المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء ٢

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)0%

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 272

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

مؤلف: الإمام الكبير والـمُصنّف الشّهير الشّيخ فخر الدّين الطريحي النّجفي
تصنيف:

الصفحات: 272
المشاهدات: 32054
تحميل: 4352


توضيحات:

الـمُنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 272 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 32054 / تحميل: 4352
الحجم الحجم الحجم
المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري)

المنتخب للطريحي المنتخب في جمع المراثي والخطب المشتهر بـ (الفخري) الجزء 2

مؤلف:
العربية

المجلس السّادس

من الجزء الثّاني في اليوم الثّامن من عشر الـمُحرّم

وفيه أبواب ثلاثة

الباب الأوّل

أيّها المؤمنون جودوا بماء العيون المخزون ، وأيّها السّامعون جدّدوا ثياب الأشجان والحزون ، وتساعدوا على النّياحة والعويل ، واسكبوا العبرات على الغريب القتيل , واندبوا لِمَن اهتزّ لفقده عرش الجليل , ونوحوا أيّها المحبّون لآل الرّسول وابكوا على مصاب أبناء البتول ، وسحوا عليهم بالدّموع , فإنّهم أعلام الأنام وأئمة أهل الإسلام ؛ فلعلّكم تواسونهم في المصاب بإظهار الجزع والاكتئاب والإعلام بالحنين والانتحاب ، فيا خيبة من جهل فضلهم وأنكر قدرهم , ولكنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور :

وقفت على الدار التي كنتم بها

فمغناكم من بعد معناكم قفر

وقد درست منها الرسوم وطالما

بها درس العلم الإلهي والذكر

فراق فراق الروح بعد بعدكم

ودار برسم الدار في خاطري الفكر

روي عن زين العابدين عليّ بن الحُسين (عليه‌السلام ) , قال : (( لـمّا أتوا برأس أبي إلى يزيد , فكان يتّخذه بمجالس الشّراب ويأتي برأس أبي ويضعه بين يديه ويشرب عليه , فحضر في مجلسه ذات يوم رسول ملك الرّوم وكان من أشرافهم وعظمائهم ، فقال : يا ملك العرب , هذا رأس مَن ؟ قال يزيد لعنه الله : مالك بذلك حاجة. قال : إنّى إذا رجعت إلى مَلكنا يسألني عن كلّ شيء رأيته ,

١٢١

فأحببت أن أخبره بقصّة هذا الرّأس ؛ حتّى يشاركك في الفرح والسّرور. فقال له يزيد : هذا رأس الحُسين بن عليّ بن أبي طالب. قال : ومَن اُمّه ؟ قال : فاطمة الزّهراء بنت مُحمّد الـمُصطفى. قال النّصراني : أما تراني إذا حقّقت النّظر إليه يقشعرّ جسمي ، واسمعه يقرأ آيات من كتابك , اُفّ لك ولدينك ، ديني خير من دينك ، اعلم أنّ أبي من حوافد داود (عليه‌السلام ) , وبيني وبينه آباء كثيرة , والنّصارى يعصمونني ويأخذون من تراب أقدامي ؛ تبرّكاً فيّ , وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم رسول الله , وما بينكم وبينه إلّا اُمّ واحدة ؟ فأيّ دين أحسن من دينكم , أما سمعت يا يزيد كنيسة الحافر ؟ فقال : لا والله. قال له : اعلم أنّ بين عمان والصّين بحر مسيرة سنة , ليس فيه عمران إلّا بلدة واحدة في وسط الماء , طولها ثمانون فرسخاً وعرضها مثله , ما على وجه الأرض بلدة أكبر منها , ومنها يحمل الكافور والياقوت , وأشجارهم العود والعنبر , وهي في أيدي النّصارى لا ملك عليهم , وفيها كنائس كثيرة , لكن أعظمها كنيسة الحافر في محرابها حقّة من ذهب ، معلّق بها حافر يزعمون أنّه حمار عيسى (عليه‌السلام ) , وقد زخرفوا حول الحقّة بالذّهب والدّيباج , يقصدها في كلّ عام عالم من النّصارى , يطوفون حولها ويقبّلونها ويرفعون حوائجهم إلى الله تعالى ، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم ؟! لا بارك الله فيكم ولا في دينكم.

فاغتاظ يزيد لعنه الله وقال : اقتلوا هذا النّصراني ؛ لكي لا يفضحنا في بلاده. فلمّا أحسّ النّصراني بذلك , قال: أمرت بقتلي ؟ قال : نعم. فخرّ ساجداً إلى الأرض شكراً لله تعالى ، وقال : اعلم إنّي رأيت البارحة نبيّكم في المنام وهو يقول : يا نصراني , أنت من أهل الجنّة. فعجبت غاية العجب ، فوثب إلى الرّأس وضمّه إلى صدره ونادى : السّلام عليك يا أبا عبد الله الحُسين ورحمة الله وبركاته ، اشهد لي عند ربّك وجدّك وأبيك واُمّك وأخيك , بأنّي : أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ مُحمّداً رسول الله ، وأنّ عليّاً ولي الله )). فغاروا عليه بالسّيوف وقطّعوه رحمه‌ الله تعالى :

