المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ١

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)0%

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 220

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

مؤلف: الإمام الكبير والـمُصنّف الشّهير الشّيخ فخر الدّين الطريحي النّجفي
تصنيف:

الصفحات: 220
المشاهدات: 34736
تحميل: 4445


توضيحات:

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 220 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 34736 / تحميل: 4445
الحجم الحجم الحجم
المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء 1

مؤلف:
العربية

والنّبي الـمُصطفى الرّسول , والوصي الـمُرتضى والزّكي المجتبى , وأئمة الهُدى وذوي النّهى , وحجج الله في الورى.

فبالله عليكم أيّها المحبّون لأولاد فاطمة الزّهراء , نوحوا واندبوا على المنبوذين بالعراء , المسلوبين لأولاد الأدعياء , المحمولين على أقتاب الجمال بلا مهاد ولا وطاء :

اُصيبت ذراري الـمُصطفى بمصيبة

تجدد حزني كل يوم مجدد

أذاب فؤادي رزؤهم فبكيتهم

لأنهم فخري وذخري وسؤدد

فكيف ألذ العيش أو أعرف الكرى

وقلبي على جمر الغضا يتوقد

روي عن بعض الثُقاة الأخيار : أنّ الحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) دخلا يوم عيد على حجرة جدّهما رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , فقالا : (( يا جدّاه , اليوم يوم العيد , وقد تزيّن أولاد العرب بألوان اللباس ولبسوا جديد الثّياب , وليس لنا ثوب جديد , وقد توجّهنا لجنابك لنأخذ عيديتنا منك , ولا نريد سوى ثياب نلبسها )) فتأمّل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) إلى حالهما وبكى , ولم يكن عنده في البيت ثياب تليق بهما , ولا رأى أن يمنعهما فيكسر خاطرهما , فتوجّه إلى الأحدية وعرض الحال على الحضرة الصّمدية , وقال : (( إلهي , اجبر قلبهما وقلب اُمّهما )) فنزل جبرائيل من السّماء تلك الحال , ومعه حلّتان بيضاوتان من حلل الجنّة , فسّر النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وقال لهما : (( يا سيّدي شباب أهل الجنّة , هاكما أثوابكما خاطهما خيّاط القدرة على طولكما , أتتكما مخيطة من عالم الغيب )) فلمّا رأيا الخلع بيضاً , قالا : (( يا جدّاه , كيف هذا وجميع صبيان العرب لا بسون ألوان الثّياب ؟! )) فأطرق النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ساعة متفكّراً في أمرهما , فقال جبرائيل : يا مُحمّد , طب نفساً وقُر عيناً , إنّ صابغ صبغة الله عزّ وجلّ يقضي لهما هذا الأمر , ويفرّح قلوبهما بأيّ لون شاء , فأمر يا مُحمّد , بإحضار الطّشت والإبريق فحضرا , فقال جبرائيل : يا رسول الله , أنا أصبّ الماء على هذه الخلع , وأنت تفركهما بيدك , فتصبغ بأيّ لون شاءا فوضع النّبي حلّة الحسن في الطّشت , فأخذ جبرائيل يصبّ الماء ، ثمّ أقبل النّبي على الحسن , وقال : (( يا قرّة عيني , بأيّ لون تريد حلّتك ؟ )) فقال : (( أريدها خضراء )) ففركها النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بيده في ذلك الماء , فأخذت بقدرة الله لوناً أخضر فابقاً كالزّبرجد الأخضر , فأخرجها النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وأعطاها للحسن فلبسها , ثمّ وضع حلّة الحُسين (عليه‌السلام ) في الطّشت , وأخذ جبرائيل يصبّ الماء , فالتفت النّبي إلى نحو

١٢١

الحُسين , وكان له من العمر خمس سنين , وقال له : (( يا قرّة عيني , أيّ لون تريد حلّتك ؟ )) فقال الحُسين (عليه‌السلام ) : (( يا جدّاه , أريدها حمراء )) ففركها النّبي بيده في ذلك الماء , فصارت حمراء كالياقوت الأحمر فلبسها الحُسين , فسرّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) بذلك , وتوجّه الحسن والحُسين إلى اُمّهما فرحين مسرورين , فبكى جبرائيل لـمّا شاهد تلك الحال , فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( يا أخي , في مثل هذا اليوم الذي فرح فيه ولداي تبكي وتحزن , فبالله عليك إلّا ما أخبرتني ؟ )) فقال جبرائيل : اعلم يا رسول الله , إنّ اختيار ابنيك على اختلاف اللون , فلا بدّ للحسن أن يسقوه السّم , ويخضر لون جسده من عظم السّم , ولابدّ للحُسين أن يقتلوه ويذبحوه ويخضّب بدنه من دمه فبكى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) وزاد حزنه لذلك.

وروى هشام بن عروة , عن اُمّ سلمة , أنّها قالت : رأيت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يُلبس ولده الحُسين (عليه‌السلام ) حلّة ليست من ثياب أهل الدّنيا , وهو يُدخل أزرار الحُسين بعضها ببعض , فقلت له : يا رسول الله , ما هذه الحلّة ؟ فقال : (( هذه هدية أهداها إليّ ربّي لأجل الحُسين , وأنّ لحمتها من زغب جناح جبرائيل , وها أنا اُلبسه إيّاها وأزيّنه بها , فإنّ اليوم يوم الزّينة وأنا أحبّه )).

وروى أبو عبد الله المفيد النّيسابوري في أماليه , أنّه قال : قال الرّضا (عليه‌السلام ) : (( عري الحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) وقد أدركهما العيد , فقالا لاُمّهما فاطمة : يا اُمّاه , قد تزيّن صبيان المدينة إلّا نحن , فما بالك لا تزيّنيننا بشيء من الثّياب , فها نحن عرايا كما ترين ؟ فقالت لهُما : يا قُرّة العينين , إنّ ثيابكما عند الخياط , فإذا خاطها وأتى بها زيّنتكما بها يوم العيد تطيب خواطرهما , قال : فلمّا كانت ليلة العيد , أعادا القول على اُمّهما وقالا : يا اُمّاه , الليلة ليلة العيد فبكت فاطمة رحمة لهما , وقالت لهما : يا قُرّة العينين طيبا نفساً , إذا أتاني الخيّاط بها , زيّنتكما إن شاء الله تعالى قال : فلمّا مضى وهن من الليل وكانت ليلة العيد , إذ قرع الباب قارع , فقالت فاطمة : مَن هذا ؟ فنادى : يا بنت رسول الله , افتحي الباب أنا الخيّاط قد جئت بثياب الحسن والحُسين قالت فاطمة : ففتحت الباب , فإذا هو رجل لم أر أهيب منه شيبة ولا أطيب منه رائحة , فناولني منديلاً مشدوداً ثمّ انصرف لشأنه , فدخلت فاطمة وفتحت المنديل , فإذا فيه قميصان ودراعتان وسروالان ورداءان وعمامتان وخفّان , فسرّت فاطمة بذلك سروراً عظيماً , فلمّا استيقظ الحسنان , ألبستهما وزيّنتهما

