبيّ أو الاِمام على هذا الوجه.

هذا مضافاً إلى أنّه تعالى الّذي يعلّمنا أن نستعين به فنقول:( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعينُ ) و يحثُّنا في آية أُخرى على الاستعانة بالصبر والصلاة فيقول:( وَاسْتَعِينُوا بالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (البقرة|٤٥) و ليس الصبر والصلاة إلاّ فعل الاِنسان نفسه.

حصيلة البحث:

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين:

الصنف الاَوّل: يحصر الاستعانة في اللّه فقط و يعتبره الناصر والمعين الوحيد دون سواه.

والصنف الثاني: يدعونا إلى سلسلة من الاَُمور المعيّنة (غير اللّه) و يعتبرها ناصرة و معينة، إلى جانب اللّه.

أقول: اتّضح من البيان السابق وجه الجمع بين هذين النوعين من الآيات، و تبيّن أنّه لا تعارض بين الصنفين مطلقاً، إلاّ أنّفريقاًنجدهم يتمسّكون بالصنف الاَوّل من الآيات فيخطِّئون أيّ نوع من الاستعانة بغير اللّه، ثم يضطرّون إلى إخراج (الاستعانة بالقدرة الاِنسانية و الاَسباب المادية) من عموم تلك الآيات الحاصرة للاستعانة باللّه بنحو التخصيص ، بمعنى أنّهم يقولون:

إنّ الاستعانة لا تجوز إلاّباللّه في الموارد التي أذن اللّه بها، وأجاز أن يستعان فيها بغيره، فتكون الاستعانة بالقدرة الاِنسانية والعوامل الطبيعية ـ مع أنّها استعانة بغير اللّه ـ جائزة و مشروعة على وجه التخصيص. و لكن هذا ممّا لايرتضيه الموحّد.

في حين أنّ هدف الآيات هو غير هذا تماماً، فإنّ مجموع الآيات يدعو إلى أمر واحد و هو : عدم جواز الاستعانة بغير اللّه مطلقاً، وأنّ الاستعانة بالعوامل الاَُخرى يجب أن تكون بنحو لا يتنافى مع حصر الاستعانة في اللّه بل تكون بحيث تعدّ استعانة باللّه لا استعانة بغيره.

٧١

وبتعبير آخر: إنّالآيات تريد أن تقول بأنّالمعين و الناصر الوحيد والذي يستمدّ منه كلّمعين و ناصر، قدرته و تأثيره، ليس إلاّاللّه سبحانه، و لكنّه ـ مع ذلك ـ أقام هذا الكون على سلسلة من الاَسباب و العلل التي تعمل بقدرته و أمر باستمداد الفرع من الاَصل، و لذلك تكون الاستعانة به كالاستعانة باللّه، ذلك لاَنّ الاستعانة بالفرع استعانة بالاَصل.

و إليك فيما يلي إشارة إلى بعض الآيات من الصنفين:

( وَ مَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيزِ الْحَكيمِ ) (آل عمران|١٢٦).

( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعينُ ) (الحمد|٥).

( وَ مَا النَّصْرُ إِلاّمِنْ عِنْدِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكيمٌ ) (الاَنفال|١٠).

هذه الآيات نماذج من الصنف الاَوّل و إليك فيما يأتي نماذج من النصف الآخر الذي يدعونا إلى الاستعانة بغير اللّه من العوامل والاَسباب.

( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (البقرة|٤٥).

( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ) (المائدة|٢).

( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعينُونِي بِقُوَّةٍ ) (الكهف|٩٥).

( وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ) (الاَنفال|٧٢).

و مفتاح حلّالتعارض بين هذين الصنفين من الآيات هو ما ذكرناه وملخّصه:

إنّ في الكون موَثراً تاماً، و مستقلاً واحداً، غير معتمد على غيره لا في وجوده و لا في فعله و هو اللّه سبحانه:

وأمّا العوامل الاَُخر فجميعها مفتقرة ـ في وجودها وفعلها ـ إليه و هي توَدي ما توَدي بإذنه و مشيئته و قدرته، ولو لم يعط سبحانه تلك العوامل ما أعطاها من القدرة و لم تجر مشيئته على الاستعانة بها لما، كانت لها أيّة قدرة على شيء.

٧٢

فالمعين الحقيقي في كلّالمراحل ـ على هذا النحو تماماً ـ هو اللّه فلا يمكن الاستعانة بأحد باعتباره معيناً مستقلاً. و لهذه الجهة حصر هنا الاستعانة في اللّه وحده، و لكن هذا لا يمنع بتاتاً من الاستعانة بغير اللّه باعتباره غير مستقلّ (أي باعتباره معيناً بالاعتماد على القدرة الاِلهية) و معلوم أنّ استعانة ـ كهذه ـ لا تنافي حصر الاستعانة في اللّه سبحانه لسببين:

أوّلاً: لاَنّ الاستعانة المخصوصة باللّه هي غير الاستعانة بالعوامل الاَُخرى، فالاستعانة المخصوصة باللّه هي: (ما تكون باعتقاد أنّه قادر على إعانتنا بالذات، و بدون الاعتماد على غيره، في حين أنّ الاستعانة بغير اللّه سبحانه على نحو آخر، أي مع الاعتقاد بأنّالمستعان قادر على الاِعانة مستنداً على القدرة الاِلهية، لا بالذات، و بنحو الاستقلال، فإذا كانت الاستعانة ـ على النحو الاَوّل ـ خاصّة باللّه تعالى فإنّ ذلك لا يدل على أنّالاستعانة بصورتها الثانية مخصوصة به أيضاً.

ثانياً: إنّاستعانة ـ كهذه ـ غير منفكّة عن الاستعانة باللّه بل هي عين الاستعانة به تعالى ، و ليس في نظر الموحّد (الذي يرى أنّ الكون كلّه مستند إليه و الكلّ قائم به) مناص من هذا.

وأخيراً نذكّر القارىَ الكريم بأنّموَلّف المنار حيث إنّه لم يتصوّر للاستعانة بالاَرواح إلاّصورة واحدة لذلك اعتبرها ملازمة للشرك فقال:

«ومن هنا تعلمون: إنّالذين يستعينون بأصحاب الاَضرحة و القبور على قضاء حوائجهم و تيسير أُمورهم و شفاء أمراضهم ونماء حرثهم و زرعهم، وهلاك أعدائهم وغير ذلك من المصالح هم عن صراط التوحيد ناكبون، و عن ذكر اللّه معرضون».(١)

يلاحظ عليه: بأنّ الاستعانة بغير اللّه (كالاستعانة بالعوامل الطبيعية) على صورتين:

إحداهما عين التوحيد، و الاَُخرى موجبة للشرك، إحداهما مذكّرة باللّه، و الاَُخرى مبعدة عن اللّه.

إنّ حدّ التوحيد والشرك ليس هو كون الاَسباب ظاهرية أو غير ظاهرية و إنّما هو استقلال المعين وعدم استقلاله، و بعبارة أُخرى المقياس، هو الغنى والفقر، و الاَصالة وعدم الاَصالة.

____________

(١) المنار ١:٥٩.

٧٣

إنّ الاستعانة بالعوامل غير المستقلّة المستندة إلى اللّه، التي لا تعمل و لاتوَثر إلاّبإذنه تعالى غير موجبة للغفلة عن اللّه، بل هي خير موجّه إلى اللّه، ومذكّربه، إذ معناها : انقطاع كلّالاَسباب وانتهاء كلّالعلل إليه.