هدأت العيون ودمع عينك يهمل

سحاً كما وكف الضباب المخضل

وكأنما بين الجوانح والحشا

مما تأويني شهاب مدخل

١٢٢

وجداً على النفر الذين تتابعوا

يوماً بموته اسندوا لم يقفلوا

فتغير القمر المنير لفقدهم

والشمس قد كسفت وكادت تأفل

قوم علا بنيانهم من هاشم

فرع اشم وسؤدد ما ينقل

قوم بهم نصروا الإله رسوله

وعليهم نزل الكتاب المنزل

وبهديهم رضي الإله لخلقه

وبجدهم نصر النّبي المرسل

روي : أنّ رجلاً مؤمناً من أكابر بلاد بلخ , كان يحجّ بيت الله الحرام ويزور قبر النّبي في أكثر الأعوام ، وكان يأتي عليّ بن الحُسين فيزوره ، ويحمل إليه الهدايا والتّحف ويأخذ مصالح دينه منه ثمّ يرجع إلى بلاده ، فقالت له زوجته : أراك تهدي تحفاً كثيرة ولا أراه يجازيك عنها بشيء ؟ فقال : إنّ الرّجل الذي نهدي إليه هدايانا هو ملك الدُنيا والآخرة ، وجميع ما في أيدي النّاس تحت مُلكه ؛ لأنّه خليفة الله في أرضه وحجّته على عباده ، وهو ابن رسول الله ، وهو إمامنا ومولانا ومقتدانا. فلمّا سمعت ذلك منه , أمسكت عن ملامته ، قال : ثمّ إنّ الرّجل تهيّأ للحج مرّة اُخرى في السّنة القابلة وقصد عليّ بن الحُسين , فاستأذن له فدخل فسلّم عليه وقبّل يديه , ووجد بين يديه طعاماً فقرّبه إليه وأمره بالأكل معه ، فأكل الرّجل حسب كفايته ، ثمّ استدعى بطشت وإبريق فيه ماء , فقام الرّجل فأخذ الإبريق وصبّ الماء على يدي الإمام ، فقال الإمام : (( يا شيخ , أنت ضيفنا فكيف تصبّ على يدي الماء ؟ )). فقال : إنّي أحبّ ذلك. فقال الإمام (عليه‌السلام ) : (( حيث أنّك أحببت ذلك , فوالله لأريك ما تحبّ وترضى به وتقرّ به عيناك )). فصبّ الرّجل الماء على يديه حتّى امتلأ ثلث الطّشت ، فقال الإمام للرجل : (( ما هذا ؟ )). قال : ماء. فقال الإمام : (( بل هو ياقوت أحمر )). فنظر الرّجل إليه , فإذا هو قد صار ياقوتاً أحمر بإذن الله تعالى ، ثمّ قال الإمام (عليه‌السلام ) : (( يا رجل , صبّ الماء أيضاً )). فصبّ الماء على يدي الإمام مرّة اُخرى حتّى امتلأ ثلثي الطّشت ، فقال له : (( ما هذا ؟ )). قال : هذا ماء. فقال الإمام : (( بل هذا زمرّد أخضر )). فنظر الرّجل إليه , فإذا هو زمرّد أخضر ، ثمّ قال الإمام أيضاً : (( صبّ الماء يا رجل )). فصبّ الماء على يدي الإمام حتّى امتلأ الطّشت ، فقال للرجل : (( ما هذا ؟ )). فقال : ماء. قال : (( بل هذا درّ أبيض )). فنظر الرّجل إليه , فإذا هو درّ أبيض بإذن الله تعالى ، وصار الطّشت ملآناً

١٢٣

من ثلاثة ألوان ؛ درّ ، وياقوت ، وزمرّد , فتعجّب الرّجل غاية العجب وانكبّ على يدي الإمام يقبّلهما ، فقال له : (( يا شيخ , لم يكن عندنا شيء نكافيك على هداياك إلينا , فخذ هذه الجواهر فإنّها عوض هديتك , واعتذر لنا عند زوجتك ؛ لأنّها عتبت علينا )).

فأطرق الرّجل رأسه خجلاً ، وقال : يا سيّدي , مَن أنبأك بكلام زوجتي ؟ فلا شكّ أنّك من بيت النّبوة. ثمّ إنّ الرّجل ودّع الإمام وأخذ الجواهر وسار بها إلى زوجته وحدّثها بالقصّة ، قالت : ومَن أعلمه بما قُلت ؟ فقال : ألم أقل لك إنّه من بيت العلم والآيات الباهرات ؟ فسجدت لله شكراً وأقسمت على بعلها بالله العظيم , أن يحملها معه إلى زيارته والنّظر إلى طلعته ، فلمّا تجهّز بعلها للحج في السّنة القابلة , أخذها معه فمرضت المرأة في الطّريق وماتت قريباً من مدينة الرّسول ، فجاء الرّجل إلى الإمام باكياً حزيناً وأخبره بموت زوجته , وإنّها كانت قاصدة إلى زيارته وزيارة جدّه رسول الله ، فقام الإمام وصلّى ركعتين ودعا الله سبحانه بدعوات لم تحجب ، ثمّ التفت إلى الرّجل ، فقال له : (( قُم وارجع إلى زوجتك , فإنّ الله عزّ وجلّ قد أحياها بقدرته وحكمته ,( وهو يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (١) )).

فقام الرّجل مسرعاً وهو فرح بين مصدّق ومكذّب ، فدخل إلى خيمته ، فرأى زوجته جالسة في الخيمة على حال الصّحة , فزاد سروره واعتقد ضميره ، وقال لها : كيف أحياك الله تعالى ؟ فقالت : والله , لقد جاءني ملك الموت وقبض روحي وهمّ أن يصعد بها , وإذا برجل صفته كذا وكذا , وجعلت تعدد أوصافه الشّريفة وبعلها يقول لها : نعم صدقتي , هذه صفة سيّدي ومولاي عليّ بن الحُسين (عليهما‌السلام ) , قالت : فلمّا رآه ملك الموت مُقبلاً , انكبّ على قدميه يقبّلهما ويقول : السّلام عليك يا حجّة الله في أرضه ، السّلام عليك يا زين العابدين. فردّعليه‌السلام وقال له : (( يا ملك الموت , أعد روح هذه المرأة إلى جسدها ؛ فإنّها قاصدة إلينا , وإنّي قد سألت ربّي أن يبقيها ثلاثين سنة اُخرى ويحييها حياة طيّبة ؛ لقدومها إلينا زائرة لنا , فإنّ للزائر علينا حقّاً واجباً )). فقال له الملك : سمعاً وطاعة لك يا وليّ الله. ثمّ أعاد روحي إلى جسدي وأنا أنظر إلى ملك الموت قبّل يده الشّريفة وخرج عنّي. فأخذ الرّجل بيد زوجته وأتى بها إلى مجلس الإمام وهو بين أصحابه ، وانكبّت على ركبتيه تقبّلهما وهي تقول : هذا والله سيّدي ومولاي , هذا الذي أحياني الله

____________________

(١) سورة يس / ٧٨.

١٢٤

ببركة دعائه.

قال : ولم تزل المرأة مع بعلها مجاورين عند الإمام بقية أعمارهما , بعيشة طيّبة في البلدة الطّيبة إلى أن ماتا رحمة الله عليهما.

فيا إخواني : إذا كان الإمام زين العباد هذه حالته عند الله , كيف يستحقّ أن تغل يداه وتسبى نساؤه ويحملنّ على أقتاب الجمال بغير وطاء , ويُطاف بهنّ البلدان بين أهل العناد حزب الشّيطان , فلا حول ولا قوة إلّا بالله وعلى ظالمي أهل البيت لعنة الله.

روي عن حذلم بن بشير , قال : قدمت الكوفة في المحرّم سنة إحدى وستين , وقت منصرف عليّ بن الحُسين (عليه‌السلام ) بالنّسوة من كربلاء ومنهم الأجناد يحيطون بهم , وقد خرج النّاس لينظروا إليهم ، فلمّا اُقبل بهم على الجمال بغير وطاء ولا غطاء , جعلنّ نساء الكوفة يبكين ويندبن ، فسمعت عليّ بن الحُسين وهو يقول - وقد نهكته العلّة وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة إلى عنقه - : (( إنّ هؤلاء النّسوة يبكين , فمَن قتلنا ؟ )). قال : ورأيت زينب بنت عليّ (عليهما‌السلام ) ولم أر خفرة أنطق منها ، كأنّها تفرغ من لسان أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) ، قال : وقد أومت إلى النّاس أن اسكتوا ، فارتدّت الأنفاس وسكنت الأصوات , فقالت : الحمد لله والصّلاة على أبي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , أمّا بعد , يا أهل الكوفة , فلا رقّت لكم العبرة ولا هدأت الرّنة ، فإنّما مثلكم كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ، ألا وهل فيكم إلّا الصّلف الظّلف ، والصّرم السّرف ، خوّارون في اللقاء عاجزون عن الأعداء , ناكثون في البيعة مضيّعون للذمّة ، فبئس ما قدّمت لكم أنفسكم إن سخط الله عليكم , وفي العذاب أنتم خالدون ، أتبكون ؟ أي والله , فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فلقد فزتم بعارها وشنارها ، ولن تغسلوا دنسها عنكم أبدا ، فسليل خاتم الرّسالة وسيّد شباب أهل الجنّة , وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم , وإمارة محجّتكم ومدرجة حجّتكم , خذلتم وله قتلتم ، ألا ساء ما تزرون فتعساً ونكساً , ولقد خاب السّعي وتبّت الأيدي وخسرت الصّفقة , وبؤتم بغضب من الله , وضربت عليكم الذّلة والمسكنة , ويلكم أتدرون أيّ كبد لـمُحمّد فريتم ؟! وأيّ دم له سفكتم ؟ وأيّ كريمة له أبرزتم ؟ لقد جئتم شيئاً إدّا( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ) (١) ولقد أتيتم بها ؛ خرقاء شوهاء بلاغ الأرض والسّماء ، أفعجبتم أن قطرت السّماء دماً ، ولعذاب الآخرة

____________________

(١) سورة مريم / ٩٠.