١٢٢

بأحسن زينة , فدخل النّبي إليهما يوم العيد وهما مزيّنان , فقبّلهما وهنأهما بالعيد , وحملهما على كتفيه ومشى بهما إلى اُمّهما , ثمّ قال : يا فاطمة , رأيت الخيّاط الذي أعطاك الثّياب هل تعرفيه ؟ قالت : لا والله , لست أعرفه ولست أعلم أنّ لي ثياباً عند الخياط , فالله ورسوله أعلم بذلك فقال : يا فاطمة , ليس هو خيّاط , وإنّما هو رضوان خازن الجنان , والثّياب من حلل الجنّة , أخبرني بذلك جبرائيل عن ربّ العالمين )) :

فضائلهم جلت مناقبهم علت

مدائحهم شهد منائحهم ند

علوا في الورى جداً واُماً ووالداً

وطابوا وطاب الاُم والأب والجد

بأسمائهم يستجاب البر والرضا

بذكرهم يستدفع الضر والجهد

روى بعض الأخيار : أنّ أعرابياً أتى الرّسول , فقال له : يا رسول الله , لقد صدت خشفة غزالة وأتيت بها إليك؛ هدية لولديك الحسن والحُسين , فقبّلها النّبي ودعا له بالخير , فإذا الحسن واقف عند جدّه , فرغب إليها وأعطاها إيّاه , فمضى ساعة إلّا والحُسين قد أقبل , فراى الخشفة عند أخيه يلعب بها , فقال : (( يا أخي , من أين لك هذه الخشفة ؟ )) فقال الحسن : (( أعطانيها جدّي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) )) فسار الحُسين مسرعاً إلى جدّه , فقال : (( يا جدّاه , أعطيت أخي خشفة يلعب بها ولم تعطني مثلها ؟ )) وجعل يكرر القول على جدّه وهو ساكت , لكنّه يسلّي خاطره ويلاطفه بشيء من الكلام , حتّى أفضى من أمر الحُسين إلى أن همّ يبكي , فبينما هو كذلك , إذ نحن بصياح قد ارتفع عند باب المسجد , فنظرنا فإذا ظبية ومعها خشفها , ومن خلفها ذئبة تسوقها إلى رسول الله وتضربها بأحد أطرافها , حتّى أتت بها إلى النّبي , ثمّ نطقت الغزالة بلسان فصيح , وقالت : يا رسول الله , قد كانت لي خشفتان , إحداهما صادها الصّياد وأتى بها إليك , وبقيت لي هذه الاُخرى وأنا بها مسرورة , وإنّي كنت الآن أرضعها , فسمعت قائلاً يقول : أسرعي أسرعي يا غزالة بخشفك إلى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وأوصليه سريعاً ؛ لأنّ الحُسين واقف بين يدي جدّه وقد همّ أن يبكي , والملائكة بأجمعهم قد رفعوا رؤوسهم من صوامع العبادة , ولو بكى الحُسين , لبكت الملائكة المقرّبون لبكائه وسمعت أيضاً قائلاً يقول : أسرعي يا غزالة , قبل جريان الدّموع على خدّ الحُسين , فإن لم تفعلي سلّطت عليك هذه الذّئبة تأكلك مع خشفك.

١٢٣

فأتيت بخشفي إليك يا رسول الله , وقطعت مسافة بعيدة , لكن طويت الأرض حتّى أتيتك سريعة , وأنا أحمد الله ربّي كيف جئتك قبل جريان دموع الحُسين على خدّه فارتفع التّكبير والتّهليل من الأصحاب , ودعا النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) للغزالة بالخير والبركة , وأخذ الحُسين الخشفة وأتى بها إلى اُمّه الزّهراء (عليها‌السلام ) , فسرّت بذلك سروراً عظيماً.

فيا أيّها السّامعون تأمّلوا وتبصّروا وتدبّروا وتفكّروا , إذا كان النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يحزنه حزنهما ويسرّه سرورهما , وكذلك الزّهراء اُمّهما , وكذلك الأنزع البطين أبوهما , فكيف لو نظروه مطروحاً على الرّمضاء , يتلظّى من الظّمأ بين الأعداء , وذراريه وأولاده يُحملون على الأقتاب بغير غطاء ولا وطاء ؟! حزناً والله لا ينفذ وحسرة في طول الزّمان تجدد فعلى الأطائب من أهل البيت فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فقال فيهم :

القصيدة للشيخ الخليع ي (رحمه‌ الله تع الى)

