الجريمة الكبرى الجزء ٢

الجريمة الكبرى0%

الجريمة الكبرى مؤلف:
الناشر: المركز الوثائقي للدفاع عن المقدسات الإسلامية
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 399

  • البداية
  • السابق
  • 399 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 25326 / تحميل: 5715
الحجم الحجم الحجم
الجريمة الكبرى

الجريمة الكبرى الجزء 2

مؤلف:
الناشر: المركز الوثائقي للدفاع عن المقدسات الإسلامية
العربية

ما ظهر في منطقة ما، واجتمعت إليه الأعوان، وتداعت إليه الأنصار، وجِدتَ الضلالة والبدع وفتاوى التكفير تنهال على المسلمين في تلك المنطقة، ويصحبها أشد الجرائم والانتهاكات لحقوق الإنسان، فضلاً عن حقوق المسلم على المسلم، وتسبقه موجات من الحرام في الجنس والإباحية من اللواط والزنا، وبيع المخدرات والأقراص القاتلة، وإذا ما اتسقت لهم الأمور، وجاءت الظروف مطابقة لميولهم شنوا الحروب وأعلنوا الغارات (الجهاد) ضد المسلمين الآمنين والعزل، وفعلوا المناكير من الموبقات والجرائم العظام(٧٥)، وكأن أهوال الشيطان والشر قد اجتمعت ضد الإنسان والأرض والسماء.

الصفة الثالثة: وبها الداء العضال

والداء العضال يطلق على جملة من الخبائث ممّا جُبلت عليها النفس الأمارة، كالحسد والرياء والعُجُب والكِبَر والجفاء والقسوة وعدم الحياء والابتذال، وحب السيطرة على الآخرين، وحب التعالي على الناس(٧٦)، وهذه الأمراض إذا استعصت في الإنسان، ولم يجتهد في تخليص نفسه منها، كان حطباً لجهنم، وبئس المهاد.

وقد ورد في الحديث الشريف، عن نافع، كما ذكره أحمد بن حنبل في مسنده وآخرون كُثر، أن النبي أشار إلى مشرق المدينة (يعني نجد)، وقال صلّى الله عليه وآله: «... وبه الداء العضال » (٧٧). وهذا الأمر بحد ذاته يشير بوضوح إلى حقيقة مهمة في خصائص شخصية الفرد النجدي، لأن الداء العضال هو الذي استعصى على الطبيب حتى تعذر علاجه، ومن أنواع الأمراض التي تصيب الإنسان سواء ما كان في جسمه، أو ما كان في نفسه وعقله(٧٨)،

٤١

وطبيعي أن الداء الذي يصيب النفس والعقل يكون أشد ضراوة وتأثيراً ممّا يصيب الجسم، خصوصاً إذا عم أهل منطقة أو جماعة دون غيرها، ومن هذه الأمراض التي استفحلت في أهل تلك المنطقة: الجهل، الحماقة، الغلظة، الخشونة، الجفاء، الزنا، اللواط، الربا وشدة النفاق والكفر(٧٩).

والداء الذي فيهم، أنهم ليسوا أهل حجة شرعية، أو أصحاب الدليل العقلي، أو البرهان العلمي، بل تجدهم لا يقبلون بالفكر والنقد والنقاش. إذا كان الأمر كذلك... وهو كذلك... فماذا تعمل معهم؟! وأيّ خطاب يؤثّر فيهم؟! وأيّ قول يهتدون إليه... إنهم أوضح مصداقٍ لقول الله تعالى:( صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (سورة البقرة، الآية: ١٧١).

لقد عقد الدكتور جواد علي فصلاً خاصّاً في كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام)(٨٠)، ليتناول فيه طبيعة عقلية الأعراب، حيث جاء فيه بالنص: لذلك أصبح الجفاء وغلظ القلب والجهل في البادية، فعلماؤهم أجهل من عوامهم، وأسخف رأياً، وأضل سبيلاً(٨١)، وَمن كانت هذه صفاته وأحواله، كان استعداده لقبول الفتن أكبر، وحرصه على فعل الحرام أكثر... ومن هنا كانت لأرض نجد النصيب الأوفى من هذه الأخلاق عند عموم أفرادها، ولم تزل هذه الأخلاق مستفحلة في أهل تلك المناطق رغم ظواهر المدنية التي وصلت إليها، وأسباب الترف والتقدم المعيشي التي لامسوها. فأكثر ما يلاحظ على أهلها افتخارهم بأنسابهم، وهي ما تسمى بالمصطلح الشرعي: العصبية القبلية(٨١). ولم يبقَ لهم شيء يُفاخرون به الناس سوى أسماء آبائهم ومراجل شجاعة ذؤبانهم في الغزو والنهب والقتل والاغتصاب، وليشتد العجب أن تسمع ببعض فقهاء المسلمين من يردوا شهادة الأعرابي ضد أهل القرى والمدن(٨٣)، وآخرون ممّن يفسرون

٤٢

التعرب بعد الهجرة، بأنها ضرب من ضروب الردة، كما تقول الباحثة الدكتورة آمال كاشف الغطاء في كتابها (دور العصبية القبلية وأثرها على المجتمع العربي)(٨٤). ممّا حووه واستعلموه من أحوال وصفات وميزات هؤلاء الأعراب، وما فعلوه على طول تاريخهم الأسود ولحد يومك هذا.