١٢٥

أخزى ، فلا يستخفنّكم المهل , فإنّه لا يحقره البدار ولا يخاف عليه فوت النّار :( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) (١) .

قال : ثمّ سكتت ، فرأيت النّاس حيارى قد ردّوا أيديهم على أفواههم ، ورأيت شيخاً قد بكى حتّى اُخضبت لحيته وهو يقول :

كهولهم خير الكهول ونسلهم

إذا عد نسل لا يخيب ويخزي

وعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون , وإيّاهم فليندب النّادبون ، ولمثلهم تذرف الدّموع من العيون ، أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان والأشجان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ صالح بن العرندس (رحمه‌الله )

طوايا نظامي في الزمان لها نثر

يعطرها من طيب ذكركم نشر

قصائد ما خابت لهن مقاصد

ظواهرها حمد ، بواطنها شكر

مطالعها تحكي النجوم طوالعاً

وأنوارها زهر واخلاقها زهر

عرائس تجلى حين تجلى قلوبنا

أكاليلها در وتيجانها تبر

حسان لها حسان بالفضل شاهد

على وجهها بشر يدين لها بشر

أنظمها نظم اللئالي وأسهر الليالي

ليحيى لي بكم وبها ذكر

فيا ساكني أرض الطفوف عليكم

سلام محب ما له عنكم صبر

نشرت دواوين الثنا بعد طيبها

ففي كل طرس من مديحي لكم سطر

فطابق شعري فيكم دمع ناظري

فسر غرامي شائع بكم جهر

لئالي نظامي في عقيق مدامعي

فمبيض ذا نظم ومحمر ذا نثر

فلا تتهموني بالسلو فإنما

مواعيد سلواني وحقكم الحشر

فذلي بكم عز وفقري بكم غنى

وكسري بكم جبر وعسري بكم يسر

تروق بروق السحب لي من دياركم

فينهل من دمعي بيارقها القطر

فعيناي كالخنساء تجري دموعها

وقلبي شديد في محبتكم صخر

وقفت على الدار التي كنتم بها

ومغناكم من بعد معناكم قفر

وقد درست منها الرسوم وطالما

بها درّس العلم الإلهي والذكر

فراق فراق الروح من بعد بعدكم

ودار برسم الدار في خاطرى الفكر

____________________

(١) سورة الفجر / ١٤.

