جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث

جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث20%

جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث مؤلف:
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
ISBN: 964-94216-1-0
الصفحات: 195

جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث
  • البداية
  • السابق
  • 195 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 24932 / تحميل: 5048
الحجم الحجم الحجم
جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث

جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٩٤٢١٦-١-٠
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

ممّا لم يكن يظنّ بالسابقين الأوّلين أن يبتلوا به على أنّ بعضهم ابتلي ببعضها بعد.

الثالث: أنّ الآية بما لها من السياق المؤيّد بإشعار المقام إنّما تنهى عن الركون إلى الّذين ظلموا فيما هم فيه ظالمون أي بناء المسلمين دينهم الحقّ أو حياتهم الدينيّة على شي‏ء من ظلمهم و هو أن يراعوا في قولهم الحقّ و عملهم الحقّ جانب ظلمهم و باطلهم حتّى يكون في ذلك إحياء للحقّ بسبب إحياء الباطل، و مآله إلى إحياء حقّ بإماتة حقّ آخر كما تقدّمت الإشارة إليه.

و أمّا الميل إلى شي‏ء من ظلمهم و إدخاله في الدين أو إجراؤه في المجتمع الإسلاميّ أو في ظرف الحياة الشخصيّة فليس من الركون إلى الظالمين بل هو دخول في زمرة الظالمين.

و قد اختلط هذا الأمر على كثير من المفسّرين فأوردوا في المقام أبحاثاً لا تمسّ الآية أدنى مسّ، و قد أغمضنا عن إيرادها و البحث في صحّتها و سقمها إيثاراً للاختصار و من أراد الوقوف عليها فليراجع تفاسيرهم.

قوله تعالى: ( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) إلخ، طرفا النهار هو الصباح و المساء و الزلف جمع زلفى كقرب جمع قربى لفظا و معنى على ما قيل، و هو وصف سادّ مسدّ موصوفه كالساعات و نحوها، و التقدير و ساعات من اللّيل أقرب من النهار.

و المعنى أقم الصلاة في الصباح و المساء و في ساعات من الليل هي أقرب من النهار، و ينطبق من الصلوات الخمس اليوميّة على صلاة الصبح و العصر و هي صلاة المساء و المغرب و العشاء الآخرة، وقتهما زلف من الليل كما قاله بعضهم، أو على الصبح و المغرب و وقتهما طرفا النهار و العشاء الآخرة و وقتها زلف من الليل كما قاله آخرون، و قيل غير ذلك.

لكنّ البحث لمّا كان فقهيّا كان المتّبع فيه ما ورد عن النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و أئمّة أهل بيته (عليه السلام) من البيان، و سيجي‏ء في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

و قوله:( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) تعليل لقوله:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ ) و

٦١

بيان أنّ الصلوات حسنات واردة على نفوس المؤمنين تذهب بآثار المعاصي و هي ما تعتريها من السيّئات، و قد تقدّم كلام في هذا الباب في مسألة الحبط في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

و قوله:( ذلِكَ ذِكْرى‏ لِلذَّاكِرِينَ ) أي هذا الّذي ذكر و هو أنّ الحسنات يذهبن السيّئات على رفعة قدرة تذكار للمتلبّسين بذكر الله تعالى من عباده.

قوله تعالى: ( وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) ثمّ أمره (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بالصبر بعد ما أمره بالصلاة كما جمع بينهما في قوله:( وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ ) البقرة: ٤٥ و ذلك أنّ كلّا منهما في بابه من أعظم الأركان أعني الصلاة في العبادات، و الصبر في الأخلاق و قد قال تعالى في الصلاة:( وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ) العنكبوت: ٤٥ و قال في الصبر:( إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) الشورى: ٤٣.

و اجتماعهما أحسن وسيلة يستعان بها على النوائب و المكاره فالصبر يحفظ النفس عن القلق و الجزع و الانهزام، و الصلاة توجّهها إلى ناحية الربّ تعالى فتنسى ما تلقاه من المكاره، و قد تقدّم بيان في ذلك في تفسير الآية ٤٥ من سورة البقرة في الجزء الأوّل من الكتاب.

و إطلاق الأمر بالصبر يعطي أنّ المراد به الأعمّ من الصبر على العبادة و الصبر عن المعصية و الصبر عند النائبة، و على هذا يكون أمرا بالصبر على جميع ما تقدّم من الأوامر و النواهي أعني قوله:( فَاسْتَقِمْ ) ( وَ لا تَطْغَوْا ) ( وَ لا تَرْكَنُوا ) ( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ ) .

لكن إفراد الأمر و تخصيصه بالنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يفيد أنّه صبر في أمر يختصّ به و إلّا قيل: و( اصبروا ) جرياً على السياق، و هذا يؤيّد قول من قال: إنّ المراد اصبر على أذى قومك في طريق دعوتك إلى الله سبحانه و ظلم الظالمين منهم، و أمّا قوله:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ ) فإنّه ليس أمراً بما يخصّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) من الصلاة بل أمر بإقامته الصلاة بمن تبعه من المؤمنين جماعة فهو أمر لهم جميعا بالصلاة فافهم ذلك.

و قوله:( فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) تعليل للأمر بالصبر.

٦٢

قوله تعالى: ( فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ ) إلخ لو لا بمعنى هلّا و إلّا يفيد التعجيب و التوبيخ، و المعنى هلّا كان من القرون الّتي كانت من قبلكم و قد أفنيناها بالعذاب و الهلاك اُولوا بقيّة أي قوم باقون ينهون عن الفساد في الأرض ليصلحوا بذلك فيها و يحفظوا اُمّتهم من الاستئصال.

و قوله:( إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ ) استثناء من معنى النفي في الجملة السابقة فإنّ المعنى: من العجب أنّه لم يكن من القرون الماضية مع ما رأوا من آيات الله و شاهدوا من عذابه بقايا ينهون عن الفساد في الأرض إلّا قليلاً ممّن أنجينا من العذاب و الهلاك منهم فإنّهم كانوا ينهون عن الفساد.

و قوله:( وَ اتَّبَعَ الّذينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مُجْرِمِينَ ) بيان حال الباقي منهم بعد الاستثناء و هم أكثرهم و عرّفهم بأنّهم الّذين ظلموا و بيّن أنّهم اتّبعوا لذائذ الدنيا الّتي اُترفوا فيها و كانوا مجرمين.

و قد تحصّل بهذا الاستثناء و هذا الباقي الّذي ذكر حالهم تقسيم الناس إلى صنفين مختلفين: الناجون بإنجاء الله و المجرمون و لذلك عقّبه بقوله:( وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) .

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى‏ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ ) أي لم يكن من سنّته تعالى إهلاك القرى الّتي أهلها مصلحون لأنّ ذلك ظلم و لا يظلم ربّك أحداً فقوله:( بِظُلْمٍ ) قيد توضيحيّ لا احترازيّ، و يفيد أنّ سنّته تعالى عدم إهلاك القرى المصلحة لكونه من الظلم( وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ - إلى قوله -أَجْمَعِينَ ) الخلف خلاف القدّام و هو الأصل فيما اشتقّ من هذه المادّة من المشتقّات يقال: خلف أباه أي سدّ مسدّه لوقوعه بعده، و أخلف وعده أي لم يف به كأنّه جعله خلفه، و مات و خلف ابنا أي تركه خلفه، و استخلف فلانا أي طلب منه أن ينوب عنه بعد غيبته أو موته أو بنوع من العناية كاستخلاف الله

٦٣

تعالى آدم و ذرّيّته في الأرض، و خالف فلان فلانا و تخالفا إذا تفرّقا في رأي أو عمل كأنّ كلّا منهما يجعل الآخر خلفه، و تخلّف عن أمره إذا أدبر و لم يأتمر به، و اختلف القوم في كذا إذا خالف بعضهم بعضا فيه فجعله خلفه، و اختلف القوم إلى فلان إذا دخلوا عليه واحداً بعد واحد، و اختلف فلان إلى فلان إذا دخل عليه مرّات كلّ واحدة بعد اُخرى.

ثمّ الاختلاف و يقابله الاتّفاق من الاُمور الّتي لا يرتضيها الطبع السليم لما فيه من تشتيت القوى و تضعيفها و آثار اُخرى غير محمودة من نزاع و مشاجرة و جدال و قتال و شقاق كلّ ذلك يذهب بالأمن و السلام غير أنّ نوعاً منه لا مناص منه في العالم الإنسانيّ و هو الاختلاف من حيث الطبائع المنتهية إلى اختلاف البنى فإنّ التركيبات البدنيّة مختلفة في الأفراد و هو يؤدّي إلى اختلاف الاستعدادات البدنيّة و الروحيّة و بانضمام اختلاف الأجواء و الظروف إلى ذلك يظهر اختلاف السلائق و السنن و الآداب و المقاصد و الأعمال النوعيّة و الشخصيّة في المجتمعات الإنسانيّة، و قد أوضحت الأبحاث الاجتماعيّة أن لو لا ذلك لم يعش المجتمع الإنسانيّ و لا طرفة عين.

و قد ذكره الله تعالى في كتابه و نسبه إلى نفسه حيث قال:( نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ) الزخرف: ٣٢. و لم يذمّه تعالى في شي‏ء من كلامه إلّا إذا صحب هوى النفس و خالف هدى العقل.

و ليس منه الاختلاف في الدين فإنّ الله سبحانه يذكر أنّه فطر الناس على معرفته و توحيده و سوّى نفس الإنسان فألهمها فجورها و تقواها، و أنّ الدين الحنيف هو من الفطرة الّتي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، و لذلك نسب الاختلاف في الدين في مواضع من كلامه إلى بغي المختلفين فيه و ظلمهم( فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) .

و قد جمع الله الاختلافين في قوله:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ

٦٤

مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ - و هذا هو الاختلاف الأوّل في الحياة و المعيشة - و ما اختلف فيه - و هذا هو الاختلاف الثاني في الدين -إِلَّا الّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ) البقرة: ٢١٣ فهذا ما يعطيه كلامه تعالى في معنى الاختلاف.

و الّذي ذكره بقوله:( وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ) يريد به رفع الاختلاف من بينهم و توحيدهم على كلمة واحدة يتّفقون فيه، و من المعلوم أنّه ناظر إلى ما ذكره تعالى في الآيات السابقة على هذه الآية من اختلافهم في أمر الدين و انقسامهم إلى طائفة أنجاهم الله و هم قليل و طائفة اُخرى و هم الّذين ظلموا.