والعجب العجاب أن تنفر الوهابية والوهابيون وبنو سعود من هذه البراهين الصادقة، والأدلة الدامغة، وبدل أن يتقوا ويحذروا وينتصحوا ويسمعوا قول الحقّ، تجدهم يُكابرون ويجادلون ويشاكسون، ويردون قول النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله، فكانوا مصداقاً واضحاً لقوله تعالى:( أَخَذَتْهُ الْعِزَةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ) (سورة البقرة، الآية: ٢٠٦)، فهذا الكافر الباغي (الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب) حفيد رأس الوهابية، يقول في كتابه (مجموعة الرسائل والمسائل)، راداً على حديث النبي صلّى الله عليه وآله، حول نجد: «اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يَمَنِنا، فقالوا: يا رسول الله وفي نجدنا، فقال في المرة الثالثة:هنالك تظهر الزلازل والفتن، ومنها يخرج قرن الشيطان » (٨٥)، فيقول الصعلوك: الذم إنما يقع في الحقيقة على الحال، لا على المحل، ووقت دون وقت، بحسب حال الساكن، لأن الذم إنما يكون للحال دون المحل، وإن كانت الأماكن تتفاضل، وقد تقع المداولة فيها. ثمّ يردف هذا بالقول: فلو ذم نجد بمسيلمة بعد زواله وزوال مَن يصدقه، لذم اليمن بخروج الأسود العنسي، ودعواه النبوة، وما ضر المدينة المنورة سكن اليهود بها، وقد صارت مُهاجر رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأصحابه، ومعقل الإسلام.

وما ذُمت مكة المكرمة بتكذيب أهلها لرسول الله صلّى الله عليه وآله، وشدة عداوتهم له، بل هي أحبُ أرض الله إليه(٨٦).

٤٣

ويكمل الابن مشوار الأب، فهذا الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (الحفيد الآخر لرأس الكفر والضلال)، يقول في كتاب (مصباح الظلام): قال لي بعض الأزهريين أن مسيلمة من خير نجدكم، فقلت: وفرعون اللعين رئيس مصركم، فبهت، وأين كفر فرعون من كفر مسيلمة لو كانوا يعلمون(٨٧). ويدافع هذا الشيخ اللعين (عبد اللطيف) عن نجد المذمومة، فيقول: وإن خرج منه الحروري والقرمطي، فأي ضرر في ذلك. ومجرد وقوع الفتنة (في نجد) لا يستلزم ذم كل مَن يسكنها. ولا يعيب شيخنا (ابن عبد الوهاب) بدار مسيلمة، إلا مَن عاب أئمة الهدى ومصابيح الدجى، بما سبق في بلادهم من الشرك والكفر المبين)(٨٨). ويكمل شاعرهم (الأستاذ) فهيد الشربان، في مدح نجد ورد من ذمها، فيقول مكابراً(٨٩):

أطعْ لنجدٍ ولا تركن إلى أحد

بذمّها فهو شيطان وكنْ حذرا

فالشام واليمن الخضراء تبصرها

هل الدعاء نفى عن أهلها الكدرا

وأي مقالٍ أثبت لكفر هؤلاء وزيغهم عن الحقّ، فنرى أنفسنا بين ذم النبي ومدح الدعي، حتى يقول صاحبهم الشاعر صالح بن عثمان الشتري في ديوانه(٩٠):

أسفي على الشيخ الإمام محمد

حبر الأنام العالم الرباني

علم الهدى بحر الندى مفني العدا

مَن شن غارات على الأوثان

من قام في نجد مقام نبوة

يدعو إلى الإسلام والإيمان

حتى غدت نجد كروض مزهر

يختال في ظل من العرفان

٤٤

وهل ترى مسلماً، يقوى ويتجرأ على ردّ قول نبيه صلّى الله عليه وآله، فالراد عليه كالراد على الله عز وجل، والراد على الله تعالى في أسفل درك من الجحيم... فقوله صلوات الله عليه وآله، الحقّ والفصل، عارف عالم بالزمان والمكان، وبما كان وما هو كائن وما سيكون، قد أخبره جبرئيل عليه السلام، عن الله عز وجل، فإذا ذم سلام الله عليه وآله نجداً، فبما كان فيها، وما هي عليه من الفتن والزلازل، وبما سيصدر منها على طول الطريق. وهي بما لا شك فيه من نبوءات النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله. فجاء في الأثر: «يخرج في آخر الزمان في بلد مسيلمة رجل يغير دين الإسلام» (٩١)، بل قرأت للعلامة الحبيب علوي بن أحمد بن حسن بن قطب الإرشاد في كتابه (مصباح الأنام وجلاء الظلام في ردّ شبهة البدعي النجدي الذي أضل بها العوام)، بأن النبي صلّى الله عليه وآله، قد أوصى بقتل بني حنيفة - وهم من أهم قبائل نجد - أتباع مسيلمة الكذّاب(٩٢)، وما جاء على لسان أبي بكر (الخليفة الأوّل) قوله عن النبي صلّى الله عليه وآله: «إن واديهم لا يزال وادي فتنٍ إلى آخر الدهر، ولا يزال في فتنة من كذّابهم إلى يوم القيامة » (٩٣).

وهل هي صدفة من صدف التاريخ، أم هي حتمية الوقائع، ومشية القدر... حين يُشير المؤرّخ الشيخ زكريا بن محمد القزويني في كتابه (آثار البلاد وأخبار العباد): إن بني حنيفة كانوا أشد الناس عداوة للإمام علي عليه السلام في حرب الجمل وصفين(٩٤)، وهل تعجب أيها القارئ الكريم أن تكون هذه المنطقة هي عينها مقام قوم عادٍ، كما جاء في كتاب (الروض المعطار في خبر الأقطار) وكتاب (التاريخ العام للبلاد العربية الجنوبية)(٩٥)، وكذلك فهي محال قوم ثمود، كما جاء في كتاب (الموسوعة الإسلامية للعالم الإسلامي) وكتاب (الأخبار الطوال)(٩٦)، وهي نفسها ومنازل طسم

٤٥

وجديس، كما جاء في كتاب (آثار البلاد وأخبار العباد)(٩٧).