١٢٦

وسالت عليها من دموعي سحائب

إلى أن تروي ألبان بالدكمع والسدر

وقد أقلعت عنها السحاب ولا تجد

ولا در من بعد الحُسين لها در

إمام الهدى سبط النبوة والد

الأئمة رب النهى مولى له الأمر

أبوه إمام الـمُرتضى علم الهدى

وصي رسول الله والصنو والصهر

إمام بكته الإنس والجن والسما

ووحش الفلا والطير والبر والبحر

له القبة البيضاء بالطف لم تزل

يطوف بها حزناً ملائكة غر

وفيه رسول الله قال وقوله

صحيح صريح ليس في ذلكم نكر

حي بثلاث ما أحاط بمثلها

ولي فمن زيد سواه ومن عمرو

له تربة فيها الشفاء وقبة

يجاب بها الداعي إذا مسه الضر

وذرية ذرية منه تسعة

أئمة حق لا ثمان ولا عشر

أيقتل ظمآناً حسين بكربلا

وفي كل عضو من أنامله بحر

ووالده الساقي على الحوض في غد

وفاطمة ماء الفرات لها مهر

فوا لهف نفسي للحسين وما جنى

عليه غداة الطف في حرية الشمر

رماه بجيش كالظلام قسيه

الأهلة والخرصان أنجمه الزاهر

لراياته نصب وأسيافه جزم

وللنقع رفع والرماح لها جر

تجمع فيه من طغاة أمية

عصائب غدر لا يقوم لها عذر

وأرسلها الطاغي يزيد ليملك

العراق وما اغنته شام وما مصر

وشد لهم أسراً سليل زيادها

فحل بهم من شد أزرهم الوزر

وأمّر فيهم نجل سعد لنحسه

فما طال في الري اللعين له عمرو

فلما التقى الجمعان في أرض كربلا

تباعد فمل الخير واقترب الشر

فداروا به في عشر شهر محرم

وبيض للمواضي في الأكف لها شمر

فقام الفتى لـمّا تشاجرت القنا

وصال وقد أودى بمهجته الحر

وجال يطوف في المجال كأنه

دجى الليل في لألاء غرته الفجر

له أربع للريح فيهن أربع

لقد زانه كر وما شأنه الفر

ففرق جمع القوم حتّى كأنهم

طيور بغاث شت شملهم الصقر

فأذكرهم ليل الهرير فأجمع

الكلاب على ذاك الهرير وقد هر

١٢٧

هناك فدته الصالحون بأنفس

يضاعف في يوم الحساب لها الأجر

وحادوا عن الكفار طوعاً لنصره

وجادله بالنفس من سعده الحر

ومدوا إليه ذبلاً سمهرية

لطول حياة السبط من مدها جزر

فغادره في مأزق الحرب مارق

بشهم لنحر السبط من وقعه نحر

فمال عن الطرف الجواد أخو الندى

الجواد قتيلاً حوله يصهر المهر

سنان سنان خارق منه في الحشا

وصارم شمر في الوريد له شمر

تجر عليه العاصفات ذيولها

ومن نسج أيدي الصافنات له طمر

زجت له السبع الشداد وزلزلت

رواسي جبال الأرض والتطم البحر

فيا لك مقتولاً بكته السما دماً

فمغبر وجه الأرض بالدم محمر

ملابسه في الحرب حمر من الدما

وهن غداة الحشر من سندس خضر

ولهفي لزين العابدين وقد سرى

أسيراً عليلاً لا يفك له أسر

وآل رسول الله تسبى نساؤهم

ومن حولهن الستر يهتك والخدر

سبايا بأكوار المطايا حواسراً

يلاحظهن العبد في الناس والحر

ورملة في ظل القصور مصانة

يناط على أقراطها النير والدر

فويل يزيد من عذاب جهنم

إذا اقبلت في الحشر فاطمة الطهر

ملابسها ثوب من السم أسود

وآخر قان من دم السبط محمرد

تنادي وأبصار الأنام شواخص

وفي كل قلب من مهابتها ذعر

وتشكو إلى الله العلي وصوتها

عليّ ومولانا عليّ لها ظهر

فلا ينطق الطاغي يزيد بما جنى

وإني له عذر ومن شأنه الغدر

فيؤخذ منه بالقصاص فيحرم

النعيم ويصلّى في الجحيم له قعر

أيقرع جهراً ثغر سبط مُحمّد

وصاحب ذاك الثغر يحمى به الثغر

ويشدو له الشادي فيطربه الغنا

ويسكب في الكأس النظار له الخمر

فداك الغنا في البعث تصحيفه العنا

وتصحيف ذاك الخمر في قلبه الجمر

وليس لأخذ الثار إلّا خليفة

يكون لكسر الدين من عدله جبر

تطوف به الأملاك من كل جانب

ويقدمه الإقبال والعز والنصر

عوامله في الدار عين خوارق

وحاجبه عيسى وناصره الخضر

تظلله حقاً غمامة جدّه

إذا ما الملوك الصيد ظللها الحتر

١٢٨

محيط على علم النبوة صدره

فطوبى لعلم ضمه ذلك الصدر

هو ابن الإمام العسكري مُحمّد

التقي النقي العالم العلم الحبر

سليل عليّ الهادي نجل مُحمّد

الجواد ومن بأرض طوس له قبر

علي الرضا وهو ابن موسى الذي قضى

ففاح على بغداد من نشره عطر

وصادق قول إنه نجل صادق

إمام به في العلم يفتخر الفخر

نتيجة مولانا الإمام مُحمّد

إمام لعلم الأنبياء به بقر

سلالة زين العابدين الذي بكى

فمن دمعه يبس الأعاشيب مخضر

سليل الحُسين الفاطمي وحيدر

الوصي فمن طهر نمى ذلك الطهر

له الحسن المسموم عم فحبذا

الإمام الذي عم الورى جوده الغمر

سمي رسول الله وارث علمه

إمام على آبائه نزل الذكر

هم النور نور الله جل جلاله

هم التين والزيتون والشفع والوتر

مهابط وحي الله خزان علمه

ميامين في أبياتهم يقبل النذر

وأسماؤهم مكتوبة فوق عرشه

ومكنونة من قبل أن يخلق الذر

فلولاهم لم يخلق الله آدماً

ولا كان زيد في الأنام ولا عمرو

ولا سطحت أرض ولا رفعت سماً

ولا طلعت شمس ولا أشرق البدر

ونوح بهم في الفلك لـمّا دعا نجا

وغيض به طوفانه وقضي الأمر

ولولا نارهم نار الخليل لـمّا غدت

سلاماً وبرداً وانطفأ ذلك الجمر

ولولاهم يعقوب ما زال حزنه

ولا كان عن أيوب يكشف الضر

ولان لداود الحديد بسرهم

فقدر في سرد يحير له الفكر

ولما سليمان البساط بهم دعا

أسيلت له عين يفيض بها القطر

وسخرت الريح الرخاء بأمره

فغدوتها شهر وروحتها شهر

ولولاهم ما كان عيسى بن مريم

لغادر من طي اللحود له نشر

سرى سرهم في الكائنات وفضلهم

فكل نبي فيه من سرهم سر

مصابكم يا آل طه مصيبة

ورزء على الإسلام أحدثه الكفر

سأندبكم يا عدتي عند شدتي

وأندبكم حزناً إذا أقبل العشر

وأبكيكم ما دمت حياً فإن أمت

ستبكيكم بعدي المراثي والشعر

١٢٩

وكيف يحيط الواصفون بمدحكم

وفي مدح آيات الكتاب لكم ذكر

ومولدكم بطحاء مكة والصفا

وزمزم والبيت المحرم والحجر

جعلتكم يوم المعاد ذخيرتي

فطوبى لمن أمسى وأنتم له ذخر

عرائس فكر الصالح بن عرندس

قبولكم يا آل طه لها مهر

سيبلى الجديدان الجديد وحبكم

جديد بقلبي ليس يخنقه الدهر

عليكم سلام الله ما لاح بارق

وحلت عقود المزن وانتثر القطر

الباب الثّاني

العجب من يرضى من ذوي العقول بالدُنيا داراً بعد آل الرّسول ! غدرت بمواليها فلا خير والله ولا بركة فيها ، فرحم الله من اتخذ فيها الزّاد ليوم الحشر والمعاد , وجعلها إلى ما تقدم من صالح الأعمال بعد انقضاء الأعمار والآجال. ولعمري , لا عمل فيها أعظم من موالاة الآل ؛ لدفع تلك الأثقال العضال والمشاق والأهوال.

فوا عجباه ممّن مال من الحقّ إلى الباطل ، وارتكب مثل هذا الخطب الهائل , وتجرّئ على انتهاك ذرّيّة الرّسول وأولاد فاطمة البتول ، وما ذاك إلّا لطلب الدُنيا ونعيمها , وما قدره لو صح بالنّسبة إلى النّار وجحيمها :

هب الدُنيا تساقي إليك عفواً

أليس مصير ذاك إلى زوال

وهل دنياك إلّا مثل فيء

أضلك ثمّ أذن بانتقال

فما ترجو لشيء ليس يبقى

سريع لا يدوم على الليالي

لعلّهم ما عرفوا حالاتهم ولم يبلغهم شيء من معجزاتهم , بلى والله , لقد سمعوا وعرفوا وعاهدوا وما وفوا( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١) .

نُقل : أنّه لـمّا رجع النّبي من غزاة خيبر إلى المدينة , جاءته امرأة يهودية قد أظهرت له الإسلام , ومعها لحم ذراع جمل مشوي فيه سمّ , فوضعته بين يديه , فقال لها : (( ما هذا ؟ )). فقالت له : فداك أبي واُمّي يا رسول الله ! لقد همّني أمرك في غزوتك إلى خيبر , فإنّي أعرفهم رجالاً شجعاناً , وهذا لحم ذراع جمل لي قد ربّيته صغيراً , وعلمت أنّ أحبّ الأطعمة إليك الشّواء من لحم الذّراع , فنذرت لله نذراً إن سلّمك الله من وقعة خيبر وظفرك الله بهم , لأذبحنّ جملي واجعل لحمه صدقة عنك , وقد جئت بهذا منه إليك ؛ لأوفي نذري ، قال : وكان من جلساء رسول الله رجل يُقال

____________________

(١) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

١٣٠

له البرّاء(١) فمدّ يده وأخذ من ذلك اللحم فوضعها في فيه ، فقال له عليّ : (( يا برا , لا تتقدّم على رسول الله أبداً )). فقال البرّاء - وكان أعرابياً - : يا عليّ , كأنّك تبخل رسول الله ؟ فقال عليّ : (( لا والله , ما أبخل رسول الله ، ولكنّي اُبجّله واُوقّره واُعظّمه ، وليس لي ولا لك ولا لأحد من خلق الله أن يتقدّم على رسول الله ؛ بقول ولا فعل ولا أكل ولا شرب )). فقال البرّاء : لست تريد هذا , ولكنّك تبخل رسول الله. فقال عليّ : (( يا برا , هذا طعام جاءت به امرأة وكانت من قبل يهودية ولسنا نعرف حالها , فإذا أكلت به بأمر رسول الله فهو الضّامن لسلامتك منه , وإذا أكلت بغير إذنه وكّلك الله نفسك , فربما يكون هذا الطّعام مسموم )). قال : فبينما عليّ يخاطب البرّاء بهذا الكلام والبرّاء يلوك اللقمة في فمه , إذ أنطق الله الذّراع بلسان فصيح يقول : يا رسول الله , لا تأكلني فإنّي مسموم. فسقط البرّاء مغشيّاً عليه , ولم يرفع من مكانه إلّا ميتاً.