فالمعنى أنّهم و إن اختلفوا في الدين فإنّهم لم يعجزوا الله بذلك و لو شاء الله لجعل الناس اُمّة واحدة لا يختلفون في الدين فهو نظير قوله:( وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) النحل: ٩ و قوله:( أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الّذينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيع ) الرعد: ٣١.

و على هذا فقوله:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) إنّما يعني به الاختلاف في الدين فحسب فإنّ ذلك هو الّذي يذكر لنا أن لو شاء لرفعه من بينهم، و الكلام في تقدير: لو شاء الله لرفع الاختلاف من بينهم لكنه لم يشأ ذلك فهم مختلفون دائما.

على أنّ قوله:( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) يصرّح أنّه رفعه عن طائفة رحمهم، و الاختلاف في غير الدين لم يرفعه الله تعالى حتّى عن الطائفة المرحومة، و إنّما رفع عنهم الاختلاف الدينيّ الّذي يذمّه و ينسبه إلى البغي بعد العلم بالحقّ.

و قوله:( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) استثناء من قوله:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) أي الناس يخالف بعضهم بعضا في الحقّ أبداً إلّا الّذين رحمهم الله فإنّهم لا يختلفون في الحقّ و لا يتفرّقون عنه، و الرحمة هي الهداية الإلهيّة كما يفيده قوله:( فَهَدَى اللَّهُ الّذينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ) البقرة: ٢١٣.

فإن قلت: معنى اختلاف الناس أن يقابل بعضهم بعضا بالنفي و الإثبات

٦٥

فيصير معنى قوله:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) أنّهم منقسمون دائماً إلى محقّ و مبطل، و لا يصحّ حينئذ ورود الاستثناء عليه إلّا بحسب الأزمان دون الأفراد و ذلك أنّ انضمام قوله:( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) إليه يؤوّل المعنى إلى مثل قولنا: إنّهم منقسمون دائماً إلى مبطلين و محقّين إلّا من رحم ربّك منهم فإنّهم لا ينقسمون إلى قسمين، بل يكونون محقّين فقط، و من المعلوم أنّ المستثنين منهم هم المحقّون فيرجع معنى الكلام إلى مثل قولنا: إنّ منهم مبطلين و محقّين و المحقّون محقّون لا مبطل فيهم، و هذا كلام لا فائدة فيه.

على أنّه لا معنى لاستثناء المحقّين من حكم الاختلاف أصلاً و هم من الناس المختلفين، و الاختلاف قائم بهم و بالمبطلين معا.

قلت: الاختلاف المذكور في هذه الآية و سائر الآيات المتعرّضة له الذامّة لأهله إنّما هو الاختلاف في الحقّ و مخالفة البعض للبعض في الحقّ و إن كانت توجب كون بعض منهم على الحقّ و على بصيرة من الأمر لكنّه إذا نسب إلى المجموع و هو المجتمع كان لازمه ارتياب المجتمع و تفرّقهم عن الحقّ و عدم اجتماعهم عليه و تركهم إيّاه بحياله، و مقتضاه اختفاء الحقّ عنهم و ارتيابهم فيه.

و الله سبحانه إنّما يذمّ الاختلاف من جهة لازمة هذا و هو التفرّق و الإعراض عن الحقّ و الآيات تشهد بذلك فإنّه تعالى يذمّ فيها جميع المختلفين باختلافهم لا المبطلين من بينهم فلو لا أنّ المراد بالمختلفين أهل الآراء أو الأعمال المختلفة الّتي تفرّقهم عن الحقّ لم يصحّ ذلك.

و من أحسن ما يؤيّده قوله تعالى:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الّذي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) الشورى: ١٣ حيث عبّر عن الاختلاف بالتفرّق، و كذا قوله:( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) الأنعام: ١٥٣ و هذا أوضح دلالة من سابقه فإنّه يجعل أهل الحقّ الملازمين لسبيله خارجا من أهل التفرّق و الاختلاف.

٦٦

و لذلك ترى أنّه سبحانه في غالب ما يذكر اختلافهم في الكتاب يردفه بارتيابهم فيه كقوله فيما مرّ من الآيات:( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) آية: ١١٠ من السورة و قد كرّر هذا المعنى في مواضع من كلامه.

و قال تعالى:( عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الّذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) النبأ: ٣ أي يأتي فيه كلّ بقول يبعّدهم من الحقّ فيتفرّقون و قال:( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ) الذاريات: ١٠ أي قول لا يقف على وجه و لا يبتني على علم بل الخرص و الظنّ هو الّذي أوجده فيكم.

و في هذا المعنى قوله تعالى:( يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) آل عمران: ٧١ فإنّ هذا اللبس المذموم منهم إنّما كان بإظهار قول يشبه الحقّ و ليس به و هو إلقاء التفرّق الّذي يختفي به الحقّ.

فالمراد باختلافهم إيجادهم أقوالا و آراء يتفرّقون بها عن الحقّ و يظهر بها الريب فهم لاتّباعهم أهواءهم المخالفة للحقّ يظهرون آراءهم الباطلة في صور متفرّقة تضاهي صورة الحقّ ليحجبوه عن أفهام الناس بغيا و عدوانا بعد علمهم بالحقّ فهو اختلافهم في الحقّ بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.

و يتبيّن بما تقدّم على طوله أنّ الإشارة بقوله:( وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) إلى الرحمة المدلول عليه بقوله:( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) و التأنيث اللفظي في لفظ الرحمة لا ينافي تذكير اسم الإشارة لأنّ المصدر جائز الوجهين، قال تعالى:( إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) الأعراف: ٥٦ و ذلك لأنّك عرفت أنّ هذا الاختلاف بغي منهم يفرّقهم عن الحقّ و يستره و يظهر الباطل و لا يجوز كون الباطل غاية حقيقيّة للحقّ تعالى في خلقه، و لا معنى لأن يوجد الله سبحانه العالم الإنسانيّ ليبغوا و يميتوا الحقّ و يحيوا الباطل فيهلكهم ثمّ يعذّبهم بنار خالدة، فالقرآن الكريم يدفع هذا بجميع بياناته.

على أنّ سياق الآيات - مع الغضّ عمّا ذكر - يدفع ذلك فإنّها في مقام بيان

٦٧

أنّ الله تعالى يدعو الناس برأفته و رحمته إلى ما فيه خيرهم و سعادتهم من غير أن يريد بهم ظلما و لا شرّا، و لكنّهم بظلمهم و اختلافهم في الحقّ يستنكفون عن دعوته، و يكذّبون بآياته، و يعبدون غيره، و يفسدون في الأرض فيستحقّون العذاب، و ما كان ربّك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون، و لا أن يخلقهم ليبغوا و يفسدوا فيهلكهم فالّذي منه هو الرحمة و الهداية، و الّذي من بغيهم و اختلافهم و ظلمهم يرجع إليهم أنفسهم، و هذا هو الّذي يعطيه سياق الآيات.

و كون الرحمة أعني الهداية غاية مقصودة في الخلقة إنّما هو لاتّصالها بما هو الغاية الأخيرة و هو السعادة كما في قوله حكاية عن أهل الجنّة:( وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الّذي هَدانا لِهذا ) الأعراف: ٤٣ و هذا نظير عدّ العبادة غاية لها لاتّصالها بالسعادة في قوله:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات: ٥٦.

و قوله:( وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) أي حقّت كلمته تعالى و أخذت مصداقها منهم بما ظلموا و اختلفوا في الحقّ من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، و الكلمة هي قوله:( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ) إلخ.

و الآية نظيره قوله:( وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ) الم السجدة: ١٣ و الأصل في هذه الكلمة ما ألقاه الله تعالى إلى إبليس لعنه الله إذ قال:( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) ص: ٨٥ و الآيات متّحدة المضمون يفسّر بعضها بعضا.

هذه جملة ما يعطيه التدبّر في معنى الآيتين و قد تلخّص بذلك:

أوّلا أنّ المراد بقوله:( وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ) توحيدهم برفع التفرّق و الخلاف من بينهم و قيل: إنّ المراد هو الإلجاء إلى الإسلام و رفع الاختيار لكنّه ينافي التكليف و لذلك لم يفعل و نسب إلى قتادة، و قيل: المعنى لو شاء لجمعكم في الجنّة لكنّه أراد بكم أعلى الدرجتين لتدخلوه بالاكتساب ثوابا لأعمالكم، و نسب إلى أبي مسلم. و أنت خبير بأنّ سياق الآيات لا يساعد على شي‏ء

٦٨

من المعنيين.

و ثانياً: أنّ المراد بقوله:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) دوامهم على الاختلاف في الدين و معناه التفرّق عن الحقّ و ستره بتصويره في صور متفرّقة باطلة تشبه الحقّ. و قال بعضهم: هو الاختلاف في الأرزاق و الأحوال و بالجملة الاختلاف غير الدينيّ و نسب إلى الحسن. و قد عرفت أنّه أجنبيّ من سياق الآيات السابقة. و قال آخرون: إنّ معنى( مُخْتَلِفِينَ ) يخلف بعضهم بعضا في تقليد أسلافهم و تعاطي باطلهم، و هو كسابقه أجنبيّ من مساق الآيات و فيها قوله:( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ) الآية.

و ثالثاً: أنّ المراد بقوله:( إِلَّا مَنْ رَحِمَ ) إلّا من هداه الله من المؤمنين.

و رابعاً: أنّ الإشارة بقوله:( وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) إلى الرحمة و هي الغاية الّتي أرادها الله من خلقه ليسعدوا بذلك سعادتهم. و ذكر بعضهم. أنّ المعنى خلقهم للاختلاف و نسب إلى الحسن و عطاء. و قد عرفت أنّه سخيف رديّ جدّاً نعم لو جاز عود ضمير( خلقهم ) إلى الباقي من الناس بعد الاستثناء جاز عدّ الاختلاف غاية لخلقهم و كانت الآية قريبة المضمون من قوله:( وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ ) الآية الأعراف: ١٧٩.

و ذكر آخرون: أنّ الإشارة إلى مجموع ما يدلّ عليه الكلام من مشيّته تعالى في خلقهم مستعدّين للاختلاف و التفرّق في علومهم و معارفهم و آرائهم و شعورهم و ما يتبع ذلك من إرادتهم و اختيارهم في أعمالهم و من ذلك الدين و الإيمان و الطاعة و العصيان، و بالجملة الغاية هو مطلق الاختلاف أعمّ ممّا في الدين أو في غيره.

و نسب إلى ابن عبّاس بناء على ما روي عنه أنّه قال: خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف، و فريقا لا يرحم فيختلف، و إلى مالك بن أنس إذ قال في معنى الآية: خلقهم ليكون فريق في الجنّة و فريق في السعير، و قد عرفت ما فيه من وجوه السخافة فلا نطيل بالإعادة.