والأنكى من ذلك أن الكثير من المفسرين والمؤرّخين يذهبون إلى أبعد ممّا ذكرناه آنفاً، ليؤكدوا أن هؤلاء الأقوام الذين عاشوا في زمن الجاهلية وصدر الإسلام، هم من بقايا تلك الأقوام البائدة، فمثلاً يذكر الدكتور جواد علي في كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام): أن بني هلال هم من بقايا ثمود(٩٨). ويذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه (الأغاني): أن قبيلة ثقيف هم من بقايا قوم ثمود(٩٩). ويقول ابن خلدون في تاريخه: إن قوم لحيان هم من أعقاب قوم ثمود(١٠٠). وأفضل ما نختم به هذا البحث أن ننتخب مثالاً واحداً للشخصية النجدية، وكنموذج لمعرفة أحوال وتصرفات هذه القبائل الأعرابية بصورة أكثر وضوحاً، ولتكون شاهداً حياً ومتحركاً لما ذكرناه من صفات وميزات، وإلا فالنماذج كثيرة ومتنوعة لهؤلاء الأقوام التي ما انبرت إلا لتؤذي رسول الرحمة صلّى الله عليه وآله، وتقف حجر عثرة في طريق نشر الرسالة، ثمّ لتصب جام غضبها وشقائها على بيت النبوة وآل الرسول: صلوات الله عليهم أجمعين. ولتكون خير شاهد على ما هو عليه الوهابي السلفي هذه الأيّام وهم تحت مسميات القاعدة والنصرة أو ما يُصطلح عليهم (بحق) التكفيريين(١٠١).

لقد انتخبنا شخصية دراميكية من بين العشرات من الأسماء المطروحة أمامنا، ليسهل للقارئ الكريم، أن يقيس على ذلك ما سواه، إنه:عُيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جوية، من بني فزارة من أهم تلك القبائل النجدية الأعرابية، الذين يرجعون إلى قبيلة غطفان النجدية. ومن تخلفِها سادها رجلٌ أحمق، فكان عُيينة زعيمها، كما أرخ له ابن حزم

٤٦

الأندلسي في كتابه (جمهرة أنساب العرب)(١٠٢)، اسمه حذيفة وكنيته أبو مالك، ولُقب بعُيينة لإصابة في عينيه، كما يقول ابن حجر العسقلاني في كتابه (الإصابة في تمييز الصحابة)(١٠٣)، وعُيينة شخصية أعرابية عاصرت الحقبة المضيئة في تاريخ الإنسانية، وهي عصر النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله، وفي أخبار هذه التحفة النجدية بعض الطرافة وكثير من الغرابة، خصوصاً أنها ترتبط بمَن تشرف برؤية النبي صلّى الله عليه وآله.

اقترن أولاً، اسم هذا الشخص مع قيادات وأمراء المشركين من قريش وغيرهم في حربهم للنبي صلّى الله عليه وآله، وألفوا الأحلاف والاتفاقيات العسكرية والاقتصادية ضد المسلمين، وقادوا الحروب لمحو الرسالة. وقد برز اسمه في واقعة الأحزاب ضمن تجمعات قبائل نجد، التي حاصرت المدينة المنورة، وكان قائداً على رأس قبيلة غطفان النجدية وبني فزارة(١٠٤)، والتي من تخلفِها وجفائها سادها رجلٌ كهذا، فأظهر كثيراً من العداوة والبغضاء تجاه المسلمين والنبي الكريم، وقد نعته رسول الله صلّى الله عليه وآله، في يوم الأحزاب بـ(الأحمق المطاع في قومه)، كما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما(١٠٥).

وعلى الطرف الآخر أكدت الحقائق والشواهد التاريخية والجغرافية، أن أهل نجد هم من أقرب الناس إلى اليهود، وكانوا من أكثر القبائل العربية انتساباً وتزويجاً ومصاهرةً مع اليهود، فكانوا من أقرب العرب حُباً وارتباطاً وانسجاماً في المواقف والعقائد مع اليهود(١٠٦).

وجرياً على قاعدة (شبيه الشيء منجذب إليه) وما يعرفه الرسول الأكرم، وهو العارف العالم صلّى الله عليه وآله، بأحوال نجد الممسوخة وضروب أهلها، وما عليه من الفساد والإفساد، فحينما حصل المسلمون على المئات من سبايا بني

٤٧

قريظة، وهن نساء ذات جمال وحُسن، كما يقول ابن هشام في (السيرة النبوية)، والحلبي في (السيرة الحلبية)، والذهبي في (تاريخ الإسلام) وغيرهم، حيث أمر النبي صلوات الله عليه وآله، ببيع هؤلاء النسوة اليهوديات، واللاتي لم يسلمن في منطقة نجدٍ حصراً، وأخذ مقابل ذلك الخيول ووزعها على المحاربين المسلمين(١٠٧). ولم يسمح للمسلمين بأخذ واحدة منهنّ، وماذا يعني هذا الأمر الخطير؟!