لم أبك من وقفة على الدمن

ولا لخل نأى ولا سكن

ولم تهجني الديار موحشة

ولا شجتني بواكر الظعن

لكن شجاني بكاء فاطمة

على أبيها بمدمع هتن

وبيت أحزانها ووحدتها

فيه حمى مقلتي عن الوسن

ومنعها من حقوقها بأباطيل

أحاديثهم يروعني

وقولهم ليس للنبي مواريث

خلاف الفروض والسنن

ومشيها في ملاءة مثل مشي

الـمُصطفى راعني وأرقني

مع نسوة من قريش تحجبها

وهي تشكو من لوعة الحزن

وا حر قلبي لها وأَنتها

قد أجهشتهم والدمع كالمزن

ثم تنادي الأنصار يا بيضة الإسلام

هل من ناصر فينصرني

أنا ابنة الـمُصطفى النّبي ومن

أطفأ نار الضلال والفتن

إن لم تكونوا أنصار آل رسول

الله فما ينوبهم فمن

خذوا بحقي من المكذب بالدين

فقد دعّني ودافعني

بأي شرع يزوى تراث أبي

عني ويجتاحني ويظلمني

١٢٤

هل دنت ربي بغير ملته

أو لم أطعه فلا يورثني

أم خصّ هذا دوني وعلمه

ما لم يكن والدي يعلمني

حتى احتوى نحلتي وبلغة أطفالي

عناداً منه وأعوزني

فليرتحلها مخطومة ذللا

تكون في قبره مع الكفن

ويوم حشر العباد ألقاه والحاكم

رب الأنام ذو المنن

ويلاه من كل شارق بهج

ويلاه من كل غارب وجن

مات اعتمادي وفت في عضدي

ونيل مني وقد وهى ركني

وجار في حكم ظالمي سفهاً

فحسبي الله فهو ينصفني

وحسب خصمي والدي وبما

أودعني قبل أن يودعني

يا سادتي يا بني النّبي ومن

مديحهم في المعاد ينقذني

حبكم في الورى يشرفني

وبغض أعدائكم يخلصني

ديني هو الله والنبي ومولاي

إمام الهدى أبو حسن

عرفتهم بالدليل والنظر

المبضر لا كالمقلد اللكن

والقول عندي بالعدل معتقدي

من غير شك فيه يخامرني

لست أرى أن خالقي أبداً

يفعل بي ما به يعاقبني

ولا على طاعة ومعصية

يحيرني كارهاً ويلزمني

وكيف يعزى إلى القبيح من الفعل

وحاشاه وهو عنه غني

لكن أفعال تناط بنا ما

كان من سيء ومن حسن

وبالدليل القطعي أوجب للمعصوم

حكم الحضور والزمن

ولا أولي حكم الكتاب إلى

من لا على سورة بمؤتمن

وكل من يدعي الإمامة بالباطل

عندي كعابد الوثن

يا محنة الله في العباد ومن

رميت فيه بسائر المحن

يا نافذ الأمر في السماء وفي الأرض

ويا من إليه مرتكن

تكليمك الجنان والجنيين وإحياؤك

للميت ليس يقنعني

وردك الشمس بعدما غربت

تدهش غيري وليس تدهشني

والماء لـمّا طغى الفرات وما

حدّث سلمان لا يغيرني

١٢٥

أوردت قلبي ماء الحياة ولم

تزل بكأس اليقين تنهلني

فمشربي منك لم يزل أبداً

يورد عني وعنك يوردني

ونشوئي من شراب معرفتي

تطرب مني طوراً وتطربني

دعاك سري بحيث تسمع نجواي

وتدعو سري فتسمعني

وكلما ازددت فيك معرفة

ينكرني حاسدي ويجحدني

ولست آسي بالقرب منك على

مقصر في هواك يبعدني

تمنعت أعين المعارف أن تدرك

إلّا للباحث اللسن

والعلم يأبى أن ينال بغير الجد

فلينتبه ذووا الفطن

فاسمع لها درة مهذبة

تعرف عن صدر عارف لقن

تكرم في نائلها وغرابتها

والمندل الرطب هين العطن

بك الخليعي يستجير فكن

عوناً له من طوارق الفتن

١٢٦

المجلس السّابع

في الليلة الرّابعة من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب ثلاثة

الباب الأوّل

أيّها الاُمناء الصّالحون والأتقياء الصّادقون , اعلموا أنّ الله تعالى جعل أعمار العباد مضمار السّباق إلى دار السّلام ، فيا خيبة مَن أفنى عمره فيما ليس له بل عليه ! ويا حسرته إذا جاء الأجل ووافى إليه ! :( حَتّى‏ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ * لَعَلّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ كَلّا إِنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) (١) لا سيّما إذا كان الخصم في يوم المعاد رسول الله الشّاهد على العباد ، فيا ليت علمي ماذا هناك الظّالم لعترة الرّسول , جهدوا في إطفاء نور خاتم النّبيين , ومحوا ذرّيّته من بين العالمين , ومنعوهم من الأخماس التي جعلها الله تعالى لهم عوضاً عن أوساخ النّاس , وانتزعوا ما انتحلهم الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , ولم يرقبوا ربّهم ولم يلتفتوا إليه حتّى أذاقوهم حرّ السّيوف ومرارات الحتوف , فهم ما بين قتيل مرمّل بدمائه , ومشرّد عن أوطانه وأحبّائه , أو طريح ملقى بالعراء يودّ أنّه يكون تحت طباق الثّرى حتّى لا يُرى ، أهكذا أمرهم الرّحمن ؟ اُمّ على هذا دلّهم الرّسول والدّيان ؟ :

الفيء منقسم لغيرهم

وأكفهم من فيئهم صفر

المال حل للعصات ويحرمه

الكرام السادة الغر

والناس في أمن وليس لهم

عن طارق يغشاهم حذر

____________________

(١) سورة المؤمنون / ٩٩ - ١٠٠.

١٢٧

ويكاد من خوف ومن فزع

بهم يضيق البر والبحر

حال تسود ذوي النهي وبها

يستبشر المتجاهل العمر

روي عن الصّادق جعفر بن مُحمّد (عليه‌السلام ) , أنّه قال : (( لـمّا ولي أبو بكر بن أبي قحافة , قال له عمر : إنّ النّاس عبيد هذه الدُنيا لا يريدون غيرها , فامنع عن عليّ وأهل بيته الخمس والفيء وفد كاً , فإنّ شيعته إذا علموا ذلك , تركوا عليّاً وأقبلوا إليك ؛ رغبة في الدّنيا وإيثاراً لها ومحاباة عليها ففعل أبوبكر ذلك وأضرب عنهم جميع ذلك , فلمّا أقام مناديه : مَن كان له عند رسول الله دين أو عدّة , فليأتني حتّى أقضيه ؟ قال عليّ لفاطمة (عليهما‌السلام ) : سيري إلى أبي بكر وذكّريه فسارت فاطمة إليه , وذكرت له فدكاً مع الخمس والفيء , فقال لها : هاتي بيّنة يا بنت رسول الله فقالت : أمّا فدك , فإنّ الله أنزل على نبيّه قُرآناً يأمره بأن يعطيني وولدي حقّي , قال الله تعالى :( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى‏ حَقّهُ ) (١) فكنت أنا وولدي أقرب الخلائق إلى رسول الله , فنحلني وولدي خاصّة فدكاً , فلمّا تلا جبرائيل :( وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السّبِيلِ ) (٢) قال رسول الله : أين حقّ المسكين وابن السّبيل ؟ فأنزل الله تعالى :( وَاعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ‏ءٍ فَأَنّ للّهِ‏ِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى‏ وَالْيَتَامَى‏ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ ) (٣) فقسّم الله الخمس ستة أقسام , فقال :( مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى‏ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى‏ فَلِلّهِ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى‏ وَالْيَتَامَى‏ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السّبِيلِ ) (٤) كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم , فما لله فهو لرسول الله , وما لرسول الله فهو لذي القُربى , وقد قال الله تعالى :( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٥) فنظر أبو بكر إلى عمر , وقال له : ما تقول ؟ فقال عمر : فأريّ الخمس والفيء , كلّه لكم ولمواليكم وأشياعكم ؟! فقالت فاطمة (عليها‌السلام ) : أمّا فدك , فقد أوجبها الله لي ولولدي من دون موالينا وشيعتنا , وأمّا الخمس , فقسّمه الله لنا ولموالينا وشيعتنا , ما تقرأ في كتاب الله تعالى ؟! قال عمر : فما لسائر المهاجرين والأنصار والتّابعين بإحسان ؟ فقالت فاطمة : إن كانوا من موالينا وأشياعنا , فلهم ما لنا وعليهم ما علينا , وإن لم يكونوا من أشياعنا , فلهم الصّدقات التي أوجبها الله في كتابه , فقال :( إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ ) (الآية)(٦) فقال عمر : فدك خاصّة والخمس والفيء لكم ولأوليائكم , ما أحسب

____________________

(١) سورة الرّوم / ٣٨.

(٢) سورة الإسراء / ٢٦.

(٣) سورة الأنفال / ٤١.

(٤) سورة الحشر / ٧.

(٥) سورة الشّورى / ٢٣.

(٦) سورة التّوبة / ٦٠.