و خامساً: أنّ المراد بتمام الكلمة هو تحقّقها و أخذها مصداقها.

٦٩

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ إِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ ) الآية قال: قال (عليه السلام): في القيامة.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبوالشيخ عن الحسن قال: لمّا نزلت هذه الآية:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ ) قال: شمّروا شمّروا فما رؤي ضاحكا.

و في المجمع في قوله تعالى:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) الآية قال ابن عبّاس: ما نزل على رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) آية كانت أشدّ عليه و لا أشقّ من هذه الآية، و لذلك‏ قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إليك الشيب يا رسول الله. شيّبتني هود و الواقعة.

أقول: و الحديث مشهور في بعض الألفاظ شيّبتني هود و أخواتها، و عدم اشتمال الواقعة على ما يناظر قوله:( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) الآية يبعّد أن تكون إليه الإشارة في الحديث، و المشترك فيه بين السورتين حديث القيامة و الله أعلم.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لا تَرْكَنُوا ) الآية قال: قال (عليه السلام): ركون مودّة و نصيحة و طاعة.

أقول: و رواه أيضاً في المجمع، مرسلا عنهم (عليه السلام).

و في تفسير العيّاشيّ، عن عثمان بن عيسى عن رجل عن أبي عبدالله (عليه السلام):( وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الّذينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) قال: أمّا إنّه لم يجعلها خلودا و لكن( فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ) فلا تركنوا إليهم.

أقول: أي و لكن قال: تمسّكم النار فجعله مسّاً.

و فيه عن جرير عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال:( أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ) و طرفاه المغرب و الغداة( وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) و هي صلاة العشاء الآخرة.

و في التهذيب، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في حديث في الصلوات

٧٠

الخمس اليوميّة: و قال تعالى في ذلك( أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) و هي صلاة العشاء الآخرة.

أقول: الحديث لا يخلو من ظهور في تفسير طرفي النهار بما قبل الظهر و ما بعدها ليشمل أوقات الخمس.

و في المعاني، بإسناده عن إبراهيم بن عمر عمّن حدّثه عن أبي عبدالله (عليه السلام): في قول الله عزّوجلّ:( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) قال: صلاة المؤمن بالليل تذهب بما عمل من ذنب النهار:.

أقول: و الحديث مرويّ في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، و أمالي المفيد، و أمالي الشيخ.

و في المجمع، عن الواحديّ بإسناده عن حمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان تحت شجرة فأخذ غصنا يابساً منها فهزّه حتّى تحاتّ ورقه ثمّ قال: يا أباعثمان ألا تسألني لم أفعل هذا؟ قلت: و لم تفعله؟ قال: هكذا فعله رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و أنا معه تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا فهزّه حتّى تحاتّ ورقه، ثمّ قال: ألا تسألني يا سلمان لم أفعل هذا؟ قلت: و لم فعلته؟ قال: إنّ المسلم إذا توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ صلّى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما تحاتّ هذا الورق. ثمّ قرأ هذه الآية: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إلى آخرها.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن الطيالسيّ و أحمد و الدارميّ و ابن جرير و الطبرانيّ و البغوي في معجمه، و ابن مردويه غير مسلسل.

و فيه، عنه بإسناده عن الحارث عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال: كنّا مع رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) في المسجد ننتظر الصلاة فقام رجل فقال: يا رسول الله إنّي أصبت ذنبا، فأعرض عنه فلمّا قضى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) الصلاة قام الرجل فأعاد القول فقال النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): أ ليس قد صلّيت معنا هذه الصلاة و أحسنت لها الطهور؟ قال: بلى. قال: فإنّها كفّارة ذنبك.

أقول: و الرواية مرويّة بطرق كثيرة عن ابن مسعود و أبي أمامة و معاذ بن

٧١

جبل و ابن عبّاس و بريدة و واثلة بن الأسقع و أنس و غيرهم و في سرد القصّة اختلاف مّا في ألفاظهم، و رواه الترمذيّ و غيره عن أبي اليسر و هو صاحب القصّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي حمزة الثماليّ قال: سمعت أحدهما (عليهما السلام) يقول: إنّ عليّا (عليه السلام) أقبل على الناس فقال: أيّ آية في كتاب الله أرجى عندكم؟ فقال بعضهم:( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) قال: حسنة و ليست إيّاها. فقال بعضهم:( يا عِبادِيَ الّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ) قال: حسنة و ليست إيّاها. و قال بعضهم:( وَ الّذينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ) قال: حسنة و ليست إيّاها.

قال: ثمّ أحجم الناس فقال: ما لكم يا معشر المسلمين؟ قالوا: لا و الله ما عندنا شي‏ء. قال: سمعت رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يقول: أرجى آية في كتاب الله:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) و قرأ الآية كلّها، و قال: يا عليّ و الّذي بعثني بالحقّ بشيرا و نذيرا إنّ أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط من جوارحه الذنوب فإذا استقبل بوجهه و قلبه لم ينفتل عن صلاته و عليه من ذنوبه شي‏ء كما ولدته اُمّه فإذا أصاب شيئاً بين الصلاتين كان له مثل ذلك حتّى عدّ الصلوات الخمس.

ثمّ قال: يا عليّ إنّما منزلة الصلوات الخمس لاُمّتي كنهر جار على باب أحدكم فما ظنّ أحدكم لو كان في جسده درن ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات في اليوم؟ أ كان يبقى في جسده درن؟ فكذلك و الله الصلوات الخمس لاُمّتي.

أقول: و قد روي المثل المذكور في آخر الحديث من طرق أهل السنّة عن عدّة من الصحابة كأبي هريرة و أنس و جابر و أبي سعيد الخدريّ عنه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم).

و فيه، عن إبراهيم الكرخي قال: كنت عند أبي عبدالله (عليه السلام) فدخل عليه رجل من أهل المدينة فقال له أبو عبدالله (عليه السلام): يا فلان من أين جئت؟ قال: و لم يقل في جوابه، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): جئت من هنا و هاهنا. انظر بما تقطع به يومك فإنّ معك ملكا موكّلا يحفظ و يكتب ما تعمل فلا تحتقر سيّئة و إن كانت صغيرة فإنّها ستسوؤك يوما، و لا تحتقر حسنة فإنّه ليس شي‏ء أشدّ طلبا من الحسنة

٧٢

إنّها تدرك الذنب العظيم القديم فتحذفه و تسقطه و تذهب به بعدك، و ذلك قول الله( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى‏ لِلذَّاكِرِينَ )

و فيه، عن سماعة بن مهران قال: سأل أباعبدالله (عليه السلام) رجل من أهل الجبال عن رجل أصاب مالاً من أعمال السلطان فهو يتصدّق منه و يصل قرابته و يحجّ ليغفر له ما اكتسب، و هو يقول:( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) . فقال أبوعبدالله (عليه السلام): إنّ الخطيئة لا تكفّر الخطيئة و لكن الحسنة تكفّر الخطيئة.

ثمّ قال أبوعبدالله (عليه السلام): إن خلط الحلال حراما فاختلطا جميعا فلم يعرف الحلال من الحرام فلا بأس.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و الطبرانيّ عن أبي أمامة قال: قال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): ما من امرء مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيقوم فيتوضّأ فيحسن الوضوء و يصلّي فيحسن الصلاة إلّا غفرت له ما بينها و بين الصلاة الّتي كانت قبلها من ذنوبه.

أقول: و الروايات في هذا الباب كثيرة من أراد استقصاءها فليراجع جوامع الحديث.

و فيه، أخرج الطبرانيّ و أبوالشيخ و ابن مردويه و الديلميّ عن جرير قال: سمعت رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) يسأل عن تفسير هذه الآية:( وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى‏ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ ) فقال رسول الله (صلّي الله و عليه وآله وسلّم): و أهلها ينصف بعضهم بعضا.

و في الكافي، بإسناده عن عبدالله بن سنان قال: سئل أبوعبدالله (عليه السلام) عن قول الله تعالى:( وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) فقال: كانوا اُمّة واحدة فبعث الله النبيّين ليتّخذ عليهم الحجّة.

أقول: و رواه الصدوق في المعاني، عنه (عليه السلام) مثله.

و في المعاني، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أباعبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزّوجلّ:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة، قال: و سألته عن قوله عزّوجلّ:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) قال: خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم.

٧٣

و في تفسير القمّيّ عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) يعني آل محمد و أتباعهم يقول الله:( وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) يعني أهل الرحمة لا يختلفون في الدين.

و في تفسير العيّاشيّ، عن يعقوب بن سعيد عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) قال: خلقهم للعبادة. قال: قلت: قوله:( وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) قال: نزلت هذه بعد تلك.

أقول: يشير إلى كون الآية الثانية أعني قوله:( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) لكونها خاصّة ناسخة للآية الاُولى العامّة، و قد تقدّم في الكلام على النسخ أنّه في عرفهم (عليه السلام) أعمّ ممّا اصطلح عليه علماء الاُصول، و الآيات الخاصّة التكوينيّة ظاهرة في حكمها على الآيات العامّة فإنّ العوامل و الأسباب الخاصّة أنفذ حكما من العامّة فافهمه.

٧٤

( سورة هود الآيات ١٢٠ - ١٢٣)

وَكُلّاً نَقُصّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرّسُلِ مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ( ١٢٠) وَقُل لِلّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى‏ مَكَانَتِكُمْ إِنّا عَامِلُونَ( ١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ( ١٢٢) وَللّهِ‏ِ غَيْبُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبّكَ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ( ١٢٣)

( بيان‏)

الآيات تلخّص للنبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) القول في غرض السورة المسرودة له آياتها، و تنبّؤه أنّ السورة تبيّن له حقّ القول في المبدأ و المعاد و سنّة الله الجارية في عباده فهي بالنسبة إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) تعليم للحقّ، و بالنسبة إلى المؤمنين موعظة و ذكرى، و بالنسبة إلى الكافرين المستنكفين عن الإيمان قطع خصام، فقل لهم آخر ما تحاجّهم: اعملوا بما ترون و نحن عاملون بما نراه، و ننتظر جميعا صدق ما قصّ الله علينا من سنّته الجارية في خلقه من إسعاد المصلحين و إشقاء المفسدين، و تختم بأمره (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) بعبادته و التوكّل عليه لأنّ الأمر كلّه إليه.