و مع هذا كيف يقول صاحب المنار: «أُولئك عن ذكر اللّه معرضون» و لو كان هذا النوع من الاستعانة موجباً لنسيان اللّه والغفلة عنه للزم أن تكون الاستعانة بالاَسباب المادية الطبيعية هي أيضاً موجبة للغفلة عنه.

على أنّالاَعجب من ذلك رأي شيخ الاَزهر الشيخ محمود شلتوت الذي نقل ـ في هذا المجال ـ نصّكلمات عبده دون زيادة و نقصان، و ختم المسألة بذلك، وأخذ بالحصر في "إِيّاكَ نَسْتَعين " غافلاً عن حقيقة الآية و عن الآيات الاَُخرى المتعرّضة لمسألة الاستعانة.(١)

إجابة على سوَال

إذا كانت الاستعانة بالغير على النحو الذي بيّناه جائزة فهي تستلزم نداء أولياء اللّه و الاستغاثة بهم في الشدائد و المكاره، وهي غير جائزة و ذلك لاَنّ نداء غير اللّه في المصائب و الحوائج تشريك الغير مع اللّه، يقول سبحانه:( وَ أَنَّ الْمَساجِدَ للّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللّهِ أَحَداً ) (الجن|١٨) و يقول تعالى:( وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ) (الاَعراف|١٩٧) و يقول عزّمن قائل :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ) (فاطر|١٣). إلى غير ذلك من الآيات التي تخص الدعاء باللّه و لاتسيغ دعوة غيره.

____________

(١) راجع تفسير شلتوت: ٣٦ـ٣٩.

٧٤

و قد طرح هذا السوَال الشيخ الصنعاني حيث قال: وقد سمّى اللّه الدعاء عبادة بقوله:( أُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي ) (غافر|٦٠)فمن هتف باسم نبيّ أو صالح بشيء فقد دعا النبي و الصالح، و الدعاء عبادة بل مخّها فقد عبد غير اللّه و صار مشركاً.(١)

الجواب:

إنّ النقطة الحاسمة في الموضوع تكمن في تفسير الدعاء وهل أنّ كلّ دعاء عبادة و النسبة بينهما هي التساوي؟ حتى يصح لنا أن نقول كلّ دعاء عبادة، وكلّ عبادة دعاء، أو أنّ الدعاء أعمّ من العبادة و أنّقسماً من الدعاء عبادة و قسماًمنه ليس كذلك؟ و الكتاب العزيز يوافق الثاني لا الاَوّل، وإليك التوضيح:

لقد استعمل القرآن لفظ الدعاء في مواضع عديدة ولا يصحّ وضع لفظ العبادة مكانه، يقول سبحانه حاكياً عن نوح:( رَبِّ إِنِّي دَعَوتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً ) (نوح|٥) وقال سبحانه حاكياً عن لسان إبليس في خطابه للمذنبين يوم القيامة:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّأَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) (إبراهيم|٢٢) إلى غيرهما من الآيات التي ورد فيها لفظ الدعاء، أفيصح القول بأنّنوحاً دعا قومه أي عبدهم، أو أنّ الشيطان دعا المذنبين أي عبدهم؟ كلّذلك يحفزنا إلى أن نقف في تفسير الدعاء وقفة تمعّن حتى نميّز الدعاء الذي هو عبادة عمّا ليس كذلك.

والاِمعان فيما تقدّم في تفسير العبادة يميِّز بين القسمين فلو كان الداعي و المستعين بالغير معتقداً بأُلوهية المستعان ولو أُلوهية صغيرة كان دعاوَه عبادة و لاَجل ذلك كان دعاء عبدة الاَصنام عبادة لاعتقادهم بأُلوهيتها، قال سبحانه:( فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الّتي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ ) (هود|١٠١).

____________

(١) الصنعاني، تنزيه الاعتقاد كما في كشف الارتياب:٢٨٤.

٧٥

و ما ورد من الآيات في السوَال كلّها من هذا القبيل فانّها وردت في حقّ المشركين القائلين بأُلوهية أصنامهم و أوثانهم باعتقاد استقلالهم في التصرف والشفاعة و تفويض الاَُمور إليهم و لو في بعض الشوَون. ففي هذا المجال يعود كلّدعاء عبادة، و يفسر الدعاء في الآيات الماضية والتالية بالعبادة، قال تعالى:

( إِنَّ الّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ) (الاَعراف|١٩٤).( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْويلاً * أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) (الاِسراء|٥٦ـ ٥٧).( وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لايَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ ) (يونس|١٠٦). "إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ) (فاطر|١٤). و ما ورد في الاَثر من أنّ الدعاء مُخّ العبادة، أُريد منه دعاء اللّه أو دعاء الآلهة لا مطلق الدعاء و إن كان المدعوّ غير إله لا حقيقة أو اعتقاداً.

وفي روايات أئمّة أهل البيت إلماع إلى ذلك، يقول الاِمام زين العابدين في ضمن دعائه:«...فسمّيت دعاءك عبادة و تركه استكباراً و توعّدت على تركه دخول جهنّم داخرين» (١) و هو يشير في كلامه هذا إلى قوله سبحانه:( وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الّذينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ ) (غافر٦٠)

هذا هو الدعاء المساوي للعبادة و هناك قسم آخر منه لا صلة بينه و بين العبادة و هو فيما إذا دعا شخصاًبما أنّه إنسان وعبد من عباد اللّه غير أنّه قادر على إنجاز طلبه بإقدار منه تعالى و إذن منه، فليس مثل هذه الدعوة عبادة بل سنّة من السنن الاِلهية في الكون، هذا هو ذو القرنين يواجه قوماً مضطهدين يطلبون منه أن يجعل بينهم و بين يأجوج و مأجوج سداً فعند ذلك يخاطبهم ذو القرنين بقوله:( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعينُوني بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً ) (الكهف|٩٥) وها هو الذي كان من شيعة موسى يستغيث به ، يقول سبحانه:( فَاسْتَغاثَهُ الّذي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (القصص|١٥)

____________

(١) الصحيفة السجادية، دعاوَه برقم ٤٥.

٧٦

و هذا هو النبيّ الاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو قومه للذبّ عن الاِسلام في غزوة أُحد و قد تولّوا عنه، قال سبحانه:( إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخراكُمْ ) (آل عمران|١٥٣) فهذا النوع من الدعاء قامت عليه الحياة البشرية، فليس هو عبادة و إنّما هو توسل بالاَسباب، فإن كان السبب قادراًعلى إنجاز المطلوب كان الدعاء أمراً عقلائياًو إلاّ يكون لغواً وعبثاً.

ثمّ إنّ القائلين بأنّ دعاء الصالحين عبادة، عند مواجهتهم لهذا القسم من الآيات و ما تقتضيه الحياة الاجتماعية، يتشبثون بكلّطحلب حتى ينجيهم من الغرق و يقولون إنّ هذه الآيات تعود إلى الاَحياء و لا صلة لها بدعاء الاَموات، فكون القسم الاَوّل جائزاً و أنّه غير عبادة؛ لا يلازم جواز القسم الثاني و كونه غير عبادة.

ولكن عزب عن هوَلاء إنّ الحياة و الموت ليسا حدين للتوحيد و الشرك و لا ملاكين لهما، بل هما حدّان لكون الدعاء مفيداًأو لا، و بتعبير آخر ملاكان للجدوائية و عدمها.