١٢٨

أصحاب مُحمّد يرضون بهذا فقالت فاطمة : إنّ الله تعالى رضي بذلك ورسوله رضي له , وقسّمه على الموالاة والمتابعة لا على المعاداة والمخادعة , ومَن عادانا فقد عادا الله , ومَن خالفنا فقد خالف الله , ومَن خالف الله فقد استوجب من الله العذاب الأليم والعقاب الشّديد في الدُنيا والآخرة فقال عمر : هاتي بيّنة على ما تدّعين فقالت فاطمة : قد صدّقتم جابر بن عبد الله وجريراً بن عبد الله , ولم تسألوهما البيّنة وبيّنتي في كتاب الله ؟! فقال عمر : إنّ جابراً وجريراً ذكرا أمراً هيّناً , وأنت تدّعين أمراً عظيماً تقع به الرّدة من المهاجرين والأنصار فقالت (عليها‌السلام ) : إنّ المهاجرين برسول الله وأهل بيت رسول الله هاجروا إلى دينه , والأنصار بالإيمان بالله وبرسوله وبذي القربى أحسنوا , فلا هجرة إلّا إلينا , ولا نصرة إلّا لنا , ولا اتباع بإحسان إلّا لنا , ومَن ارتدّ عنّا فإلى الجاهلية فقال لها عمر : دعينا من أباطليلك وأحضرينا مَن يشهد لك بما تقولين.

فبعثت إلى عليّ والحسن والحُسين واُمّ أيمن وأسماء بنت عميس - وكانت يومئذ تحت أبي بكر , وكانت من قبل زوجة جعفر بن أبي طالب - فشهدوا لها بجميع ما قالت ، فردّ عمر شهادة الجميع , وقال : كلّ هؤلاء يجرّون النّفع إلى أنفسهم , فقال له عليّ : أمّا فاطمة فبضعة رسول الله , ومَن آذاها فقد آذى رسول الله , ومَن كذّبها فقد كذّب رسول الله , وأمّا الحسن والحُسين فابنا رسول الله , وسيّدا شباب أهل الجنّة , مَن كذّبهما فقد كذّب رسول الله إذ كان أهل الجنّة صادقين , وأمّا أنا , فقد قال رسول الله : أنت منّي وأنا منك , وأنت أخي في الدّنيا والآخرة , والرّاد عليك كالرّاد عليّ , مَن أطاعك فقد أطاعني , ومَن عصاك فقد عصاني , وأمّا اُمّ أيمن , فقد شهد لها النّبي بالجنّة , ودعا لأسماء بنت عميس وذرّيّتها فقال عمر : أنتم كما وصفتم به أنفسكم , ولكن شهادة الجار إلى نفسه لا تُقبل فقال عليّ (عليه‌السلام ) : إذا كنُا بحيث تعرفون ولا تنكرون , وشهادتنا لأنفسنا لا تُقبل , وشهادة رسول الله لا تُقبل , فإنّا لله وإنّا إليه راجعون إذا دعينا لأنفسنا سُئلنّا البيّنة , أفما من معين يعين ؟ وقد وثبتم على سُلطان الله وسُلطان رسوله , فأخرجتموه من بيته إلى بيت غيره من غير بيّنة ولا حجّة :( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١) ثمّ قال لفاطمة : انصرفي حتّى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين )).

قال الـمُفضل بن عمر : قال مولاي جعفر بن مُحمّد الصّادق (عليه‌السلام ) : (( كلّ ظلامة حدثت في الإسلام

____________________

(١) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

١٢٩

أو تحدث , وكلّ دم مسفوك حرام , أو منكر مشهور , وأمر غير محمود , فوزره في أعناقهما وأعناق من شايعهما وتابعهما وأعانهما , ورضي ولايتهما إلى يوم تقوم السّاعة )).

وعن الحارث البصري , قال : دخلت على أبي جعفر (عليه‌السلام ) , فجلست عنده , فإذا نجبة قد استأذن عليه , فأذن له فدخل , فجثي على ركبتيه , ثمّ قال : جعلت فداك ! إنّي أريد أن أسألك عن مسألة , ما أريد بها إلّا فكاك رقبتي من النّار فكأنّه رقّ له فاستوى جالساً , فقال : جعلت فداك ! ما تقول في فلان وفلان ؟ فقال : (( يا نجبة , لنا الخمس في كتاب الله , ولنا الأنفال ولنا صفو المال ، هُما والله أوّل من ظلمنا حقّنا في كتاب الله , وأوّل من حمل النّاس على رقابنا , ودماؤنا في أعناقهما إلى يوم القيامة ؛ بظلمنا أهل البيت )) فقال نجبة : إنّا لله وإنّا إليه راجعون (ثلاث مرّات) , هلكنا وربّ الكعبة فرفع (ع) فخذه عن الوسادة واستقبل القبلة , ودعا بدعاء فلم أفهم منه شيئاً , إلّا إنّا سمعناه في آخر دعائه وهو يقول : (( اللّهمّ , إنّا أحللنا ذلك لشيعتنا )) قال : ثمّ أقبل إلينا بوجهه , وقال : (( يا نجبة , ما على فطرة إبراهيم غيرنا وغير شيعتنا )).

فيا إخواني , هل يجب الإقتداء في الدّين بالذين اتخذوا دينهم لهواً , وغرّتهم الدُنيا وقنعوا بعاجلها , ورضوا برئاستها وبما نالوه من حطامها , وجلسوا غير مجالسهم , ووردوا غير مشاربهم , ونازعوا الأمر مستحقّيه , وولوا في دين الله بالرّأي , وحكموا بغير ما أنزل الله , فأتبعهم السّواد الأغلب , وأهل الفاقة والاحتياج , ورعاع المدن كبني اُميّة وبني العباس , ومَن تابعهم في المآكل والمشارب والمناكح , ومَن أبدع في الفجور وشرب الخمور ، وعبث بالمردان بخلاف ما أمر الرّحمن ، والتّواريخ والكتب تنطق بأعمالهم , فهل هؤلاء أئمة الدّين ؟! أم عليّ وأولاده المعصومون , المأمونون على سرّ الله , المحتجون بغيبته , المستسرون بدينه , المعلنون به , الواصفون لعظمته , المتنزّهون عن معاصيه , الدّاعون إلى سبيله , السّابقون في علمه , المجاهدون في طاعته , تلامذة الرّسول في المنقول والمعقول , أهل العلوم والأذكار , نقلة الأسرار ، حملة الكتاب , أولوا الألباب , الذين حفظوا في جوارحهم من العبث ونفوسهم من الوعث , الزّهاد العبّاد الأتقياء الأمجاد.