ويحدثنا التاريخ، كما ورد في الكثير من كتب السيرة(١٠٨): أن اليهود كانت تستقوي بقبائل نجد وأعرابها ضد المسلمين ودولتهم الفتية، وإن اليهود خرجت حتى أتت غطفان وقيس عيلان وبني سليم، وكلها من نجد، ولم يكن أحد أسرع من عيينة بن حصن وقومه لقبول شرائط اليهود للوقوف أمام المد المحمدي، مقابل صدقات اليهود ومعوناتهم. فالعلاقات الاجتماعية والأسرية من جهة، وتبادل المنافع والمصالح من جهة أخرى، ناهيك عن التطابق في الروح والفطرة، لمعاداة كل ما هو طيب وطاهر. فقبائل نجد كانت لها أوثق العلاقات والروابط مع يهود خيبر وبني قريضة وبني نضير، بل إن قوت قبيلة غطفان النجدية وغيرها من أهل نجد كان من ثمر خيبر، بشرط معاضدتهم لليهود في عداوتهم وحروبهم ضد المسلمين(١٠٩).

وليس هذا بغريب على مَن تتبع آثار وأفكار وأعمال الوهابيين السلفيين، هذه الأيّام، فهؤلاء القوم وأولئك من جنس واحد، ومن السهل أن تعرف مدى عمق الارتباط الروحي والمادي بين الاثنين، أهل منطقة نجد (سابقاً وحالياً) مع اليهود، فسوف تجد الانسجام الأكمل بين عقائد هؤلاء الوهابيين السلفيين واليهود في بدعهم الضالة حول صفات الله تعالى وأسمائه المقدسة، من جهة وبين نظرتهم لرسولهم النبي عليهم السلام، فنسبت اليهود

٤٨

لأنبيائهم كل فاحشة وسيئة ومعصية، وهؤلاء الكفرة المردة من الوهابيين والسلفيين لم يتوانوا من لصق التهم تلو التهم لنبينا صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين(١١٠).

ووقفت اليهود بالضد مع موسى عليه السلام وأهل بيته، وأذاقتهم الويلات وجرعتهم المصائب، وهذا بالضبط ما عملته الوهابية السلفية بآل النبي عليهم السلام، وقتلت اليهود من بني جنسها وديانتها وأهلها ما لا يعلمه إلا الله تعالى(١١١)، وهكذا كانت جرائم وفجائع الوهابية السلفية بالمسلمين والمؤمنين، ثمّ تستمر عجلة العدوان اليهودي على بني البشر ليومك هذا... وتستمر جرائم وعدوان الوهابيين والسلفيين ليومنا هذا.

لنرجع إلى صلب الموضوع، ونقول ومن أخباره الغريبة: ما ذكره أبو حاتم السجستاني في كتابه (المعمرون والوصايا)(١١٢)، قال: وصى حصن بن حذيفة وِلده عند موته، وكانوا عشرة، وكان سبب موته أن كُرز بن عامر العقيلي طعنه، فاشتد مرضه، فقال لهم: الموت أَرْوَحُ ممّا أنا فيه، فأيكم يُطيعني؟ قالوا: كلنا. فبدأ بالأكبر، فقال: خُذ سيفي هذا، فضعه على صدري، ثمّ أتكئ عليه حتى يخرج من ظهري. فقال: يا أبتاه! هل يقتل الرجل أباه؟ فعرض ذلك عليهم واحداً واحداً فأبوا، إلا عُيينة، فقال: يا أبتِ، أليس لك فيما تأمرني به راحة وهوى، ولك مني طاعة؟ قال: بلى! قال: فمُرني كيف أصنع؟ قال: ألقِ السيف يا بني، فإني أردت أن أبلوَكم فأعرف أطوعكم لي في حياتي، فهو أطوع لي بعد موتي، فاذهب أنت سيد ولدي من بعدي، ولك رياستي، فجمع قومه فأعلمهم بذلك، فقام عُيينة بالرياسة بعد أبيه.

وهو ممّا لا يؤسف له، فإن عُيينة ليس من صلب أبيه الذي الذي يعرف

٤٩

به، بل كانت أمه هوذة بنت معاد الأشجعية (من قبائل نجد)، ومن بائعات هوى وأصحاب أعلام في الجاهلية(١١٣).

وكان عُيينة بن حصن سابع سبعة في الأعراب يشربون دماء قتلاهم(١١٤)، وأيضاً كان ممّن يعتمد عليه في وأد البنات، فيعطي الأب الذي يروم وأد ابنته لعُيينة الضحية مع حفنة من مال(١١٥)، وهذا البطل الأعرابي يتفنن في انتخاب طريقة الوأد... فربما أرطخ المظلومة بالحائط فتتناثر أعضاؤها فضلاً عن دماغها الصغير، وربما ألقاها في بئر، أو قدمها لقمة سائغة للوحوش، ويتلذذ هو في مشاهدة طريقة أكل الحيوانات لجسدها الصغير، ومن رَحِمَها دس بدنها في التراب(١١٦). أليس هذا ما نسمعه ونشاهده اليوم من أبناء عُيينة وذؤبان نجد؟!

وما نقلته المصادر التاريخية(١١٧)، بأن التطاحن والعداوة والبغضاء بين قبائل نجد كانت بدرجة من الخشونة والعنف والاستهتار بقيم الإنسان، كوجود مستقل، حتى أنهم لم يرحموا الجرحى في الحرب، بل يصل حقدهم الأعمى ليطال الأموات، ليس من الرجال فقط، بل يتجاوز الأمر إلى النساء، فكم كتب التاريخ عنهم، ونقل عن قصصهم الدموية المعيبة، في كشف أجساد النساء بعد الدفن، نكاية بأهلها. وكان عُيينة ممّن فاز بهذا السباق، وعُرف عنه الكثير من هذه الرذائل والمثالب، نستغني عن ذكرها(١١٨).