قوله تعالى: ( وَ كُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ) إلى آخر الآية أي و كلّ القصص نقصّ عليك تفصيلاً أو إجمالاً، و قوله:( مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ) بيان لما اُضيف إليه كلّ، و قوله:( ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ) عطف بيان للأنباء اُشير به إلى فائدة القصص بالنسبة إليه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و هو تثبيت فؤاده و حسم مادّة القلق و الاضطراب منه.

٧٥

و المعنى نقصّ عليك أنباء الرسل لنثبّت به فؤادك و نربط جأشك في ما أنت عليه من سلوك سبيل الدعوة إلى الحقّ، و النهضة على قطع منابت الفساد، و المحنة من أذى قومك.

ثمّ ذكر تعالى من فائدة السورة ما يعمّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) و قومه مؤمنين و كافرين فقال فيما يرجع إلى النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) من فائدة نزول السورة:( وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ ) و الإشارة إلى السورة أو إلى الآيات النازلة فيها أو الإنباء على وجه، و مجي‏ء الحقّ فيها هو ما بيّن الله تعالى في ضمن القصص و قبلها و بعدها من حقائق المعارف في المبدأ و المعاد و سنّته تعالى الجارية في خلقه بإرسال الرسل و نشر الدعوة ثمّ إسعاد المؤمنين في الدنيا بالنجاة، و في الآخرة بالجنّة، و إشقاء الظالمين بالأخذ في الدنيا و العذاب الخالد في الآخرة.

و قال فيما يرجع إلى المؤمنين:( وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى‏ لِلْمُؤْمِنِينَ ) فإنّ فيما ذكر فيها من حقائق المعارف تذكرة للمؤمنين يذكرون بها ما نسوه من علوم الفطرة في المبدأ و المعاد و ما يرتبط بهما، و فيما ذكر فيها من القصص و العبر موعظة يتّعظون بها.

قوله تعالى: ( وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى‏ مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ) و هذا فيما يرجع إلى غير المؤمنين يأمر نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يختم الحجاج معهم و يقطع خصامهم بعد ما تلا القصص عليهم بهذه الجمل فيقول لهم: أمّا إذا لم تؤمنوا و لم تنقطعوا عن الشرك و الفساد بما ألقيت إليكم من التذكرة و العبر و لم تصدّقوا بما قصّه الله من أنباء الاُمم و أخبر به من سنّته الجارية فيهم فاعملوا على ما أنتم عليه من المكانة و المنزلة، و بما تحسبونه خيراً لكم إنّا عاملون، و انتظروا ما سيستقبلكم من عاقبة عملكم إنّا منتظرون فسوف تعرفون صدق النبإ الإلهيّ و كذبه.

و هذا قطع للخصام و نوع تهديد أورده الله في القصص الماضية قصّة نوح و هود و صالح (عليه السلام)، و في قصّة شعيب (عليه السلام) حاكيا عنه:( وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى‏

٧٦

مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ وَ ارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) آية : ٩٣ من السورة.

قوله تعالى: ( وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ) لمّا كان أمره تعالى نبيّه (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) أن يأمرهم بالعمل بما تهوى أنفسهم و الانتظار، و إخبارهم بأنّه و من آمن معه عاملون و منتظرون، في معنى أمره و من تبعه بالعمل و الانتظار عقّبه بهاتين الجملتين ليكون على طيب من النفس و ثبات من القلب من أنّ الدائرة ستكون له عليهم.

و المعنى فاعمل و انتظر أنت و من تبعك فغيب السماوات و الأرض الّذي يتضمّن عاقبة أمرك و أمرهم إنّما يملكه ربّك الّذي هو الله سبحانه دون آلهتهم الّتي يشركون بها و دون الأسباب الّتي يتوكّلون عليها حتّى يديروا الدائرة لأنفسهم و يحوّلوا العاقبة إلى ما ينفعهم، و إلى ربّك الّذي هو الله يرجع الأمر كلّه فيظهر من غيبه عاقبة الأمر على ما شاءه و أخبر به، فالدائرة لك عليهم، و هذا من عجيب البيان.

و من هنا يظهر وجه تبديل قوله:( رَبُّكَ ) المكرّر في هذه الآيات بلفظ الجلالة( الله ) لأنّ فيه من الإشعار بالإحاطة بكلّ ما دقّ و جلّ ما ليس في غيره، و المقام يقتضي الاعتماد و الالتجاء إلى ملجاء لا يقهره قاهر و لا يغلب عليه غالب، و هو الله سبحانه و لذلك ترى أنّه يعود بعد انقضاء هذه الجمل إلى ما كان يكرّره من صفة الربّ، و هو قوله:( وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .

قوله تعالى: ( فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) الظاهر أنّه تفريع لقوله:( وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ) أي إذا كان الأمر كلّه مرجوعا إليه تعالى فلا يملك غيره شيئاً و لا يستقلّ بشي‏ء فاعبده سبحانه و اتّخذه وكيلا في جميع الاُمور و لا تتوكّل على شي‏ء من الأسباب دونه لأنّها أسباب بتسبيبه غير مستقلّة دونه، فمن الجهل الاعتماد على شي‏ء منها. و ما ربّك بغافل عمّا تعملون فلا يجوز التساهل في عبادته و التوكّل عليه.

٧٧

( سورة يوسف مكّيّة و هي مائة و إحدى عشرة آية)

( سورة يوسف الآيات ١ - ٣)

.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ( ١) إِنّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ( ٢) نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنْتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ( ٣)

( بيان‏)

غرض السورة بيان ولاية الله لعبده الّذي أخلص إيمانه له تعالى إخلاصا و امتلأ بمحبّته تعالى لا يبتغي له بدلا و لم يلو إلى غيره تعالى من شي‏ء، و أنّ الله تعالى يتولّى هو أمره فيربّيه أحسن تربية فيورده مورد القرب و يسقيه فيرويه من مشرعة الزلفى فيخلصه لنفسه و يحييه حياة إلهيّة و إن كانت الأسباب الظاهرة أجمعت على هلاكه، و يرفعه و إن توفّرت الحوادث على ضعته، و يعزّه و إن دعت النوائب و رزايا الدهر إلى ذلّته و حطّ قدره.

و قد بيّن تعالى ذلك بسرد قصّة يوسف الصدّيق (عليه السلام) - و لم يرد في سور القرآن الكريم تفصيل قصّة من القصص باستقصائها من أوّلها إلى آخرها غير قصّته (عليه السلام) - و قد خصّت السورة بها من غير شركة مّا من غيرها.

فقد كان (عليه السلام) عبداً مخلصا في عبوديّته فأخلصه الله لنفسه و أعزّه بعزّته و

٧٨

قد تجمّعت الأسباب على إذلاله و ضعته فكلّما ألقته في إحدى المهالك أحياه الله تعالى من نفس السبيل الّتي كانت تسوقه إلى الهلاكة: حسده إخوته فألقوه في غيابة الجبّ ثمّ شروه بثمن بخس دراهم معدودة فذهب به ذلك إلى مصر و أدخله في بيت الملك و العزّة، راودته الّتي هو في بيتها عن نفسه و اتّهمته عند العزيز و لم تلبث دون أن اعترفت عند النسوة ببراءته ثمّ اتّهمته و أدخلته السجن فكان ذلك سبب قربه عند الملك، و كان قميصه الملطّخ بالدم الّذي جاؤا به إلى أبيه يعقوب أوّل يوم هو السبب الوحيد في ذهاب بصره فصار قميصه بعينه و قد أرسله بيد إخوته من مصر إلى أبيه آخر يوم هو السبب في عود بصره إليه، و على هذا القياس.

و بالجملة كلّما نازعه شي‏ء من الأسباب المخالفة أو اعترضه في طريق كماله جعل الله تعالى ذلك هو السبب في رشد أمره و نجاح طلبته، و لم يزل سبحانه يحوّله من حال إلى حال حتّى آتاه الحكم و الملك و اجتباه و علّمه من تأويل الأحاديث و أتمّ نعمته عليه كما وعده أبوه.

و قد بدأ الله سبحانه قصّته بذكر رؤيا رآها في بادئ الأمر و هو صبيّ في حجر أبيه و الرؤيا من المبشّرات ثمّ حقّق بشارته و أتمّ كلمته فيه بما خصّه به من التربية الإلهيّة، و هذا هو شأنه تعالى في أوليائه كما قال تعالى:( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ الّذينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى‏ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) يونس: ٦٤.

و في قوله تعالى بعد ذكر رؤيا يوسف و تعبير أبيه (عليه السلام) لها:( لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ ) إشعار بأنّه كان هناك قوم سألوا النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عمّا يرجع إلى هذه القصّة، و هو يؤيّد ما ورد أنّ قوما من اليهود بعثوا مشركي مكّة أن يسألوا النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم) عن سبب انتقال بني إسرائيل إلى مصر و قد كان يعقوب (عليه السلام) ساكنا في أرض الشام فنزلت السورة.

و على هذا فالغرض بيان قصته (عليه السلام) و قصّة آل يعقوب، و قد استخرج تعالى ببيانه ما هو الغرض العالي منها و هو طور ولاية الله لعباده المخلصين كما هو اللائح من

٧٩

مفتتح السورة و مختتمها، و السورة مكّيّة على ما يدلّ عليه سياق آياتها، و ما ورد في بعض الروايات عن ابن عبّاس أنّ أربعاً من آياتها مدنيّة، و هي الآيات الثلاث الّتي في أوّلها، و قوله( لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ ) مدفوع بما تشتمل عليه من السياق الواحد.

قوله تعالى: ( الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ ) الإشارة بلفظ البعيد للتعظيم و التفخيم، و الظاهر أن يكون المراد بالكتاب المبين هذا القرآن المتلوّ و هو مبين واضح في نفسه و مبين موضح لغيره ما ضمّنه الله تعالى من المعارف الإلهيّة و حقائق المبدأ و المعاد.

و قد وصف الكتاب في الآية بالمبين لا كما في قوله في أوّل سورة يونس:( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ) لكون هذه السورة نازلة في شأن قصّة آل يعقوب و بيانها، و من المحتمل أن يكون المراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) الضمير للكتاب بما أنّه مشتمل على الآيات الإلهيّة و المعارف الحقيقيّة، و إنزاله قرآناً عربيّاً هو إلباسه في مرحلة الإنزال لباس القراءة و العربيّة، و جعله لفظاً متلوّاً مطابقاً لما يتداوله العرب من اللغة كما قال تعالى في موضع آخر( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: ٤.

و قوله:( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) من قبيل توسعة الخطاب و تعميمه فإنّ السورة مفتتحة بخطاب النبيّ (صلّي الله و عليه وآله وسلّم):( تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ ) ، و على ذلك يجري بعد كما في قوله:( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) إلخ.