فقال رسول الله : (( ائتوني بالمرأة )). فأتوا بها , فقال لها بلطف ورفق : (( ما حملك على ذلك ؟ )). فقالت : يا مُحمّد , قد قتلت أبي وعمّي وأخي وبعلي وولدي , فهذا الذي حملني على ذلك , فجئت إليك بهذا السّم وقُلت في نفسي: إن كان مُحمّد نبيّاً حقّاً , فسيمنعه الله من أكله أو يأكله ولا يضرّه السّم ، وإن كان كاذباً , فإنّي أنتقم منه حيث قتل قومي ورجالي. فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( يا هذانة , لن يضرّنا موت البرّاء , فإنّما امتحنه الله ؛ لتقدّمه عليّ , ولو أنّه كان يأكل بأمري , لكفاه الله أذية السّم )).

ثمّ إنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) قال : (( هلمّ يا سلمان ويا عمار ويا مقداد ويا أبا ذر , هلمّوا جميعاً فكلوا من هذا الطّعام )). فمدّ رسول الله يده وقال : (( بسم الله الشّافي , بسم الله الكافي , بسم الله المعافي , بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السّماء وهو السّميع العليم )). ثمّ أكل مع جميع أصحابه حتّى شبعوا والمرأة واقفة تنظر إليهم ، فقال لها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( أليس أكلنا بحضرتك من هذا الطّعام المسموم , فكيف رأيت دفع الله عن نبيّه وأصحابه أذية السّم ؟ )). فقالت : يا رسول الله , إنّي كنت شاكّة في نبوّتك , والآن قد أيقنت أنّك رسول الله حقّاً وصدقاً , وأنا : أشهد أن لا إله إلّا الله , وأنّك مُحمّداً رسول الله. وأسلمت وأحسنت إسلامها.

قال : فلمّا حُملت جنازة البرّاء إلى رسول الله

____________________

(١) الظّاهر أنّه ليس ابن عازب ، لأنّه بقي إلى أن قُتل الحُسين , كما تقدّم القول فيه في الباب الثّالث من المجلس الثّامن ، من مجالس هذا الكتاب في الجزء الأوّل.

١٣١

ليصلّي عليها , قال رسول الله : (( أين عليّ بن أبي طالب ؟ )). فقيل له : قد ذهب في حجّة. فجلس رسول الله ينتظره ولم يصل على جنازة البرّاء ، فقيل له : يا رسول الله , ما لك لا تصلّي على جنازة هذا العبد المؤمن ؟ فقال : (( إنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن لا أصلّي عليها حتّى يحضر عليّ بن أبي طالب , فيجعله في حلّ ممّا كلّمه ؛ ليجعل الله موتة البرّاء بهذا السّم كفّارة لذنبه )).

فقال من حضر وشاهد الخبر وسمع الكلام الذي قاله البرّاء لعليّ : يا رسول الله , إنّما كان كلام البرّاء مزاحاً مازح به عليّاً , ولم يكن جدّاً منه فيؤاخذه الله بذلك. فقال رسول الله : (( لو كان كلام البرّاء جدّاً , لأحبط الله أعماله كلّها ولو كان تصدّق بملء ما بين الثّرى إلى عنان السّما ذهباً وفضّة , لكنّه كان مزاحاً وهو في حلّ من ذلك , إلّا أنّ رسول الله يريد أن لا يعتقد أحد منكم أنّ عليّاً (عليه‌السلام ) واجد عليه , فيحلّه عليّ بن أبي طالب بحضرتكم ؛ إجلالاً للبرّاء ويستغفر له ليزيده الله زلفة في جنانه )).

قال : فبينما هُم في الكلام , إذ دخل عليّ (عليه‌السلام ) فوقف عند جنازة البرّاء وقال : (( يرحمك الله يا برّاء ! لقد كنت صوّاماً ولقد متّ في سبيل الله ولقد جاهدت بين يدي رسول الله , فرضي الله عنك )). فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( فوالله , لو كان أحد من الموتى يستغني عن صلاة رسول الله , لاستغنى صاحبكم هذا بدعاء عليّ بن أبي طالب )). ثمّ قام رسول الله فصلّى على جنازة البرّاء وأمر بدفنه رحمة الله عليه.

فانظروا يا ذوي العقول إلى حقد هذه المرأة التي عزمت على قتل الرّسول وأب الطّهر البتول , وكذلك بنو اُميّة حقدوا وهم من قديم الزّمان والأعوام من فتك عليّ فيهم ؛ إطاعة للملك العلام , ولكن إلى الله مرجع الخصام في يوم القيام :

فرى كبدي من حزن آل مُحمّد

ومن زفرات ما لهن طبيب

فمن مبلغ عني الحُسين رسالة

وإن كرهتها أنفس وقلوب

قتيل بلا جرم كأن قميصه

صيغ بماء الأرجوان خضيب

فللسيف أعوال وللرمح رنة

وللخيل من بعد الصهيل نحيب

تزلزلت الدُنيا لآل مُحمّد

وكادت لهم صم الجبال تذوب

حكى عروة البارقي , قال : حججت في بعض السّنين فدخلت مسجد رسول الله , فوجدت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) جالساً وحوله غلامان يافعان , وهو يقبّل هذا

١٣٢

مرّة وهذا اُخرى , فإذا رآه النّاس يفعل ذلك , أمسكوا عن كلامهم حتّى يقضي وطره منهما , وما يعرفون لأيّ سبب حبّه إيّاهما ، فجئته وهو يفعل ذلك بهما , فقلت : يا رسول الله , هذان ابناك ؟ فقال : (( إنّهما ابنا ابنتي , وابنا أخي وابن عمّي وأحبّ الرّجال إلي , ومَن هو سمعي وبصري , ومن نفسه نفسي ونفسي نفسه , ومَن أحزن لحزنه ويحزن لحزني )).

فقلت له : قد عجبت يا رسول الله من فعلك بهما وحبّك لهما ؟ فقال لي : (( أحدّثك أيّها الرّجل , إنّي لـمّا عُرج بي إلى السّماء ودخلت الجنّة , انتهيت إلى شجرة في رياض الجنّة فعجبت من طيب رائحتها , فقال لي جبرائيل : يا مُحمّد , لا تعجب من هذه الشّجرة , فثمرها أطيب من ريحها. فجعل جبرائيل يتحفني من ثمرها ويطعمني من فاكهتها وأنا لا أملّ منها ، ثمّ مررنا بشجرة اُخرى , فقال لي جبرائيل : يا مُحمّد , كُل من هذه الشّجرة , فإنّها تشبه الشّجرة التي أكلت منها الثّمر , فإنّها أطيب طعماً وأزكى رائحة )).