فيا إخواني , أيّ الفريقين على الحقّ , وأولى بالأمر وأحق ؟ ولكن الشّمس تطمس أعين الخفاش , والحقّ مضرّ باستماع الأوباش :( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١) :

____________________

(١) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

١٣٠

شعر للخليعي (رحمه‌ الله تعالى )

ألا من يدعي الإيمان فأبذل

حنيناً باحتراق واكتئاب

وعزى المرتضى في السبط وأذرف

من الأجفان دمعاً ذا انسكاب

وقل لو أن عينك عاينته

طعيناً في ثرى الرمضاء كأبي

ولو عاينت بنتك تستجير

الطغاة وتختفي بين الشعاب

صفيت القلب من أرجاس قوم

ومكنت الحسام من الرقاب

فيا رب السّماء إليك نشكو

من الفجار نسل بني كلاب

روي : أنّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) لـمّا مرض مرض الموت , اتفق يوماً كان رأسه في حجر اُمّ الفضل - امرأة العباس - فاستعبرت اُمّ الفضل وبكت , وقطرت دموعها على خدّ رسول الله , فقال لها : (( ما يبكيك يا اُمّ الفضل ؟ )) قالت : بأبي أنت واُمّي يا رسول الله ! إنّك نعيت لنا نفسك , فقُلت : قال الله تعالى :( إِنّكَ مَيّتٌ وَإِنّهُم مَيّتُونَ ) (١) فإن كان هذا الأمر فينا , فبيّنه لنا , وإن كان في غيرنا فأوص بنا ؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( ابعثي إلى ابني الحسن والحُسين )) ففعلت , فلمّا أقبلا , استدناهما إلى صدره , ووضع خدّ أحدهما على خدّه الأيمن , وخدّ الآخر على خدّه الآخر , ثمّ استعبر فبكى وبكى مَن كان حاضراً , وصاحت فاطمة وقالت شعراً :

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

فقال رسول الله (ص) : (( يا فاطمة , هذا قول عمّك ولكن قولي :( وَمَا مُحمّد إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى‏ أَعْقَابِكُمْ ) (٢) أنتم المقهورون بعدي المستضعفون , فمَن صبر منكم واحتسب في دار البوار , كان له الدّائم الباقي في دار القرار :( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) (٣) )) قالت اُمّ الفضل : يا رسول الله , إلى مَن نفرغ بعدك ؟ قال (ص) : (( إلى أخي ووصيي وخليفتي , أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب )) فلمّا اشتدّ الأمر برسول الله , خلا بعليّ (عليه‌السلام ) يوم الإثنين , وقال لعائشة وسائر نسائه وأصحابه وأهل بيته : (( هذا يوم لا يجتمع فيه عندي غير عترتي أهل بيتي ؛ عليّ وفاطمة والحسن والحُسين , فإنّهم شُركائي في ديني ودقيق أموري وجليلها )) فكان عليّ (عليه‌السلام ) عند رأسه ويده اليمنى على ذقنه , وفاطمة من الجانب الآخر ,

____________________

(١) سورة الزّمر / ٣٠

(٢) سورة آل عمران / ١٤٤.

(٣) سورة الأعلى / ١٧.

١٣١

والحسن والحُسين إلى جانبهما , ثمّ إنّ عليّاً غمّض رسول الله , فلمّا مات النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , سُمع هاتف من ناحية البيت يتلو :( كُلّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنّمَا تُوَفّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عِنِ النّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدّنيا إِلّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ) (١) لنبلونّ آل مُحمّد في أموالكم وأنفسكم , ولتسمعنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا , أذى كثيراً , في الله خلف من كلّ هالك , ودرك من كلّ فائت , وعزّ من كلّ مصيبة , ألا إنّ المحروم مَن حُرم ثوابه , والمغبون مَن غيّر دينه , والمصائب من ذهب يقينه.

فيا إخواني , إذا رجعنا إلى أنفسنا وتركنا عبادة الهوى ومتابعة مَن ضلّ وغوى , أترى تكون فاطمة (عليها‌السلام ) راضية حين عصرها خالد بن الوليد , فأسقطت محسناً , وضربها قنفذ مولى أبي بكر فأثّر فيها الضّرب ؟ أفتراها تكون راضية حين سُحب زوجها وابن عمّها وأبو السبطين ؟ أفترى منع إرثها وتكذيب شهودها على دعواها ترضاها ؟ أتراها لو شاهدت عساكر بني اُميّة , وقد استداروا على ولدها الحُسين (عليه‌السلام ) يريدون قتله , ويكيدونه بالعطش , ويمنعونه شرب الماء الـمُباح , ويرشقونه بالنّبال حتّى خرقوا جلدته , ويضربونه بالسّيوف حتّى رُويت الأرض من دمه , ويطعنونه بالرّماح حتّى خرّ إلى الأرض مجدّلاً , وأحروا السّكاكين على أوداجه ورقبته حتّى فصلوا رأسه عن بدنه , وسلخوا جلد وجهه , وألقوا عظامه وجسده أشلاء للطير والوحش , وقتلوا أهله ورجاله , ونهبوا حرمه , وتتبّعوا شيعته قتلاً وتمثيلاً ، فهل تكون راضية بذلك أم غضبانة ؟ وإذا كانت غضبانة , أيكون الله عزّ وجلّ غضباناً ؟ أم يكون هذا كلّه في رضا الأوّل والثّاني والثّالث , ومعاوية ويزيد بن معاوية , هيّناً عند الله ؟ كلا , ولكن راجعون على الأعقاب القهقري :( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (٢) .

فعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان وتتابعت عليه الأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ مفلح الصيمري (رحمه ‌الله تعالى )

أعد لك يا هذا الزمان محرم

أم الجور مفروض عليك محتم

أم أنت ملوم والجدود لئيمة

فلم ترع إلّا للذي هو ألأم

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٨٥.