فلو كان الصالح المدعو غير قادر لاَجل موته مثلاً تكون الدعوة أمراً غير مفيد لا عبادة له، و من الغريب أن يكون طلب شيء من الحيّ نفس التوحيد و من الميت نفس الشرك.

كلّ ذلك يوقفنا على أنّ القوم لم يدرسوا ملاكات التوحيد و الشرك بل لم يدرسوا الآيات الواردة في النهي عن دعاء غيره، فأخذوا بحرفية الآيات من دون تدبّر مع أنّه سبحانه يقول:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الاََلْباب ) (ص ٢٩).

ثمّ إنّ الكلام في أنّدعاء الصالحين بعد انتقالهم إلى رحمة اللّه مفيد أو لا، يتطلب مجالاً آخراً و سوف نستوفي الكلام عنه في رسالة خاصة حول وجود الصلة بين الحياتين : المادّية و البرزخيّة بإذن منه سبحانه.

جعفر السبحاني

تحريراً في ٢٧ صفر المظفر ١٤١٦هـ

٧٧

الفهرست

الفصل الاَوّل : الاِله في اللغة و القرآن الكريم. ٤

الاِله في اللغة ٤

مفهوم الاِله في القرآن. ٨

الفصل الثاني : الربّ في اللغة و الذكر الحكيم. ١١

خاتمة المطاف.. ٢٠

الاَُولى: التوحيد في الذات.. ٢٠

الثانية: التوحيد في الخالقية ٢١

الثالثة: التوحيد في الربوبية و التدبير. ٢٢

الرابعة: التوحيد في التشريع و التقنين. ٢٢

الخامسة: التوحيد في الطاعة ٢٤

السادسة: التوحيد في الحاكمية ٢٤

السابعة: التوحيد في العبادة ٢٥

الفصل الثالث : في تحديد مفهوم العبادة ٢٦

العبادة في المعاجم و التفاسير. ٢٧

توجيه غير سديد. ٣٢

١ـ نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة ٣٢

٢ـ نظرية الشيخ شلتوت، زعيم الاَزهر ٣٣

٣ـ تعريف ابن تيمية ٣٣

عبادة ٣٤

عقيدة المشركين في آلهتهم. ٣٦

حكم التاريخ في عقيدة المشركين. ٣٦

يقول الآلوسي عند البحث عن عبادة الشمس: ٣٨

قضاء الكتاب في عقيدة المشركين. ٣٩

٧٨

التعريف المنطقي لمفهوم العبادة ٤٢

الاَوّل: التمعن في عبادة الموحّدين و المشركين. ٤٣

الثانية: الاِمعان في الآيات الداعية إلى عبادة اللّه، الناهية عن عبادة الغير. ٤٤

التعاريف الثلاثة للعبادة ٤٧

ثمرات البحث.. ٤٧

١ـ التوسل بالاَنبياء والاَولياء في قضاء الحوائج. ٤٨

٢ـ طلب الشفاعة من الصالحين. ٤٨

٣ـ التعظيم لاَولياء اللّه و قبورهم و تخليد ذكرياتهم. ٤٩

٤ـ الاستعانة بالاَولياء: ٤٩

أسئلة و أجوبة ٥٠

السوَال الاَوّل : هل هناك من يفسّر العبادة على غرار ما مضى؟ ٥٠

السوَال الثاني : ما هوالمراد من العبادة في هذه الآيات؟ ٥٧

السوَال الثالث : ما هو حكم إطاعة غير اللّه و الخضوع له ؟ ٥٩

السوَال الرابع : دواعي العبادة للّه سبحانه ٦١

١و٢ـ الطمع في إنعامه و الخوف من عقابه ٦١

٣ـ كونه سبحانه أهلاً للعبادة ٦٢

الفوضى في التطبيق بين الاِمام و المأموم ٦٣

غيري جنى وأنا المعاقب فيكم. ٦٧

الفصل الرابع : في حصر الاستعانة في اللّه ٦٩

الآيات التي تنسب الظواهر الكونية إلى اللّه و إلى غيره: ٧٠

إنّ الآيات الواردة حول الاستعانة على صنفين: ٧١

إجابة على سوَال. ٧٤

٧٩

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وأُمّ كلثوم والقاسم وزاد بعضهم الطيّب والطاهر(١) ، وماتت قبل الهجرة بسنة(٢) ،

وأيضاً قال الطبرسي في إعلام الوری ج ١، ص ٢٧٤، ط : مؤسسة آل البيت : (أوّل امرأة تزوّجها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّی بن قصيّ، تزوّجها وهو ابن خمس وعشرين سنة)

١ ـ راجع الأنوار الساطعة من الغرّاء الطاهرة خديجة للشيخ غالب السيلاوي ص ١٣٩ ط قم حيث ذكر بحثاً مفصّلاً عن أولادهاعليها‌السلام

٢ ـ قال الحرّ العاملي صاحب الوسائل في الجواهر السنية في الأحاديث القدسية ص ٢١٨ ط : النعمان النجف : (إنّه لـمّا ماتت خديجة قبل الهجرة بسنة ومات أبو طالب بعد موتها بسنة حزن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حزناً شديداً وخاف علی نفسه من كفّار قريش)

وقال شيخنا الكليني في أصول الكافي ج ١، ص ٤٤٠، دار الأضواء بيروت : (وماتت خديجةعليها‌السلام حين خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الشعب وكان ذلك قبل الهجرة بسنة)

ولكن صاحب كشف الغمّة الإربلي ج ١، ص ٥١٣ قال: (توفّيت قبل الهجرة بسنوات ثلاث أو نحوها)

وقال العلّامة المجلسي في مرآة العقول ج ٥، ص ١٨٢ ط دار الكتب الإسلامية طهران (إنّها ماتت قبل الهجرة بخمس سنين وقيل بأربع وقيل بثلاث وهو أشهر ...)

وقال العلّامة الرجالي المامقاني : (إنّ أهل السير ذكروا أنّ خديجة توفّت في شهر رمضان قبل الهجرة بخمس سنين وقيل بأربع وقيل بثلاث) راجع تنقيح المقال ج ٣ ص ٧٧

وقال المسعودي في مروجه ج ٢، ص ٣٠٦ دار الكتب العلمية : (وكانت وفاتها في شوّال بعد مبعثهصلى‌الله‌عليه‌وآله بثلاث سنين) ومثله قال أبو الفرج الاصفهاني في مقاتل الطالبيين ص ٥٩ ط الشريف الرضي

١٠١

وهي أفضل نساء أهل الجنّة، وقد وردت في فضلها أخبار كثيرة(١)

________________________

١ ـ ذكر الشيخ الصدوق في الخصال باب الأربعة ص ٢٠٥ عن ابن عبّاس قال: خطّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أربع خطط في الأرض وقال :

أتدرون ما هذا ؟

قلنا : الله ورسوله أعلم

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أفضل نساء أهل الجنّة أربع خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمّد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)

وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٩، ص ٤٧ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (خديجة خير نساء عالمها ومريم خير نساء عالمها وفاطمة خير نساء عالمها)

وذكر مسلم في صحيحه ج ١٥، ص ٢٠٠ دار الفكر، عن عائشة قالت : (بشّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خديجة بنت خويلد ببيت في الجنّة)

وأيضاً ذكر في نفس المصدر ص ١٩٩ عن أبي زراعة قال: سمعتُ أبا هريرة قال: أتیٰ جبرئيل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يارسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربّها عزّوجلّ ومنّي وبشّرها ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب)

وللتفصيل راجع الدرّ المنثور للسيوطي في تفسير قوله تعالی من سورة آل عمران :( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّـهَ اصْطَفَاكِ )