قال(ص) : (( فجعل جبرائيل يتحفني بثمرها ويشمّني من رائحتها وأنا لا أملّ منها ، فقلت : يا أخي جبرائيل , ما رأيت في الأشجار أطيب ولا أحسن من هاتين الشّجرتين ! فقال : يا مُحمّد , أتدري ما اسم هاتين الشّجرتين ؟ فقلت : لا أدري. فقال : إحداهما الحسن والاُخرى الحُسين , فإذا هبطت يا مُحمّد إلى الأرض من فورك , فأت زوجتك خديجة وواقعها من وقتك وساعتك ؛ فإنّه يخرج منك طيب رائحة الثّمر الذي أكلته من هاتين الشّجرتين , فتلد لك فاطمة الزّهراء ، ثمّ زوّجها أخاك عليّاً فتلد له ابنين , فسمّ أحدهما الحسن والآخر الحُسين )).

قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : (( ففعلت ما أمرني أخي جبرائيل , فكان الأمر ما كان , فنزل إليّ جبرائيل بعد ما ولد الحسن والحُسين ، فقلت له : يا جبرائيل , ما أشوقني إلى تينك الشّجرتين. فقال لي : يا مُحمّد , إذا اشتقت إلى الأكل من ثمر تينك الشّجرتين , فشمّ الحسن والحُسين )).

قال : فجعل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) كلّما اشتاق إلى الشّجرتين , يشمّ الحسن والحُسين ويلثمهما وهو يقول : (( صدق أخي جبرائيل )). ثمّ يُقبّل الحسن والحُسين ويقول : (( يا أصحابي , إنّي أودّ أن أقاسمهما حياتي ؛ لحبّي لهما , فهما ريحانتاي من الدُنيا )). فتعجّب الرّجال من وصف النّبي للحسن والحُسين (عليهما‌السلام ) ، فكيف لو شاهد النّبي من سفك دمائهم وقتل رجالهم وذبح أطفالهم , ونهب أموالهم وسبي

١٣٣

حريمهم ؟ أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين.( وَسَيَعْلَمُ الّذِينَ ظَلَمُوا أَيّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) (١) . وعلى الأطائب من أهل بيت الرّسول فليبك الباكون ، وإيّاهم فليندب النّادبون ، ولمثلهم تذرب الدّموع من العيون. أو لا تكونون كبعض مادحيهم حيث عرته الأحزان , فنظم وقال فيهم :

القصيدة للشيخ النّقي التّقي مُحمّد عليّ بن طريح النّجفي

(رحمه‌الله )

جاد ما جاد من دموعي السجاد

لمصاب الكريم نسل الكرام

حل من فادح على الناس طراً

ومصاب أصيب في الإسلام

كيف يلتذ طاعم بطعام

كيف يهنى اللبيب طيب المنام

قل صبري وزاد حزني ووجدي

فهمومي سكرى ودمعي مدامي

أضرم الشوق جذوره في فؤادي

للأسى خل لأئمي عن ملامي

لم أزل في تفكر وانقياد

لهموم تعلني بالسقام

بدموع حكت سحائب مزن

وفؤاد متيم مستهام

برحت مهجتي لتبريح وجدي

فعلى جيرتي وأهلي سلامي

ظللت أشكو إلى الحمام غرامي

يا حمامي أدنيتني لحمامي

هيجتني بلابلي وامتحاني

بالتحاني إذ الغريم غرامي

لست أبكي لفقد أهل وخل

فتكت فيهم يد الأيام

وديار خلا الأحبة منها

فهي بعد الأنيس مأوى الهوام

لا ولا هالني فراق حبيب

بأن عني مقوضاً للخيام

إنما حسرتي وحزني ووجدي

ونحيبي وزفرتي واضطرام

لسليل البتول سبط رسول الله

نور الإله خير الأنام

فتكت فيه عصبة الكفر حتّى

قتلوه ظلماً بغير إجرام

منعوه ماء الفرات مباحاً

لسواه تمرّدا بالخصام

لست أنسى الحُسين بالطف ملقى

عافر الخد ناحر النحر دامي

لست أنساه وهو فيهم وحيد

قد أحاطت به علوج اللئام

منعوه الماء الزلال وحاطوه

دونه بالمهند الصمصام

____________________

(١) سورة الشّعراء / ٢٢٧.