(٢) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

١٣٢

فشأنك تعظيم الأراذل دائماً

وعرنين أرباب الفصاحة ترغم

إذا زاد فضل المرء زاد امتحانه

وترعى لمن لا فضل فيه وترحم

إذا اجتمع المعروف والدين والتقى

لشخص رماه الدهر وهو مصمم

وكم جامع أسباب كل رذيلة

وليس لما قد قال أو قيل هم

فأضحى وقد ألقى الزمان جراءه

لديه فيقضي ما يشاء ويحكم

وذاك لأن الدين والعلم والندى

له معدن أهلوه يؤخذ عنهم

فمعدنه آل النّبي مُحمّد

وخيرهم صنو النّبي الأعظم

فاقبلت الدّنيا عليه بزينة

وألقت إليهم نفسها وهي تبسم

فاعرض عنها كارهاً لنعيمها

وقابلها منه الطلاق المحرم

فمالت إلى أهل الرذائل والخنا

وأومت إليهم أيها القوم أقدموا

فجاءوا إليها يهرعون فأقبلت

عليهم وقالت فاسمعوا ثمّ افهموا

صداقي عليكم ظلم آل مُحمّد

وشيعتهم أهل الفضائل منهم

فقالوا رضينا بالصداق وأسرجوا

على حربهم خيل الضلال وألجموا

وشنوا بها الغارات من كل جانب

وخصّوا بها آل النّبي وصمموا

أزالوهم بالقهر عن إرث جدهم

عناداً وما شاءوا أحلوا وحرموا

وقادوا عليّاً في حمائل سيفه

وعمار دقوا ضلعه وتهجموا

على بيت بنت المصطفى وإمامهم

ينادي ألا في بيتها النار أضرموا

وتغصب ميراث النّبي مُحمّد

وتوجع ضرباً بالسياط وتلطم

وأعظم من كل الرزايا رزية

مصارع يوم الطّفّ أدهى وأعظم

فما أحدث الأيام من يوم أنشئت

ولا حادث فيها إلى يوم تعدم

بأعظم منها في الزمان رزية

يقام لها حتّى القيامة مأتم

ولم أنس سبط المصطفى وهو ظامي

يذاد عن الماء المباح ويحرم

وقد صرعت أنصاره وهو مفرد

ينادي ألا هل راحم يترحم

ألسنا أولي القربى الذي أجبت لنا

مودتنا آي الكتاب عليكم

ألسنا آل النّبي مُحمّد

يصلّى عليهم دائماً ويسلم

تموت عطاشى آل بيت مُحمّد

ويشرب هذا الماء ترك وديلم

أهذا الذي أوصى النّبي بآله

ألم تسمعوا أم ليس في القوم مسلم

١٣٣

فقالوا له إن شئت ترجع سالماً

وتسقى من الماء الزلال وتطعم

فبايع طوعاً للأمير مسالماً

وإلّا فحد السيف فيك محكم

فقال لهم لا تزعمون بأنني

أبايع رهباً خيفة الموت فاعلموا

وما هي إلّا ساعة ثمّ ألتقي

بجدي وأحظى بالجنان وأنعم

ويجمعنا يوم القيامة معشر

وأقبل فيه شاكياً أتظلم

فخصمكم فيه النّبي وحيدر

وفاطمة والسجن فيها جهنم

أهل تخصمون المصطفى وابن عمه

وفاطمة لم ذلك اليوم تخصموا

فما زادهم ما قال إلّا تجبراً

وصاح ابن سعد عجلوا وتهجموا

فمالوا عليه بالسيوف وبالقنا

فبارزهم وهو الهزبر الغشمشم

وحكم فيهم سمهريا مقوماً

وأبيض لا ينبو ولا يتثلم

وصال عليهم صولة علوية

فكانوا كضأن صال فيهم ضيغم

فصاروا عريناً كلما فر فوقه

ومال إلى الأخرى ففي الحال تهزم

فنادى ابن سعد بالرماة ألا أقصدوا

إليه جميعاً بالسهام ويمموا

ففوق كل سهمه وهو مغرق

من النزع نحو السبط وهو مصمم

فصادته في النحر سهم مصرد

له شعب قعب المنية تعلم

فخرّ طريحاً في التراب معفراً

يعالج نزع السهم والسهم محكم

ويأخذ من دم الوريد بكفه

ويرمي به نحو السما يتظلم

فنادى ابن سعد من يجيء برأسه

فسار إليه الشمر لا يتبرم

وأضجعه فوق التراب معفراً

ينادي أيا جداه هل أنت تعلم

بأني صريع في التراب مجدلا

أو ينحر نحري والضلوع تحطم

فقال له من أنت يا ذا ألا أنتمي

فإنك أقسى كل قلب وأجرم

فقال هو أنا الشمر الضبابي راجياً

بقتلك أن اُحبى عظيماً وأكرم

فقال له إن الحبي عند والدي

وجدي واُمي في القيامة أعظم

فما زاد قلب الرجس إلّا قساوة

وميز عنه الرأس لا يترحم

تكاد السماوات الشداد لقتله

تفطرن والأرضون تخسف فيهم

وكور أنوار النجوم جميعها

وأمطرت الدم السّماء عليهم

وبادر ينعاه الحصان مسارعاً

إلى خيم النسوان وهو يحمحم

١٣٤

فلما رأين المهر والسرج خالياً

خرجن وكل حاسر وهي تلطم

ونادين هذا اليوم مات مُحمّد

ومات عليّ والزكي وفاطم

فهذا الذي أبقى لنا الدهر بعدهم

نصان به من كل سوء ونعصم

وهذا الذي كنا نعيش بظله

يلوذ به طفل رضيع وايم

وهذا هو الحصن الذي كان محصناً

لنا من صروف الدهر فهو مهدم

فهذا حسين في التراب مجدلا

ونحن سبايا نستباح ونغنم

فشن عليهم ابن سعد بغارة

ونادى مباح ما حواه المخيم

وصرن بأيدي المجرمين غنيمة

وتسلب كل ما عليها وتلطم

فيا لك من يوم به الكفر ناطق

ودين الهدى أعمى أصم وأبكم

فو الله ما أدري الحُسين ورهطه

وصيرهم فيئاً يحاز ويقسم

سوى حبتر ثمّ الدلام ونعثل

لأنهم في كل ظل تقدموا

وتلك التي جاءت تقود عساكراً

على جمل يحدو بها المترنم

وخالفت القرآن ثمّ تبرجت

تبرج أهل الجهل بل هي أعظم

لنفرق شمل الدين بعد اجتماعه

وتنقض ما قد أبرموه وأحكموا

أبوها يولي الدبر في كل موقف

وابنته عند اللقاء تتقدم

ألا لعن الله المهيمن حبتراً

وابنته تعداد ما الله يعلم

وبعدهما فالعن دلاماً ونعثلاً

وهنداً ونغليها ومن مال معهم

والعن مرواناً وآل اُميّة

كذلك دعى العاص فهو المزنم

ولا تنسى أبا موسى وضاعف لعنه

ومن قد رضي في أنه يتحكم

برئت إلى الرّحمن ثمّ مُحمّد

وحيدرة وابنيه والأم منهم

ومن دان في أقوالهم وأفعالهم

ومن كل شيعي ففي اللعن عنهم

فلعنهم للدين أصل مؤصل

ودين بلا أصل فذاك مهدم

أيا سادتي يا آل بيت مُحمّد

بكم مفلح مستعصم متلزم

فأنتم له حصن منيع وجنة

وعروته الوثقى بداريه أنتم

ألا فاقبلوا من عبدكم ما استطاعه

فعبدكم عبد مقل ومعدم

فأنتم مما قلت أو قال قائل

من النّاس طراً يا موالي أعظم

١٣٥

الباب الثّاني

اعلموا أيّها المؤمنون , إنّ فضل ساداتكم لا يُحصى ولو اجتمع له العالمون , وما جهد المادحون في مدح مَن ورد في مدحهم القرآن المُبين ؟ ولعمري , إنّ في فضيلة مَن فضائلهم عبرة للمعتبرين وتبصرة للمتبصّرين , إلّا مَن أغواه الشّيطان , فأصمّ سمعه وعميت منه العينان ، فتبّاً لـمَن أعمتهم أطماعهم الدّنيّة ، وأهواؤهم المرديّة الرّديّة ، فجعلوا يركضون على مطايا الأطماع , ويتحمّلون من الأثقال ما لا يُستطاع ، فتعساً لهم ما حملهم على غصب البتول وقتل ذرّيّة الرّسول , أليس هي إلّا أيّام قلائل ؟ حتّى يردوا على الهول الهائل :( نَاراً وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (١) .