١٠٢

اَلسَّلَامُ عَلَيْكَ يَا ثَارَ اللهِ وَابْنَ ثَارِهِ وَالْوِتْرَ الْمَوْتُورَ

الثأْر بسكون الهمز، ويجوز تخفيفه بقلبه ألفاً، كالرأس والفأس، والكأس في الرأس والفأس، والكأس، وغير ذلك ممّا كان قبل الهمز فيه مفتوحاً كما يُقلب ياء قي المسكور، والواو في المضمون كالبير في البئر، والسور في السؤر الذّحل(١) بالذال المعجمة والحاء المهملة الساكنة، وقد تفتح ؛ الحقد والعداوة وبمعناه الثؤرة بالضمّ أيضاً، قال الشاعر :

شفيتُ به نفسي وأدركتُ ثؤرتي

بني مالك هل كنتُ في ثؤرتي نكسا(٢)

يقال : أدركتُ ثأره أي حقده بقتل قاتله ويقال : ثأرتُ القتيل بالقتيل إذا قتلتُ قاتله، ويقال : ثأرتكَ بكذا أي أدركتُ به ثأري منكَ، ويقال : اثأرتُ من فلان أي أدركتُ ثأري منه، وكثيراً ما يُستعمل في طلب الثأر(٣) والذحل والوتر في المطالبة بالدم والانتقام من القاتل، وفي بعض الدعوات : (اللّهم اطلب بذحلهم ووترهم ودمائهم)(٤)

قال الطريحي(٥) : يُقال طلب بذحله أي بثأره والذحل الثأر، وكذا الوتر

________________________

١ ـ المصباح المنير للفيومي ص ٨٨، ط دار الهجرة قم

٢ ـ لسان العرب لابن منظور ج ٢، ص ٧٧، ط دار إحياء التراث العربي بيروت

٣ ـ نفس المصدر

٤ ـ روضة الواعظين، ج ٢، ص ٣٢٤، مجلس في ذكر الصلاة علی النبي ؛ والبلد الأمين ص ٢٣٠

٥ ـ مجمع البحرين ج ٥ ص ٣٧٥

١٠٣

بالفتح وكرّر للتأكيد، والمراد بكونه ثأر الله : إنّ الله هو الذي يطلب بثأره وينتقم من أعدائه كما قال:( وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ) (١) ، فيكون إشارة إلی ما يعطی أولياؤه في زمن الرجعة من القوّة والسلطنة والغلبة علی أعداء آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيقتلونهم من آخرهم بأشدّ قتلة وينكّلون بهم بأشدّ تنكيل

وفي مجمع البحرين ولعلّه مصحّف من يا ثار الله وابن ثائره(٢)

والثائر علی صيغة اسم الفاعل : هو الذي لا يبقی علیٰ شيء حتّی يدرك ثاره، فالمعنی أنّه الذي يطلب ثاره بإذن الله فيكون ثائر الله والوتر عطف علی المنادی فيكون منصوباً، وهو بالكسر الفرد، وبالفتح الذحل والثار علی لغة أهل العالية، وأمّا أهل الحجاز فيفتحونه في الأوّل ويكسرونه في الثاني(٣) ، وتميم يكسرونه في المعنيين

والموتور هو الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه(٤) ، ويحتمل أن يكون

________________________

١ ـ الإسراء : ٣٣ روی الكليني في روضة الكافي ص ٢٥٥، الرقم ٣٦٤ عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ :( وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ ) قال: نزلت في الحسينعليه‌السلام ، لو قتل وليّه أهل الأرض به ما كان مسرفاً، ووليُّه القائمعليه‌السلام )

وروی الاسترآبادي في تأويل الآيات ص ٢٧٣ عن جابر، عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عزّوجلّ : ( وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ ) قال: نزلت في قتل الحسين عليه‌السلام أي ولي الحسين كان منصوراً

٢ ـ مجمع البحرين ج ٣ ص ٢٣٤

٣ ـ راجع المصباح المنير للفيومي ج ٢، ص ٦٤٧ دار الهجرة

٤ ـ المنجد في اللغة ص ٨٨٥ ط، بيروت ١٩٩٦ م

١٠٤

بمعنی المقطوع عن الأهل والأعوان، والغريب عن الأوطان والمعنی أنّه الفريد الوحيد الذي لا ناصر له ولا معين، القتيل الذي لم يدرك بثأره أحدٌ كما هو حقّه، وإنّما الطالب بثاره هو الله المنتقم فإنّه قتيل الله وابن قتيله كما في زيارته أيضاً : «السلامُ عليك يا حجّة الله وابن حجّته، السلامُ عليك يا قتيل الله وابن قتيله، السلامُ عليك يا ثأر الله وابن ثأره، السلام عليك يا وتر الله الموتور في السماوات والأرض، أشهد أنّ دمكَ سكن في الخلد إلی قوله : أشهد أنّك حجّة الله وابن حجّته وأشهد أنّك قتيل الله وابن قتيله، وأشهد أنّك ثأر الله وابن ثأره، وأشهد أنّك وتر الله الموتور في السماوات والأرض، وأشهد أنّك قد بلّغتَ ونصحت)(١)

________________________

١ ـ راجع مفاتيح الجنان للشيخ عبّاس القمّي ص ٥١٦، وراجع كتابنا جامع الزيارات والمراقد ص ٨٦ قسم كربلاء، ط قم (والذي طبع في بيروت تحت عنوان : الأماكن المقدسة في العالم) وهذه الزيارة الشريفة من زيارات الإمام الحسينعليه‌السلام المطلقة

١٠٥

أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ وَأَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ وأَطَعْتَ اللهَ وَرَسُولهُ حَتّىٰ أَتَاكَ الْيَقِينُ

أشهد أي أقرُّ بلساني مذعناً بصميم جناني وفيه إشارة إلی كمالهعليه‌السلام في مقام الخضوع والعبودية والخشوع والطاعة، وبلوغه بساط العبادة إلی منتهی الكمال، ووصوله إلی مقام مرضاة ربّه ذي الجلال، فإنّ العبودية شرف فاضل للعبد، وأدبٌ كامل للمخلوق، بها ينال نهاية المقامات، ويفوز بأسنی الكرامات كما قال : (إنّ العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّیٰ كنتُ سمعه وبصره ويده ...)(١) ، وقال الصادقعليه‌السلام : (العبودية جوهرة كنهها الربوبية، فما فقد في العبودية وجد في الربوبيّة، وما خفي عن الربوبية أُصيب في العبودية، قال الله :( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا ) (٢) أي موجود في غيبتك وحضرتك، وتفسير العبودية بذل الكلّية(٣) ،

________________________

 ـ في المصباح للكفعمي (رسوله) غير موجودة

١ ـ عوالي اللآلي ج ٤ ص ١٠٣، وهذا نصّ الحديث القدسي : (لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل والعبادات حتّی أحبّه فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يُبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها)

٢ ـ فصّلت : ٥٣ روی الاسترآبادي في تأويل الآيات ص ٥٢٧ عن الإمام الصادقعليه‌السلام في قوله عزّوجلّ :( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) قال : (حتّی يتبيّن لهم أنّه الحقّ) أنّه القائمعليه‌السلام

٣ ـ في المصدر (الكلّ) بدل (الكلّية)

١٠٦

وسبب ذلك منع النفس عمّا تهویٰ، وحملها علی ما تكره، ومفتاح ذلك ترك الراحة، وحبّ العزلة، وطريقة الافتقار إلی الله تعالیٰ