١٣٤

وا حسيناه إذ أحاط الأعادي

فيه كل مجرد للحسام

وا حسيناه وهو فيهم ينادي

يا لقومي هل كيف خنتم ذمامي

وا حسيناه إذ قضى وهو ممنوع

من الماء حوله وهو ظامي

وا شهيداه لست أنساه يدعو

رب فاحكم بيني وبين اللئام

وا إماماه ما له من نصير

وا إماماه ما له من محامي

وا إماماه إد يودع أهليه

ويرمي بطرفه للخيام

زينب أخته تنوح بشجو

ثمّ تدعو لواحد العلام

وتناديه يا أخي يابن أمي

أظلمت بعد فقدكم أيامي

يا أخي هذه سكينة تبكي

قد أهلت دموعها بالسجام

تستجير العدا بطرف كليل

وفؤاد مؤله مستهام

يا أخي فاطم تدور وترتاع

لـمّا نالها من الآلام

خانها دهرها فاضحت بذّل

بعد عز ونعمة واحتشام

يا أخي هذه بناتك بالذل

أسارى وما لهن محامي

يا أخي هذه الاسارى حيارى

ساترات الوجوه بالأكمام

كم حسان وكم ربيبة خدر

صرن من غير برقع ولثام

يا أخي لو ترى علياً بقيد

ناكس الرأس ذلة للرغام

يا أخي هدّ حزن فقدك ركني

وكساني النحول ثوب سقام

يا أخي خانني الزمان بصبري

وجفا عن جفون عيني منام

يا أخي أظلم الزمان علينا

بعدما كان ضاحكاً بابتسام

لهف قلبي على الحُسين طريحاً

بين تلك الأوهاد والأوكام

لهف قلبي عليه والشمر يسعى

نحوه وهو مشهر للحسام

قال يا شمر هل علمت بأني

ابن بنت الرسول بدر التمام

وأبي خيرة الأنام وجديّ

صفوة الله والنبي التهامي

قال شمر عرفت هذا ولكن

نلت اليوم يابن طه مرامي

قال يا شمر خل قتلي لتحضى

يوم حشري الورى بدار السلام

قال شمر ما للجنان ومالي

بل عطاء يزيد والأنعام

١٣٥

ثم انحنى على الإمام مكباً

ذابحاً بالمهند الصمصام

ثم على سنان كريم السبط

كالبدر في ليالي التمام

لعنة الله لا تزال على الشمر

ومن خان أحمد بالذمام

أي نكراني وأي فجور

حسبه في الحساب نار الضرام

أيعلى على السنان سنان

الرجس رأس الحُسين بين الأنام

ثم يسري به يأم السبايا

قاصداً بالمسير نحو الشآم

لعن الله آل حرب الكفر

والغدر عابد الأصنام

ويزيد اللعين نسل اللعين

عصبة الكفر والخنا والحرام

وزياداً ونسل آل زياد

وابن سعد اللعين نسل اللئام

وكذا اللعين يعثري كل رجس

نعقل ثمّ حبتر والدلام

زادهم ربنا إلى لعناً لعناً

سرمدياً مخلداً بالدوام

يا بني أحمد وركن المعالي

أنتم النور والبحور الطوامي

أنتم عدّتي ليوم معادي

تنقذوني من الذنوب العظام

أنتم العارفون حبي وبغضي

فهو كاف عن منطقي وكلامي

قلت في حبكم واخصلت ودي

يا رجائي وسادتي واعتصامي

فخذوها من مسلمي ولى

يختفي مهذب للنظام

تحفتي منكم غداً في حياتي

تنقذوني من زلتي واجترامي

فعليكم من السلام صلاة

وسلام بالف الف سلام

ما اضمحل الدجى واسفر صبح

وأضاءت كواكب بظلام

الباب الثّالث

أيّها المؤمنون الأخيار والاُمناء الأبرار , أليس بإظهار الأسف تحطّ الأوزار ؟ أليس أئمتكم هُم الجنن الواقية من النّار ؟ أليس هُم العدّة لكلّ هول وشدّة ؟ أيبكي الباكون منكم على فقد الأولاد والآباء والأجداد ، ولا يبكي على سادات العباد وأنوار الله في البلاد ؟! لو بكيتم بدل الدّمع دماً وجعلتم جميع العمر مأتماً , لكان أقلّ القليل بالنّسبة إلى هذا الخطب الجليل ، كيف لا وقد جاء في الخبر عن سيّد البشر : (( مَن شرب الماء فذكر عطش الحُسين وعطش أطفاله وعياله وأنصاره

١٣٦

( فلعن الله قاتليهم وظالميهم ) كتب الله له أربعة آلاف حسنة وحطّ أربعة آلاف سيئة , ورفع له أربعة آلاف درجة , وكان كمن اعتق أربعة آلاف نسمة , وحشره الله يوم القيامة ثلج الفؤاد لن يضمأ أبداً )). فهل هذا إلاّ لعظم المصاب وشدّة الوجد الدّاخل عليهم والاكتئاب ؟

فيا إخواني تساعدوا على النّدب والعويل ، وتحاضوا على الثّواب الجزيل , فإنّكم تعزّون فاطمة البتول بل جميع أهل بيت الرّسول (عليهم‌السلام ) :

فيا لك عيناً لا تجف عيونها

وناراً لها بين الضلوع ذحول

أيقتل ظمآناً حسين وجدّه

إلى النسا من رب العباد رسول

ويمنع شرب الماء والشرب آمن

على الشرب منها صادر ونهول

مصاب أصيب الدين منه بفادح

تكاد له شم الجبال تزول

حُكي : أنّه لـمّا توفّت فاطمة (عليها‌السلام ) , حزن أمير المؤمنين (عليه‌السلام ) لفقدها حزناً عظيماً , وانفرد بالعزاء وحده وتحجّب من النّاس مدّة طويلة ، فاجتمع جماعة من إخوانه المؤمنين وشيعته الصّادقين , وقالوا : إنّ عليّاً بن أبي طالب إمامنا وولينا وأميرنا وأمير المؤمنين أجمع , قد احتجب عنّا وصرنا لا نراه إلّا في وقت أداء الفرائض , وانقطع عنّا ما كان يفيدنا به من أحاديثه ويرشدنا به من أخباره ، وقد طال ذلك علينا منه وصرنا كالغنم بغير راع. فوقع عين الجماعة على عمّار بن ياسر وقالوا له : يا عمّار , امض إلى أمير المؤمنين وكلّمه في ذلك , فلعلّك تأنينا به أو تستأذن لنا بالدّخول عليه. قال عمّار : فقمت ودخلت عليه , فوجدته جالساً في بيته ومعه ولداه الحسن والحُسين (عليهم‌السلام ) وهو مع ذلك يبكي , فسلّمت عليه وجلست بين يديه ساعة , فقلت له : يا سيّدي , أتأذن لي أن أقول أو أسكت ؟ فقال لي : (( قُل ما شئت )). [قُلت](١) : يا سيّدي , ما بالكم تأمرونا بالصّبر على المصيبة ونراكم تجزعون ؟ [ قال : فالتفت إليّ وقال ](٢) : (( يا عمّار , إنّ العزاء عن مثل مَن فقدته لعزيز. يا عمّار , لـمّا فقدت رسول الله كانت فاطمة الزّهراء هي الخلف منه والعوض عنه , وكانت صلوات الله عليها إذا نطقت ملأت سمعي بكلامه , وإن مشت حكت كريم قوائمه , فوالله يا عمار , ما أحسست بوجع المصيبة إلّا بوفاتها , وما أحسست بألم الفراق إلّا بفراقها )).

قال عمّار : فأبكاني كلامه وبكاؤه فبكيت رحمة له , فقلت : يا أمير المؤمنين , اعلم أنّ النّاس صنفان مقرر ومفتقر إليك وقول النّاصح ثقيل. فقال لي : (( يا عمّار , إنّي أحدّثك بحديث

____________________

(١) و (٢) مابين المعقوفتين هو من كتاب الأنوار العلوية /٣٠٦. (معهد الإمامين الحسنين).

١٣٧

سمعته من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , قال : لـمّا قُتل النّبي يحيى بن زكريا (عليه‌السلام ) ووجم عيسى بن مريم وجوماً , فقطعه ذلك من الكلام واحتجب من الأنام , ودخل عليه أحد الحواريين , فقال له : يا روح الله , لا تقطع عادتك المباركة عنّا واخبرنا بالأحاديث الصّحيحة ؛ لعلّ الله يرحمنا , ولعلّ حديثك ينبّه أبناء الدُنيا من رقدة الغفلة ويخرجهم من ظلمة الجهل , فربّ كلمة قد أحيت سامعاً بعد الموت ورفعته بعد الضّعة , ونعشته بعد الصّرعة وأغنته بعد الفقر , وجبرته بعد الكسر وأيقظته بعد الغفلة , وبقيت في قلبه ففجّرت ينابيع الحياة , فسالت منه أودية الحكمة ونبتت فيه غرائس الحكمة , إذا وافق ذلك القضاء من الله عزّ وجلّ. قال له عيسى : نعم يا عبد الله , إنّ مثلك من يستدعي من العالم الكلام , ولا بأس عليك.

وأمّا أنت : اعلم أنّ هذه المفقودة الماضية بنت رسول الله , وعند الله أحتسبها )).

ثمّ نهض ودموعه تنحدر على لحيته , فتلقّوه الجماعة وصاروا بين عاذر وعاذل , فقال لهم : (( رويداً , فإنّ القلوب إذا خلت قالت وإذا كرهت مالت , ألستم تعلمون أنّه لـمّا توفّيت اُمّ المؤمنين خديجة الكبرى , جزع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) جزعاً شديداً حتّى إنّي أشفقت عليه من شدّة الجزع ؟ فقلت له : يا رسول الله , أنت والله القبلة وإليك الإشارة وبك القدوة , وعليك المعتمد ومنك التعليم , وأنت السّراج إذا ضللنا , وأنت الصّلاح إذا فسدنا , وأنت الهادي إذا تهنا , وحولك حاسد وحاقد ومحبّ وواجد , وقُريش شاخصة الأبصار إليك مصغية الأذان نحوك. وبعد , فأنت يا رسول الله ممّن إذا قال فعل وإذا أمر عمل.