فمعنى الآية - والله أعلم - إنّا جعلنا هذا الكتاب المشتمل على الآيات في مرحلة النزول ملبسا بلباس اللفظ العربيّ محلّى بحليته ليقع في معرض التعقّل منك و من قومك أو اُمّتك، و لو لم يقلب في وحيه في قالب اللفظ المقروّ أو لم يجعل عربيّا مبينا لم يعقل قومك ما فيه من أسرار الآيات بل اختصّ فهمه بك لاختصاصك بوحيه و تعليمه.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

هم أهلُ بيت رسول الله جدّهم

أجر الرسالة عند الله ودّهمُ

هم الأئمّة دان العالمون لهم

حتّی أقرّ لهم بالفضل ضدّهم

سعت أعاديهم في حطّ قدرهم

فازداد شأناً ومنه ازداد حقدهم

ونابذوهم علی علمٍ ومعرفةٍ

منهم بأنّ رسول الله جدّهم

كأنّ قربهم من جدّهم سببٌ

للبُعد عنهم وإنّ القربَ بعدهمُ

لو أنّهم أُمروا بالبغض ما صنعوا

فوق الذي صنعوا والجدّ جدّهمُ(١)

ولاشكّ عندنا في جواز اللعن، بل وجوبه علی قتلة العترة الطاهرة وظلمتهم، وقد دلّ عليه الكتاب والسنّة المتواترة، والإجماع من الإمامية(٢) والعقل المستقيم، والذوق السليم، والعجب ممّن أنكر هذا الحكم مع وضوحه

________________________

١ ـ وقال السيّد محمّد كاظم الكفائي في كتابه الزهراء في مقدّمة الجزء الثاني ص ٢٠٥ ط قم، الأمين، من قصيدة طويلة قال فيها :

تركوا الحقّ الذي أسّسته

ومشوْا في مسلكٍ لن يُحمدا

بدّلوا الحبَّ الذي أوجبه

الله للآل عليهم بالعِدا

تبعوا العجلَ الذي حذّرتهم

منه أنْ يصبحَ فيهم مُقتدیٰ

نبذوا الحقّ ومِن جهلهم

أنْ يكونَ العبدُ فيهم سيّدا

٢ ـ أحيل القارئ الكريم إلی كتاب (نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت) للمحقّق الكركي (أعلی الله مقامه الشريف) لأنّه كتابٌ علمي رصين مشبع بالأدلّة الدامغة من القرآن الكريم والسنّة الشريفة علی جواز بل استحباب لعن الخلفاء الغاصبين للخلافة من أهلها الشرعيين حيث فصّل تفصيلاً يُثلج صدور المؤمنين، ويشفي قلوب الموقنين، ويُزيد حقد المنافقين فراجع لكي تقف علی شرعية لعنهم (لعنهم الله)

١٢١

وهم شرذمة من مخالفينا فزعموا أنّ المسلم لا يجوز لعنه مطلقاً، وإنّ يزيد وأضرابه من ظالمي آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا مسلمين، وللغزالي قبل تشيّعه(١) في المقام كلمات واهية يشمّ منها رائحة الكفر يستحي القلم من تحريرها، واللسان

________________________

١ ـ راجع كتابه إحياء علوم الدِّين ج ٣، ص ١٢١، بحيث أفتیٰ فيه بحرمة لعن قاتل الإمام الحسينعليه‌السلام سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

وأمّا قصّة تشيّع الغزالي فقد ذكرها السيّد محمّد الشيرازيقدس‌سره في كتابه حقائق من تاريخ العلماء ص ١٣ ط : الكويت، قال: (بعدما قرّر الغزالي مغادرة بغداد لينتقل بين العواصم الإسلامية الأخری، فيشاء القدر أن يلتقي في إحدی رحلاته بالسيّد مرتضی الرازي ـ ليس شقيق السيد الرضي ـ فيطلب منه الغزالي المناظرة في مسألة الإمامة، فلم يمانع السيّد المرتضیٰ، لكنّه اشترط علی الغزالي ألا يقاطعه في الحديث قبل استيفاء كلامه، ووافق أبو حامد الغزالي علی هذا الشرط

ابتدأت المحاورة، وأنصت الغزالي إلی المرتضی، الذي جعل يُقيم الأدلّة والبراهين علی أحقّية أمير المؤمنينعليه‌السلام بالخلافة

وبين الحين والآخر كانت محاولات الغزالي للمقاطعة تبوء بالفشل، لأنّ المرتضی لم يكن يعطي له الفرصة لذلك بل كان يستمرّ في سرد أدلّته، حسب الشرط الذي اتّفقا عليه وهكذا تكرّرت الجلسات بين العَلَمين، إلی أن أسفرت في النهاية عن انضمام الغزالي إلی مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام اعترض التلاميذ علی أستاذهم وتعجّبوا منه كيف استطاع المرتضی أن يدخله معه في مذهبه في تلك الفترة القصيرة

غير أنّ استاذهم أجابهم في تواضع وهدوء : لقد كان المرتضیٰ ثاقب البرهان، حاضر الدليل، حسن الاستدلال، أظهر ما عنده فأتمّ، وما كان لي إلّا الإذعان والاعتراف

وبعد تلك الواقعة ألّف الغزالي كتابه (سرُّ العالمين) ليعلن فيه أحقّية مذهب أهل البيتعليهم‌السلام )

١٢٢

من تقريرها، فالإعراض عن ذكرها أولیٰ

وحكی ابن الجوزي عن جدّه عن القاضي أبي يعلي بإسناده إلی صالح بن أحمد بن حنبل قال: قلتُ لأبي : إنّ قوماً ينسبوننا إلی توالي يزيد ؟ فقال : يابني وهل يتوالیٰ يزيد أحدٌ يؤمن بالله ؟

فقلتُ : فلِمَ لا تلعنه ؟ فقال : وما رأيتني لعنتُ شيئاً، يا بُني لِمَ تلعن مَن لعنه الله في كتابه ؟ فقلتُ : وأين لعن الله يزيد في كتابه ؟

فقال : في قوله تعالی :( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّـهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ ) (١) (٢)

وحكی أيضاً عن أبي يعلی أنّ الممتنع من جواز لعن يزيد أمّا أن يكون غير عالم بذلك، أو منافقاً يريد أن يوهم بذلك، وربما استفزّ الجهّال بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (المؤمن لا يكون لعّاناً) وهذا محمول علی مَن لا يستحقّ اللعن(٣)

________________________

١ ـ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله : ٢٢ ـ ٢٣

٢ ـ ذكر السبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ص ٢٥٧، ط قم الشريف الرضي

٣ ـ نفس المصدر ص ٢٥٨ وللتفصيل راجع نفس المصدر فصل (يزيد بن معاوية) وأيضاً ذهب بعض العلماء العامّة (السنّة) إلی لعنه وتوبيخه منهم :

العلّامة الآلوسي في تفسيره روح المعاني ج ٢٦ ص ٧٣ في تفسير آية ٢٢ من سورة محمّد : قال: «مَن يقول إنّ يزيد لم يعصِ بذلك ولا يجوز لعنه فيبتغي أنْ ينتظم في سلسلة أنصار يزيد وأنا أقول إنّ الخبيث لم يكن مصدّقاً بالرسالة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ ما فعله مع أهل حرم الله وأهل حرم نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته الطيّبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات وما صدر منه من المخازي ليس بأضعف دلالة علی عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر ولا أظنّ أنّ أمره كان خافياً علی أجلّة

١٢٣

وروي أنّه قال رجلٌ للصادقعليه‌السلام : يابن رسول الله انّي عاجز ببدني عن نصرتكم، ولستُ أملك إلّا البراءة من أعدائكم، واللعن عليهم فكيف حالي ؟

فقال لهعليه‌السلام : حدّثني أبي عن أبيه عن جدّه عن رسول الله قال: مَن ضعف عن نصرتنا أهل البيت، ولعن في خلواته أعداءنا بلّغ الله صوته جميع الأملاك

المسلمين ولكن كانوا مغلوبين مقهورين، ولو سُلّم أنّ الخبيث كان مسلماً، فهو مسلم جمع من الكبائر ما لا يحيط به نطاق البيان، وأنا أذهب إلی جواز لعن مثله علی التعين، ولو لم يتصوّر أن يكون له مثل من الفاسقين، والظاهر أنّه لم يتب واحتمال توبته أضعف من إيمانه»

وقال الجاحظ في رسائله ص ٢٩٨ الرسالة الحادية عشرة في بني أمية : «المنكرات التي اقترفها يزيد من قتل الحسين وحمله بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سبايا وقرعه ثنايا الحسين بالعود وإخافته أهل المدينة وهدم الكعبة تدلّ علی القسوة والغلظة والنصب وسوء الرأي والحقد والبغضاء والنفاق والخروج عن الإيمان، فالفاسق ملعون ومَن نهیٰ عن شتم الملعون فملعون»

وقال ابن خلدون في مقدّمته ص ٢٥٤ عند ذكر ولاية العهد : «الإجماع علی فسق يزيد ومعه لا يكون صالحاً للإمامة، ومن أجله كان الحسينعليه‌السلام يری من المتعيّن الخروج عليه وقعود الصحابة والتابعين عن نصرة الحسين لا لعدم تصويب فعله بل لأنّهم يرون عدم جواز إراقة الدماء فلا يجوز نصرة يزيد بقتال الحسين بل قتله من فعلات يزيد المؤكّدة لفسقه والحسين فيها شهيد»

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء : «كان يزيد بن معاوية ناصبيّاً فظّاً غليظاً جلفاً يتناول المسكر ويفعل المنكر، افتتح دولته بقتل الشهيد الحسين وختمها بوقعة الحرّة فمقته الناس ولم يبارك في عمره»

وهناك الكثير من الأعلام صرّحوا ونوّهوا بلعن يزيد بن معاوية ونكتفي بهذا القدر الممكن ومن أراد الاطّلاع فليراجع كتب التاريخ

١٢٤

من الثری إلی العرش، فكلّما لعن هذا الرجل أعداءنا لعناً ساعدوه فلعنوا مَن يلعنه، ثمّ ثنوه فقالوا : أللّهم صلِّ علی عبدك هذا الذي قد بذل ما في وسعه، ولو قدر علی أكثر منه لفعل، فإذا النداء من قبل الله قد أجبتُ دعاءكم، وسمعتُ نداءكم وصلّيتُ علی روحه في الأرواح وجعلته عندي من المصطفين الأخيار(١)