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (اُعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك، وحروف العبد ثلاثة (العين والباء والدال)(١) ، فالعين علمه بالله، والباء بونه عمّن سواه، والدال دنوّه من الله بلا كيف ولا حجاب)(٢)

والمراد بإقامة الصلاة أداؤها علی الوجه المأمور به من رعاية آدابها وشرائطها الظاهرية والباطنية من الخضوع والخشوع، والإقبال الكلّي بالقلب علی باب المعبود، والتوجّه بالكامل إلی جناب الرب الودود(٣) ، وقد صلّی

________________________

١ ـ في المصدر (ع، ب، د)

٢ ـ راجع مصباح الشريعة للإمام الصادقعليه‌السلام ، الباب الثاني، ص ٧ ط : بيروت

٣ ـ قال الإمام الصادقعليه‌السلام في مصباح الشريعة ص ٨٧، الباب التاسع والثلاثون : (إذا استقبل القبلة فأيس من الدُّنيا وما فيها والخلق وما هم فيه، وفرّغ قلبك عن كلّ شاغل يشغلك عن الله تعالیٰ وعاين بسرّك عظمة الله عزّوجلّ، واذكر وقوفك بين يديه، وقف علی قدم الخوف والرجاء، فإذا كبّرتَ فاستصغر ما بين السماوات العُلی والثریٰ دون كبريائه، فإنّ الله تعالی إذا اطّلع علی قلب العبد وهو يكبِّر وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره، فقال : يا كذّاب أتخدعني وعزّتي وجلالي لأحرمنّك حلاوة ذكري ولأحجبنّك عن قربي والمسرّة بمناجاتي واعلم أنّه تعالی غير محتاج إلی خدمتك وهو غني عنك وعن عبادتك ودعائك، وإنّما دعاك بفضله ليرحمك ويبعّدك عن عقوبته وينشر عليك من بركات حنانيّته ويهديك إلی سبيل رضاه ويفتح عليك باب مغفرته، فلو خلق الله عزّوجلّ علی ضعف ما خلق من العوالم أضعافاً مضاعفة علی سرمد الأبد لكان عند الله سواء أكفروا به بأجمعهم أو

١٠٧

الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء بأصحابه صلاةً باهیٰ الله بها ملائكته المقرّبين(١) ، وقبل بشرافتها صلاة الأنبياء والمرسلين لانقطاعه عن التعلّق بما سوی الحقّ وبذله جميع ما كان له في سبيل الحقّ قائلاً بلسان الحال بل القال :

تركتُ الناس طرّاً في هواكا

وأيتمتُ العيال لكي تراكا

ولو قطّعتني إرباً فإرباً

لما حنّ الفؤاد إلی سواكا(٢)

ويحتمل أن يُراد بإقامة الصلاة هو الإقرار بولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما أنّ المراد بإيتاء الزكاة يُحتمل أن يكون هو الإقرار بولاية سائر الأئمّةعليه‌السلام ، ويؤيّد ذلك ما في حديث النورانية من قولهعليه‌السلام : يا سلمان ويا جندب : «إنّ معرفتي بالنورانيّة معرفة الله، ومعرفة الله معرفتي، وهو الدِّين الخالص يقول الله :( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا ) بالتوحيد، وهو الإخلاص وقوله :( حُنَفَاءَ ) وهو الإقرار بنبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو الدِّين الحنيف قوله :( وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ) وهي ولايتي، فمَن والاني فقد أقام الصلاة، وهو صعبٌ مستصعب( وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ) (٣) وهو الإقرار بالأئمّة،( ذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) )(٤)

وحّدوه فليس له من عبادة الخلق إلّا إظهار الكرام والقدرة، فاجعل الحياء رداءً والعجز إزاراً وادخل تحت سرير سلطان الله تعالی تغتنم فوائد ربوبيّته مستعيناً به مستغيثاً إليه)

١ ـ راجع مقتل الحسين للسيّد المقرم ص ٢٤٥، ط قم الشريف الرضي

٢ ـ أسرار الشهادة ص ٤٢٣

٣ ـ البيّنة : ٥

٤ ـ أخرجها الحافظ رجب البرسي في مشارق أنوار اليقين ص ٣٠٣ ط : قم الشريف الرضي ١٤٢٢ هـ، ورواها سلمان وأبو ذر عن أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال: (ياسلمان لا

١٠٨

يكمل المؤمن إيمانه حتّی يعرفني بالنورانيّة، وإذا عرفني بذلك فهو مؤمن امتحن الله قلبه للايمان، وشرح صدره للإسلام، وصار عارفاً بدينه مستبصراً، ومَن قصّر عن ذاك فهو شاكٌّ مرتاب

يا سلمان ويا جندب، إنّ معرفتي بالنورانيّة معرفة الله تعالی، ومعرفة الله تعالی معرفتي، وهو الدِّين الخالص، بقول الله سبحانه :( وَمَا أُمِرُوا ) إلّا بالتوحيد، وهو الإخلاص، وقوله :( حُنَفَاءَ ) وهو الإقرار بنبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الدِّين الحنيف، وقوله تعالیٰ :( وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ) وهي ولايتي، فمن والاني فقد أقام الصلاة، وهو صعبٌ مستصعب،( وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ) وهو الإقرار بالأئمّة،( وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) ، شهد القرآن أنّ الدِّين القيّم الإخلاص بالتوحيد، والإقرار بالنبوّة والولاية، فمَن جاء بهذا فقد أتی بالدِّين

يا سلمان ويا جندب، المؤمن الممتحن الذي لم يرد عليه شيءٍ من أمرنا إلّا شرح الله صدره لقبوله، ولم يشك ولا يرتاب، ومَن قال: لِمَ ؟ وكيف ؟ فقد كفر، فسلّموا الله أمره، فنحن أمرُ الله

يا سلمان ويا جندب، إنّ الله جعلني أمينه علی خلقه، وخليفته في أرضه وبلاده وعباده، وأعطاني ما لم يصفه الواصفون، ولا يعرفه العارفون، فإذا عرفتموني هكذا فأنتم مؤمنون

يا سلمان، قال الله تعالی :( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ) فالصبر محمّد، والصلاة ولايتي، ولذلك قال:( وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ ) ، ولم يقل :( وإنّهما ) ثمّ قال:( إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ) فاستثنیٰ أهل ولايتي الذين استبصروا بنور هدايتي

يا سلمان، نحن سرّ الله الذي لا يخفیٰ، ونوره الذي لا يطفیٰ، ونعمته التي لا تجزیٰ، أوّلنا محمّد، وأوسطنا محمّد، وآخرنا محمّد، فمَن عرفنا فقد أكمل الدِّين

١٠٩

القيّم

يا سلمان ويا جندب : كنتُ ومحمّد نوراً نسبِّح قبل المسبّحات، ونشرق قبل المخلوقات، فقسم ذلك النور نصفين : نبيّ مصطفیٰ، ووصيٌّ مرتضیٰ، فقال الله عزّوجلّ لذلك النصف : كُن محمّداً، وللآخر : كُن عليّاً، ولذلك قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا من عليّ وعليّ منّي، ولا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ

وإليه الإشارة بقوله :( أَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ) ، وهو إشارة إلی اتّحادهما في عالم الأرواح والأنوار