ومن أخبار عُيينة بن حصن في محاربته للإسلام: أنه أغار على إبل للنبي صلّى الله عليه وآله، وكان من جراء ذلك غزوة عُرِفت بغزوة ذي قَرَد، ودعاها بعض مؤلفي السيرة بغزوة الغابة، وكانت سنة ست للهجرة، كما ذكرها ابن هشام في سيرته(١١٩)، والشيخ الخضري بك في (نور اليقين)(١٢٠)،

٥٠

وملخص خبرها: أنه كان للنبي صلّى الله عليه وآله، عشرون لقحة (إبل) ترعى بالغابة، فأغار عليها عيينة بن حصن في أربعين راكباً واستلبها من راعيها. فأرسل النبي صلّى الله عليه وآله، سرية من مقاتلي المسلمين، قتلوا فيها بعض المهاجمين واستنقذوا منهم غالب الإبل.

أما إسلام عُيينة بن حصن، فلم تكن إلا مسرحية فكاهية، اضطر إليها وقومه في سنة المجاعة، فجاؤوا معلنين إسلامهم الظاهري النفعي، ننقلها كما جاء في (التفسير الكبير)(١٢١)، وفي تفسير (كشف الأسرار وعمدة الأبرار)(١٢٢): إن بني أسد بن خزيمة وغطفان، قدِموا على النبي صلّى الله عليه وآله في سنة مجدبة فأظهروا الإسلام، ولم يكونوا مؤمنين في السر، فأفسدوا طرق المدينة بالقذارات، وأغلوا أسعارها، وكانوا يغدون ويروحون إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، ويقولون أتتك العرب أنفسهم على ظهور رواحلها، وجئناك بالأثقال والعيال والذراري، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، يمنون على رسول الله صلّى الله عليه وآله، بذلك يريدون الصدقة ويقولون اعطنا.

ويصف أبو محمد البغوي في تفسيره (معالم التنزيل)(١٢٣)، والواحدي في كتابه (أسباب النزول)(١٢٤)، أنه قدِم وفد من جفاة أعراب نجد، وفيهم الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، والزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعمرو بن الاهتم، على النبي صلّى الله عليه وآله، فدخلوا المسجد على عادتهم من الجفاء وعلو الصوت في الكلام، فنادوا النبي صلّى الله عليه وآله من وراء حجراته أن اخرج إلينا يا محمد، فإن مدحنا زين وإن ذمنا شين، فاجتمعوا عنده صلوات الله عليه وآله، بالمفاخرة والشعر، وكثر اللغط والهرج عنده صلّى الله عليه وآله، فأنزل الله تعالى الآية الكريمة:( إِنَ الَذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) (سورة الحجرات، الآية: ٤). والآية الكريمة:( يَا أَيُهَا

٥١

الَذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَبِيِ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ) (سورة الحجرات، الآية: ٢).

ونعرض هنا بعض الحوادث التي كانت للنبي صلّى الله عليه وآله، مع هذا المسلم النجدي،فأولاً: امتازت نجد بالعدد الأكبر من المقاتلين الذين كان النبي صلّى الله عليه وآله، يُعطيهم من الغنائم والسبي والأموال، لكسب ودهم ودفع شرورهم(١٢٥). وعُيينة هذا كان من المؤلفة قلوبهم، حيث ينقل هذه الواقعة البخاري في (صحيحه)(١٢٦)، وأخرجه مسلم أيضاً في (صحيحه)، عن أبي الأحوص مرفوعاً(١٢٧): إن علياً عليه السلام، وهو باليمن بعث إلى النبي صلّى الله عليه وآله بذهبية، فقسمها بين الأربعة: الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن حصن بن بدر الفزاري، وزيد الطائي من بني نبهان، وعلقمة بن عُلاثة العامري، فغضبت قريش والأنصار، قالوا: يُعطي صناديد أهل نجد ويدعُنا، فقال صلّى الله عليه وآله:إنما أتألفهم . وهذا ما أورده ابن هشام في (سيرته)(١٢٨)، والبيهقي في (الدلائل)(١٢٩)، وابن كثير في (البداية والنهاية) أيضاً(١٣٠).

حادثة أخرى، عن شريك بن شهاب عن أبي بزرة، أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله، بأذني ورأيته بعيني، وقد أُتي رسول الله صلّى الله عليه وآله بمال فقسمه، فأعطى مَن عن يمينه، ومَن عن شماله، ولم يعطِ مَن ورائه شيئاً، فقام إليه رجل من ورائه، وهو (عيينة بن حصن)، فقال: يامحمد ما عدلت في القسمة. وكان رجل أسود مطموم الشعر عليه ثوبان أبيضان، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وآله غضباً شديداً، وقال:والله لا تجدون بعدي رجلاً هو أعدل مني، ثمّ قال:يخرج في آخر الزمان قوم، كأن هذا منهم، يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع المسيح الدجال، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم...

٥٢

هم شر الخلق والخليقة. أخرجه مسلم في صحيحه، باب الزكاة (١٣١)، وأحمد بن حنبل في مسنده(١٣٢).