ثمّ هذا اللعن لا يختصّ بمَن صدر عنه القتل والظلم فعلاً بل يجري في كلّ مَن هيّأ أسباب ذلك وأسّس أساس الظلم والجور من أوّل الأمر، وهم الغاصبون لحقّ عليّعليه‌السلام في يوم السقيفة(٢)

ولذا ورد أنّه المقتول يوم الاثنين، وبيانه : أنّهم طرحوا في أراضي قلوب الجاهلين بذور الكفر والنفاق، وأثبتوا فيها عروق أشجار الضلالة والشقاق، فأثمرت المعاداة لأهل بين النبوّة والإعراض عن منهجهم وطريقتهم السنية، فصنعوا ماصنعوا فظلموا حقّ العترة( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٣)

________________________

١ ـ راجع تفسير الإمام العسكريعليه‌السلام ص ٤٧، رقم ٢١، والبحار ج ٢٧، ص ٢٢٣، ح ١١، ومستدرك الوسائل ج ٤، ص ٤١٠، رقم ٣

٢ ـ ولذا قال الشاعر القاضي بن قريعة في أبياته :

لولا حدود صوارم

أمضیٰ مضاربها الخليفة

لنَشرتُ من أسرار آل

محمّد جملاً ظريفة

وأريتكم أنّ الحسين

أُصيب في يوم السقيفة

وللمزيد راجع كتاب عين العبرة في غبن العترة للسيّد أحمد بن طاووس سوف تقف علی مخازي اللصوص الثلاثة

٣ ـ الشعراء : ٢٢٧، وقال علي بن إبراهيم القمّي في تفسيره ج ٢، ص ١٠١ : (وسيعلم الذين ظلموا ـ آل محمّد حقّهم ـ أي منقلبٍ ينقلبون)

١٢٥

(فلعن الله أُمّةً أسّست أساس الظلم والجور عليكم أهل البيت، ولعن الله أُمّةً دفعتكم عن مقامكم، وأزالتكم عن مراتبكم التي رتّبكم الله فيها، ولعن الله أُمّةً قتلتكم، ولعن الله الممهِّدين لهم بالتمكين)(١)

وفي الكلام تصريح بما صار من الضروريات من كونهعليه‌السلام مقتولاً فلا يلتفت إلی ما زعمه بعض الملاحدة من أنّه لم يُقتل ولكنّه شبّه به كما شُبّه بعيسیٰعليه‌السلام ، وفي العيون أنّ جميع الأئمّة الأحد عشر بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قُتلوا منهم بالسيف، وهو أمير المؤمنين والحسينعليهما‌السلام والباقون قُتلوا بالسمّ قتل كلّ واحد منهم طاغية زمانه وجریٰ ذلك عليهم علیٰ الحقيقة والصحّة لا كما تقوله الغُلاة والمفوّضة ـ لعنهم الله ـ فإنّهم يقولون إنّهم لم يُقتلوا علی الحقيقة وأنّه شبّه علی الناس أمرهم، فكذبوا ـ عليهم غضب الله ـ فإنّه ما شبّه أمر أحد من أنبياء الله وحججه للناس إلّا أمر عيسیٰ بن مريم وحده، لأنّه رُفع من الأرض حيّاً وقبض روحه بين السماء والأرض ثمّ رفع إلی السماء وردّ عليه روحه(٢) وقريب منه ما في الاحتجاج(٣)

________________________

١ ـ هذا مقطع من زيارة عاشوراء الشريفة

٢ ـ عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ج ١ ص ٢١٣

٣ ـ راجع الاحتجاج للطبرسي ج ٢ ص ٤٣٧، ط بيروت

١٢٦

وَلَعَنَ اللهُ أُمَّةً سَمِعَتْ بِذٰلِكَ فَرَضِيَتْ بِهِ

والمشار إليه بذا هو القتل والظلم، و (الكاف) حرف الخطاب يُبيّن به حال المخاطب من الإفراد، والتثنية، والجمع، والتأنيث والتذكير، ولذا يختلف اسم الإشارة مع هذا الحرف، فيقال : ذالكم، وذالكما، وإنّما استحقّ الراضي اللعن مع عدم صدور الظلم منه، لأنّ رضاه كاشف عن سوء سريرته، وشقاوة باطنه بالنسبة إلی أهل البيت، فيكون عدوّاً لهم بحيث لو قدر علی الظلم لكان ظالماً لهم فلا يكون مسلماً كيف ؟

وشرط الإسلام محبّة الأئمّة الأعلام كما دلّ كثير من الأخبار(١) ، وشهد به سليم الذوق والاعتبار، وهذا السرّ في قتل القائمعليه‌السلام من ذراري الأعداء ما لا يُحصیٰ لكونهم راضين بما فعل آباؤهم(٢)

________________________

١ ـ راجع كتاب بشارة المصطفی لشيعة المرتضی، للطبري

٢ ـ روی الشيخ الصدوق في علل الشرائع ج ١، ص ٢٦٨، باب ١٦٤، ط الأعلمي بيروت، عن عبدالسلام بن صالح الهروي قال: قلتُ لأبي الحسن الرضاعليه‌السلام : يابن رسول الله ما تقول في حديث روي عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسينعليه‌السلام بفعال آبائها فقالعليه‌السلام : هو كذلك فقلتُ : فقول الله عزّوجلّ :( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) ما معناه ؟ فقال : صدق الله في جميع أقواله لكن ذراري قتلة الحسين يرضون أفعال آبائهم، ويفتخرون بها ومَن رضي شيئاً كان كمَن أتاه، ولو أنّ رجلاً قتل في المشرق فرضي بقتله رجلٌ في المغرب لكان الراضي عند الله شريك القاتل، وإنّما يقتلهم القائم إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم،

١٢٧

وفي تفسير الإمام عند قوله تعالی :( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا ) (١) إنّه سئل عليّ بن الحسينعليه‌السلام كيف يُعاقب الله ويوبخ هؤلاء الاخلاف علی قبائح ما أتاه أسلافهم وهو يقول:( وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ) (٢) ؟

فقالعليه‌السلام : إنّ القرآن نزل بلغة العرب فهو يخاطب فيه أهل هذا اللسان بلغتهم، يقول الرجل التميمي قد أغار قومهم علی بلد وقتلوا مَن فيه : أغرتم علی بلد كذا وقتلتم كذا، ويقول العربي أيضاً : نحن قتلنا بني فلان، ونحن سبينا آل فلان، ونحن خرّبنا بلد كذا، لا يُريد أنّهم باشروا ذلك، ولكن يريد هؤلاء بالعذل، وأولئك بالامتحان أنّ قومهم فعلوا ذلك فيقول الله في هذه الآيات، إنّما هو توبيخ لأسلافهم، وتوبيخ العذل علی هؤلاء المرجوفين، لأنّ ذلك هو اللغة التي نزل القرآن، فالآن هؤلاء الأخلاف أيضاً راضون بما فعل أسلافهم مصوّبون ذلك لهم فجاز أنْ يُقال : أنتم فعلتم أي إذا رضيتم قبيح فعلهم(٣)

وهذا صريح في أنّ الراضي بفعل الظالم ظالم مثله، فكم من داخل مع قومٍ وهو خارج منهم كالمؤمن من آل فرعون، وكم من خارج من قوم وهو معهم لرضاه بفعلهم، كابن عمر وأضرابه، وحكايته مع يزيد معروفة ككلامه بعد أنْ رأی العهد الذي كتبه أبوه إلی أبيه(٤) ، وفي بعض الأخبار مَن رضي بفعلٍ فقد

قال : فقلت له : بأيّ شيء يبدأ القائم فيهم إذا قام ؟ قال: يبدأ ببني شيبة ويقطع أيديهم لأنّهم سرّاق بيت الله عزّوجلّ

١ ـ البقرة : ٦٥

٢ ـ الأنعام : ١٦٤

٣ ـ راجع تفسير الإمام العسكري، ج ١ ص ٢٧٢

٤ ـ راجع البحار ج ٣٠، ص ٢٨٨، رقم ١٥١، وعوالم سيّدة النساء فاطمةعليها‌السلام ص ٥٩٩

١٢٨

لزمه وإن لم يفعل

وروی البلاذري قال: لـمّا قتل الحسين كتب عبدالله بن عمر إلی يزيد بن معاوية : أمّا بعد ؛ فقد عظمت الرزية وجلّت المصيبة، وحدث في الإسلام حدثٌ عظيم، ولا يوم كيوم قتل الحسين

فكتب إليه يزيد : أمّا بعد يا أحمق، فإنّا جئنا إلی بيوتٍ مجدّدة، وفرشٍ ممهّدة، ووسادة منضّدة، فقاتلنا عنها فإن يكن الحقّ لنا فعن حقّنا قاتلنا، وإن كان الحقّ لغيرنا، فأبوك أوّل مَن سنَّ هذا، واستأثر بالحقّ علی أهله

١٢٩

يَا مَوْلَايَ يَا أَبَا عَبْدِاللهِ

يُحتمل أنْ يكون من تمام ما تقدّم، وأن يكون استئنافاً لما يأتي، والمراد بـ (المولی) هو المراد به في قوله : (مَن كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه)(١) ، لأنّ ما ثبت لهعليه‌السلام من الفضائل والخواصّ فهو ثابت لسائر الأئمّة المعصومين(٢) عليهم‌السلام إلّا ما استثنی(٣) ، فالمراد به هو أولیٰ بالمؤمنين من أنفسهم كما كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك بنصّ القرآن(٤) ، فإنّ ما ثبت للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فهو ثابت للوصي أيضاً إلّا ما استثنیٰ(٥) ،

________________________

١ ـ راجع إعلام الوری للطبرسي ص ١٦٥ ؛ وبشارة المصطفی لشيعة المرتضی للطبري ج ٢، ص ٩٢، ح ٢٤، ط قم جامعة المدرّسين

٢ ـ راجع إعلام الوری للطبرسي ص ٣٥٥، ودفع المناواة للكركي ص ١٩٠ تحت عنوان (أنّهمعليهم‌السلام جری لهم ما جری لعليّعليه‌السلام ، وجری لعليّ ما جری لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )

٣ ـ ما انفرد به الإمام عليّعليه‌السلام بإمرة المؤمنين، وقد تقدّم أنّه لا يجوز لأحدٍ أن يُلقّب بهذا اللقب حتّی الأئمّةعليهم‌السلام ، وإن كانوا أهلاً لهذا ولهذا صدر منهم ردعٌ وزجرٌ لمن لقّبهم بهذا اللقب

٤ ـ إشارة إلی قوله تعالی في سورة الأحزاب آية(٦) :( النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ )

قال عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره ج ٢، ص ١٥١ : ( فجعل الله تبارك وتعالی لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله الولاية علی المؤمنين من أنفسهم، وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بغدير خمّ : (يا أيّها الناس ألستُ أولی بكم من أنفسكم ؟ قالوا : بلیٰ ثمّ أوجب لأمير المؤمنين عليه‌السلام

١٣٠

ويُحتمل أن يُراد به السيّد ومالك الرقّ فإنّ الناس كلّهم عبيدٌ لهمعليهم‌السلام ، عبيد طاعة أو رقّ علی الخلاف، وربّما يُقال في الحديث : إنّ المعنیٰ : مَنْ أحبّني وتولّاني فليحبّ عليّاًعليه‌السلام فالمراد يا مَن يحبّ عليّ محبّته ومودّته، ويلزم عليّ موالاته وولايته، ويُحتمل أنْ يُراد به الناصر كما في قوله تعالی :( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) (٦) أي يا ناصري في الدُّنيا عند توسّلي إليك في قضاء حوائجي وفي الآخرة عند أحوالها وشدائدها، وعند الموت دفع سكراته عنّي

وكيف كان فهذه المرتبة أي المولويّة مرتبة سامية، ومنزلة سامقة، ودرجة عليّة، ومكانة رفيعة، ومقامة سنيّة جعلها الله لعليّعليه‌السلام اصالةً ولذرّيته وراثةً

وأبو عبدالله كنية الحسينعليه‌السلام (٧) ، والمراد به في الأخبار علی الإطلاق هو جعفر الصادقعليه‌السلام كما لا يخفیٰ علی المتتبّع، ولا كنية للحسينعليه‌السلام سواه علی

ما أوجبه لنفسه عليهم من الولاية، فقال : ألا مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، فلمّا جعل الله النبيّ أباً للمؤمنين ألزمه مؤونتهم وتربية أيتامهم، فكذلك ألزم أمير المؤمنينعليه‌السلام ما ألزم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من بعد ذلك وبعده الأئمّةعليهم‌السلام واحداً واحداً، والدليل علی أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنينعليه‌السلام هما الوالدان قوله :( وَاعْبُدُوا اللَّـهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) فالوالدان رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما)

٥ ـ قد ثبت ما للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لأمير المؤمنين عليّعليه‌السلام إلّا مقام النبوّة

٦ ـ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله : ١١

٧ ـ مواليد الأئمّة للسيّد فضل الله الراوندي ص ١١، المطبوع مع كتاب الغيبة للشيخ المفيدقدس‌سره ، وتاريخ ابن الخشّاب ص ١٧٧، ومناقب ابن شهرآشوب ج ٤، ص ٨٦ ومطالب السؤول ج ٢، ص ٥١

١٣١

ما قيل

ولكن ألقابه كثيرة كالرشيد، والطيّب، والوفي، والسيّد، والزكي، والمبارك، والسبط، والتابع لمرضاة الله(١)

والعرب يقصدون بالكنی التعظيم، لأنّ أكثر النفوس يتأنّفون من التصريح بأسمائهم

فلا يشترط أن يكون للمكنّی عنه ولد مسمّیٰ بهذا الاسم، فيجوز أن يكون، ويجوز أن لا يكون، ولكن يظهر من بعض الأخبار أنّه كان للحسينعليه‌السلام ولد صغير مسمّیٰ بعبدالله، والظاهر أنّه هو عليّ الأصغر الذي قُتل في حجره يوم عاشوراء بالسهم المسموم(٢) لعن الله قاتله

وقد يقال : إنّ الحمرة التي ظهرت في السماء كانت من دمه، هذا بحسب ظاهر الأمر، والذي يقتضيه نظر التدقيق أنّ تكنيته بهذه الكنية في عالم الذر، فإنّه لمّا قبل الشهادة التفصيلية الكلّية التي أبیٰ عن حملها غيره كما أشار الله بقوله : ________________________

١ ـ راجع تاريخ ابن الخشّاب ص ١٧٧، ومطالب السؤول ج ٢، ص ٥١، ومواليد الأئمّة للسيّد فضل الله الراوندي ص ١١ ولكنّه زاد علی هذه اثنين (النافع، والدليل علی ذات الله)

٢ ـ رماه بالسهم حرملة بن كاهل الأسدي فذبحه فتلقّی الحسين الدم بكفّه ورمیٰ به نحو السماء قال الإمام الباقرعليه‌السلام : (فلم تسقط من الدم قطرة إلی الأرض)

وللتفصيل راجع مثير الأحزان لابن نما الحلّي المتوفّیٰ (٦٤٥ هـ) ط قم مؤسسة الإمام المهدي، ص ٧٠، ومقتل الحسين للسيّد المقرم ص ٢٧٢، ط : الشريف الرضي، وراجع كتاب مطالب السؤول لابن طلحة الشافعي ج ٢، ص ٦٦ وص ٦٩ ط : أُمّ القریٰ

١٣٢

( فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) (١) أي مظلوماً مجهول القدر انتظم عالم الإمكان واستراح الإنسان بانتظام أمور دينهم ودنياهم، فصار بالنسبة إلی جميعهم بمنزلة الوالد العطوف، والأب الرؤوف، فكلّ ما سوی الله بمنزلة عبد واحد لله وهو أبوه ويمكن أن يُقال : إنّ هذه الكنية من قبيل قولهم فلان أبو الخير إذا كان الخير منه كثير الصدور، وكذلك فلان أبو الحرب، أو أبو الجود، فلمّا كانت العبودية الكاملة التي حقيقتها الخضوع، والذلّة، والإنكسار مظهرها هو الحسينعليه‌السلام سمّي بهذه الكنية فليتأمّل

وربما يُقال : إنّ العبد الحقيقي هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ولذا قُدّم علی رسالته في التشهّد(٢) ، والحسينعليه‌السلام كان والده للأمّة بالإضافة التشريفيّة فهو أبو عبداللهعليه‌السلام ، ويؤيّده ما حكي عن تفسير القمّيقدس‌سره في قوله :( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ) (٣) انّ الإنسان(٤) هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والوالدين الحسن والحسينعليهما‌السلام (٥)

________________________

١ ـ الأحزاب : ٧٢، روي الشيخ الكليني في أصول الكافي ج ١، ص ٤١٣، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قوله عزّوجلّ :( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ إلی آخر الآية) قال: هي الولاية لأمير المؤمنين

وروی مثله الاسترآبادي في تأويل الآيات ص ٤٦٠

٢ ـ أي قُدِّمت العبودية علی الرسالة في قولك : (أشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله)

٣ ـ الأحقاف : ١٥

٤ ـ في مصدر الرواية (الإحسان) بدل (الإنسان)

٥ ـ تفسير القمّي ج ٢، ص ٢٧٢، بيروت الأعلمي، وإليك تتمّة الرواية : (ثمّ عطف علی الحسينعليه‌السلام فقال : «حملته أُمّه كرهاً ووضعته كرهاً» وذلك أنّ الله أخبر رسول

١٣٣

وكيف كان يندرج في هذا اللقب آثار جميع الألقاب المحمودة، ولذا لم يُكن بكنيةٍ أُخریٰ، وصار فريداً في هذه الكنية بالاصالة، والصادقعليه‌السلام كُني بها تبعاً لما نشر الأحكام، وروّج شريعة سيِّد الأنام، وأرشد الناس إلی فضائل أجداده الكرام صلوات الله عليهم من الآن إلی يوم القيام

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبشّره بالحسينعليه‌السلام قبل حمله وأنّ الإمامة تكون في ولده إلی يوم القيامة، ثمّ أخبره بما يصيبه من القتل والمصيبة في نفسه وولده، ثمّ عوّضه بأن جعل الإمامة في عقبه وأعلمه أنّه يُقتل، ثمّ يردّه إلی الدُّنيا وينصره حتّی يقتل أعداءه ويملّكه الأرض ...)

وللمزيد راجع تأويل الآيات الظاهرة ص ٥٦٢، ط : قم

١٣٤

أَشْهَدُ أَنَّكَ كُنْتَ نُوراً فِي الْأَصْلَابِ الشَّامِخَةِ، وَالْأَرْحَامِ الْمُطَهَّرَةِ، لَمْ تُنَجِّسْكَ الْجَاهِلِيَّةُ بِأَنْجَاسِهَا، وَلَمْ تُلْبِسْكَ مِنْ مُدْلَهِمَّاتِ ثِيَابِهَا

فيه إشارة إلی مقام نورانيّته الذي يجب علی كلّ مؤمن الإقرار به كما قال مولانا عليّعليه‌السلام : (يا سلمان لا يكمل المؤمن إيمانه حتّی يعرفني بالنورانيّة، فإذا عرفني بذلك فهو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، وشرح صدره للإسلام، وصار عارفاً بدينه، ومَن قصّر عن ذلك فهو شاكٌّ مرتاب، يا سلمان ويا جندب : أنّ معرفتي بالنورانية معرفة الله ومعرفة الله معرفتي وهو الدِّين الخالص) إلی أن قال : (كنتُ ومحمّد نوراً نسبّح قبل المسبّحات ونشرق قبل المخلوقات فقسّم الله ذلك النور نصفين : نبيٌّ مصطفیٰ، وعليٌ مرتضیٰ، فقال الله لذلك النصف : كُن محمّداً، وللآخر عليّاً، ولذلك قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا من عليّ وعليّ منّي)(١)

ولا ريب في كونهم أنوار مخلوقة من نور الله كما قال: (وأنتم نور الأنوار وهداة الأخيار)(٢)

________________________

١ ـ هذا مقطع من خطبة الإمام عليّعليه‌السلام المعروفة بالنورانية التي تقدّم ذكرها بالكامل

٢ ـ ظاهراً هذا مقطع من الزيارة الجامعة الشريفة المرويّة عن إمامنا الهاديعليه‌السلام ولكن الشارح رحمه الله تعالی نقله للعبارة ليس نصّاً، وهذا هو نصّ الزيارة : (.. وأنتم نور الأخيار وهُداة الأبرار ...)