ومثله قوله :( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ) والمراد منها مات النبي أو قُتل الوصي، لأنّهما شيء واحد، ومعنیٰ واحد، ونور واحد، اتّحدا بالمعنی والصفة، وافترقا بالجسد والتسمية، فهما شيء واحد في عالم الأرواح (أنت روحي التي بين جنبيّ) وكذا في عالم الأجساد، أنت منّي وأنا منك، ترثني وأرثك، وأنت منّي بمنزلة الروح من الجسد، وإليه الإشارة بقوله :( صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ومعناه : صلّوا علی محمّد، وسلّموا إلی عليّ أمره، فجمعهما في حدٍّ واحد جوهري، وفرّق بينهما بالتسمية والصفات في الأمر، فقال :( صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) فقال : صلّوا علی النبيّ، وسلِّموا علی الوصيّ، ولا تنفعكم صلاتكم علی النبيّ بالرسالة إلّا بتسليمكم علیٰ عليّ بالولاية

يا سلمان ويا جندب، وكان محمّد الناطق، وأنا الصامت، ولابدّ في كلّ زمان من صامت وناطق، فمحمّد صاحب الجمع، وأنا صاحب الحشر، ومحمّد المنذر، وأنا الهادي، ومحمّد صاحب الجنّة، وأنا صاحب الرجعة، محمّد صاحب الحوض، وأنا صاحب اللواء، محمّد صاحب المفاتيح، وأنا صاحب الجنّة والنار، محمّد صاحب الوحي، وأنا صاحب الإلهام، محمّد صاحب الدلالات، وأنا صاحب

١١٠

المعجزات، محمّد خاتم النبيّين، وأنا خاتم الوصيّين، محمّد صاحب الدعوة، وأنا صاحب السيف والسطوة، محمّد النبيّ الكريم، وأنا الصراط المستقيم، محمّد الرؤوف الرحيم، وأنا العليّ العظيم

يا سلمان قال الله سبحانه :( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) ولا يعطي هذا الروح إلّا مَن فوّض إليه الأمر والقدر، وأنا أُحيي الموتی، وأعلم ما في السماوات والأرض، وأنا الكتاب المبين

يا سلمان : محمّد مقيم حجّة الحقّ، وأنا حجّة الحقّ علی الخلق، وبذلك الروح عرج به إلی السماء، أنا حملتُ نوحاً في السفينة، أنا صاحب يونس في بطن الحوت، وأنا الذي جاوزتُ موسیٰ في البحر، وأهلكت القرون الأولیٰ، أعطيتُ علم الأنبياء والأوصياء وفصل الخطاب، ووليتُ نبوّة محمّد، أنا أجريتُ الأنهار والبحار وفجّرت الأرض عيوناً، أنا كاب الدُّنيا لوجهها، أنا عذاب يوم الظلّة، أنا الخضر معلِّم موسیٰ، أنا معلِّم داود وسليمان، أنا ذو القرنين، أنا الذي رفعتُ سمكها بإذنه ـ عزّوجلّ ـ أنا دحوت أرضها، أنا المنادي من مكانٍ بعيد، أنا دابّة الأرض، أنا كما قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنت يا عليّ ذو قرنيها، وكلا طرفيها، ولك الآخرة والأُولی

يا سلمان : إنّ ميّتنا إذا مات لم يمت، ومقتولنا لم يُقتل، وغائبنا إذا غاب لم يغب، ولا نلد ولا نولد في البطون، ولا يُقاس بنا أحدٌ من الناس، أنا تكلّمتُ علی لسان عيسیٰ في المهد، أنا نوح، أنا إبراهيم، أنا صاحب الناقة، أنا صاحب الراجفة، أنا صاحب الزلزلة، أنا اللوح المحفوظ، إليّ انتهی علم ما فيه، أنا أنقلب في الصور كيف شاء الله، مَن رآهم فقد رآني، ومَن رآني فقد رآهم، ونحن في الحقيقة نور الله الذي لا يزول ولا يتغيّر

١١١

والأولی حمل الفقرة علی الظاهر والباطن معاً فقد ورد عن جوده وكرمه وإعانته للفقراء، ورعايته للضعفاء ومواساته مع المساكين سرّاً وعلانيةً ما هو أبين من الشمس، وأشهر من أنْ يُذكر، فقد حكیٰ في مناقب الجوزي : أنّه قال عمر بن سعد : من يُوطئ الخيل صدره ؟ فأوطئوا الخيل صدره وظهره، ووجدوا في ظهره آثاراً سوداً، فسألوا عنها فقيل : كان ينقل الطعام علی ظهره في الليل إلی مساكين(١) أهل المدينة(٢)

يا سلمان : بنا شرّف كلّ مبعوث، فلا تدعونا أرباباً، وقولوا فينا ماشئتم، ففينا هلك مَن هلك، وبنا نجیٰ مَن نجیٰ

يا سلمان، مَن آمن بما قلتُ وشرحتُ فهو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان ورضي عنه ومَن شكّ وارتاب فهو ناصب، وإن ادّعی ولايتي فهو كاذب

يا سلمان : أنا والهداة من أهل بيتي سرّ الله المكنون، وأولياؤه المقرّبون، كلنّا واحد، وأمرنا واحد وسرّنا واحد، فلا تفرّقوا فينا فتهلكوا، فإنّا نظهر في كلّ زمان بما شاء الرحمن، فالويل كلّ الويل كلّ الويل لمن أنكرنا

قلت : ولا ينكره إلّا أهل الغباوة، ومن خُتِم علی قلبه وسمعه وجعل علی بصره غشاوة، يا سلمان، أنا أبو كلّ مؤمن ومؤمنة

يا سلمان، أنا الطامّة الكبری، أنا الأزفة إذا أزفت، أنا الحاقّة، أنا القارعة، أنا الغاشية، أنا الصاخة، أنا المحنة النازلة، ونحن الآيات والدلالات والحجب ووجه الله، أنا كُتب اسمي علی العرش فاستقرّ، وعلی السماوات فقامت، وعلی الأرض فرست، وعلی الريح فدرأت، وعلی البرق فلمع، وعلی الوادي فهمع، وعلی النور فسطع، وعلی السحاب فدمع، وعلی الرعد فخشع، وعلی الليل فدجیٰ وأظلم، وعلی النهار فأنار وتبسّم)

١ ـ في المصدر (مساكن) بدل (مساكين)

٢ ـ تذكرة الخواص للعلّامة السبط ابن الجوزي (ت ٦٥٤ هـ)، ط قم، الشريف الرضي

١١٢

وفي كتاب مطالب السؤول أنّهعليه‌السلام كان يُكرم الضيف ويمنح الطالب ويصِل الرحم، وينيل الفقير، ويسعف السائل، ويكسو العاري، ويشبع الجائع، ويُعطي الغارم، ويشدّ الضعيف، ويشفق علی اليتيم، ويعين ذا الحاجة، وقلَّ أنْ وصله مالٌ إلّا فرّقه(١) ونقل : أنّ معاوية لـمّا قدم مكّة وصله بمالٍ كثير، وثيابٍ وافرة، وكسوة وافية فردَّ الجميع عليه ولم يقبله منه، وهذه سجيّة الجواد، وشنشنة الكريم، وسمة ذي السماحة، وصفة مَن قد حوی مكارم الأخلاق، فأفعاله المتلوة شاهدة له بصفة الكرم ناطقة بأنّه متّصف بمحاسن الشيم، وقد كان في العبادة مقتدياً بمَن تقدّم حتّی نقل عنهعليه‌السلام : أنّه حجّ خمساً وعشرين حجّة إلی الحرم وجنائبه تُقاد معه وهو ماشٍ علی القدم(٢)