فيا إخواني , كيف لا تتمايل أعطافي وتظهر نشوتي , وقد شربت بالكأس المترع من رحيق محبّتي لمواليي وساداتي ؟:

حديث فإن ربي العقيق ويثمد

يحلى بطيب حديثها قلبي الصد

إيه بعيشك كيف خلفت الحمى

قد طال عهدي بالديار فجدد

بالله قص عليّ من أنبائهم

فإذا ثملت بها وملت فردد

فيا إخواني , إذا ذكرت ما أصابهم من الآلام في تلك الأوقات والأيام , اعتراني الهمّ والحزن حتّى أكاد أن تُسلب روحي من البدن , فاشتهي مَن أبثّ حزني إليه ؛ ليساعدني ما أنا عليه.

روي : أنّه لـمّا قدم آل الله وآل رسوله على يزيد في الشّام , أفرد لهم داراً , وكانوا مشغولين بإقامة العزاء , وإنّه كان لمولانا الحُسين (عليه‌السلام ) بنتاً عمرها ثلاث سنوات , ومن يوم استشهد الحُسين ما بقيت تراه , فعظم ذلك عليها واستوحشت لأبيها , وكانت كلّما طلبته , يقولون لها : غداً يأتي ومعه ما تطلبين إلى أن كانت ليلة من الليالي رأت أباها بنومها , فلمّا انتبهت , صاحت وبكت وانزعجت , فهجعوها وقالوا : لما هذا البكاء والعويل ؟ فقالت : آتوني بوالدي وقرّة عيني وكلّما هجعوها , ازدادت حزناً وبكاءاً , فعظم ذلك على أهل البيت , فضجّوا بالبكاء وجدّدوا الأحزان , ولطموا الخدود وحثوا على رؤوسهم التّراب , ونشروا الشّعور وقام الصّياح , فسمع يزيد صيحتهم وبكاءهم , فقال : ما الخبر ؟ قالوا : إنّ بنت الحُسين الصّغيرة رأت أباها بنومها , فانتبهت وهي تطلبه وتبكي

____________________

(١) سورة التّحريم / ٦.

١٣٦

وتصيح فلمّا سمع يزيد ذلك , قال : ارفعوا رأس أبيها وحطّوه بين يديها ؛ لتنظر إليه وتتسلّى به فجاءوا بالرّأس الشّريف إليها مُغطّى بمنديل ديبقي , فوضع بين يديها وكُشف الغطاء عنه ، فقالت : ما هذا الرّأس ؟ قالوا لها : رأس أبيك فرفعته من الطّشت حاضنة له , وهي تقول : يا أباه ! مَن ذا الذي خضّبك بدمائك ؟ يا أبتاه ! مَن ذا الذي قطع وريدك ؟ يا أبتاه ! مَن ذا الذي أيتمني على صغر سنّي ؟ يا أبتاه ! مَن بقي بعدك نرجوه ؟ يا أبتاه ! مَن لليتيمة حتّى تكبر ؟ يا أبتاه ! مَن للنساء الحاسرات ؟ يا أبتاه ! مَن للأرامل المسبيّات ؟ يا أبتاه ! مَن للعيون الباكيات ؟ يا أبتاه ! مَن للضائعات الغريبات ؟ يا أبتاه ! مَن للشعور المنشرات ؟ يا أبتاه ! مَن بعدك ؟ واخيبتنا ! يا أبتاه ! مَن بعدك ؟ واغربتنا ! يا أبتاه ! ليتني كنت الفدى ، يا أبتاه ! ليتني كنت قبل هذا اليوم عميا يا أبتاه ! ليتني وسدت الثّرى ولا أرى شيبك مخضّباً بالدّماء.

ثمّ إنّها وضعت فمها على فمه الشّريف , وبكت بُكاءاً شديداً حتّى غشي عليها ، فلمّا حرّكوها , فإذا بها قد فارقت روحها الدُنيا ، فلمّا رأوا أهل البيت ما جرى عليها , أعلنوا بالبكاء واستجدّوا العزاء , وكلّ مَن حضر من أهل دمشق , فلم ير في ذلك اليوم إلّا باك وباكية ، فقامت زينب بنت أمير المؤمنين , وقالت : أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض , فأصبحنا نُساق كأنّا اُسراء الزّنج والحبش ، إنّ بنا على الله كرامة وبك عليه هواناً ، وإنّ ذلك لعظم خطرك عند الله ، شمخت بأنفك ونظرت في عطفك ، جذلان مسروراً حين رأيت الدُنيا بك مستوسقة , والأمور متّسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، مهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله تعالى :( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (١) أمن العدل يابن الطُلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله سبايا ؟! هتكت ستورهنّ وأبديت وجوههنّ , يحدوا بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل , ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد والدّني والشّريف ، ليس معهنّ من رجالهنّ ولي ، ولا من حماتهنّ حمى ، كيف تستبطي ظلمنا أهل البيت ؟! ثمّ تقول , غير مستأنف ولا مستعظم :

لأهلوا واستهلوا فرحاً

ثمّ قالوا يا يزيد لا تشل

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٧٨.

١٣٧

منحنياً على ثنايا أبي عبد الله الحُسين , ريحانة رسول الله سيّد شباب أهل الجنّة , تنكثها بمخصرتك ، وكيف لا تقول ذلك ؟! أو قد نكأت القرحة وأنصلت الشّأفة بإراقتك دماء ذرّيّة مُحمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , نجوم الأرض من آل عبد الـمُطلب , وتهتف بأشياخك زعمت تناديهم , لتردن وشيكاً موردهم , ولتودّن أنّك شللت قبل فعلتك هذه وبكمت ولم تكن قلت ما قلت.

ثمّ قالت : اللّهمّ , خُذ بحقّنا وانتقم ممّن ظلمنا , واحلل غضبك بمن سفك دماء ذرّيّته , وانتهاك حرمته في عترته , حيث يُجمع شملهم ويُلم شعثهم ويؤخذ بحقّهم :( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١) وحسبك الله حاكماً ومُحمّد خصيماً وجبرائيل ظهيراً , فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النّجباء بحزب الشّيطان الطُلقاء ، فهذه الأيدي تنفط من دمائنا والأفواه تتحلّب من لحومنا , وتلك الجثث الطّواهر الزّواكي , تتناهبها العوائل وتعفّرها اُمّهات الفواعل ، وإن اتخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً , حين لا تجد إلّا ما قدّمت يداك , والله ليس بظلام للعبيد ، فإلى الله الـمُشتكى وعليه المعوّل , فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك ، فو الله , لا تمحو ذكرنا ولا تمت وحينا ولا تدرك أمدنا , ولا تدحض عنك عارها ، وهل رأيك إلّا فند وأيّامك إلّا عدد وجمعك إلّا بدد , يوم ينادي المنادي : ألا لعنة الله على القوم الظّالمين.

قال : فنظر رجل من الشّام إلى يزيد (لعنه الله) , وقال : يا أمير , هب لي هذه الجارية فقالت فاطمة لعمّتها زينب : يا عمّتاه ! قُتلت رجالنا , ليت الموت أعدمني الحياة ولا كنت اُسبى بين الأعداء فقالت زينب : لا حبّاً ولا كرامة لهذا الفاسق فقال الشّامي : مَن هذه الجارية ؟ قال يزيد (لعنه الله) : هذه فاطمة الصّغرى بنت الحُسين , وتلك زينب بنت أمير المؤمنين فقال الشّامي : لعنك الله يا يزيد , تقتل عترة نبيّك وتسبي ذرّيّته فقال يزيد : لألحقنّك بهم.