١٣٥

والأخبار الواردة في ذلك(١) فوق حدّ الإحصاء وبكونها متواترة صرّح بعض الأذكياء وفي بعضها : (يا محمّد أنّي خلقتك وخلقتُ عليّاًعليه‌السلام وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة من ولده من سنخ نور من نوري، وفرضتُ ولايتكم علی أهل السماوات والأرض، فمَن قبلها كان عندي من المؤمنين، ومَن جحدها كان عندي من الكافرين)(٢)

وفي بعضها فقال ـ يعني آدم ـ (ياربّ ما هذه الأنوار ؟ فقال : أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلی ظهرك)(٣)

وفي بعضها : (أوّل ما خلق الله نوري أنا من الله والكلّ منّي)(٤)

وفي بعضها : (كنتُ وعليّاً نوراً بين يدي الرحمة قبل أنْ يخلق عرشه)(٥)

وفي بعضها (أنّ الله خلقني وعليّاًعليه‌السلام نوراً واحداً قبل خلق آدم، ثمّ خلق الأشياء من نوري، ونور عليّعليه‌السلام )(٦)

________________________

١ ـ مَن أراد الوقوف علی الروايات التي تتكلّم عن نورانيّة الأئمّةعليهم‌السلام فليراجع الجزء الأوّل من حلية الابرار للسيّد هاشم البحراني ص ٧ في الباب الأوّل

 ـ في المصدر (عرضتُ) بدل (فرضتُ)

٢ ـ بحار الأنوار، ج ٢٧، ص ١٩٩

٣ ـ تقدّم نقل هذه الرواية تفصيلاً، وراجع تأويل الآيات ص ٥١، والبحار ج ٢٦، ص ٣٢٧، ح ١٠، باب توسّل الأنبياء بهم

٤ ـ مشارق أنوار اليقين ص ٦٠ فصل (٢٦) طبع قم الشريف الرضي

 ـ في المصدر (الرحمان) بدل (الرحمة)

٥ ـ الخصال للصدوق ج ٢، ص ٦٤٠، ح ١٦، إرشاد القلوب للديلمي ج ٢، ص ٢١٠، ومشارق الأنوار ص ٦٠ فصل (٢٦)

٦ ـ بحار الأنوار ج ٢٥ ص ٢٤

١٣٦

وفي بعضها : «يا عليّ إنّ الله كان ولا شيء معه فخلقني وخلقك روحين من نور جلاله فكنّا أمام عرش ربّ العالمين نسبّح الله، ونقدّسه، ونحمده، ونهلّله، وذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض، فلمّا أراد أن يخلق آدم خلقني وإيّاك من طينة واحدة من طينة عليّين وعجنا بذلك النور وغمسنا في الأنوار»(١)

وفي بعضها عن الباقرعليه‌السلام قال: (يا جابر كان الله ولا شيء غيره، ولا معلوم ولا مجهول، فأوّل ما ابتدأ من خلق خلقه أن خلق محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله وخلقنا معه من نور عظمته، فأوقفنا أظلّة خضراء بين يديه حيث لا سماء ولا أرض ولا مكان ولا ليل ولا نهار ولا شمس ولا قمر يفصل نورنا من نور ربّنا كشعاع الشمس من الشمس)(٢)

وفي الزيارة الجامعة : (خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين)(٣)

والنور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره، وحقيقة نورانيّتهم غير معلومة لنا لكونها فوق إدراكات من دونهم فلا يعرفهم غيرهم كما قال: (يا عليّ ما عرفني إلّا الله وأنت، وما عرفك إلّا الله وأنا)(٤) ، فلا ندرك من مقامهم هذا سوی الإجمال كما لا ندرك في مقام الحقّ سوی ذلك، وبيانه أنّ العالي محيط بالسافل دون العكس

قوله : في الأصلاب، أي مودعاً مستقرّاً في أصلاب الآباء الموحِّدين، الشرفاء، النُجباء، وأرحام الاُمّهات الموحّدات المطهّرات عن الخنا والسفاح،

________________________

١ ـ بحار الأنوار، ج ٢٥، ص ٣

٢ ـ البحار ج ١٥، ص ٢٣، ح ٤١

٣ ـ راجع شرح هذا المقطع من الزيارة الشريفة : الأنوار اللامعة للسيّد عبدالله شبّرقدس‌سره

٤ ـ مشارق أنوار اليقين ص ٢٠١، ط الشريف الرضي، تأويل الآيات ص ٩٢، ط قم

١٣٧

العفيفات عن الزنا والفساد، والشامخة العالية، يُقال : شمخ بأنفه إذا ارتفع وتكبّر، وفي الفقرة إشارة إلی ما بُرهن عليه في محلّه من أنّ الأئمّةعليهم‌السلام لا يكون آباؤهم وأُمّهاتهم مشركين من آدمعليه‌السلام ولا يُخالط نسبهم فساد وعهرٌ وذمّ(١) ، كيف وهم

________________________

١ ـ لقد تقدّمت الإشارة منّا إلی أنّ آباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا موحِّدين وذكرنا بعض الروايات، والآن نذكر قسماً آخر

قالت الشيعة الإمامية ـ وقولهم الحقّ ـ : بإيمان آباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلی آدم بالرغم من أنّ بعضهم لم يُعلن الإسلام لظروف خاصّة به (راجع البحار ج ١٥، ص ١١٧)

وأعلن أبو حيّان الأندلسي : (ذهبت الرافضة إلی أنّ آباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا مؤمنين) راجع تفسير البحر المحيط ج ٧، ص ٤٧

وحاول غير الإمامية إعلان كفر آباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا بغضاً منهم

ومن دلائل إيمان أجداد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله : أنّ عبد المطّلب كان يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ويحثّهم علی مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيئات الأمور، وكان يقول: لن يخرج من الدُّنيا ظلوم حتی يُنتقم منه وتصيبه عقوبة إلی أن هلك رجل ظلوم من أهل الشام لم تصبه عقوبة فقيل لعبد المطّلب في ذلك فقال : والله إنّ وراء هذه الدار داراً أُخری يُجزیٰ فيها المحسن بإحسانه ويُعاقب المسيء بإساءته، أي أنّ العقوبة معدّة له في الآخرة

ورفض عبادة الأصنام ووحّد الله تعالی وتؤثر عنه سنن جاء القرآن بأكثرها، وجاءت السنّة بها، منها الوفاء بالنذر، والمنع من نكاح المحارم، وقطع يد السارق، والنهي عن قتل الموءودة، وتحريم الخمر والزنا، وأن لا يطوف بالبيت عريان، وهذا أفضل دليل علی إيمان آباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وردّ شبهات المنافقين

وجاء في كتاب البحار ج ١٥، ص ١١٧ : (إعتقادنا في آباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّهم مسلمون من آدم إلی أبيه عبدالله، وأنّ أبا طالب كان مسلماً، وآمنة بنت وهب كانت مسلمة،

١٣٨

ذرّية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته ولا شكّ في طهارة عنصره وطيب مولده من لدن آدم إلی أبيه

قال الصادقعليه‌السلام : انتخب لهم أحبّ أنبيائه إليه محمّد بن عبداللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حومة العزّ مولده، وفي دومة الكرم محتده إلی أن قال: تبشّر به كلّ أُمّةٍ من بعدها، ويدفعه كلّ أبٍ إلی أب من ظهرٍ إلی ظهر، لم يخلطه في عنصره سفاح ولا ينجسه في ولادته نكاح من لدن آدم إلی أبيه عبداللهعليه‌السلام في خير فرقة وأكرم سبط وأمنع رهط وأكلأ حمل، وأودع حجر اصطفاه الله وارتضاه، واجتباه)(١)

وفي بعض كتب العامّة : روی أنّه لـمّا أهبطه الله إلی ظهر آدم أهبطه إلی أرضه المكينة، وحمله مع نوح في السفينة وقذف به نار نمرود في صلب خليله المعروف بالكرم والجود ولم يزل ينقله في الأصلاب الكريمة الفاخرة إلی الأرحام الزكية الطاهرة حتّی أخرجه من بين أبويه للهدی والإصلاح لم يلتقيا قطّ

واتّفقت الإمامية علی أنّ والدي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّ أجداده إلی آدمعليه‌السلام كانوا مسلمين، بل كانوا من الصدِّيقين، وقال فخر الدِّين الرازي : إنّ قوله تعالی :( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) وجب أن لا يكون أحد من أجدادهصلى‌الله‌عليه‌وآله مشركاً)

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ما افترق الناس فرقتين إلّا جعلني الله في خيرهما فأخرجتُ من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية وخرجتُ من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتّی انتهيت إلی أبي وأُمّي، فأنا خيركم نسباً وخيركم أباً) راجع مختصر تاريخ دمشق ج ١، ص ٣٤٩

هذا صريح بأنّ آباءهصلى‌الله‌عليه‌وآله طاهرين ولم يدنسوا بأيّ دنسٍ جاهلي

وللتفصيل راجع طبقات ابن سعد الجزء الأوّل ذكر نسب النبيّ وآباءه وأُمّهاته بشكلٍ جيّد وموسّع

١ ـ الكافي ج ١ ص ٤٤٤ ؛ والبحار ج ١٦ ص ٣٦٩

١٣٩

علی سفاح

تنقلتُ في أصلاب قومٍ أعزّةٍ

بكَ اجتمعوا في كلِّ وادٍ ومحفلِ

وأشرقت الأنوار في كلّ بقعةٍ

وفاح الشذا في كلّ وادٍ ومنزلِ

وأضحی لسان الحال ينشد برهةً

تنقل فلذات الهویٰ في التنقلِ

وفي بعض الأخبار فرسول الله أوّل مَن عبد الله، وأوّل مَن أنكر أن يكون له ولد أو شريك، ثمّ نحن بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ أودعنا بذلك صلب آدم فما زال ذلك النور ينتقل من الأصلاب والأرحام من صلبٍ إلی صلب، ولا استقرّ في صلب إلّا تبيّن عن الذين انتقل منه شرف الذي استقرّ فيه حتی صار في عبد المطّلب فوقع بأمِّ عبدالله فافترق النور جزئين : جزء في عبدالله، وجزء في أبي طالب، وذلك قوله :( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) (١) يعني في أصلاب النبيّينعليهم‌السلام وأرحام نسائهم(٢)

وفي بعضها عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: (خلقني الله وأهل بيتي من نور واحد قبل أن يخلق آدم بسبعة آلاف عام ثمّ نقلنا إلی صلب آدم ثمّ نقلنا من صلبه في الأصلاب الطاهرين إلی أرحام الطاهرات)(٣)

وقوله : «لم تُنجسك» صفة ثانية لـ (نوراً) أو حال منه لمكان التخصيص، وأُقيم الحاضر مقام الغائب العائد إلی الموصوف، أو ذي الحال فيكون من قبيل قوله : (أنا الذي سمّتني)(٤)

________________________

١ ـ الشعراء : ٢١٩

٢ ـ بحار الأنوار، ج ٢٥، ص ٢٠

٣ ـ بحار الأنوار، ج ٣٦، ص ٣٠١

٤ ـ تذكرة الخواص ص ١٥، ط الشريف الرضي قم

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195