والأمر بالمعروف : هو الحمل علی الطاعة قولاً أو فعلاً(٣) ، والنهي عن المنكر : هو المنع عن المعاصي كذلك(٤) ، والمعروف : هو الفعل الحسن المشتمل علی وصف زائد علی حسنه سُمّيَ به لأنّ العقل يعرفه ويحسنه(٥) ، والمنكر : هو الفعل القبيح الذي عرف فاعله قبحه، سمّي به لأنّ العقل ينكره وينكر علی فاعله، ولا إشكال في وجوبها شرعاً لورود الآيات والأخبار الكثيرة

________________________

١ ـ مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي المتوفیٰ ٦٥٢ هـ ح ٢، ص ٦٣، الفصل السابع في كرمه ط : أُمّ القریٰ

٢ ـ إلی هنا انتهی كلام ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول ج ٢، ص ٦٣، وراجع ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من تاريخ دمشق لابن عساكر ص ١٩٤ ـ ١٩٧

٣ ـ هذا التعريف ذكره الشهيد الثاني في الروضة البهية علی شرح اللمعة الدمشقية ج ١، ص ٣٤٢

٤ ـ نفس المصدر

٥ ـ راجع شرائع الإسلام للمحقّق الحلّيقدس‌سره ج ١، ص ٣١٠ ط قم إسماعيليان

١١٣

به(١) وإنْ اختلف في الكفائية والعينيّة(٢) ، وكذا في الوجوب العقلي، فذهب جماعة إليه نظراً إلی أنّ ذلك لطف وهو واجب(٣) وتفاصيل تلك المباحث تُطلب من الفقه كشرائط الوجوب(٤)

ويحتمل أن يُراد بالأمر بالمعروف دعوة الناس إلی محبّة أمير المؤمنينعليه‌السلام

________________________

١ ـ من الآيات الدالّة عليه قوله تعالی :( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ )

ومن الأخبار قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (لتأمُرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطنّ الله شراركم علی خياركم فيدعوا خياركم فلا يُستجاب لهم)

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (إذا أُمّتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله)

وللتفصيل راجع وسائل الشيعة للحرّ العاملي ج ١١، ص ٣٩٤، ح ٥، من أبواب الأمر والنهي، ط : بيروت دار إحياء التراث العربي

٢ ـ ذهب شيخ الطائفة الطوسيقدس‌سره إلی الوجوب العيني، أي لا يسقط عن الآخرين بقيام جماعة به

وذهب السيّد المرتضی رحمه‌الله والشهيد الأوّل في اللمعة إلی الوجوب الكفائي، أي يسقط عن الآخرين بقيام جماعةٍ له

٣ ـ إنّ الشيخ الطوسيقدس‌سره ذهب إلی وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عقلي واحتجّ واستدلّ بأنّهما لطفان في فعل الواجب وترك القبيح، فيجبان عقلاً

وأمّا السيّد المرتضی فقال : إنّ وجوبهما سمعي أي نقلي، ووافقه العلّامة الحلّي قدس‌سره ، وللتفصيل راجع الباب الحادي عشر للعلّامة الحلّي ص ١١٤ ط : قم

٤ ـ راجع شرائع الإسلام للمحقّق الحلي، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ج ١ في باب الأمر بالمعروف، وباقي الكتب الفقهية

١١٤

وطريقته، ومنهاجه، وبالنهي عن المنكر منعهم عن الضلالات التي دعا إليها خلفاء الجور من أبي بكر وعمر وأحزابهما، وربما يُفسّر قوله تعالی :( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ) (١) بأنّ عليّاًعليه‌السلام ينهیٰ عن طريقة أبي بكر

________________________

١ ـ العنكبوت : ٤٥، ويؤيّد هذا التفسير أو التأويل جملة من الآيات التي فسّرت بهذه الطريقة منها :

قوله تعالی في سورة النحل :( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ )

قال عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره ج ١، ص ٣٩٠ ط بيروت : العدل : شهادة أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والإحسان : أمير المؤمنين، والفحشاء والمنكر والبغي، فلان، وفلان، وفلان)

ويؤيّده ما رواه الاسترآبادي في تأويل الآيات ص ٢٦٤ ط : إيران، عن الإمام الباقرعليه‌السلام في قوله عزّوجلّ :( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ) قال: العدل شهادة الإخلاص وأنّ محمّداً رسول الله، والإحسان ولاية أمير المؤمنين والإتيان بطاعتهما ـ صلوات الله عليهما ـ، وإيتاء ذي القربیٰ : الحسن والحسين والأئمّة من ولدهعليهم‌السلام ، وينهی عن الفحشاء والمنكر والبغي وهو مَن ظلمهم وقتلهم ومنع حقوقهم، وموالاة أعدائهم فهي المنكر الشنيع والأمر الفضيع

ويؤيّده ما رواه الشيخ الكليني في الكافي ج ١، ص ٣٧٤، عن محمّد بن منصور قال: سألتُ العبد الصالح ـ الإمام الكاظمعليه‌السلام ـ عن قول الله عزّوجلّ : ( إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) فقال : إنّ القرآن له بطن وظهر، فجميع ما حرّم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمّة الجور، وجميع ما أحلَّ الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمّة الحقّ

١١٥

وعمر، ويؤيّده مطابقة عدد المنكر مع عمر، والإطاعة هو الامتثال بالائتمار بالأوامر والانتهاء عن النواهي

واليقين هنا الموت كما في قوله تعالی :( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (١) أقيم السبب مقام المسبّب فإنّ بالموت يزول الشكّ ويحصل العلم بما أخبر به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله من أحوال النشأة الأخریٰ وهذا بالنسبة إلی عامّة الناس، وأمّا الخصيصون من العباد فهم علی يقين وعلم في جميع أحوالهم فكأنّهم يعاينون الجنّة والنار والصراط والميزان وسائر ما أخبر به الصادق الأمين، ومن

ويؤيّده ما رواه الاسترآبادي في تأويل الآيات ص ٢٢، عن داود بن كثير عن الإمام الصادقعليه‌السلام : (يا داود : إنّ الله خلقنا فأكرم خلقنا، وفضّلنا وجعلنا أُمناءه وحفظته وخزّانه علی ما في السماوات وما في الأرض، وجعل لنا أضداداً وأعداءً، فسمّانا في كتابه وكنّیٰ عن أسمائنا بأحسن الأسماء وأحبّها إليه تكنيةً عن العدو، وسمّی أضدادنا وأعداءنا في كتابه وكنّی عن أسمائهم، وضرب لهم الأمثال في كتابه في أبغض الأسماء إليه وإلی عباده المتّقين)

ويؤيّد هذا ما رواه في نفس المصدر عن الفضل بن شاذان بإسناده عن الصادق عليه‌السلام : إنّه قال: (نحن أصل كلّ خير، ومن فروعنا كلُّ برٍّ، ومن البرّ التوحيد، والصلاة، والصيام، وكظم الغيظ، والعفو عن المسيء، ورحمة الفقير، وتعاهد الجار، والإقرار بالفضل لأهله، وعدوّنا أصل كلّ شرٍّ، ومن فروعهم كلُّ قبيح وفاحشة، فمنهم الكذب، والنميمة، والبخل، والقطيعة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بغير حقّه، وتعدّي الحدود التي أمر الله عزّوجلّ، وركوب الفواحش ما ظهر منها وما بطن من الزنا والسرقة، وكلُّ ما وافق ذلك من القبيح، وكذب مَن قال إنّه معنا وهو متعلِّق بفرع غيرنا)