فيا إخواني , رحم الله قوماً باعوا أنفسهم بالآخرة , وتركوا العيش الأهنى والنّعيم الأسنى , فنالوا السّعادة الأبدية والدّولة السّرمدية , فقطّعوا القلوب واشتروا النّعيم الدّائم بقليل من المحن والكروب :

وفاطمة الصغرى تقول لأختها

سكينة خوف السبي وهو مكيد

وزينب ما بين السّماء وقلبها

قريح وبالأحزان فهو كميد

تقول وللأحزان في القلب مبدع

ومبدي لاسرار الهموم مقيد

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٦٩.

١٣٨

أخي يابن اُمي يا شقيقي وسيد

ومن لي دون الأنام عميد

عليك جفوني الذاريات ذوارف

وأما دموعي المرسلات نجود

أخي ثل عرش الدين وانهد ركنه

وعطل منه إذ أصبت حدود

يا ويلهم ! كأنّهم لم يسمعوا ما اُنزل في حقّهم , ولم يعتبروا ما قاله النّبي في نعتهم , بل والله قد عرفوا وانكروهم وأساءوا إليهم بعدما أخبروهم.

روي عن ابن عبّاس في تفسير قوله تعالى :( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السّماءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ) (١) إنّه إذا قبض الله إليه نبيّاً من الأنبياء , بكت عليه السّماء والأرض أربعين سنة , وإذا مات إمام من الأئمة الأوصياء , تبكي عليه السّماء والأرض أربعين شهراً , وإذا مات العالم العامل بعلمه , بكيا عليه أربعين يوماً , وأمّا الحُسين (عليه‌السلام ) فتبكي عليه السّماء طول الدّهر ، وتصديق ذلك أنّ يوم قتله قطرت السّماء دماً , وإنّ هذه الحُمرة التي تُرى في السّماء , ظهرت يوم قُتل الحُسين ولم تُر قبله أبداً ، وإنّ يوم قتله لم يُرفع حجر في الدُنيا إلّا وجد تحته دم حُكي في بعض الأخبار : إنّ الحُسين لـمّا سقط عن سرجه يوم الطّفّ , عفيراً بدمه رامقاً بطرفه , يستغيث فلا يُغاث ويستجير فلا يُجار , بكت ملائكة السّماء , وقالوا : إلهنا وسيدنا , يُفعل هذا كلّه بابن بنت نبيّك وأنت بالمرصاد , تنظر وترى وأنت شديد الإنتقام فأوحى الله إليهم يقول : (( يا ملائكتي , انظروا عن يمين العرش )) فينظرون , فيمثّل الله لهم شخص القائم المهدي , فيرونه يُصلّي عن يمين العرش راكعاً وساجداً , فيقول : (( يا ملائكتي , سأنتقم لهذا بهذا )) ثمّ يقول : (( يا ملائكتي , إنّي قتلت بثأر يحيى بن زكريا , سبعين ألفاً من بني إسرائيل , وسأقتل بثأر الحُسين بن فاطمة الزّهراء , سبعين ألفاً وسبعين ألفاً من بني اُميّة على يد القائم المهدي , ولهم في الآخرة عذاب عظيم )) :

إلى أي عدل أم إلى أي رأفة

سواهم يؤم الظاعن المتحمل

لأهل العمى فيهم جلاء من العمى

مع النصح لو أن النصيحة تقبل

روى صاحب زهرة الكمال , قال : لمّا اُخرج آدم (عليه‌السلام ) من الجنّة , انحدر ببلدة من بلاد الهند تسمّى سرانديب , وبقي يبكي على مصيبته مدّة طويلة , حتّى نُقل أنّه ظهرت لمحاكيه ولم يبق لها لحم بفيه , فمنّ عليه الملك الجليل بإرسال جبرائيل , فكشف له عن بصره حتّى أراه ساق العرش , فرأى أنواراً ساطعة كالنّجوم اللامعة ,

____________________

(١) سورة الدّخان / ٢٩.

١٣٩

فتلاها وإذا هي ؛ مُحمّد وعليّ وفاطمة , والحسن والحُسين والأئمة من ولده (عليهم‌السلام ) , حصناً مَن دخله كان آمناً فقال : يا أخي جبرائيل , هل خلق الله خلقاً أكرم منّي ؟ قال : نعم قال : متى خُلقوا ؟ قال : قبل خلق السّماوات والأرضين وقبلك بألفي عام , ولولاهم ما خلقك الله تعالى , وهم من ولدك فقال : اللّهمّ , يا مَن شرّفت هذا الوالد على الولد , إغفر لي خطيئتي فغفر له.

وروى صاحب درّ الثّمين في تفسير قوله تعالى :( فَتَلَقّى‏ آدَمُ مِنْ رَبّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) (١) إنّه رأى ساق العرش والأسماء عليه , فلقّنه جبرائيل وقال له : قُل يا حميد بحقّ مُحمّد , يا عليّ بحقّ عليّ , يا فاطر بحقّ فاطمة , يا مُحسن بحقّ الحسن , يا قديم الإحسان بحقّ الحُسين فلمّا ذكرت الحُسين (عليه‌السلام ) , سالت دموعه وانخشع قلبه , وقال : يا أخي جبرائيل , في ذكر الخامس ينكسر قلبي وتسيل عبرتي ؟ قال جبرائيل : ولدك هذا يُصاب بمصيبة وتقصر عندها المصائب فقال : يا أخي , وما هي ؟ قال : يُقتل عطشاناً غريباً وحيداً فريداً , ليس له ناصر ولا مُعين , ولو تراه يا آدم يُنادي : وا عطشاه ! وا قلّة ناصراه ! حتّى يحول العطش بينه وبين السّماء كالدّخان , فلم يجبه أحد إلّا بالسّيوف وشرب الحتوف , فيُذبح ذبح الشّاة من قفاه , ويكسب رحله أعداء , وتُشهر رؤوسهم هو وأنصاره في البلدان ومعهم النّسوان , سبق في علم الواحد المنّان فبكى آدم مع جبرائيل بكاء الثّكلى ولله درّ مَن قال من الرّجال :

يا قتيلاً بكاه آدم حقاً

ونعاه من السما جبريل

وبكى الجنان والملائك جمعاً

أي عين دموعها لا تسيل

وغدا الطير في السّماء ينادي

آه وا سيداه اين المثيل

وعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون , ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون , أو لا تكونوا كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ مفلح الصّيم ري (رحمه‌ الله تعال ى)

إلى كم مصابيح الدجى ليس تطلع

وحتام غيم الجو لا يتقشع

لقد طبق الآفاق شرقاً وغربها

فلا ينجلي آناً ولا يتقطع

____________________

(١) سورة البقرة / ٣٧.

١٤٠