وإليك أيضاً حديث عُيينة بن حصن بن بدر الفزاري، من أعراب نجد يوم عرض الخيل، وذلك ممّا أغضب النبي صلّى الله عليه وآله، بما مدح به النجديين، فقد ذكر الطبراني في المعجم الكبير عن معاذ بن جبل(١٣٣)، قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله في دارنا يعرض الخيل، قال: فدخل عليه عيينة بن حصين، فقال للنبي صلّى الله عليه وآله: أنت أبصر بالخيل مني وأنا أبصر بالرجال منك. فغضب رسول الله صلّى الله عليه وآله حتى ظهر الدم في وجهه، فرد عليه:فأي الرجال أفضل؟ فقال عُيينة: رجال يكونون بنجد يضعون سيوفهم على عواتقهم، ورماحهم على كواثب خيلهم، ثمّ يضربون بها قُدماً قُدماً، فقال رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام:كذبت، بل رجال أهل اليمن أفضل، الإيمان يمان والحكمة يمانية... الجفاء والقسوة في الفدادين، أصحاب الوبر ربيعة ومضر، من حيث يطلع قرن الشيطان. رواه أحمد بن حنبل في (مسنده) بطريقين(١٣٤)، وأخرجه أبو نعيم في (معرفة الصحابة)(١٣٥)، والمزي في (التهذيب)(١٣٦)، والحاكم في (المستدرك)(١٣٧).

ونموذج آخر من تصرفات عيينة بن حصن، حيث استأذن رسول الله صلّى الله عليه وآله في أن يأتي أهل الطائف فيدعوهم إلى الإسلام، بعد أن حاصرهم المسلمون، وذلك بعد واقعة حنين، فأذن له، فجاءهم فأمرهم بالثبات في حصنهم وقال: لا يهولنكم قطع ما قُطع من الأشجار وكثرة المسلمين في كلام طويل، فلما رجع، قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله:ما قلت لهم؟! قال: دعوتهم إلى الإسلام وأنذرتهم النار وذكرتهم الجنة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله:كذبت، بل قلت لهم كذا وكذا، فقال: صدقت يا رسول الله، أتوب إلى الله وإليك من

٥٣

ذلك، هذا ما ذكره البيهقي في (دلائل النبوة)(١٣٨)، وابن كثير في (البداية والنهاية)(١٣٩)، والصالحي في (السيرة الشامية)(١٤٠).

ومما جاء في السيرة، أنه بعدما تعذر على المسلمين فتح حصن الطائف، وفيه قبائل من هوازن وثقيف النجدية، يقول عُيينة بن حصن في وصف مَن في الحصن: إنهم أمجاد كرام، فقال له رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة، أتمدح المشركين بالامتناع من رسول الله صلّى الله عليه وآله، وقد جئت تنصره! فقال: إني والله ما جئت لأقاتل ثقيفاً معكم، لكني أردت أن يفتح محمد صلّى الله عليه وآله الطائف، فأصيب من ثقيف جارية أطؤها، لعلها تلد لي رجلاً، فإن ثقيفاً قوم مناكير(١٤١). ذووا دهاء وفطنة، كما وصفها ابن هشام في سيرته.

وله موقف نظير هذا في سبايا هوازن، نذكره كما جاء في الكاشف للذهبي: أن قبيلة هوازن جاءت تطلب من الرسول صلّى الله عليه وآله، أن يمُن عليهم ويطلق سراح أسرائها، فقال عليه وآله أفضل الصلاة والسلام:وأما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وآله، وقال الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عُيينة بن حصن: أما أنا وبنو فزارة، فلا(١٤٢).

وروي أيضاً: أن عيينة بن حصن قد دخل على النبي صلّى الله عليه وآله بغير إذن، فلما قيل له: أين الإذن؟ قال: ما استأذنت على أحد قبلك. ورأى عيينة عائشة عند النبي صلّى الله عليه وآله فقال: ما هذه الحُمَيراء معك يا محمد؟ فقال صلّى الله عليه وآله:هي عائشة بنت أبي بكر، فقال: طلقها وأنزل لك عن أم البنين (أجمل منها) يعني امرأته، كما ذكرها ابن حجر في (فتح الباري)(١٤٣)، وابن عبد

٥٤

البر في (الاستيعاب)(١٤٤).

ويروى: أن عُيينة بن حصن، سمع قول رسول الله صلّى الله عليه وآله في تفضيل قبائل الحجاز واليمن على قبائل نجد، بقوله:مُزينة وجُهينة وأسلم وغفار خير من تميم وأسد وعامر وغطفان، فقال عيينة بن حصن: لأن أكون في النار مع هؤلاء (تميم وأسد وعامر وغطفان)، أحبُ إليَّ من أن أكون مع أولئك في الجنة. وحينما سمعت ابنته مليكة - وهي زوجة عثمان بن عفان المحبوبة - قول أبيها، قالت: والله ما أبعد أبي - أي: لم يبتعد أبي عن قول الحقّ - والولد على سرّ أبيه(١٤٥).

وكانت مليكة بنت عُيينة بن حصن، هذه المرأة المفضلة عند عثمان بن عفان، كما ينقل الطبري في (تاريخه الكامل)(١٤٦)، تؤاكل عثمان وهو يفطر في يوم من أيّام شهر رمضان المبارك، فدخل عُيينة عليهما، فدعاه إلى الإفطار، فقال له: أنا صائم، فقال عثمان له متعجباً: أتصوم الليل كذلك؟ فقال عيينة: مثلت بين صوم الليل والنهار، فوجدت صوم الليل أحف عليَّ - أي: أهون عليَّ - من صوم النهار، فأنا أصوم الليل وأفطر في النهار(١٤٧).

لم يدم هذا المسلم الجديد الإسلام، على دينه طويلاً، ولم يستأنس بدين الله تعالى، ولم تؤثر فيه ألطاف ومحبة نبي الرحمة صلّى الله عليه وآله، فلم تمضِ على إسلامه أكثر من سنتين، حتى قامت ثائرته المنافقة، وعصبيته الجاهلية، فارتد مع قومه غطفان، وبايع (الكاهن المتنبئ) طليحة بن خويلد، من بني أسد النجدية، على نبوته، وقاتل دونه(١٤٨).