١ ـ الحجر : ٩٩

١١٦

هنا قال [الإمام] عليّعليه‌السلام : (لو كُشِفَ لي الغطاء لما ازددتُ يقيناً)(١)

وحمل الصوفية هذه الآية علی ظاهرها فزعموا أنّ لا تكليف علی أولياء الله فإنّهم بلغوا معارج اليقين وفساد زعمهم ظاهر مستبين

________________________

١ ـ راجع مصابيح الأنوار في حلّ مشكلات الاخبار للسيّد الجليل عبدالله شبّر المتوفیٰ ١٢٤٢ هـ، ج ١، ص ٣٠، الحديث الرابع، ط مؤسسة النور بيروت وذكرقدس‌سره تسعة احتمالات لهذا الحديث الشريف فراجع

١١٧

فَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً قَتَلَتْكَ، وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً ظَلَمَتْكَ

هذا تفريعٌ علی جميع ما تقدّم، وفيه إشارة إلی أنّ الجامع لهذه الشرافات والكمالات الداخلية والخارجية يستحقّ التعظيم والإطاعة، لا القتل والإهانة، فالقاتل والظالم له مستحقّ للعن من الله، وهو الطرد من رحمته والإبعاد عنها(١) ، والأُمّة : الجماعة وفي تأنيث الضمير الراجع إليها والعدول عن التعبير بفعل العقلاء لطيفة لا تخفیٰ علی الأذكياء، فأجراهم مجری السباع من الكلاب العادية، والذئاب الضارية التي لا تُفرّق في أذاها بين العالم والجاهل، والصالح والطالح، والبرّ والفاجر والمؤمن والكافر، بل هم أضلّ وأقسیٰ منها حيث لا تجترئ علی الأنبياء وذريّاتهم لما حرّم الله عليها لحومهم(٢) وهؤلاء قد هتكوا

________________________

١ ـ راجع المصباح المنير للفيومي ج ٢، ص ٥٥٤، دار الهجرة

٢ ـ روی السيّد هاشم البحرانيقدس‌سره في حلية الأبرار ج ٢، ص ٤٦٨، ط : الأعلمي بيروت : عن الراوندي في الخرائج عن أبي هاشم الجعفري قال: ظهرت في أيّام المتوكّل امرأة تدّعي أنّها زينب بنت فاطمةعليها‌السلام بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال لها المتوكّل : أنت امرأة شابّة وقد مضیٰ من وقت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما مضیٰ من السنين ؟ فقالت : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مسحَ علی رأسي وسأل الله عزّوجلّ أن يردّ عليَّ شبابي في كلّ أربعين سنة ولم أظهر للناس إلی هذه الغاية فلحقني الحاجب فصرتُ إليهم

فدعا المتوكّل مشايخ آل أبي طالب وولد أبي العبّاس وقريش فعرّفهم حالها فروی جماعة وفاة زينب بنت فاطمة عليها‌السلام في سنة كذا فقال لها : ما تقولين في هذه الرواية ؟ فقالت : كذب وزور فإنّ أمري كان مستوراً عن الناس فلم يعرف لي موت ولا حياة

١١٨

فقال لهم المتوكّل : هل عندكم حجّة علی هذه المرأة غير هذه الرواية ؟ فقالوا : لا، فقال : هو بريء من العبّاس أن لا أتركها عمّا ادّعت إلّا بحجّة

قالوا : فأحضر عليّ بن محمّد ـ الهادي ـعليه‌السلام فلعلّ عنده شيئاً من الحجّة غير ما عندنا فبعث إليه فحضر فأخبره بخبر المرأة فقال : كذبت فإنّ زينبعليها‌السلام توفّيت في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا، قال: فإنّ هؤلاء قد رووا مثل هذه وقد حلفتُ أن لا أتركها عمّا ادّعت إلّا بحجّة تلزمها

قال : فهاهنا حجّة تلزمها وتلزم غيرها، قال: وما هي ؟ قالعليه‌السلام : لحوم ولد فاطمة محرّمة علی السباع فأنزلها إلی السباع فإنْ كانت من ولد فاطمة فلا تضرّها فقال لها : ما تقولين ؟ قالت : إنّه يريد قتلي قال: فهاهنا جماعة من ولد الحسن والحسينعليهما‌السلام فانزل مَن شئتَ منهم

قال : فوالله لقد تغيّرت وجوه الجميع فقال بعض المبغضين : هو يُحيل علی غيره ولِمَ لا يكون هو ؟

فمال المتوكّل إلی ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع فقال : يا أبا الحسن لِمَ لا تكون أنت ذلك ؟

قالعليه‌السلام : ذلك إليك قال: فافعل قال: أفعل إنْ شاء الله وأُتيَ بسلّم وفُتِحَ عن السباع كانت ستّة من الأسد فنزل الإمامعليه‌السلام ، فلمّا وصل وجلس صارت الأسود إليه ورمت بأنفسها بين يديه، ومدّت بأيديها ووضعت رؤوسها بين يده وجعل يمسح علی كلّ واحدٍ منها، بيده ثمّ يُشير بيده إليه بالاعتزال فيعتزل ناحية حتی اعتزلت كلّها ووقفت بإزائه

فقال له الوزير : ما هذا صواباً ؟ فبادر بإخراجه من هناك قبل أن ينتشر خبره فقال له : يا أبا الحسن ما أردنا بك سوءاً وإنّما أردنا نكون علی يقين ممّا قلتَ فأحبُّ أن تصعد

١١٩

حرمة نبيّهم بقتل بنيه، وسبي ذراريه، وأساؤوا الصنع فيهم بما لم يسبقهم إليه أحدٌ من الملل السابقة مع ما أكّد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّهم من الوصيّة بودادهم ومحبّتهم، حتّی جعل ذلك أجراً علی تعباته ومحنه في النبوّة كما قال:( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (١)

فليت شعري ماذا كانوا يصنعون لو أمرهم ببغض العترة ونصب العداوة لهم أو يمكنهم الزيادة علی ما صنعوا ؟ كلّا ما قدروا علی أزيد ممّا صدر عنهم من الظلم والطغيان ومعصية الرحمان

ولنعم ما قيل :

قد أبدلوا الودَّ في القربیٰ ببغضهم

كأنّما ودّهم في الذكرِ بغضاءُ

     

وقيل أيضاً :

فقام وصار إلی السلّم وهم حوله تتمسّح بثيابه، فلمّا وضع رجله علی أوّل درجة ينقلب إليها وأشار بيده أن ترجع فرجعت وصعد ثمّ قال: كلّ مَن زعم أنّه من ولد فاطمةعليها‌السلام فليجلس في ذلك المجلس فقال لها المتوكّل : انزلي قالت : الله الله ادّعيتُ الباطل، وأنا بنت فلان حملني الضرُّ علی ما قلتُ

قال المتوكّل : القوها إلی السباع، فبعثت والدته فاستوهبتها منه فأحسن إليها

وللمزيد وللتفصيل راجع الخرائج للراوندي، ومدينة المعاجز للبحراني سوف تجد أمثال هذه الرواية بالعشرات

١ ـ الشوری : ٢٣، حيث أخرج السيوطي في الدرّ المنثور ج ٦، ص ٧، ط : مصر، عن ابن عبّاس قال: لـمّا نزلت هذه الآية( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) قالوا : يارسول الله مَن قرابتُكَ هؤلاء الذين وجبت مودّتهم ؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : عليّ وفاطمة وولداها

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195