فقال لي : مهلاً يا أبا الحسن , برّدت دمعي وسكّنت جزعي. ثمّ إنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) صار يحبّ الخلوة بنفسه ويتطرّق الأمكنة الخالية , فبينما هو ذات يوم بظاهر مكّة شرّفها الله تعالى , إذ سمع هاتفاً ينشد بيتاً من الشّعر وهو :

وكل ذي سفرة يؤوب

وغائب الموت لا يؤوب

فقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : إنّ من الشّعر لحكمة.

ثمّ قال لي (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) : يا عليّ حفظته ؟ قلت : نعم. فاستعاده منّي نوباً كثيرة , وكان (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) يقول :

(وكل ذي سفرة يؤوب ، ولا يؤوب غائب الموت)

١٣٨

ثمّ قال (عليه‌السلام ) : (( يا عمّار , والله ما ذكرت اُمّها خديجة إلاّ وجابهها رسول الله في ذكرها , ولا رآها تبكيها إلّا وسبقتها عبرة عليها , ولا جرى ذكرها إلّا وأسهب في وصفها وطال الثّناء عليها وتلهّف على فراقها. ولـمّا مات ولده إبراهيم (عليه‌السلام ) , بكى رسول الله حتّى جرت دموعه على لحيته صلوات الله عليه , فقيل له : يا رسول الله , أتنهى عن البكاء وأنت تبكي هكذا ؟ فقال : ليس هذا بكاء وإنّما هو رحمة , ومَن لا يَرحم لا يُرحم , وإنّما البكاء الذي هو رنّة وصراخ عال , ومَن لا يَرحم لا يُرحم )).

ثمّ التفت إلى أصحابه , وقال : (( أتلومونني على فقد بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله ) , وإنّي اقتدي برسول الله ؛ لأنّه بكى على خديجة الكبرى وليست بنت نبيّ , وإنّ فاطمة الزّهراء ست النّساء بنت أشرف الأنبياء , ووالدة سيّد الشّهداء صلوات الله عليه وعلى أبيها )).

نُقل : أنّه من إنشاد عليّ (عليه‌السلام ) بعد وفاة فاطمة (عليها‌السلام ) :

نفسي على زفراتها محبوسة

يا ليتها خرجت مع الزفرات

لا خير بعدك في الحياة وإنما

أبكي مخافة أن تطول حياتي

كمالهم لا يخفى ونورهم بيّن لا يطفئ ، حسدوهم على الفضل والكمال وجلّ وعلا مجدهم أن ينال.

حُكي عن السّيّد الحسني (ره) , قال : كنت مجاوراً في مشهد مولاي عليّ بن موسى الرّضا (عليه‌السلام ) مع جماعة من المؤمنين , فلمّا كان اليوم العاشر من شهر عاشوراء , ابتدأ رجل من أصحابنا يقرأ مقتل الحُسين (عليه‌السلام ) , فوردت رواية عن الباقر (عليه‌السلام ) , أنّه قال : (( مَن ذرفت عيناه على مصاب الحُسين (عليه‌السلام ) ولو مثل جناح البعوضة , غفر الله ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر )). وكان في المجلس معنا جاهل مركّب يدّعي العلم ولا يعرفه , فقال : ليس هذا بصحيح والعقل لا يعتقده. وكثر البحث بيننا , وافترقنا من ذلك المجلس وهو مصرّ على العناد في تكذيب الحديث , فنام ذلك الرّجل تلك الليلة , فرأى في منامه , كأنّ القيامة قد قامت وحُشر النّاس في صعيد صفصف لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً , وقد نُصبت الموازين وامتدّ الصّراط ووضع الحساب , ونُشرت الكتب واُشعلت النّيران , وزخرفت الجنان واشتدّ الحرّ عليه , وإذا هو قد عطش عطشاً شديداً وبقي يطلب الماء فلا يجده , فالتفت يميناً وشمالاً , وإذا هو بحوض عظيم الطّول والعرض , قال : فقلت في نفسي هذا هو الكوثر. فإذا فيه ماء أبرد من الثّلج وأحلى من العذب , وإذا عند الحوض رجلان

١٣٩

وامرأة , أنوارهم تشرق على الخلائق , وهُم مع ذلك لبسهم السّواد وهُم باكون محزونون , فقلت : مَن هؤلاء ؟ فقيل : هذا مُحمّد الـمُصطفى , وهذا الإمام عليّ الـمُرتضى , وهذه الطّاهرة فاطمة الزّهراء. فقلت : ما لي أراهم لابسين السّواد باكين ومحزونين ؟ فقيل لي : أليس هذا يوم عاشوراء , يوم مقتل الحُسين (عليه‌السلام ) ؟! فهم محزونون لأجل ذلك. قال : فدنوت إلى ستّ النّساء فاطمة , وقلت لها : ما أفضل الأعمال بعد إتيان الواجبات ؟ قالت : (( فضل البكاء على مصاب ولدي الحُسين (عليه‌السلام ) ومهجة قلبي وقرّة عيني , الشّهيد المقتول ظلماً وعدواناً , لعن الله قاتليه وظالميه ومانعيه من شرب الماء )).

قال الرّجل : فانتبهت من نومي فزعاً مرعوباً واستغفرت الله كثيراً وندمت على ما كان منّي , وأتيت إلى أصحابي الذي كنت معهم وأخبرتهم برؤياي , وتبت إلى الله عزّ وجلّ :

تبارك من أجلك من شبيه

ومن أعطى محاسنك الكمالا

مديحك عدتي وهواك قصدي

ومن عاداك لا أهواه لا لا

روى شعيب بن عبد الرّحمن الخزاعي , أنّه قال : لـمّا قُتل الحُسين (عليه‌السلام ) في طفّ كربلاء , وجد في ظهره أثر , فسئل زين العابدين (عليه‌السلام ) : ما هذا الأثر الذي نراه في ظهر أبيك ؟ فبكى طويلاً وقال : (( هذا ممّا كان يحمل قوتاً على ظهره إلى منازل الفقراء والأرامل واليتامى والمساكين , وأنّه كان ينقل لهم طعاماً في جراب , وينقله إلى دورهم طول ليلته , وكانت نفقته سرّاً لا جهراً ؛ لأنّ صدقة السّر تطفئ غضب الرّب )) :

هو الذي كل آية نزلت

أحاط في علمها وأولها

حوى الكرامات بعد والده

آخرها ملكه وأوّلها

نُقل : رجل يُسمى عبد الرّحمن كان مُعلّماً للأولاد في المدينة , فعلّم ولداً للحُسين يُقال له جعفر , فعلّمه الحمد لله ربّ العالمين , فلمّا قرأها على أبيه الحُسين (عليه‌السلام ) , استدعى الـمُعلّم وأعطاه ألف دينار وألف حلّة وحشى فاه درّاً , فقيل له : قد استكثرت ؟ فقال (عليه‌السلام ) : (( وهل تساوي ما أعطيته هذه بتعليمه ولدي ؟ )).

الحمد لله ربّ العالمين , فوا حرّ قلباه لتلك الأجساد الـمُلقاة على الرّمضاء بلا مهاد , هي والله جسوم طالما أتعبوها في عبادة الرّحمن وتلاوة القُرآن , تبكيهم المحراب والصّلوات ,

١٤٠