وقال ابن حجر العسقلاني في كتابه (الإصابة في تمييز الصحابة)(١٤٩): إنه لما مات رسول الله صلّى الله عليه وآله، ارتد عُيينة عن الإسلام، وقال لقومه: والله! لَنبي من بني أسد أحبُ إليَّ من نبي من بني هاشم! وقد مات محمد، وهذا

٥٥

طليحة فاتبعوه، فوافقه قومه بنو فزارة على ذلك(١٥٠)، وخرجوا مع أسد وغطفان وتميم، مرتدين لقتال المسلمين، على قول السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء)(١٥١)، والدكتور عبد الوهاب علوب في كتابه (تاريخ الجزيرة العربية والإسلام)(١٥٢).

لكن الله تعالى أخمد فتنتهم، وأبعد شرهم. وأُخذ عُيينة أسيراً إلى دار الخلافة، وبُعث به إلى المدينة، ويداه مجموعة إلى عنقه، فدخل المدينة وهو كذلك، فجعل الولدان والغلمان يطعنونه بأيديهم ويقولون: أيْ عدوَ الله! ارتددت عن الإسلام؟ فيقول: والله ما كنتُ آمنتُ قط! فأُتي به إلى أبي بكر، فمن عليه لقرابة بينهما، وأطلق سراحه(١٥٣)، وقد أحسن عيينة الارتباط بدار الخلافة، وأخذ منهم المساعدات المالية، والأراضي الزراعية والمكافأت الثمينة، تثميناً لمساندته إياهم في الأيّام العصيبة التي مرت بها الخلافة(١٥٤)، حتى مات.

لسنا من هواة نقل قصص هذه الوحوش الآدمية، ترفاً، بقدر ما نريد أن نقرب للقارئ الكريم، أسلوب حياة هؤلاء الناس، وطريقة عيشهم، وتعاملهم مع بعضهم البعض، وهل يشك أحد من الباحثين أن هؤلاء كانوا على شفى حفرة من النار... فإذا ما كان هذا الرجل إنموذجاً لرئيس قبيلة وسيد قوم، فما بالك بأفراد القبيلة وأعرابها! وما بالك بعموم أهالي نجد ورجالها!

ويشهد الله تعالى، كلما نفكر بهذه الأنماط من حياة هؤلاء الأقوام، نتعرف أكثر فأكثر على عظمة نبينا في سمو أخلاقه وصبره وحسن معاملته صلّى الله عليه وآله، مع هذه الوحوش الإنسية، حتى حصل صلوات الله عليه وعلى آله، وسام التقدير من العلي الأعلى، ليكون بشارة له وإكراماً من ربه، في قوله تعالى:( وَإِنَكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ( سورة القلم، الآية: ٤).

٥٦

وأخيراً إذا أردنا أن نُلخص حركة هؤلاء القوم ضمن خط بياني عام، فسوف نحصل على مؤشرات خطيرة، تتميز بالنفاق والازدواجية والخبث والجفاء في العقائد والفكر من جانب، وحب القتل والسلب والسبي والدمار من جانب آخر.

وإليك بعض ما قد حصل من التدرج في التحول لدى الأعراب النجديين:

١- من معاندين لرسالة السماء، يصوبون سهام كفرهم وجفائهم باتجاه الرسول صلّى الله عليه وآله والرسالة.

٢- ثمّ إلى مسلمين منافقين يتربصون بالإسلام شراً في عهد النبي صلّى الله عليه وآله.

٣- ثمّ إلى مرتدين في عهد أبي بكر، تحت زعامة من ادعوا النبوة، كأمثال مسيلمة الكذّاب وسجاح وطليحة والأشعث وغيرهم.

٤- ثمّ إلى مسلمين فاتحين في عهد عمر بن الخطاب، يغنمون ويأسرون، لا يهمهم من الفتوحات (الإسلامية) سوى مغانم مادية، وحب القتل، وسبي امرأة أو أسر غلام.

٥- ثمّ كانوا مع الجمل وأصحاب الجمل، كأنهم رجوم الشياطين، عند أربابهم عائشة وطلحة والزبير.

٦- ثمّ كانوا مع معاوية بن أبي سفيان في حربهم ضد خلافة الإمام علي عليه السلام.

٧- ثمّ تحولوا إلى خوارج على عهد علي بن أبي طالب عليه السلام، يفسدون في الأرض ويقتلون المسلمين بغير حق، ويكفرون مَن هو ليس على ملتهم.

٥٧

٨- ثمّ عكفوا إلى الحسين بن علي وأهل بيته وأصحابه عليه السلام، يُقاتلونهم بغير وجه حق، فكانوا من أهم قيادات الجيش الأموي وقبائله الأعرابية المقاتلة، التي أخرجت ضغائن بدر وأحد وحنين وغيرهن ضد النبي وآله عليهم السلام.

٩- ثمّ أصبحوا جنوداً ليزيد بن معاوية؛ لإباحة المدينة المنورة لثلاثة أيّام في واقعة الحَرة، ورئيسهم مسلم بن عقبة المري النجدي، وفيها ولدت ألف من النساء تلك السنة سفاحاً، وافتضت الآلاف من البواكر من بنات المهاجرين والأنصار، وقتل فيها أكثر من عشرة الآف من الصحابة والتابعين وعموم المسلمين، ومثلهم من النساء والأطفال والشيوخ.

١٠- ثمّ جاءوا إلى بيت الله العتيق، وخليفتهم يزيد بن معاوية، ورئيسهم الحصين بن نمير السكوني النجدي لهدمه، وضربوا الكعبة المباركة بالمنجنيق، حتى احترقت أستارها وتفطر بنيانها.

كل ذلك التقلب من حرام إلى حرام، وجريمة إلى أخرى، والوغول في الفتنة والفساد والإفساد، حدث فيما بين موت النبي صلّى الله عليه وآله - أي: في السنة (١١) هجرية - إلى مقتل الإمام الحسين عليه السلام على أيديهم سنة (٦١) للهجرة المباركة، بمعنى أنه خلال نصف قرن، أي: خمسين عاماً فقط.

١١- ثمّ عاد أعراب نجد للفتنة مرة أخرى في العصر العباسي، بعد أن ملّوا من الإغارة الروتينية على الحجاج، وفيما بينهم، ووجدوا الغطاء الديني في دعوة المغامر يحيى بن عمر المهلبي التميمي النجدي، فاتبعوه مع أغلبية من الرقيق الزنوج فيما عرف بثورة الزنج (ظلماً وزوراً) والتي خربت جنوب العراق واليمن والخليج والشامات، وسببت في قتل عشرات الألوف وهتك الأعراض(١٥٥).

٥٨

١٢- ثمّ ما لبث أعراب نجد أن قاموا مرة أخرى في ثورة هادرة تحت اسم القرامطة، وامتدت غاراتهم إلى العراق والشام والحدود المصرية، ولم تنجُ حتى الكعبة من تدميرهم، وما فعلوه في الكعبة وقتل الحجاج فيها وإلقاء الجثث في بئر زمزم، واقتلاع الحجر الأسود، فذلك ما استفاضت فيه الأخبار(١٥٦).

١٣- وأخيراً وليس آخراً، كانت الحركة الوهابية السلفية، الوارث اللاشرعي لنجد ومن عليها، وقد جمعوا صفات وخصائص مَن سبقوهم، وزادوا عليهم، بمرات عديدة، وها قد دخلنا القرن الثالث لمولدهم المشؤوم، وما زال الإسلام والمسلمون والعالم يضج من جرائمهم وأحقادهم، التي ما انفكت تصدر الإرهاب والتكفير والفساد إلى مختلف أنحاء العالم.

لقد فاقت قبائل نجد وأعرابها القساة، على المغول في سياسة الأرض المحروقة، أو إبادة الأحياء وكل مظاهر الحياة في المدن التي يستولون عليها، فكانوا يخرجون عن المدينة وليس فيها عين تطرف، وكلما امتد بهم الزمان، ازدادوا وحشية في استباحة الدماء والأعراض ونشر الخراب والدماء، ممّن سبقوهم في هذا المسير(١٥٧).

هكذا كانت أعراب نجد الممسوخة في تأريخها الأسود، ولا زالت على ما هي عليه إلى اليوم. فحين ظهر ابن عبد الوهاب، وتحالف مع حمد بن سعود في الدرعية، تحت مباركة وإشراف الصليبية والصهيونية العالمية، وكان أهم بنود تحالفهما (الدم بالدم، والهدم بالهدم)(١٥٨)، وأعطاه ابن عبد الوهاب تشريع الاستحلال وشرعية الإجرام، بعد أن اتهم كل المسلمين بالكفر، وجعل ذلك الاتهام مبرراً دينياً للغزو والتوسع، وبذلك قامت الدولة

٥٩

(السعودية) الأولى، ونشرت السلب والنهب وسفك الدماء في الجزيرة العربية وحول الخليج وفي العراق والشامات، حتى كانوا مصداقاً لأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وآله: في أنهم أصحاب الزلازل والفتن، وفيهم تسعة أعشار الشر، وعندهم الداء العضال. هذه الوحشية في قتل الأبرياء كانت تقوم على أساس منهج فكري، أشار إليه النويري في كتابه (نهاية الأرب) في معرض حديثه عن التربية الفكرية لشباب القرامطة(١٥٩)، وكما أشار إليها الطبري في (تاريخه) عن قصة واقعية لشاب اقتنع بالدين القرمطي وهجر أمه وأسرته؛ مقتنعاً بالدين الجديد ومعتقداً استحلال دماء كل مَن ليس على مذهبهم(١٦٠)، فجاء على أهله، وأبادهم قبل غيرهم، ظناً منه أنهم كفار.

ولا تختلف مذابح الخوارج والزنج والقرامطة وقادتهم، عن المذابح التي قام بها النجديون الوهابيون السعوديون من أعراب نجد أساساً، ففي تأسيس دولتهم (السعودية) الأولى عام ١١٥٦هـ/١٧٤٥م، والدولة (السعودية) الثانية عام ١٢٣٤هـ/١٨٢٤م، ثمّ دولتهم (السعودية) الثالثة الحالية عام ١٣٤٥هـ/ ١٩٠٣م(١٦١)، وصلت تلك المذابح إلى العراق والشام والخليج، وقبلها في البيت الحرام وسائر مدن الحجاز، وكان أكثر الضحايا من النساء والأطفال والشيوخ.

ولا تختلف هذه المدرسة الفكرية التي كان يعدها القرامطة لغسيل مخ الشباب عن الأعداد الفكري الذي كان فقهاء الوهابية يعدونه لشباب الأعراب النجديين في العقد الثاني من القرن العشرين، والذي يتحول به الشاب الأعرابي إلى مقاتل عنيد، يرى الجهاد في استحلال قتل كل مَن ليس وهابياً، وعن طريق هذا الإعداد الثقافي تكونت جماعات (الوهابي السلفي) جنود عبد العزيز بن حمد بني سعود، الذين أسسوا الدولة السعودية

٦٠